الأساس في التفسير

سعيد حوَّى

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر الحمد لله ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت- يا رب- من شيء بعد. والصلاة والسلام على حبيبنا محمد وآله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين. وبعد ... إنني وأنا أكتب هذه الكلمات تقديما لهذا التفسير الجليل، أزداد إيمانا على إيمان، وثقة على ثقة، بقول الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم- لابن عباس- رضي الله عنه-: « ... واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك ... ». ذلك لأنني منذ أسست (دار السلام) عام 1393 هـ وأنا أطمع وأطمح ... أطمع- من قرارة نفسي- في أن أقدم عملا قيما، أخدم به كتاب الله- تبارك وتعالى- وأنفع به أمتي التي أنتمي إليها ... وأطمح- في نفس الوقت- إلى أن يكون هذا العمل جديدا كل الجدة، لم يسبقني أحد إليه؛ فإني أكره منافسة الناس في أرزاقهم فأحب أن أنشر ما لم أسبق إليه. وفي عام 1398 هـ أرسل إلي المؤلف الكريم هذا المصنف التفسيري الضخم الذي بين أيديكم. وأحسست- ساعتها- أن العمل أكبر من إمكانياتي، إلا أنني استعنت بالله وهو خير معين، وأعددت العدة النفسية لهذا العمل الذي كنت أطمح لمثله. وبعد بضعة أشهر حضر إلي ناشر كريم من بيروت، أقدر مني في هذا المجال وأطول باعا. حضر إلي وهو يحمل رغبة الشيخ المؤلف- أعزه الله- في أن يشار كني جهدي في هذا العمل، رغبة من فضيلته في أن يخرج هذا الكتاب مخدوما خدمة تامة تليق بمقام كتاب الله تعالى. فتنازلت عن حقي كاملا للأخ الناشر متمنيا له- من كل قلبي- التوفيق والسداد. ودارت الأيام دورتها، وقدر الله أن يحدث ببيروت ما حدث، بحيث أصبح متعذرا على الأخ الناشر إتمام هذا العمل بعد أن قطع شوطا كبيرا في تنضيد حرفه. فاعتذر الأخ الناشر عن إتمام العمل لظروف خارجة عن إرادته- ومرة أخرى- أدبا ولطفا من فضيلة الشيخ المؤلف- يرسل إلي مستشيرا، ماذا يفعل؟ وكأنه يرشحني من جديد لهذا العمل. وشاءت أقدار الله أن يصيبني هذا الخير بعد أن أخطأني في المرة الأولى، وعاد إلي هذا التفسير لكي أقوم بطبعه، ويكون أول عمل لي في مجال خدمة كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ولعل من حكمة الله العزيز في هذا العمل أن أخطأني في المرة الأولى؛ لأنني لم أكن على مستوى

القدرة الكاملة لإتمام مثل هذا العمل الكبير القيم، الذي هو جزء من أساس تبني أمتنا الحبيبة بناءها عليه صرحا شامخا عاليا، هذا الأساس هو الفهم الدقيق لكتاب الله والوعي العميق بأبعاده ومتطلباته، حتى يكون ثمرة ذلك الفهم الإيمان العميق بالله تعالى والالتزام بما أوجب بعد ذلك. وهذا المصنف التفسيري غني عن القول بأن فيه من الجديد الكثير، فإنه قد تفرد بأشياء لم يسبق إليها، خاصة مسألة تقديم أول نظرية متكاملة عن الوحدة القرآنية في القرآن الكريم. كما أنه استفاد من القديم وأعمل فيه بعض التهذيب بما يناسب حاجة عصرنا، فلكل عصر حاجته ومشاكله التي يواجهها. ولن أطيل الحديث عن هذا التفسير، وأترك الحكم للقارئ الكريم ولأولي العلم بخاصة. وأما عن المؤلف فلن أعرف أو أمتدح الرجل، فهو غني عن التعريف على مستوى العالم الإسلامي وغيره، وما أقول إلا دعاء من كل قلبي له بالتوفيق والسداد والرشاد في كل أمر من أموره. وأود أن أوجه الكلمة لكل من يقرأ أو يطالع هذا التفسير ألا يألو جهدا في النصيحة. فإن وجد تقصيرا أو نقصا في أي جانب من جوانب التفسير فليتصل بالناشر مباشرة، فإن النقص يعتري كل البشر، وقد جعل رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- النصيحة هي الدين، وليثق القارئ الكريم في أن أي ملاحظة مهما كان حجمها ومهما كانت لهجتها، ستؤخذ في الاعتبار وستكون محط عناية وتقدير؛ ذلك أن المؤمن مرآة أخيه فكونوا لنا مرآة حتى نصل- إن شاء الله- بهذا العمل وبغيره من الأعمال إلى أقصى ما يصل إليه البشر من الدقة والإحكام. ولا أنسى في هذا المقام أن أقدم شكري وتقديري ومحبتي لأسرة دار السلام من مصححين وإلى أقسام المونتاج والتصوير والجمع وإلى مندوبي المبيعات والمحاسبين، لما قدموا، فهم نعم الإخوة، حاولوا جهدهم إخراج هذا التفسير على أفضل ما يستطيعون، جزاهم الله خيرا وأحسن إليهم. وأخيرا وليس آخرا .. أقول: اللهم إن أحسنت فمن فضلك وكرمك، وإن كانت الأخرى فمن نفسي. أرجوك حسن العاقبة وأن ألقاك وأنت راض عني، فاجعل اللهم هذا العمل ذخرا لي إلى يوم ألقاك، يوم لا ينفع مال ولا بنون. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الناشر عبد القادر البكار

مقدمة سلسلة الأساس في المنهج

مقدمة سلسلة الأساس في المنهج هذه السلسلة تتألف من ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأساس في التفسير. القسم الثاني: الأساس في السنة وفقهها. القسم الثالث: الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص. وهذا القسم الأخير بمثابة المفاتيح لأمهات القضايا، التي تلزم دارس الكتاب والسنة، أو تصلح كمقدمات لدراسة الكتاب والسنة، سواء كانت هذه القضايا مرتبطة بأصول الفقه، وكيفية انبثاق الأحكام عن الكتاب والسنة، أو كانت مرتبطة بقضايا اختلاف الفقهاء، وأسباب اختلاف الفرق الإسلامية، فضلا عن الكلام في قضايا الحكم العقلي والعادي والشرعي، ومحل كل «وصلة كل» من الثلاثة بالآخر، إلى غير ذلك. ولا يظنن ظان أن تسميتي لهذه السلسلة باسم الأساس في المنهج، وكذلك في استعمالي كلمة الأساس في كل من أقسامها الثلاثة أن ذلك تزكية لها وإشعار بإحاطتها، فالأمر ليس كذلك، بل كل ما أحلم به هو أن أقدم لإخواني المسلمين أساسا يبنون عليه، ولكن حرصت على أن يكون أساسا غاية في القوة والمتانة.

بعض احتياجات عصرنا

إن القارئ سيرى بإذن الله كيف أن هذه السلسلة تعطيه أساسا في فهم القرآن، وأساسا في السنة وفقهها، بل ستعطيه كذلك أساسا في أشياء كثيرة من توحيد إلى فقه إلى سلوك ... إلى غير ذلك، بل ستعطيه أساسا لفقه الدعوة الإسلامية، وأساسا لنظرة المسلم إلى القضايا المعاصرة؛ ولكن نرجو ألا يطالبنا المسلم بأكثر من الأساس، وإن كنا قد نقدم أكثر من ذلك أحيانا. ولقد حرصنا فيما حرصنا عليه في هذه السلسلة بأقسامها الثلاثة على أن ندل المسلم على أسباب اختلاف الأمة الإسلامية في فرقها الاعتقادية مبرهنين على الاعتقاد الحق بأدلته الساطعة، كما حاولنا أن نبرز أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين، وكيف أن الاجتهاد كان ضرورة لا بد منها، وكيف أن من أهم ميزات المجتهد استشرافه الشامل لمجموع النصوص، وقدرته على أن يضع كل نص في محله بالنسبة لمجموع النصوص، ولقد حاولنا في هذه السلسلة أن نبرز منطلقات الأئمة المجتهدين وحججها، وما ترتب على الاختلاف في المنطلقات من آثار، وكما حرصنا على إبراز ذلك كله، فقد حرصنا على أمور كثيرة أخرى ستضح في هذه المقدمة، وكلها تقتضيها احتياجات عصرنا إذ كانت هذه الاحتياجات في الحقيقة هي الدافع الأول نحو العمل في هذه السلسلة، فهي خدمة تضاف إلى خدمات هذه الأمة لكتاب ربها تعالى، ولسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، إنه لم تخدم نصوص في تاريخ هذا العلم كما خدمت نصوص القرآن الكريم، ونصوص السنة النبوية المطهرة، حتى إن مجموعة العلوم التي وجدت لأنواع من هذه الخدمة تبلغ العشرات بل المئات، ومجموعة الكتب التي ألفت لهذه الخدمة لا يمكن حصرها ولا إحصاؤها فضلا عن الكتب التي تعتبر انبثاقا عن علوم انبثقت من الكتاب والسنة، ومع هذا كله فإن لكل عصر احتياجاته التي تختلف عن احتياجات عصر سبقه، ومن ثم فلا بد من ملاحظة احتياجات عصرنا، لمعرفة ما ينبغي أن يضاف إلى المكتبة القرآنية والحديثية مستفادا مما قدمه المؤلفون في عصور سابقة، مع ملاحظة أن ما قدمه السابقون يكاد ألا يكون عليه مزيد، ولا في شأنه مستزيد، ومن ثم فإن المؤلف المعاصر ليس عليه في الغالب إلا أن يتخير من تحقيقات السابقين في كثير من الأمور، وأن يكون تخيره ملاحظا فيه احتياجات العصر. [بعض احتياجات عصرنا] إذا اتضح هذا الأمر، فلنر بعض احتياجات عصرنا بالنسبة للقرآن الكريم ثم بالنسبة للسنة المطهرة، وبعض جوانب الخدمة التي نرغب أن نقدمها نتيجة لذلك في بعض أقسام هذه السلسلة:

أولا: بالنسبة للقرآن

(الأساس في التفسير) و (الأساس في السنة وفقهها) و (الأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص) أولا: بالنسبة للقرآن: أ- دندن علماؤنا حول الصلة بين آيات السورة الواحدة وحول الصلة بين سور القرآن وحول السياق القرآني؛ وجاءت نصوص تتحدث عن أقسام القرآن: قسم الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل. ولم يستوعب أحد من المؤلفين الحديث عن هذه القضايا- في علمي- بما يغطيها تغطية مستوعبة. وفي عصرنا- الذي كثر فيه السؤال عن كل شئ- أخذ كثيرون من الناس يتساءلون عن الصلة بين آيات القرآن الكريم وسوره، وعن السر في تسلسل سور القرآن على هذه الشاكلة المعروفة. فأصبح الكلام في هذا الموضوع من فروض العصر الذي نحن فيه. ولقد من الله علي في أن أسد هذه الثغرة مصححا الكثير من الغلط في هذا الشأن، ومضيفا أشياء كثيرة لم يسبق أن طرقها أحد. ب- في عصرنا وجدت علوم كثيرة، هذه العلوم قدمت فهوما جديدة للنصوص، أو أنها رجحت فهوما قديمة، وبسبب من هذه العلوم وبسبب من الوقائع التي انبثقت عنها، طرحت تساؤلات حول كثير من معاني القرآن، وكأثر عن ذلك كله كان لا بد من عرض للقرآن الكريم يغطي ذلك كله .. ولقد حاولت في قسم التفسير أن أقدم جوابا لتساؤلات وتبيانا لنصوص، وإقامة حجة في شأنها بالنسبة لقضايا العلوم والدراسات الحديثة بحسب الإمكان. ج- وفي عصرنا كثرت الشبه والاعتراضات على القرآن، وعلى إمكانية انبثاق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عنه، ووجدت مفاهيم واتجاهات مزخرفة ومعاكسة، محليا وعالميا، ضد بناء الحياة المعاصرة على أساس قرآني، والمسلمون الحقيقيون يتحركون حركتهم الصعبة في البيان والتبيين، لإقناع هذا العالم بأن القرآن هو الكتاب الرباني الوحيد، الذي تكلف به البشرية بحق، وهذا يقتضي عملا وجهدا يكافئان ذلك. ونرجو أن يكون قسم التفسير من هذه السلسلة قد أعطى هذا الموضوع حقه.

د- ولقد ابتعدت الشخصية المسلمة كثيرا عن التحقق بمعاني القرآن، وابتعدت الأمة الإسلامية كثيرا عن تمثل كتاب الله، ولا بد من بذل جهد لإعادة المطابقة بحيث تعود الشخصية الإسلامية إلى أن يكون القرآن خلقها، وبحيث يعود القرآن إلى الظهور في حياة الأمة المسلمة، فتكون تجسيدا لمعانيه. وذلك موضوع متشعب الجوانب ولعل هذا التفسير يؤدي دورا فيه فإنه من أهم ما ينبغي أن يشتغل به ذهن المسلم المعاصر. هـ- والمسلم المعاصر يعجبه أن يأخذ خلاصة التحقيق بأدلته المباشرة في أمر ما، أما التحقيق نفسه فإنه يولع به طبقة من الناس. ومن ثم فحتى أمهات كتب التفسير كثيرا ما يضيق المسلم العادي ذرعا وهو يقرؤها، وكثيرا ما يضيع وهو يرى أقوالا متعددة، وروايات كثيرة ومناقشات لا حصر لها، وهذا كله ينبغي أن يختصر للمسلم غير المختص ليكون فهم كتاب الله متيسرا للجميع. ولقد راعيت في قسم التفسير هذه الضرورة بحيث لم أقدم فيه إلا ما له مساس مباشر في فهم القرآن دون مخالط كثير. و- وفي عصرنا هناك قضايا إسلامية مطروحة، ومناقشات تدور بين المسلمين أنفسهم، بعض هذه القضايا استمرار لمناقشات قديمة، سببها الاختلاف المذهبي أو الخلاف الاعتقادي، وبعضها وليد عصرنا، وهذا موضوع لا بد من الاستقرار فيه على شئ، وقد حاولت في هذه السلسلة كلها أن أغطي هذا الموضوع في كل مناسبة ذات صلة بشيء من ذلك. هذه أبرز النقاط التي تعتبر احتياجات عصر، والتي استهدفتها في قسم التفسير وبعضها مستهدف في السلسلة كلها. وهناك نقاط أخرى لم تكن هدفا في حد ذاتها بل جاءت بسبب ظروفي التي بدأت فيها العمل في التفسير: إنه من الواضح أن كل من يرغب في أن يشتغل بالتفسير سيجد نفسه بين أمرين:- الأول: أن قسما من التفسير الذي يريده سيجده في أي تفسير معتمد، وهو بالتالي لا يحتاج إلا إلى نقله وأحيانا إلى تبسيطه.

- الثاني: أن الأغراض الخاصة التي يحب المفسر أن يحققها في تفسيره عليه أن يبذل جهدا خاصا من أجلها، حتى إنه ليحتاج أن يقرأ مئات الصفحات، من أجل أن يغطي نقطة صغيرة جدا. ولم يكن باختياري أنني لتحقيق النوع الأول اعتمدت في الابتداء على تفسيرين فقط هما: تفسير ابن كثير وتفسير النسفي، إذ لم يتوفر لي في سجني في المرحلة التي ابتدأت فيها العمل إلا هذان التفسيران، وهما تفسيران مشهوران يغلب على الأول التفسير بالمأثور، ويغلب على الثاني قضايا التحقيق المختصر لأمور اعتقادية أو مذهبية، مع محاولة كل من التفسيرين أن يغطي المعنى الحرفي لآيات القرآن الكريم، فأقبلت على هذين التفسيرين محاولا من خلالهما أن أغطي المعاني الحرفية لكتاب الله تعالى، وأحيانا المعاني الإجمالية، ومحققا خلال ذلك ما أستطيع تحقيقه من أغراض هذا التفسير، على أن أكمل فيما بعد- إذا تغيرت ظروفي- كل ما استهدفته من هذا التفسير. ولقد حاولت في المرحلة الأولى من العمل أن أضمن هذا التفسير خلاصة التفسيرين ومجمل الفوائد الموجودة فيهما تاركا ما لا يتفق وأهداف هذا التفسير، وكنت أرى حرص الكثيرين من المسلمين على استيعاب تفسير ابن كثير، ولم أزل أرى فشل الكثيرين في استيعاب هذا التفسير، بسبب هو ميزة في حق العالم، ومتعب في حق الرجل العادي، وهو ذكر ابن كثير للأسانيد والروايات المتعددة والأقوال الكثيرة في الموضوع الواحد، ومن ثم فقد حاولت أن أريح القارئ العادي من مثل هذا فأخذت خلاصة ما في هذا التفسير من معان إجمالية، أو معان حرفية، أو فوائد مذكورة فيه؛ حتى إنه ليستطيع قارئ تفسيري هذا أن يطمئن إلى أنه أخذ تفسير ابن كثير دون ما يمله الرجل العادي منه، مضافا إليه تحقيقات وفوائد كثيرة مبثوثة في تفسير النسفي، حتى ليكاد أن يكون هذا التفسير كذلك مستوعبا الكثير مما هو موجود في تفسير النسفي، تاركا نقل أمور كثيرة لا تتمشى مع أهداف هذا التفسير؛ فكانت هذه القضايا ميزة لهذا التفسير، ولكنها ميزة لم تكن مستهدفة في الأصل، ومن خلال هذين التفسيرين وضعت الأساس الذي بنيت عليه هذا التفسير، ثم بعد ذلك بدأ العمل الذي تم به هذا التفسير كما يراه القارئ. وسيرى القارئ أنني كعادتي في كل ما أجمعه، لا أكلف نفسي عناء صياغة شئ يحتاجه كتابي، إذا كان غيري قد صاغه الصياغة التي أرضاها، أو التي تقصر عنها صياغتي أصلا. فليس الهدف إلا وجه الله عزّ وجل، وما سوى ذلك فإنني أرجو أن أتجاوزه. ولم يزل علماؤنا ينقلون في كتبهم الفصول الطويلة، وأحيانا لا ينسبونها إلى أصحابها، معتمدين فكرة أن أي تجديد في علم أو فن تعطي صاحبه حق النقل دون

ثانيا: بالنسبة للسنة

العزو؛ على أنني لا أفعل ذلك بل أنقل وأعزو؛ وإنما ذكرت هذا من باب الاعتذار، ومن باب الاعتذار كذلك أقول: إنه من الظلم لهذا التفسير أن يقول قائل: إن هذا التفسير هو خلاصة لكتابين، كما أنه من الظلم أن يقول قائل: إن إحياء علوم الدين للغزالي هو مجرد دمج لكتابي: قوت القلوب، والرعاية. على أنني لا أدعي أن لهذا التفسير ميزة على تفسير ابن كثير أو تفسير النسفي بل أريد أن أقول: إن في هذا التفسير شيئا آخر، هو من الكثرة بمكان مما يحقق أهداف هذا التفسير ولم يكن هدفا أصلا لابن كثير أو للنسفي رحمهما الله. وبعد هذا الاستطراد الذي اضطرنا إليه استكمال ميزات هذا التفسير، في سياق الكلام عن بعض احتياجات عصرنا في شأن عرض القرآن في هذا العصر؛ نرجع إلى ذكر الأسباب الموجبة، التي أدت إلى إيجاد هذه السلسلة والتي هي احتياجات العصر كما ذكرنا، فنذكر بالنسبة للسنة بعض ما نراه احتياجات عصر. ثانيا: بالنسبة للسنة: أما بالنسبة للسنة، فإنني أرى أن احتياجات عصرنا في شأنها مجموعة أمور: 1 - المسلم المعاصر عنده رغبة في أن يتعرف على السنة المتواترة والصحيحة والحسنة السند، ويحتاج إلى كتاب جامع لذلك كله، على أن يكون هذا الكتاب مضبوطا شكله مشروحا غريبه. 2 - والمسلم غير المتخصص بالحديث يهمه كذلك أن يأخذ الجوهر- دون ما احتاجه هذا الجوهر لحمايته- أي هو يحرص على أن يقرأ متون السنة دون أسانيدها. 3 - والمسلم المعاصر بحاجة إلى أن يفهم السنة فهما صحيحا وأن يأخذ الجواب الشافي على كثير من الإشكالات، وأن يعرف كثيرا من الأمور التي يتلجلج في قلبه سؤال عنها. 4 - وهناك شبهات حول السنة يثيرها أعداء الله عزّ وجل، وهناك مناقشات حادة حول الكثير من الأمور بين المسلمين أنفسهم في شأن فهم الكثير من متون السنة، وكل ذلك يحتاج المسلم المعاصر إلى أن يرتاح قلبه في شأنه.

إن من أهداف هذه السلسلة خدمة قضية زيادة الإيمان، وإصلاح الاعتقاد والعمل.

وقد كنت أحس بضرورة وجود الكتاب الذي يخدم في هذه الشئون، وغيرها مما رأيناه وسنراه، ولكن ما العمل؟ ولم أكن أستطيع وخاصة في المراحل الأولى من سجني أن أصل إلى أي كتاب إلا بصعوبة شديدة، ومن ثم لم أكن أطمع في أن أقدم خدمة مستوعبة في شأن السنة تحقق كل الأمور التي أعتبرها احتياجات عصرنا، كما لم يكن بإمكاني أن أقدم التحقيق المناسب الذي يخدم أغراض هذه الاحتياجات، ومن ثم فقد رأيت أن أعمل بقدر المستطاع المتاح، مما سنرى حدوده في مقدمة الكلام عن القسم الثاني من هذه السلسلة، وهو بفضل الله كثير طيب. هذه مجمل أمور في شأن الكتاب والسنة أعتبرها من احتياجات عصرنا، وأرجو أن أكون قد قدمت خدمة لا بأس بها فيها ويأتي القسم الثالث ليضع الأساس في ضبط مسار الفهم. ولئن كان المشتغلون قديما في خدمة الكتاب والسنة يفترضون في الغالب أنهم يخاطبون إيمانا كاملا، وبالتالي فإنهم لا يتكلفون كثيرا لما يخدم قضية الإيمان؛ فإنني أعتبر أن من واجبات العصر أن نلاحظ قضية الإيمان: إن في عرض المعاني، أو إبراز ما يلزم لذلك. ففيما يتعلق بعرض السنة فإنه ينبغي على الباحث أن يلاحظ هذا الموضوع حتى في عملية ترتيب أبحاث السنة. وأما بالنسبة للتفسير فإذا لم تخدم قضية الإيمان فيه في عصرنا المادي والشهواني فكأن المفسر لم يفعل شيئا، إن الله عزّ وجل يقول: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً. فالأصل الأصيل هو أن يتعمق الإيمان بتلاوة الآيات، وعلى المفسر أن يساعد في ذلك. إن كثيرا من التفاسير- كما قلنا- يفترض سلامة الإيمان وكماله، ومن ثم يركز على النكت والشروح والفوائد ومناقشة الخصوم، وكل ذلك له فوائده، ولكن هذا التفسير يريد صاحبه أن يكون أداة لرفع درجات اليقين، بحيث لا يخلص القارئ من صفحة إلى صفحة إلا وقد ارتقى يقينه، هذا مع تصحيح التصورات وزيادة العلم. إن من أهداف هذه السلسلة خدمة قضية زيادة الإيمان، وإصلاح الاعتقاد والعمل. ولقد حرصت على أن أربط بين أقسام هذه السلسلة برباط، مع أنه جرت عادة المؤلفين أن يخصوا الكتاب بالتأليف وكذلك السنة وكذلك الأصول دون أن يتكلف

الواحد منهم لتأليف متسلسل يضمها مكتفيا بما استقر في ضمير المسلم من أنه سيأخذ حظه من الكتاب ومن السنة ومن الأصول كل من مصادره. لكني وجدت أن الربط بين الكلام عن الكتاب والسنة والأصول في سلسلة واحدة مفيد لأسباب متعددة، أولها: الاختصار، فبدلا من أن يبحث الباحث قضية واحدة فيفصلها هاهنا وهاهنا فإنه يكتفي بالتفصيل في مكان واحد. ثم إن السنة هي المبينة للكتاب، فالوضع الكامل أن تدرس معه. ولكي أضمن الاقتراب من الكمال في الفهم، حرصت على أن تكون السلسلة شاملة لعرض نصوص الكتاب والسنة، ثم إن الحركة الإسلامية وهي تنطلق مصححة لأوضاع محلية أو لأوضاع عالمية أو لإرث موروث أو لدخن مختلط أو وهي تقيم الحجة على الناس كل الناس مسلمين وغير مسلمين، لا بد أن تقدم الفهم الحق للكتاب والسنة، اللذين هما أصل الإسلام على طريقة سواء وضوابط هذا الفهم كل ذلك وغيره من معان متعددة كلها يصب في كون المسلم لا بد له من معرفة بنصوص الكتاب والسنة، ولا بد له لتحقيق كمالاته من الاطلاع على الكتاب والسنة، ولا بد له من فهم لنصوص الكتاب والسنة فهما صحيحا يحفظه من الخطأ، كل ذلك دعاني لإصدار هذه السلسلة تحت عنوان واحد (الأساس في المنهج) لأن منهج الحق يتمثل في الكتاب والسنة كليهما. وشئ بدهي أن أوضح في هذه السلسلة موضوع أن الإسلام تغطية كاملة لشئون الحياة، وأن أبين أنه يستحيل شئ مما وصل إليه الإنسان من حقائق علمية ينقضه نص من نصوص الكتاب والسنة، بل إن الكثير مما وصل إليه الإنسان من حقائق علمية قطعية كان لصالح إثبات أن الكتاب والسنة حق خالص، وكيف أن عصرنا قد أبرز من معجزات الكتاب والسنة ما تقوم به الحجة على أهل جيلنا أكثر من أي جيل مضى، كل ذلك شئ عادي أن أبرزه في هذه السلسلة. وفي سلسلتنا (في البناء) أشرنا أكثر من مرة إلى هذه السلسلة ووعدنا هناك أن نحقق هنا نعاني بعينها، ونرجو أن نفي بوعودنا كلها في هذه السلسلة بإذن الله. ومن المعلوم أنه ينبثق عن نصوص الكتاب والسنة كثير من المواضيع، ومن ثم فلا نطمع أن نخص كل موضوع بعنوان. على أننا سنستعين بالفهارس للدلالة على وجود بعض المواضيع التي تعتبر أهم من غيرها.

وسنعطي قضايا الحكم العقلي والشرعي والعادي، وأصول ذلك وصلة ذلك بالنصوص أهمية خاصة. هذا كله مراعى في تأليف هذه السلسلة ودافع نحو تأليفها غير أن هناك أسبابا بعينها كانت هي الأقوى في الدفع نحو هذا التأليف وهذه هي: 1 تعتبر العصور المتأخرة ومنها عصرنا عصور الامتحان لكل شئ؛ لأن الإنسان في الغالب قد شك في كل شئ، خاصة وأن الشعوب التي ملكت السيطرة المادية على العالم، والتي أصبحت نتيجة لذلك هي التي تصدر الأفكار وتدعو إليها وتفلسفها، وتحاول- سواء كانت رأسمالية أو شيوعية- أن تصوغ الأمور بالقالب الذي تريد. إن هذه الحكومات والشعوب جعلت كل شئ محل امتحان في الظاهر، ولكنها في الواقع قد أصدرت أحكامها سلفا في كثير من الأمور، وتحاول باسم الامتحان أن توصل الناس إلى ما تريد في الاعتقاد والسلوك وغير ذلك، وارتبط ذلك كله بعملية تناحر هائلة جبارة على المواد الخام وعلى السيطرة على العالم، وبقضية الصراع من أجل البقاء، ومن ثم فقد سخر في عملية الامتحان الظاهري للأشياء وفي عملية صبغ الأشياء بالفكر المسبقة، سخر لهذا الموضوع من الإمكانات والطاقات ما لا يخطر بالبال، فأصبحت الأشياء كلها محل امتحان وكادت تتغير كل المسلمات القديمة لدى أكثر الناس، والقليل من الناس هم الذين بقوا في مثل هذا الجو الضاغط الفظيع محتفظين بمسلماتهم، وقليل من هذا القليل هو الذي احتفظ بالمسلمات على بصيرة. وأمام هذا كله لا بد من عرض شامل واستعراض كامل لنصوص الإسلام التي هي بالدليل والبرهان تشكل المسلمات الوحيدة الصحيحة في هذا العالم، أو أنها وحدها الميزان الصحيح الذي توزن به المسلمات. هذه النصوص التي هذا شأنها والتي ليس أمام أحد خيار إلا قبولها والتسليم لها، وهذا العرض الشامل والاستعراض الكامل هما أول دافع قوي نحو إصدار هذه السلسلة؛ لأنه بدون العرض الشامل والاستعراض الكامل تبقى ثغرات كبيرة يمكن أن ينفذ من خلالها المشككون، فتسهل بدون ذلك عملية سقوط المتشككين، فضلا عن كون ذلك واجب العصر، إذ لكل عصر واجبات على أهل الحق، يقتضيها حق العصر وهذه إحدى أهم واجبات هذا العصر.

2 وفي عصرنا طرحت كثير من الأمور نفسها بشكل حاد، فأصبح لا بد من إجابة شافية كاملة عنها، واختلط الأمر واختلطت الإجابات، فكان لا بد من عملية تمييز شاملة كاملة للإجابة الصحيحة من ناحية، وللتوضيح من ناحية أخرى، وإذا كانت نصوص الإسلام هي الإجابة الشاملة والكاملة على كل قضية تخطر ببال الإنسان، وهي التي من خلالها يتم التمييز الشامل الكامل، فإن هذه النصوص لا بد أن تفهم في إطارها الصحيح لتعطي الجواب، ويتم التمييز ويكون الوضوح. إن كل تساؤل حاد لا يحتمل عصرنا تأخير الإجابة عليه أو السكوت عنه، وإجابة شاملة على كل الأمور لن تتم إلا من خلال عرض شامل لكل النصوص لأن الله عزّ وجل جعل كتابه تبيانا لكل شئ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وبدون السنة التي هي بيان للقرآن، لا يتم البيان قال تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وبدون علم الأصول لا يستطيع الإنسان أن يضع الأمور في مواضعها. 3 وفي عصرنا انطلق كل شئ من عقاله بحرية كاملة دون أي التزام مسبق في الظاهر كما رأينا. ولكن الأمر العجيب أن كل شئ يخدم قضية الحق أبعد لصالح الهوى، وكل شئ يخدم قضية اليقين أبعد لصالح الظنون. وكل ذلك يعطى صفة علمية يتم الإيهام بأنها قطعية، وهي باطل في جوهرها. فعلى سبيل المثال: لقد انطلق علم الجيولوجيا والبيولوجيا والمستحاثات وغير ذلك من العلوم، وبدأت الحفريات عن الآثار وعن غيرها للوصول إلى حقائق، فإذا جاءت النتائج تؤيد النصوص الدينية استبعدت، وإذا جاءت لغير صالح نوع من النصوص الدينية المحرفة تبنيت وحمل بسببها على كل دين، حتى ولو كانت نصوصه لا تتناقض مع هذه المكتشفات، وأصاب الإسلام من ذلك الكثير. نجد مثلا دارسي التاريخ الفرعوني في مصر يرجحون أن جثة فرعون الذي عاصر موسى موجودة حتى الآن. والقرآن يذكر النجاة البدنية لفرعون من الغرق مع إثباته الغرق. وفي ذلك دليل على أن القرآن هو الذي أعطى الجواب الكامل الصحيح على هذا

الموضوع، وأن القرآن ليس مستمدا من روايات الكتب السابقة كما يزعم الزاعمون؛ لأن ما يسمى بالتوراة- الحالية- تذكر غرق فرعون دون أن تذكر نجاة جثته. فبدلا من أن يرى فيما ذكره القرآن دليلا على الوحي وعلى أن القرآن وحي إلهي، تكون المسألة أن يشكك في كل الوحي الإلهي، بسبب أن ما يسمى بالتوراة حاليا- وهي محرفة كما سنرى بالدليل- عارضت مكتشفات أثرية. والحفريات التي تمت في العراق أوصلت إلى ملحمة جلجاميش التي تحدثت عن نوح عليه السلام وعن الطوفان، وأوصلتنا هي وغيرها إلى أن الطوفان كان مشهورا معروفا، وأن قصة نوح عليه السلام كانت معلومة معروفة، ثم تذكر هذه الحفريات كما يقول أنطون مورتكات في تاريخ الشرق الأدنى القديم الذي عربه توفيق سليمان وآخران: (لقد صنفت المصادر المحلية التي ترجع إلى ما بعد الطوفان سلالة كيش الأولى في ثلاثة وعشرين ملكا بلغ مجموع حكمهم (24) ألف سنة. ثم تتبعها سلالة أوروك الأولى باثني عشر ملكا وصل مجموع حكمهم مدة زادت عن ألفي سنة). هذا ما أوصلت إليه الحفريات وفيه دليل على أن الناس في الماضي كانوا يعمرون فعند ما يحكم ثلاثة وعشرون ملكا أربعة وعشرين ألف سنة فذلك دليل على أن ما ذكره القرآن من رقم (950) سنة في حق نوح عليه السلام تسنده الحفريات، وأن الإنسان في الماضي كان يعمر أكثر من إنساننا الحالي، ولكن هذه القضية نفسها تعرض على أنها مستبعدة أصلا فما أوصلت إليه الحفريات مرفوض إذا! ولماذا الحفريات إذا! إن هذا يؤكد أن الإنسان الحالي في الغالب عنده أحكام مسبقة يحاول أن يفسر الأشياء بها لا أن يصل إلى الحق. ويذكر الدكتور حسن زينو المتخصص في الجيولوجيا في كتابه (التطور والإنسان) كيف أن الحفريات أوصلت إلى اكتشاف الإنسان العملاق، وكيف أن الحفريات أعطتنا جثة إنسان أضخم من إنساننا الحالي بست مرات وهذا يؤيد النصوص التي تذكر أن الخلق لم يزل يتناقص منذ خلق آدم كما سنرى، ولكن بدلا من أن يكون مثل هذا الاكتشاف يخدم قضية الإيمان فإنه يصاغ صياغة تخدم قضية الكفر. وقل ذلك في أمور كثيرة.

لقد انطلق الإنسان بحرية كاملة في كل شأن فوصل إلى حقائق تخدم قضية الإيمان فرفضها، ووصل وأوصل إلى تخريب وضلال في العقل والوجدان، وفي السلوك والاجتماع وفي السياسة والاقتصاد، وهو مصر على أن يستمر في هذا الطريق. ومن ثم فقد آن الأوان أن يقول المسلم لهذا العالم كلمته الحاسمة، وبداية ذلك العرض الشامل لنصوص الإسلام وإقامة الحجة في شأنها على أنها الحق الخالص. لقد آن الأوان للمسلم أن يرجع الأمور إلى نصابها في هذا العالم، الذي انطلق كل شئ فيه في غير مساره الصحيح، ليرجع الأشياء كلها إلى المسار الصحيح، بأن تصبح كلمة الله هي العليا، وبداية ذلك كله أن تفهم كلمة الله فهما صحيحا، وأن تفهم كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا، وأن تقام الحجة بكلمات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على العالم. 4 إن الوحي الإلهي في صيغته الصحيحة الوحيدة حاليا، يتمثل بالدليل والبرهان بما أنزل الله عزّ وجل على محمد صلى الله عليه وسلم من قرآن وحكمة، هذا القرآن الذي كانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه البلاغ والبيان هو حجة الله على خلقه، وهو حجة الله على أن محمدا عبده ورسوله. هذا القرآن الذي هذا شأنه؛ لا بد من إبراز كمال الحجية فيه، وما أكثر الحجج وأكبرها، إنه كلمات الله إلى هذا العالم، فلا بد من إقامة الحجة فيه، ولا بد من الإجابة على شبهات الخلق في شأنه. ومن آخر هذه الشبه وأعجبها ما تثيره الآن أكثر دوائر الكفر بشكل مهذب أو وقح حول الوحدة القرآنية والصلة بين سور القرآن بعضها ببعض، أو آيات القرآن بعضها ببعض، كما ترى نموذج ذلك في مقدمة (كلود كاهن) في تاريخه، مع أن هذا الموضوع وحده هو من أعظم مظاهر الإعجاز في القرآن كما سنرى في هذه السلسلة، ولكن الأمر يحتاج إلى بيان، فكانت هذه السلسلة وخاصة جزؤها الأول هي هذا البيان. ومع البيان لمثل هذا الشأن وغيره مما تندفع به الشبه وتقوم به الحجة، فهناك محاولة الفهم الصحيح لكلمة الله وكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر أصبحت فيه كثير من النصوص تفهم فهما خاطئا ويبنى على هذا الفهم الخاطئ أحكام خاطئة.

5 ثم إنه منذ العصور الأولى وجدت عقلية حرفية، تحاول أن تفهم نصوص الكتاب والسنة غير مراعية طرائق العرب في الخطاب والفهم، كما وجدت عقلية تأويلية تنطلق بالتأويل بدون ضوابط، وهناك عقلية تريد أن تفهم الأصل على ضوء الفرع، وعقلية تنسى الأصل وتستيقظ على الفرع، وكل ذلك لا يسع المسلمين أن يبقوا على غفلة عنه في عصر المخاض لميلاد الدولة الإسلامية العالمية بإذن الله تعالى. هذه النقاط الخمس تشكل الدوافع الأقوى لإصدار هذه السلسلة، ولكن هل استطعت أن أحقق هذه الأحلام؟ لا أقول هاهنا شيئا فلي كلمة في الختام، ولكن أستعين بالله عزّ وجل وأبدأ، وأرجو ألا يندم أحد سهر الليالي في قراءة هذه السلسلة، بل إنني لأرجو أن ينتهي القارئ منها وقد شعر أنه بحاجة إلى أن يقرأها مرة ومرة. وإني لأعتبر السلاسل الأربع التي أصدرتها: سلسلة الأصول الثلاثة، وسلسلة في البناء وسلسلة إحياء الربانية، وهذه السلسة مما لا ينبغي أن يتجاوزها طالب علم إلا وقرأها، فضلا عن إنسان له دور الداعية أو المربي في هذه الأمة، لأنني أعتبرها جميعا احتياجات عصر. وإني لأرجو أن أكون بهذه السلاسل قد أجبت على كل شبهة، وأعطيت جواب الحركة الإسلامية على كل المسائل المعاصرة. ومن ثم فإنني أرجو أن تكون نقاط علام مضيئة على طريق طويل، وضع النقاط الأولى فيه حسن البنا، ووضع النقاط التالية فيه حسن الهضيبي، ووضع نقاطا مضيئة كثيرة فيه سيد قطب وغيره من أبناء هذه الحركة في الشرق الإسلامي وعلى امتداد هذا العالم؛ فإن الكثيرين قد وضعوا من هذه النقاط على هذا الطريق، وأخص بالذكر منهم الأستاذ أبا الأعلى المودودي، وشيخنا أبا الحسن الندوي، فجزى الله الجميع خيرا. ولئن وضعت اسمي بين هذه الأسماء اللامعة، فما ذلك إلا لتشجيع القارئ على قراءة هذه السلاسل، وإلا فإنني بفضل الله أعرف مكاني وهو الجندية الخالصة لهذه الدعوة الربانية. هذا ونسأل الله أن يعين وأن يتقبل إنه سميع مجيب. اللهم آمين. ولنبدأ في القسم الأول من هذه السلسلة مبتدءين بالمقدمة المباشرة لقسم الأساس في التفسير.

مقدمة الأساس فى التفسير

مقدمة الأساس فى التفسير

رأينا في مقدمة هذه السلسلة (الأساس في المنهج) مجموعة من الأمور لها صلة بالسلسلة كلها. ولا شك أن قسما مما ذكرنا هناك هو بمثابة مقدمة لهذا التفسير، غير أنا رأينا أن نقدم مقدمة خاصة لهذا التفسير ولو تكررت بعض المعاني لإبراز بعض خصائصه، ليدرك القارئ أن هذا التفسير- وإن كان في بعض جوانبه- لا يحوي جديدا إلا أنه في جوانب أخرى كان جديدا، وما ذلك إلا من فضل الله عزّ وجل. إن الخاصية الأولى لهذا التفسير وقد تكون ميزته الرئيسية أنه قدم لأول مرة- فيما أعلم- نظرية جديدة في موضوع الوحدة القرآنية، وهو موضوع حاوله كثيرون وألفوا فيه الكتب ووصلوا فيه إلى أشياء كثيرة، ولكن أكثر ما اشتغلوا فيه، كان يدور إما حول مناسبة الآية في السورة الواحدة، أو مناسبة آخر السورة السابقة لبداية السورة اللاحقة، ولم يزيدوا على ذلك- فيما أعلم- هذا مع ملاحظة أن الموضوع الأول نادرا من استوعبه والتزم به في تفسير كامل للقرآن، وإذا التزم به فلم يكن ذلك على ضوء نظرية شاملة تحتوي مفاتيح الوحدة القرآنية. ولقد من الله علي منذ الصغر أنني كنت كثير التفكير في أسرار الصلة بين الآيات والسور ووقع في قلبي منذ الصغر مفتاح للصلة بين سورة البقرة والسور السبع التي جاءت بعدها وهي بمجموعها تشكل القسم الأول من أقسام القرآن كما سنرى ذلك في حديث حسن. فقد لاحظت مثلا أن الآيات الأولى في سورة البقرة مبدوءة بقوله تعالى: الم ومنتهية بقوله تعالي: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وأن سورة آل عمران مبدوءة ب: الم ومنتهية بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فقلت في نفسي هل سورة آل عمران تفصيل للآيات الأولى من سورة البقرة؟ ثم لاحظت أنه بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأن سورة النساء الآتية بعد سورة آل عمران مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ....

فتساءلت عما إذا كانت سورة النساء تفصيلا لآيات تقابلها من سورة البقرة. ثم لاحظت أنه بعد آيات من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... وأن سورة المائدة الآتية بعد سورة النساء مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. فتساءلت عما إذا كانت سورة المائدة تفصيلا لشئ يقابلها في سورة البقرة. ثم لاحظت أنه بعد ذلك في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. وأن سورة الأنعام تفصل هذا المعني ولذلك تتكرر فيها الآيات المبدوءة بقوله تعالى: وَهُوَ. بل آخر آية فيها هي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ... وصلة ذلك بآية البقرة واضحة فتساءلت عما إذا كانت سورة الأنعام تفصيلا لآية أو لأكثر تقابلها في سورة البقرة؟ ثم لاحظت أنه بعد ذلك في سورة البقرة، تأتي قصة آدم وهي منتهية بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .... وأن الآية الثانية في سورة الأعراف هي قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وأن قصة آدم معروضة فيها منذ بدايتها، فهل لسورة الأعراف صلة بآيات تقابلها في سورة البقرة؟ ثم بعد ذلك بآيات كثير في سورة البقرة، تأتي الآية التي يفرض بها القتال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ ... وبعدها مباشرة آية فيها سؤال عن قضية لها صلة بالقتال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .... وأن سورة الأنفال وبراءة- وهما في موضوع واحد: وهو القتال- قد بدئتا بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ فكأنهما تفصيل لقضايا متعلقة بالقتال. وهكذا وجدنا أن السور السبع التي جاءت بعد البقرة، وهي التي تشكل مع سورة البقرة القسم الأول من أقسام القرآن كما سنرى، هذه السور التي جاءت بعد سورة البقرة مباشرة أتت على تسلسل معين هو نفس التسلسل الذي جاءت به

المعاني في سورة البقرة، وأن لكل سورة منها محورا موجودا في سورة البقرة هذه الملاحظة وقعت في قلبي منذ الصغر وسجلتها في كتاب (الرسول) صلى الله عليه وسلم في فصل المعجزة القرآنية، ورأيتني بعد استعراضات كثيرة لكتاب الله قد عثرت فعلا على مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية، وتفتحت لدي من آفاق الفهم معان كثيرة بخصوص السياق العام للقرآن والسياق الخاص داخل السورة الواحدة. وكلما سرت في عرض القرآن الكريم تبين لي من الأدلة على سلامة سيري الكثير الكثير. وليست هذه المقدمة هي محل عرض هذا الاتجاه في موضوع فهم الوحدة القرآنية، ولكنها نموذج على عملي في التفسير أكملت فيه بناء أو حققت فيه أملا، فلقد دندن علماؤنا حول هذا الموضوع ولم يستوعبوه، واستوعبته بفضل الله، وأشاروا إليه ولم يفصلوا فيه، ولقد فصلت فيه تفصيلا استوعب الآيات في السورة الواحدة والسور في القرآن كله على ضوء نظرية شاملة أثبت البحث صحتها، وهي تعطي الجواب على كثير من الأمور مما له صلة بوحدة السورة، ووحدة المجموعة القرآنية، ووحدة القسم القرآني، ثم في الوحدة القرآنية كلها. وبدون هذه النظرية فإن كثيرا من الصلات التي تحدث عنها المتحدثون، إنما تتحقق بنوع من الاستكراه. ولئن توسعت في هذا الشأن بما لم يتوسع به أحد، فلأنه كما ذكرت احتياج عصر وضرورته، أما الماضون فلم يكونوا يستشعرون ضرورته، فاكتفوا بالتلميح إليه مع اعتقادهم أنه موجود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة البقرة ما نصه: «ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار. وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته … والذنب للطرف لا للنجم في الصغر» ا. هـ وقال الشيخ ولي الدين الملوي: «وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب: أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شئ عن كونها مكملة لما

قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له .. اه.» هذان النقلان نقلهما صاحب (مناهل العرفان) في الصفحة 73 - 74 من كتابه في طبعته الثانية من هذين النقلين ندرك أن علماءنا قد دندنوا حول ضرورة البحث عن الصلة والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة. بل كان البقاعي الذي يطبع تفسيره الآن ولم أطلع عليه، يلوم علماء بغداد لإهمالهم الكلام في هذا الشأن. وكما دندنوا حول المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة، بحثوا عن الصلة والمناسبة بين سور القرآن عامة. وهذه قضايا بمجموعها نادرا ما تجد تفسيرا قد خلا عن طرف منها، ونادرا ما تجد مفسرا إلا وقد عرج عليها ما بين مكثر ومقل. ويبدو أن بعض الصحابة قد عرج عليها فقد ذكر ابن كثير: «قال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة وفي رواية سورة النور، ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا»، ترى ما هو هذا التفسير الذي فسره ابن عباس حتى لو سمعه هؤلاء لأسلموا إلا أن يكون من جملته ذكر معان دقيقة زائدة على ما يفهم الرجل العادي من مجرد النظرة البادهة لسورة البقرة، ولا شك أن هذا احتمال ولكنه احتمال له حظه من النظر. ولكن لئن عرج بعض المفسرين على هذا الموضوع، فإن أحدا منهم لم يستوعب القرآن كله بذكر الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين سور القرآن بعضها مع بعض على ضوء نظرية شاملة، وقد بذل حتى الآن الجهد الأكبر في الربط بين الآيات في السورة الواحدة، ولكن النقطة الثانية لم يبذل فيها جهد إلا ضمن حدود ضيقة وكلا الجهدين فاتته إلى حد كبير بعض أسرار الوحدة الشاملة. ولقد حاولت في هذا التفسير أن أسد هذه الثغرة مع اعتقادي أن أسرار الوحدة القرآنية لا يحاط بها، ولكن وإذ أصبح الكلام عن هذا الموضوع مطلبا خاصا وعاما حتى جعلها بعض المستشرقين مدخلا يلج من خلاله إلى تشكيك المسلمين أو اتهام القرآن أو اتهام علماء المسلمين بالقصور، إذ أصبح الأمر كذلك فقد أصبحت على يقين من أن هذا الموضوع لا بد من تغطيته، وسيرى قارئ هذا التفسير أنني بفضل الله غطيت هذا الموضوع تغطية تامة، وسيرى قارئ هذا التفسير صحة سيرنا في هذه التغطية كلما قرأ صفحة جديدة من صفحات هذا التفسير.

هذه التغطية لهذا الموضوع كما أنها تلبي مطلبا من مطالب عصرنا، فإنها تروي ظمأ طلاب المعرفة والباحثين عن دقائق أسرار هذا القرآن، كما أنها تضع لبنة في صرح الحديث عن إعجاز القرآن ومعجزاته، كما أنها تجيب على تساؤلات كثيرة من جملتها موضوع فواتح السور، سواء منها المصدرة بالأحرف الهجائية أو المصدرة بما سوى ذلك، ومن خلالها يزداد ترجيح بعض الجوانب التي وقع فيها خلاف كقضية: إن ترتيب سور القرآن توقيفي وليس اجتهاديا. فمع أن جماهير الأمة ذهبت إلى هذا، فإن هذا التفسير سيبرهن على هذا الموضوع بشكل عملي، كما أنه بإبرازنا الوحدة القرآنية، بإبراز الصلة بين سور القرآن والصلة بين الآيات في السورة الواحدة، سنأخذ الجواب على السؤال: لماذا لم تكن المعاني ذات المضمون الواحد موجودة بجانب بعضها؟ وسنجد لذلك حكما كثيرة، وسيرى القارئ لهذا التفسير أن هذا الترتيب ما بين سور القرآن على هذه الشاكلة التي رتبها الله عزّ وجل في كتابه، شئ به وحده تقوم الحجة على كل من يتصور أن هذا القرآن يمكن أن يكون بشري المصدر. وذلك من جانب ترتيبه فقط، فكيف بما سوى ذلك من عشرات الظواهر التي فى كل واحدة منها الدليل من خلال عشرات الأمثلة، على أن هذا القرآن يستحيل أن يكون بشري المصدر. ثم إنه بعملنا هذا نكون قد زدنا بعض حجج الكاتبين عن القرآن وضوحا. فمثلا ذكر صاحب (مناهل العرفان) في باب حكم نزول القرآن منجما هذه الحكمة التي هي الحكمة الرابعة في عرضه فقال: «الإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده وأنه لا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه». وبيان ذلك أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب قوي الاتصال آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، وعقد فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته وجاء آخره مساوقا لأوله وبدا أوله مواتيا لآخره. وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التأليف المعجز؟ وكيف استقام هذا التناسق المدهش على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة، بل تنزل آحادا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما؟ الجواب: أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز .. ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن وأنه كلام الواحد الديان وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ

اخْتِلافاً كَثِيراً .. وإلا فحدثني بربك كيف تستطيع أنت أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات، مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه، التي يجئ كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ومتحدثا عنها سببا بعد سبب، وداعية إثر داعية، مع اختلاف ما بين هذه الدواعي، وتغاير ما بين تلك الأسباب، ومع تراخي زمان هذا التأليف وتطاول آماد هذه النجوم إلى أكثر من عشرين عاما!!!. لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام. أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا: نزل مفرقا منجما، ولكنه تم مترابطا محكما، وتفرقت نجومه تفرق الأسباب، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب، ولم يتكامل نزوله إلا بعد أكثر من عشرين عاما ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما. أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، العليم بما كان وما سيكون الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون. لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال: (ضعوها في مكان كذا من سورة كذا) وهو بشر لا يدري- طبعا- ما ستجئ به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث، فضلا عما سينزل من الله فيها. وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول صلى الله عليه وسلم على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لا يمكن أن يأتي على مثل هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط لا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام غيره من البلغاء، خذ مثلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه: لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة لدواع متباينة في أزمان متطاولة، فهل في مكنتك

ومكنة البشر معك أن ينظموا مثله أو يزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟ ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ... إذن فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده. وتلك حكمة جليلة الشأن تدل الخلق على الحق في مصدر القرآن قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (سورة الفرقان) اه. إن هذه الحكمة التي ذكرها المؤلف تتضح أبعادها بشكل أقوى وأكثر بيانا عند ما يقرأ الإنسان تفسيرنا هذا، ليجد من عجائب الصلة بين الآيات والسور ما لا يمكن أن يخطر ببال بشر، بحيث يجد أنواعا من الوحدة الشاملة التي تضم معاني القرآن وآياته وسوره بما يحير الألباب ويدهش الأبصار والبصائر. ولا يستعجلن القارئ علينا وهو يرى هذا الكلام قبل أن يقرأ هذا التفسير. فإن وجد الأمر كما ذكرنا فليدع لنا بحسن الخاتمة وبالمغفرة. وإذا لم يجد ما نقلناه هنا فإني أسامحه في كل ما يقول. ولقد سئلت أكثر من مرة من بعض من عرضت عليه وجهة نظري في فهمي للصلة بين الآيات والسور عن فائدة هذا الموضوع، وكنت أجيبه بمثل ما ذكرته فيما مضى من هذه المقدمة، في أن الإجابة على هذا الموضوع تخدم رد شبهة أن هذا القرآن لا يجمع آياته في السورة الواحدة جامع ولا يجمع بين سوره رابط، وذلك لا يليق في كلام البشر فكيف بكلام رب العالمين، إنها لشبهة فظيعة جدا أن يحاول محاول إشعار المسلم بأن كتاب الله ينزل عن كتب البشر في هذا الشأن. ولقد استطعت بتوفيق الله أن أبرهن على أن كمال القرآن في وحدة آياته في السورة الواحدة، وكماله في الواحدة الجامعة التي تجمع ما بين سوره وآياته على طريقة لم يعرف لها العالم مثيلا ولا يمكن أن تخطر على قلب بشر. لقد استطعت خلال هذا أن أرد السهم إلى كبد راميه من أعداء الله في هذه النقطة بالذات. على أن الإجابة على هذا الموضوع كما قلنا تخدم قضايا أخرى: منها قضية تأكيد إعجاز القرآن، ومنها قضية دحض شبهة أن هناك افتراقا بين القرآن المكي والمدني، ومنها أنها تخدم في معرفة بعض أسرار القرآن، ومنها أنها تخدم قضية الفهم للكثير من المعاني التي يدل عليها السياق. إن هذه النقطة التي هي في بعض جوانبها تميز هذا التفسير عن غيره لا تخدم فقط فيما ذكرناه، بل تخدم في رؤية كثير من المعاني، ومحل هذه المعاني في البرهان

على كثير من القضايا. كما أنها ترينا أن هذا القرآن من خلال سياق الآية في السورة ومن خلال سياق الآيات بالنسبة لمجموع القرآن ومن خلال صلات السور بعضها ببعض، ومن خلال نواح أخرى، يعطينا معاني لا نهاية لها ولا يمكن الإحاطة بها وهو موضوع سنراه كثيرا في هذا التفسير. وكأثر من آثار هذه النظرة الشاملة التي على ضوئها فهمت الوحدة القرآنية تكشفت لي إحدى الحكم في كون بعض السور مفتتحة ببعض الحروف، فكانت ملاحظة جديدة تضاف إلى ملاحظات كثيرة، سجلها علماء المسلمين خلال العصور حول أسرار هذه الأحرف. لقد أقمت على هذا الاتجاه الذي اتجهته في موضوع الوحدة القرآنية من الحجج الكثير، بحيث لا يرتاب عالم منصف بعد الاطلاع عليها بأن اتجاهي في ذلك كان صحيحا. ولكني تعمدت ألا أذكر حججي كلها في مكان واحد بل وزعتها في الكتاب كله عند ما تأتي مناسبتها، ولولا ذلك لاقتضى إبراز كل الحجج مجلدا كاملا من مجلدات هذا التفسير، ثم هي في هذه الحالة لا تستوعب كما لو جاءت في مناسبتها. وهذا جوابي على من يقول: إنه كان بالإمكان أن أكتفي بإبراز هذه القضية من خلال كتاب مستقل بدلا من كتابة تفسير كامل. إنه لم يكن بالإمكان أن أعرض لهذا الموضوع منفصلا عن تفسير آيات القرآن على اعتبار أن هذا الاتجاه له صلة بفهم القرآن كله، فلو أنني ذكرته منفصلا لكان عملي ناقصا؛ ولذلك جعلت هذا الموضوع جزءا من تفسير، فلكي تتجلى الوحدة القرآنية بشكل واضح لا بد أن يكون النص القرآني مفسرا وواضحا، ثم إن الهدف من إصدار هذه السلسلة متعدد أصلا كما رأينا. إني أتمنى لإخواني المسلمين ألا يتسرعوا في الحكم على هذا الاتجاه الذي اتجهته إلا بعد أن يقرءوا التفسير كله وأظن أن أشدهم إنكارا علي سيكون أكثرهم حماسا لما ذهبت إليه. ولا أدعي العصمة، ولكن فضل الله كبير، وعلى كل الأحوال فهذا موضوع لم يعد بالإمكان السكوت عن الإجابة عليه وهذا اجتهادي فيه، وأرجو أن أكون مصيبا في هذا الاجتهاد، وأتمنى لكل من عنده رأي آخر أن يناقشني فيه ولكن بعد أن يقرأ هذا التفسير كله. ولئن كانت هذه هي المزية الرئيسية لهذا التفسير فإن له مميزات أخرى ذكرنا بعضها من قبل:

فمن مميزاته أنه حاول أن يستفيد من المراجع التي توفرت لدينا حاليا من كتب دينية قديمة وأن ينقل عنها مباشرة مع العزو إليها مضافا إلى ذلك قضية نقد ما ينبغي نقده، ومضافا إلى ذلك تبيان نقاط الضعف فيها. ومن مميزاته أنه حاول التبسيط والتقريب ولكن مع الاحتفاظ إلى حد كبير بعبارات المفسرين أو بدقة طرائقهم في الأداء، وهو موضوع لا يدرك صعوبته إلا من عاناه، إذ إن كثيرا من العبارات لم تستقر على ما هي عليه إلا بعد عمليات تنقيح أجريت عليها خلال العصور، وكل من حاول التقريب أو التبسيط أو الانطلاق في التعبير وقع في محاذير ينتقده عليها العلماء، ومن ثم فقد حاولت في هذا التفسير أن أتقيد بعبارات العلماء ومصطلحاتهم. وفي الحالات التي وجدت أنه لا بد من التبسيط والتقريب فيها فقد حاولت ما استطعت أن أبسط مع الاحتفاظ بمقاصد العلماء نفسها وملاحظة احترازاتهم وهم يتخيرون اللفظ المناسب والمعنى المناسب. ومن مميزاته أنه ليس فيه حشو وليس فيه إلا ما له علاقة بصلب التفسير وقد استبعدت منه كل قضية لم أعتبرها علمية. ومن مميزاته أنه حاول الاستفادة بقدر المستطاع من مزية العصر الكبرى: التخصص وما ترتب عليه من علوم ودقائق وحقائق في كل جانب من جوانب الحياة والكون والإنسان. إنه في عصرنا إذ توفرت لنا معان وتيسرت لنا علوم وأصبح بإمكاننا من خلالها أن نلحظ كثيرا من المعجزات القرآنية وأن نلحظ كثيرا من أسرار هذا القرآن فقد أصبح مما لا يحسن لمشتغل بالتفسير ألا يعطي هذا الموضوع حقه مع كونه مرهقا جدا، فقد تحتاج أن تقرأ مئات الصفحات للوصول إلى كلمة، أو لالتقاط حجة، ولقد حاولت أن أبذل جهدا في هذا السبيل، وأرجو أن يتضح ذلك للقارئ شيئا فشيئا، وكأثر من آثار هذه المزية والتي قبلها فقد حررت هذا التفسير من تأثير ثقافات خاطئة على فهم القرآن، مما نجده عند كثير من المفسرين وحاولت ألا أقع في مثل أخطائهم، بحيث أحمل النصوص القرآنية على فرضيات أو نظريات لم تثبت. ومن مميزات هذا التفسير أنه حاول ربط المسلم بقرآنه وحاول تبصير المسلم بواقعه، وإذا كان للمسلم الحق في عصرنا معارك متعددة وعلى جبهات متعددة، وإذا كان المسلم لا بد أن يخوض معاركه على أساس القرآن من خلال توضيح الفارق بين ما يجري في هذا العالم وما بين أحكام القرآن، وإذا كان لا يحسن بكتاب معاصر للتفسير

ملاحظة حول اصطلاحات في هذا التفسير

أن يغمض مؤلفه عينيه عن هذه المعارك كلها، وإذا كان هذا كله يقتضي تربية مكافئة لهذه الأمور كلها على ضوء القرآن فقد راعيت أن يكون هذا بارزا في هذا التفسير. ومن مميزات هذا التفسير أنه حاول أن يبين من هي جماعة المسلمين، وما هي مدارسها الاعتقادية والفقهية والروحية والسلوكية والأصولية، ومن يقرب من ذلك ومن يبعد عنه، وما خالط ذلك من دخن في العصور المتأخرة، وأصول الخلاف وأمهات مسائل الخلاف، وما هو الخلاف المرفوض والاختلاف المقبول؟ وما هو إطار ذلك؟ وما ينبغي أن يترتب عليه سلبا أو إيجابا؟ ومن مميزاته أنه حاول أن يبين كيف أن القرآن أعطى الجواب على كل شئ إما بشكل مباشر أو بما أحال عليه من سنة أو بما أحال القرآن والسنة على طرائق ووسائل يعرف بها حكم الله. ومن مميزاته أنه كتاب علم ودعوة وتربية وجهاد بآن واحد، فهو كتاب تبصير للمسلم في هذه الدوائر كلها، وكيف ينبغي أن يتصرف في كل دائرة منها على بصيرة بما لا يطغى فيه حق العلم على حق المعركة، أو حق المعركة على حق العلم، أو حق العلم والمعركة على حقوق الدعوة وطرائق التربية. على أنني وإن حاولت أن ألاحظ في هذا التفسير مجموعة من القضايا التي لا بد منها في تفسير معاصر، إلا أنني أحب أن أذكر بأن القصور عن المستوى المطلوب كثير، والعلة في أولا، ولكن قد يكون من العذر أنني كتبت مسودة هذا التفسير في سجن كان يصعب علي فيه- في بعض المراحل- أن أصل إلى كتاب أصلا. ثم إنني كتبت مبيضته في غربة وعزلة، وكل ذلك يحول دون الكمال المطلوب. ورحم الله امرأ دلني على خطأ أو كمال. وأسأل الله أن يتقبل، وأن يرزقني العفو والعافية وحسن الختام. ملاحظة حول اصطلاحات في هذا التفسير: اعتمادا على حديث حسن سنراه اعتبرنا أن القرآن يتألف من أربعة أقسام: قسم الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل، وبناء على معان سنراها اعتبرنا أن السبع الطوال تنتهي بانتهاء سورة براءة، وأن قسم المئين ينتهي بانتهاء سورة (القصص)، وأن قسم المثاني ينتهي بانتهاء سورة (ق)، وأن قسم المفصل ينتهي بانتهاء

القرآن، وبناء على تتبع المعاني رأينا أن كلا من القسم الثاني والثالث والرابع يتألف من مجموعات متعددة من السور، كل مجموعة تشكل وحدة في قسمها، هذا بالنسبة لسور القرآن، فإننا نستعمل كلمة قسم وكلمة مجموعة، أما بالنسبة للآيات في السورة الواحدة فإننا نستعمل كلمة قسم وكلمة مقطع وكلمة فقرة وكلمة مجموعة. فكلمة قسم أوسع مما بعدها ولا نستعملها إلا في السور الطويلة حيث يكون عندنا عدة مقاطع يجمعها جامع، وكلمة مقطع أوسع من كلمة فقرة ونستعلمها حيث تكون الآيات ذات الموضوع الواحد كثيرة، وكلمة فقرة أوسع من كلمة مجموعة ونستعملها عند ما يكون عندنا مقطع ذو موضوع واحد ولكنه يتألف من مجموعة معان رئيسية فنستعمل لكل معنى رئيسي في المقطع كلمة فقرة، وكلمة مجموعة أضيق من كلمة فقرة، ونستعملها إذا كان في الفقرة داخل المقطع أكثر من معنى يحسن أن نشرحه منفصلا عما قبله وعما بعده. وإذا كانت السورة طويلة فقد يرد لفظ القسم والمقطع والفقرة والمجموعة، ولكن إذا لم تكن كذلك فقد يرد في تقسيماتها لفظ المقطع والفقرة والمجموعة، أو لفظ الفقرة والمجموعة، أو لفظ الفقرة فقط، وسيكون دليلنا في هذا كله المعاني والمعالم، وسنحاول بإذن الله ألا نتكلف في شئ لا توصلنا إليه المعاني والمعالم معا. وأحيانا نجد سورا تضمها خاصية واحدة مع أنها تنتسب لأكثر من مجموعة داخل القسم فنستعمل لها تعبير الزمرة، وكل ذلك سنرى دواعية أثناء العرض فلينتبه القارئ لذلك، ثم لينتبه القارئ إلى أن هذا التفسير مبناه على قراءة (حفص) في الأصل وقد نتعرض أحيانا لبعض القراءات الأخرى ولكن الأصل هو ما ذكرناه حتى لا نشتت القارئ. ثم إننا قد نذكر أثناء العرض المعنى العام ثم المعنى الحرفي ثم نعقب بفوائد ثم نعقد فصولا ويتكامل العرض بذلك كله. فعلى القارئ أن ينتبه لمثل هذا إذا كان يبحث عن شئ بعينه. ولقد جرت عادة الكثيرين من المفسرين أن يقدموا مقدمات كثيرة لها صلة بالتفسير وعلومه وقواعده، أو لها صلة بالقرآن وقراءاته وعلومه. غير أنني أحببت أن أبدأ بالتفسير مباشرة لأنه هو المقصود المباشر للقارئ، على أنني سأحاول أن أذكر في آخر القسم الثالث ما يغطي كل ما يلزم في هذه الشئون. ولنبدأ التفسير على بركة الله.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة وهي السورة الأولى بحسب الرسم القرآني وهي سبع آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

1 - فقرات السورة

1 - فقرات السورة تتألف سورة الفاتحة من البسملة على القول بأنها آية من الفاتحة، ومن ثلاث فقرات: الفقرة الأولى وهي ثلاث آيات، والفقرة الثانية وهي آية واحدة، والفقرة الثالثة وهي ثلاث آيات على رأي من اعتبر أن البسملة ليست من السورة، وآيتان على رأي من يرى أن البسملة من السورة وهذه هي مع ملاحظة ما مر: [سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) والاستعاذة و (آمين) ليستا من السورة إجماعا 2 - تعريفات قال ابن كثير: «يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطا وبها تفتح القراءة في الصلوات ويقال لها أيضا أم الكتاب عند الجمهور ... ويقال لها (الحمد) ويقال لها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي .. إلخ» ... ويقال لها الشفاء لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا .. فاتحة الكتاب شفاء من كل سم .. ويقال لها الرقية لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك أنها رقية .. وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها أساس القرآن قال:

3 - بعض ما ورد في الفاتحة

وأساسهابسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة بالواقية، وسماها يحيى بن أبي كثير: الكافية لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها .. ويقال لها سورة الصلاة والكنز ذكرهما الزمخشري في كشافه». وسورة الفاتحة مكية على القول الراجح وهي سبع آيات بلا خلاف وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية؟. قال ابن كثير: «قالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفا قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وقيل إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته». 3 - بعض ما ورد في الفاتحة أخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: «كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال، قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ. ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال: نعم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته». وفي حادثة مشابهة مع أبي بن كعب يقول أبي: «فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القرآن قال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني». أخرجه الإمام أحمد. وفي معناه مع زيادة أخرج الترمذي بإسناد حسن صحيح وفي حديث بإسناد جيد كما ذكر ابن كثير عن عبد الله بن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها .. أخرجه الإمام أحمد. قال ابن كثير: واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء ... وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لأن الجميع كلام الله ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه وإن كان الجميع فاضلا ... »

أقول: فليلاحظ المحذور والمفاضلة جاءت بالنص. أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في سير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم (أي لديغ) وإن نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه (أي نعرفه) برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا. فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا لا تحدثوا شيئا حتى نأتي أو نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم». أخرج الإمام مسلم والنسائي وهذا لفظه عن ابن عباس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته». أخرج الإمام مسلم والنسائي وغيرهما وهذه رواية النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا)، غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزّ وجل «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الله حمدني عبدي وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». أقول وفي سؤال سامعي الحديث أبا هريرة: إنا نكون خلف الإمام وفي إجابته: اقرأ بها في نفسك «ما يدل على أنه كان مشهورا في جيل الصحابة أن الصلاة وراء الإمام لها أحكامها الخاصة في موضوع القراءة، وذلك يستأنس به لمذهب الحنفية إذ لا يقرءون وراء الإمام شيئا من القرآن».

4 - المعاني العامة والكلية

أخرج البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقد أمنت من كل شئ إلا الموت». 4 - المعاني العامة والكلية إذ كانت الفاتحة هي مقدمة القرآن فقد تجمعت فيها مقاصده ومعانيه. فالقرآن يدور حديثه حول العقائد والعبادات ومناهج الحياة، وقد بدأت السورة بذكر العقائد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وثنت بالعبادات إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وثلثت بمناهج الحياة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. والقرآن دعوة إلى العقيدة أولا، ثم إلى العبادة، ثم إلى مناهج الحياة، وقد تسلسلت المعاني في هذه السورة على هذا الترتيب. والعقيدة في الإسلام ليست فكرة مجردة، بل إن لها ثمارها وآثارها وواجباتها، فكونك تعرف لله الربوبية والرحمة والحساب فهذا يقتضي منك عملا. ومن ثم بدأت السورة بالحمد ثم علمتنا العبادة والاستعانة وطلب الهداية والسير في صراط الله عزّ وجل، لقد عرفتنا السورة على الله وربوبيته، وعرفتنا أن مقامنا هو العبودية له، وأن مقام العبودية مضمونه الحمد لله والعبادة له والاستعانة به وطلب الهداية منه والسير في منهاجه. والإسلام مداره على معرفة الله ومن ثم عرفتنا السورة على الله في مقدمتها وفي وسطها وفي نهايتها: فهو رب العالمين ذو الرحمة، وهو المعين وهو الهادي. وأساس العقيدة الإسلامية الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد ذكرت السورة ذلك رَبِّ الْعالَمِينَ .. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وأساس العبادة إخلاصها لله، وقد أشارت السورة إلى ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ إذ تقديم الضمير إِيَّاكَ على الفعل يفيد ذلك. وأساس الطريق إلى الله القدوة الحسنة المتمثلة في النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وقد أشارت السورة إلى ذلك. وأساس الانحراف القدوة السيئة، وقد أشارت السورة إلى ذلك.

ابتدأت السورة بذكر الحقيق بالحمد والثناء ووصفته بالصفات العظام فتعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع، والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بهذه الصفات العظام فقيل إِيَّاكَ يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة وأطلقت الاستعانة لتتناول كل ما يطلب العون من الله فيه. ثم قيل اهْدِنَا، بيانا للمطلوب الأول من المعونة فكأنهم سئلوا عن ماهية المعونة التي يريدونها فقالوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .. فالاهتداء إلى الصراط المستقيم لا يكون إلا بالله، ولا تنال عطايا الله بالهداية إلا بالافتقار إليه ومظهر ذلك طلب المعونة منه ولا يوصل إلى الافتقار مثل دوام العبادة، ولا عبادة إلا بمعرفة، ومعرفة لا يعطى فيها الحمد كله لله معرفة قاصرة، ينظر العبد ما أعطي فيقول: الحمد لله، فإذا ما استقرت معرفته خاطب ربه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ثم دعاه بما هو الأهم والأعظم وهو الاهتداء في الأمر كله. من المعاني الكبرى في الإسلام: موضوع لزوم الجماعة «أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم». «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .. » والسورة دلتنا من خلال الخطاب الجماعي إِيَّاكَ نَعْبُدُ اهْدِنَا .. على أن الأصل في المسلم أن يكون جزءا من كل هو جماعة المسلمين وأن الأصل في التربية الإسلامية أنها تقوم على التربية الجماعية. ويلاحظ من السورة أن الصراط المستقيم مظهره شيئان السير في طريق المنعم عليهم وتنكب صراط المغضوب عليهم والضالين. والمنعم عليهم فصل الله فيهم في الآية: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وهناك نص ستراه ذكر أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى. وإذا كان هؤلاء وهؤلاء كذلك فمن باب أولى غيرهم. وكثيرا ما ينسى الناس هذه المعاني فلا يفطنون أن الشهداء هم القدوة، وأن الصديقين هم القدوة، وأن الصالحين هم القدوة، فضلا عن النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يفطن لذلك، ولكنهم ينسون تنكب طرق الضالين والمغضوب عليهم، ومن ثم فإن على المسلم وهو يقرأ كتاب الله أن يتفطن لهذا وهذا، فالقرآن فصل هذا كله، والمسلم عليه أن ينتبه لأخطاء أهل الضلال وأهل الغضب فيتخلى عنها، بل عليه من الأصل ألا يقربها وعليه أن يفطن لمظاهر القدوة فيسير فيها.

وبعد هذه الجولة عن المعاني العامة والكلية في سورة الفاتحة نقول مختصرين

وبعد هذه الجولة عن المعاني العامة والكلية في سورة الفاتحة نقول مختصرين: اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبري من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية وتنزيهه من أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط المفضي بهم يوم القيامة إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين كانوا محل القدوة، فاشتملت السورة على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكون الإنسان مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشر الإنسان مع سالكيها يوم القيامة. 5 - المعنى الحرفي بِسْمِ اللَّهِ تعلقت الباء بمحذوف تقديره: أقرأ أو أتلو لأن الذي يلي التسمية مقروء «وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدءا له» وإنما قدرنا الفعل متأخرا لأن ذلك أقوى لدلالته على الاختصاص والمعنى: متبركا باسم الله أقرأ ففيه تعليم الله عباده كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه و (الله) هو الإله ولكن كلمة الإله تطلق على كل معبود بحق أو بباطل ثم غلب على المعبود بحق، وأما اسم (الله) فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به فصفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه وهو اسم الله جل جلاله. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتان واسمان يعبران عن رحمة الله تعالى التي مظهرها إنعامه على عباده فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ (سورة الروم) وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولذلك لا يسمى ولا يوصف بالرحمن غير الله ويسمى ويوصف بالرحيم غيره، ومن ثم ذهب بعضهم إلى أن الرحمة في اسم الرحمن تشمل الكافر والمؤمن، والرحمة في اسم الرحيم تخص المؤمنين الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التفضيل وهو أحد شعب الشكر لأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح وإنما يكون باللسان الحمد ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفران، وإنما يستحق الحمد إما بكمال الذات والصفات والأفعال أو بكثرة الإنعام، والله عزّ وجل لا أكمل من ذاته وصفاته وأسمائه، ولا إنعام إلا منه مباشرة أو بالواسطة فله في الحقيقة الحمد كله.

[سورة الفاتحة (1): آية 3]

رَبِّ الْعالَمِينَ الرب هو المالك ومنه قول صفوان بن أمية: «لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن» ولا يطلق إلا على الله وحده وهو في العبيد مع التقييد إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ (سورة يوسف) قال الواسطي في تفسير كلمة الرب: (هو الخالق ابتداء والمربي غذاء والغافر انتهاء وهو اسم الله الأعظم) والعالم هو كل ما سوى الله تعالى لأنه علم على وجود ربنا تعالى، إذ يعرف الخالق بما خلق. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مر الكلام عليهما. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الدين هو يوم الجزاء ولذلك قالوا: كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى، والله تعالى مالك الأمر كله في يوم الدين وغيره، وإنما كان التخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. هذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه ربا للعالمين ومنعما بالنعم كلها ومالكا للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: الحمد لله دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ العبادة هي أقصى غاية الخضوع والتذلل، والاستعانة هي طلب المعونة، وتقديم إِيَّاكَ على نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ لقصد الاختصاص فيكون المعنى: نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي ثبتنا على المنهاج الواضح أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال، والصراط هو الطريق والمراد: طريق الحق وهو ملة الإسلام، والمستقيم هو الذي لا عوج فيه. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي صراط المسلمين، وفائدة تكرار كلمة الصراط مع هذه الزيادة التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده؛ والذين أنعم الله عليهم هم مجموع من ذكرهم الله بقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (سورة النساء) وإذن فهم المؤمنون الكاملون غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يعني: أن المنعم

6 - فصول شتى ..

عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال فجمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال. و (آمين) بالإجماع ليست من القرآن، وهي اسم فعل بمعنى (استجب). ملاحظة: في حديث حسن غريب رواه أحمد عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى .. وفي هذا المعنى وردت أكثر من رواية ولذلك قال ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا قال ابن كثير: (فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الحق ضلوا. وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ (سورة المائدة) وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ .. (سورة المائدة). أقول: إذا كنا نهينا أن نسير في طريق اليهود والنصارى وهم أهل كتاب فكيف نتابع غيرهم ونجعلهم قدوتنا؟! وانظر الآن إلى حال الكثيرين من أبناء المسلمين فإنك تجدهم إما مقلدين للغربيين وهم على بقية من كتاب، وإما متابعين للشيوعيين وهم يكفرون بالكتاب كله. 6 - فصول شتى .. فصل في البسملة: افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها كتبت للفصل لا أنها آية، على أقوال للعلماء سلفا وخلفا. والجهر بها في الصلاة مفرع على هذا الخلاف، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال: إنها آية في أولها. وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا؛ فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأحمد. وعن الإمام مالك أنه لا يقرأ

فصل في الاستعاذة

البسملة بالكلية لا جهرا ولا سرا. قال ابن كثير بعد أن عرض مآخذ الأئمة في هذه المسألة: «وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر». ... ومن ابتداء الله عزّ وجل كتابه بالتسمية ندرك فضلها، ونأخذ منه أدبا عاما في ألا ننسى التسمية حيث تستحب التسمية فللابتداء باسم الله بركة، ولذكر الله عامة بركة. أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه «عثر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (القائل هو أسامة بن عمير رديف النبي صلى الله عليه وسلم): تعس الشيطان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب» قال ابن كثير: فهذا من تأثير بركة باسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول، فتستحب في أول الخطبة كما جاء «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم»، وتستحب عند دخول الخلاء كما ورد من الحديث في ذلك، وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن .. مرفوعا: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» وهو حديث حسن ... وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وجماعة، وأوجبها آخرون عند الذبح، ومطلقا في قول بعضهم ... وهكذا تستحب عند الأكل كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة «قل باسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه، وكذا تستحب عند الجماع كما في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا». فصل في الاستعاذة: سيأتي الكلام عن الاستعاذة عند الآيات التي تذكرها وهاهنا ننقل ما له صلة بالصلاة والتلاوة بشكل مختصر. قال ابن كثير: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة وليست بمتحتمة يأثم تاركها وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة. قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب .. أقول على رأي ابن سيرين: إنها واجبة في العمر مرة، وما سوى ذلك فهي مستحبة.

فصل في الحمد

قال ابن كثير: وقال الشافعي في الإملاء: يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الأم بالتخيير ... واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب .. فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة ... ... ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد تكبيرة الإحرام وقبل تكبيرات العيدين، والجمهور يعدها قبل القراءة. ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وهو لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني ... ». فصل في الحمد: عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» .. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وإنما كان الحمد أفضل الدعاء، لأنها رأس الشكر والله عزّ وجل يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وفي الحديث الذي رواه ابن جرير «إذا: قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك». وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ»، وقال القرطبي في تفسيره: وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال: الحمد لله لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله تعالى فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله:- وهو أعلم بما قال عبده-ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها». وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد

فصل في التأمين

حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال: «أما إن ربك يحب الحمد» أقول: وفي هذا الحديث إشارة إلى الشعر، وعلى من يعالج قضية الإنشاد في المجتمع الإسلامي أن يضعه في حسابه ولنا جولة في هذا الموضوع في آخر سورة الشعراء. فصل في التأمين: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين، ومعناها اللهم استجب سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، ويتأكد في حق المصلي سواء كان منفردا أو إماما أو مأموما. وقال أصحاب مالك: لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم. واختلفوا في الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية. قال الشافعية: إن نسي الإمام التأمين جهر المأموم به قولا واحدا، وإن أمن جهرا فالجديد أنه لا يجهر المأموم والقديم أنه يجهر. ومذهب الحنفية عدم الجهر للإمام وهو رواية عن مالك، وقال الحنابلة بالجهر وهو رواية أخرى عن مالك. والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فقال آمين مد بها صوته. ولأبي داود رفع بها صوته. قال الترمذي: هذا حديث حسن وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول. رواه أبو داود وابن ماجه وزاد فيه فيرتج بها المسجد. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا أمن الإمام فأمنوا فانه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»، ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه» قال ابن كثير: «قيل: بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان وقيل في الإجابة في صفة الإخلاص وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا إذا قال- يعني الإمام- ولا الضالين فقولوا: آمين يحيكم الله». فصل في قراءة الفاتحة في الصلاة: اختلف الأئمة في أنه هل تتعين فاتحة الكتاب في الصلاة؟ أم تجزئ هي أو غيرها؟ ففي ذلك قولان مشهوران فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه أن قراءة الفاتحة أو سورة قصيرة، أو ما يعادلها واجب في كل ركعات النفل وواجب في الركعتين الأوليين من الفرض إلا أنه لو لم يقرأ الإمام أو المنفرد الفاتحة وقرأ شيئا من القرآن فإن الصلاة صحيحة مع الكراهة، فعندهم أن قراءة أي شئ من القرآن

فصل في كيفية أداء الفاتحة

في الصلاة هو الركن لقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وأما الفاتحة فإنها واجبة كما رأينا. وعند الشافعي ومالك وأحمد أنها تتعين قراءتها للصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، واختلف هؤلاء هل تجب قراءتها في كل الركعات؟ أو في معظم الركعات؟ أو في بعضها؟ فمذهب الشافعي وجوب قراءتها في كل الركعات، ومذهب الحسن وأكثر البصريين أنها تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلاة. واختلف الأئمة: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ ففيه ثلاثة أقوال للعلماء: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه، والثاني لا تجب على المأموم بل تكره، والثالث لا تجب قراءتها في الجهرية وتجب في السرية. ومحل التفصيل في هذا الشأن وغيره من اتجاهات الفقهاء هو في القسم الثاني من هذه السلسلة الأساس في السنة وفقهها. فصل في كيفية أداء الفاتحة: في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ... قال الدارقطني: إسناده صحيح، أقول: والوقوف على رؤوس الآي سنة متبعة ولكنها من نوع المستحبات في الصلاة وغيرها. فصل في أن الصراط المستقيم هو الإسلام أخرج الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم». إن صراطك أيها المسلم هو الإسلام وله داعيتان داعية الفطرة وداعية الوحي الإلهي، فلا تفرط في هذا الإسلام بأن ترتكب الحرام فتدخل في متاهات طرق الشيطان. فصل: في أن المالكية العليا لله: في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله قال: يقبض الله الأرض بيمينه ثم يقول: «أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون» فالله عز وجل مالك يوم الدين وهو رب العالمين وكل منازعة لله عز وجل في

فصل في رد مزاعم

ربوبيته أو مالكيته العليا لا تصح ولو في التسمية. ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله»، وقد وقع في هذا الغلط الكثيرون ممن حكموا المسلمين. فصل في رد مزاعم: - مما ذهبت إليه الفلسفة اليونانية أن الله عز وجل لا يتدخل في شؤون الخلق، والآن تجد أكثر الخلق لا يعتبرون أن من حق الله عز وجل أن يتدخل في أمر الناس، وليست فكرة فصل الدين عن الدولة إلا مظهرا من مظاهر هذه العقلية، وفي سورة الفاتحة تصحيح لهذه المعاني كلها: فالله رب العالمين هو الخالق وهو المربي وهو المالك، وعلى الناس أن يعبدوه وأن يسيروا في طريقه طالبين العون والهداية. زعم بعض المستشرقين أن الدين الإسلامي لا يعرف أهله فيه عن الله عز وجل إلا صفات القسوة وأي زعم أظهر في البطلان من هذا الزعم؟! فالإسلام الذي يبتدئ كتابه بقوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ والذي تثنى فيه كلمتا الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بعد آية من ذلك، هل يدعي ما ادعوه إلا مجنون؟! ألا إنه العمى عن الحق ليس إلا. فالله غفور رحيم، وهو عزيز ذو انتقام، ولله الأسماء الحسنى. في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد»، ولكن الله عز وجل حدد في كتابه المرحومين وغيرهم فحيثما كان له حكم فعنده نقف. فصل في مسألة اعتقادية: من المسائل التي وقع فيها خلاف كثير بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة مسألة تسمى بمسألة خلق الأفعال. فأهل السنة يرون أن كل شئ يجري في هذا الكون إنما هو بعلم الله وإرادة الله وقدرة الله، وذلك لا ينافي اختيار الإنسان وهو موضوع سنبسطه في أكثر من مكان. والمعتزلة يقولون بالقوة المودعة، وأن الإنسان يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وهو كلام ظاهره براق لأنه يتفق مع النظرة الحسية، ولكنه منقوض عقلا ونقلا كما سنرى. ومناقشات أهل السنة والجماعة لهم في هذا الموضوع كثيرة، ونادرا ما تجد سورة من سور القرآن إلا ولأهل السنة حجة فيها على المعتزلة في هذا الشأن، ومما استدلوا به على المعتزلة من سورة الفاتحة كلمة الحمد لله فإن الألف واللام للاستغراق، وهذا يفيد أن كل أنواع الحمد لله. وهذا لا يتأتى إلا إذا كان الله هو الفاعل لكل شئ قال ابن كثير: والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع

ملاحظة في قضايا اختلاف الأئمة

أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله»، واستدلوا من الفاتحة على المعتزلة بقوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وبقوله تعالى اهْدِنَا فلولا أن الله هو الخالق فكيف يستعان؟ وكيف تطلب الهداية منه؟ وهذا موضوع سنرى حيثياته في أمكنة أخرى. ملاحظة في قضايا اختلاف الأئمة: يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .... »، إن كل مناقشات أئمة أهل السنة والجماعة مع بعضهم إنما تدور حول أمور مشتبهات، وكل منهم على بصيرة حاول أن يعطي حكم الله في هذه الأمور، ومن ثم فالأمر واسع؛ فمهما كان الواحد منا على مذهب إمام في مثل هذه الشؤون فإنه لا حرج عليه، ولكن الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وبين الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية، كالمعتزلة وأنواع من المرجئة، وطوائف من الشيعة والخوارج ليس فيما ذكرنا، وإنما هو خلاف حيث لا ينبغي أن يكون خلاف لكثرة النصوص ووضوحها، ولذلك في قسم التفسير قد لا نعتني بعرض أدلة الأئمة في اختلافاتهم ولكننا نعتني بعرض الأدلة في أي خلاف بين أهل السنة والجماعة ومن خالفهم. 7 - فوائد أ- من أساليب العرب في الكلام: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والعرب يستكثرون منه، ويرون أن الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ لاستلذاذ إصغائه، وتختص مواقعه بفوائد ولطائف يراعيها القائل وتتضح للحذاق المهرة. والقرآن جاء على أساليب العرب في الخطاب ومن ثم تجد فيه هذا النوع من طرق البيان على أدقها وأرقاها وأعظمها فوائد ولطائف وقد رأينا ذلك في سورة الفاتحة. إذ عدل عن لفظ الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ بعد قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ .. قال صاحب الكشاف: هذا يسمى الالتفات في علم البيان، قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وقوله تعالى وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثة التفاتات في ثلاثة أبيات:

تطاول ليلك بالأثمد … ونام الخلي ولم ترقد وبات وباتت له ليلة … كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبإ جاءني … وخبرته عن أبي الأسود وذلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه .. وقد رأينا عند عرض المعاني العامة حكمة الالتفات في سورة الفاتحة. ب- مما يدل على أن كلمة الدين تأتي بمعنى الحساب والجزاء الحديث الذي رواه أحمد والترمذي: «الكيس من دان نفسه- أي حاسب نفسه- وعمل لما بعد الموت» واستطرادا ننقل كلمة عمر (رضي الله عنه): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم» يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. ج- أكمل أحوال الداعي أن يبدأ بالحمد ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين ومن ثم جاء قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بعد الثناء، فالسؤال بعد الثناء أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. وقد يتقدم مع ذلك وصف المسئول كقول ذي النون لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. د- يتشدد كثير من الناس في أمر تحرير مخارج الحروف أثناء تلاوة القرآن وذلك شئ جيد، ولكن بعضهم يعتبر الإخلال بالتحرير مبطلا للصلاة، وذلك خطأ ولتصحيح مثل هذا ننقل كلام ابن كثير. يقول ابن كثير: «الصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما»، وكلامنا كله عند ما لا يخرج الحرف صافيا، أما إذا استبدل حرف بحرف فلذلك أحكامه التي سنراها. هـ- رأينا من خلال سورة الفاتحة: أن الأصل في المسلم أن يكون جزءا من كل هو الجماعة، وأن الأصل في التربية الإسلامية أنها تقوم على التربية الجماعية، وهذا يجعلنا نفكر كثيرا في الأسباب والأمراض التي تحول دون وجود هذه الروح عند الأكثرين من المسلمين ويجعلنا نتفطن لأهمية معالجة هذه الأسباب والأمراض التي تحول بين المسلم وبين مشاركته جماعة المسلمين فيما تفترض المشاركة فيه، ولا شك أن هذه

8 - كلمة في السياق

الأسباب إما مرجعها لمرض عام مثل انعدام الثقة أو لمرض فردي مثل حب الدنيا وإيثار العافية والشح والإعجاب بالرأي واتباع الهوى والحسد وغير ذلك من أمراض. و- يردد المسلم سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى. وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنة، وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا غير الفرائض والسنة ... لما ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، «إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة» عن الظلال بتصرف. وقد رأينا الخلاف في قراءتها وراء الإمام. 8 - كلمة في السياق هذه السورة كما رأينا هي مقدمة القرآن، ولذلك فقد تجمعت فيها معانيه وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباط هذه السورة بالقرآن كله، وقد رأيت بأكثر من وجه كيف تسلسلت معانيها تسلسلا خاصا هذا التسلسل ظهرت فيه أكثر من حكمة من حكم تسلسل المعاني في القرآن، فلا سير في الصراط بلا عبادة، ولا عبادة بلا عقيدة ومعرفة بالله. والآن انتبه إلى الصلة بين آخر فقرة في سورة الفاتحة وبين أول آية في سورة البقرة تبدأ الفقرة الأخيرة في سورة الفاتحة بقول الله تعالى معلما لنا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... وتبدأ سورة البقرة بقول الله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لاحظ الصلة بين اهْدِنَا وبين هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فبعد أن علمنا الله تعالى أن نطلب الهداية منه إلى الصراط المستقيم عرفنا على أن هذا القرآن هو محل الهدى، وهكذا نجد الصلة على أقواها بين خاتمة الفاتحة وبداية سورة البقرة، ولننتقل الآن للكلام عن القسم الأول من أقسام القرآن وهو قسم السبع الطوال.

قسم الطوال

القسم الأول من أقسام القرآن قسم الطوال ويتضمن سور البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام الأعراف، الأنفال التوبة

كلمة في هذا القسم

كلمة في هذا القسم: هناك أكثر من أثر وخبر يذكر السبع السور الطويلة الأولى من القرآن ويخصها بالذكر، وقد عقد ابن كثير لذلك فصلا تحت عنوان (ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال) وذكر بهذه المناسبة حديثا له أكثر من سند هو: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور وفصلت بالمفصل»، قال الشيخ المحدث عبد الله الغماري في كتابه (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) عن هذا الحديث: فهذا الحديث حسن. هذا الحديث ذكر أن القرآن أربعة أقسام القسم الأول هو السبع الطوال، ونحن سنرى في هذا التفسير كيف أن واقع القرآن يصدق هذا التقسيم من خلال المعاني، وكثير من الأمور التي سنراها. وذكر ابن كثير: أن أبا عبيد، والإمام أحمد كل منهما أخرج عن أبي هريرة وعن عائشة (رضي الله عنهما) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أخذ السبع الاول من القرآن فهو حبر». ليس هناك نص يحدد السبع الطوال، بل المتبادر أنها السور الأول الطويلة من القرآن. ورواية عائشة وأبي هريرة تذكر السبع الأول فالمفروض أن تكون: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والأنفال ومعها براءة؛ لأنهما بحكم السورة الواحدة ولذلك لم يفصل الصحابة بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم: أخرج الترمذي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ ووضعتموها في السبع الطوال! وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان (الطويل) وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر: «بسم الله الرحمن الرحيم» فوضعتها في السبع

الطوال» فهذا نص في أن الأنفال وبراءة من السبع الطوال وإذا كان ما قبلهما ست سور الأعراف فالأنعام فالمائدة فالنساء فآل عمران فالبقرة، فذلك دليل على أن الأنفال وبراءة هما السورة الطويلة السابعة وأن براءة هي نهاية قسم الطوال. قال الشيخ الغماري في كتابه (جواهر البيان): (السبع الطوال أولها البقرة وآخرها براءة)، وإذن فبعد الفاتحة التي هي مقدمة القرآن يأتي القسم الأول من أقسام القرآن الذي يبدأ بالبقرة وينتهي بسورة براءة. وقد ذكر ابن كثير اتجاها في تفسير السبع الطوال بأن السورة السابعة بعد الأعراف هي يونس ولكن ذكره على أنه قول في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. فقد نقل عن مجاهد وغيره أن المراد بها السبع الطوال، وفسرها بأنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس. وسنرى عند تفسير هذه الآية أن هذا القول ليس هو الأقوى في تفسيرها، فمن باب أولى ألا يصلح تفسيرا للسبع الطوال. خاصة وكثير من الأدلة تشير إلى أن سورة يونس من القسم الثاني من أقسام القرآن وليست من القسم الأول. فسورة يونس مبدوءة ب الر، وكذلك سورة هود بعدها، وهذا يشير إلى أن هذه السور من زمرة واحدة ومجموعة واحدة، ثم إن سورة يونس آياتها (109)، وسورة هود بعدها آياتها (123)، بينما سورة براءة وحدها (129) آية، فهي أطول من سورة هود التي هي أطول من سورة يونس، فإذا عرفنا أن سورة الأنفال خمس وسبعون آية، فإن مجموع آيات سورة الأنفال وبراءة يكون مائتين وأربع آيات، ثم هما بالنص عن الصحابة كما رأينا في رواية الترمذي من السبع الطوال، فلم يبق بعد هذا إلا أن نرد اتجاه مجاهد ومن وافقه من أن سورة يونس هي السابعة في قسم الطوال. لاحظنا من قبل أنه ما بين آخر فقرة في الفاتحة، وما بين أول سورة البقرة صلة ففي الفاتحة اهْدِنَا وفي البقرة عن القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وسنرى أن الصلة بين الفاتحة والبقرة ليست ضمن هذه الحدود فقبل الفقرة الأخيرة من الفاتحة قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وسنرى أن القسم الأول من سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وينتهي بقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فمقدمة سورة البقرة مرتبطة بآخر فقرة في الفاتحة، والقسم

الأول من سورة البقرة مرتبط بالفقرة الثانية، وسنرى أن القسم الثاني في البقرة مرتبط بالفقرة الأولى من الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ ... .. وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، والكلام في هذه المعاني قبل مجئ أوانها يبدو معقدا فلنقتصر على هذه الإشارة، ومع هذا الترابط بين سورة البقرة والفاتحة، فإن سورة البقرة ككل سورة في القرآن لها ذاتيتها الخاصة وتسلسلها الخاص، وسنرى أنه تسلسل عجيب معجز، ثم إننا سنرى كما ذكرنا في مقدمة هذا التفسير كيف أن السور الست الطوال الآتية بعد البقرة كل سورة منها تفصل في محور على نفس التسلسل الموجود في سورة البقرة، وكل ذلك سنراه، وسنرى فيه أن مثل هذا الربط، ومثل هذه الصلات لا يمكن أن تخطر بقلب بشر فضلا عن أن يستطيعها بشر وهذا بعض الأمر وليس كل الأمر، والشرح سيأتي، وتكفي هاهنا الإشارات ولنبدأ عرض سورة البقرة.

سورة البقرة

سورة البقرة وهي السورة الثانية بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من قسم الطوال وآياتها مائتان وست وثمانون وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

نصوص ونقول

نصوص ونقول: أخرج الإمام أحمد والإمام مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما، ثم قال: اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة». قال ابن كثير: الزهراوان: المنيرتان والغياية: ما أظلك من فوقك. والفرق القطعة من الشئ والصواف: المصطفة المتضامة، والبطلة: السحرة ومعنى لا تستطيعها: أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها. - أخرج الإمام أحمد عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سورة البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم». وفي مسند أحمد وصحيح مسلم وفي الترمذي والنسائي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها، فإن الشيطان ينفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت الجوف الصفر (أي الخالي) من كتاب الله». وأخرج الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه، وابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شئ سناما، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».

وأخرج الدارمي في مسنده عن طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة: أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها، وفي رواية: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شئ يكرهه ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق». وأخرج النسائي وابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم، فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن واقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك». هذا لفظ الترمذي وقال عنه: حديث حسن. وأخرج البخاري عن أسيد بن حضير (رضي الله عنه) قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة- وفرسه مربوطة عنده- إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير قال: قد أشفقت يا رسول الله على يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال: «وتدري ما ذاك؟ قال: لا. قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم». قالوا والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، لكن قوله تعالى فيها: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. آخر ما نزل من القرآن. وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن. وقد رد ابن كثير الرواية التي تنهى عن

كلمة في سورة البقرة وسياقها

التسمية بسورة البقرة، وقال عن أحد رواتها: وهو ضعيف الرواية لا يحتج به ثم قال: وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود «أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام من أنزلت عليه سورة البقرة .... » وروى ابن مردويه ... عن عتبة بن مرثد قال: «رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا فقال: يا أصحاب سورة البقرة» قال ابن كثير: وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: «يا أصحاب الشجرة يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية: يا أصحاب سورة البقرة» لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه. وكذلك يوم اليمامة، مع أصحاب مسيلمة، جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة حتى فتح الله عليهم. أخرج أبو عبيد .. «أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب أقرأت البقرة وآل عمران قال: نعم. قال: فو الذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب قال: فأخبرني به قال: لا، والله لا أخبرك به. ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت» ذكره ابن كثير. وأخرج أبو عبيد عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) «من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان- أو كتب- من القانتين» قال ابن كثير: «فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ بهما في ركعة واحدة». كلمة في سورة البقرة وسياقها: تتألف سورة البقرة- في اجتهادي- من مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة، أما المقدمة فعشرون آية وفيها كلام عن المتقين وصفاتهم، ثم عن الكافرين وأوضح علاماتهم، ثم عن المنافقين وحقيقتهم وعلاماتهم، وتوضيحات في شأنهم، وبعد أن تقسم مقدمة السورة الناس إلى أقسام ثلاثة هم: المتقون، والكافرون، والمنافقون، وتحدد السمات الرئيسية لكل من هؤلاء، يأتي القسم الأول ويمتد من الآية الحادية والعشرين إلى نهاية الآية السابعة والستين بعد المائة.

يبدأ القسم الأول من السورة بأمر ونهي

يبدأ القسم الأول من السورة بأمر ونهي: أما الأمر فهو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وأما النهي فهو قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الأمر والنهي واردان في الآيتين الأوليين من القسم الأول، وينتهي القسم الأول بفقرة هي قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ .... لاحظ الصلة بين قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً في بداية القسم، وبين آخر فقرة في القسم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً وبعد ذلك يأتي القسم الثاني ويمتد من الآية الثامنة والستين بعد المائة إلى نهاية الآية السابعة بعد المائتين. لاحظنا أن القسم الأول بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ثم لم تذكر كلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ إلا بعد الآية السابعة والستين بعد المائة، حيث تظهر مرة أخرى وأخيرة في سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فكما بدأ القسم الأول ب يا أَيُّهَا النَّاسُ فإن القسم الثاني بدأ كذلك وكما انتهى بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ فإن الثاني ينتهي بفقرة مبدوءة بقوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. وهكذا نجد أن مقدمة سورة البقرة مختومة بفقرة بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وأن القسم الأول مختوم بفقرة بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً. وأن القسم الثاني منته بفقرة تتكرر فيها وَمِنَ النَّاسِ* مرتين:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ثم يأتي القسم الثالث ويمتد من الآية الثامنة بعد المائتين إلى نهاية الآية الرابعة والثمانين بعد المائتين. يبدأ القسم الثالث بأمر ونهي، أما الأمر: فهو في موضوع الدخول في الإسلام كله. وأما النهي: فعن اتباع خطوات الشيطان وهو نفس النهي الذي جاء في ابتداء القسم الثاني. لاحظ أن بداية القسم الثاني كانت: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وأن بداية القسم الثالث: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا كما فسرها ابن عباس وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ومن المعلوم أن الآيتين الأخيرتين في سورة البقرة قد ورد فيهما أكثر من نص يخصهما بالذكر فهما خاتمة السورة وبدايتهما: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ .... لاحظ صلة ذلك ببداية السورة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هذه نقاط علام كبيرة على معالم السورة، ونحن نعلم أننا الآن ونحن نذكر مثل هذه المعاني كأننا نبني على فراغ في حق من لا يحفظ السورة أو لا يمسك بيده مصحفا يتتبع ما نقول، ولكن أحببنا في هذه الكلمة أن نضع أساسا يبني عليه القارئ ونحن نسير معه فقرة فقرة، ومقطعا مقطعا وقسما قسما ونحن نعرض الترابط والصلات بين أجزاء السورة، وإلا فإن الكلام المختصر هنا لا يغني ولكنه ينفع، ولذلك فلنستمر به على ملاحظتنا عليه: تبدأ المقدمة بتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: متقين، وكافرين، ومنافقين. ثم يأتي القسم الأول مبتدئا بدعوة الناس لسلوك طريق العبادة والتوحيد كطريق موصل إلى التقوى، ثم يسير القسم ليناقش الكفر، وليعمق قضية السير في التقوى، من خلال تأكيد طاعة الأمر واجتناب النهي، ومن خلال عرض الآثار الخطيرة لمخالفة الأمر.

مقدمة سورة البقرة

والوقوع في النهي، ومن خلال عرض نماذج الانحراف في قصة بني إسرائيل، ومن خلال عرض نماذج الاستقامة في قصة إبراهيم عليه السلام. ولا ينتهي القسم إلا وتأكدت قضية التقوى وقضية السير فيها وقضية العبادة والتوحيد ومظاهر ذلك. ثم يأتي القسم الثاني: فيؤكد قضية التقوى، ويرسم طرائق التحقيق بها على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، ويعمق مفهوم الشكر وطرائق الشكر، ولا نكاد ننتهي من هذا القسم إلا وقد وضحت قضية التقوى وقضية العبادة وقضية الشكر، وقضية الصراط المستقيم وقضية الانحراف عنه، واتجاهات المنحرفين، وخلال ذلك يتم الكلام عن كل أركان الإسلام: الإيمان والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فتصبح أرضية النفس والقلب والعقل جاهزة للسير في الإسلام كله. وهاهنا يأتي القسم الثالث: داعيا إلى الدخول في الإسلام كله فيعرض قضايا في الحرب والعلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة وغيرها ويعرض أمهات في قضايا السياسة والاقتصاد، ثم تأتي خاتمة السورة رابطة كل شئ بقضايا الإيمان والتوجه إلى الله معلمة في ذلك مربية عليه مفصلة فيه. وفيما بين ذلك وخلاله نعرض القضايا الكثيرة، وكل واحدة في محلها تؤدي دورها في بناء الذات، وفي بناء الأمة بعد المقدمات التي تناسب ذلك، وتتولد المعاني الكثيرة في هذا السياق الكبير من خلال المعنى الحرفي للآية، ومن خلال محل الآية في السياق القريب، ومن خلال محلها في السياق البعيد، ومن خلال محل المقطع في القسم، ومحل القسم في السورة، ومحل السورة مع ما قبلها، وما بعدها، وفي هذا السير نجد كثرة الروابط والوشائج والصلات فيما بين الأقسام والمقدمة والخاتمة، وكل ذلك يجري على تسلسل معين وعلى طريقة عجيبة لم يألفها البشر وليس الخبر كالمعاينة فلنبدأ عرض مقدمة السورة: مقدمة سورة البقرة: تتألف مقدمة سورة البقرة من عشرين آية: الأحرف الم وبعضهم يعتبرها آية ثم أربع آيات في وصف المتقين واثنتين في وصف الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين: قال مجاهد: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين .. وعلى هذا فالمقدمة تتألف من ثلاث فقرات وهذه هي:

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الفقرة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) الفقرة الثالثة: وتتألف من ثلاث مجموعات: مجموعة في تبيان حقيقة المنافقين، ومجموعة في ذكر نماذج من أقوالهم، ومواقفهم ليعرفوا بها. ومجموعة فيها مثلان يبينان ويوضحان شأنهم: المجموعة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 16] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) المجموعة الثالثة: [سورة البقرة (2): الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

1 - المعاني العامة لمقدمة السورة

1 - المعاني العامة لمقدمة السورة قسمت المقدمة الناس إلى أصناف ثلاثة: متقين وكافرين ومنافقين، ويفهم من ذلك: أن هذا هو التقسيم المعتبر شرعا، والذي تترتب عليه آثاره في المواقف والمواقع، ومن المقدمة نعرف أن التقوى قضية محددة مفصلة، والكفر قضية محددة واضحة المعالم ومفصلة، والنفاق قضية محددة ومفصلة وله علاماته، ومقدمة سورة البقرة ذكرت الصفات الرئيسية لأهل الإيمان، من إيمان بالغيب، وصلاة، وإنفاق، واهتداء بكتاب الله في الشأن كله، وذكرت المظهر الأجلى للكفر في كون الكافر لا يؤثر فيه الإنذار من أهله، وذكرت حقيقة النفاق في أن أهله يكذبون في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن علة ذلك هي الخداع وأن سبب ذلك مرض القلب، ثم ذكرت نماذج ثلاثة من مواقفهم، نتعرف عليهم من خلالها، ثم ضربت لهم مثلين، مثلا للمنافق الخالص، ومثلا للمنافق الذي لا زال في قلبه بقية من إيمان. 2 - المعنى الحرفي للمقدمة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، في هذا النص أربع جمل: الم جملة برأسها، وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية، ولا رَيْبَ فِيهِ جملة ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ جملة رابعة، وجيء بها هكذا متناسقة بلا حرف عطف لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة. ونبه ب الم على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب

[سورة البقرة (2): آية 3]

المنعوت بغاية الكمال من خلال استعمال لفظ الإشارة ذلِكَ فكان تقريرا لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا كمال أكمل كالحق واليقين، ولا نقص أنقص كالباطل والشبهة. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ف ذلِكَ الْكِتابُ معناه: هذا الكتاب الكامل لأن كلمة ذلِكَ فيها إشارة إلى بعده عن أن يكون على اقتراب في المستوى من غيره ولا رَيْبَ فِيهِ معناه لا شك فيه، وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير، لأن المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له، لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه أحد، لا أن أحدا لا يرتاب، والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى البغية، والمتقي: هو من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، وإنما خص المتقون بالاهتداء لأنهم وحدهم المهتدون بكتاب الله. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وصف المتقون بالإيمان والصلاة والصدقة، فالإيمان أساس لكل شئ من الحسنات والخيرات، والصلاة والصدقة معيار العبادات البدنية والمالية، فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغني عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والإيمان هو التصديق، والغيب هو المغيب عنهم مما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما غاب عنهم، سواء في ذلك أمر البعث والنشور والحساب والخلق إلى غير ذلك، وإقامة الصلاة: أداؤها حسا ومعنى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي ومما أعطيناهم يتصدقون ثم أكمل الله وصف المتقين بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، أي سائر الكتب المنزلة على النبيين، وهذه وإن كانت داخلة في قضية الإيمان بالغيب من وجه لكن لها مظهرا محسوسا من جهة أخرى، ولأن للآخرة معنى استقباليا زائدا على كونها من الغيب، فقد خصت بالذكر وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الإيقان هو رسوخ العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: أي الظافرون بما طلبوا، الناجون مما هربوا، فالفلاح إدراك البغية والمفلح الفائز بالبغية وفي ذكر الحرف عَلى في قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ما يدل على تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه، ودخل في قوله تعالى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة فروضها وإتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها والإقبال عليها فيها، والمحافظة على مواقيتها

[سورة البقرة (2): آية 6]

وإسباغ الطهور فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما دخل في ذلك فرضها ونفلها ودخل في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ النفقات الواجبة والزكاة المفروضة وأنواع الصدقات. في هذه الآيات قضيتان: أساس وبناء، الأساس هو: الإيمان والصلاة والإنفاق والبناء هو: اتباع الكتاب، ومجموع ذلك هو التقوى، وقد غفل الكثيرون عن هذا فعطل بعضهم كتاب الله وهم يظنون أنهم متقون، وعطلوا الصلاة والإنفاق وأخلوا بالإيمان وهم يظنون أنهم متقون، وليفهم على ضوء ذلك كله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه «بني الإسلام على خمس ... » فهناك أساس فوقه بناء، والأساس وإن كان جزءا من البناء لكنه ركنه، والبناء هو الأركان وما فوقها وذلك هو الإسلام. ثم وبعد أن ذكر الله أولياءه بصفاتهم المقربة إليه، وبين أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الكفر: ستر الحق بالجحود، والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار: إقامة الحجة، وليكون الإرسال عاما وليثاب الرسول خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ والختم هو: التغطية، والختم والطبع واحد، والغشاوة: الغطاء، والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ العذاب هو: النكال والعظيم يقابل الحقير، والمراد بالذين كفروا هنا: أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: «الكافر لما لم يسمع قول الحق، ولم ينظر في نفسه وغيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث، فيعلم أنه لا بد له من صانع جعل كأن على بصره غشاوة». وبعد أن قدم الله عزّ وجل وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بآيتين، ذكر حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة هنا، كما أنزل سورة براءة وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون،

[سورة البقرة (2): آية 9]

فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير. ولما كنا لا نعرف المنافق إلا من سيماه وفلتات لسانه كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (سورة محمد) فقد بين الله لنا هنا حقيقة المنافق، وأعطانا نماذج من كلامه وتصرفاته، ثم ضرب لنا الأمثلة عليه لتتضح الحال تماما، لأن النفاق أخطر شئ على الأمة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان ... » وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: ادعى المنافقون إحاطتهم بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى المبدأ، وهي العلم بالخالق وصفاته وأسمائه وأفعاله ومسائل المعاد وهي: العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرار الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام، وقد نفي الله عزّ وجل إيمانهم على أبلغ وجه، إذ أخرج ذواتهم من أن تكون من المؤمنين، فقال: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. ولليوم الآخر تعريفان: الأول: هو الوقت الذي لا حد له، وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخرة لتأخره عن الأوقات المنقضية. الثاني: هو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الخداع: إظهار غير ما في النفس على نية الغش وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ النفس: ذات الشئ وحقيقته، ثم قيل للقلب والروح نفس لأن النفس بهما، وقيل للدم نفس لأن قوام النفس بالدم، وقيل للماء نفس لفرط حاجة النفس إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى أنهم بمخادعتهم الله والمؤمنين لا يخدعون في الحقيقة إلا أنفسهم لعود أضرار ذلك عليهم، فالخداع لاحق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولكنهم لا يشعرون أن حاصل خداعهم يرجع إليهم، والشعور: علم الشئ علما حسيا، ومشاعر الإنسان في الأصل حواسه لأنها آلات الشعور. والمعنى أن لحوق ضرر الخداع بهم كالمحسوس، وهم للتمادي في غفلتهم كالذي لا حس له. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: المرض هنا هو الشك والنفاق، لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد، كما أن المريض متردد بين الحياة والموت ولأن

[سورة البقرة (2): الآيات 11 إلى 12]

المرض ضد الصحة، والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسما لكل فساد، والشك، والنفاق فساد في القلب فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: أي فزادهم الله رجسا وشرا إلى شرهم عقوبة لهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ: أي بكذبهم في قولهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ خداعا للمؤمنين. والكذب هو الإخبار عن الشئ على خلاف ما هو به. وبهذه الآيات الثلاث عرفنا حقيقة النفاق وأسبابه ثم بعد أن بين الله لنا ذلك، ذكر لنا ثلاثة نماذج من أقوالهم ومواقفهم لنعرفهم بها: 1 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ الفساد: خروج الشئ عن حال استقامته وكونه منتفعا به، وضده الصلاح وهو: الحصول على الحال المستقيمة النافعة والمراد بالفساد في الآية الكريمة- والله أعلم- الكفر والعمل بالمعصية، فهؤلاء المنافقون يعملون بالكفر والمعصية ويدعون إليهما، ويزعمون أن ما يفعلون وما يدعون إليه إصلاح وهو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون أنه فساد و (إنما) في اللغة العربية تفيد: قصر الحكم على شئ أو قصر الشئ على حكم، وقد استعملوها في تعبيرهم. إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فذلك يدل على أنهم يتصورون أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة تقدح فيها من وجه من وجوه الفساد، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا- في القرن الخامس عشر الهجري- إذ تجد الدعاة إلى الكفر والمعصية والعاملين بهما ممن لهم أسماء إسلامية، ويتظاهرون بأنهم مسلمون، ويخلعون على أنفسهم ودعواتهم الكافرة أسماء براقة تعطيهم صفة المصلحين، كالتقدمية والتقدميين، والحرية والأحرار، وقد روي من غير طريق ذكره ابن كثير عن سلمان الفارسي، في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ: ما جاء هؤلاء. لم يجئ أهل هذه الآية بعد .. أقول: قد جاءوا في عصرنا ورأيناهم ونسأل الله أن يطهر الأرض منهم. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان (رضي الله عنه) أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. 2 - وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ السفه: سخافة العقل وخفة الحلم. والناس في الآية هم الكاملون في الإنسانية وهم المؤمنون، لأنهم هم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم.

[سورة البقرة (2): آية 14]

نصحهم أهل الإيمان النصيحة الأولى كما رأينا بتقبيح ما كانوا عليه؛ لبعده عن الصواب وجره للفساد، فردوا عليهم كما رأينا، ونصحوهم النصيحة الثانية كما في هذه الآية بأن بصروهم بالطريق الأسد من اتباع ذوي الأحلام، فكان جوابهم أن سفهوهم للتمادي في جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة. ولم يظهر أهل هذه الآية كذلك في عصر كما ظهروا في عصرنا، إذ ترى المنافقين يحتقرون أهل الإيمان من علماء وربانيين ودعاة وعباد ويعتبرونهم ضعاف العقول، ويصفونهم بالرجعية والجمود وضيق الأفق وأمثال ذلك، فهم أبعد الناس عن احترامهم، فضلا عن متابعتهم والاقتداء بهم فيما هم فيه من خير، وقد تولى الله سبحانه الجواب الذي يفضح حقيقة أمرهم فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ، فأكد وحصر السفاهة فيهم، وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون أن ما هم فيه ضلال وجهل وسفه، وذلك أردى وأبلغ في العمي والبعد عن الهدى، وإنما وصفهم في الآية الأولى بأنهم لا يشعرون، وفي الآية الثانية بأنهم لا يعلمون، لأنه ذكر في الآية الثانية السفه وهو الجهل فكان ذكر العلم هو الأحسن طباقا له، ولأن الإيمان يحتاج إلى نظر واستدلال ليكتسب الناظر المعرفة، فناسب ذلك ذكر العلم، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس فناسب هناك أن يذكر عدم الشعور. 3 - وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. يزيدنا الله بيانا في توضيح حال المنافقين من خلال أقوالهم، ومواقفهم، فذكر لنا أن هؤلاء المنافقين إذا لقوا المؤمنين قالُوا آمَنَّا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة تغريرا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، وإذا خلوا إلى سادتهم وكبرائهم ورؤسائهم وأصحابهم من الكافرين والمشركين والمنافقين قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أي: إنما نحن نسخر بالقوم ونستهزئ منهم ونلعب بهم، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا، إذ كثرت المؤسسات الكافرة من محافل ماسونية وأحزاب ضالة، أو مؤسسات خائنة، أو جمعيات فاجرة، أو تكتلات على أسس فاسدة. وتجد كثيرا من أبناء المسلمين يتظاهرون مع أهل الإيمان بالإيمان ولكنهم مع زعمائهم في هذه المؤسسات وأمثالها على غاية من المتابعة والولاء. وليس أبلغ من كلام الله في وصف حالهم ومقالهم للمؤمنين ولزعمائهم،

[سورة البقرة (2): آية 15]

ولكن الله أكبر، والله محيط بهم وبأعمالهم، وهو يتولى أمر المؤمنين، ويدافع عنهم، ويعاقب هؤلاء وينتقم منهم. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فهذا تطمين للمؤمنين وتهديد للمنافقين والمعنى أنه تعالى مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع. قال ابن كثير نقلا عن ابن جرير: «لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عزّ وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك». فيملي لهم تعالى ويزيدهم من نعمه على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم؛ ليستمروا في طغيانهم يترددون؛ فتقوم عليهم الحجة باستحقاقهم عقوبة الدنيا والآخرة. والطغيان: مجاوزة الحد والإمداد: الإملاء، والعمه: هو الضلال والضياع، وقال بعضهم العمى في العين والعمه في القلب. ثم بين الله عزّ وجل واقع هؤلاء المنافقين الذين بدأ الكلام عنهم بقوله وَمِنَ النَّاسِ فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ بين الله عزّ وجل في هذه الآية: أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي بذلوا الهدى الذي هو الإيمان ثمنا للضلالة التي هي الكفر، سواء في ذلك من كان منهم حصل له الإيمان ثم رجع إلى الكفر، أو من كان منهم استحب الضلالة على الهدى، دون أن يكون الإيمان قد أصاب قلوبهم من قبل مع تظاهر الجميع بالإيمان؛ فما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك. قال قتادة: «قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة»، فليحصلوا ما حصلوا من أمر الدنيا فإنهم الخاسرون. وبعد هذا البيان عن حقيقة المنافقين وبعد أن أعطانا الله عزّ وجل نماذج من أقوالهم ومواقفهم نعرفهم بها، يضرب الله لنا مثلين نعرف بهما حال المنافقين معرفة تامة: المثل الأول: لنوع من المنافقين وصلوا إلى النفاق الخالص بعد أن كانوا مؤمنين. والمثل الثاني: لنوع من المنافقين لا زالوا مترددين، الأولون لم يعد فيهم أمل للرجوع إلى الإيمان، أما الآخرون فلم يقنطوا، وبعض المفسرين اعتبر المثلين لنوع واحد، وهذا خطأ، لأن أهل المثل الأول قال الله عنهم ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وقال صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ بينما قال عن الآخرين كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، وابن كثير وضح

ذلك، لذلك قال عن المثل الثاني: هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم: قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب .. المثل الأول: قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ المثل هو القول السائر، ثم استعير للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة. ويضرب المثل زيادة في الكشف، وتتميما للبيان، وتقدير هذا المثل: إن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى: بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك. فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا قال الرازي: «والتشبيه هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين» فصار المعنى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، نور الإسلام الذي يرون به الأشياء كلها على حقائقها. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. لا يُبْصِرُونَ أي لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها وهم مع ذلك صُمٌّ لا يسمعون خيرا، بُكْمٌ لا يتكلمون بما ينفعهم، عُمْيٌ عن رؤية الحق، فبصيرتهم عمياء وهم في ضلالة. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي فلذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة، وهذا المثل نجده منطبقا على كثير من أبناء المسلمين في عصرنا ممن مرت عليهم فترات استغرقوا فيها بالعبادة والإسلام، ثم انتظموا في سلك أهل الكفر والضلال، ساخرين من حالهم الأول، مزدادين كل يوم كفرا على كفر، وقد دل المثل على أن الإنسان الذي لا يرى الأشياء بنور الإيمان منافق، ومن لم تكن منطلقاته في الحكم على الأشياء منطلقات إسلامية، فإنه: منافق لا يرى الأشياء بنور الله على ما هي عليه في الحقيقة، ثم ضرب الله مثلا آخر لنوع آخر من النفاق:

[سورة البقرة (2): الآيات 19 إلى 20]

المثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قال ابن كثير: «هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى». شبه دين الإسلام في المثل بالصيب أي: بالمطر لأن القلوب تحيا به، حياة الأرض بالمطر، والشبهات والشكوك في قلب هذا الضرب من المنافقين شبهها بالظلمات، والوعيد الموجود في دين الله سواء كان الوعيد بالفضيحة أو بالعذاب الأخروي أو بانتصار المؤمنين بالرعد، وبقايا الفطرة في قلوب هؤلاء بالبرق، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا بالصواعق. الصيب: المطر، والرعد: هو الصوت الذي يسمع من السحب لاصطكاك أجرامه، والبرق: هو الذي يلمع من السحاب. وظلمات المطر: ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل، والإسلام والقرآن في المثل هو المطر وحده، وأما الظلمات ففي القلب والنفس ظلمات الشبهات والشكوك والشهوات. وذكر في المثل الأصابع- ولم تذكر الأنامل مع أن رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان: اتساعا كقوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (سورة النور) والمراد إلى الرسغ، ولأن في ذكر الأصابع من الإشعار بمخالفتهم ما ليس في ذكر الأنامل، وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسد به الأذن لأن السبابة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة، والصاعقة: قصفة رعد تنقض، والخطف: الأخذ بسرعة، وإحاطة الله بالكافرين تعني: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط. وكل ما علاك فهو سماء، وتطلق السماء على السحاب أو على المطر لنزوله من السحاب فصار المعنى: مثل المنافقين كمثل أصحاب مطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والشبهات، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، وبرق وهو ما يلمع في قلوب ذلك الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، فهم يسدون آذانهم فلا يرغبون أن يسمعوا التهديد والوعيد وأخبار أيام الله، ولكن ذلك لا يجديهم فإن سد

ويمكن أن يقال في المثل

الأذن لا يغني من الصاعقة شيئا، ومع شدة لمعان البرق فينقدح في قلوبهم نور إضافي فإنهم لا يستفيدون منه إلا قليلا لما يعقبه من ظلام. فهؤلاء إذا ظهر لهم شئ من الإيمان استأنسوا به واتبعوه، ثم تعرض لهم الشكوك فتظلم قلوبهم، فيقفون حائرين، وقد حذر الله المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير فإن الله على كل ما أراد بعباده من نعمة أو نقمة أو عفو أو عقاب أو غير ذلك قدير. ويمكن أن يقال في المثل: المطر يحيي الأرض وينزل من السماء، والإسلام يحيي القلوب وقد نزل من السماء، والمطر في الليل يرافقه ظلمات ورعد وبرق، وهؤلاء المنافقون بسبب ليل قلوبهم؛ صار الإسلام بالنسبة لهم ظلمة ورعدا وبرقا، فشبه الكافرين والمنافقين ظلمات تحيط بهم والتهديدات تقرع آذانهم فتخيفهم، ولشدة ضوء الحق فإنه يظهر لهم نور فيسيرون به قليلا ثم تحيط بهم الظلمة من جديد فيقفون. هذا المثل من غوامض الأمثال القرآنية، والأمثال في القرآن كما قال الله تعالى في سورة (العنكبوت): وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ونادرا ما تجد شرحا مبسطا في كتب التفسير لهذا المثل، وإذ كان ظهور هذا المثل في عصرنا أكثر من ظهوره في بقية العصور فإننا نستطيع أن نقول: إن هناك مسلمين بحكم النشأة والبيئة، وجدوا في عصرنا المليء بالشبه والدعوات الضالة، ولم يتح لهم أن يسيروا في طريق الإيمان حتى يحققوه في قلوبهم، فبقيت قلوبهم فيها إيمان ونفاق، أو إيمان وكفر، فتارة تأتيهم حجة من حجج الإسلام القوية فتضيء جوانب قلوبهم بالإيمان فيسيرون على زاد ذلك قليلا، ثم تحيط بهم شبهة من الشبهات فينطفئ النور في قلوبهم فيقفون حائرين، وهم في هذه الحالة على غاية من الخوف من انكشاف أمرهم للمؤمنين، أو من سلطان الكافرين، أو من عقوبة الله لهم على ما هم فيه. هذا حال الكثيرين من أبناء المسلمين في عصرنا، ولعل ما هم فيه يجعلنا نفهم المثل من خلال واقعهم. وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل لكل كلمة وردت في المثل ما يقابلها على انفراد، ثم قابلوا ذلك بمفردات، فالمطر الإسلام، والظلمات الآيات المتشابهات، والرعد آيات الوعيد، والبرق الآيات المحكمات، أو غير ذلك على اعتبار أنهم ظنوا أن للعرب طريقة

3 - حديث شريف كاشف

واحدة في هذا السبيل، وهو أن تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها عن بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها. ولكن الواقع أن للعرب طريقة أخرى، وهي أن تشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها كما هنا. فالمراد العام هنا تشبيه حال المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة كحال من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. 3 - حديث شريف كاشف إن هناك حديثا شريفا يكشف لنا هذين المثلين ويبين لنا أهلهما كما يكشف لنا مقدمة سورة البقرة كلها فلنره: عن أبي سعيد (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد، فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» قال ابن كثير: رواه الإمام أحمد بإسناد جيد حسن. لا شك أن القلب الأول هو: قلب المؤمنين المتقين الذين وردت صفاتهم في الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة، وأن القلب الثاني هو قلب الكافرين الذين وردت صفاتهم في الفقرة الثانية من مقدمة سورة البقرة، وأن القلبين الثالث والرابع هما في من وردت صفاتهم في الفقرة الثالثة من مقدمة سورة البقرة، وأن القلب الثالث مثله هو المثل الأول وأن القلب الرابع مثله هو المثل الثاني. والملاحظ أن القلب الرابع لا زال فيه أمل، وذلك إذا أصبح مدد الإيمان أكثر من مدد النفاق، وذلك بالإقبال على الأعمال الصالحة وترك السيئات وخلطة أهل الباطل. وسنرى كيف أن سورة البقرة بأقسامها كلها، إنما تدل على الطريق ليكون الإنسان من الفئة الأولى. فئة الإيمان والتقوى، ولذلك فإن القسم الأول يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهذا حديث سيأتي فلنبق الآن في أجواء مقدمة سورة البقرة.

4 - (فصول شتى)

4 - (فصول شتى) فصل في فواتح السور: لو أنك تأملت فواتح سور القرآن، فإنك تجد أن نوعا من الفواتح يتكرر، فمثلا تجد أكثر من سورة مبدوءة ب الم* أو الر* أو حم* أو إِنَّا* أو إِذا* أو هَلْ* أو وَيْلٌ* وتجد سورا كثيرة مبدوءة بقسم، ثم إنك تلاحظ أحيانا أن مجموعة من السور لها بدايات معينة تشبهها مجموعة أخرى لها نفس البدايات فمثلا: نلاحظ أن سورتي البقرة وآل عمران مبدوءتان ب الم* وتأتي بعدهما سورتا النساء والمائدة وكل منهما مبدوءة ب يا أَيُّهَا* ثم تأتي سورة الأنعام وهي مبدوءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ. ونلاحظ بعد ذلك بسور كثيرة: أنه تأتي سورة العنكبوت، وهي والسور الثلاث بعدها مبدوءة ب الم، ثم تأتي بعد ذلك سورة الأحزاب وهي مبدوءة ب يا أَيُّهَا ثم تأتي بعد ذلك سورتا سبأ وفاطر وكل منهما تبدأ ب الْحَمْدُ لِلَّهِ.* لاحظ التشابه بين بدايات هذه المجموعة، وبين بدايات المجموعة الأولى مع الاختلاف في عدد السور التي بدأت بالنوع الواحد من الفواتح. ولنأخذ مثلا آخر: بعد سورة المدثر: تأتي سورة القيامة، وهي مبدوءة بقسم، وتأتي بعدها سورة الدهر وهي مبدوءة باستفهام: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ؟ ثم تأتي بعد سورة الدهر سورة مبدوءة بقسم، وبعدها سورة مبدوءة باستفهام: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً عَمَّ يَتَساءَلُونَ لاحظ القسم والاستفهام في كل من النموذجين الأول والثاني وبعد سور كثيرة تأتي خمس سور متتالية مبدوءة بقسم، ثم تأتي سورة مبدوءة باستفهام:

فهل هناك تعليل شامل لهذه الظاهرة

وَالْفَجْرِ، لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالضُّحى. ثم سورة مبدوءة باستفهام أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. فهل هناك تعليل شامل لهذه الظاهرة إننا الآن نقول باختصار: (وسنرى الدليل على ذلك شيئا فشيئا): إن فواتح السور هي بعض المفاتيح التي تتعرف بها على الرابطة بين أقسام القرآن، وبين مجموعات هذه الأقسام، وبين تسلسل السور ضمن القسم الأول أو المجموعة الواحدة، فهي من مفاتيح الوحدة القرآنية المعجزة، ولو أننا أردنا أن ندلل على هذا الموضوع هاهنا لتعثر القارئ ولطال البحث وتعقد، ولذلك فإننا سنعرض لأدلة هذا الموضوع شيئا فشيئا، فإنه موضوع يصعب التدليل عليه إلا من خلال السير الشامل والوقوف عند كل سورة وبدايتها، والتدليل آت بإذن الله تعالى. فصل في الحروف التي بدأت بها بعض السور: هذه الحروف التي بدأت بها بعض سور القرآن مثل (الم) * أو (المص) أو (الر) * أو (أَحْرَصَ) * وقف عندها بعض المفسرين كثيرا، وبعضهم لم يقف واكتفى بأن يذكر بعد الواحدة منها: الله أعلم بمراده. والذين وقفوا عندها إما واحد أراد أن يعطيها تفسيرا فاعتبر كل حرف هو جزء لكلمة تدل عليها، ثم حاول أن يجد الكلمة التي يدل عليها الحرف، وإما واحد اعتبرها رموزا على أزمنة، وحاول من خلال ما اعتاده العرب أن يعطوا كل حرف رقمه الحسابي وأن يستخرج نبوءات زمنية، وإما واحد اكتفى بأن يسجل ملاحظة حول هذه الأحرف، ومن أهم الملاحظات التي سجلت خلال العصور أنه حيث وردت هذه الأحرف في سورة فإن السورة لها صلة في الحديث عن القرآن. ومن ثم اعتبروا أن ذكر هذه الأحرف فيه إشارة إلى الإعجاز، وفيه مظهر من مظاهر التحدي، وقد عبر سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عن هذا المعنى تعبيرا طيبا. يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عند الكلام عن (الم) في سورة البقرة: «ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية وقد وردت في

تفسيرها وجوه كثيرة نختار منها وجها: أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب، ولكنه مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فلا يملكون لهذا التحدي جوابا. والشأن في هذا الإعجاز: هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شئ وصنع الناس. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة، أو آجرة، أو آنية، أو أسطوانة، أو هيكل، أو جهاز كائنا في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة؛ حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز، سر الحياة. السر الذي لا يستطيعه بشر ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا. والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة». أقول وصدق الله العظيم وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا (سورة الشورى) هذه الملاحظة التي سجلها صاحب الطلال ببيانه المشرق سجلها علماء المسلمين قديما، إلا أنه في عصرنا- فيما أعلم- سجلت ملاحظة أخرى إضافية حول هذه الأحرف وهي ما ذكرناه في الفصل السابق من أن فواتح السور- ومنها الأحرف- هي مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية، وهذا الموضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا في هذا التفسير. ولنكتف هنا بتسجيل هاتين الملاحظتين حول الأحرف التي افتتحت بها بعض السور، ولنا عودة على ما قيل في هذه الأحرف في أول سورة يونس حيث أول القسم الثاني من أقسام القرآن.

فصل في القلوب في المصطلح الشرعي: ورد في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وورد قوله تعالى عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وترد كلمة القلب في الكتاب والسنة كثيرا، وكثيرون من الناس يغلطون في شأنها. وباختصار نقول: إن هناك قلبا محسوسا لكل الناس يشترك فيه الإنسان مع كثير من المخلوقات هو القلب الدموي، هذا القلب الذي له وظيفة المضخة الدموية هو مركز لقلب آخر هو مركز الأحاسيس الوجدانية، من حب وبغض وحقد وسماحة وخوف وأمن، وهذه القضايا كذلك محسوسة لكل الناس، إذ كل الناس يحسون بشيء من هذه المعاني في قلوبهم. هذا القلب الثاني هو محل الإيمان الذوقي، وهو محل الكفر والنفاق كذلك، وهاهنا نجد أمورا محسة عند بعض الناس وغير محسة عند آخرين، فأهل الإيمان- مثلا يحسون بمعان كثيرة في قلوبهم، هذه المعاني لا يحس بها الكافرون لأن هذا الجانب في قلوبهم ميت، هذا القلب المرتبط بالقلب الدموي ليس هو عين القلب الدموي، بدليل أن الذين أجريت لهم عمليات استئصال لقلوبهم، وأعطوا قلبا آخر، لم تتغير أحاسيسهم، وفي التفريق بين القلب الدموي والقلب الآخر يقول صاحب حاشية الجمل على تفسير الجلالين: «وحيث أطلق القلب في لسان الشرع فليس المراد به الجسم الصنوبري الشكل فإنه للبهائم وللأموات، بل المراد به معنى آخر يسمى بالقلب أيضا، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني قيام العرض بمحله أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك وترتسم فيه العلوم والمعارف». هذا القلب في المصطلح الشرعي يمرض ويصح ويموت ويعمى ويصم. ومن ثم رأينا في الكلام عن الكافرين في الفقرة كيف أن الله عزّ وجل قال خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقال عن المنافقين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ووصفهم بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. هذا القلب في المصطلح الشرعي مقره الصدر لا كما توهم بعضهم، من أن مقره الدماغ، قال تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: 46) فحدد مكانها في الصدور. وقد فصلنا في كتابنا (تربيتنا الروحية) في هذه المعاني فليراجع. وبمناسبة قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله تعالى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ننقل هذه النقول:

قال مجاهد: «الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله». وقال مجاهد: «ثبتت الذنوب على القلب، فحفت به من كل جوانبه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم»: وقال: «كانوا يرون أن القلب في مثل هذه- يعني الكف- فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال: بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم وقال: بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال: بأصبع أخرى، هكذا، حتى ضم أصابعه كلها ثم قال: يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك عين الران». وفي الحديث الصحيح عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين قلب أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا». وأخرج الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه. وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (المطففين: 14) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه» اه. فإذا علم الإنسان هذا وفهم قوله تعالى فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وما أشبه ذلك من الآيات، أدرك أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق.

فصل في الكفر الذي لا يؤمن أهله

وبمناسبة ما مر أقول: إن التركيز على قضية القلب من أهم ملامح التربية القرآنية والنبوية، وقد أهمل الناس هذا إلا القليل، والقليل عنده دخن كثير إلا أقل القليل. ولأن الجزء الأكبر من التكاليف الربانية منوط بالقلب، فإن على الإنسان أن ينتبه لذلك. ونحن- في هذه السلسلة- سنعطي هذا الموضوع حقه، كلما جاءت مناسبته بإذن الله. فصل في الكفر الذي لا يؤمن أهله: يلاحظ أن كثيرين من الناس يكونون كافرين ثم يدخلون في الإسلام، وقد ذكرت الفقرة التي تحدثت عن الكافرين في مقدمة سورة البقرة أن الكافرين يستوي عليهم الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون فكيف نجمع بين هذا وهذا؟ قال بعض المفسرين في هذا: والمراد بالذين كفروا هنا أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ .. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له السعادة في الذكر التفسير، أن هاتين الآيتين قد فصلت فيهما سور في كتاب الله، ومن خلال دراسة هذه السور سنرى أن الكفر الكامل هو ما انعدمت فيه قضية الفطرة في قلب الإنسان، وأن هذا له علاماته وله حقيقته وثمراته. فمن اجتمعت له الحقيقة والثمرات والعلامات فهذا الذي لم تعد فيه بقية من الفطرة، وهذا الذي لم يعد ينفع معه إنذار. ولكون هذا لا يعلمه إلا الله فإننا مكلفون بالإنذار لإقامة الحجة، أما الكافرون الذين لم يصلوا إلى مثل تلك الدرجة، فهؤلاء لا زال في شأنهم أمل أن يهتدوا بإذن الله أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ (الأنعام: 122) ولا يصل الإنسان إلى الكفر الذي لا أمل معه في الإيمان إلا بسيره في طريق ذلك كما رأينا. في الفصل السابق، وهذا موضوع سنراه كثيرا. وبكلامنا هذا لا نرد على من ذهب إلى أن الآيتين وردتا في شأن كفار علم الله أنهم لا يؤمنون، بل كلامنا تبيان لأسباب هداية بعض الكافرين وعدم هداية بعضهم، وإلا فالآيتان حتما واردتان في كفار علم الله أنهم لا يهتدون.

5 - فوائد

5 - فوائد (أ) أخرج الترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس) قال الترمذي عنه: حديث حسن غريب. وذكر ابن كثير أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت قال: فذلك التقوى .. » وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)، دل الحديث على أن تقوى الله هي أعظم ما يعطاه عبد. (ب) مما أورده ابن كثير بمناسبة قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - قال أبو العالية في تفسير الإيمان بالغيب: «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث». - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ .. إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعن صالح بن جبير قال: «قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: هات رحمك الله. قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل- عاشر عشرة- فقلنا: يا رسول الله: هل من قوم أعظم منا أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك. قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين، يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا، أولئك أعظم منكم أجرا». وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا: الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون وهم

عند ربهم؟ قالوا: فالنبيون، قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن، قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا، لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها». قال ابن كثير: قال الحاكم: صحيح الإسناد دلت هذه النصوص على فضل إيمان من جاء بعد الصحابة من المسلمين، ولا يعني ذلك أن من جاء بعد الصحابة أفضل منهم بل من جاء بعدهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا. (ج) أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله: إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال. قال: أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله ... قال: الم ذلِكَ الْكِتابُ إلى قوله تعالى الْمُفْلِحُونَ هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هؤلاء أهل النار. قالوا: لسنا هم يا رسول الله .. قال: أجل. (د) فهم بعضهم أن الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ذكرت صنفين من أهل الإيمان، الأول: هم الذين آمنوا بالقرآن دون أن يكونوا على دين سماوي سابق، وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. والثاني: هم الذين كانوا على دين سماوي سابق ثم آمنوا بالقرآن وهم الذين ذكروا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ونحن في التفسير الحرفي لم نعتمد هذا الاتجاه، بل اعتبرنا أن المتكلم عنهم في الفقرة صنف واحد، فالناس كلهم مطالبون بالإيمان بالغيب والإيمان بالوحي كله وباليوم الآخر، وقد ذكرنا حكمة التفصيل بذكر الإيمان بالوحي كله وباليوم الآخر مع أنهما داخلان في الإيمان بالغيب؛ نعم قد يكون من حكمة ذكر قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ البيان لأهل الكتاب ولأصناف من الناس قد لا يعتبرون الإيمان بالآخرة ضروريا، قد يكون من جملة الحكم في التفصيل البيان لهؤلاء جميعا أن التقوى لا بد فيها من إيمان بالوحي كله وباليوم الآخر هذا مع الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والاهتداء بكتاب الله.

(هـ) في قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يصح الوقوف على قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ كما يصح الوقوف على لا رَيْبَ فِيهِ فإذا وقفنا على لا رَيْبَ كان المعنى: هذا القرآن الذي لا يدانيه كتاب بلا شك، فيه هدى للمتقين وفي هذه الحالة يكون في الآية إشارة إلى أن المتقين يأخذون هداية أخرى نفهمها من نصوص الكتاب ذاته إذ المتقون مكلفون بالاهتداء بالسنة مع الكتاب، وبما أحال عليه الكتاب والسنة من طرق الاهتداء إلى حكم الله. أما الوقوف على قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ فإنه يفيد أن أصل الريب منفي عن هذا الكتاب، بينما على الوقف الأول، فإن الشك منفي عن أن هذا الكتاب يدانيه كتاب آخر، ثم إن قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ في الوقف على لا رَيْبَ فِيهِ يعطينا أن هداية المتقين محصورة في الكتاب، ولا تنافي بين المعاني فهداية المتقين محصورة في الكتاب. ولكن الكتاب هداهم إلى اعتماد السنة والاهتداء بها، وإلى اعتماد الإجماع والاهتداء به، وإلى اعتماد القياس وغيره. وهكذا نرى أنه من خلال الوقف فقط عرفنا معاني متعددة يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا، وسنرى هذا وغيره فندرك كيف أنه من خلال الوقف، ومن خلال القراءات المتعددة، ومن خلال السياق الخاص، ومن خلال السياق العام، تتولد عن هذا القرآن معاني لا نهاية لها، وكل هذا مع تيسير الفهم لكتاب الله، لكل طبقات الناس، بحيث يأخذ كل من مائدة القرآن ثم هي تبقى بلا نفاد. (و) قال قتادة في نعت المنافق: «خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هبت معها». وقال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم .. ونقل ابن كثير- عن بعض العلماء- أن المنافقين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون أنهم يقتلون ... وقال ابن كثير: «وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر، هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟» وسنتحدث عن هذا

6 - كلمة في السياق

الموضوع في سورة الأحزاب عند قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. (ز) فرق بعض العلماء بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي، والحقيقة أن النفاق حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها، كما أن الكفر حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها، وكذلك الإيمان حالة قلبية تنبثق عنها أخلاقيتها. فمن أخلاقية النفاق ما ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». وكذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان. وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر»، فهذه أخلاقيات النفاق التي تدل على وجوده، ومن الحديث الأخير ندرك أن علينا أن نفرق بين النفاق الخالص والنفاق المخالط، وفي الأصل فإن علينا أن نفرق بين الزلة العارضة والخلق الدائم. (هـ) من ذكر التجارة في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ نفهم فهما بعيدا لا ينصب عليه السياق أن من عوامل النفاق وأسبابه الرغبة في الدنيا، والحرص عليها، وأنهم باعوا دينهم بمنفعة أو مصلحة. 6 - كلمة في السياق (أ) جاءت مقدمة سورة البقرة بعد سورة الفاتحة مباشرة فأرتنا النموذج الذي ينبغي أن نكونه، وعرفتنا على نموذجين لا ينبغي أن نكون من أهلهما، ولنلاحظ خاتمة سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فهؤلاء رأينا نموذجهم الفقرة الأولى عن المتقين. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. وقد رأينا نماذج ذلك في الفقرتين الثانية والثالثة من مقدمة سورة البقرة، فالكافرون مغضوب عليهم وضالون، والمنافقون مغضوب عليهم وضالون، ولا يتعارض هذا مع كون المغضوب عليهم على الأخص

اليهود، والضالون على الوجه الأخص هم النصارى، لأن جميع الكافرين والمنافقين على الوجه العام مغضوب عليهم وضالون. (ب) وقبل الفقرة الأخيرة من الفاتحة يأتي قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وسنرى أن القسم الأول من أقسام البقرة مبدوء بدعوة الناس جميعا إلى العبادة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فالصلة بين سورة البقرة والفاتحة على أكثر ما تكون وأدق ما تكون. (ج) يلاحظ أنه بعد أن قسم الله عزّ وجل الناس إلى أصناف ثلاثة، يأتي القسم الأول من أقسام سورة البقرة ليدعو إلى سلوك الطريق الذي يحررهم من أن يكونوا كافرين، أو منافقين، ويجعلهم مؤمنين متقين فلننتقل للكلام عن القسم الأول من أقسام سورة البقرة:

القسم الأول من أقسام سورة البقرة

القسم الأول من أقسام سورة البقرة: ويمتد من الآية (21) إلى نهاية الآية (167) حيث يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً

كلمة في القسم الأول من أقسام سورة البقرة

كلمة في القسم الأول من أقسام سورة البقرة: ترد كلمة يا أَيُّهَا النَّاسُ مرتين في سورة البقرة: مرة في بداية القسم الأول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، ومرة في بداية القسم الثاني: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وهذا الابتداء هو إحدى العلامات التي دلتنا على القسم الأول والثاني. والعلامة الثانية التي دلتنا على نهاية القسم الأول، هو انتهاؤه بنفس معاني الابتداء. البداية هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. والنهاية هي قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في البداية: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ قال ابن عباس في تفسيرها: وحدوا ربكم. - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في البداية الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وبعد آية الخلق يأتي قوله تعالى في نهاية القسم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.

لاحظ صلة قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً هنا بقوله تعالى في بداية القسم فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فهذه العلامة الثانية التي دلتنا على أن هاهنا نهاية القسم الأول من سورة البقرة. والعلامة الثالثة هي: أننا لاحظنا أن مقدمة سورة البقرة وهي تشكل كلا بالنسبة للسورة انتهت بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ ونلاحظ هنا أنه لأول مرة في سورة البقرة بعد المقدمة يأتي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ في الآيات التي مرت معنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فهذا كذلك مما دلنا على أن القسم الأول من سورة البقرة ينتهي هنا. والعلامة الرابعة التي دلتنا على القسم الأول بداية ونهاية هي المعاني: فهذا القسم كما سنرى من خلال المعاني يتألف من ستة مقاطع كل مقطع مرتبط بما قبله وبما بعده بوشائج وصلات فلنستعرض بعض معاني المقاطع لنرى كيف أنها تدلنا على أنها مع بعضها تشكل قسما من الأقسام: يبدأ المقطع الأول بدعوة الناس جميعا إلى سلوك طريق العبادة والتوحيد، ليكونوا من المتقين، مقيما عليهم الحجة من خلال إعجاز القرآن محذرا ومنذرا ومبشرا، ثم يبين لهم العوامل التي تحول بين الإنسان وبين الهداية، مقيما الحجة على الكافرين بكفرهم، ثم يأتي المقطع الثاني: وفيه قصة آدم التي نهايتها فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وهي تبين أن الوضع العادي للإنسان أن يكون مهتديا بهدى الله، وبالتالي فشئ عادي أن يكون الإنسان من المتقين بسلوك طريق ذلك. ثم بعد ذلك يأتي مقطعان: مقطع فيه قصة بني إسرائيل، وهي لأمة جاءها وحي ففرطت فيه، ومقطع فيه قصة إبراهيم (عليه السلام) وفيه نموذج على من قام بحق الوحي قياما كاملا: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أي قام بهن كلهن وفي كل من المقطعين تأخذ هذه الأمة دروسا. وقصة إبراهيم (عليه السلام) التي فيها بناء الكعبة، تصل بنا إلى مقطع جديد حول

المقطع الأول من القسم الأول

قبلة المسلمين ودروس ذلك، وذلك هو المقطع الخامس. ثم يأتي المقطع السادس، وفيه توجيهات مباشرة للمسلمين لها صلة بكل ما مر قبل ذلك في السورة. فالمعاني إذن هي العلامة الرابعة التي دلتنا على القسم ابتداء وانتهاء ولئن اختصرنا وبسطنا فمن أجل مجرد وضع أساس وسيتضح الأمر لنا شيئا فشيئا. ومما مر ندرك أن القسم الأول يتألف من ستة مقاطع- ذلك اجتهادنا- فلنبدأ بعرض المقطع الأول. المقطع الأول من القسم الأول: يمتد هذا المقطع من الآية (21) إلى نهاية الآية (29) وهذا هو:

1 - كلمة إجمالية في هذا المقطع وسياقه

1 - كلمة إجمالية في هذا المقطع وسياقه بعد أن عدد الله في مقدمة السورة فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة أقبل عليهم بالخطاب داعيا إياهم إلى عبادته وتوحيده دالا لهم على طريق الكون من المتقين مقيما عليهم الحجة، على أن كتابه لا ريب فيه، مبشرا المستجيبين له بما أعده لهم مبينا الأسباب الحقيقة لضلال الضالين من كافرين ومنافقين، ومناقشا الكافرين مقيما عليهم الحجة، فإذا كانت مقدمة البقرة قد قررت بعض المعاني تقريرا فهذا المقطع كان دعوة وإقامة حجة. 2 - المعنى الحرفي وسنعرض فيه المقطع على ثلاث مراحل كل مرحلة نعرض فقرة وتعقيبا على محل الفقرة في السياق. الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي اعرفوه ووحدوه وأدوا له حقوق الربوبية بعبادتكم إياه. قال ابن عباس: كل عبادة في القرآن توحيد. أقول: ولا توحيد إلا

[سورة البقرة (2): آية 22]

بمعرفة، والمعرفة تقتضي القيام بحقوق المعبود. الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. الخلق هو إيجاد المعدوم على تقدير واستواء، وتذكيره إيانا بخلقنا وخلق من قبلنا في سياق الأمر بالعبادة تهييج لنا على العبادة وتبيان أن من خلق هو الذي يستحق العبادة. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لعل في أصل اللغة للترجي والإطماع ولكنه في القرآن إطماع من كريم، فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه، فمن عرف الله حق المعرفة ووحده حق التوحيد، وعبده حق العبادة، وحققه الله عزّ وجل بالتقوى كان من المفلحين، ففي الآية دعوة للناس جميعا أن يكونوا من الفئة الأولى التي ذكرت في مقدمة سورة البقرة- فئة المتقين- وذلك بسلوك طريق ذلك، وطريق ذلك معرفة الله وتوحيده وعبادته. وقد عرفهم على ذاته بأنه خالقهم وخالق من قبلهم، ثم أكمل التعريف على ذاته بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً معنى جعل: صير. والفراش كالبساط قال الألوسي: ومعنى صيرها فراشا أي كالفراش فى صحة القعود والنوم عليها قال السيوطي: أي بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها، قال القرطبي: وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها لأن الجبال كالأوتاد .. والبحار تركب إلى سائر منافعها، وَالسَّماءَ بِناءً. قال القرطبي: وكل ما علا فأظل قيل له سماء أقول: وقد شبهت السماء بالبناء في الآية لدقة إحكامها وكمال ترتيبها وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي من السحاب فَأَخْرَجَ بِهِ أي بالماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، وهذا يقتضي منكم معرفة وعبادة وتوحيدا. ولذلك قال تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً الند: المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنها لا تخلق شيئا ولا ترزق، وأن الله هو الخالق والرازق فهو صاحب الحق بالعبادة ويمكن أن يكون التقدير: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم من أهل العلم بأصل الفطرة بأن الله هو المستحق للعبادة وحده. ثم بعد أن عرفهم على ذاته من خلال ظاهرتي الخلق والعناية، بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ويستوجب العبادة ويستأهل التقوى ذكر ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما يقرر إعجاز القرآن مما يستوجب السير على هداه لتحقيق التقوى وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شك مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا العبد اسم لمملوك من جنس العقلاء والمراد به في الآية محمد صلى الله عليه وسلم وكلمة نَزَّلْنا تفيد التنزيل التدريجي المنجم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ السورة هي: الطائفة من القرآن المترجمة أي المعنونة

[سورة البقرة (2): آية 24]

التي أقلها ثلاث آيات وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ الشهيد هو: الحاضر أو القائم بالشهادة مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعاواكم، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا: بأن تأتوا بسورة من مثله فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ. الوقود: ما توقد به النار من مثل الحطب، ومعنى وقودها الناس والحجارة: أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران، بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي إما حجارة الكبريت فهي أشد توقدا، وأبطأ خمودا، وأنتن رائحة، وألصق بالبدن، وإما الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيرا، أو هي هذه وهذه وكل ذلك اتجاهات للمفسرين أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي هيئت لهم، وفي ذلك دليل أن النار مخلوقة موجودة الآن، وبعد أن بين الله عزّ وجل طريق تقواه، وأقام الحجة على وجوبها، وبين أن هذا القرآن لا ريب فيه، وتوعد الكافرين، فكأنه لم يعد هناك مبرر لإنسان في ألا يؤمن ويعمل صالحا، ومن ثم فقد توجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر هؤلاء العاملين: وَبَشِّرِ الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء ولكل مسلم انتهاء بحكم أن للمؤمنين أسوة برسول الله فهو قدوتهم، والبشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: الذين آمنوا بالغيب، وآمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبل، وآمنوا بالآخرة وعملوا الصالحات؛ من إقامة صلاة وإنفاق وذلك كله قرر من قبل والصالحات في الاصطلاح الشرعي: كل ما استقام من الأعمال بدليل الكتاب والسنة، وعطف العمل الصالح على الإيمان دليل على أن الإيمان غير العمل الصالح. أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. الجنة في اللغة: البستان من الشجر المتكاثف وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الأشجار، وقد جمعت في الآية ونكرت لاشتمالها على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان ودار الثواب مخلوقة من قبل موجودة الآن. رزقنا الله إياها، قال علماء أصول الدين: ولا نجعل للمؤمن العاصي صاحب الكبيرة بشارة مطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ النهر هو: المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر والجري: الاطراد. قالوا: وأنهار الجنة تجري في غير أخدود من تحت أشجار الجنة وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة، والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً هذه الجنات لها ثمار أجناسها

كلمة في السياق

أجناس ثمرات الدنيا وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله، وإنما كانت ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا، ولم تكن أجناسا أخرى لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، وإذا رأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتا بينا كان تعجبه أكثر واستغرابه أوفر. وقوله تعالى مِنْ قَبْلُ أى من قبل ذلك مما رزقوه في الدنيا والآخرة وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في المنظر والطعم مختلف وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من مساوئ الأخلاق، ومما يختص بالنساء في الدنيا من حيض واستحاضة، ومما لا يختص بالمرأة من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس، ومطهرة أبلغ من طاهرة لأنها تكون للتكثير وفيها إشعار بأن مطهرا طهرهن وما ذلك إلا الله وَهُمْ فِيها خالِدُونَ الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع، فالجنة باقية ولكنها مخلوقة، وهي باقية بإبقاء الله، والله باق وبقاؤه واجب وليس لوجوده ابتداء فهو الأول. عن ابن عباس قال: لا يشبه شئ مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء «وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء» وعن ابن مسعود في قوله تعالى وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قال: في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم، وقال يحيى بن كثير فيها: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشئ فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل فتقول الملائكة: كل فاللون واحد والطعم مختلف، وقال مجاهد في تفسير قوله تعالى وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد .. نسأل الله أن يجعلنا من أهل جنته وأن يقينا ناره. كلمة في السياق: - قسمت مقدمة سورة البقرة الناس إلى ثلاثة أقسام ثم جاءت الآيتان التاليتان للمقدمة تدعوان الناس إلى أن يكونوا من المتقين بسلوك طريق ذلك، فأقامتا الحجة عليهم بلزوم السير في هذا الطريق من خلال ظاهرتي الخلق والعناية، ثم في الآية اللاحقة أقامت عليهم الحجة في أن هذا القرآن من عند الله، فأكملت الحجة على ضرورة السير ليكون الإنسان من المتقين، ويلاحظ أن بداية سورة البقرة كانت: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وأن هاهنا قد جاء قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فههنا يأتي الدليل على أن القرآن لا ريب فيه، ويأتي الدليل الملزم على وجوب الإيمان بالوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهي إحدى النقاط المذكورة في المقدمة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. - وفي المقدمة ذكرت الآيات استحقاق الكافرين للعذاب، واستحقاق المنافقين

الفقرة الثانية

للعذاب، فقالت عن الكافرين وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعن المنافقين وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وفي الآيات التي جاءت بعد المقدمة ذكر فيها ماهية هذا العذاب فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ والمنافقون كفار بل هم شر الكفار. - لاحظ الصلة بين الأمر بالعبادة بعد المقدمة، وبين صفات المتقين التي وردت في المقدمة ثم لاحظ الصلة بين قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في المقدمة، وبين قوله تعالى فيما بعد فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ثم لاحظ أن مقدمة سورة البقرة بعد أن قررت أن القرآن لا ريب فيه ذكرت أن المهتدين به هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وهاهنا بعد أن أقامت الآيتان السابقتان على آية الأمر بالبشارة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه، بشر أهل الإيمان والعمل الصالح أي: الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة واتبعوا الكتاب، وبهذا عرفنا مظهر الفلاح الذي ورد في مقدمة سورة البقرة في حق المتقين، وهو أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .. وإذا عرفنا الصلة بين مقدمة سورة البقرة والفقرة الأولى من المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة فلننتقل إلى الفقرة الثانية من المقطع: الفقرة الثانية: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها قال قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... فالمعنى إذن: أن الله لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها، وما في الآية إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته عموما فَما فَوْقَها: أي فما تجاوزها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة أو فما زاد عليها في الحجم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي يعلمون أن المثل هو الحق من عند الله والحق هو: الثابت الذي لا يصح إنكاره. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أشعر سؤالهم الاستحقار، وذلك من جهلهم بالله،

[سورة البقرة (2): آية 27]

والإرادة طلب النفس وميل القلب بالنسبة للإنسان، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص الممكنات بوجه دون وجه، والله تعالى موصوف بالإرادة: على الحقيقة عند أهل السنة. يُضِلُّ بِهِ أي بالمثل كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً دلت على أن فريق العالمين بأنه الحق، وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة، وأهل الهدى كثيرون في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال، والإضلال: خلق فعل الضلال في العبد، والهداية: خلق فعل الاهتداء عند أهل السنة. وَما يُضِلُّ بِهِ، أي بالمثل إِلَّا الْفاسِقِينَ الفاسق في اصطلاح الفقهاء هو: الخارج عن الأمر بارتكاب كبيرة أو بإصرار على صغيرة وأما في الاصطلاح القرآني فإذا جاء في سياق الكلام عن الكافرين والمنافقين فالمراد به الكافر، وإذا جاء حديثا عن المسلمين العاصين فالمراد به المقصرون في الفعل أو في الترك. وهاهنا المراد به الكافرون والمنافقون، وينسحب الكلام على المؤمنين، لأنه كثيرا ما ينسحب الوعيد في حق الكافرين والمنافقين على عصاة هذه الأمة ممن يوافقون الكافرين أو المنافقين في أمر هو معصية. ثم وصف الله- عزّ وجل- هؤلاء الذين يستحقون الإضلال بسبب فسوقهم فقال: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ النقض هو الفسخ وفك التركيب، والعهد الموثق، والضمير في مِيثاقِهِ يعود إلى العهد أو لله تعالى، والميثاق من الوثاقة وهي: إحكام الشئ، فإذا كان الضمير للعهد صار المعنى ينقضون عهد الله من بعد ما وثقوه به من قبوله وإلزامه أنفسهم، وإذا كان الضمير (لله) صار المعنى: ينقضون عهد الله من بعد توثقته عليهم، وعهد الله هو: إما ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به، ووثقه عليهم، وإما الميثاق بأنه إذا بعث رسولا يصدقه بالمعجزات أن يؤمنوا ويتابعوا، وإما أخذ الله العهد على ألا يسفك دم ظلما وألا يكون بغي وفساد وتقطيع أرحام. وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ هو: قطعهم الأرحام وقطعهم موالاة المؤمنين ومن باب أولى موالاة الرسل، فمن قطع ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق فآمن ببعض وكفر ببعض فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل، والأمر: طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ من أظهر مظاهر الإفساد في الأرض الدعوة إلى الكفر

كلمة في السياق

والمعصية والفواحش، والتعويق عن الإيمان. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الخاسر هو: المغبون وهؤلاء مغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب. كلمة في السياق: 1 - في مقدمة سورة البقرة ذكر المتقون، وذكر أنهم هم المفلحون، وذكر الكافرون وأن لهم عذابا عظيما، وذكر المنافقون وأن لهم عذابا أليما، وأنهم اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وهاهنا ذكر أن من اجتمعت لهم صفات بعينها هم الخاسرون، فدل ذلك على أن هذه الصفات التي ذكرت هنا صفات مشتركة بين المنافقين والكافرين، وأنهم جميعا فاسقون، وفي الكلام عن الكافرين ذكر الله عزّ وجل أنه ختم على قلوبهم. وفي الكلام عن المنافقين ذكر الله عزّ وجل أنه ذهب بنورهم. وهاهنا بين الله عزّ وجل أنه لا يضل إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، فعرفنا أنه ما ختم على قلوب الكافرين ولا ذهب بنور المنافقين إلا بسبب من أعمال ارتكبوها وطريق ساروا فيها فاستحقوا من الله ما استحقوا، فهذا أول مظهر من مظاهر صلة الآيتين بما قبلهما. 2 - مقدمة سورة البقرة ذكرت الذين يهتدون بالكتاب، وهم من اجتمع لهم الإيمان بالغيب، والصلاة والإنفاق. وفي هاتين الآيتين ذكر من لا يهتدي بالكتاب، وهم الناقضون للعهد والقاطعون لما ينبغي وصله، والمفسدون في الأرض، وبالتالي فعلى الراغبين في الهداية أن يفعلوا شيئا، ويتركوا شيئا وكل من الشيئين مفصل محدد، وهذا مظهر ثان من مظاهر الصلة بين هاتين الآيتين وما قبلهما، فبعد أن دلنا الله عزّ وجل على الطريق السالك نحو تقواه وعرفنا على ماهية تقواه وبشر المتقين، دلنا على طريق الضلال ليجتنب وذلك من خلال التعريف به جل جلاله. 3 - جاءت هاتان الآيتان في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ورأينا أن الأمر بالعبادة أمر بالمعرفة بالضرورة، وهاتان الآيتان جاءتا معرفتين على الله، ولذلك بدأتا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فعرفتانا على الله عزّ وجل أنه يضل وأنه يهدي وأن إضلاله باستحقاق، وذلك كله تعريف على الله وتصحيح لمفاهيم خاطئة عن الله عزّ وجل، فهناك أناس يؤمنون بالله في زعمهم ولكنهم يعتقدون أن الله لا يتدخل في قضايا عباده، أو في شأن توجيههم، وهناك أناس يتصورون أن الله عزّ وجل لا يهتم بشئون عباده وإذا اهتم فضمن حدود، ويرون أن هناك أمورا لا تليق

الفقرة الثالثة

به، وكل ذلك من بنات أفكارهم، وقد جاءت الآيتان تصحح ذلك كله، ومن ثم فهي تعرف على الله في سياق أمر الله للناس بالعبادة، ومن هاهنا ندرك صلة الآيتين ببداية المقطع، وهذا شئ سنراه كثيرا من كون بداية المقطع لها صلة بكل آيات المقطع. 4 - جاءت هاتان الآيتان بعد الآية التي أمر الله عزّ وجل بها رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات فكان في هاتين الآيتين الإنذار المقابل للتبشير وذلك لمن ضل عن طريق الله عزّ وجل، وهكذا نجد كيف أن الآيتين مرتبطتان بما قبلهما مباشرة ومرتبطتان بمقدمة السورة بأقوى رباط. والآن لننتقل إلى الفقرة الثالثة في المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة. الفقرة الثالثة: المعنى الحرفي: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ؟ الاستفهام بكيف هنا يفيد الإنكار والتعجب فكأنه قال: أتكفرون بالله وفيكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، والأموات: جمع ميت كالأقوال جمع قول وهو عادم الحياة أصلا، وذلك حال كون الإنسان ترابا إذ النطفة من الغذاء، والغذاء من التراب، والحياة الأولى هي حال كون الإنسان في الرحم فما بعد ذلك حتى يموت. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث؛ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تصيرون إلى الجزاء، أو التقدير: ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور. وإنما أنكر اجتماع الكفر مع ما ذكر، لأن ما ذكر يقتضي شكرا وخشية، لا كفرا وإدبارا وغفلة. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما في دنياكم فظاهر إذ ما من شئ إلا وهو لصالح الإنسان بشكل من الأشكال، وأما في دينكم فلما يؤدي النظر في ذلك إلى معرفة بالله وتذكر للآخرة، فملاذ الدنيا تذكر بثواب الآخرة، ومكارهها تذكر بمكارهها ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شئ آخر والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل ثم استوى إلى فوق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معنى تسويتهن: تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور أو إتمام خلقهن، ومن فعل هذا كله كان علمه محيطا فليتق الإنسان الله الذي يعلم كل شئ فيعلم تقلبه في كل حال وسره وعلانيته.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بدأت الفقرة الأولى من هذا المقطع بالدعوة إلى عبادة الله وتوحيده وجاءت الفقرة الثانية فزادتنا تعريفا على الله ثم جاءت الفقرة الثالثة فناقشت الكافرين بالله، وأقامت عليهم الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية. 2 - يلاحظ أن المقطع بدأ بقوله تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وأن الآيتين الأخيرتين منه بدأتا بالتذكير بذلك كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، والآن لنحاول أن نبحث عن حكمة تسلسل فقرات المقطع: في الفقرة الأولى ذكر الطريق إلى الله كاملا، ومن جملة ما ذكر في الفقرة الأولى وجوب معرفة الله وإقامة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه، وجاءت الفقرة الثانية في سياقها الرئيسي فزادت معرفتنا بالله ونفت شبهة عن هذا القرآن، وجاءت الفقرة الثالثة لتناقش الكافرين في كفرهم بالله، وتأخير الفقرة الثالثة فيه إشارة إلى أن باطل الأباطيل الكفر بالله، فقد جاءت الفقرة الثالثة بعد قوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، فمجيء قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ .. بعد ذلك فيه إشارة إلى أن السبب الأول في ضلال الكافرين والمنافقين هو الكفر بالله، وهكذا نجد أن الفقرة اللاحقة تخدم في كل ما سبقها وجميع الفقرات على غاية من التلاحم مع بعضها، والمقطع كله كما رأينا شديد الصلة بالمقدمة. 3 - فوائد 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ننقل هذه النقول: في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك». وفي حديث معاذ: «أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وفي الحديث «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان». وعن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده» وأخرج ابن مردويه والنسائي وابن ماجه عن الطفيل بن سخبرة قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم

تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا: ما شاء الله وحده. وقال ابن عباس في تفسيره قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً «الأنداد هو الشرك. أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها (فلان). هذا كله به شرك» أقول: وقد غرقت كثير من البيئات في مخلات التوحيد الكبرى أو الصغرى، فعلى العلماء أن يتقوا الله فيقوموا بكل ما يحمي جناب التوحيد كأعظم واجب على الإطلاق، ولنختم هذه النقول بهذا النص: أخرج الإمام أحمد بإسناد قال عنه ابن كثير: إنه حسن، عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عزّ وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، وقعدوا على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم؛ فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت؛ فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك مثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى

عنقه وقدموه ليضربوا عنقه وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وأمركم بذكر الله كثيرا، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن به وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس؛ الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ فقال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عزّ وجل المسلمين المؤمنين عباد الله». 2 - قوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم، كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، فكل سورة من القرآن معجزة، لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، بل ما كان في حجم السورة القصيرة من السور الطوال، يقوم به الإعجاز وتثبت به الحجة. ولقد تحدى القرآن العرب- والتحدي للعرب تحد للناس جميعا من باب أولى؛ لأنهم أفصح الأمم والقرآن بلغتهم- مرات عديدة أن يأتوا بشيء مثله، ومع شدة عداوتهم له وبغضهم لهذا الدين عجزوا عن ذلك. ولقد قال تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ولن: تفيد النفي المؤبد في المستقبل أي: ولن تفعلوا ذلك أبدا، وهذه أيضا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين. وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأنى يتأتى ذلك لأحد؛ والقرآن كلام الله خالق كل شئ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز وجوها ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى وسنرى ذلك في هذا التفسير حيث جاءت مناسبة. في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» اهـ. وذلك لأن معجزات الرسل خارجة عن ماهية الوحي أما في رسالة رسولنا فالقرآن نفسه معجزة بل معجزات.

3 - قال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ: «هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين» رواه ابن جرير. وأخرج الإمام مسلم عن ابن مسعود قال: سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى مقرها». أقول: فهذا دليل على أن النار موجودة الآن، وأن الصحابة كان يكشف عن أسماعهم فيسمعون شيئا من أمر الغيب. 4 - سيقت آية إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل، ليس بموضوع للاستنكار والاستغراب؛ لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، وإدناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك، ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور، وإن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة؟ ولما كانت حالة الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله لا حال أحقر منها وأقل، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن، وجعلت أقل من الذباب، وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا فمثل هذا التمثيل لا يستنكر ولا يستبعد، إذ المثل مضروب في محله مسوق على قضية مضربه، كما سيقت الآية لبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور بناظر العقل، إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق، وأن الكفار الذين غلب عليهم الجهل والإثارة الغوغائية، إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار، غوغائية وتشويشا دون مبرر. فلم يزل الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا: أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأسمع من قراد، وأضعف من فراشة، وآكل من السوس، وأضعف من البعوضة، وأعز من مخ البعوضة، والله جل شأنه خاطب البشر من حيث ما ألفوه من فنون الخطاب، فبدلا من أن يشكر الإنسان الله على ما قرب إليه من معان، كفر!! وما أكثر ما نرى المحجوج والمبهوت يدفع الواضح وينكر اللائح. 5 - ذكر الله عزّ وجل ثلاث صفات استحق بها- من استحق- الضلال وهي صفات مشتركة في الكافرين والمنافقين، والحديث الشريف ذكر أن للمنافقين ثلاث

خصال، ولأبي العالية جمع لطيف بين هذه الصفات جميعا يقول أبو العالية فيما ذكره ابن كثير: «ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا». وفيما ذهب إليه أبو العالية دليل لما ذهبنا إليه أن الآية في الفقرة الثانية شملت الكافرين والمنافقين، ومن درس حال من تنطبق عليهم صفات المنافقين المتقدمة في مقدمة السورة قبل وصولهم إلى حكم البلاد في عصرنا وبعد الوصول إلى الحكم عرف مصداق ما ذكره أبو العالية. 6 - في قوله تعالى عن الفاسقين في الفقرة الثانية من المقطع .. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قال ابن جرير: «الخاسرون جمع خاسر وهم: الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل من تجارته بأن يوضع من رأسماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسرا بحرمان الله إياهما رحمته التي خلقها لعباده في القيامة وهم أحوج ما كانوا إلى رحمته». وقال الضحاك عن ابن عباس «كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب» أقول: وهذا شئ مهم جدا في فهم النصوص فكثير من الناس غلطوا فكفروا عصاة المؤمنين بسبب عدم فهم مثل هذه الدقائق. 7 - قال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ قال: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى، فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً .. نقل هذا التفسير ابن كثير وهو نص مهم في تفسير الآيتين، لأن بعض المفسرين فسر الموتة الأولى: بأنها عند ما كان الإنسان نطفة فاستغل ذلك بعض المضللين بأن أصبح يقول: إن النطفة فيها حياة فكيف تعتبر ميتة بينما تفسير ابن عباس يجعل الموتة الأولى مرحلة ما قبل النطفة مرحلة الترابية، إذ ذرات النطفة قبل أن تتخلق كانت غذاء، وقبل ذلك كان

الغذاء ترابا وهواء وماء، وذلك كله عديم حياة وإذن فهذا التفسير عن ابن عباس أبعد عن الإشكال. 8 - استدل الكرخي وأبو بكر الرازي بقوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل ومنه القاعدة: «الأصل في الأشياء الإباحة» وهذا مبحث من مباحث علم أصول الفقه. 9 - النصوص القرآنية قطعية الدلالة في أن السموات والأرض خلقت في ستة أيام، ولكن لم يرد نص في الكتاب والسنة يوضح ماهية هذه الأيام الستة، وماذا تم في كل واحد منها على التعيين، نقول هذا لأن علماء الكون لهم كلام طويل في موضوع تطور الأرض حتى وصلت إلى ما هي عليه فحتى لا يظن ظان أن هناك كلاما قطعيا في الكتاب والسنة حول هذا الشأن فيعارض به الأبحاث العلمية أحببنا الإشارة إلى هذا الموضوع. كل ما في الأمر أن هناك كلاما عن أهل الكتاب في هذا الموضوع، وهو كلام متناقض متهافت ساقط علميا، وفي كل الأحوال لا ينبغي أن يحسب على الكتاب والسنة أو على الإسلام بشكل عام، وهناك قضية موهمة وهي أن الإمام مسلما روى حديثا في هذا الموضوع، فلننقل الحديث وتعليق ابن كثير عليه لنعرف الخطأ في هذا الشأن: عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» قال ابن كثير: «وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب (أي كعب الأحبار اليهودي الأصل ثم أسلم)، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا وقد حرر ذلك البيهقي» اهـ كلام ابن كثير. أقول: والنص إذا فهمناه على أنه شرح للأيام الستة وما حدث فيها فإنه يناقض القرآن لأن اليومين الأخيرين من الستة تم فيهما خلق السموات كما نص القرآن على ذلك في سورة فصلت ولهذا وغيره أنكره المحدثون وعلى فرض صحة رفعه، فإنه يحمل على تسلسل الخلق دون أن يعتبر تفسيرا للستة التي خلق الله بها السموات والأرض، وعلى ألا يعتبر ذلك

4 - فصول شتى

تسلسلا متواليا بل أن يفهم على أنه في سبت من السبوت تم خلق التربة ثم في أحد من أيام الأحد فيما بعد تم خلق الشجر، والملاحظ أن هذا النص إذا فهم في إطاره الحرفي وعلى أنه تفسير للأيام الستة فإنه لا يتفق مع القرآن، ولا حتى مع رواية ما يسمى الآن بالتوراة، لأن التوراة المحرفة الحالية تزعم أن الله فرغ من الخلق يوم الجمعة، وأنه لم يعمل شيئا يوم السبت، وعلى كل فقد رأيت ترجيح المحدثين لاعتبار النص كتابيا وليس حديثا شريفا. وهناك نص عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكان قبل إسلامه من أحبار اليهود يقول: «إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة». ولنا على هذه الرواية أكثر من عودة فالأمر يحتاج إلى بحث طويل ولنا عنده وقفات. 4 - فصول شتى فصل في السموات: هناك ألفاظ لها في الأصل معانيها اللغوية، ويعطيها الشارع معان شرعية، وأحيانا يستعملها الشارع بمعناها اللغوي، وأحيانا بمعناها الشرعي الخاص الذي أعطاها إياه، وهذا يقتضي دقة في الفهم عن الشارع. مثال ذلك: كلمة السماء فهي في أصل اللغة تدل على العلو، والشارع يستعملها أحيانا بهذا المعنى، ثم هي في هذا المعنى تستعمل للدلالة على العلو القريب وأحيانا على العلو كله، والشارع حدثنا عن السموات السبع وهي من حيث إنها في جهة العلو تتفق مع أصل الوضع اللغوي، ولكنها في اصطلاح الشارع تدل على شئ بعينه من مجموع هذا العلو. في مجموع هذه الأمور زلت أقدام وتزل أقدام ويقع خطأ كبير، وفي المقطع الذي مر معنا وردت كلمة السماء أربع مرات: وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وفي اجتهادي أن اللفظ الأول للسماء في الآية الأولى يراد به جهة العلو كلها، واللفظ الثاني للسماء في نفس الآية يراد به السماء القريبة أي: منطقة تشكل السحاب. وأما اللفظ الأول للسماء في الآية الثانية فهو يوافق اللفظ الأول لها في الآية الأولى وأما السموات السبع فيراد بها السموات في الاصطلاح الخاص. بعد هذا العرض السريع لهذا الموضوع فلنتحدث عن بعض مقولات علماء الطبيعة في عصرنا: يقدر علماء الطبيعة أن عمر مجرتنا التي تشكل مجموعتنا الشمسية جزءا منها حوالي

عشرة مليارات من السنين، بينما يعتبرون أن عمر الأرض والشمس حوالي أربع مليارات ونصف من السنين، فعمر الأرض إذن أقل بكثير من عمر المجرات، فالسماء بمجموعها إذن أقدم من الأرض، ونتيجة لهذا فإن بعض الدارسين وقع في حيرة، بسبب أن القرآن يذكر أن السموات خلقت بعد الأرض، وسبب الحيرة أنهم لم يفرقوا بين السماء بالمعنى الأعم والسموات السبع بالمعنى الأخص، فالنص القرآني يثبت أن السموات السبع بالمعنى الأخص قد خلقت بعد الأرض، ولكن القرآن يثبت كذلك أن الأرض قد خلقت بعد السماء بالمعنى الأعم. لقد زعم بعض الباحثين أن السموات السبع هي هذه المجرات أو هي الكواكب وهذا الذي أوقعهم في الخطأ مرتين ومن أجل وضع الأمور في نصابها نقول: تستعمل كلمة السماء في القرآن على أكثر من استعمال، فأحيانا تطلق على ما علا، فيدخل في ذلك الجو والنجوم والسموات والمجرات، وأحيانا تذكر ويراد بها السموات السبع التي هي سكن الملائكة، وإليها تعرج أرواح المؤمنين وإليها كان معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي في أعلاها الجنة، وسقفها عرش الرحمن، وعدم التفريق بين المعنى الاصطلاحي للسماوات وهي هذه السبع وبين السماء مطلقا كما هو معناها في اللغة مزلة قدم في فهم كتاب الله، والسموات الواردة في قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، إنما هي السموات في المصطلح الذي ذكرناه، وهي سماوات يجب أن نؤمن بها فمن أنكرها كفر، ولكن هل هي غيبية أو لا؟ أو هي فوق المجرات كلها أو لا؟ هذه كلها قضايا تحتملها النصوص وعبارات العلماء، ولا يترتب عليه كفر أو إيمان وسنتعرض له في محله ولا يؤثر على العقيدة الجهل به، ولكن هناك قضية تفرض نفسها في عصرنا وهي أن ظاهر الآية هنا- ويؤكد هذا المعنى الآيات الواردة في سورة فصلت- يذكر أن السموات السبع خلقت بعد الأرض، بينما قال الله تعالى في سورة النازعات: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً، أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فههنا ذكر دحو الأرض بعد خلق السماء والذي أتجه إليه في هذا الموضوع: أن السموات السبع التي ذكرنا مواصفاتها خلقت بعد الأرض، أما السماء ككل أي هذه المجرات فإنها خلقت قبل الأرض ويؤيد هذا الاتجاه أن الله- عزّ وجل- قد ذكر أن خلق السموات والأرض قد كان قبله شئ آخر وذلك قوله تعالى في سورة هود وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وبهذا

فصل في إعجاز القرآن ومعجزاته

الاتجاه الذي اتجهناه نكون قد جمعنا بين النصوص، وبعد أن سجلت هذا الاتجاه في مسودة التفسير رايت أن الألوسي في تفسيره قد نقل عن بعض الإسلاميين ما يشبه هذا الاتجاه يقول في الصفحة (217) من الجزء الأول من تفسيره. «والذي يفهم من بعض عبارات القوم ... أن المحدد ويقال له سماء أيضا مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان» أقول: هذا النقل يحتاج إلى نقاش في بعض أجزائه ولكنه يؤيد أصل ما اتجهنا إليه، وينبغي أن يكون واضحا أن القرآن يثبت قدم المجرات على تشكل الأرض، وهذا من أعظم المعجزات التي تدل على أن هذا القرآن من عند الله. فصل في إعجاز القرآن ومعجزاته: رأينا أن الإعجاز شئ مشترك في القرآن كله، ففي أصغر سورة أو بقدرها يقوم الإعجاز، ويثبت التحدي، وتقوم حجة الله عزّ وجل على الخلق بأن هذا القرآن من عند الله، ولكن هناك معجزات أخرى في هذا القرآن زائدة على أصل الإعجاز، إن كل معنى في القرآن يستحيل أن يكون أثرا عن علم بشري، سواء كان حديثا عن ماض أو آت أو سر من أسرار هذا الكون يشكل في حد ذاته معجزة تزيد على مجرد الإعجاز، إن الإعجاز حاصل في القرآن سواء وجد إخبار عن مستقبل أو لا، وجد كلام عن قضية علمية أو لا، فإذا وجد شئ من ذلك وجدت معجزة زائدة على الإعجاز الموجود في سور القرآن كلها، وهذا معنى سيتضح شيئا فشيئا، وإنما نبهنا على ذلك لأن كثيرا من المؤلفين يتساهلون في التعبير عن هذه الأمور ولا حرج في ذلك، ولكنه كلام تقتضيه دقة العرض العلمي لهذا القرآن الكريم، وبهذه المناسبة نقول: إن من أهم واجبات الدعاة في هذا العصر أن يعرفوا معجزات القرآن، وأن يمتلكوا القدرة على فهم إعجازه، وأن يحسنوا العرض لهذا كله، فما من شئ أقرب من إقامة الحجة وأكثر تأثيرا في النفس من مثل هذا، إن سيرنا في هذا الطريق وامتلاكنا ناصية البيان فيه يختصر لنا الطريق في الدعوة إلى الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالإسلام بآن واحد. فصل في قضايا عقدية: مر معنا في هذا المقطع قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فدل ذلك على أن الله عزّ وجل هو الذي يخلق الهداية والضلال، على أن ذلك له أسبابه كما رأينا

فصل في بعض دروس مقدمة السورة والمقطع الأول من قسمها الأول

وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. وهذا يؤيد ما اتجه إليه أهل السنة والجماعة في مسألة خلق الأفعال في أنهم يثبتون الأسباب ويسندون الخلق لله، فكل شيء بعلمه جل جلاله وإرادته وقدرته ابتداء واستمرارا، ولقد رأينا النقول التي نقلناها بمناسبة قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وكيف أن الصحابة اعتبروا من مخلات التوحيد الاعتماد على الأسباب أو نسبة الأفعال إليها دون ملاحظة أن ذلك لم يكن إلا بالله. وأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان هو التصديق، ويعتبرون العمل بالإسلام علامة كمال، ومن ثم فلا يحكمون بكفر من صدق إذا أخل إلا إذا كان في تصديقه خلل، أو أتى ناقضا يخل بأصل الإيمان، ومن أدلتهم على ذلك قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فالعطف في اللغة العربية يقتضي المغايرة، ومن ثم فإن العمل الصالح غير الإيمان. ولعل أحدا من الناس يضايقه ذكر مثل هذه المعاني ولهؤلاء نقول: إننا لسنا أمام خيار، فلقد ثارت هذه المسائل في التاريخ وأثيرت وإما أن نقدم للمسلمين اليوم خلاصة التحقيق فيها ليكون عند المسلم مناعة ضد الخطأ، أو نسكت فيقع المسلم في الاتجاهات الخاطئة، ونحيل المسلم على رسالتنا «جولات في الفقهين الكبير والأكبر» ليرى فيها ضرورة ما ذكرنا. فصل في بعض دروس مقدمة السورة والمقطع الأول من قسمها الأول: رأينا في المقطع أن الله عزّ وجل أقام الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وأقام الحجة على وجوب عبادته وتوحيده من خلال ظاهرتي الخلق والعناية، وعرفنا على أسباب الضلال ومظاهره، وعرفنا على طريق الهداية ومعالمها، وطرق سمعنا خلال ذلك قضية التقوى وقضية العبادة كأهم قضيتين على الإطلاق، ونحب هنا أن نضع بعض الأطر لنعرف محل قضية التقوى والعبادة في مجموع دين الله. 1 - ما من قضية من قضايا التكليف إلا وقد بينها الله عزّ وجل في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بما أحال عليه الكتاب والسنة من أصول تستنبط منها أحكام الله، وأن مجموع ذلك وغيره إنما هو إسلام أو من الإسلام. 2 - إن أركان الإسلام الذي يقوم عليه بناؤه خمسة، وقد ذكرت الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة ثلاثا منها.

وباختصار نقول

3 - إن مجموع ما يطالب به المسلم من مجموع الإسلام هو التقوى حقيقة وطريقا والتقوى هي التي توصل إلى الشكر، ويدخل فيها العمل بالإسلام والتحقق بالإيمان والارتقاء إلى مقام الإحسان، وقد فصلنا هذا كله في كتابنا «تربيتنا الروحية». وباختصار نقول: إن المسلم مكلف بأن يعرف الإسلام، وأن يعرف شموله، وأن يؤمن به، ومكلف بأن يأخذ حظه من العمل بالإسلام، وبأن يتحقق بالإيمان، وبأن يسعى للإحسان، وبأن يتحقق بحقيقة التقوى، وأن يصل بذلك إلى مقام الشكر، وهذه معان نعرضها هنا باختصار وسنراها كثيرا فيما بعد، وإنما أحببنا هنا أن نلفت النظر إلى مجمل ما درسناه بالنسبة لمجموع النصوص، ولعله قد وضح لدينا أنه لكي لا نكون كافرين ولا منافقين: فإن علينا أن نتذكر عهودنا مع الله ولا ننقضها، وأن نصل ما أمر الله به أن يوصل من رحم وأن نواد أهل الإيمان ونواليهم، وأن علينا ألا نفسد في الأرض بصد عن سبيل الله أو بدعوة إلى كفر، وأن علينا أن نؤمن وأن نعمل صالحا، بإقام الصلاة والإنفاق والعبادة واتباع كتاب الله، وأن نتذكر- إذا وقع في قلوبنا وسوسة- هذا القرآن وإعجازه، وظواهر هذا الكون التي تدلنا على الله، وأن نتذكر أن أمامنا نارا أعدها الله للكافرين، وسنرى كيف أن هذه المعاني كلها- مما ورد هاهنا ومما سيرد في سورة البقرة- ستفصل فيه سور كثيرة. كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الأول: مر معنا حتى الآن من سورة البقرة مقدمتها والمقطع الأول من القسم الأول منها، وقد رأينا صلة المقدمة بهذا المقطع وعمق الارتباط بين المقدمة وبين هذا المقطع، ورأينا صلة ذلك كله بفاتحة الكتاب. هذا كله قد رأيناه، والآن نحب أن نذكر شيئا هو: أن هذا المقطع هو أول مقطع في القسم الأول من أقسام سورة البقرة، وإذ كان هو المقطع الأول، فإن صلته ببقية مقاطع القسم صلة خاصة حتى ليكاد يكون كل مقطع من المقاطع التالية يعمق معاني تعرض لها المقطع بشكل من الأشكال، وسنرى ذلك كله تفصيلا فلننتقل بعد هذه الإشارة إلى المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة، وفيه قصة آدم، وقد وصلنا إليها بعد أن وضح لدينا: «أن الإنسان سيد هذه الأرض ومن أجله خلق كل شئ فيها كما تقدم ذلك نصا، فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شئ مادي ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا ... فهذه الماديات كلها مخلوقة أو مصنوعة من أجله، من أجل تحقيق إنسانيته، من أجل تقرير وجوده الإنساني ... ».

المقطع الثاني من القسم الأول

«وأن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها، وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها، وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج هما اللتان تقودان الإنسان وراءهما ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر». عن الظلال. المقطع الثاني من القسم الأول: يمتد هذا المقطع من الآية (30) إلى نهاية الآية (39) وهذا هو: [سورة البقرة (2): الآيات 30 الى 39] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

1 - كلمة عامة في هذا المقطع وسياقه

1 - كلمة عامة في هذا المقطع وسياقه: - يقص الله عزّ وجل علينا في هذا المقطع قصة آدم (عليه السلام) والحكمة في خلقه وكرامته على الله عزّ وجل، وتمرد الشيطان بسببه وإغواء الشيطان لآدم وزوجه وإهباط الله عزّ وجل آدم وزوجه والشيطان إلى الأرض والقاعدة التي قررها لهم حين الإهباط فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. - جاءت قصة آدم بعد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فبعد أن أخبرنا الله عزّ وجل عن تهيئة الأرض لنا، أخبرنا عن قصة خلقنا وما ركبه فينا من استعدادات؛ لاحظ الصلة بين قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وبين: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لاحظ ذكر الأرض في كل من الآيتين فإذا ما لاحظت الصلة المباشرة بين قصة آدم وبين الآية التي سبقتها فلنحاول أن نرى صلة هذا المقطع بما قبله: بدأت سورة البقرة بكلام عن المتقين والكافرين ومما ذكرته: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لاحظ صلة ذلك

2 - التفسير

في القاعدة الكلية التي تختم بها قصة آدم: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فبعد أن قرر الله عزّ وجل في المقدمة ما قرر، تأتي قصة آدم فكأنها تقول: إن اتباع هداي هو شرطي عليكم من الابتداء، ومن ثم فقصة آدم تعمق قضية الاهتداء بكتاب الله، وتحذر من قضية المخالفة والكفر، وهي في الوقت نفسه تعمق معنى الصراط المستقيم والسير فيه، ومعنى تنكب صراط المغضوب عليهم والضالين الذي ورد في آخر فقرة من الفاتحة. - رأينا أنه قد جاء بعد مقدمة سورة البقرة مقطع: في بدايته أمر ونهي. الأمر: هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. والنهي هو قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي قصة آدم نجد أمرا ونهيا. الأمر هو اسْجُدُوا لِآدَمَ. والنهي هو وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ. وقد حدثت مخالفة للأمر والنهي فكان العقاب، فقصة آدم جاءت لتعمق ضرورة الالتزام بطاعة الأمر واجتناب النهي. وفي هذا القدر من ذكر الصلة بين قصة آدم وما سبقها من سورة البقرة كفاية وللكلام تتمة فلننتقل إلى ذكر التفسير: 2 - التفسير: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (إذ) بإجماع المفسرين متعلقة بفعل أمر تقديره (اذكر) فإن يأمرنا الله عزّ وجل بعد ما مر من مقدمة السورة والمقطع الأول بتذكر هذه القصة، فذلك دليل على ارتباط هذه القصة بما قبلها، وورودها ضمن سياق متسلسل يخدم المعاني التي سبقتها كما رأينا، وكما سنرى. والمراد بالخليفة في الآية: آدم وذريته ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك مضر وهاشم، وهل هو خليفة عن الله؟ أو خليفة عن الجن؟ أو خليفة عن خلق آخرين؟ أقوال للمفسرين أقواها الأول وليس هناك نص قطعي في الموضوع، والخليفة في اللغة: من خلف فلان فلانا في

[سورة البقرة (2): الآيات 31 إلى 32]

أمر إذا قام فيه مقامه بعده. عن ابن مسعود: أن الله قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. قالُوا أي الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. أخبرهم بذلك ليسألوا هذا السؤال فيجابون بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلاف الإنسان قبل كونه، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولا يصدر منا شئ من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ: أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وإنما عرفوا أن الخليفة الجديد سيفسد في الأرض ويسفك الدماء إما بإخبار من الله تعالى، أو من جهة اللوح، أو قاسوا ما سيكون على شئ معروف لديهم من قبل، ومعنى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي ننزهك ونبرئك من كل نقص وعيب متلبسين بالشكر لك، ومعنى: نُقَدِّسُ لَكَ أي ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ علم آدم أسماء المسميات كلها، فأراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا بعير، وهذا سحاب، وهذه مجرة، وهذه شمس، وهذا نجم، حتى القصعة والمغرفة، ثم عرض المسميات على الملائكة وطالبهم أن يخبروه عن أسمائها إن كانوا صادقين في ما اتجهوا إليه أنه يستخلف مفسدين سفاكين للدماء، وفيه رد عليهم، وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله

[سورة البقرة (2): آية 33]

أن يستخلفوا، فما كان جوابهم إلا أن قدسوه ونزهوه أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم فهو العليم بكل شئ، الحكيم في خلقه، وأمره، وفي تعليمه، وعطائه ما يشاء ومنعه ما يشاء، له الحكمة في ذلك والعدل التام .. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أمر آدم أن يخبرهم بأسماء الأشياء كلها، فلما ظهر فضل آدم عليه السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، ذكرهم بأنه جل جلاله يعلم الغيب الظاهر والخفي ويعلم ما يظهرونه في ألسنتهم وما كانوا يخفونه في أنفسهم، وما أظهروه هو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها .. والذي كانوا يكتمونه هو ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته ومن المعتاد تعميم الخطاب وإرادة البعض. هذا الذي رجحه ابن جرير. وبعد أن أرى الله عزّ وجل الملائكة مزية آدم، أمرهم بالسجود له وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ هذه كرامة عظيمة من الله عزّ وجل لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، والجمهور: على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض. وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح، إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس، وكان سجود التحية جائزا فيما مضى، ثم نسخ بشريعتنا، وإبليس من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور، ولأنه أبى وعصى واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا يستكبرون عن عبادته، ولأن الله عزّ وجل قال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ولا نسل للملائكة، ودخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، قال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير، وعن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس فلذلك قال تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ (سورة الكهف)، وللمفسرين اتجاهات أخرى في هذا المقام ولا طائل في ذلك، وقد حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله

[سورة البقرة (2): آية 35]

من الكرامة وقال: أنا ناري وهذا طيني، فامتنع عن السجود كبرا، فكان بدء الذنوب الكبر، فاقتضى ذلك طرده وإبعاده عن جنات الرحمة وحضرة القدس، ومعنى قوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا والجنة هي نفسها دار الثواب وقالت المعتزلة: كانت بستانا في الأرض لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها والجواب: إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم إليها ليلة المعراج ثم خرج منها، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد قال ابن جرير: «نهي آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل كانت شجرة البر، وقيل كانت شجرة العنب، وقيل كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به» اهـ. وقد بين الله عزّ وجل لآدم وزوجته أنهما إذا قاربا الشجرة كانا من الظالمين، لأنه لا ظلم للنفس أعظم من معصية الله، ولا ضرر عليها أعظم من ذنبها، فأي ظلم أكبر من أن تتجاوز ما حد الله لك بعد كل ما أعطاك بلا مقابل منك؟ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي عن الشجرة أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، أي فأصدر الشيطان زلتهما عنها، أو عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. وزلة آدم بالخطإ في التأويل بحمل النهي على التنزيه دون التحريم. وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال بعضهم: لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية، وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعاتبهم ربهم وله عتابهم، أما نحن فقد أدبنا الله بأن نتأدب معهم، وذهب بعضهم أن ما فعله آدم كان قبل النبوة، وبالتالي فلا خدش لموضوع العصمة فيما فعله آدم عليه السلام. فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في (عنها).

[سورة البقرة (2): آية 37]

والسؤال: كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ سورة (ص) والجواب: إنه منع من دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وبعضهم ذهب إلى أن الوسوسة مستطاعة له على البعد، والرواية الإسرائيلية تذكر الحية كواسطة في الدخول وسنرى قيمة الروايات الإسرائيلية فيما بعد. وَقُلْنَا: اهْبِطُوا الهبوط النزول والخطاب على رأي بعضهم لآدم وحواء وإبليس وبعضهم قال: الخطاب لآدم وحواء لأن إبليس أمر بالهبوط من قبل، والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ على الوجه الأول فالمراد به عداوة إبليس للإنسان وعلى الوجه الثاني فالمراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ المستقر إما موضع الاستقرار أو هو الاستقرار نفسه وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ المتاع: التمتع، والحين: إما يوم القيامة أو الموت فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها، أي إن الله عزّ وجل ألهمه إياها والكلمات هن: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، (سورة الأعراف) فَتابَ عَلَيْهِ. أي فرجع عليه بالرحمة والقبول واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعا له. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. التواب: الكثير القبول للتوبة، والرحيم: الكثير الرحمة. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً. أي مجتمعين، وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد، أو لما نيط به من زيادة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً إذ هي القاعدة الكلية التي سيكون عليها مدار فعل الله جل جلاله بهم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الهدى هنا هو: الرسول أو الكتاب أو الوحي، أو هو: الكتاب أو الوحي بواسطة رسوله فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الاتباع يكون بالقبول له والإيمان به والعمل. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من أمر الدنيا وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا. أي: جحدوا الهدى وكذبوا أهله مع مجيئهم بالآيات أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ. أي: أهلها ومستحقوها هُمْ فِيها خالِدُونَ. أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.

3 - فوائد

3 - فوائد (أ) أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أقول: وهو نص في كون آدم لم يتطور عن شئ سبقه، ولنا عودة على هذا الموضوع، وأخرج مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: «ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» وقال الحسن: «لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا» وقال أبو موسى: «إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شئ، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير». أخرج الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان؟ قال: نعم. أنبيا رسولا يكلمه الله قبيلا» أي: عيانا. (ب) يلاحظ من قصة آدم وموقف الملائكة من خلقه، كيف أن العلم المحيط تنكشف به من الأسرار والحكم ما لا ينكشف بغيره، وعلم الله أزلي ليس كمثله شئ، ولكن من قصة آدم نأخذ درسا وهو أنه كلما ازداد العلم كان الحكم أصح ففي حياتنا الدنيوية نجد كثيرين ليسوا مرشحين لإصدار أحكام في كثير من القضايا لعدم إحاطتهم بها، ومن ثم فإن أحكامهم تبقى قاصرة وهذا يجعلنا- وخاصة في أمر بناء الأمم واعتماد ما ينبغي اعتماده في شئون الحكم والعامة والخاصة- نتأنى كثيرا فلا نصدر حكما إلا بعد استيعاب شامل للقضية التي بين أيدينا. (ج) يلاحظ أن الملائكة عند ما سئلوا عما لا يعلمون كان جوابهم سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا وهذا أدب رفيع أن يقول المسئول عن شئ لا يدريه: لا أدري. قال القرطبي: وذكر الهيثم بن جميل قال شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال: في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري» وهو أدب نفيس. فقد اعتاد

الكثيرون أن يهجموا على الحديث في كل شئ دون أن يكون عندهم علم فيه، وإنما هي الظنون أو الأوهام. (د) يلاحظ من قصة آدم أن استعداد الإنسان للعلم هو سر استخلافه وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها .. وفي عصرنا تبينت لنا آفاق هذا السر كثيرا حيث نرى ما استطاع الإنسان أن يكتشفه من أسرار هذا الكون، ولكن للأسف فإن الإنسان سخر هذا من أجل التدبير لسفك الدماء وإفساد الأرض، وكل ذلك بسبب غياب المسلمين عن حكم هذا العالم بكلمة الله، ولكن أليس من المؤسف أن تكون حصة المسلمين منذ قرون في استكشاف هذا الكون ومعرفة أسراره أقل من غيرهم!؟ وكان هذا من عوامل سيطرة الكافرين، إن على المسلمين أن يعودوا رجال قمة في كل اختصاص كوني. (هـ) يلاحظ من خلال قصة آدم أن الله عزّ وجل أبرز للملائكة مزية آدم ثم أمرهم بالسجود، وكانت المزية هي العلم، وهذا درس كبير في موضوع اختيار القيادات، وهو شئ كنا نراه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يري المزية ثم يؤمر كما فعل مع الوفد الذين أمر عليهم رجلا من أحدثهم سنا وليس من أشرفهم لأنه يحفظ سورة البقرة، إن أهم قضية ينبغي أن تلاحظ في التقديم والتأخير هي العلم في القضية التي من أجلها يكون التقديم والتأخير، وبمناسبة قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها يقول النسفي: أفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي (أي التفرغ) للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟! (و) وفي قصة آدم من العبر الكثير، فمن فهمها وأخذ عبرها استقام أمره، ولذلك أمرنا الله أن نتذكرها فهي قصة البداية التي ينسحب أثرها على الزمان كله، وهي قصة الفطرة، ومن عبرها امتحان الإنسان بالشيطان وامتحان الناس بعضهم ببعض، وهذا يقتضي من الإنسان العاقل أن يحذر لينجح في الامتحان، ولا نجاح إلا بملازمة الأمر ومجانبة النهي، ومن عبرها أن الله عزّ وجل عرف الإنسان فيها على طريق الخلاص من الذنب إذا وقع فيه وذلك بالتوبة. قال ابن عباس ذاكرا ما تم بين آدم وربه بعد الخطيئة قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم». ومن عبرها أن الكبر بداية الخطأ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» ثم عرف الكبر بأنه «غمط الناس وبطر الحق». ومن

وقال الشاعر

عبرها أن امتحان الله رفيق فقد أعطى آدم الجنة ومنعه القليل، وأباح لنا الكثير النافع، ومنعنا القليل الضار، أباح لنا الطعام وحرم علينا لحم الخنزير والميتة والدم، أباح لنا الشراب وحرم علينا الخمر، فالعاقل من وقف عند الحدود. ومن عبرها أن الشهوات الحسية والمعنوية باب الخطيئة، فإن حرص آدم على الخلود وطاعته لشهوة الطعام كانا سبب الخطيئة، وهذا دأب الإنسان في كل العصور، فهو إما مغلوب بشهوة العز والمجد والرئاسة، وإما مغلوب بشهوة الفرج والبطن، فيسلك في هذا أو ذاك غير طريق الله إلا القليل. نسأل الله أن يجعلنا من أهله وأن يحفظنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. قال فتح الموصلي «كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها». وقال الشاعر: يا ناظرا يرنو بعيني راقد … ومشاهدا للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي … درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربك حين أخرج آدما … منها إلى الدنيا بذنب واحد؟ وقال الرازي: «إن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على على وجل شديد من المعاصي». ويقول صاحب الظلال: «لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه، كانت تدريبا له على تلقي الغواية وتذوق العاقبة وتجرع الندامة ومعرفة العدو والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين، إن قصة الشجرة المحرمة ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة والندم وطلب المغفرة إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة، لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا». (ز) ومن دروس قصة آدم «أن الخطيئة فردية والتوبة فردية في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض، ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده- كما تقوله نظرية الكنيسة- وليس هنالك تكفير لاهوتي كالذي تقول به الكنيسة: إن عيسى عليه السلام (ابن الله بزعمهم) قام بصلبه تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم، كلا،

4 - فصول شتى

خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة، وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة، تصور مريح صريح يحمل كل إنسان وزره، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط» عن الظلال. 4 - فصول شتى: فصل في الإسرائيليات: فيما يتعلق بقصة آدم هناك ثلاثة تأثرات تأثر بها بعض الإسلاميين خلال العصور من الإرث الإسرائيلي، فأدخلوها في كتبهم، سواء كانت هذه الكتب كتب تفسير أو كتب تاريخ. 1 - أن الجنة التي أهبط منها آدم كانت جنة أرضية. 2 - أن الحية هي التى كانت الواسطة في إدخال إبليس ليوسوس لآدم. 3 - تاريخ الحياة البشرية وقدر الزمن ما بين آدم وبيننا. وهذا يقتضي منا أن نقف وقفة عند الإسرائيليات بشكل عام: في تحقيق كتبه موريس بوكاي الفرنسي كجزء من دراسة خرجت تحت عنوان: «دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة» يذكر كيف أن بحاثة القرن الثامن عشر لاحظوا أن بعض نصوص سفر التكوين- وهو السفر الأول فيما يسمي الآن بالتوراة- تذكر اسم يهوه، وبعضها تسميه بألوهيم، فاستدلوا بذلك على أن سفر التكوين يحتوي نصين جنبا إلى جنب قد أدمج أحدهما بالآخر، ثم إن إيخهورن لاحظ نفس الملاحظة بالنسبة للأسفار الأربعة الأخرى، وأن إيخهورن لم يكتف بذلك بل لاحظ أن أحد المصادر ينقسم إلى قسمين أيضا. ثم يقول موريس بوكاي: أما بحاثة القرن التاسع عشر فقد كرسوا جهدهم في البحث عن مصادر أكثر دقة وفي (1854) كانت هناك أربعة مصادر مقبولة وتسمى بالأسماء التالية: الوثيقة اليهوية، والوثيقة الألوهيمية وسفر التثنية، والنص الكهنوتي، وقد أفلح الباحثون في إعطائها أعمارا: 1 - تقع الوثيقة اليهوية في القرن التاسع قبل الميلاد وقد حررت في مملكة الجنوب. 2 - أما الوثيقة الألوهيمية فهي أقرب تاريخيا وقد حررت بإسرائيل.

3 - وأما سفر التثنية فينتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد في رأي أدموند جاكوب. وهناك بحاثة آخرون مثل الأب ديفويرون أنه ينتمي إلى عصر جوزياس (أي القرن السابع قبل الميلاد). 4 - وأما النص الكهنوتي فينتمي إلى عصر النفي أو ما بعد النفي أي القرن السادس قبل الميلاد. بهذا إذن يمتد تحرير نص أسفار موسى الخمسة على ثلاثة قرون بأقل تقدير، ولكن المشكلة أكثر تعقدا من هذا ففي (1941) استطاع أ. لودز أن يميز في الوثيقة اليهوية ثلاثة مصادر وفي الوثيقة الألوهيمية أربعة، وفي سفر التثنية ستة، وفي النص الكهنوتي تسعة». وبعد كلام يقول موريس بوكاي: «وبهذا يتضح تكون كتاب أسفار موسى الخمسة من أقوال موروثة مختلفة جمعها- بشكل يقل أو يزيد حذقا- محررون وضعوا تارة ما جمعوا جنبا إلى جنب، وطورا غيروا من شكل هذه الروايات بهدف إيجاد وحدة مركبة تاركين للعين أمورا غير معقولة، وأخرى متنافرة كان من شأنها أن قادت المحدثين إلى البحث الموضوعي عن المصادر». والملاحظ أن الرواية الكهنوتية التي كتبت حوالي القرن السادس قبل الميلاد، هي التي فيها تفصيلات عن ذكر بداية الخلق، وعن ذكر تاريخ البشرية، وفيها فكرة أن الله تعب أثناء خلق العالم فاستراح، وهي قضايا يسهل على الباحث إما ردها مباشرة أو ردها من خلال أدنى عرض لمعارف الإنسان الحديثة. وقد قام موريس بوكاي في كتابه بامتحان قضيتين مما ذكر في هذه الأسفار، وهما قضية خلق العالم وقضية عمر الإنسان على ضوء المعارف الحديثة فلاحظ أن عمر العالم بالنسبة لسفر التكوين كان عام (1975) ميلادية هو (5736) سنة قمرية بينما التقدير العلمي لتشكل النظام الشمسي هو أربع مليارات ونصف من السنين. كما لاحظ أن تسلسل ظهور الأشياء لا يتفق مع أي دراسة علمية لظهورها على أرض الواقع. وتاريخ الإنسان كما يذكره سفر التكوين هو نفس الشئ بالنسبة لتاريخ خلق العالم فهو لا يعدو ستة آلاف سنة قمرية بينما نجد المعطيات العلمية تقول: «يمكن أن نؤكد اليوم وجود أطلال لإنسانية مفكرة وعاملة ويحسب قدمها بوحدات تتكون من عشرات من ألوف السنين».

فصل في الشيطان

ويقول موريس بوكاي: «هناك إذن استحالة اتفاق واضحة بين ما يمكن استنتاجه من المعطيات الحسابية لسفر التكوين الخاصة بظهور الإنسان على الأرض، وبين أكثر المعارف تأسسا في عصرنا». أقول: وقد مر معنا في مقدمة هذا التفسير كيف أن الدراسات الأثرية في ما بين الرافدين، أثبتت أن إحدى الأسر التي حكمت بعض المناطق بعد الطوفان حكمت أربعا وعشرين ألفا من السنين. وأن كل هذه المعاني تجعلنا حذرين من أن نحمل الإسلام معاني، هي جزء من الإرث الكتابي السابق. إن موريس بوكاي في دراسته التي أشرنا إليها قال الكثير في نقد العهد القديم والجديد، ولكنه بعد ذلك أكد كثيرا أنه لم يحدث قط أن النص القرآني عارضه أي اكتشاف علمي أو مقولة علمية. إن علينا أن نكون دقيقين جدا، ونحن ننقل عن أهل الكتاب، أو نقرأ لهم حتى لا نحمل إسلامنا ما لا يحتمله. إذا اتضح هذا، فإنه بالنسبة لقصة آدم فنحن لا نقبل الرواية الإسرائيلية في خلق الكون أو في عمر الإنسان، لأن ذلك يتنافى مع دراسات علمية صحيحة وقد رفض أهل السنة والجماعة فكرة أن الجنة التي هبط منها آدم أرضية، ولم يذهب إلى ذلك ابتداء إلا بعض المعتزلة، وبالنسبة لموضوع توسل إبليس بالحية للدخول إلى الجنة بعد أن طرد منها من أجل أن يوسوس لآدم، فهذا موضوع لا نطالب بالإيمان به، ولا علينا أن نكفر به ولكن حتى في مثل هذه المواضيع فإن ما يرافق عرض أصلها من تعبيرات وحكايات، يرافقه الكثير من الخطأ وتفوته دقة الأداء النبوي بحيث يعطي صورة مشوهة عن الوحي، وهذا وحده شئ خطير. فصل في الشيطان: كتب عن الشيطان ملايين الصفحات خلال العصور، وممن عرض لنظرات الأمم والشعوب في هذا الموضوع (عباس محمود العقاد) في كتابه (إبليس). وهو في الكتاب يجلو الصورة المشرقة لهذا الدين في هذا الشأن، شأن الإسلام في كل شئ، إلا أن لنا ملاحظة على كل هذا النوع من الدراسات التي تسمى دراسات مقارنة، إذ في كثير من الأحيان يخرج الإنسان من مثل هذه الدراسات بانطباع: أن الإسلام هو وجهة

نظر بين وجهات نظر أخرى، وتأثير ذلك على تصورات المسلم وعلى قضية الإيمان سيئ جدا. إن النص القرآني الذي جعله الله- عزّ وجل- معجزا، لكي يأخذ الإنسان منه الحكم القطعي في كل شئ، وليكون ميزانا يزن به الخطأ والصواب، لا يصح أن يعرض العرض الذي يوحي وكأنه وجهة نظر رفيعة فقط، هذه ملاحظة ينبغي أن نضعها في حسابنا في أي دراسة مقارنة نفعلها، وأن نستقبل كذلك على ضوئها كل دراسة مقارنة. في قضية الشيطان كتب الكثير وذهبت البشرية في هذا الشأن مذاهب شتى، وكان للتصورات الخاطئة في هذا الشأن التأثيرات الكثيرة، إما على تفكير الناس أو على طرائق حياتهم، أو على نمو طاقاتهم، أو على تفجيرها، والإسلام لا يتحمل شيئا من ذلك، لأن الإسلام وضع هذا الموضوع في إطاره الحق والصحيح، شأن الإسلام في كل شئ. ولكن بلا شك فإنه قد حدث خطأ في بعض الحالات، وهو أن بعض الكاتبين خلال العصور ذكروا ما هب ودب في هذه الشئون، كما أن العلماء لم يتابعوا تصحيح الكثير من الأوهام المتضخمة في بعض البيئات حول قضايا الجن والشياطين، مع أن هذا الموضوع غيبي، وكل المواضيع الغيبية لا يصح أن يتلقى المسلم في شأنها إلا عن المعصوم، أو بشكل تقوم فيه حجة شرعية معتبرة. وقد حدث تفريط ما في هذه الشئون، ومن جملة التفريط تفريط له صلة بموضوع الجن والشياطين. وفي عصرنا حدثت حملات عنيفة على كل ما هو غيبي، واتهمت العقلية التي تؤمن بالغيب حتى ولو كان هذا الغيب هو (الله) جل جلاله، اتهمت هذه العقلية بأنها عقلية غير علمية، بل اتهمت بأنها عقلية غبية .. !! دون تفريق بين العقلية الإسلامية التي لا تؤمن بغيب إلا إذا قام عليه دليل العقل أو دليل الشرع المعصوم من الخطأ، وبين العقلية الغيبية الأخرى التي لا تستند في إيمانها الغيبي على دليل. ولم تكن هذه الحملة مستغربة من أصحابها الماديين الذين لا يؤمنون إلا بالحس، فذلك مرض العصور ولم تخل البشرية من أصحابه منذ القديم، ولكن الغريب أن يتجاوب مع هذه الحملة بعض من تصدروا لتوجيه المسلمين، فحاولوا أن يؤولوا النصوص لصالح المادية، ومن جملة ذلك النصوص التي لها صلة بالجن والشياطين فقالوا: بأن الشيطان رمز على الشر وعلى نوازع الشر عند الإنسان، وإذن فهو ليس ذاتا ذات صفات.

فصل في رفض الداروينية كتعليل لنشأة البشر

ترى إذا كانت النصوص الواردة في شأن الجن والشياطين تؤول كلها على أنها ليست من باب الحقائق وإنما هي رموز لمعان فأي حقيقة إذن لا تؤول؟ إنه الكفر بالنصوص وليس التأويل لها. إن الشيطان ذات من الذوات الغيبية نؤمن بوجودها، كما نؤمن بكل غيب أخبرتنا عنه النصوص، وموقفنا منه هو الموقف الذي أمرتنا به النصوص، والقلب المؤمن الحي يميز بين نوعين من الإلقاءات يحسها في قلبه: إلقاء نفسه وهواجسها، وإلقاء الشيطان ووساوسه. إن المسلم الذي يعلم أن هذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعلم أن ما حدثه عنه القرآن هو الحق، ويحاول دائما أن يبحث عن الفهم الصحيح لكتاب الله ولذلك قواعده التي لا تخطئ. ولقد حاول بعض الكتاب في عصرنا أن يعطي الشيطان صفة البطولة في مواقفه النضالية ضد آدم، وفي الاعتراض على الله، وذلك من باب قوله تعالى في سورة الأنعام: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. وحاول بعضهم أن يشكك من خلال: أن موقف إبليس كان بإرادة الله، وذلك من باب التشويش لأن كون الأشياء كلها بإرادة الله لا ينفي اختيار المكلف، ولقد كان إبليس مختارا في موقفه فاستحق العقوبة، وموضوع اختيار المكلفين، وأن ذلك وغيره بإرادة الله، موضوع سيمر بنا فلا نقف عنده هنا، إذ إن خطتنا في هذا التفسير ألا نقف عند كل مقام إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام، وموضوع الجن والشياطين سيمر معنا كثيرا فلنقتصر على هذا القدر فيه. فصل في رفض الداروينية كتعليل لنشأة البشر: إن نظرية داروين أصبحت منقوضة بأكثر من علم، إن دراسة السائل المغذي للكائن الحي ليست لصالح نظرية داروين، وإن حسابا رياضيا لتعميم الأجناس على ضوء نظرية داروين ليس لصالحها، وإن نظام الوراثة وخصائصها وقوانينها ليس لصالح هذه النظرية، وإن دراسة المستحاثات ليست لصالح هذه النظرية، فالنظرية أصبحت منقوضة من جوانب شتى، وحتى لو لم تكن منقوضة فإن قصارى ما يمكن أن تقدمه مجموعة ملاحظات، وليس شرطا أن يكون لهذه الملاحظات تعليل وحيد.

إن الذين يفرون من الإيمان بالله ومن أنه هو الخالق، يفرون إلى نظرية داروين، ولكن إن استطاعوا أن يوجدوا نظرية تغنيهم في زعمهم عن أن الله هو خالق الحياة، فقوانين الكون تدل على أن الله هو خالق الكون كله، وبالتالي فلا ينفعهم الفرار من خلال نظرية داروين عن أن الله هو الخالق. إن الله عزّ وجل في القرآن يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فهذا أمر من الله عزّ وجل لنا في أن ندرس خلق الكون وخلق الحياة ومن ثم فنحن المسلمين مطالبون بالدراسة المستطاعة، وما توصلنا إليه الدراسة عن خلق الكون أو الحياة فنحن لا نتحرج منه بل نفهم على ضوئه النصوص إن كان من باب الحقائق العلمية. والله عزّ وجل في آية أخرى في نفس السورة (سورة العنكبوت) يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فإن نرى خلقا ثم خلقا، فذلك دليل على قدرة الله، أما أن يفهم فاهم أن ذلك دليل على استغناء الأشياء عن الله، فذلك هو العمى الكامل في البصيرة. لقد رأى الإنسان في عملية البحث عن مسيرة الحياة هياكل لمخلوقات تشبه إنساننا الحالي، ووجودها أقدم من وجود إنساننا الحالي، فهل هذا وحده كاف للقول بأن إنساننا الحالي قد تطور عن تلك؟ يقول الله عزّ وجل: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ. سورة الكهف. إن الله- عزّ وجل- في كتابه المعجز الذي خلق الإنسان يقول لنا: أنتم من ذرية آدم يا بَنِي آدَمَ.* ويقول لنا: إن آدم: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أبعد هذا الوضوح وضوح في أصل نشأة آدم. أما إذا كان لا بد من تعليل لوجود هذه الهياكل الشبيهة بالإنسان فهذه مجموعة تعليلات: في قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أكثر من اتجاه في التفسير: الاتجاه الأقوى أنه خليفة عن الله، ولكن هناك اتجاهات أخرى، فهناك من يقول بأنه خليفة عن خلق آخرين هم الجن. ذكر ابن كثير عن ابن جرير عن ابن عباس قال: «إن أول من سكن الأرض الجن

فصل في السجود لآدم وبعض دروسه

فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال». وهناك اتجاه نقله صاحب السيرة الحلبية عن بعض الصوفية أن أبانا آدم عليه السلام ليس هو أول آدم على الأرض بل خلق بشر، ثم أفناهم الله ثم خلق بشر، ثم أفناهم الله وهكذا مرات ومرات ثم خلق الله عزّ وجل أبانا آدم، وعلى ذريته تقوم القيامة. فعلى هذا الاتجاه فنحن نخلف بشرا آخرين، وقد يستأنس لذلك بقوله الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ على رأي من قال بأنهم قالوا ذلك لتجربة سابقة يعرفونها. في الحديث الصحيح «إن الله خلق آدم على صورته» وبعض الشراح قالوا في تفسير هذا الحديث: أي على صورة الإنسان المضروب الذي بسببه قيل الحديث، وعلى هذا الاتجاه فحتما إن آدم وذريته لهم سمت خاص بهم، مع ملاحظة أن هناك نصوصا تذكر: أنه عند ما خلق آدم في الجنة كان طويلا جدا وعلى هذا، فالصورة واحدة، والضخامة مختلفة، وقد ذكر الدكتور حسن زينو المختص بالجيولوجيا في كتابه «التطور والإنسان» كيف أنه عثر على جثة ما يسمى بالإنسان العملاق، وكيف أن بعض الهياكل التي عثر عليها كان ضرس الواحد منهم يعدل ستة أضعاف ضرس إنساننا الحالي، فهو إذن يعدل ستة أضعاف إنساننا الحالي. إن هذا الاكتشاف وحده يقلب كل التعليلات المادية رأسا على عقب. إن آدم خلق خلقا مباشرا بقدرة الله، أما وجود أنواع من المخلوقات تشبه إنساننا الحالي فلا يعني هذا أن ذلك قد تحدر عنه آدم، وإنما المسألة على الشكل التالي إما أن نعتبر تلك الهياكل هياكل بشر، خلقوا قبلنا ثم انتهوا، وإما أن نعتبرها هياكل لمخلوقات غير بشرية مندثرة. أما النصوص فقطعية في أن آدم خلق مباشرة بيد الله، وأما العلم فإنه يرفض رفضا قاطعا نظرية داروين، ولتراجع ظاهرة الحياة في كتابنا «الله جل جلاله» ثم إن علينا أن نذكر نقطة مهمة جدا وهي أن نصوص الكتاب والسنة لا تحدد تاريخا لوجود آدم عليه الصلاة والسلام. فصل في السجود لآدم وبعض دروسه: - بمناسبة ذكر أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، بحث بعض المفسرين هل الملائكة أفضل من البشر أو العكس؟ ولا خلاف بينهم أن الملائكة أفضل من فساق أهل

فصل في منصب الخلافة وضرورة إحيائه

الإيمان، فضلا عن الكافرين، فالخلاف فيما سوى ذلك، والذي استقر عليه بعضهم أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة، ورسل الملائكة أفضل من أولياء المسلمين، وأولياء الأمة الإسلامية أفضل من عامة الملائكة بعد الرسل. - وبمناسبة ذكر السجود لآدم نحب أن نذكر بأن المسلم يسجد لجهة القبلة وهذه فريضة عليه، ولكنه لو سجد لصنم فإنه يكفر، ومن هنا نعلم أن قضية الكفر والإيمان قضية لها ضوابطها ولها أحكامها، والفتوى الصحيحة المبصرة من أهلها، هي التي تعطينا الجواب على كثير من الأمور التي تحتمل كفرا أو إيمانا. وقد اختلط الأمر في عصرنا كثيرا حتى أصبحت المعلومات من الدين بالضرورة، محل نسيان أو جهل، وهذا يقتضي من العلماء بيانا، والعلماء مختلفون هل يكفر الإنسان وهو على الأرض الإسلامية، إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة، قبل البيان أو بعده؟ هناك اتجاهان للعلماء في ذلك، ولكثرة الجهل في عصرنا، ولكثرة التضليل، فإننا نرجح الكفر إذا أصر المنكر بعد البيان، على أن الأمر يحتاج إلى دقة فقهية ومعرفة صحيحة بالأمور المعلومة من الدين بالضرورة. فصل في منصب الخلافة وضرورة إحيائه: بمناسبة قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً تحدث القرطبي في تفسيره عن منصب الخلافة في صفحات طويلة مفيدة، فليراجع كلامه، وننقل هنا نبذا من كلامه ثم نعلق تعليقا موجزا على هذا الموضوع: يقول القرطبي: - «هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم «حيث كان عن الشريعة أصم». - في شرائط الإمام وهي أحد عشر: الأول: أن يكون من صميم قريش ... وقد اختلف في هذا. الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث وهذا متفق عليه.

فصل في تصحيح أخطاء

الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور، وحماية البيضة (أي بيضة الإسلام أي عزه وجماعته) وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم. الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولا فزع في ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار. الخامس: أن يكون حرا ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس. السابع: أن يكون ذكرا سليم الأعضاء وهو الثامن، وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه. التاسع والعاشر: أن يكون بالغا عاقلا ولا خلاف في ذلك. الحادي عشر: أن يكون عدلا لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق». - «يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة» - «الإمام إذا نصب ثم فسق بعد إبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم .. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شئ من الشريعة». «ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة» «ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شئ له أن يعزل نفسه، كذلك الإمام يجب أن يكون مثله». أقول: إن الناس في أمر إقامة فريضة الخلافة مقصرون، وهم بذلك آثمون، ولا شك أن الأمر في عصرنا معقد ولكن علينا أن نسير في الطريق المؤدي لإقامة الخلافة فمن سار في الطريق رفع الإثم عن نفسه، وفي سلسلتنا في البناء: مباحث لها علاقة بمثل هذا فلتراجع. فصل في تصحيح أخطاء: - كثيرا ما يحدث أن يرى بعض المتتبعين للحفريات ظاهرة ما، هي في الأصل حالة شاذة، فيعتبروها أصلا يقيسون عليه، وكثيرا ما يحدث أن بعض الكاتبين ينطلقون بانين على فكرة ما، هي خاطئة في الأصل، فيضعون النظرية، والنظرية كلها

5 - كلمة أخيرة في المقطع وسياقه

مبنية على أصل فاسد، نجد تطبيقات هذه المعاني في أكثر ما كتبه الكاتبون عن نشأة الإنسان وتاريخه القديم، وعن نشأة اللغات. وقصة آدم تصحح لنا هذه المفاهيم كلها. فقد عرفنا من خلال الآيات كيف أن إنساننا الحالي كان يعلم، وكان يتكلم من بداية خلقه، فما يقوله بعضهم من كون الإنسان لم يضل إلى لغة الخطاب إلا متأخرا فخطأ، وما يقوله بعضهم: عن فوضى جنسية في الابتداء فخطأ، وما يقوله بعضهم: عن جهل مطبق في التعامل مع الأشياء فخطأ، قد تكون هناك مراحل لاحقة أو ظواهر شاذة، لكن آدم عليه السلام، نزل إلى الأرض، وهو مزود باللازم الأول للاستخلاف: العلم والبيان. - ختمت قصة آدم في القاعدة الكلية فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. هؤلاء أهل النار الذين هم أهلها ولكن قد يدخل النار عصاة المؤمنين، فهؤلاء لهم وضع خاص. أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة». - يهول بعض الناس عند ما يعلم أن أكثرية البشرية إلى النار، ولا يهوله أن تكفر أكثرية البشرية بالله وتحاربه وتحارب أولياءه وشريعته، إن الله يخلق الشجرة العظيمة ذات الثمر الكثير الطيب، الشجرة كلها للنار في المآل وفي الثمر الخير، إن شجرة البشرية خيرها في ثمارها، وثمارها أهل الإيمان فلا ينبغي أن يغتر أحد بكثرة المفسدين، وكثرة سفاكي الدماء ظلما، وعليه أن يحقق حكمة الله في خلقه بالقيام بعبادته وشكره وذكره واتباع هداه باتباع كتابه. 5 - كلمة أخيرة في المقطع وسياقه: لعل القارئ من خلال ما مر قد ارتبطت لديه قصة آدم بالآيات التي قبلها. وأدرك سر طلب الله منا أن نتذكرها بعد ما عرفنا على أصناف الناس، وبعد ما عرفنا على الطريق إليه، فجاءت قصة آدم بعد ذلك لتقول: إنكم إن كنتم من المتقين المهتدين

بكتابي، فإنكم تكونون منسجمين مع القاعدة الكلية التي وضعتها لكم: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وإن لم تكونوا كذلك تكونوا قد وقعتم فيما تهددكم الله به: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، ومع أننا قلنا ما فيه الكفاية في تبيان الصلة بين قصة آدم وما قبلها فإننا نؤثر أن نزيد الأمر وضوحا بذكر بعض الملاحظات: 1 - جاءنا في المقطع الأول أمر ونهي، وجاءت قصة آدم لتبين لنا عاقبة الأمر والنهي، وتدلنا على الطريق الذي ينبغي أن نسلكه إذا واقعنا المعصية. 2 - عرفنا في المقطع الأول أن سر الضلال هو نقض العهود، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض، وعلمتنا قصة آدم أن الإفساد في الأرض يتنافى مع حكمة خلقنا، كما عرفتنا أن الأسباب الأولى للضلال تكمن في الكبر والحسد والشهوة والحرص. 3 - عرفنا في المقطع الأول أن الأرض قد خلقت لنا، وعرفنا في المقطع الثاني بعض أسرار استخلافنا في الأرض. 4 - وفي تذكير الله عزّ وجل إيانا بكمال النعمة علينا، إذ خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض بإعطائنا كمال الاستعداد للتعلم الذي نستطيع به أن نقوم بمقتضيات الخلافة، تهييج لنا على الطاعة فيما سبق ذكره وإبعاد لنا عن المعاصي التي سبق ذكرها. 5 - وإذا كانت مقدمة سورة البقرة قد ذكرت متقين وكافرين. فقصة آدم عمقت لدينا قضية التقوى، وأفهمتنا قضية الكفر. 6 - وكان ذلك كله تعميقا لقضية السير في الصراط المستقيم وتنكب صراط المغضوب عليهم والضالين. وصلات ذلك كله بما مر من قبل لا تخفى. فلننتقل إلى المقطع الثالث من مقاطع القسم الأول من أقسام سورة البقرة.

المقطع الثالث من القسم الأول من أقسام سورة البقرة

المقطع الثالث من القسم الأول من أقسام سورة البقرة: يمتد هذا المقطع من الآية (40) إلى نهاية الآية (123) يبدأ بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وينتهي بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. يأتي هذا المقطع بعد قصة آدم التي انتهت بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فكأن المقطع الجديد بعد هذه الخاتمة يقص علينا- كنموذج- قصة أمة أنزل عليها هدى وكيف كان موقفها من هذا الهدى، وما هي الدروس التي ينبغي أن تأخذها أمتنا من ذلك. إن هناك أمة قبلنا قد أنزل عليها هدى، وبعث فيها رسل، وكان مما أنزل عليها كتاب سماوي ثم كتاب آخر، فهي على علم من الله، وقد أخذ عليها عهودا وهي تعرف عن موضوع العهود والهدى والرسل ما لا يعرفه غيرها. فالمفروض أن تستجيب هذه الأمة لهدى الله الأخير ولكتابه الأخير. ولرسوله الخاتم، خاصة وعندهم علم في كتبهم عنه، ولهذا يتوجه الخطاب في السورة إليهم بعد أن خوطب الناس جميعا. وإذ كانوا أهل الكتاب الأول- وللناس ثقة بعلمهم، وقد يكون موقفهم المتعنت المتكبر من الهدى الجديد سببا في توقف بعض الناس- فقد اقتضى ذلك الكلام عن أخلاقهم ومواقفهم من رسلهم ومن الهدى الذي أنزل عليهم- لكيلا تستغرب مواقفهم المتعنتة الجديدة. وإذ كان الهدى الجديد فيه معنى انتزاع الإمامة والقدوة من أمة، إلى أمة فإن على

مدخل إلى المقطع

الأمة الجديدة أن تعرف ذلك فتخرج عن أي تبعية لغيرها في غير الحق. وإذا كانت تلك الأمة لم تقم بحق الهدى الذي أنزل إليها حق القيام، فإن هذا يسجل كدروس لكيلا تقع هذه الأمة فيما وقع فيه غيرها. وإذ كانت تلك الأمة سيكون لها مناقشات ومواقف من أمتنا فإن ذلك يقتضي أن توجه هذه الأمة لتعرف ما ينبغي فعله وقوله في مواجهة هذه المناقشات والمواقف. ومن خلال ذلك كله يتضح الصراط المستقيم الذي ينبغي أن نسير فيه، ويتضح صراط المغضوب عليهم والضالين لنتنكب السير فيه. هذا كله بعض ما في هذا المقطع، ولكن العرض كان فيه من صور الإعجاز ما يذهل: لقد دعا المقطع الأول في هذا القسم: الناس جميعا للسير في طريق التقوى بسلوك طريق العبادة والتوحيد، ولكن إذا كان كل الناس تكفيهم توجيهات سريعة للوصول إلى حقيقة التقوى، فإن أهل الكتاب الأول قد تعقدت أنفسهم، فلا يكفيهم إلا أن يلاحظوا مجموعة توجيهات ليستطيعوا الانسجام والتفاعل والتسليم مع هذا الدين ولهذا الدين، ومن ثم جاء المقطع متوجها بمجموعة أوامر ونواه لبني إسرائيل، ثم أعقبه ما هو بمثابة التعليل لأسباب المطالبة بهذه الأوامر والنواهي، وقد أعطيت هذه الأمة خلال ذلك كل الدروس اللازمة لإيجاد المناعة عندها؛ إن في عدم الوقوع في ما وقع فيه هؤلاء، أو في التحذير من تأثيراتهم السيئة. وخلال ذلك تتعمق كل المعاني التي مرت من قبل. وهكذا نجد أن المقطع في محله من السورة يحقق مقاصد شتى، وإذ كان كل كلام عنه قبل عرضه أقل مما ينبغي فلنبدأ العرض: يتألف المقطع من مدخل وفصلين، وكل فصل يتألف من فقرات ولطول المقطع فإننا سنعرض أجزاءه جزءا فجزءا. مدخل إلى المقطع: يمتد مدخل المقطع من الآية (40) إلى نهاية الآية (46) وهذا هو: [سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 46] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

التفسير

التفسير: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إسرائيل هو: يعقوب عليه السلام وذلك لقب له، وذكر النعمة القيام بشكرها، وطاعة الله مانحها، والنعمة التي أمروا بذكرها هي: ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون وتفجير الحجر وإرسال الرسل، وإنزال الكتب وغير ذلك مما سنراه. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الوفاء بالعهد أداؤه تاما، وعهد الله عليهم هو: ما أخذه عليهم مما قص الله علينا في القرآن، والذي في جملته أن يتابعوا رسله وأن ينصروهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم من الرسل، وقد بشرت به التوراة فعليهم أن يؤمنوا ويتابعوا وينصروا، فإن فعلوا أعطاهم الله عزّ وجل ما وعدهم به من تكفير السيئات ودخول الجنات. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي فاخشون ولا تخشوا أحدا سواي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن قبلكم من آبائكم من النقمات، ولعذاب الآخرة أكبر .. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. يعني به القرآن الذي أنزل علي محمد صلى الله عليه وسلم مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل في أصليهما السماويين قبل التحريف والتبديل. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال ابن عباس: (أي) «ولا تكونوا أول كافر به وعندكم من العلم ما ليس عند غيركم»، وهذا تعريض: بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، والضمير في (به) يعود إلى القرآن وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، فالثمن

[سورة البقرة (2): آية 42]

القليل هو الدنيا بحذافيرها، فإنها قليلة بجنب رضوان الله، ومن الدنيا الرئاسة والمال والجاه. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أي فخافون الخوف الذي يوصلكم إلى فعل الأمر، وترك النهي. قال طلق بن حبيب: «التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله». وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لبس الحق بالباطل: خلطه، وكتمان الحق: عدم إظهاره، نهاهم عن الشيئين معا: ألا يلبسوا الحق بالباطل فيموهوه به، وألا يكتموا الحق في حال علمهم أنهم لابسون وكاتمون، لأن ذلك أقبح إذ ربما عذر مرتكب القبيح إذا كان جاهلا قال قتادة: (أي) «لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله هو الإسلام». وقال ابن عباس: «لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم» أقول: وكلام قتادة وابن عباس مما يدخل في النهي، والنهي أعم. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرهم أن يصلوا صلاة المسلمين، وأن يدفعوا زكاة أموالهم كما يفعل المسلمون، وأن تكون صلاتهم مع المسلمين ليكونوا معهم ومنهم. وقد استدل كثير من العلماء بقوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ على وجوب صلاة الجماعة. أمرهم فيما مر أن يذكروا نعمته، وأن يوفوا بعهده، وأن يرهبوه، وأن يكونوا أول المؤمنين بالإسلام، وألا يعتاضوا عن الإسلام بالدنيا، وأن يتقوا الله، وألا يخلطوا الحق بالباطل، وألا يكتموا الحق مع علمهم به، وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة، وأن يصلوا مع المسلمين في جماعاتهم، فإن فعلوا هذا كانوا أبرارا على الحقيقة وهم يزعمون أنهم دعاة إلى البر وليس البر إلا هذا، فالبر إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبر صلاة وزكاة ووفاء بالعهد ... كما سنرى في آية البر، ومن ثم فإن الله عزّ وجل بعد هذه الأوامر والنواهي خاطبهم موبخا ومعجبا من حالهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه والالتزام بكتابه وهداه والوفاء بعهوده، وهذا القرآن هو كتابه ومحمد رسوله صلى الله عليه وسلم فلو كانوا صادقين في الدعوة إلى الله لآمنوا بما أنزل وبمن أنزل عليه والتزموا. ولكنهم كاذبون في دعواهم ودعوتهم ولذلك فإنهم بعيدون عن البر لأن الصادق في الدعوة يوجه الدعوة إلى نفسه أولا، وهؤلاء يوجهون الدعوة إلى

غيرهم وينسون أنفسهم مع أنهم يتلون الكتاب الذي: هو التوراة هنا، وهي تأمرهم بالبر الحقيقي وتعظهم. فصار معنى الآية: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب- وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون به الناس، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعرفون ما فيه على من قصر في أوامر الله. أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه؟ أفلا تفطنون إلى ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتبصروا من عمايتكم؟ ألا عقول لكم توصلكم إلى هذا؟!! وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف واجب على العالم، ولكن الواجب الأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر، فالصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه مع إثمه بالتفريط وقصوره ونقصانه، فالآية إذن تلوم على الجانب الثاني ولا تنكر فعل الأول، ومن ثم قال سعيد بن جبير: «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر» قال مالك: (وصدق من ذا الذي ليس فيه شئ؟) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث والآثار في الوعيد على ذلك: أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار، فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» هذه رواية أحمد. وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء». وقد ورد في بعض الآثار: فإنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم. وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال: قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟».

[سورة البقرة (2): آية 45]

وبعد أن امرهم الله عزّ وجل ونهاهم ووبخهم دلهم على شئ إن يفعلوه سهل عليهم تنفيذ كل ما سبق قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ على حوائجكم إلى الله، وعلى البلايا والنوائب، وعلى القيام بأمر الله كله، وعلى ما يترتب من القيام بالأوامر السابقة من وفاء بالعهود والجهر بالحق والأمر بالبر والالتزام به، وعلى إقامة ذلك أصلا استعينوا على ذلك كله بالجمع بين الصبر والصلاة. وفسر الصبر هنا بالصوم لقوله عليه السلام «الصوم نصف الصبر». ولتسمية شهر رمضان بشهر الصبر. وفسر الصبر بالاسترجاع لقول الله تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وفسرت الصلاة في الآية بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي للصلاة، وفسرت بالصلاة المعروفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وَإِنَّها أي الصلاة على القول الراجح أو الاستعانة لَكَبِيرَةٌ أي ثقيلة شاقة. إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخشوع هو: الإخبات لله والتطامن، أو هو الخوف والتواضع والخضوع الذي هو اللين والانقياد وقد عرفنا الله عزّ وجل من هو الخاشع بقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. والظن هنا: اليقين، ولقاء الله: فسر بلقاء جزائه، وفسر برؤيته ومعاينته بلا كيف، وفسر الرجوع: بالعود إليه في الآخرة، وفسر بعود الأمور كلها إلى مشيئته وحكمه. فالخاشع: هو من أيقن بلقاء الجزاء في الآخرة فهذا يعمل على حسب ذلك، وأما من لم يوقن بالجزاء، ولم يرج الثواب فإن التكليف عليه شاق، والصلاة التي هي أولى العبادات تكون عليه مشقة خالصة. قال ابن كثير: «والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم» أقول: إنه ما من آية في القرآن إلا وهي موجهة للمؤمنين بشكل من الأشكال لأنهم هم المستفيدون وحدهم من كتاب الله. وعلى هذا فما مر وما يمر لا بد أن نعرف فيه هذه القاعدة كي نأخذ حظنا من كل آية، فإذ يقص الله علينا شيئا حدث لبني إسرائيل فلكي نأخذ منه العبرة فنتجنب أو نستبشر أو نتعظ أو نعمل أو نتوقع أو نتعلم، وهكذا الشأن في كل آية.

كلمة في هذه الآيات وسياقها

وفي تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ قال ابن جرير: «العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظنا، والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر» وقد استشهد على ذلك ببعض الأبيات ليخلص إلى أن الظن في الآية معناه اليقين. وقال مجاهد: «كل ظن في القرآن يقين». وقال: «كل ظن في القرآن فهو علم». ونحن مطالبون بأنواع من الصبر: الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على الابتلاءات. وقد عرف سعيد بن جبير الصبر على المصيبة فقال: «الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب به فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر». والصلاة الكاملة: هي التي يراعي العبد فيها ما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية، ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض. أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى وفي رواية لغير أحمد: إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وقال حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى». وقال علي رضي الله عنه: «لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح». وروى ابن جرير: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. كلمة في هذه الآيات وسياقها: - في هذا المدخل للمقطع الثالث: خمسة عشر أمرا ونهيا، أو ما له حكم الأمر أو النهي وهي بمجموعها العلاج الكامل للنفسية الكتابية حتى يصلح أمرها على مقتضى دين الله في صيغته النهائية والخاتمة؛ الإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فالكتابي لا ينصهر بهذا الدين إلا إذا لاحظ مجموع هذا وبقدر انصهاره بمجموع هذه الأوامر، فإنه يكون أكثر صدقا.

- يلاحظ أن هذه الأوامر والنواهي جاءت في سياق الخطاب لبني إسرائيل، ثم يلاحظ أن بقية المقطع كانت إما في تعليل صدور هذه الأوامر والنواهي، أو في دروس تعطى لهذه الأمة من خلال ذلك بما يعمق ضرورة الالتزام بهذه المعاني جميعا، ثم يلاحظ من خلال دراسة سورة البقرة، أن هذه الأوامر والنواهي أحد اثنين إما شئ قد طولبنا به من قبل، أو شئ سنطالب به فيما بعد: فمثلا في مقدمة سورة البقرة والمقطعين بعدها عرفنا قضية الإيمان والصلاة والزكاة وعدم نقض الميثاق، ووصل ما أمر الله به أن يوصل. وعدم الإفساد في الأرض وألا نبيع دين الله بشيء من الدنيا، وكل ذلك قد جاء بصيغة الأمر والنهي لبني إسرائيل هنا. وسنرى فيما يأتي في السورة أمرا لنا بالاستعانة بالصبر والصلاة، وتحذيرا لنا من كتمان شئ مما أنزل الله، وتعريفا لنا على البر، وكان ذلك مما صدرت فيه الأوامر والنواهي لبني إسرائيل، ومن ثم ندرك أن هذا المقطع الذي يتوجه فيه الخطاب لبني إسرائيل هو بمثابة التهييج لنا على تنفيذ ما سبق، وبمثابة التأسيس لما سنطالب به فيما يأتي من السورة. - كنا قلنا من قبل: إن المقطع الثالث يتألف: من مدخل وفصلين. المدخل وقد رأيناه، والفصل الأول ينتهي في الآية (74). وهو يتألف من فقرتين الفقرة الأولى: لها صلة بقوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ. والفقرة الثانية: لها صلة بقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. والفصل الثاني له صلة بقوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وهكذا نجد أن الفصلين اللاحقين للمدخل في هذا المقطع، إنما هما بمثابة تعليل لهذه الأوامر والنواهي التي صدرت لبني إسرائيل مع إعطاء الدروس للأمة الإسلامية خلال ذلك لتعرف أن لها الإمامة بحق، وأن عليها ألا تقع في خطأ السير في طريق المغضوب عليهم والضالين. ولعل القارئ بهذا وبما مر أدرك الصلة بين هذا المقطع وما قبله وما بعده، ولا زال في هذا الموضوع كلام فلننتقل إلى الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع.

الفصل الاول

[الفصل الاول] الفقرة الأولى من الفصل الأول: تمتد هذه الفقرة من الآية (47) إلى نهاية الآية (62) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 47 الى 62] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: تقص علينا هذه الفقرة نماذج من نعم الله على بني إسرائيل: من تفضيلهم على عالم زمانهم، ومن إنجائهم من فرعون، ومن إنزال التوراة عليهم، ومن قبول توبتهم من بعد ما عبدوا العجل، ومن إحيائهم بعد ما أماتهم عقوبة لهم، ومن تظليل الغمام على آبائهم وإنزال المن والسلوى، ومن فتح بعض البلدان عليهم، ومن سقيهم ماء بشكل معجز، ومن إباحة لما طلبوه مما اشتهته أنفسهم. ولكن هذا التذكير بالنعم يأتي في طيه تذكير بمواقفهم الخائنة مع وجود هذه النعم. بل تستقر الفقرة على ذكر العقوبات الكبرى من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب الله، إلا من كان منهم مؤمنا يعمل الصالحات، وذلك للإشعار بأنه لا أحد له دالة على الله إذا خالف. وذلك درس لنا أيتها الأمة وتوطئة لما سيأتي بعد من دروس أخرى؛ من خلالها يتعمق في نفوس هذه الأمة: أنه لا ينبغي أن يكون في قلوب أبنائها شعور بأي نوع من أنواع الأستاذية لليهود عليها فضلا عن غيرهم. نلحظ هذا من قوله تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. وكان جل جلاله في الفاتحة علمنا أن ندعوه: ... غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. لقد كان بعض الذين لهم احتكاك ببعض الأديان السابقة، يرون لأهل هذه الأديان ميزة يظهر ذلك من بعض التعبيرات التي وردت على ألسنة بعض الأنصار رضوان الله عليهم، ويظهر ذلك في أن قريشا في بعض الأحوال سألت بعض أهل الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك في أن خديجة نفسها رضي الله عنها استفسرت عما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار بأن سألت ورقة بن نوفل، وإذ جاء الإسلام تقريرا للحق وتصحيحا لكل التصورات والمعتقدات الفاسدة ومن جملتها معتقدات وتصورات أهل الكتاب، فلا بد من أن يحرر المسلمون من مشاعر التبعية للآخرين، ولا بد أن يربوا على الأستاذية للآخرين، ومن ثم فإن هذا المقطع يخدم في جملة ما يخدم في هذا الشأن، وهذه الفقرة تضع أساسا في ذلك. تفسير الفقرة: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ يتجه الخطاب مرة ثانية إلى بني إسرائيل بذكر النعم التي أنعمها على آبائهم وأسلافهم. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ: أي فضلهم على سائر الأمم من أهل زمانهم بإرسال الرسل منهم وإنزال

[سورة البقرة (2): آية 48]

الكتب عليهم. قال أبو العالية في تفسيرها: «بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما» أقول: هذا فهم بعض أهل التفسير لظاهر التفضيل، والقرآن قد أطلق التفضيل ومن ثم فقد يكون التفضيل لهم على غيرهم مع اشتراك غيرهم معهم في مثل ما ذكر من الأسباب. وتفضيلهم على العالمين من أعظم نعمه عليهم، ولكنه خص بالأمر بالتذكر، بعد الأمر بتذكر النعم، لأهمية ذلك، فالعقلية اليهودية منطبع فيها أن اليهود شعب الله المختار مهما فعلوا ومهما أساءوا ومهما أفسدوا، وأن هذه صفة أبدية لهم مهما كفروا ومهما عصوا، ولذلك فإنه يذكر بهذه النعمة ابتداء بين يدي تعداد النعم الذي في طياته التأنيب على الانحراف، ليستقر ذلك على العقوبة الأبدية لهم إن لم يراجعوا أنفسهم في الولوج في حمى الأمة المرحومة أبدا، إن ذكر ذلك على انفراد كما قلنا له أهميته الخاصة. وبعد هذا التذكير المجمل بالنعم وبالتفضيل يتجه الخطاب إليهم بالتذكير بالآخرة .. وَاتَّقُوا يَوْماً. أي: يوم القيامة الذي من صفاته: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً. أي: لا يغني أحد عن أحد، فلا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئا من الحقوق التي لزمتها وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الضمير في (منها) يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة فهو كقوله تعالى في سورة المدثر: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فهذا أبلغ رد على اليهود الذين يزعمون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وعلى النصارى الذين يزعمون أن عيسى يحمل عنهم خطاياهم، وعلى أمثالهم، ممن كفر بعد إيمان. وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشفاعة للعصاة من المؤمنين مردود بالنصوص كما سنرى لأن المنفي شفاعة الكفار وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ: أي لا يقبل منها فداء، فالعدل هنا الفدية والبدل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا أحد يعينهم ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، قال ابن جرير: «يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار، العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. أقول: وفي تذكيرهم باليوم الآخر وبعض قوانينه الصارمة بعد أمرهم بتذكر النعم وتفضيلهم إشعار لهم أنهم مكلفون ومحاسبون، وأن ذلك يقتضي منهم شكرا لا بطرا، وطاعة لا معصية، قياما بحق الله لا فرارا منه. وهذا يدلنا على أن السياق ... سياق تذكير وتأنيب ودعوة، وهي في النهاية إعطاء دروس لهذه الأمة، ألا تقع فيما وقعت فيه أمم أخرى. وللأسف فإن الكثيرين من أبناء أمتنا واقعون فيما وقع فيه اليهود في سيرهم الطويل كما

[سورة البقرة (2): آية 49]

سنرى، ثم بعد الأمر بتذكر النعم وتذكر التفضيل وبعد الأمر بتوقي عذاب اليوم الآخر تتجه الفقرة إلى تذكيرهم بنعم الله الكبرى عليهم واحدة فواحدة، وكل نعمة تذكر، يصدر التذكير بها بقوله تعالى وَإِذْ فيكون التقدير: واذكروا إذ، فحيثما وردت إِذْ فيما يأتي فإنها أمر بتذكر نعمة. ومن ثم فما بقي من الفقرة فهو أمر بتذكر النعم تفصيلا بعد الأمر بتذكرها إجمالا والملاحظ أن بعض النعم التي ذكروا بها كانت من نوع قبول التوبة بعد انحراف خطير يذكر، وأن بعضها ذكر وذكر ما رافقه من انحراف، فكان ذلك كله تمهيدا لاستحقاقهم العقوبة الأبدية لهم وهي: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: والتي لا مخرج لهم منها إلا بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك كله دروس لهذه الأمة تحذرها من أن تفعل ما فعلوا: 1 - وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ خلصتكم وأنقذتكم من أيدي فرعون وقومه، وقد كانوا يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب بذبح الأبناء وإبقاء البنات للخدمة، وفي ذلك تعريض العرض للفتنة وفي ذلك محنة عظيمة لكم فتذكروا الخلاص منها. (والآل) بمعنى: الأهل، وخص استعماله بأولي الخطر، كالملوك وأشباههم، وفرعون علم على من ملك مصر قديما ككسرى لملك الفرس، وسامه بمعنى: أولاه. وسوء العذاب: أشده وأفظعه. والبلاء: يطلق على النعمة والنقمة على حسب تقدير اشتقاقه، وهاهنا يصلح للوجهين فإن أشير به إلى صنع فرعون كان المراد به المحنة، وإن أشير به إلى الإنجاء كان نعمة، وجمهور المفسرين على أن البلاء هنا المراد به المحنة. 2 - وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أمروا بتذكر هذه النعم استقلالا، مع أنها جزء من نعمة الخروج من مصر، لما في كل منها من نعمة عظيمة، يذكرهم تعالى كيف أنه بعد أن أنقذهم من آل فرعون وخرجوا مع موسى خرج فرعون في طلبهم ففرق الله بهم البحر فخلصهم منهم وحجز بينهم وبينه وأغرقه مع من معه وبنو إسرائيل ينظرون، ليكون ذلك أشفى لصدورهم وأبلغ لإهانة عدوهم. ومعنى فَرَقْنا فصلنا بين بعض وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم

[سورة البقرة (2): الآيات 51 إلى 52]

وقد بقي يوم الإنجاء مشهورا عند بني إسرائيل يعظمونه. فقد روى البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله- عزّ وجل- فيه بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه. 3 - وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. يذكرهم تعالى قائلا: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر. والضمير في مِنْ بَعْدِهِ يعود على موسى والتقدير من بعد ذهابه إلى الطور إذ اتخذوا العجل إلها وعبدوه. فههنا ذكرهم بنعمة العفو عنهم على فظاعة الجرم الذي ارتكبوه وهم حديثو عهد بالخروج ومعجزاته. 4 - وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. الكتاب: التوراة والفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل، وهو هنا: إما الآيات التي أعطيها موسى كالعصا واليد، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام؛ فهذه نعمة رابعة أنعمها عليهم أنه أنزل عليهم كتابا ليهتدوا بهديه. 5 - وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. في هذه الآية توبة الله على بني إسرائيل من عبادة العجل، فلم تقبل التوبة إلا بأن قتل بعضهم بعضا، ومع شدة هذا فإن الله يمن عليهم أن تاب عليهم وقبل توبتهم، والبارئ هو: الخالق الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، والتواب هو: المفضال بقبول التوبة مرة بعد مرة ولو كثرت الذنوب واسم الرحيم في هذا السياق يشير إلى معنى: أن رحمته من السعة بحيث يعفو عن الذنب وإن عظم إذا تاب صاحبه، وأي ذنب أعظم من الشرك؟ وأي ظلم للنفس أكبر من هذا الظلم الذي وقع فيه بنو إسرائيل؟ إذ تركوا بعد المعرفة عبادة العليم الحكيم الذي برأهم إلى عبادة البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة

[سورة البقرة (2): آية 55]

والبلادة، فاستحقوا هذا العقاب الذي نزل بهم. وقتل النفس الذي أمروا به يحتمل معاني من جملتها وهو الأرجح أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده وأن يستسلم الآخر، أو أن يقتل كل منهم من لقيه من أهل وولد وغير ذلك. ولا شك أن تنفيذ هذا الأمر من بني إسرائيل منقبة لهم تظهر فيه حكمة الله في تفضيلهم على عالم زمانهم. وقد قال الله في الآية: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ أي: إن التوبة والقتل خير من الإصرار على المعصية عند الله. وفي هذه الآية دروس منها: أن الذنب لا يمر بلا عقوبة مهما كان فاعلوه إلا إذا شاء الله أن يعفو. وفي ذلك تذكير لليهود بأن يخففوا من دعاواهم مع الله وأمام خلقه. ومن الدروس في الآية أن المؤمن لا يبالي في ذات الله أن يقتل أهله أو قومه أو تقتل نفسه، ومن الدروس في الآية درس للجاهلين بالله الذين يتصورون أن كل ما يجري من معصية لله في هذه الأرض، لا يجوز معه لأهل الله أن يتحركوا إلا في حدود الكلمة، وإذا فكروا في شئ آخر فكأنهم أخلوا بقوانين السماء والأرض، إن هؤلاء جهلة بالله وجهلة بالإسلام. 6 - وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يأمرهم الله عزّ وجل في هذه الآيات أن يتذكروا مجموعة نعم: بعثهم بعد إماتتهم، وتظليلهم بالغمام مع إنزال المن والسلوى، ولكنه تذكير يرافقه تذكير آخر بظلمهم وتعنتهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً: أي عيانا ومعاينة فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الصاعقة هاهنا: إما صوت سمعوه فصعقوا وماتوا وإما نار أحرقتهم. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البعث: هو الإحياء بعد الإماتة، وأصل كلمة البعث في اللغة: الإثارة وفي قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دليل على أن السياق لا زال يصب في موضوع التذكير بالنعم. والفارق بين سؤال موسى ربه أن يراه وسؤالهم الرؤية: أن موسى سأل الرؤية مع الإيمان شوقا لله، وهؤلاء سألوا تعنتا وكفرا، إذ علقوا الإيمان بموسى بعد ظهور معجزاته حتى يروا ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم، ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم، وسؤالهم لم يكن سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد فعوقبوا على ذلك بالصعق والموت. فدل ذلك على عظم الجرم، وما أكثر من يطلب

[سورة البقرة (2): آية 57]

هذا الطلب من أهل عصرنا مع زيادة وقاحة، فبنوا إسرائيل طلبوا الرؤية وعلقوا عليها الإيمان، وإن من أبناء عصرنا من كتب طالبا الرؤية من أجل أن يؤذي الله في زعمه. ألا ما أجهل الكافر وأغباه وما أحمقه وأضله وما أعظم حلم ربنا!؟ ولكن ما أعده الله لأعدائه في الدنيا والآخرة كثير. وهل الذين طلبوا الرؤية هم الجميع، أو هم السبعون الوارد ذكرهم في سورة الأعراف؟ قولان للمفسرين وسنقف في سورة الأعراف وقفات طويلة مستعرضين الروايات اليهودية مع النقد فإلى هناك. وقد ناقشنا موضوع تعليق الإيمان بالله على رؤيته وسماعه في كتابنا «الله جل جلاله» وقد اتضح لنا من خلال ما مر هنا وما مر من قبل في قصة بني إسرائيل أو في قصة آدم كيف أن معصية الله لا تمر بدون عقوبة للفرد أو للجماعة أو للأمة فما أكثر غفلة الناس. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ: أي جعلنا الغمام يظلكم، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو وسننقل في سورة الأعراف ما تذكره الروايات الإسرائيلية. قال ابن كثير ملخصا عبارات المفسرين في شرح المن قال: «فمنهم من فسره بالطعام ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه كل ما من الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمن: المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر». وهناك حديث صحيح رواه البخاري يستأنس به هنا وهو: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» وأما السلوى: فالمشهور الذي يكاد يكون عليه إجماع المفسرين أنها طير، وفسر بأنه السمانى وهو طير أكبر من العصفور، وقال بعضهم غير ذلك. ووجد من قال بأن السلوى هي العسل. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. قال ابن كثير: «أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا .. فخالفوا وكفروا، فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات والمعجزات القاطعات وخوارق العادات». قال ابن كثير تعليقا على هذه الآية: «من هاهنا نتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في

[سورة البقرة (2): آية 58]

ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر فهذا هو الأكمل». 7 - وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. هذه نعمة أخرى يأمرهم الله عزّ وجل بتذكرها وهي الفتح بعد التيه، ويأمرهم أن يشكروه على نعمة الفتح والرخاء بأنواع من الطاعة، وهم العطاش إلى الفتح والاستقرار بعد تشرد طويل، وهم المحتاجون إلى العيش الرغد بعد تيه طويل، ومع ذلك لم يقابلوا ذلك بما ينبغي. وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ الظاهر أن هذا القول لهم بعد ما خرجوا من التيه بعد وفاة موسى عليه الصلاة والسلام في عهد يوشع بن نون خليفة موسى على قومه والقرية إما بيت المقدس أو أريحا، فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي هنيئا واسعا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً الباب باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها، وسجدا جمع ساجد أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا له، وهل المراد بالسجود هنا الركوع أو الخضوع، أو السجود الحقيقي؟ أقوال للمفسرين والظاهر أنه السجود الحقيقي. وَقُولُوا حِطَّةٌ أمروا أن يجمعوا مع الفعل القول فيطلبوا من الله أن يحط عنهم ذنوبهم فالحطة: مشتقة من الحط وهو هنا إما طلب حط الذنوب، أو أن مسألتنا وأمرنا حطة أي تواضع لجلال الله، أو أمر الله حطة بمعنى: أنه موضوع علينا. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ: الخطايا جمع خطيئة وهي الذنب، وعدوا (على الطاعة في القول والفعل) غفران الذنب للمذنب والزيادة في الثواب للمحسن، فكيف كان موقفهم من الأمرين: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار، فخالفوه إلى قول ليس معناه ما أمروا به، قيل: قالوا بدل حطة: حنطة، وأمروا بالسجود حال الدخول، فبدلوا بأن دخلوا زاحفين على أستاههم. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ الفسوق هو

[سورة البقرة (2): آية 60]

الخروج عن طاعة الله. وقد كرر تعبير الَّذِينَ ظَلَمُوا في الآية الأخيرة مرتين زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بإنزال الرجز عليهم لظلمهم. أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا: حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة» أقول: وهذا نص في التبديل الذي فعلوه فلا محل لكلام آخر. وأما ما هو الرجز الذي نزل بهم فللمفسرين أقوال وليس هناك من نص خاص في هذا الموضوع. قال الضحاك: عن ابن عباس «كل شئ في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب». وقال أبو العالية: الرجز الغضب وأخرج ابن جرير بسنده عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم». وأخرج النسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم». لكن هذين النصين ليسا في الحادثة التي نحن فيها عينا، ولكن بعض المفسرين استأنس بهما ففسر الرجز هنا بالطاعون وبالبرد، والله أعلم. وفي الآيتين إشعار بأن النعمة ينبغي أن يقابلها شكر، والشكر قول وعمل، وفيهما إشعار أن الأمر بالقول والفعل ينبغي أن يكون تنفيذه حرفيا لا تبديل ولا تغيير، وأن المعصية لا تمر بلا عقوبة، والملاحظ أن السياق كلما تقدم يوضح لنا طبيعة جديدة من طبائع يهود، ليكون ذلك تأسيسا لفهم مواقفهم من الدعوة الجديدة، ولتعتبر هذه الأمة فلا تقع فيما وقع به غيرها، والطبيعة الجديدة لليهود التي عرفناها في هاتين الآيتين هي التحريف في التنفيذ. ثم يأمرهم الله عزّ وجل بأن يتذكروا نعمة أخرى: 8 - وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه الصلاة والسلام حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم من اثنتي عشرة عينا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم ذلك ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. والاستسقاء: طلب السقيا من الله والألف واللام في الحجر، هل هي للعهد أو

[سورة البقرة (2): آية 61]

للجنس؟ قولان للمفسرين فإن كانت للعهد فذلك إشارة إلى حجر معلوم، وإن كانت للجنس فذلك إشارة إلى أي حجر، والانفجار هو: السيلان بكثرة وكانت اثنتا عشرة عينا على عدد أسباط بني إسرائيل، وقد عرف كل سبط- أي فروع ابن من أبناء يعقوب- عينهم التي يشربون منها فأصبح أكلهم في التيه المن والسلوى وشربهم من العيون والكل من رزق الله، والعيث أشد الفساد. ومعنى قوله تعالى وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي ولا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم، وبهذه الآية تمت صورة ما أعطي بنو إسرائيل في التيه لطعامهم وشرابهم ليكون ذلك تأسيسا للآية بعدها، التي تعرفنا على طبيعة جديدة لليهود هي الطبيعة المتطلعة لغير ما أعطيت، الطبيعة التي تتطلع إلى الدنئ الممنوع رغم ما بيدها من الخير الرفيع، وقد نهتهم هذه الآية عن الفساد ولم تذكر لنا شيئا عن فسادهم ولكن الآية اللاحقة تؤكد إفسادهم في الأرض كما سنرى. 9 - وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. الطعام الواحد هو المن والسلوى، وإنما قالوا: على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا، والبقول: ما أنبتته الأرض من الخضار، والمراد به في النص أطايب البقول، والقثاء معروفة وهي والخيار صنف واحد، والفوم هو الحنطة على لغة قريش، أو الحمص على لغة الشام، أو الثوم، وقد قرأ به ابن مسعود، أو هو كل ما يختبز. والأدنى: هو الأقرب منزلة والأدون مقدارا، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار، والخير في الآية هو الأرفع والأجل، ومصرا في الآية منكرة أي: أي مصر من الأمصار يوجد فيه ما سألتم، والذلة الهوان، والمسكنة: الاستكانة فاليهود أذلاء وأهل مسكنة من طبيعتهم التصاغر والتفاقر ومعنى «باءوا بغضب من الله» أي صاروا أحقاء بغضبه- أو حقوا على رأي الكسائي وباء معناها رجع. يقول تعالى في الآية: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما

[سورة البقرة (2): آية 62]

طيبا هنيئا نافعا سهلا، واذكروا ضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها. فكان جواب موسى: أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، هذا الذي ذكره المفسرون. ولكني ألمح مع التأنيب الإباحة، أخذا من السياق الذي يعدد النعم فكأنهم مع نزولهم عن المقام الأعلى أبيح لهم أن يحصلوا على مثل هذه الأشياء بالنزول إلى الأمصار المجاورة لهم في رحلة التيه، وبهذا يكون قد انتهى تعداد النعم ثم بعد ذلك يذكر الله عزّ وجل ما عوقبوا به بعد موسى بكثير. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ. ثم علل جل جلاله لهذه العقوبة: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. فالكفر بالآيات وقتل الأنبياء والعصيان والاعتداء، هي سبب استحقاقهم للذلة والمسكنة والغضب من الله بعد سير تاريخي طويل، وبعد إنعام كثير وبعد تفضيل الله إياهم على عالم زمانهم. إنها عقوبة تأتي بعد فترة من المرحلة التي قص الله علينا من أنباء الإنعام عليهم، ولكنه جل جلاله وهو يقص علينا من أنبائهم في المرحلة الأولى، هيأ أذهاننا لنصل إلى هذه النتيجة من خلال ما رأيناه من تعنتهم في الطلب وتحريفهم للأمر، وظلمهم واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وذلك كله في العصر الأول، إن بذور الأخلاق الفاسدة الكبرى التي أدت إلى عقوبتهم النهائية كانت موجودة عند بعضهم حتى في العصر الأول عصر موسى ويوشع. عليهما السلام. ثم تأتي آية أخيرة في الفقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. من المعلوم أن الأمة كلها لا تقع في المعصية بل يبقى أفراد ملتزمون مطيعون وهم لما يفعله الآخرون كارهون ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، هؤلاء ما محلهم في أمتهم؟ ما حظهم من العقوبة الدنيوية والأخروية؟ مع أنهم يقومون بحق الله، إن هذه الآية تأتي لتقرر أن فضل الله عزّ وجل سابغ على أمثال هؤلاء في كل أمة من الأمم، فهم بمنجاة من العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية والذين هادوا هم: اليهود، والنصارى هم من

كلمة في هذه الفقرة وسياقها

نصروا المسيح وللمفسرين في الصابئين اتجاهان، الاتجاه الأول: أنهم قوم بأعيانهم تجد بقاياهم الآن في العراق يعبدون النجوم والملائكة، والاتجاه الثاني: أنهم كل من فارق الباطل إلى الله ولا يعرف ما هو الدين الصحيح، وذهب بعض العلماء أنهم الذين لم تبلغهم دعوة نبي ولم يدخلوا في عبادة غير الله. ويجب أن يكون واضحا أن المقصود بهؤلاء من المذكورين إنما هم المؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا والعاملون بدين الله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً. وحتى لا يقع لبس نقول: إنه لم يعد الآن نجاة لا ليهودي ولا لنصراني ولا لصابئي ولا لمجوسي ولا لغير ذلك إلا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا لم تبلغه الدعوة، وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار». وعلى هذا فاليهود المعنيون في الآية: هم من كانوا قبل عيسى ممن لم يشاركوا في المعصية واستمروا على الإيمان، أما اليهودي الذي لم يؤمن بعيسى بعد بعثته فإنه هالك، والمراد بالنصارى، النصارى الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ممن استمروا على الإيمان الصحيح والعمل الصالح ولم ينحرفوا بانحراف الناس، أما بعد محمد صلى الله عليه وسلم فكل نصراني هالك إذا لم يدخل في الإسلام. وكذلك الصابئون فإنهم ناجون حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بحكم مفارقتهم قومهم إذا أريد بهم هذا المعنى، أما بعد البعثة فكل من لم يؤمن هالك. وصدرت الآية بالكلام عن الذين آمنوا، والمراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم الآخرون وجودا، لأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضين والغيوب الآتية فكان الإيمان علما عليهم. إن أهل الإيمان والعمل الصالح لهم السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلون ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه. وبهذا انتهت الفقرة الأولى من الفصل الأول من المقطع الثالث. كلمة في هذه الفقرة وسياقها: - دلنا على نهاية هذه الفقرة أنها ختمت بمثل القاعدة التي ختمت بها قصة آدم. ودلنا على ذلك أيضا: أن الفقرة كلها كانت في التذكير بالنعم، ثم ختمت بقاعدة، ثم

الفقرة الثانية من الفصل الأول من المقطع الثالث

تأتي فقرة أخرى تذكر بالميثاق وبشيء آخر، وإذن ففي القرآن علامات للمتأملين على بدايات ونهايات الفقرات والمقاطع والأقسام وذلك سيتضح معنا شيئا فشيئا. - يلاحظ أن هذه الفقرة ختمت بقوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لاحظ التشابه بين نهاية هذه الفقرة ونهاية قصة آدم: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن المقطع الذي جاء بعد قصة آدم كان نموذجا لأمة أنزل عليها وحي، وما هو موقفها من هذا الوحي، لتأخذ هذه الأمة دروس ذلك. - بدأ هذا المقطع بأوامر ونواه موجهة لبني إسرائيل: وكان الأمر الأول يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وجاءت هذه الفقرة في التذكير بالنعم الجلى عليهم. وكان الأمر الثاني والثالث: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وستأتي الفقرة الثانية في التذكير بالعهد والتذكير بالخشية: ولذلك تبدأ الفقرة الثانية بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ .. وتنتهي بقوله تعالى وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فالصلة واضحة بين مدخل المقطع وبين الفصل الأول من المقطع في فقرتيه فلننتقل إلى الفقرة الثانية من الفصل الأول. الفقرة الثانية من الفصل الأول من المقطع الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (63) إلى نهاية الآية (74) وهذه هي:

[سورة البقرة (2): الآيات 63 الى 74] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

كلمة عامة في هذه الفقرة

كلمة عامة في هذه الفقرة: تتحدث الفقرة في جولتها الأولى عن الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل، وماذا فعلوا فيه، وتتحدث في جولتها الثانية عما عوقب به المخالفون لأمر الله في البست، وتتحدث في الجولة الثالثة عن حادثة كشف القاتل، ثم تنتهي الفقرة بآية تتحدث عما أصيبت به قلوب بني إسرائيل من قسوة زادت على قسوة الحجارة وهي في جولتيها الثانية والثالثة تبرز من مظاهر الجلال الإلهي ما يستجيش أعظم مظاهر الرهبة من الله جل جلاله. التفسير وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بقبول ما في التوراة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قال ابن عباس: إنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ. أي: خذوا التوراة بجد واجتهاد وعزيمة، وذلك بالعلم والعمل وَاذْكُرُوا ما فِيهِ. أي: بحفظه ودراسته وتذكره وعدم نسيانه والغفلة عنه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أي رجاء أن تكونوا من المتقين الناجين عند الله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. أي: ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به، أي إنهم بعد ذلك الميثاق المؤكد العظيم انثنوا عنه ونقضوه فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيق الله إياكم للتوبة عليكم وإرسال النبيين والمرسلين إليكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. أي: الهالكين بنقضكم ذلك الميثاق في العذاب بالدنيا والآخرة وَلَقَدْ

[سورة البقرة (2): آية 66]

عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ هم أهل (إيلة) إيلات اليوم أي العقبة، وعلمتم هنا بمعنى عرفتم والاعتداء في السبت مجاوزة ما حد لهم فيه، وذلك أنهم جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. أي: كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد. فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها النكال العبرة المانعة لِما بَيْنَ يَدَيْها. أي: من بحضرتها من القرى الذين يبلغهم خبرها وما حل بها وَما خَلْفَها. أي: لمن يأتي بعدها بالخبر المتواتر عنهم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. أي: وزاجرا وعبرة لكل تقي سمع خبرها، يدخل في ذلك من نهوهم ويدخل في ذلك المتقون خلال العصور ومنهم هذه الأمة، والضمير في قوله تعالى فَجَعَلْناها يعود إلى القرية. وتأتي القصة مفصلة في سورة الأعراف وسنرى هناك كيف احتالوا للصيد يوم السبت بما ظاهره أنهم لم يفعلوا شيئا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد جيد مخاطبا أمتنا «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وقد بين لنا ما مر من هذه الفقرة خلقان جديدان من أخلاق اليهود وطبائعهم: 1 - إعراضهم عن الوحي المنزل إليهم مع كثرة المؤكدات وقوة الدواعي للإقبال. 2 - تحيلهم على التخلص من الأوامر والنواهي بمراعاتها ظاهرا ومخالفتها باطنا والواجب المراعاة الظاهرة والباطنة. ثم يتجه السياق لتبيان طبيعة أخرى من طبائع اليهود هي الطبيعة الجدلية ليتم في نهاية الفقرة تحديد معالم الطبيعة اليهودية لتخاطب هذه الأمة على ضوء ذلك فتأخذ الدرس الأول في طريقة التعامل مع هذه الطبيعة في الفصل الثاني من المقطع: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ العياذ واللواذ بمعنى واحد، والجهل والسفه هنا بمعنى واحد، وقد استعاذ موسى من الجهل لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه وفيه تأنيب لهم إذ لم يعرفوا مقام الرسول وأنه لا يليق به ما نسبوه إليه قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ هذا سؤال عن حالها وصفتها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي لا مسنة ولا فتية وإنما هي نصف بين الفارض والبكر وسميت المسنة فارضا لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي افعلوا ما أمرتم

[سورة البقرة (2): آية 69]

به، وفي ذلك إشعار لهم في أن البيان كاف وعليهم أن ينفذوا قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع. والسرور: لذة في القلب تكون عند حصول نفع أو توقعه وهاهنا وصفت البقرة بأنها تسر الناظرين لحسنها، فرؤية الحسن من لذات القلب قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ هذا تكرار للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أي: أن البقر العوان والأصفر كثير فاشتبه علينا، هذا تعليل لطلبهم مزيد بيان وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل أخرج ابن أبي حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما أعطوا ولكن استثنوا»، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها لا ذلول أي لم تذلل للكراب وإثارة الأرض وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروث مُسَلَّمَةٌ أي عن العيوب وآثار العمل لا شِيَةَ فِيها أي لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بالحق البين، أي بحقيقة وصف البقرة بحيث لم يبق إشكال في أمرها فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ أي حصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها وما كادوا يفعلون ذلك، إما لغلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل والآن تأتي بداية القصة. قال المفسرون أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً .. وذلك لأن السياق يقص قصة بني إسرائيل هاهنا تعديدا لوجود الجنايات منهم وتقريعا لهم عليها، وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة لوجود القتيل فيهم وهذا يشعر بمسئولية الجماعة كلها عما يقع فيها. فَادَّارَأْتُمْ فِيها. أي: فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفع، أو المعنى فتدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح، أو لأن الطرح في نفسه دفع. وَاللَّهُ

[سورة البقرة (2): آية 73]

مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. أي: مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوما فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. أي: اضربوا القتيل ببعض البقرة المذكورة في الجزء الأول من القصة، وهذا الضمير هو الذي ربط بين جزئي القصة فضربوه فحيي فأخبر عن قاتله كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى. أي: كهذا الإحياء يحيي الله الموتى يوم القيامة؟ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. أي: يريكم دلائله على أنه قادر على كل شئ فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص، ثم عقب الله- عزّ وجل- على ما مر بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. أي: من بعد إحياء القتيل أو من بعد كل الآيات المارة، ووصف القلوب بالقسوة بيان عنها أنها لم تعد تقبل موعظة ولا اعتبارا، واستعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على التعقيب المتراخي يشير إلى أن المفروض أن لا تقسو قلوبهم بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها كإحياء القتيل وغير ذلك من الآيات المارة. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. أي: فهي في قسوتها كالحجارة وأشد قسوة، أو أن بعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة أي أن منهم من هو هكذا ومنهم من هو هكذا. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هذا بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة، يعني أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير، ومنها ما ينشق انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا، وقلوبهم لا تندى ولا تنبض بقطرة خير، ومن الحجارة ما يتردى من أعلى الجبل من خشية الله وقلوبهم لا تخشى. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا تهديد ووعيد وفيه إشارة إلى أن قسوة القلب ينتج عنها أعمال سيئة وأن الله لا يغفل عن عمل. فوائد: 1 - قالوا في خشية الحجارة وترديها، إنه مجاز في انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به. وقالوا المراد بها الحقيقة: على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة، وعلى هذا قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ .. (سورة الحشر) ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح عن أحد: «هذا جبل يحبنا ونحبه» ومنه حنين الجذع المتواتر، ومنه ما في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن».

2 - قال ابن كثير: والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داود الطيالسي .. عن أبي رزين العقيلي قال، «قلت يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ قال أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا قال بلى قال: كذلك النشور أو قال كذلك يحيي الله الموتى». 3 - قال ابن جريج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم، وأيم الله لو لم يستثنوا «أي لو لم يقولوا إن شاء الله» لما بينت لهم آخر الأبد». ومن ثم فعلينا أن نترك التشديد في الأمور، وأن نسارع إلى امتثال الأوامر وترك النواهي من غير تفتيش وكثرة سؤال. 4 - قال بعض العلماء: إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها لأنها أفضل قرابينهم، ولعبادتهم العجل. 5 - قال المسيب بن رافع: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك في كلام الله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. 6 - نقل المفسرون أقوالا كثيرة في تحديد العضو الذي ضرب به القتيل. وقال ابن كثير تعليقا: هذا البعض أي شئ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى، ولكن أبهمه ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله. 7 - اختلف علماء العربية في معنى (أو) في قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: (أو) هاهنا بمعنى الواو، وقال آخرون: (أو) هاهنا بمعنى بل، وقال آخرون: المراد بذلك الإبهام على المخاطب، وقال بعضهم: معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها في القسوة، وهذا الذي رجحه ابن جرير.

كلمة في السياق

8 - أخرج ابن مردويه والترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي». وأخرج البزار عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا». وبعد: فإننا نحب خلال عرض المقطع ألا نكثر من الفوائد وألا نعقد فصولا حتى لا يكون ذلك على حساب وضوح السياق، فلنؤخر من ذلك إلى نهاية المقطع ما لا يضر تأخيره. كلمة في السياق: - انتهينا حتى الآن من عرض مدخل المقطع الثالث ومن عرض الفقرتين الأولى والثانية منه واللتين تشكلان الفصل الأول منه، وقد رأينا أن الفصل قد ارتبط بالآية الأولى من المدخل وهي قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فجاء الفصل مذكرا بالنعم، مذكرا بالميثاق، مذكرا بالخشية من الله. ونلاحظ أن الفصل الثاني يبدأ بخطاب أمتنا أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... ومن مطلع الفصل الثاني ومما مر معنا من قبل ندرك أن ما اتجهنا إليه في التقسيم إلى فقرات ومقاطع له أدلته التي تدلنا فيها المعاني على ذلك، وواضح كذلك من بداية الفصل اللاحق أنه مرتبط بالآية التالية في المدخل على الآية التي فصل فيها الفصل الأول: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ .... - قلنا أثناء الكلام عن مدخل المقطع: إن مجموعة هذه الأوامر والنواهي هي العلاج الكامل للطبيعة اليهودية. ورأينا من خلال الفصل الأول دليل ذلك، ويكفي أن نشير إلى الآية التي ختم بها الفصل ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ .. لندرك أنه لا دواء إلا قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وسيتضح لنا من خلال الفصل الثاني أن ما اتجهنا إليه كان صحيحا في هذا الشأن، وبهذه المناسبة نقول: إن أمتنا نفسها بعد سير طويل قد تعقدت نفسيات الكثير من أبنائها حتى إنه لم يعد يصلحهم إلا أن ينفذوا مجموعة هذه الأوامر والنواهي بسير جاد لترجع نفوسهم إلى صفائها وهذا يقتضي من المربين أن يلحظوا ذلك عمليا إذا ما واتاهم مسلم يريد العودة الكاملة إلى الله، كما أن على الوعاظ أن يركزوا عمليا على مجموعة هذه القضايا، وألا يقتصروا على واحد منها كطريقة بعضهم إذ يكتفون بتذكير المسلمين بماضيهم فقط.

الفصل الثاني في المقطع الثالث

- ورد معنا في هذا الفصل قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وفي ذلك ما يذكرنا بقوله تعالى في بداية سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فالمقطع يعمق فيما يعمق التقوى والالتزام بها، ويعمق قضية الالتزام بالأمر وترك النهي، وذلك تعميق للالتزام بالأمر والنهي اللذين بدأ بهما القسم كله، يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ... وقد مر معنا في المقطع الأول من القسم الأول قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... وقد رأينا في هذا الفصل نموذج ذلك، والصورة الكلية للوحدة الشاملة في السورة ستتكامل معنا شيئا فشيئا فلننتقل إلى الفصل الثاني في المقطع الثالث. الفصل الثاني في المقطع الثالث: هذا الفصل يبدأ بقوله تعالى مخاطبا هذه الأمة: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .... وينتهي بقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ... ثم تأتي خاتمة المقطع. فالفصل كله في قضية الإيمان. إن مدخل المقطع قد دعا اليهود إلى الإيمان: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. والملاحظ أن الفصل كله في هذا. ولا نلاحظ أن المقطع تحدث عما له صلة فيما بعد ذلك من آيات المدخل وذلك- والله أعلم- لأن تنفيذ الأوامر وترك النواهي اللاحقة متوقف على قضية الإيمان، فإذا دخلوا فيها أصبح الخطاب متوجها لهم بتلك القضايا مع المؤمنين، وإذا لم يدخلوا في الإيمان فلا فائدة في بحثها معهم، غير أنه من مجئ تعريف البر فيما بعد، ندرك أن نقاشا له صلة بالمعاني المذكورة في هذا المقطع لا زال مفتوحا مع بني إسرائيل فالصلات في السورة بعيدة الأغوار.

الفقرة الأولى

- يمتد هذا الفصل من الآية (76) إلى نهاية الآية (121) حيث تأتي خاتمة المقطع وهو يتألف من أربع فقرات، بعضها طويل وبعضها أقصر، وكلها كما قلنا تعالج قضية إيمان بني إسرائيل ونؤثر أن يكون الكلام منصبا على العرض والسياق، حتى ننتهي من عرض الفقرات ثم بعد ذلك نذكر بعض الفوائد ونعقد بعض الفصول فلنبدأ عرض الفقرة الأولى من الفصل الثاني: الفقرة الأولى: تمتد هذه الفقرة من الآية (75) إلى نهاية الآية (82) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 82] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

كلمة في هذه الفقرة وسياقها

كلمة في هذه الفقرة وسياقها: - تبين لنا هذه الفقرة علة رئيسية من علل عدم إيمان اليهود وهي عقليتهم التحريفية المنافقة، وأن هذا يرافقه أماني جاهلة عند العامة وكذب على الله عند العلماء، كما تبين لنا علة جرأتهم على كل شئ، وهي تصورهم أنهم سيعذبون أياما معدودة ثم يكون مآلهم الجنة، وقد ناقشت الفقرة هذا كله. - يلاحظ أن قصة آدم ختمت بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وأن الفقرة الأولى من الفصل الأول من هذا المقطع ختمت بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وأن هذه الفقرة وهي الأولى في الفصل الثاني ختمت بقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وكما أنه بعد الفقرة الأولى من الفصل الأول جاء قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فإنه بعد هذه الفقرة الأولى من الفصل الثاني يأتي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ .. أن هذا كله يؤكد أن تقسيما ما موجود في سور هذا القرآن للمتتبع، كما أن مجئ هذه الخاتمة لهذه الفقرة هنا تدلنا على صحة ما ذكرناه من قبل، من أن قصة بني إسرائيل بعد قصة آدم إنما تخدم في ذكر نموذج على أمة أنزل عليها هدى، وكيف كان موقفها من هذا الهدى، فهي توضيح عملي للقاعدة التي ختمت بها قصة آدم.

- يلاحظ أنه في مدخل المقطع الثالث جاء قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. وفي هذه الفقرة يأتي قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. ويأتي قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. إن هذا يؤكد ارتباط هذه الفقرة بما يقابلها من مدخل المقطع كما كنا تحدثنا عنه من قبل. - وبعد فلأول مرة في سورة البقرة يتوجه الخطاب مباشرة إلى الأمة الإسلامية وذلك في هذه الفقرة بقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ .. فقد سبق من قبل خطاب لبني إسرائيل، وقبل ذلك توجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَبَشِّرِ* وقبله توجه الخطاب إلى الناس جمعيا، وقبل ذلك خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاف الخطاب وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ولأول مرة يتوجه الخطاب إلينا بشكل مباشر بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ ... وذلك بعد مجموعة الدروس التي أخذتها الأمة في سورة البقرة، وكأن الدروس الماضية كافية لإيجاد نضج خاص في الذات العامة للأمة، والخطاب في هذه الفقرة هو في حقيقته درس في المواجهة بين هذه الأمة واليهود، بعد أن اتضحت إلى حد كبير الصورة التاريخية لليهود، وفي هذا الدرس تتقرر مجموعة حقائق لها علاقة باليهود، ومواقفهم، وأسبابها، والرد عليهم، وتأنيبهم وغير ذلك، ففي هذه الفقرة إذن يتجه السياق لخطاب هذه الأمة؛ لتضع قدمها حيث ينبغي أن توضع في آرائها بالآخرين، وفي مواقفها، وفي معرفة أعدائها وتحليل مواقفهم، وذلك كله يؤكد ما ذكرناه من قبل أن هذا المقطع إنما يقدم لأمتنا نموذجا على أمة أنزل عليها الوحي، وكيف كان موقفها من ذلك ليعطيها دروسه، ولكن في الوقت نفسه فإن المقطع يخدم قضايا أخرى كثيرة منها: دعوة بني إسرائيل، وإقامة الحجة عليهم، ومنها توضيح صراط المغضوب عليهم والضالين لتجتنب، ومنها ومنها مما لا يحيط بأسراره إلا الله، ثم يأتي من أعداء الله من يتساءل أين الصلات بين الآيات في السورة الواحدة والصلة بين السور في القرآن، ألا إنه العمى وحده هو الذي يجعل هؤلاء لا يبصرون عمق الصلات. - قد يكون مناسبا قبل أن نبدأ عرض الفقرة أن نذكر بعض ملامح الشخصية اليهودية مما وضحه لنا الفصل الأول:

التفسير

1 - طبيعة مسارعة إلى الشرك 2 - طبيعة متعنتة تطلب ما لا يصح طلبه كرؤية الله 3 - طبيعة فاسقة محرفة 4 - طبيعة مفسدة شهوانية 5 - طبيعة كافرة مكذبة بالآيات 6 - طبيعة تكره الحق وتقتل أهله ولو كانوا أنبياء 7 - طبيعة محتالة على الأوامر والنواهي 8 - طبيعة غادرة تنقض المواثيق حتى مع الله- جل جلاله- 9 - طبيعة مجادلة. ولنبدأ عرض الفقرة: التفسير: أَفَتَطْمَعُونَ أيها المؤمنون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. أي: ينقاد لكم هؤلاء اليهود بالتصديق والطاعة والاستجابة لدعوتكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. أي: طائفة ممن سلف منهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ. أي: التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ. أي: يتأولونه على غير تأويله مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أي: من بعد ما فهموه على الجلية، ومع هذا فهم يخالفونه على بصيرة مع علمهم أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، يفهم من ذلك أنه متى وجدت هذه العقلية التحريفية فلا أمل يرتجى عندها في قبول الحق ومتابعته. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا. أن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ. أي: في حال اختلائهم ببعضهم يقول بعضهم لبعض: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم. وقال ابن عباس: «وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم فأنزل الله وَإِذا لَقُوا .. لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ. أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا: اجحدوه ولا تقروا به. وقال النسفي في تفسير هذا الجزء من الآية أي: أتخبرون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما بين الله لكم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ألا تراك تقول: هو في كتاب الله تعالى هكذا، وهو عند الله هكذا، بمعنى واحد. وقيل في قوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ إنه إضمار مضاف والتقدير أي: عند كتاب ربكم. وقيل: ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم في الآخرة، يقولون كفرتم بعد أن وقفتم على صدقه

[سورة البقرة (2): آية 77]

أَفَلا تَعْقِلُونَ أن هذا حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعونه، دلت هذه الآية على أن من طبيعة اليهود أن يظهروا خلاف ما يبطنون مع عدم الإكراه، وأنهم يقولون للناس شيئا ويقولون فيما بينهم شيئا آخر، كما دلت الآية على أن هذا النوع من المواقف سببه عدم معرفة الله حق المعرفة، وإلا لو أنهم يعلمون أن الله يعلم السر وأخفى لعلموا أن الحجة قائمة عليهم اعترفوا أو لم يعترفوا ولذلك قال تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إنهم جهلة بالله؛ ولذلك فإنهم يقولون ما يقولون، فإذا كان هذا حال أهل العلم منهم فما بالك بالعامة، إن الآية الآتية تصور لنا حال هؤلاء العامة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الأمي: هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة، والمراد بالكتاب هنا التوراة، والأماني: جمع أمنية وهي التمني الذي لا يرافقه عمل، وقد تأتي بمعنى الكذب، أو بمعنى التلاوة غير المتعمقة، والأرجح أن المراد بها هاهنا الأول، فمعنى الآية: ومن اليهود من لا يحسن القراءة والكتابة، فهم لا يطالعون التوراة فيتحققون بما فيها، فهم لا يعرفون إلا ما هم عليه من أماني من أن الله يحبهم، ويعفوا عنهم، ويرحمهم على ما هم عليه كائنا ما كان، وما هم في هذا إلا ظانين؛ لا يستندون في ما هم فيه على يقين. ذكر في هذه الآية العامة المقلدون، وفيما قبلها العلماء المحرفون، والمنافقون والمضللون، وهذا هو التقليد المذموم أن يوجد إمام يتبعه متبع على غير هدى، ومن الضلال الفظيع تأويل كتاب الله على غير ما يحتمله نص الكتاب وما تشعبت فرق الضلال إلا عن مثل هذا، وما تضل العامة في الغالب إلا بسبب أئمة الضلال الذين يحرفون كتاب الله، أو يتأولونه بهوى، أو ينسبون إلى الله ما لم يقله أو يحكم به، وعلماء اليهود فعلوا هذا كله، والآية التالية تذكر فعلة من فعلاتهم، والدواعي التي دعتهم لذلك وما يستحقونه من عقاب عليها قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ عن ابن عباس: «الويل المشقة من العذاب» .. وقال الخليل بن أحمد: الويل شدة الشر. وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها وقال بعضهم: الويل الحزن. وقال الحسن البصري: «الثمن القليل الدنيا بحذافيرها» ومن الدنيا المال والزعامة والجاه وعلى هذا فمعنى الآية. أن الهلاك والعذاب للكتبة الوضاعين الذين يكتبون كتبا مختلقة من عند أنفسهم،

[سورة البقرة (2): آية 80]

ويزعمون أنها من عند الله وليست كذلك، ومن أجل كسب يسير كهذه الدنيا الفانية وما فيها أو بعض ما فيها، فويل لهم مرتين: مرة على ما كتبوا ومرة على ما كسبوه من مال حرام، والآية وإن جاءت في سياق الحديث عن بني إسرائيل فإنها عامة. قال عبد الرحمن بن علقمة: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ قال نزلت في المشركين وأهل الكتاب. ثم قال تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ مجئ هذه الآية بعد ما قبلها بمثابة البيان لأسباب هذه المواقف الخائنة. إن جرأة اليهود على التحريف والتبديل، وعلى الكيد والمكر والحسد والخداع ومعاندة الأنبياء، وغير ذلك من صفاتهم ومواقفهم، إن ذلك كله سببه هذا الاعتقاد الفاسد أن مدة مكثهم في النار أياما معدودة، ثم إن مجئ الآية بعد الآية التي ذكرت كتاباتهم المختلقة، ونسبتهم إياها إلى الله يوحي كذلك بأن هذا مما اختلقوه وقالوا هو من عند الله، وفي الوقت نفسه فإن الآية تسجل واحدة من الأماني الكاذبة التي ربي عليها عامة اليهود. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فهذه إحدى الأماني المظنونة، وقد ردت الآية على زعمهم في هذا الموضوع. وعلينا أن ندرك هنا بعمق كيف أن تصور الإنسان عن اليوم الآخر يؤثر تأثيرا كاملا في مواقفه فإذا كانت هذه المواقف اليهودية الفظيعة أثرا من آثار هذه العقيدة التي رأيناها وذلك شئ منصوص عليه في سورة آل عمران: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. إذا كانت هذه مواقف اليهود بسبب هذه العقيدة، فكيف تكون مواقف الذين لا يؤمنون باليوم الآخر أصلا! فكيف تكون مواقف الذين يتصورون أن الله لا يعذبهم أبدا! وللأسف فإن كثيرين من عامة المسلمين وعلمائهم يستشعرون الأمن من النار ومن عقاب الله، وذلك أقل ما يقال فيه أنه من الكبائر كما نص عليه الفقهاء. في الأيام المعدودة أقوال منها أنها سبعة أيام، ومنها أنها أربعون يوما، ولا شك أن

وبإجمال نقول تفسيرا للآية

التحديد هو مما سمعه علماء المسلمين منهم أو عنهم، وهناك حديث رواه البخاري والنسائي وأحمد فيه كلام لليهود أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه تحديد والأمر واسع ولا تهمنا معرفته عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبوكم؟ قالوا: فلان قال: كذبتم أبوكم فلان فقالوا صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا ثم قال ... ». وبإجمال نقول تفسيرا للآية: يقول تعالى فى الآية إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان ولذا أتى ب أَمْ التي بمعنى بل في الرد على زعمهم، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه، ثم بين الله عزّ وجل أن الأمر عنده هو: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات، فهذا من أهل النار، والخطيئة هنا الشرك كما هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة إذ إنهم آمنوا بما كفر به الآخرون، وعملوا بما ترك الناس من دين الله، أخبر الله بالآية أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له. وللمفسرين كلام كثير في قوله تعالى بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ

كلمة في الفقرة الأولى

قال النسفي: بلى من كسب شركا؛ وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه (أي فهذا الذي أحاطت به خطيئته) فأما إذا مات مؤمنا فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطا به؛ فلا يتناوله النص، وبهذا التأويل يبطل تشبث المعتزلة والخوارج. وقيل في تفسير إحاطة الخطيئة: أي استولت عليه كما يحيط العدو ولم يتخلص منها بالتوبة. وعلى كل حال فإن الخطايا، ولو لم تكن كفرا، فإنها بريد الكفر، فإذا سار الإنسان في طريق الخطايا، فإنه بذلك يجني على قلبه شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكفر عند ما تحيط به الخطايا. أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجئ بالعود، والرجل يجئ بالعود؛ حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا؛ فأنضجوا ما قذفوا فيها» وفي هذا الموضوع نصوص كثيرة سنراها. كلمة في الفقرة الأولى: - بينت هذه الفقرة أن لليهود عقيدة هي أنهم يتصورون أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة، وبسبب من هذه العقيدة فعامتهم غلبتهم الأماني الكاذبة، وهم وراء علمائهم، وعلماؤهم كذابون على الله منافقون، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فكتاب الله يحرفونه ويزيدون على ذلك الاختلاق على الله، وناس هذا شأنهم لا طمع في إيمانهم، ومن ثم فإن هذه الفقرة قطعت الطريق على حسن الظن باليهود ما دامت طبيعتهم على هذه الشاكلة، والطريق أمامهم مفتوح إذا أرادوا الإيمان، وقد حدده الله عزّ وجل في مدخل المقطع، ولكن أن يتوهم المسلمون في هذا الشأن فذلك شئ آخر، وبهذا أعطت الفقرة المسلمين دروسا: درسا في انحرافات أمة عن دين الله، ودرسا في حدود حسن الظن بهذه الأمة، ودرسا في أن على المسلمين ألا يقعوا فيما وقعت فيه هذه الأمة، وألا يسيروا فيه، وللأسف فإن كثيرا من الفرق التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية كان سبب ضلالها هو غياب درس هذه الفقرة عنها. - بعد أن بينت هذه الفقرة محل اليهود في قضية الإيمان بالإسلام فإن السياق الآن سيتجه لإقامة الحجة عليهم في قضية الإيمان هذه.

الفقرة الثانية من الفصل الثاني من المقطع الثالث

إن دعواهم الرئيسية في عدم إيمانهم هي: أن إيمانهم بما أنزل عليهم يكفيهم ويغنيهم وينجيهم؛ ومن ثم تأتي الفقرة التالية لتنقض هذا الزعم نوع نقض، وتأتي الفقرة الثالثة لتنهي هذه المزاعم إنهاء كاملا فلنر الفقرة الثانية: الفقرة الثانية من الفصل الثاني من المقطع الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (83) إلى نهاية الآية (86) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

كلمة في هذه الفقرة وسياقها

كلمة في هذه الفقرة وسياقها: 1 - يلاحظ أن الفقرة الأولى من الفصل الأول انتهت بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ... مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وأن الفقرة الأولى من الفصل الثاني انتهت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فهناك تشابه بين نهاية الفقرة الأولى في الفصل الأول، وبين نهاية الفقرة الأولى من الفصل الثاني. وكما أن الفقرة الثانية من الفصل الأول بدأت بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فإن الفقرة الثانية من الفصل الثاني تبدأ بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ... 2 - يلاحظ أن هذه الفقرة ذكرت مضمونين لميثاقين أخذا على بني إسرائيل بينما مرت معنا من قبل كلمة الميثاق دون أن يذكر مضمون لها، فههنا يأتي بعض التفصيل في قضية الميثاق، وتأخير التفصيل إلى هذا الموضع يقدم لنا أكثر من درس مرتبط بمجموع ما مر من قبل، ولو أن هذه الفقرة جاءت قبل ذلك لكانت خدماتها للسياق أقل مما أعطته هاهنا كما سنرى. 3 - جاءت هذه الفقرة بعد ذكر ادعاء اليهود أنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودة، وبعد الرد عليهم من خلال قاعدة كلية، فكانت هذه الفقرة بمثابة تفصيل أو تمثيل لأنواع من الأعمال ارتكبوها يستأهلون فيها العذاب الشديد والخلود، ولذلك تختم هذه الفقرة بقوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ .. ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إنهم يستحقون ذلك بسبب من نقضهم الميثاق في شأن العبادة والمعاملة، وبسبب من نقضهم الميثاق في شأن التطبيق الشامل للتوراة. وجاءت هذه الفقرة بعد الفقرة التي تبدأ بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. فهي تعمق عند المسلمين فهم النفسية اليهودية التي تعقدت فلم تعد تستجيب لدعوة الإيمان، كما جاءت مقدمة للفقرات التي تناقش اليهود في لب قضية دعاواهم الإيمانية مقيمة الحجة عليهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.

4 - قلنا: إن هذا الفصل يفصل ويعلل لما يقابله من الأوامر والنواهي التي وردت في مدخل المقطع وهي: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ وهذه الفقرة ختمت بقوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ... فالفقرة تبين أن اليهود اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وخلطوا الحق بالباطل، وأنهم نقضوا الميثاق في قضية الصلاة والزكاة والتوحيد واتباع الهدى المنزل عليهم، وهذا كله يقتضي تجديد المطالبة بالأوامر والنواهي التي أهملوها، وكان ذلك من خلال رسالة جديدة ودعوة جديدة. 5 - وقصة آدم انتهت كما رأينا بقاعدة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وفي هذه الفقرة يرينا الله عزّ وجل موقف هؤلاء مما طالبهم الله عزّ وجل به من الهدى وخيانتهم في ذلك واستحقاقهم بذلك عذاب الله. وفيما قبل قصة آدم: ذكر من صفات المتقين في مقدمة سورة البقرة: الإيمان والصلاة والإنفاق واتباع الكتاب، ثم جاءت دعوة عامة للتوحيد والعبادة، وجاء تحذير من نقض العهد والإفساد في الأرض وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ونلاحظ أن هذه الفقرة أعطتنا درسا في ذلك كله بينت لنا أن بني إسرائيل أمروا بعبادة الله وبالصلاة والزكاة فأعرضوا إلا قليلا، وأن بني إسرائيل طبقوا بعض الكتاب وأهملوا بعضه الآخر، وأنهم نقضوا العهد والميثاق مع الله، وكيف أنهم يقتلون أنفسهم وهو إفساد، وكيف أنهم لا يقومون بحق أخوة الإيمان وهو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وهكذا نجد أن الفقرة مرتبطة بما قبلها مباشرة من الآيات، وتخدم في سياق فصلها وفي سياق مقطعها، وتخدم في تعميق معاني كل المقاطع السابقة عليها، وتخدم في تعميق معاني مقدمة السورة وهي تأتي حلقة في سلسلة، فهي بمثابة المكمل لما سبق والمقدمة لما لحق. 6 - يلاحظ أنه بعد مدخل المقطع الأول جاء خطاب لبني إسرائيل وجاءت موعظة ثم بدأ التذكير بالنعم، والملاحظ أن الموعظة انتهت بقوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وهنا تختم الفقرة بقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ

التفسير

عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. لاحظ جملة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولو أنك تأملت المعاني التى مرت معنا حتى الآن في المقطع، والمعاني التي تأتي معنا لرأيت عجبا فكأننا في هذه الفقرة في نهاية شئ، وكأننا فيما يأتي في بداية جديدة ضمن إطار كلي هو المقطع ضمن إطار أكبر هو السورة. بدأ الفصل الأول بعد مدخل المقطع بهذا النداء: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. فكان هذا النداء بمثابة المقدمة للفصلين الأول والثاني ونلاحظ أن المقطع كله ينتهي بمثل هذه المقدمة. وجاء الفصل الأول، وجاءت الفقرة الأولى والثانية من الفصل الثاني، وجاء تذكير بالنعم، وجاء تذكير بالعقوبة الصارمة القطعية، وختمت الفقرة الثانية من الفصل الثاني بقوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فكأن هاهنا خاتمة التقرير لأسباب الموعظة في بداية الفصلين ليكون الآن عرض جديد وتغير فى أسلوب الخطاب والمعالجة ولذلك يأتي بعد هذه الفقرة قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ .... إننا أمام سياق يشبه أن يكون جديدا بالنسبة لما سبقه وكأن هذه الفقرة تعتبر خاتمة من وجه لجولات في المقطع. وكأن مقطع بني إسرائيل في النهاية يتألف من مدخل وفصلين وكل فصل يتألف من فقرتين، نهاية الفقرة الأولى في الفصلين متقاربة، وبدايات الفقرة الثانية من الفصلين متشابهة، ثم بعد ذلك عندنا في المقطع مناقشات ودروس، ولنبدأ عرض الفقرة الثانية في الفصل الثاني من المقطع الثالث. التفسير: تعطينا هذه الفقرة درسين من خلال موقفين لليهود لهما علاقة بالعهود المأخوذة عليهم وموقفهم منها، وكلا الدرسين مبدوء بكلمة (إذ) التي تأتي عادة في هذا السياق بعد أمر محذوف تقديره (اذكر) ولا شك أن الذي يتذكر هو المسلم وحده، إذ هو الذي

الدرس الأول

يستفيد من كتاب الله، فإذ يتذكر المسلم ما أمروا به، وما فعلوه، وما عوقبوا به نتيجة لذلك فإنه يكون قد استفاد من الدرس. الدرس الأول: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الميثاق هو العهد المؤكد غاية التوكيد لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ هذا إخبار في معنى النهي وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الانتهاء والامتثال وهو يخبر عنه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى أي القرابة وَالْيَتامى جمع يتيم: وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا هو الحسن في نفسه لإفراط حسنة، يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه، ويتذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم، وهذا هو أعلى الحقوق، وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين وأكبرهم وأولادهم بذلك حق الوالدين، والأقربين، ثم اليتامى والمساكين، فهؤلاء يستحقون الإحسان؛ لأن اليتامى لا كاسب لهم؛ والمساكين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، أما الناس كل الناس فلهم الكلمة الطيبة ولين الجانب وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً قال الحسن البصري: «فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا» وقد ناسب أن يأمر بالإحسان بالقول بعد الإحسان في الفعل؛ ليجتمع طرفا الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك، وهو الصلاة والزكاة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثم أخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي تركوا كل ما أمروا به ونهوا عنه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد، بعد العلم به إلا القليل منهم. وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء كما سنرى، وكم من هذه الأمة قد أعرض. بينت هذه الآية كيف كان موقفهم القولي، وإعراضهم عن العبادة، والإحسان الفعلي، والقولي، وعن الصلاة والزكاة. وبمناسبة هذه الآية فلنذكر بهذين الحديثين: في الصحيحين عن ابن مسعود «قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في

الدرس الثاني

سبيل الله .. » وأخرج مسلم والترمذي والإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحقرن من المعروف شيئا وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق». الدرس الثاني: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه ولا ينفيه جعل غير الرجل بمثابة نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة، كما قال عليه السلام «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» ثم قال تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به وتعترفون على أنفسكم بلزومه. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ كانوا في المدينة المنورة فريقان طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والطائفة الأخرى النضير وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك، يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا، ولا حلالا ولا حراما، يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ويخرجونهم منها. تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ كانوا إذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة الذي جاء فيها (إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته)، فهم يطبقون التوراة في هذا الجانب ويخالفونها في غيره مما ذكر قبله وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. فالإخراج حرام عليهم وكذلك القتل وكذلك مظاهرة غيرهم على بعضهم. قال السدي: «أخذ الله عليهم أربعة عهود ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، والفداء فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء. قال تعالى مؤنبا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي أتفادونهم بحكم التوراة،

[سورة البقرة (2): آية 86]

وتقتلونهم، وتخرجونهم، وتظاهرون عليهم، مع أن التوراة تحرم هذا، جعلت الآية التطبيق إيمانا وعدم التطبيق كفرا. قال السدي: فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما، جمعوا له حتى يفدونه فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا فلم تقاتلوهم؟ قالوا إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين يخبرهم الله تعالى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ أي فما جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي إلا ذلة وهوان بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أشد العذاب هو الذي لا روح فيه ولا فرح جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الأعمال القبيحة والسيئة، ولكن له سننا أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة واختاروها عليها اختيار المشتري. دلت الآية على أن سبب الخلل في التطبيق هو محبة الدنيا وتفضيلها على الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم فليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه. وبمناسبة قوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ نحب أن نلفت النظر هاهنا إلى أن اليهود، أو النصارى، أو أبناء الأديان، يرون أنهم بسبب من كونهم يهودا، أو نصارى، أو غير ذلك، فإنهم سينصرون يوم القيامة، وأن من ينتسبون إليهم سينصرونهم، وقد قطع الله عزّ وجل في هذه الآية طمع اليهود من ذلك بسبب من أعمالهم. وكثيرون من أبناء المسلمين غلب عليهم هذا التفكير أنهم سينجون عند الله مهما اقترفوا، وكثيرون من صوفية المسلمين غلب عليهم هذا التفكير حتى أصبحت تجد صوفيا لا يصلي، ولا يزكي، ولا يهتدي بكتاب الله، ويوالي الكافرين، ويؤمن بشعاراتهم المعطلة للكتاب، ويتصور مع هذا أن نسبته إلى فلان من الناس، أو إلى الطريقة الفلانية، تنجيه عند الله. وبمناسبة قوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ نقول: لقد أخذ الله على هذه الأمة ما أخذ على بني إسرائيل في وجوب إقامة أحكام القرآن، فطبقت في عصورها المتأخرة بعضا وتركت بعضا؛ فابتلاها الله بما ابتلاها به، من الذلة، والهوان ولعذاب الآخرة أشد. وها نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري نعاني من الذلة والهوان، بأن سلط الله

كلمة في السياق

علينا أمم الكفر، حتى سلط علينا اليهود أذل خلق، وتلك عقوبة نسيان جزء من كتاب الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وها نحن نلنا خزي الدنيا ونعوذ بالله من ذلك ومن عذاب الآخرة، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ إنه لا خلاص لنا مما نحن فيه بالدنيا، ولا نجاة لنا في الآخرة، إلا بالعودة الكاملة لكتاب الله، بتطبيقه كله، في محيط الفرد، والأسرة، والدولة، والأمة. وإلا فإن الذلة مستمرة، وكل محاولة للخروج منها عن غير هذا الطريق محاولة فاشلة. قال عمر رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»، وقد رأينا أن سبب التطبيق الجزئي هو استحباب الدنيا على الآخرة، فبداية الدواء إذن أن نغرس في قلب المسلم تفضيل الآخرة على الدنيا، وأن نغرس في قلبه حب الآخرة، وطريق ذلك العلم بالكتاب والسنة، والعمل، ومجالسة الصالحين من عباد الله. كلمة في السياق: بقيت عندنا فقرتان من الفصل الثاني في المقطع الثالث ثم خاتمة المقطع، والحقيقة أن هاتين الفقرتين بمثابة جولتين في النقاش المباشر مع بني إسرائيل، فهما من ناحية امتداد للفصل الثاني، لأنهما نقاش في قضية الإيمان، ومن ناحية أخرى فهما يشبهان أن يكونا فصلا جديدا في المقطع، فهما يمثلان استمرارية من ناحية، واستقلالية من ناحية أخرى، ولذلك فسنعرضهما على أنهما جولتان في هذا الفصل، مع اعتبارنا إياهما فقرتين من فقرات أربع تشكل الفصل الثاني كما رأينا من قبل. الفقرة الثالثة من الفصل الثاني تمتد هذه الفقرة من الآية (87) إلى نهاية الآية (103) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 87 الى 103] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: 1 - لقد رأينا أن مدخل هذا المقطع دعا اليهود إلى الإيمان بالقرآن: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ورأينا الفقرة الأولى من الفصل الثاني تيئس المسلمين من الطمع بإيمان اليهود، ثم تأتي الفقرة الثانية من الفصل الثاني فترينا أن عند اليهود خللا في إيمانهم بكتابهم أصلا، ثم تأتي هذه الفقرة لتبدأ حوارا مفتوحا مع اليهود في قضية الإيمان والأسباب الصارفة لهم عن الإيمان بالقرآن، وأنها ليست إلا الطبيعة الكافرة المستكبرة الفارة من الهدى إلى الضلال، فهي إذن استمرار للفصل الأول المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. ومن ثم فهي تحدثنا عن أن عادة بني إسرائيل أن يكذبوا، ويقتلوا كل رسول لا يوافق كلامه أهواءهم، وتحدثنا عن أسباب أخرى يرفضون من أجلها الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم عليهم الحجة بشكل ثم بآخر، فهي استكمال لعرض الأسباب والعوامل التي تحول بينهم وبين الإيمان بالقرآن. 2 - في الفصل الأول من هذا المقطع جاء قوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وتأتي هذه الفقرة فترينا تفصيلات، في قتلهم الأنبياء، وكفرهم بالآيات، وعصيانهم، واعتدائهم بعد أن وجدت الأسس اللازمة لهذه التفصيلات، ولتخدم هذه التفصيلات هنا السياق السابق، واللاحق بشكل أجدى. 3 - دعاهم مدخل هذا المقطع إلى الإيمان والتقوى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. ونجد في هذه الفقرة وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ونجد أن خاتمتها هي: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.

المجموعة الأولى

فالفقرة هذه إذن تناقش مواقفهم من الدعوة الموجهة إليهم، ومن قبل كان عرض لمواقفهم، فهناك عرض، وهاهنا حوار مباشر. 4 - يلاحظ أن المعاني في الفقرة تتعانق ومن ثم تتكرر بدايات بعينها، فالآية الأولى في الفقرة مبدوءة بقوله تعالى وَلَقَدْ وكذلك الآية (92) وكذلك الآية (99) والآية (89) مبدوءة بكلمة وَلَمَّا وكذلك الآية (101) وفي الفقرة ورد قوله تعالى أَفَكُلَّما وبعد اثنتي عشرة آية قوله تعالى أَوَكُلَّما وهذا كله يعطينا مؤشرات على وحدة الفقرة كما سنرى. 5 - ومن خلال النقاش الطويل مع بني إسرائيل في قضية الإيمان بالقرآن والهدى المنزل من الله عزّ وجل، تتضح للمسلم مجموعة الأمور التي تصرف عن الإيمان بالقرآن، ويتعمق لديه حس المعرفة بالطبيعة اليهودية العابثة التي ستكون بينها وبين المسلمين مواجهات خلال العصور. والفقرة مع تعانق معانيها فإنها تكاد تنقسم إلى ثلاث مجموعات، كل مجموعة فيها درس، بل دروس، ولنبدأ عرض المجموعة الأولى: المجموعة الأولى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل، يقال قفاه به إذا أتبعه إياه، وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، والإخبار بالمغيبات وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي بالروح المقدسة، ومعنى القدس في الأصل الطهارة. وما هي هنا؟ للمفسرين أقوال، منهم من قال: إنه جبريل؛ لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب، ومنهم من قال: إنه الإنجيل؛ لأنه كالقرآن روح من عند الله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. (سورة الشورى) ومنهم من قال: إنه اسم الله الأعظم، الذي كان يحيي به الموتى. قال ابن جرير: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع جبريل .. أقول ويؤيد هذا الاتجاه قول الله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ .. (سورة الشعراء) فسمى جبريل في هذه الآية روحا، ويؤيد هذا الاتجاه ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أيد حسان بروح القدس؛ كما نافح عن نبيك». وفي بعض الروايات: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم أو هاجهم وجبريل معك». أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أي بما لا تحبه وتريده اسْتَكْبَرْتُمْ

[سورة البقرة (2): آية 88]

فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ أي تعظمتم عن القبول والمتابعة، ففريقا كذبتموهم كعيسى ومحمد، وفريقا تقتلونهم كز كريا ويحيى. قال الزمخشري في قوله تعالى فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ «إنما لم يقل وفريقا قتلتم، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا، لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر». في الآية نعت بني إسرائيل بالعتو، والعناد، والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، آتى الله موسى الكتاب فحرفوه، وبدلوه، وخالفوا أوامره، وأولوها، وأرسل الرسل بعده يحكمون بشريعته، فكانوا يعاملونهم أسوأ معاملة، من التكذيب إلى القتل. ثم ختم الله أنبياء بني إسرائيل بعيسى عليه السلام، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، وأعطاه الله من المعجزات الكثير وأيده بجبريل، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وصدهم وعنادهم، وكل هذه المواقف من الأنبياء سببه أن الأنبياء يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، فالأمر بالنسبة لهم معكوس، إنهم بدلا من أي يضبطوا أهواءهم على شرع الله يريدون أن يكون شرع الله تابعا لأهوائهم، وأمة هذا شأنها لا يستغرب موقفها الكافر من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما أشبه حال الكثيرين من أبناء عصرنا بهذا الذي عليه اليهود: إذا حدثتهم عن الإسلام بما يوافق هواهم قبلوا وإلا كذبوا؛ وإن كان لهم سلطان قتلوا، وما أكثر من يجعل الإسلام تابعا لأهواء الناس من الحاكمين والمحكومين، حتى صعب على أهل الإخلاص والعلم أن يبينوا الإسلام للناس كما هو، لكثرة مسايرة الأهواء فأين هذا من الحديث؟ «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به». همزة الاستفهام في قوله تعالى أَفَكُلَّما تفيد التوبيخ، والتعجب، وأي عجب أكبر من تكذيب الرسل، وقتلهم، والاستكبار عن متابعتهم، والسماع لهم، ومن يستحق اللوم أكثر من هؤلاء؟ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أي هي مخلوقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تفقهه، وقيل غلف تخفيف غلف جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية للعلوم، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقا لقبلنا، والقول الأول أقوى بدليل الحديث «وقلب أغلف مربوط على غلافه .. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر» وقولهم هذا يدل على طبيعة متبجحة تتبجح بالكفر، وتفتخر بقساوة القلب، وما أكثر ما تجد هذا النوع من الناس بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي بل طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم الذي اختاروه لأنفسهم. هذا رد

[سورة البقرة (2): آية 89]

من الله عليهم أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك؛ لأنها خلقت على الفطرة، والتمكن من قبول الحق، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي فإيمانا قليلا يؤمنون، وهو إيمانهم ببعض الكتاب، أو ببعض الوحي، وقيل القلة بمعنى العدم و (ما) في الآية مزيدة أي لا يؤمنون بشيء. وقيل: فقليل منهم من يؤمن، والأقوى الأول. دلت الآية على أن الإيمان ببعض الكتاب أثر من آثار الطرد من رحمة الله، وأن سبب الطرد هو الكفر، وأن من أسباب الكفر اتهام الله، والتبجح في الوصف الكافر. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي ولما جاء اليهود القرآن المصدق للتوراة وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي على المشركين. ذكر ابن كثير عن ابن عباس: «أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم وَلَمَّا جاءَهُمْ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ أي فلما جاءهم ما عرفوه من الوحي والنبوة كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرئاسة فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ أي فلعنة الله عليهم. ووضع الاسم الظاهر بدل الضمير للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم، أو أن المعنى: أن لعنة الله على كل كافر، واليهود دخلوا في ذلك دخولا أوليا؛ لأنهم أحق الناس أن يؤمنوا. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الشراء هنا البيع. والبغي الحسد. فصار المعنى: بئسما باعوا به أنفسهم، باعتياضهم الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بدلا من تصديقه ومؤازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك، البغي، والحسد، والكراهية لأن ينزل من الوحي على من يصطفيه من عباده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حسد أفظع من هذا النوع من الحسد لأنه معاندة مباشرة، واعتراض مباشر على الذات الإلهية فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي رجعوا بسبب سيرهم هذا مستوجبين مستحقين الغضب على الغضب. أي الغضب المترادف، غضب بسبب ما ضيعوا من التوراة، وغضب بسبب كفرهم بعيسى وبالإنجيل، وغضب بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، ومن ثم فقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (في الفاتحة) بأنهم اليهود لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه وينحرفون عنه

[سورة البقرة (2): آية 91]

ويعاندونه. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي مذل، إذ لما كان كفرهم سببه البغي، والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة، والصغار. أخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شئ من الصغار، حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال، عصارة أهل النار». وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي إذا قيل لليهود صدقوا بالقرآن واتبعوه قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة، ولا نقر إلا بذلك وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ يعني بما بعده وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ أي غير مخالف له، وفيه رد لمقالتهم، وتسفيه لهم، وإقامة حجة عليهم، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها فمن عرف الله وعرف كتابه؛ آمن بكل رسول له، وآمن بكل كتاب له أنزل أو ينزل وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بشرت به التوراة، والكتاب المنزل عليه يصدق ما في التوراة، فكيف يكفرون به! ولكنها ليست أول مواقفهم السيئة قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا، وعنادا، واستكبارا على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، وهكذا أهل الباطل في كل زمن يفرون من الحق ويحتجون بما ليس حجة، بل بما به الحجة عليهم، فهم متناقضون وليس كمواقفهم وأفعالهم دليل على ما في قلوبهم، فهؤلاء ناس يدعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم وبسبب ذلك يرفضون الإيمان بالوحي الجديد، فأقام الله عليهم الحجة بأنهم ليسوا مؤمنين بما أنزل عليهم، بدليل أنهم كانوا يقتلون أنبياءهم، وبدليل أنهم عبدوا العجل في زمن موسى مع كل الآيات التي رأوها. قال تعالى مقيما عليهم تتمة الحجة: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ البينات هي الآيات الواضحات، والدلائل القاطعات، كالطوفان، والجراد، والقمل، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، لقد جاءكم موسى بالآيات الواضحات، ثم اتخذتم العجل معبودا من دون الله، من بعد ما ذهب موسى إلى الطور لمناجاة الله عزّ وجل، وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه، من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، أو أنتم قوم من عادتكم الظلم، فإذا كان هذا شأنكم، وموسى موجود بين أظهركم، أتدعون الآن أن إيمانكم بالتوراة هو الذي يجعلكم لا

كلمة في هذه المجموعة وسياقها

تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن! إنها الطبيعة الكافرة في مواقفها وأفعالها وأقوالها. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من الفقرة. كلمة في هذه المجموعة وسياقها: 1 - بدأت المجموعة بآية مبدوءة ب وَلَقَدْ وانتهت بآية مبدوءة ب وَلَقَدْ وتأتي مجموعة بعدها مبدوءة ب وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ مما يوحي بأننا أمام مجموعة جديدة، وفي الآية الأولى من هذه المجموعة ورد قوله تعالى وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ وجاءت خاتمة المجموعة لتقول فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. 2 - في هذه المجموعة حوار مباشر مع اليهود في قضية الإيمان بالقرآن، ومناقشة الصوارف التي يطرحونها، وإقامة حجة عليهم فيها من خلال مجموعة الأمور التي تدل على أن هذا الموقف الظالم هو استمرار لمواقف ظالمة أخرى. 3 - وقد سبقت هذه المجموعة بخاتمة الفقرة السابقة: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكانت هذه المجموعة بمثابة استمرار لنقاش يفضح دعواهم الإيمان سابقا ولا حقا، واستكمالا للحجة عليهم، كما جاءت هذه المجموعة في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فقدمت لنا مجموعة معان سابقة تجعل إيمان هؤلاء ميئوسا منه. 4 - ونكرر أن هذه المجموعة جزء من جولة من النقاش المباشر مع بني إسرائيل في أجواء قوله تعالى وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وذلك بعد فقرات سابقة كان الكلام في الغالب يأتي بشكل غير مباشر في هذا الموضوع بالذات. فلننتقل إلى عرض المجموعة الثانية من هذه الفقرة: المجموعة الثانية: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ كرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى، ولأنها في المرة الأولى ذكرت في معرض، وهاهنا تذكر في معرض آخر خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا أي خذوا التوراة أخذا قويا واسمعوا ما أمرتكم به فيها، سماع قبول وعمل قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك،

أمروا أن يكون سماعهم سماع طاعة، فكان سماعهم سماع عصيان، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، فداخلهم حبه، والحرص على عبادته، كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله فِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الإشراب بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم، واعتقادهم التشبيه. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفر ومخالفة، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله؟؟. هم يدعون الإيمان، والإيمان يقتضي طاعة، وهم يعصون، هم يدعون الإيمان بالتوراة وليس في التوراة عبادة عجل، فأي إيمان هذا الذي يأمرهم بعبادة العجل وبمحبته؟ فإذا كان هذا هو إيمانهم الذي سول لهم مثل هذه القبائح فإنه هو هو نفس الإيمان الذي يسول لهم أفظع قبيح، وهو عدم الإيمان بالقرآن. وقوله تعالى بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ من باب الأسلوب التهكمي، لأن الأصل في الإيمان ألا يأمر صاحبه بمثل هذا وفي قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم. هذه أول حجة عليهم في هذه المجموعة تكمل حجج المجموعة السابقة عليهم في رفضهم الإيمان بحجة إيمانهم بالتوراة. ثم تأتي الحجة الثانية. ويتجه السياق إلى التحدي، ليضع اليهود على المحك في قضية الإيمان، ليثبت لهم بما لا يقبل الجدل أنهم غير مؤمنين، وأنهم كفرة، وذلك أنهم إذا كانوا صادقين في دعواهم من أنهم أهل الحق، وأنهم عباد الله المصطفون، وأنهم غير مكلفين بالاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي أن يكونوا هم المستحقين ثواب الله الذي أعده لأوليائه في الآخرة التي يؤمنون بها، والإنسان الذي يثق بهذا الثواب، ويعرف أن الآخرة خير من الدنيا، يتمنى هذه الآخرة، ويفضلها على الدنيا، وبالتالي فإن الموت أحب إليه من الحياة فهل هم كذلك؟ لا؛ إذن فهم كاذبون .. أو يقال: من كان مطمئنا إلى أنه على الحق، وإلى أن غيره ليس كذلك، فهو على استعداد لأن يدعو الله أن يميت من كان على الباطل هو أو خصمه، وهو يفعل هذا وهو مطمئن إلى النتيجة، فإذا كان اليهود يرفضون هذا، فذلك علامة على أنهم يعلمون حق العلم أنهم على الباطل.

[سورة البقرة (2): آية 94]

هذه هي الحجة الثانية التي يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم، وهذه الحجة يمكن أن تكون صياغتها إما على الشكل الأول، أو على الشكل الثاني، على حسب اتجاهات المفسرين في التفسير فلنر الآيات: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ معنى خالِصَةً أي سالمة لكم فالمعنى: إن كنتم تعتقدون أن الدار الآخرة لكم دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فيما تقولون، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصا من الدار ذات الشوائب، كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه. هذا هو المعنى العام المتبادر إلى الذهن عند تلاوة الآية، وهو الذي يرجحه ابن جرير، ولكن هناك اتجاها آخر لابن عباس في الآية يرجحه ابن كثير ونحن هنا ننقل عبارة ابن جرير، وكلام ابن كثير مع شئ من الحذف. قال ابن جرير: فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم، وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف .. فقال لفريق اليهود إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان، وقرب المنزلة من الله لكم، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذ تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا، ونصبها، وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خاصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون، ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم، فامتنعت اليهود من ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها؛ وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها .. ». وقال ابن كثير: فأما على تفسير ابن عباس أي في تفسير قوله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي ادعوا على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل قيل لهم كلام نصف: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة، ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك، وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة؛ لما يعلمون من كذبهم وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويتحققونه. فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وسميت هذه المباهلة تمنيا لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل بالموت

[سورة البقرة (2): آية 95]

لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ... ». وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي الموت أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي لن يتمنوه ما عاشوا بسبب ما أسلفوه من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتحريف كتاب الله وغير ذلك، وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب، وكانوا يستطيعون أن يكذبوا القرآن بإعلانهم أنهم يتمنون الموت ولكنهم لم يفعلوا. قال ابن عباس: «ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات». وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ومن علمه جل جلاله أنه تحداهم، ومن علمه أنه أخبر أنهم لن يتمنوه، وكان كما أخبر، وفي النص تهديد لهم. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ هذه تتمة الحجة عليهم في أنهم أهل باطل. ظهور هذا الحرص العظيم عندهم على الحياة، فهم كالمشركين في هذا الحرص، أو أشد حرصا من المشركين، فلو كان إيمانهم بالله واليوم الآخر سليما، واستقامتهم موجودة لما كانوا كذلك، والتنكير في لفظ حَياةٍ يدل على أنهم يرغبون بالحياة المتطاولة مهما كان نوع هذه الحياة، فهم أحرص الناس على طول العمر؛ لما يعلمون من مآلهم السيئ، وعاقبتهم الخاسرة عند الله لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. هل الضمير أَحَدُهُمْ يعود على المشركين أو على اليهود؟ قولان للمفسرين فعلى القول أنه يعود على اليهود يكون المعنى: أن اليهود أحرص الناس على الحياة وهم أحرص من المشركين عليها، حتى أن أحدهم يتمنى لو عمر ألف عام، وعلى القول بأن الضمير يعود على المشركين يكون المعنى: أن المشرك يود لو عمر ألف عام فهو حريص على الحياة ومع ذلك فاليهود أحرص منه على الحياة، وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار، والمشركون لا يعلمون ذلك. قال مجاهد: «حببت إليهم الخطيئة طول العمر». وقد دلت الآية على أن المؤمن الحق يحب الآخرة أكثر من الدنيا، ويحب الموت أكثر من الحياة، وقد أدبنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ألا نتمنى الموت لضر أصابنا، بل نقول: «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وأمتني ما كان الموت خيرا لي، واجعل لحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون». ثم قال تعالى:

[سورة البقرة (2): الآيات 97 إلى 98]

وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أي وما تعميره بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من خير وشر وسيجازي عليه. ثم تأتي الحجة الثالثة عليهم في هذه المجموعة: إن دين الله واحد، ومن أحب الله أحب ملائكته كلهم، وأحب رسله كلهم؛ فوالى الجميع ولم يعاد أحدا منهم، واليهود ليسوا كذلك، فهم يوالون في زعمهم رسولا ويعادون رسولا، ويوالون ملكا ويعادون ملكا، فها هم يعادون جبريل ويزعمون أنهم يوالون ميكائيل فأي طبيعة طبيعتهم؟ وأي تناقض عندهم؟ وإذ كانوا كذلك فذلك دليل على أنهم ناس منحرفون عن الحق وعن الربانية الخالصة فما هم بأهل الله وليسوا على دينه. قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. معنى كلمة جبريل عبد الله، وكذلك كلمة ميكائيل، وقيل بأن جبريل معناها خادم الله، وذكر جبريل وميكال بعد الملائكة والرسل من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة وفي عموم الرسل، ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا، ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته الرئيسية. وميكائيل موكل بالنبات والقطر، ذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وإنما قال فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل فإن الله عدو له؛ لإظهار أن من عادى رسولا فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له. فالمجئ بالاسم الظاهر بدل الضمير ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء، ومن عاداهم عاداه الله. وفي قوله تعالى في وصف جبريل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى

[سورة البقرة (2): آية 99]

قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أكثر من رد عليهم: 1 - أنه لا وجه لمعاداة جبريل حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه فلو أنصفوا لأحبوه، وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. 2 - وفي الآية رد عليهم من حيث إنهم حاربوا جبريل لأنه ينزل بالحرب والشدة فقيل: فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا ولكن للمؤمنين، فالمؤمنون يحبونه. إنه من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما بين يديه من الكتب المتقدمة، وهدى لقلوب المؤمنين، وبشرى للمؤمنين بالجنة، فهو رسول ملكي من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل، ومن كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، ومن عادى الله وملائكته ورسله من الملائكة والبشر فإنه يكون كافرا ويعاديه الله. وقد ذكر ابن كثير روايات كثيرة لها علاقة بالآية، إما في سبب نزولها، أو في شاهد على مضمونها حول ما كان يصرح به اليهود من عداوة لجبريل. منها ما رواه الإمام أحمد من جملة محاورة طويلة لليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «قالوا: إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا. لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... وفي قصة إسلام عبد الله بن سلام كما رواها البخاري أنه عليه الصلاة والسلام عند ما ذكر جبريل قال عبد الله ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ عليه السلام هذه الآية، ونكتفي بهاتين الروايتين عما سواهما. وإذ قامت عليهم الحجة على أنهم على باطل من خلال ما رأينا تأتي الآية الأخيرة في المجموعة جازمة بأن هذا الرسول قد أنزلت عليه المعجزات الواضحات، وأن الفاسقين عن أمر الله وحدهم هم الذين يكفرون بهذه المعجزات، وبالتالي فهم لا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتابعونه قال تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي معجزات واضحات وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي هذا القرآن المعجز، وما حواه من معجزات، ونبوءات صادقات، ودقائق وخفايا لا يعلمها إلا الله، ومن ذلك ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والإخبار عما تضمنته

كلمة في المجموعة الثانية وسياقها

كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه على ذلك، فكان في ذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وهو شاهد صدق على أن محمدا رسول الله لمن أنصف من نفسه، ولم يسر في هلاكها بأن سار في طريق الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة سليمة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئا منه من آدمي، بل هو أمي لم يقرأ كتابا ومع ذلك فهو يخبرهم بما في أيديهم على وجهه، فلهم في ذلك عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون، وهذا بعض الأمر من شأن هذا القرآن، فلا يكفر بعد ذلك بهذه الآيات وهذا القرآن العظيم إلا الفاسقون أي المتمردون من الكفرة، وفي ذلك إشارة إلى أن من لم يؤمن من أهل الكتاب فإنه فاسق عن أمر الله متمرد عليه. عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد: ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، دلت الآية من خلال سبب نزولها ومن خلال لفظها على أن القرآن العظيم هو المعجزات القاطعات الدلالة، الواضحات البينات على رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام. فهو وحده كاف، ولا زال الخلق يكتشفون كل يوم جديدا من معجزاته، ومع ذلك فالله عزّ وجل قد أكرم رسوله صلى الله عليه وسلم بأنواع من المعجزات أخرى. وبهذه الآية تنتهي المجموعة الثانية: كلمة في المجموعة الثانية وسياقها: 1 - استقرت هذه المجموعة على قوله تعالى وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ كما استقرت المجموعة السابقة على قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ لاحظ التشابه بين الآيتين الخاتمتين: موسى جاء بالبينات فظلموا بها، ومحمد جاء بالبينات فكفروا بها ولقد استقرت كل من المجموعتين على آية فيها تقرير أن ما جاءهم كاف لإيمانهم، وكل من هاتين الآيتين قد جاء بعد حجج عليهم في شأن قضية الإيمان. وقد رأينا ذلك أثناء عرض المجموعتين. 2 - لقد جاءت هذه المجموعة لتكمل الرد على اليهود الذين يرفضون الإيمان بالقرآن

المجموعة الثالثة والأخيرة في الفقرة

بسبب من إيمانهم بالتوراة، فأبطلت دعاواهم الكاذبة من خلال ثلاث قضايا، ولذلك تجد أن أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم (قل) قد تكرر ثلاث مرات في المجموعة، وفي كل مرة ورد فيها الأمر: (قل) كانت هناك حجة ضدهم، ومن هنا ندرك الصلة المباشرة بين المجموعة الثانية والمجموعة الأولى، ومحل ذلك في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. لا يخفى فلننتقل إلى المجموعة الثالثة. المجموعة الثالثة والأخيرة في الفقرة: تتألف هذه المجموعة من أربع آيات فلننقلها ليتضح لنا سياقها ومحلها مع فقرتها: [سورة البقرة (2): الآيات 100 الى 103] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

كلمة في هذه المجموعة وسياقها

كلمة في هذه المجموعة وسياقها: 1 - يلاحظ أن هذه الفقرة كلها بدأت بآية فيها: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ. وأن هذه المجموعة بدأت بقوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فكأن هذه المجموعة تكمل ما بدأته المجموعة الأولى، وحرف الواو في (أو كلما) كأنه يعطف الآية الأولى في هذه المجموعة على ما ورد في الآية الأولى من المجموعة الأولى. 2 - وفي المجموعة الأولى ورد قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ... والآية الثانية من هذه المجموعة هي قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. فالتكامل في الفقرة في مجموعاتها الثلاث واضح، خاصة وقد رأينا كيف أن وحدة المجموعتين الأولى والثانية واضحة، وتكاملهما واضح، وتأتي هذه المجموعة لترينا بوضوح وحدتها، وأنها في نفس الوقت جزء من كل ما تحتويه فقرتها. 3 - يأتي بعد هذه المجموعة خطاب مباشر لأول مرة في سورة البقرة بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .... وهذا يدلنا على أننا أمام فقرة جديدة، ولكنه في الوقت نفسه ندرك أن هذه المجموعة قد أكملت الحجة على بني إسرائيل، إن في دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم، أو في رفضهم الإيمان بالقرآن وبمحمد عليه الصلاة والسلام، إنه لم يتوجه الخطاب لأهل الإيمان بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعد هذه المجموعة إلا بعد أن قامت الحجة على اليهود، وعرفت هذه الأمة واقعهم، عندئذ آن الأوان أن يتوجه الخطاب لأهل الإيمان أن يتحرروا من كل مظهر من مظاهر التبعية لليهود، بل ليناقشوا ويحذروا ويتحدوا ويعلموا ويتميزوا ويعملوا ويعتبروا .. 4 - في المجموعة الثانية وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ .. وفي هذه المجموعة بيان لطبيعتهم الغادرة، وفضح لهم كيف أنهم يرفضون رسالة الرسول

العرض والتفسير

المصدق لما معهم، وكيف أنهم في الوقت نفسه يتبعون الشياطين والسحر، بينما هم يزعمون كما عرضته علينا المجموعة الأولى أنهم لا يتبعون القرآن؛ لأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وبذلك كملت المجموعات الثلاث بعضها بعضا، فكانت فقرة واحدة إذ بمجموعها بينت كيف أنهم يتركون ما أمروا به، ويقتلون أو يكذبون من أمروا بمتابعته، ويتابعون من أمروا بمحاربته، ويعملون ما أمروا بتركه. ولنبدأ عرض الآيات: العرض والتفسير: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نبذه أي نقضه ورفضه وقوله فَرِيقٌ مِنْهُمْ يدل على أن الذي يتولى النقض هم البعض، قال الحسن البصري: «نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غدا». أقول: فعلينا أن نلاحظ دائما في التعامل معهم هذا المعنى، فمن لم يضع هذا المعنى في حسابه يكون من الغافلين، صحيح أن الذي ينقض العهد فريق، ولكن الآخرين يؤيدون النقض، ويقبلونه ويرضون به، إن لم يكن علنا فسرا أو ضمنا، هذا ما نأخذه من الآية بشكل دائم، ولكن إذا ربطنا هذه الآية بقوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فإنه يخرج معنا معنى مرتبط بموقفهم من الرسل، وقد سجل هذا المعنى ابن كثير: حين قال: «وقال مالك بن الصيف (من اليهود) حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا» فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ... فكأن الفريق على هذا التفسير هو الجيل من أجيالهم. قال ابن كثير: «قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته». بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إذا نظرنا إلى هذه الجملة من خلال التفسير الأول كان معناها: بل أكثرهم لا تظهر عليه ثمرات الإيمان من تمسك بالعهود ووفاء لها، وإذا نظرنا إلى الآية من خلال التفسير الثاني كان المعنى: بل أكثرهم لا يؤمنون بمن أخذ عليهم

[سورة البقرة (2): آية 101]

العهد أن يؤمنوا به، ومن ثم قال السدي فيها: «(أي) لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم»، وقال النسفي: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالتوراة وليسوا من الدين في شئ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ولا يبالون، وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ. أي: ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما معهم من التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أي: طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم وهو التوراة بما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو كأنهم ليسوا أهل كتاب سابق يعلمهم، والذين أوتوا الكتاب في الآية هم اليهود، ونبذ الكتاب وراء الظهور مثل لتركهم له وإعراضهم عنه، مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه، ويلاحظ أن كلمة (فريق) تكررت في هذه الآية والتي قبلها، هناك في معرض نقض الميثاق، وهنا في معرض ترك اتباع التوراة في موضوع الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين الآيتين ارتباط لا يخفى على اللبيب، ثم تأتي الآية الثالثة وارتباطها بما قبلها واضح لوجود حرف العطف إذ تبتدئ الآية بقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ فصار التقدير نبذ اليهود كتاب الله، واتبعوا إملاءات الشياطين، وكتب السحر، والشعوذة هذه طبيعتهم: إعراض عما كلفوا به مما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، واتباع لما حظر عليهم مما يظنون أنه ينفعهم في دنياهم. وقبل أن نبدأ شرح الآية نحب أن نلفت النظر إلى قضيتين: الأولى السحر، والقضية الثانية حول هاروت وماروت، فالآية في سياقها تعرضت لهاتين القضيتين. وقد جرى خلاف كثير بين العلماء في تفسير الآية بسبب هاتين القضيتين ونحن سنعقد فصلين حولهما بعد أن ننهي عرض المقطع حتى يبقى عرض السياق مستمرا وسنقتصر على أدنى ما يلزم من كلام للعرض فليلاحظ ذلك. وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ هذه الآية معطوفة على ما قبلها فبنو إسرائيل نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا .. قال ابن كثير: أي واتبعت اليهود- الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به، وتتحدث به الشياطين على ملك سليمان، وعداه ب (على) لأنه ضمن (تتلو) تكذب ومعنى عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. أي: على عهد ملكه وفي زمانه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا هذه تبرئة لسليمان من الكفر والسحر، وحكم على الشياطين بالكفر باستعمال السحر وتعليمه يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. أي: يعلم الشياطين الناس

[سورة البقرة (2): آية 103]

السحر، ومن ثم صدر الحكم عليهم بالكفر بهذا السبب مع أنهم كفار في الأصل، يفهم من ذلك أن السحر الذي هو سحر يلازمه الكفر. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ للمفسرين في (ما) من قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ مذهبان: الأول أنها نافية، والثاني على أنها اسم موصول، وعلى أنها نافية يفهم النص مجموعة فهوم، وعلى أنها اسم موصول يفهم النص مجموعة فهوم، وسنعقد لذلك فصلا أما الآن فنقول: إن إحدى الاتجاهات الرئيسية في النص: أن هذين ملكان أنزلهما الله- عزّ وجل- ليعلما الناس السحر ليستطيعوا أن يفرقوا بين السحر والمعجزة، ومن ثم فإنهما كانا يقولان لمن يتعلم إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ بأن تعمل بالسحر وتسحر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر سوء منظر، أو خلق أو بغضة أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة، والمرء هو الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. أي: وما هم بضارين بالسحر أحدا إلا بعلم الله ومشيئته وقضائه وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. أي: يضرهم في دينهم وأخراهم وليس له نفع يوازي ضرره أصلا. دل ذلك على أن تعلم السحر ضرر محض قال النسفي: وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية. أقول: المطالعة في كتب الفلسفة حرام على من ليس عنده مناعة ضدها، وهذا بحث يقتضي فصلا وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من نصيب، فالخلاق هو النصيب وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. أي: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لو كان لهم علم بما وعظوا به، ولكنهم لا علم عندهم، إنما نفى العلم عنهم مع إثباته لهم بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا لأن معناه لو كان عندهم علم يعملون به، جعلهم حين لم يعلموا بعلمهم كأنهم لا يعلمون وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله والقرآن، واتقوا الله باجتناب المحارم وترك ما هم عليه من نبذ كتاب الله، واتباع كتب الشياطين، لكان ثواب الله خيرا لهم مما هم فيه، فالمثوبة الثواب، وقد حكم عليهم بالجهل بقوله لَوْ

كلمة في الفقرة وسياقها

كانُوا يَعْلَمُونَ لتركهم العمل بالعلم. كلمة في الفقرة وسياقها: هذه الفقرة هي إحدى فقرتين تواجهان بشكل مباشر بني إسرائيل في أقوالهم وأفعالهم في قضية الإيمان، والملاحظ أن هذه الفقرة انتهت بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولو أننا رجعنا إلى مدخل هذا المقطع لوجدنا قوله تعالى هناك: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فالشئ الذي طالبتهم به الآيتان هناك، جاء النقاش على أشده معهم في شأنه في هذه الفقرة. وهكذا رأينا أن ذلك المدخل الذي طالبهم بأوامر ونواه، قد جاء الفصل الأول، وفقرتان من الفصل الثاني، كتعليل وتفصيل للمطالبة بتلك الأوامر والنواهي. ثم تأتي فقرتان في الفصل الثاني لتواجها اليهود مواجهة في قضية الإيمان بالقرآن، ولتحددا لهذه الأمة طريقها في العلاقة مع بني إسرائيل، وليعطي المقطع كله دروسا لهذه الأمة في كيفية التعامل مع الأوامر والنواهي، ولننتقل إلى الفقرة الثانية في هذه المواجهة أي إلى الجولة الثانية وهي الفقرة الرابعة في الفصل الثاني من المقطع والذي بدايته أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... والذي ينصب الكلام فيه على قضية الإيمان: الفقرة الرابعة من الفصل الثاني من المقطع الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (104) إلى نهاية الآية (121) ثم تأتي بعد ذلك آيتان هما خاتمة المقطع فينتهي المقطع بنهاية الآية (123) وهذه هي الفقرة مع خاتمة المقطع: [سورة البقرة (2): الآيات 104 الى 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

كلمة في هذه الفقرة وسياقها

كلمة في هذه الفقرة وسياقها: لأول مرة تتصدر كلمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب المؤمنين في سورة البقرة وذلك بعد الدروس الكثيرة التي أخذها المؤمنون، وبعد الجولة المباشرة مع بني إسرائيل في قضية الإيمان، وجاء الخطاب مطالبا أهل الإيمان بالتحرر من أسر متابعة اليهود حتى في التعابير، ومحذرا من الوقوع فيما وقعوا فيه من سوء الأدب مع الله. وجاء السياق معرفا أهل الإيمان على العواطف الحقيقة للكافرين تجاه المسلمين، وعارضا لكثير من الأقوال والأفعال الخاطئة والموقف الصحيح منها. ومن ثم فإن الفقرة تناقش مجموعة

الأوهام والتصورات الأساسية عند اليهود والنصارى من كون الشرائع السابقة لا يجوز نسخها، ومن كون الجنة حكرا على هؤلاء مع انحرافهم عن الدين الحق! ومن كون أهل كل باطل لا يرون غيرهم على شئ!، ومن ادعاء الولد لله، ومن طلب سماع كلام الله واقتراح الآيات، ومن كون بقايا أهل الكتاب كلهم على هوى ورغبة في أن يحملوا الناس على أهوائهم. وفي الفقرة توجيهات لهذه الأمة تساعدها على تحمل عبء الصراع مع الكفر وأهله، وفيها موازين تعرف بها حقائق وكليات، ويتضح في هذه الفقرة تماما أن هذا المقطع وإن كان في سياقه العام يدعو بني إسرائيل للصلاح والإصلاح، ولكن الهدف الأول هو هذه الأمة، وإصلاحها، وتربيتها، وتعليمها، والارتقاء بها. إن هذه الفقرة مبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو الخطاب الأول بهذه الصيغة في القرآن، فكأن ما قبله إنما كان من أجل وجود الشخصية المؤمنة، حتى إذا وجدت الشخصية المؤمنة من خلال كل المعاني السابقة أصبحت مؤهلة للخطاب الخاص بها. ومن هنا فإننا نستنتج أن ما قبل هذا الخطاب ضروري في قضية الإيمان، فالإيمان العملي الكامل غير الإيمان النظري الذي لا يواجه به صاحبه كل شئ حوله بعقلية المؤمن. ونتيجة لذلك فإننا نقول: إن هذه الفقرة من الأهمية في المكان الكبير على اعتبار أنها أول خطاب مباشر للمؤمنين بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فالمعاني الموجودة فيها والتوجيهات ذات أهمية خاصة: ففيها وجهت الأمة المسلمة نحو الاحتراس الكامل من متابعة غيرها، أو الوقوع في أسر مصطلحاته، وفيها عرفت الأمة أن عدوها لا يريد بها خيرا، ولا يريد لها خيرا بل ينفس عليها أي خير يصيبها من ربها، وفيها وجهت الأمة نحو التسليم المطلق لله في أحكامه وشرائعه، ينسخ ما شاء ويثبت ما شاء؛ فهو ذو القدرة المطلقة والعلم المحيط، وفيها وجهت الأمة نحو الاحتراس من السير على طريق بني إسرائيل في تعنتهم وسؤال رسولهم ما لا ينبغي، وفيها وجهت الأمة نحو الحرص على الإيمان وعدم استبداله بالكفر، وفيها عرفت الأمة على الرغبة الملحة عند أهل الكتاب عامة من أجل صرف هذه الأمة عن دينها، وفيها وجهت الأمة نحو الصلاة والزكاة كمرتكزين رئيسيين للبقاء في هذا الدين، وفيها تمت الدلالة على الطريق للإيمان بالكتاب وهو تلاوته حق التلاوة. إن كل قضية من القضايا التي تعرضت لها الفقرة ذات أهمية بالغة جدا. فأية غفلة عنها، أو جهل بها، أو انحراف عن الأخذ بها؛ يترتب عليه شر كبير وبلاء مستطير.

التفسير

إن دروس ما مر من قبل في هذا المقطع تأتينا هنا بشكل مكثف فلنعرف ذلك. التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا ذكر لي بعض الدارسين للغة العبرية أن كلمة (راعينو) ومشتقاتها لا زالت تستعمل في اللغة العبرية الحالية كلمة سباب. هذه الكلمة يشبهها في اللغة العربية من حيث اللفظ مع اختلاف المعنى كلمة (راعنا). فكان اليهود يستعملون هذه الكلمة في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متسترين بمعناها العربي، وهم يريدون الإساءة. وكان المسلمون يظنون باليهود خيرا فتابعوهم على ذلك؛ فأنزل الله الآية. وبعض المفسرين ظنوا أن سبب النهي عن استعمال كلمة (راعنا) أن اليهود كانوا يستعملونها ويريدون (الرعونة) ولا يبعد أن يكون هناك صلة بين اللغة العبرية وهذا المعنى في الاشتقاق. قال السدي: «كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: ارعني سمعك، واسمع عير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء تفخم بهذا؛ فكان ناس منهم يقولون اسمع غير مسمع (غير سامع)، وهي كالتي في سورة النساء فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا». وقال الحسن: الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام. قال ابن كثير: نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعنون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا ويورون بالرعونة ... والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ... أخرج الإمام أحمد .. عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم». وأخرج أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تشبه بقوم فهو منهم».

قال ابن كثير: ففيه دلالة على النهي الشديد، والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار، في أقوالهم، وأفعالهم ولباسهم، وأعيادهم، وعياداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وقال النسفي في الآية: كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين (راعنا) افترصوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها وهو انظرنا، من نظره إذا انتظره. يقول صاحب الظلال: «فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة، فيحتالون على سبه- صلوات الله وسلامه عليه- عن هذا الطريق الملتوي الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء، ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته؛ كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه، واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم، كما يشي بسوء الأدب وخسة الوسيلة وانحطاط السلوك، والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه، وللجماعة المسلمة، ودفاعه سبحانه عن أوليائه، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين». أقول: إن هذه الحادثة تدل على أن اليهود لا يتركون فرصة يسيئون إلينا بها إلا اهتبلوها مهما كانت هذه الفرصة صغيرة أو خسيسة، وإن أمثالهم كثيرون، وعلينا أن نكون يقظين بحيث لا نعطي عدوا فرصة. وأول درس يستفاد من الحادثة والآية: أن يحذر المسلم من خداع الألفاظ التي يطلقها الكافرون ومن متابعتهم عليها، ولعل غياب هذه الحقيقة عن أذهان المسلمين كان من أعظم أسباب كوارثهم، فقد تابعوا أعداء الله والإسلام في شعاراتهم وألبستهم وعاداتهم وأفكارهم وتقويمهم للأشياء، وإذا بآلاف الألوية الكافرة ترتفع في أرض الإسلام، ويلتف حولها أبناء المسلمين، واللواء الحقيقي للمسلم لواء الله ورسوله لم يعد يحمله إلا القليل، ولو أن المسلم عقل الانحراف النفسي والعقلي للكافرين عامة لأدرك خطر المتابعة، ولو أن المسلم عقل الوضع النفسي والعقلي للكافرين عامة لعرف أن هؤلاء

[سورة البقرة (2): آية 105]

الكافرين جميعا أعداؤه، وأنهم لا يريدون به خيرا، ولا يريدون له خيرا كما سنرى في الآية اللاحقة للآية التي نحن بصددها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا أي وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة، وليكن سماعكم سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ولليهود وأشباههم من الكافرين جميعا ممن يسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسيئون الأدب معه، ويرفضون السماع له عذاب مؤلم. أخرج ابن أبي حاتم: «أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه». ثم تأتي الآية التالية للآية الأولى لتؤكد أن الكافرين- سواء كانوا كتابيين أو مشركين- يكرهون أن يصيب المسلمين أي خير من ربهم. فهي تكمل الآية السابقة فكأنها تقول للمسلم: كيف تتابع أعداء الله وتقلدهم وتترك طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وأعداء الله يعادونك، ويحاربونك، ويكرهون لك الخير: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ الخير هنا الوحي، وبين الله عزّ وجل في هذه الآية شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من تقليدهم ومحاكاتهم؛ ليقطع المودة بيننا وبينهم. ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ المراد بالرحمة هنا النبوة والوحي والشريعة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وفي هذا إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم على الرسول وعلى المستجيبين له. بين سياق المقطع الانحراف الخطير الذي وقع فيه أهل الكتاب، فكان مقتضى هذه المعرفة أن يكون المسلم في علاقته بأهل الكتاب- فضلا عن غيرهم- على حذر، وخاصة في المتابعة والطاعة، وكيف لا وقد خصت هذه الأمة بالخير وبالفضل، أفتترك هذه الأمة هذا الخير وهذا الفضل وتتابع أعداءها ممن لا خير عندهم ولا فضل ولا يريدون بهذه الأمة خيرا. ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لم تظهر حكمة مجئ هاتين الآيتين في هذا السياق وفي هذا المكان كما ظهرت في عصرنا. إذ في العصور المتأخرة صاغ أهل الكتاب في زعمهم نظريات النقد الرئيسية الكاذبة لإسلامنا، وكان منها نقد الإسلام من خلال موضوع النسخ، فكان عملهم استمرارا لعمل أسلافهم في زمن النبوة. فأسلافهم في زمن النبوة نقدوا الإسلام من خلال ما ينسخ من حكم ويوضع من حكم جديد، وأتم هؤلاء النظرية فرفضوا أن يكون الإسلام ناسخا لما قبله؛ بحجة أن دين الله واحد والله واحد، فلماذا ينسخ الله شرعه؟ فكون النسخ موجودا في الشريعة الإسلامية، وكون الشريعة الإسلامية تعتبر نفسها ناسخة لما قبلها؛ فذلك علامة على أن هذه الشريعة ليست من عند الله. ومن أعظم من تولى الرد عليهم في هذا الموضوع وفي غيره رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه «إظهار الحق» الذي لم يؤلف في الإسلام مثله في موضوعه، إذ أقام عليهم الحجة من كلامهم، ومن نصوص ديانتهم التي يعتمدونها في مجموع المسائل التي أثاروها. فبرهن في موضوع النسخ من خلال ما يعتمدونه على أن التوراة نسخت أحكاما كانت قبلها في بني إسرائيل، وأن الإنجيل قد نسخ أحكاما في التوراة، بل إن رسل المسيح- في زعمهم- قد نسخوا أحكاما في الإنجيل، وأن التوراة قد نسخت أحكام فيها بأحكام أخرى. بعد هذه المقدمة أصبح بإمكاننا أن ندرك محل هاتين الآيتين في سياق الفقرة: خص الله هذه الأمة بالفضل والخير؛ بإنزاله عليها شريعته الأخيرة الناسخة لسواها. والكافرون الذين لا يريدون لهذه الأمة خيرا ينكرون أن تنسخ شريعة لاحقة شريعة سابقة. وبالتالي فإنهم يعتبرون الإسلام باطلا. وهم إذ يزعمون هذا الزعم فكأنهم يعتبرون الله عاجزا، وهم بذلك لا يعرفون إحاطة علم الله، فتأتي الآيتان لترد هذا كله وتبطله. ففي الآيتين تأكيد لفضل الله على هذه الأمة وتوضيح، وهذا يستدعي من هذه الأمة أن تعرف فضل الله عليها، فلا تستجر إلى متابعة أهل الضلال، بل أن تشكر الله على نعمه بالسماع والمتابعة، وبهذا نعرف صلة هاتين الآيتين بسياق الفقرة التي بدايتها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ولنبدأ عرض الآيتين: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها طعن اليهود في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت هذه الآية. والنسخ لغة: التبديل. وشريعة: بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلا في حقنا، بيانا محضا في

[سورة البقرة (2): آية 107]

حق صاحب الشرع. والإنساء: أن يذهب بحفظها من القلوب نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه، أي في الحكم بالنسبة لمصلحة المكلفين إما أنفع وإما أرفق وإما أكثر ثوابا. قال قتادة: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله وعلى أفضل منه أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أموركم ويدبرها، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يلي أموركم وَلا نَصِيرٍ أي ناصر ينصركم من العذاب. قال ابن كثير: «يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء؛ يسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ؛ فيأمر بالشئ لما فيه من المصلحة التي يعلمها ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى. فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله، في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود، وتزييف شبهتهم- لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيرى؛ أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته. فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته؛ وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره ونهيه، قلت (القائل ابن كثير) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد. فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما

[سورة البقرة (2): آية 108]

يريد مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدقونه». وفي الصلة بين قوله تعالى ما نَنْسَخْ وبين ما قبلها زيادة على ما ذكرنا، ما قاله الألوسي: «ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ؛ حيث أقر الصحابة رضي الله عنهم مدة على قول (راعنا) وإقراره صلى الله عليه وسلم على الشئ منزل منزلة الأمر به والإذن فيه ثم إنهم نهوا عن ذلك، فكان مظنة لما يحاكي ما حكي في سبب النزول، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كاد ترفع الطغام رءوسها وتقول: «إن من الفضل عدم النسخ .. فأتى سبحانه بما ينكس رءوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم، وجوده العميم، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا، عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر» اه. وفي حكمة النسخ يقول صاحب الظلال: «فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال في فترة الرسالة هو لصالح البشرية ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها» اه. وسنعقد للنسخ فصلا بعد أن ننهي عرض المقطع ولننتقل إلى آية أخرى في الفقرة وهي: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. (أم) في اللغة العربية تأتي متصلة، وتأتي منفصلة، تأتي متصلة إذا سبقت بهمزة استفهام وجاءت حرفا معادلا له تقول (أجاز زيد أم خالد) وتأتي منفصلة إذا لم تسبق بشيء من هذا لفظا أو تقديرا، وتكون في هذه الحالة حرف إضراب تقديره (بل) قال الألوسي: جوز في (أم) هذه أن تكون متصلة وأن تكون منقطعة، ثم أخذ يوجه الاتصال والانقطاع، وذكر كيف أن بعضهم جزم بالانقطاع، والألوسي احتمل الاتصال لسبق (أم) بقوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. ورده بعضهم لأن الخطاب في الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما الخطاب في الآية الثانية.

الوقفة الأولى حول أهمية هذا التوجيه

للمؤمنين. والذي أرتاح إليه أن (أم) متصلة ولكن همزتها هي التي مرت معنا في ابتداء الفصل في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ. في الفصل الأول من هذا المقطع: سئل موسى من قبل بني إسرائيل أن يريهم الله جهرة، وسألوا موسى أن يخرج الله لهم من بقول الأرض، وفي الفصل الأول تبينت معالم الطبيعة اليهودية، ثم جاء الفصل الثاني مصدرا بقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. وسار السياق موئسا المسلمين من إيمان هؤلاء ثم جاء قوله تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ .. ناهيا المسلمين أن يسألوا كما سأل بنو إسرائيل ولكن بعد أن اتضحت النفسية اليهودية بشكل أجلى. فالفصل في سياقه الرئيسي يقول للمسلمين: لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم، ولا تسألوا رسولكم كما سألوه، هذا على القول بأن (أم) متصلة. أما على القول بأنها منفصلة فإن المعنى يكون: بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل. وفي حالة اتصال (أم) أو انفصالها فالإنكار هو المقدر ولنا عودة على السياق: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قال ابن كثير: «أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو إنكاري» وقال: والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ أي ومن يشتر الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم، والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم، بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر ولنا عند هذه الآية وقفتان: الوقفة الأولى حول أهمية هذا التوجيه: إن بني إسرائيل عند ما بعث لهم موسى عليه السلام كانوا أمة مستعبدة، ثم تخلصوا من العبودية وبقوا حدثاء عهد بها، وكانوا حدثاء عهد بالكتاب، ومن ثم كانوا يسألون ما لا يسأل، ويتعنتون ويخالفون، وقد أعطى الله هذه الأمة دروسا عن

الوقفة الثانية في سياق هذه الآية

هؤلاء. ولقد كونت هذه الأمة في قلب الجزيرة العربية حيث لا عبودية سابقة، فانتفت الظروف وأخذنا الدروس، فالمفروض أن تكون أمتنا بمنأى عن الأسئلة الساذجة أو المتعنتة أو التي لا تليق بالأمة الربانية. وأهم الأسئلة التي وجهها بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) في هذا السياق تعليقهم الإيمان به برؤية الله جهرة، وهو طلب متعنت ظالم، وطلبهم طعام الرخاء، وهو طلب أمة مسترخية، والأمة المسترخية لا تستطيع تحمل أعباء جهاد طويل المدى. إن هذا التوجيه يراد به من الأمة أن تبتعد عن مثل هذا النوع من السير الخاطئ الذي سارت به بنو إسرائيل، واقرأ هذه النصوص لترى كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نماذج صدق في كل حق: في الصحيحين عن المغيرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» ... وتنفيذا لمثل هذا ولمثل ما ورد في الآية: يقول البراء بن عازب: «إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشئ فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب» أي نتمنى أن يأتي الأعرابي فيسأله فنتعلم. وقال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه صلى الله عليه وسلم إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... اه. يعنى هذا وأشباهه فما أعظم هذا الجيل! فهم لم يكتفوا ألا يسألوا طلب تعنت بل لم يسألوا حتى على شاكلة أخرى إلا حيث الضرورة القصوى. الوقفة الثانية في سياق هذه الآية: - إذا اعتبرنا (أم) في الآية منقطعة فإن محل الآية مع ما قبلها وما بعدها على الشكل التالي: نهى الله المؤمنين أن يحاكوا اليهود في أدنى شئ، وأمرهم أن يسمعوا وبين لهم أن الكافرين جميعا لا يرغبون لهذه الأمة أدنى خير من الله، بينما خص الله عزّ وجل هذه الأمة بمزيد فضله؛ بأن أنزل عليهم رسالته وخاتمة شرائعه، وبذلك نسخت هذه الشريعة الشرائع السابقة، ومن ثم جاءت آية النسخ وما بعدها لتعلل للنسخ كله رادة

على أهل الكتاب. وفي هذا السياق تأتي هذه الآية أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا .. ناهية المسلمين عن السؤال المتعنت، مبينة لهم أن بداية السير في الضلال هو السؤال المتعنت، فالآية تأتي بعد أن بين الله عزّ وجل لهذه الأمة فضله عليها؛ لتدلهم على ما لا ينبغي فعله، قياما بشكر الله، ولتبين لهم أن مما تسلب به هذه النعمة العظيمة عنهم هو السؤال المتعنت كسؤال قوم موسى لموسى. إذا تقرر هذا فلنلاحظ: بدأت هذه الفقرة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا ثم بعد آيات جاء قوله تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إن السياق كأنه يقول لنا: إنكم إن واتيتم اليهود بمثل (راعنا) فستصلون في النهاية إلى أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى؛ لأنهم لا يريدون بكم خيرا، ويثيرون الشبهات والشكوك ضد إسلامكم ودينكم من مثل شبهة النسخ وغيرها. ولو أننا تتبعنا واقع أبناء المسلمين الذين لا يكتفون بالسؤال كما سئل موسى من قبل بل يقولون ما هو أفظع، لو أنك تتبعت: ما الذي أوصل المسلمين إلى مثل هذا لوجدته تلك البدايات من المواتاة لأعداء الله في أشياء ظاهرها صغير، ومن ثم تأتي الآية اللاحقة لتبين كيف أن أهل الكتاب يودون لو أنهم أرجعونا كفارا، فأمام هذه الرغبة فإنه لا ينبغي أن نواتيهم في بدايات توصلنا إلى نهايات خطيرة نضل بها عن سواء السبيل. هذا ما نراه في محل هذه الآية ضمن السياق إذا اعتبرنا أن (أم) منقطعة. قال الألوسي: والمراد على التقديرين (اتصال «أم» أو انفصالها) توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في النسخ، فكأنه قيل لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها؛ فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها فضلا عن السؤال. يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك ولم يقل سبحانه كما سأل أمة موسى أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره- وإذا اعتبرنا أن (أم) متصلة على الوجه الذي ذكرناه من أنها متصلة بالهمزة في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ فإن السياق يكون على الشكل التالي:

يبدأ الفصل بقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ثم يسير الفصل مبينا فساد قلوب هؤلاء ليستقر على الأمر بعدم محاكاة هؤلاء في شئ مبينا كراهيتهم لإنزال الله على هذه الأمة وحيا واصلا إلى سنة الله في النسخ، فشريعة نسخت وشريعة وجدت، فإذا استقر السياق على هذا جاء قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... فصار السياق الرئيسي: لا تطمعوا أن يؤمنوا لكم، ولا تسألوا كما سألوا رسولهم، وكأن الطمع بإيمانهم مع ما هم فيه قد يؤدي إلى سؤال رسولنا أسئلة في غير محلها. ثم تأتي بقية الفصل وفيها تعليل لكلا القضيتين لعدم الطمع بالإيمان ولعدم السؤال فيأتي بعد ذلك. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ... وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ... وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ ... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ... وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ... وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... فناس هذه مواقفهم وهذه أقوالهم كيف يتابعون؟ وكيف يطمع بإيمانهم؟ وكيف يكونون محل قدوة للمسلمين؟

[سورة البقرة (2): آية 109]

إنه على القول بأن (أم) حرف معادل للهمزة في قوله تعالى: «أفتطمعون .. » نرى وحدة الفصل الثاني في هذا المقطع بشكل واضح، ولكنه اتجاه لم نره في كتب التفسير التي اطلعنا عليها، ولذلك فنحن نسجله مع ذكر انفرادنا به ولننتقل إلى ما بعد ذلك في الفقرة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ في هاتين الآيتين شرح حال من أحوال أهل الكتاب بالنسبة لنا، والموقف المكافئ لذلك، ومحل هاتين الآيتين في السياق أنهما بمثابة البيان والتفصيل لحكمة النهي عن المتابعة الوارد في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا والوارد في قوله تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... كما أنهما تعليل لعدم الطمع في الإيمان الوارد في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... إذ السياق واحد. قال ابن كثير في تفسير الآيتين: يحذر تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه. أقول: إن الآيتين فيهما شرح حال، وإلزام بموقف .. - أما شرح الحال فهو: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أي أن يردوكم، وهل المراد بالكثير هنا العلماء منهم أو العلماء والعامة، وبالتالي فلا يخرج منهم إلا من آمن سرا. قولان للمفسرين. مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ هذه علة الرغبة في أن يردونا مرتدين. والحسد هو: الأسف على الخير عند الغير، والحسد من عند النفس هو الحسد النابع عن شهوة النفس لا من قبل التدين والميل مع الحق، فحسدهم متبالغ منبعث من أصل أنفسهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ أي من بعد علمهم بأنكم على الحق، كانوا يعلمون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم

يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غير بني إسرائيل. قال الألوسي: «فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد عنه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق، إلا أن الحظوظ النفسانية، والشهوات الدنية، والتسويلات الشيطانية؛ حجبت من حجبت عن الإيمان، وقيدت من قيدت في قيد الخذلان» اه هذا هو شرح حال الكثيرين من أهل الكتاب. فما هو الموقف الذي ألزمنا به؟ - وأما الموقف الذي ألزمنا به فهو: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا أي فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الأمر هنا إما مفرد الأوامر وإما مفرد الأمور. فإن كان مفرد الأوامر فالمراد بالآية حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بالقتل والقتال. وفي إسناد صحيح عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. أما إذا كان الأمر في الآية مفرد الأمور فالمراد به القيامة، أو المجازاة يومها، أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، أو المراد به نصر الله وفتحه، وعلى القول الأول فالآية منسوخة بآيات القتال، وعلى القول الثاني فالآية محكمة غير منسوخة، وعلى القول بأنها محكمة فنحن مأمورون بالصفح والعفو حتى يأتي النصر والفتح والغلبة، وعندئذ فإن حكم الله ينفذ فيهم، ومحاكمنا تحاكم شططهم، وسلطتنا تمنع تجاوزاتهم، وتحول دون مكرهم، وتحظر مؤسساتهم التي يقيمونها لفتنة المسلمين وخديعتهم. وعلى القول بأنها محكمة فهي واحدة من آيات محكمات في شأن التعامل مع أهل الكتاب، وقوتنا وضعفنا هي التي تحكم موقفنا وخطتنا، وضرورات حركتنا هي التي تحدد الموقف المختار ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم، ويقدر على الإتيان بما

[سورة البقرة (2): آية 110]

شاء من أمر. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ قال الألوسي: أمرهم بالمخالقة والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية؛ لأنها تدفع عنهم ما يكرهون وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه عنده إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يضيع عنده عمل عامل، أمرهم بالعفو والصفح، ثم حثهم على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يأتي الله بالنصر. وأخبرهم تعالى أنه لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. قال ابن جرير في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر فإن فيه وعدا وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه. وفي سبب نزول هاتين الآيتين يروي ابن إسحاق عن ابن عباس أنه قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدا؛ إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... أقول: والقاعدة عند المفسرين أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالآية عامة وإن كان سبب نزولها ما ذكر. فائدة: تظهر فائدة الخلاف في كون قوله تعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا منسوخا بآيات القتال من مثل قوله تعالى في سورة التوبة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ومن مثل قوله تعالى أيضا في سورة التوبة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. أو أنها غير منسوخة على تفسير الأمر في قوله تعالى حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ بأنه مفرد (الأمور) تظهر فائدة الخلاف في عصرنا بشكل واضح؛ حيث فقد الإسلام والمسلمون السلطان السياسي، فهل هم في هذه الحالة مأمورون بالصفح والعفو أو لا؟ ذهب أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي بأن الآية منسوخة، وعلى هذا فالصيغة الوحيدة للتعامل بيننا وبين أهل الكتاب هي القتال حتى يعطوا الجزية. لكن يلاحظ أن ابن كثير عند ما ذكر المعنى العام للآية قال: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ من النصر والفتح وعلى هذا فالمراد بأمر الله هو الأمر

كلمة في السياق

القدري وهذا يعني أنه إذا كان للمسلمين النصر والفتح فللمسألة وجهة أخرى غير الصفح والعفو، إذ في تلك الحالة يحال هؤلاء إذا كانوا من مواطني الدولة المسلمة إلى القضاء الإسلامي، أما إذا لم يكن للمسلمين السلطان والدولة فإن الصفح والعفو يسعانهم في معاملتهم لأهل الكتاب، على أنه في هذه الحالة يكون العفو والصفح مباحين للمسلمين، ويجوز لهما غير ذلك كالقتال أخذا من وجهة النظر الأخرى. فخلال السير للوصول إلى أن تكون كلمة الله هي العليا يخير المسلمون بين عدة مواقف على حسب ما تقتضيه عملية السير، والآية تشعرنا بأن الموقف الأصلح في التعامل مع أهل الكتاب هو العفو والصفح حتى يتم النصر، ولكن هذا كله يكون إذا لم يكن الصراع مباشرا مع أهل الكتاب. ومن سبب النزول ندرك أن هذه الآية صورتها فيما إذا كان أهل الكتاب على الأرض الإسلامية نفسها، ولعل الصفح والعفو هو الموقف المناسب لمسلم يعيش بين أهل الكتاب على الأرض الكافرة. إنني أرى أنه ما دام أهل الكتاب على الأرض الإسلامية مواقفهم منا في حدود الرغبات والأقوال، أن نعاملهم بالصفح والعفو، وأن يكون هذا جزءا من خطتنا ونحن نسعى لاسترداد السلطان السياسي للمسلمين. أما إذا تجاوزت مواقفهم ذلك بأن حملوا السلاح وقرروا أن يستعملوه ضدنا، أو أنهم بدءوا يستعملونه ضدنا، فالأمر وقتذاك يختلف .. أما الموقف من دولة اليهود فسنراه إذا جاءت مناسبته في هذه السلسة. كلمة في السياق: قلنا عن سياق الآيتين بأنهما بمثابة البيان والتعليل للنهي الذي جاء من قبل عن متابعة أهل الكتاب، وبعد هاتين الآيتين يذكر الله عزّ وجل مجموعة من الأقوال والمواقف لأهل الكتاب، فمثلا يأتي بعد هاتين الآيتين قوله تعالى وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى والمفسرون يقولون بأن الواو من (وقالوا) حرف عطف يعطف (قالوا) في هذه الآية على قوله تعالى (ود) من الآية وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً.

[سورة البقرة (2): آية 111]

وإذن فسيعرض الله عزّ وجل علينا مجموعة من الأقوال والمواقف هي بمثابة البيان والتعليل للنهي عن متابعة أهل الكتاب فضلا عن غيرهم. وإذا تذكرنا أننا في نهاية الفصل الذي بدئ بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. فإن هذه المواقف والأقوال تكمل الصورة الداعية إلى ترك الطمع بإيمان أهل الكتاب مع دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. وإذا تذكرنا أن هذه الفقرة هي نهاية المقطع الذي بدأ بدعوة بني إسرائيل للدخول في الإسلام فإن ذلك كذلك يفسر لنا عرض مجموعة من أقوالهم وأفعالهم ومناقشتهم فيها وتعليمنا الرد عليها أو الموقف الحكيم منها لأننا دعاة وهم مدعوون فلا بد أن نعرف كيف نناقشهم. إن عرض هذه الأقوال والمواقف في هذه الفقرة وفي نهاية الفصل الثاني وفي نهاية المقطع كله مرتبط بما سبقه جميعا فهو يخدم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ... ويخدم قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... ويخدم قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وسنرى عند استعراض كل موقف وقول محله في السياق وخدمته لما سبق. 1 - وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، إن دخول الجنة متعلق بالإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فمن كان كذلك نال رضوان الله.

[سورة البقرة (2): آية 112]

وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه وبين ذلك في آية لاحقة وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ التي تمنوها على الله بغير حق. أشير بالآية هنا إلى الأماني المذكورة في الآية وفي الفقرة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم، والأمنية على وزن أفعولة من التمني مثل الأضحوكة، قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي هلموا حجتكم وبينتكم على اختصاصكم بدخول الجنة. وهات: بمنزلة هاء بمعنى أحضر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنكم أهل الجنة. بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ في قوله بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ومعنى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره. ومعنى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي مصدق بالقرآن ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: «فإن للعمل المتقبل شرطين أحدهما أن يكون خالصا لله وحده، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين» فلا بد من أن يسلم المؤمن لله وجهه قال صاحب الظلال: والوجه رمز على الكل ولفظ (أسلم) يعني الاستسلام والتسليم الاستسلام المعنوي والتسليم العملي، ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل بين الإيمان القلبي والإحسان العملي، بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها، وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وأمنهم مما يخافونه من المحذور، فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما مضى مما يتركونه، قال سعيد بن جبير: «فلا خوف عليهم يعني في الآخرة، ولا هم يحزنون يعني لا يحزنون للموت»، وهكذا رأينا

كلمة في السياق

المقولة الأولى لليهود والنصارى في هذه الفقرة والرد عليها، فالله عزّ وجل ذو العدل الكامل والكمال المطلق، يدخل جنته بالإسلام له والإخلاص له والعمل بشرعه، وليس دخول الجنة بالأماني والتمنيات. كلمة في السياق: - مر معنا في الفقرة الثانية من الفصل الثاني قوله تعالى وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وقد جاء في هاتين الآيتين تفصيل لنوع أمانيهم الباطلة وهي اعتقادهم أنهم سيد خلون الجنة بلا إحسان ولا إسلام. ومن كان يعتقد أن الجنة خالصة له فكيف ينتقل مما هو فيه إلى شئ آخر! إن صلة ذلك بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... لا تخفى. - إن الآيتين تبينان ضمنا أن من اجتمع له الإسلام والإحسان في العمل هو الذي يدخل الجنة، وأن اليهود والنصارى ليسوا كذلك مع اعتقاد كل منهم أن له الجنة، فهل يليق والأمر كذلك أن يتابع أهل الإسلام أمثال هؤلاء: ومن هنا نجد الآيتين مرتبطتين بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا .. فههنا مزيد بيان في شأن ترك متابعة أهل الكتاب. وبعد هذه المقولة لأهل الكتاب والرد عليها تأتي المقولة الثانية: 2 - وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. تبين هذه الآية أن كل فئة من الناس تدعي أنها على الحق وأن غيرها على باطل، اليهود يدعون هذا والنصارى يدعون هذا، والذين لا يؤمنون بكتاب أصلا يدعون هذا كذلك، والله وحده هو الحكم فيما اختلف فيه الناس، واليوم الذي سيحكم فيه هو يوم القيامة. وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أي على شئ يصح ويعتد به، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ أي يصح ويعتد به. بين الله تعالى بهذا تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ أي والحال أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر، فشريعة التوراة والإنجيل كل منهما قد كانت

كلمة في السياق

مشروعة في وقت ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ الذين لا يعلمون هم الجهلة الذين لا علم عندهم بما وراء هذه المادة، ولا كتاب من الله كعبدة الأصنام والملحدين فهؤلاء يقولون لأهل كل دين ليسوا على شئ ومن عرف كلام ملحدي عصرنا من مثل: الدين أفيون الشعوب أدرك كيف أن القرآن يسع الزمان والمكان فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة (من اليهود): ما أنتم على شئ وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ما أنتم على شئ وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل في ذلك من قولهما: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ... الآية. قال قتادة وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ. قال: بلى. قد كانت أوائل النصارى على شئ ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ قال: بلى. قد كانت أوائل اليهود على شئ ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا» اه قول قتادة. قال ابن كثير: وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى، أقول: قد وصف الله عزّ وجل غير اليهود والنصارى بأنهم لا يعلمون، وإذن فمن لم يؤمن بالله ويتبع الوحي الذي أنزله فهو جاهل، وأي جهل أكبر من الجهل بالله، وأي جهل أكبر من الضرب في هذه الحياة بلا هدى من الله، والعجيب أن هؤلاء يصفون أنفسهم أنهم علميون وقد انخدع كثير من أبناء المسلمين بهذه الدعاوى فضلوا. كلمة في السياق: - قص الله عزّ وجل علينا هذه المقولة لليهود والنصارى وغيرهم من الكافرين في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ... وفي ذلك ما يعمق مفهوم عدم المتابعة وتحسين الظن في الطوائف الكافرة خاصة. ومع أن كلا منها على باطل فهو لا يرى أن غيره على شئ. ثم إن هذه المقولة جاءت في سياق الفصل المبدوء بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... ومن ثم فهي تعمق فكرة عدم الطمع بإيمان هؤلاء ما داموا على هذه النفسية، وقد أشعرنا الله عزّ وجل بذلك في قوله فَاللَّهُ

كلمة في السياق

يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فكون الحكم سيكون بينهم يوم القيامة، فذلك يشعر أنه لا أمل في تزحزحهم عن مواقفهم. وهكذا يقص الله عزّ وجل علينا. في نهاية هذا الفصل، وفي الفقرة الأخيرة منه، وفي خاتمة مقطع بني إسرائيل. المقولات الكبرى عند الناس لنحدد بذلك مواقفنا منهم ولنعرف دقائق تركيبهم النفسي واتجاهاتهم الخطيرة، ثم يأتي بعد المقولتين السابقتين موقف. 3 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ* وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ. كلمة في السياق: تأتي هذه الآيات بعد الآية التي تعرض دعاوى أهل الباطل واتهاماتهم لبعضهم، وكأنها تعطينا ميزانا نتعرف به على كذبهم جميعا. فأظلم الظالمين هو الذي يعطل المساجد فلا يذكر فيها اسم الله ويسعى في خرابها. وهذه المجموعات الثلاث تخرب مساجد الله ولا تتوجه له بخالص العبادة فإذن دعاواها باطلة. إلا أن السياق لم يأت بنقض دعاوى القوم بشكل مباشر بل يقرر حقائق مطلقة وجد من يدعي أو لم يوجد. ولكن الصلة بين هذه الآيات والمقولة السابقة موجودة وهذا الواقع يؤيد ذلك، إن من يتذكر محاكم التفتيش وما ترتب عليها من تعطيل لذكر الله في المساجد، ومن يعلم أن أربعة عشر ألفا من المساجد في سمرقند عطل الشيوعيون فيها ذكر الله، ومن علم أن اليهود وراء كل تخريب أخلاقي وديني في هذا العالم، وأن المسلمين وحدهم هم الذين حموا للنصارى كنائسهم، ولليهود كنائسهم، وللمجوس معابدهم، على كفر هؤلاء جميعا يعلم أن المسلمين وحدهم هم أصحاب الحق في هذا العالم ولنا عودة على السياق فلنكتف الآن بهذا القدر. التفسير: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي لا أحد أظلم من الذي يمنع المساجد من أن يذكر فيها اسم الله وَسَعى فِي خَرابِها بأن قطع من يعمرها بذكره أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ قال ابن كثير: «هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية». وهذا يفهم منه أن الله عزّ وجل أعطى الوصاية للمسلمين على هذا العالم وكلفهم أن

يفرضوا سلطانه ويعلوا كلمته بحيث يخاف غيرهم من سلطان الله بخوفهم منهم فإذا أراد أن يدخل مساجد الله لا يدخلها إلا وهو خاضع خائف. فكيف يصح أن يكون له السلطان عليها. قال النسفي: «أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا عن أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين عنها». لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي للمانعين قتل، وسبي للحربي، وذلة بضرب الجزية للذمي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي النار هذا التفسير النسفي لهذه الآية وهو يؤكد أن المانعين لمساجد الله يدخل فيهم اليهود والنصارى والمشركون وغيرهم، أي من غير المسلمين. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه ابتداء من الربط الكامل في المعنى ما بين هذه الآيات والآية قبلها. فآية وَمَنْ أَظْلَمُ ... رد على اليهود والنصارى والذين لا يعلمون أنهم على شئ لأنهم جميعا ظالمون، وتأكيد أن المسلمين وحدهم على شئ لأنهم لا يمنعون أحدا أن يذكر اسم الله في مسجد أو معبد. وهذه الآية آية وَمَنْ أَظْلَمُ .. من غوامض الآيات وخاصة في خاتمتها ولذلك فللمفسرين كلام كثير فيها واختلاف كثير: اختلفوا في المراد بالمانعين فقال قوم اليهود، وقال قوم النصارى، وقال قوم المشركون وكل استدل بشيء. والذي أراه- ويظهر ذلك من خلال التاريخ والواقع- أن الجميع كذلك إذا كان لهم السلطان ولذلك فعلى المسلمين أن يكون لهم السلطان السياسي في هذا العالم، لأنه ليس غير المسلمين مؤتمنين على حفظ حرمة أماكن العبادة لله في العالم. واختلفوا في قوله تعالى أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ هل هو إخبار عن حال، أو هو خبر بمعنى النهي، أو هو وصف لما ينبغي أن يكون، أو هو بشارة للمسلمين أن الحال سيكون كذلك، وقد بسط ابن كثير هذه الأقوال وقدم القول بأنه خبر بمعنى النهي. وقدم النسفي القول بأنه وصف لما ينبغي أن يكون، وجمعنا نحن بين القولين كما مر. ولمجرد توضيح القول الرابع ننقل عبارة ابن كثير فيه «وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام».

[سورة البقرة (2): آية 115]

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي بلاد المشرق والمغرب كلها لله وهو مالكها ومتوليها. فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، أي ففي أي مكان فعلتم التولية فثم وجه الله. والمعنى إنكم إذا منعتم من مسجد فقد جعلت لكم الأرض مسجدا وطهورا فصلوا في أية بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فإن التولية ممكنة في كل مكان. إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده عَلِيمٌ بمصالح عباده. وهناك مسائل تثار عند هذه الآية منها المسائل الفقيهة ومنها ما له علاقة بمعرفة الذات الإلهية وسنعقد بعد عرض المقطع من أجل ذلك كله فصلا. كلمة في السياق: جاءت هذه الآيات بين مقولتين بين قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ... وبين قوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً .... فهي بلا شك تعرض موقفا للكافرين وهو منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. وتبين للمسلمين الموقف المكافئ لهذا الظلم العريض وفي الوقت نفسه تبين للمسلمين أنه إذا حيل بينكم وبين المسجد فالأرض كلها لكم مسجد. وكما أن الآيات في سياقها العام أعطتنا هذا وأعطتنا ردا ضمنيا على مقولة اليهود والنصارى والجاهلين، فإنها في سياق فقرتها تعمق المعاني التي من أجلها نهينا عن المتابعة لكافر، وهي في سياق فصلها تعلل لعدم الطمع في إيمان اليهود وأمثالهم، وهي في سياق مقطعها ترينا إحدى الانحرافات الخطيرة التي وقع فيها اليهود وغيرهم، وتعطينا دروسا فيما ينبغي أن نفعله لمواجهة الانحراف والمنحرفين. 4 - وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ اشتملت هاتان الآيتان على الرد على النصارى ومن أشبههم من اليهود الذين قالوا عزير ابن الله، ومن المشركين ممن جعل الملائكة بنات الله وغيرهم من أصحاب هذه المقولة فأكذب الله جميعهم في دعواهم، وقولهم إن لله ولدا وكان الرد عليهم في هاتين الآيتين في خمسة مواطن: 1 - في قوله تعالى سُبْحانَهُ أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا فمن

المعنى الحرفي

عرف الله وجلاله وعظمته نزهه عن ذلك. 2 - في قوله تعالى بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ وهو العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وجميع الأشياء له مخلوقة مربوبة. 3 - في قوله تعالى كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ فالجميع مقرون له بالعبودية فلا يشذ أحد عن ذلك فمن كان هذا شأنه لا يكون أحد إلا عبد له سبحانه. 4 - في قوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فمن ابتدع السموات والأرض على غير مثال سبق هو أجل من أن يكون له ولد. 5 - في قوله تعالى وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له (كن) أي مرة واحدة فيكون أي فيوجد على وفق ما أراد بين بذلك أيضا على أن خلق عيسى أو عزير أو الملائكة أو غير ذلك مما زعم الزاعمون أنه ابن لله بكلمة كن فكان، كما أمر الله ومن كان كذلك لا يكون إلا عبدا قال ابن جرير: فمعنى الكلام: سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته .. المعنى الحرفي: وَقالُوا أشهر القائلين بهذه الفكرة الضالة هم النصارى ولكنها فكرة شائعة عند كل الأمم تقريبا إما بشكل أو بآخر كما سنحقق ذلك في سورة براءة، اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قال النصارى: المسيح ابن الله وقال اليهود: عزير ابن الله وقال مشركوا العرب: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أي تنزيه له بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ

[سورة البقرة (2): آية 117]

وَالْأَرْضِ أي هو خالقه ومالكه ومن جملة ذلك المسيح وعزير والولادة تنافي الملك كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي منقادون لا يمتنع شئ منهم على تكوينه وتقديره فهم مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مخترعهما لا على مثال سبق وَإِذا قَضى أَمْراً أي حكم أو قدر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي احدث فيحدث وهو من كان التامة وهذا مجاز عن سرعة التكوين. فالمعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء وأكد بهذا استبعاد الولادة. لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثم، وإنما قالوا بأن (كن) أمر مجازي لأنه لا فرق بين أن يقال وإذا قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون. ولأنه لو كان أمرا على الحقيقة فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بكن أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب. أقول: إنما يضطر العالم للخوض في مثل هذا إذا وجد من يجادل أما إذا وجد ذو القلب فإنه يتلقى مثل هذا بالتسليم ويترك الخطاب في قلبه من الأثر ما لا تتركه كلمة أخرى وسنعقد لهذا الموضوع فصلا. أخرج البخاري في تفسير قوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ... عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي: فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم». كلمة في السياق: جاءت هذه المقولة في سياق عرض أمهات من القضايا الرئيسية عند أهل الكتاب، أو الكافرين عامة؛ لتعميق فكرة عدم التلقي عنهم، والاقتداء بهم كيف وهذا شأنهم في الضلال والكفر وإيذاء الله تعالى. والملاحظ أنه في سياق المقطع الذي هو خطاب لبني إسرائيل تذكر مقولات لهم، أو لغيرهم، أو لهم ولغيرهم، مما يشير إلى أن السياق يريد أن يوصل في قلوب هذه الأمة موقفا من الكفر عامة. فالمقطع في الأصل آت في سياق عرض نموذج على موقف من هدى أنزل على أمة من قبل. ثم تأتي بعد ذلك مقولة أخرى.

المعنى الحرفي

5 - وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. يرجح ابن كثير أن القائلين هم كفار العرب. ويرجح هذا الاتجاه ذكر الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فيما مضى على أنهم غير اليهود والنصارى ممن لا وحي سماويا عندهم. ونحن نرجح أنه يدخل في كلمة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هنا كل من يسأل هذه الأسئلة، سواء كان ملحدا، أو مشركا، أو كتابيا في الأصل، فإنه بسؤاله مثل هذه الأسئلة دخل في سلك الذين لا يعلمون. إن هذه الطبقة الجاهلة من الناس تعلق الإيمان على تكليم الله إياها، أو على مجئ الآيات هذا مع أن الآيات الكافية للإيمان موجودة ولكنه التعنت. إن هذا النوع من المطالب المتعنتة ليس جديدا على منطق الكفر بل هو طريق الكفار في كل عصر. لذلك قال تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. وقد ناقشنا هذا الموضوع في أول كتابنا (الله جل جلاله) وبينا في ذلك الكتاب أن هذا الطلب غير علمي وغير عقلي. وقد رد الله عزّ وجل على هؤلاء هنا بقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالآيات موجودة وهي كافية لأهل اليقين بوجود الله. وذكر كلمة يُوقِنُونَ هنا يشعر بأن طلاب هذه المطالب طالبوا بها من أجل الإيمان برسول الله، فكأنهم قالوا فليكلمنا الله شاهدا أنك رسوله، أو فلتأتنا آية تدلنا على ذلك. فكان الجواب أن الآيات قد جاءت واضحة لمن كان عنده يقين بالله. قال القرطبي في لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك قال ابن كثير: وهو ظاهر السياق. المعنى الحرفي: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من المشركين والملحدين وأهل الكتاب الذين بتركهم العمل بما يعلمون أصبحوا لا يعلمون لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة، أو هلا يكلمنا الله بنبوتك أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي معجزة تشهد على نبوتك ورسالتك يا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما قالوا هذا جحودا واستهانة لأن يكون ما آتى الله محمدا صلى الله عليه وسلم من الآيات كافيا للإيمان كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ إنها عقلية واحدة، عقلية الجحود والشك في كل عصر ومصر تتكلم بلغة واحدة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي تشابهت قلوب هؤلاء ومن قبلهم، في العمي، والجحود، والشك؛

المعنى

فتكلموا بلغة واحدة قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها، والإذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها، أو يوقنون بأن الله موجود؛ فهؤلاء لا تخفى عليهم آيات الله التي تشهد لرسالة رسله عليهم الصلاة والسلام بما في ذلك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا أكملت هذه الآية صورة الاتجاهات الكبرى التي تواجه الدعوة الإسلامية أقوالا وأفعالا، وجاء هذا كله في سياق النهي عن متابعة أهل الكفر في أدنى شئ، وفي سياق الانحراف عن هدى الله، ثم تأتي بعد ذلك آيتان تتوجهان بالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ* وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. المعنى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً للمؤمنين بالثواب. وَنَذِيراً للكافرين بالعقاب وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ أي عن أصحاب النار أي لا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت، وبلغت جهدك في دعوتهم. في هذه الآية مجموعة قضايا 1 - أن هناك رسولا بالحق مهمته التبشير والإنذار هو محمد صلى الله عليه وسلم 2 - وأن الذي أرسله هو الله رب العالمين 3 - وأن الثواب والعقاب على الله، وأن الله لا يسأل رسوله عن كفر من كفر به، بل سيتحمل كل كافر مسئوليته عن نفسه أمام الله. ومجئ هذه الآية بعد المقولات والمواقف السابقة للكافرين فيها إشارة إلى أن هذا الكفر الذي عليه هؤلاء سيجعلهم من أهل الجحيم، وأن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبشر، وأن ينذر، وأنه لا عليه من هؤلاء. ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هذا تقنيط من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من رضى اليهود والنصارى عنهم ما داموا على الإسلام. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي إن هدى الله الذي رضيه لعباده وهو الإسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الهدى كله ليس وراءه هدى. وأن ما يدعون إليه ليس هدى بل هو هوى بدليل وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع، وقد رأيت بعضها فيما مر بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة. ما لَكَ

كلمة في السياق

مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يرفع عنك عذاب الله وَلا نَصِيرٍ أي ينصرك من الله ويلاحظ أن الله عزّ وجل قال حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أفرد الملة مع أنهما ملتان؛ وذلك إشارة إلى أن ملة الكفر واحدة. في هذه الآية وصف لحقيقة موقف اليهود والنصارى من هذه الأمة أن كلا من اليهود أو النصارى لا يرضيه من هذه الأمة إلا أن تترك الإسلام وتدخل في دينه، وأن غير ذلك لا يرضيهم أبدا ولو تظاهروا بقبوله. إن نسيان هذا الدرس البليغ كان سبب الكوارث الكبيرة في عصرنا فقد حاول كثير من أبناء المسلمين أن يرضوا الكافرين ببعض التنازلات والمداهنات؛ ظنا منهم أنهم يرضونهم بهذا القدر، فلم يحصدوا إلا الغدر والقهر. فالآية تقول مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب للأمة كلها: ليست اليهود والنصارى براضية عنك أبدا؛ فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، وقل إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى يعني: هو الدين المستقيم، الصحيح، الكامل الشامل، وأن ما أنتم عليه هو الهوى الذي عقوبته عند الله شديدة. كلمة في السياق: - بعد أن عرضت الفقرة مجموعة من المواقف والأقوال الظالمة والباطلة جاء قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فدلل ذلك على أن الرسالة المصححة هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاء قوله تعالى وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ وفي ذلك إشارة إلى أن أصحاب هذه الأقوال والمواقف هم من أصحاب الجحيم، وقد جاءت هذه الآية في سياق الفقرة المبدوءة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ فكانت في محلها مبينة أن الحق في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يتابع الكافرون المستحقون للعذاب الأليم. - وبعد عرض الأقوال والمواقف الضالة جاء قوله تعالى وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أي حتى تتابعهم على مثل هذه المواقف والأقوال الضالة الظالمة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فالهدى هو في الإسلام. جاءت هذه الآية في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ... وفي ذلك إعلام بأن أي متابعة لأهل الكتاب من باب مسايرة الأهواء، وأنها لا ترضيهم إلا

المعنى

إذا انحرفنا كاملا، فالسياق في الفقرة يصب في قطع دابر المتابعة للكفر وأهواء أهله. - وجاء هذا كله في سياق الفصل الذي بدايته أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فجاءت الآيات مبينة ما يحول بينهم وبين الإيمان، ومثبتة لنا على الإيمان، وموصلة لنا إلى تبيان الطريق الصحيح للوصول إلى الإيمان، وذلك في الآية الأخيرة من الفصل الثاني وهي قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. المعنى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم مؤمنو أهل الكتاب، وهو التوراة، أو الإنجيل، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الكتاب هو القرآن، أو الجميع، ويكون الكتاب المقصود جنس الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه حق قراءته، في الترتيل، وأداء الحروف، والتدبر، والتفكر، والإيمان بمضمونه، والعمل به. ومن ذلك إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار كما قال عمر بن الخطاب. ومن حق التلاوة ما قاله ابن مسعود: «والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرؤه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله». ومن حق التلاوة ما قاله الحسن البصري: «يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه». ومن حق التلاوة ما قاله ابن عباس «يتبعونه حق اتباعه» أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ هذا خبر عن الذين آتيناهم الكتاب أي: من أقام كتاب الله كما وصفنا هو المؤمن به على الحقيقة وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الضلالة بالهدى. كلمة في السياق: بهذه الآية انتهى الفصل الثاني في المقطع الثالث وهو المقطع الذي ابتدأ بخطاب بني إسرائيل، وانتهى بخطاب بني إسرائيل، في الآيتين اللتين سنذكرهما بعد قليل. إن هذه الآية التي ختم بها الفصل الثاني الذي بدايته أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ دلت على طريق الإيمان وهو: تلاوة الكتاب حق التلاوة، فمن قرأ التوراة حق التلاوة، وصل إلى

[سورة البقرة (2): الآيات 122 إلى 123]

الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلا الإنجيل حق التلاوة وصل إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلا القرآن حق التلاوة وصل إلى الإيمان بالقرآن، إن الآية تحتمل ذلك كله، كما تحتمل الطعن في أهل الكتاب في أنهم لا يؤمنون بكتابهم أصلا؛ لأنهم لا يتلونه حق تلاوته وهكذا، فهذه الآية التي تختم الفصل تفهم فهوما عدة، وكل فهم من فهومها يخدم السياق بشكل ما. وكما بدأ الفصل الأول بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. فإن الفصل الثاني من هذا المقطع ينتهي بقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وبذلك ينتهي المقطع الثالث ولكنها نوع نهاية كما سنرى، وهاتان الآيتان فسرناهما من قبل وتأتيان هنا معلنتين انتهاء الخطاب التفصيلي لبني إسرائيل بما بدئ به هذا الخطاب، رابطتين آخر الكلام بأوله، وفيهما تكرار للأمر؛ زيادة في الحث، فلعله ينفع التذكير اللاحق حيث لم ينفع التذكير السابق وقد آن الأوان- وقد انتهى المقطع- أن نتكلم كلمة أخيرة في سياقه، قبل أن نعقد بعض الفصول التي وعدنا بها تفصيلا، لأمور وردت معنا. كلمة أخيرة في سياق المقطع الثالث: - رأينا أن المقطع الثالث- مقطع خطاب بني إسرائيل- يتألف من مدخل وفصلين، وأن فاتحة الفصل الأول هي خاتمة الفصل الثاني، ورأينا أن المدخل فيه مجموعة أوامر ونواه، في تطبيقها صلاح حال بني إسرائيل وأمثالهم ممن عقده سير طويل، ثم رأينا أن الفصل الأول كان في أجواء الآية الأولى من المدخل، وأن الفقرتين الأولى والثانية من الفصل الثاني كانت في أجواء الآيات الثلاث اللاحقة على الآية الأولى، ثم جاءت الفقرة الثالثة في الفصل الثاني لتناقش في قضية الآية الأولى من هذه

الآيات الثلاثة، على اعتبار أن ذلك يتوقف عليه كل ما بعده، وبناء على هذا النقاش جاءت الفقرة الرابعة تعطي للأمة الإسلامية دروس التعامل مع أهل الكتاب والكافرين، وترد على مقولاتهم الرئيسية، ومن خلال هذه النظرة السريعة نلاحظ أن المقطع قد انتهى ولم تغط فيه كل الأوامر والنواهي الواردة في المدخل وذلك لأن الحوار لا زال مفتوحا مع أهل الكتاب ومن ثم فإنه في مقاطع لاحقة سيرد معنا ما يغطي أوامر ونواهي المقطع. وهذا تفصيل ما ذكرنا: الآية الأولى في المدخل هي قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وقد جاء الفصل الأول بفقرتيه يغطي أوامر هذه الآية. ثم جاء قوله تعالى في المدخل: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ وجاءت الفقرة الأولى والثانية من الفصل الثاني تغطي هذه الأوامر والنواهي. ثم عادت الفقرة الثالثة في الفصل الثاني إلى الحوار في مضمون قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. ثم جاءت الفقرة الرابعة في الفصل لتحاور الكافرين في مقولاتهم الرئيسية، وتدل على مواقفهم الظالمة، وتعطي الأمة الإسلامية دروس ذلك، ثم ختم المقطع. وإذن ففي العودة إلى فتح الحوار في قضية الإيمان لم يتجاوز الحوار الآية الثانية في المدخل. فبقيت من آيات المدخل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وسنرى أن كتمان الحق سيرد معنا مرة بعد مرة، في مقطع إبراهيم وفي مقطعين لاحقين. وبقي من آيات المدخل بلا تغطية قوله تعالى:

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وسنرى أن كلاما عن البر سيأتي. وبقيت من آيات المدخل بلا تغطية قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وسنرى أن هذا الأمر سيتوجه إلينا فيما بعد في السورة. إنه إن قبل الكافرون الإيمان؛ فقد أصبحوا مخاطبين بما يخاطب به المسلمون، وإن رفضوه فلن يطبقوا ما يترتب عليه، ولذلك فإن السياق سيترك الحوار المباشر مع هؤلاء في الغالب وإنما يذكر كثيرا من المعاني بشكل تقريرات، وبهذا نكون قد عرفنا المقطع الثالث وبعض صلاته ببعضه وبما بعده. - رأينا أن المقطع الثالث بدأ بمجموعة من الأوامر والنواهي هي العلاج الكامل لليهود وأمثالهم من أجل أن ينصهروا بدين الله ودعوته، فبعد أن جاء النداء لكل الناس أن يسيروا في الطريق الموصل إلى التقوى، خص بنو إسرائيل بنداء خاص ولكن هذا جاء بعد قصة آدم التي انتهت بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وقلنا من قبل إن مجئ الكلام عن بني إسرائيل بعد قصة آدم هو بمثابة عرض نموذج على أمة أنزل عليها وحي وكيف تصرفت مع هذا الهدى لتأخذ هذه الأمة دروس ذلك، ولإدراك هذا الهدف في الصلة بين قصة آدم وقصة بني إسرائيل نلاحظ أنه خلال المقطع تكرر كثيرا ذكر ما يشبه القاعدة التي ختمت بها قصة آدم، فقد ورد في نهاية الفقرة الأولى من الفصل الأول: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وقد ختمت الفقرة الأولى من الفصل الثاني بقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وقد ورد في الفقرة الرابعة من الفصل الثاني: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ

فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ثم بعد آيات ورد قوله تعالى وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فهذا المقطع إذن يعطينا درسا عمليا في أمة أنزل عليها وحي، وكيف كان موقفها من هذا الوحي. وبما أن لهذه الأمة استمرارها التاريخي، وهي مخاطبة بالقرآن فمن ثم يندمج العرض للموقف التاريخي مع الموقف الجديد المتجدد، ليرى الانحراف كله قديما وحديثا عن وحي الله، لتأخذ الأمة الإسلامية دروس ذلك ولتواجه هؤلاء المنحرفين بما يناسب. وعلى هذا فالصلات بين مقطع بني إسرائيل وبين مقطع آدم واضحة المعالم. - ومن قبل مقطع آدم عليه السلام جاء المقطع الأول في القسم الأول من سورة البقرة وفيه نداء للناس جميعا بالتوحيد والعبادة والإيمان بالقرآن، وضرورة الإيمان والعمل الصالح، وضرورة ترك الفسوق، المتمثل بنقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وترك الإفساد في الأرض، ومناقشة الكفر، وتبيان أن الأرض كلها للإنسان، وجاء مقطع بني إسرائيل وفيه خطاب بما يحقق ذلك كله، ودروس في ذلك كله وعواقبه. لقد رأينا في مقطع بني إسرائيل كيف أخلوا بالتوحيد، وبالعبادة، وبالعمل الصالح، وكيف نقضوا الميثاق، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وكفروا، فتعمق من خلال مقطع بني إسرائيل مضمون ما ورد في المقطع الأول سلبا وإيجابا لاحظ مثلا أنه ورد في المقطع الأول: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وفي مقطع بني إسرائيل ورد: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ .. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ولو أننا تتبعنا الصلات بين مقطع يا أَيُّهَا النَّاسُ ومقطع بني إسرائيل لاقتضى ذلك منا أن نعيد المقطعين كليهما.

فصل وفوائد حول آيات ومعان في المقطع

- ورأينا مقدمة سورة البقرة، وجاء مقطع بني إسرائيل فأرانا الانحراف عن كتاب الله وعن الصلاة والزكاة، وأرانا الكفر وما يؤدي إلى الكفر، وأرانا ما ينبغي أن نلاحظه حتى نثبت على الإيمان والتقوى وما ينبغي أن نجتنبه. - ومن قبل في سورة الفاتحة علمنا أن ندعو الله أن يجنبنا السير في طريق المغضوب عليهم والضالين، ولقد رأينا في مقطع بني إسرائيل قوله تعالى وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ لقد رأينا في هذا المقطع بيانا كثيرا حول طريق المغضوب عليهم والضالين، ودلنا الله على معالم في السير لنبقى في الطريق المستقيم، ولعل في هذا كفاية لإدراك سياق المقطع، وصلته بما قبله وبما بعده. وإذ قص الله عزّ وجل علينا في هذا المقطع قصة نموذج على أمة انحرفت عن الهدى، فإن المقطع الرابع- وهو مقطع إبراهيم عليه السلام فيه قصة نموذج لمن قام بأمر الله كاملا، وإذن فقصة آدم يعقبها مقطعان، مقطع في أمة أنزل عليها وحي فانحرفت، ومقطع في من أنزل عليه وحي فقام به كله، مع دروس ذلك لهذه الأمة ومع قضايا كثيرة تعرض خلال ذلك - وقبل أن ننتقل إلى المقطع الرابع في القسم الأول من أقسام سورة البقرة مقطع إبراهيم عليه السلام فإن علينا أن نفي بما وعدنا به من قبل من أننا بعد نهاية المقطع سنعقد فصولا. فصل وفوائد حول آيات ومعان في المقطع: فصل في فرعون الاضطهاد والخروج: من معجزات القرآن أنه حدثنا عن النجاة البدنية لفرعون، إذ إن كل الفراعنة- الذين هم مظنة أن يكونوا فرعون موسى- جثثهم موجودة الآن، في الوقت الذي لا تتحدث فيه كتب العهد القديم والجديد عن النجاة البدنية لفرعون، ومما بحثه الباحثون اعتمادا على نصوص العهد القديم وهي نصوص لا يستطيع الدارس أن يعتمدها إلا بحذر شديد. من هو فرعون موسى؟. وقد سجل (موريس بوكاي) في دراسته عن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم مختصرا عن هذه الأبحاث، فذكر أن هناك اتجاها يقول بأن فرعون موسى هو تحتمس الثاني، وهناك اتجاه يقول بأنه أمينوفيس الثاني، والاتجاه

فصل في أحكام فقهية من (آل فرعون)

الذي يقويه المؤلف أن هناك فرعونين، فرعون الاضطهاد وهو رمسيس الثاني، وفرعون الخروج وهو ابنه منيتاح، ويذكر المؤلف أنه في طريقه لمتابعة دراسة على جثة منيتاح لرؤية ما إذا كان مات ميتة غير عادية، ولا يشعر الدارس للقرآن الكريم وهو يقرأ قصة موسى مع فرعون أنه أمام شخصيتين، ولكن لنفرض فرضا أن الدراسات العلمية القطعية أوصلتنا إلى تحديد في شأن شخصية فرعون، وأوصلتنا إلى أن هناك فرعونين فرعون الاضطهاد وفرعون الخروج، فإن ذلك يكون أحد أسرار استعمال كلمة (الآل) في قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ففرعون الاضطهاد إذا صح أنه رمسيس الثاني، فإن آله (منيتاح) ابنه هو الذي تمت في عهده نجاة موسى وقومه، وكل ذلك نتوقف فيه على معطيات قطعية تسمح لنا بهذا السير، أما فقهاؤنا فقد استفادوا من استعمال كلمة الآل هاهنا أحكاما فلنرها في الفصل التالي: فصل في أحكام فقهية من (آل فرعون): بمناسبة قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قال القرطبي: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون، وهم إنما كانوا يفعلون بأمره، وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله، قال الطبري: ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، قال القرطبي وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته ... وقال سليمان بن موسى: لا يقتل الآمر ولكن تقطع يداه ثم يعاقب ويحبس، وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة ... وقال زفر: لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث ... أقول: وعلى القول الثالث فكل منهما يستأهل التعزير، وقد يصل التعزير إلى القتل إذا رأى الإمام ذلك. ومن هذه المسألة نعرف بعض الأحكام التي تنطبق على الظلمة وأعوانهم، إذا أدال الله دولتهم، وكيف ينبغي أن تكون محاسبتهم على ما اقترفت أيديهم، إن أقل ما يجوز لنا أن نعاملهم به التعزير آمرين ومأمورين من خلال دعاوى ومحاكم يثبت فيها على كل واحد منهم أنه ظلم بأدنى شئ فيقتص منه. فائدة: يلاحظ أن الخطاب في المقطع توجه لبني إسرائيل جملة، وأنب الجميع بفعل البعض، وأنب اللاحق بفعل السابق، ومن المعلوم- من الدين بالضرورة- أن الإنسان لا يسأل

فصل في أكل الثوم والبصل

عن فعل غيره إلا في حالات المسئولية المشتركة والتقصير، أو في حالات يكون على الإنسان تكليف ما في حق الآخرين، وإنما كان التأنيب شاملا، للموافقة والاستمرار على فعل القبيح، وعلى كل حال فإننا نأخذ من هذا درسا في ضرورة مراجعة الحال القلبي لنا، فلا نقر خطأ وقع فيه أحد من هذه الأمة خلال العصور، ونسعى ما استطعنا أن تستقيم أمورنا، وأمور أمتنا لأن في ذلك نجاتنا جميعا. اعتذار: كثيرا ما يحدث أن تتجمع التحقيقات في مكان واحد من التفسير، وهذا يؤدي إلى تضخيم قسم من التفسير، وضمور أقسام أخرى، وهذا الذي دعانا أن نرجئ كثيرا من التحقيقات حتى تأتي مناسباتها الأكثر ملائمة؛ حتى لا يتضخم تفسير سورة البقرة. فصل في أكل الثوم والبصل: بمناسبة قوله تعالى على لسان اليهود لموسى فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قال القرطبي: اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول: فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك للأحاديث الثابتة في ذلك، وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا- إلى المنع وقالوا: كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به ... أقول: الأكل مباح، ولكن إذا ترتب عليه إيذاء مطلق، أو إيذاء لمن لا يتسامح بمثل ذلك، فالكراهة حاصلة وسنرى الموضوع تفصيلا في قسم السنة. فصل في الصابئة: هل المراد بالصابئة في آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ صابئة العراق الحاليين؟ وبالتالي فالآية تتحدث عن أسلاف لهم كانوا على حق، أو المراد بهم من مال عن الدين الباطل إلى الدين الحق كالحنيفيين من العرب قبل الإسلام؟ قولان للعلماء، وفي صابئة العراق قولان في جواز أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم ذكرهما القرطبي، والذي أرجحه عدم جواز ذلك لأنهم أفردوا باسم خاص عن أهل الكتاب، وقد خص أهل الكتاب بجواز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.

فصل في المسخ

فصل في المسخ: ذهب بعض المفسرين إلى أن المسخ الذي وقع بأهل القرية إنما كان مسخ قلوب وليس مسخ أجساد، وليس هذا صحيحا، بل هو اتجاه خاطئ، فالمسخ كان صوريا معنويا كما قال ابن كثير، إذ لا داعي يدعو إلى صرف النص عن ظاهره والنص صريح فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال الضحاك عن ابن عباس: فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، قال ابن عباس: «ولم يعش قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل» أقول: في هذا رد على من يتصور أن القردة الحالية يحتمل أن يكون أصلها بشرا قد مسخوا، وهو موضوع سنراه فيما بعد وإنما انفرد بفكرة المسخ المعنوي مجاهد، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير هي مما مسخ فقال: «إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». فصل في الاستهزاء والمزاح: بمناسبة قول اليهود لموسى أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قال القرطبي: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل، وصاحبه مستحق للوعيد، وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده ... فصل في السلم في الحيوان: استدل بقوله تعالى إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها على صحة بيع السلم في الحيوان إذ إن الآية حصرت صفات البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة، والثوري، والكوفيون، لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وعبد الرحمن بن سمرة؛ وغيرهم ونحن نرجح التوسيع في باب السلم؛ على اعتبار أن السلم أحد الحلول التي وضعها الإسلام في وجه الربا، وهو البديل الأقوى كما سنرى، ولكن على أن يراعى في حالة الفتوى شروط الأئمة المجيزين حتى لا نقع في مخالفة لإجماع.

فصل في القتيل إذا وجد في محلة قوم

فصل في القتيل إذا وجد في محلة قوم: بمناسبة حادثة القتيل الذي أحياه الله بضربه ببعض البقرة، يثير المفسرون مجموعة مسائل: مسألة ما إذا قال القتيل دمي عند فلان ثم مات، ومسألة ما إذا وجد قتيل في مكان ولا يعرف له قاتل وما ثم شهود، أو كان شهود لكنهم نساء، أو كان شاهد واحد، وإنما بحثوا هذه المسائل هنا تفريعا على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا وهو مذهب جماهير العلماء. يعتبر مالك أن قول القتيل: قتلني فلان أو دمي عند فلان، أمارة كافية للحكم على المذكور، ومنع ذلك عامة الفقهاء؛ لاحتمال الخطأ والكذب، وعامة الفقهاء أوجبوا القسامة إذا وجد قتيل في محلة وفيه أثر القتل، والقسامة: أن يحلف خمسون يمينا أنهم ما قتلوا ولا يعرفون له قاتلا، ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، فإن كانوا أقل من ذلك، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه، ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم، وهناك خلاف في كيفية الحكم بها: إذ ترى طائفة أن يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرءوا، وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرءون، وهل يكون بالقسامة القصاص أو الدية؟ الراجح أن يكون فيها الدية ولا قصاص. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم، وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله- أي ديته- عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شئ إلا أن تقوم البينة على واحد، وذهب مالك والشافعي: إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر لا يؤخذ به أقرب الناس دارا؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك، حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة وهي عند مالك إما دعوى القتيل أو شهادة امرأتين أو شهادة عدل. فصل في التحريفيين من هذه الأمة: رأينا تفسير قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، ورأينا كيف أن الله عزّ وجل قطع عنا الطمع بإيمان أهل الكتاب؛ بسبب من هذه العقلية التحريفية للنصوص،

وخلال مسيرة التاريخ الإسلامي وجد بين المسلمين طوائف، جعلت للقرآن باطنا يخالف الظاهر، وذلك كفر بإجماع المسلمين. هؤلاء حرفوا كلام الله وهم يعلمون حق العلم ماذا يعني كلام الله، فهؤلاء وقعوا فيما وقع فيه اليهود من قبل، وهؤلاء فيما يبدو يكاد ينقطع الأمل في عودتهم إلى الحق إلا بتوبتهم، فكما أن اليهود إذ وقعوا في هذه المفسدة ينقطع الطمع في إيمانهم، فهؤلاء وإن ادعوا أنهم هم خيار الناس، يكاد أن ينقطع الطمع في فيئهم إلى الله عزّ وجل، يدخل في ذلك كل طوائف الباطنية الذين يعطون الإمام حق الفهم الباطن للنصوص، وبذلك عطلوا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من الإسلام؛ إذ أعطوا كل النصوص فهما يخالف الظاهر، فسبقوا في ذلك اليهود أنفسهم، كما دخل في ذلك طوائف من المتصوفة يحملون النصوص ما لا تحتمله من معنى، وخرج من ذلك الذين يرون أن في القرآن من المعاني الدقيقة ما لا يحاط به، ويسمون هذه المعاني باطنا، فلا يتعارض عندهم ظاهر بباطن أي معنى دقيق مع معنى ظاهر، وكل ذلك على ضوء الأصول الصحيحة للفهم، كما خرج بذلك نوع من الوعظ هو بمثابة تداعي أفكار عند عرض آية يذكره أصحابه على أنه استطراد، أو على أنه فوائد تعرض بمناسبة الآية لا على أنه تفسير للآية وهذا مزلق قديم خطير. قال النسفي في عقائده: «والنصوص على ظواهرها فالعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد» قال التفتازاني تعليقا على هذه العبارة: «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص محمولة على ظواهرها، ومع هذا ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان». ويقول ابن الصلاح في فتاواه «الظن بمن يوثق به من الصوفية أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك لسلكوا مسلك الباطنية وإنما ذكر ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير». وقد شدد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور على الألوسي في تفسيره إذ ذكر التفسير الإشاري فقال «قد فتح خرقا جديدا يقتضي أن هنالك طريقا لاستفادة المراد غير مقتضى الألفاظ وهو خروج عن قواعد أهل السنة: في أن الإلهام ليس من أسباب المعرفة، وإذا كانت تلك المعاني مقصودة فكأن غيرها حائل دونها وبذلك صح له أن يسمي الفقهاء والعلماء في كثير من المقامات بأهل الحجاب مما أثار على تفسيره الطامة الكبرى من العلماء».

فصل في حكمة من حكم تكرار المعاني في القرآن

(نقلت هذه النقول الأربعة عن كتاب سيكولوجية القصة في القرآن). فصل في حكمة من حكم تكرار المعاني في القرآن: يلاحظ أنه في سياق إقامة الحجة على بني إسرائيل أن قضية عبادتهم للعجل تعرض مرة بعد مرة، وفي كل مرة تأتي ضمن سياق يناسبها، فمرة في سياق الكلام عن النعمة، لأن الله تاب عليهم مع فعلهم الشنيع هذا، ومرة في سياق إقامة الحجة عليهم في أن الانحراف عن أمر الله طبيعة لهم، ومرة في معرض استمرارية هذا الانحراف فيهم، والانتباه لحكمة تكرار بعض الأمور في القرآن مهم إن في عملية التربية، أو في عملية الصراع مع الكافرين، فالقضية التي تتكرر في القرآن مرات ومرات لم تتكرر إلا وهناك سياق يقتضيها، ثم إن تكرارها مهم إن في ضرورة هذا التكرار للنفس البشرية، أو في ضرورة هذا التكرار للتوضيح، أو للتفصيل، أو للصراع مع الكفر وأهله، وقد أدرك علماء النفس المعاصرون أهمية التكرار في تثبيت المعاني، وبنى عليه المشتغلون في فنون الدعاية والإعلام كل نظرياتهم في الدعاية والإعلام، وبنى عليه الشيوعيون وغيرهم نظرية غسيل الدماغ التي محتواها أن تجعل الإنسان في وضع غير طبيعي، ثم تكرر عليه بعض المعاني آلاف المرات حتى تستقر عنده ويزول ما عداها، وكل ذلك مرجعه ما عرف عن طبيعة النفس البشرية، ولئن أدرك الإنسان هذا فالله الذي خلق الإنسان أعلم به وأعلم باحتياجاته، فكان كتابه مذكرا للإنسان على حسب احتياجات الإنسان، وإن كل قراءة للقرآن لتتأكد فيها عند القارئ معان وتستقر معان، ويتذكر بها القارئ الخاشع معاني ومن خلال التكرار بأساليب شتى تأخذ كل قضية محلها في النفس البشرية، مراعى في ذلك ما تغفل عنه النفس البشرية كثيرا، أو ما تحتاج إلى تذكره كثيرا، إلى غير ذلك من معان لا يحاط بها، وفي هذا كله من مظاهر الإعجاز القرآني الكثير لمن عقل. فصل في التوسل: مما يستدل به القائلون بجواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وموته قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ إذ ورد في سبب نزولها أكثر من رواية فبعض الروايات تذكر عنهم أنهم كانوا يقولون «إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم» وبعض الروايات تذكر ما يلي:

فصل في روايات أهل الكتاب

قال ابن كثير: وقال العوفي عن ابن عباس وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ... وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. ولما عرض القرطبي لهذه الآية قال: والاستفتاح: الاستنصار ... قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود، فعاذت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان» فعلى هذا الاتجاه في سبب النزول يكون اليهود قد توسلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معرفتهم بوجوده، ولأن الله عزّ وجل قد أقام عليهم الحجة بذلك، فذلك دليل عند هؤلاء على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حياته ومن المعلوم أن حسن البنا- رحمه الله- مجدد القرن الرابع عشر الهجري يرى أن التوسل مسألة فرعية، أي ليست من مسائل الأصول التي لا يسع المسلمين الخلاف فيها، وذلك لوجود أدلة لكل من الطرفين فيها، ونحن سنحقق هذا الموضوع عند قوله تعالى في سورة الأعراف وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وإنما أشرنا إلى هذا الموضوع هنا بمناسبة استدلال أحد الطرفين بالآية المذكورة على صحة ما ذهب إليه. فصل في روايات أهل الكتاب: رأينا في مقطع بني إسرائيل قوله تعالى ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وقوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهذا يجعلنا حذرين في قبول الروايات الكتابية: أخرج البخاري من طرق عن الزهري عن ابن عباس قال: «يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ، وكتاب الله تعالى الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضا لم يشب، وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، لا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم» ولقد استطاع رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه العظيم (إظهار الحق) أن يأتي بمئات الشواهد والأدلة من كلام علماء اليهود والنصارى أنفسهم على التحريف والتغيير والتبديل في الكتب الحالية المعتمدة عند

فصل في السحر

اليهود والنصارى، فإذا كان هذا في الكتب المتوارثة فما بال الروايات الشفهية وكلام الكذبة والعامة، ولا يعني هذا أننا نرفض كل شئ ورد في الكتب السابقة، بل يعني هذا أن نكون حذرين مع عدم إعطاء ما نقبله- قوة في تفسير كتاب الله- أكثر مما تحتمله، ولنا عودة على هذا الموضوع مرة ومرة إذا جاءت مناسبته. فصل في السحر: السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه، وهو أنواع، وكل نوع منه يستند إلى نوع من العلم أو الفن، فمن عرف علمه استطاعه، وهذا هو الفارق بينه وبين المعجزة والكرامة، فالمعجزة والكرامة لا دخل لعالم الأسباب فيهما، بل هما بقدرة الله المباشرة. أما السحر فمبناه عالم الأسباب، ولكن قلة من يعرفه تجعله غريبا خارقا، ومن أنواعه سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ومنه ما يكون أثرا عن الاستعانة بعالم الجن، ومنه ما يكون أثرا عن الخفة والمهارة في التلبيس على العيون والأبصار، ومنه ما يكون أثرا عن مهارات في بعض العلوم يظنها الجهلة سحرا وهي ليست سحرا، ومنه ما يكون أثرا عن استعمال أدوية أو ألوان، ومنه ما يكون أثرا عن استغلال ضعف نفسي عند الآخرين، ومنه ما يكون تغيرا وقلبا للأشياء عن أعيانها، وهذه الأنواع تدخل تحت كلمة السحر لغويا، أما السحر الذي هو سحر بالاصطلاح الشرعي وهو السحر المحرم: فهو ما رافقه كفر أو ضرر تلبيس أو استغلال أو كذب أو دعوى. ومن أقوالهم في السحر: قال القرطبي: وعندنا- أي أهل السنة والجماعة- أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الأسفرائيني من الشافعية حيث قالوا إنه تخييل وتمويه. وقال الألوسي: والمراد به أمر غريب يشبه الخارق وليس به- أي بالخارق- إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره، وعملا كعبادة الكواكب والتزام الجنابة وسائر الفسوق، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه ... وقال الألوسي كذلك: «فسره الجمهور بأنه خارق للعادة- في الظاهرة- يظهر في نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة، والجمهور على أن له حقيقة».

أقول: وأمهات المجلات والصحف العالمية تتحدث في عصرنا عن السحرة وسحرهم بما يدهش ويحير، اقرأ مثلا ما نشرته مجلة «ريدرز دايجست (المختار)» عن ديننجز قارئ الأفكار وخلال العصور كان الكلام عن السحر والسحرة مستمرا على ضيق أو توسع كما سنرى بمناسبات أخرى في هذا التفسير. يقول صاحب الظلال: «وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر وعما يفرق بين المرء وزوجه مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله: إنه ما يزال مشاهدا في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد، لقد سمى بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها. هذا «التلباثي» التخاطر عن بعد- ما هو؟ وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنسانا على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره فيتلقى عنه دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟ وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟ إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها هو أن أعطاها أسماء ولكنه لم يقل قط ما هي: ولم يقل قط كيف تتم، وثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم؛ إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها؛ وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه، هذه الأحلام التنبئية- وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها- كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟ وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد. كيف أحس أن أمرا ما سيحدث بعد قليل، أو أن شخصا ما قادم بعد قليل ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء! إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى. وليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة والجري وراء كل أسطورة إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفا مرنا، لا ينفي على الإطلاق، ولا يثبت على الإطلاق؛ حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه، أو يسلم بأن في الأمر شيئا فوق طاقته ويعرف حدوده ويحسب للمجهول في الكون حسابه ... السحر من قبيل هذه الأمور، وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور، وقد تكون صورة من صوره: القدرة على الإيحاء والتأثير إما في الحواس والأفكار، وإما في

الأشياء والأجسام، وإن كان السحر الذى ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (سورة طه) - ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه وبين الصديق وصديقه، فالانفعالات تنشأ من التأثرات، وإن كانت الوسائل والآثار والأسباب والمسببات لا تقع كلها إلا بإذن الله على النحو الذي أسلفنا .. أقول ما اتجه إليه صاحب الظلال من كون السحر يمكن أن يكون من صور الإيحاء والتمويه هو ما ذهب إليه أبو إسحاق الأسفرائيني وهو من أكبر أئمة أهل السنة والجماعة، والجمهور على أن هذا نوع من السحر ولكنه ليس كل السحر والمسلم في كل القضايا التي أخبره عنها الوحي موقفه التصديق والتسليم، والسحر من جملة ذلك فخطاب (سيد قطب) للعقل الإنساني في أن عليه أن يكون موقفه مرنا في الإثبات والنفي إنما هو في حالة سكت عنها النص وأخذت محلها في كلام البشر. قال الشافعي: «إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر». واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: «إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر- وهذا إذا لم يرافق تعلمه كفر أو يلزم عليه كفر- ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر» وعلى القول بأنه يكفر بمجرد تعلمه فإنه يقتل بذلك وقد رأينا كلام الشافعي في هذا الأمر. قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا. فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل- والحالة هذه- قصاصا قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: في المشهور عنهم لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل. وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل ... واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة: لا تقتل ولكن تحبس وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل ...

فوائد

وهل يسأل الساحر حلا لسحره؟ أجاز سعيد بن المسيب ذلك فيما نقله عنه البخاري ولكن لا بد من اشتراط الوسيلة المباحة. قال النسفي: قال أبو منصور الماتريدي: «القول بأن السحر على الإطلاق كفر، خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر، وإلا فلا، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه، وتقبل توبته إذا تاب ومن قال: لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم». قال ابن كثير: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان وفي الحديث: «لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان». أقول: ظن بعضهم أن بعض المخترعات من قبيل السحر وذلك في أول ظهورها ولذلك فإن علينا من خلال نظرة شاملة وعلمية أن نميز بين ما أسماه الإنسان سحرا وهو ليس من السحر المحرم، وبين السحر المحرم في شريعة الله، وإن علينا أن نعرف أن الإسلام جاء ليقطع دابر السحر المحرم من حياة الإنسان، فقد رأينا أن من فقهاء المسلمين من يكفر الساحر في كل حال ومما استدل به هؤلاء قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا وذلك بعد الكلام عن فعل السحرة وهذا الاتجاه عليه الإمام أحمد وطائفة من السلف، وقال آخرون: لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه؛ لما رواه الشافعي وأحمد: أن عمر بن الخطاب كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال: فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري. وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت. قال الإمام أحمد: «صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الساحر». وكان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله قال: أراه كان ساحرا وحمل الشافعي قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا. فوائد: 1 - في الصحيح «من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم». 2 - وفي السنن «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر». 3 - في ضرب الله نموذجا على السحر التفريق بين المرء وزوجه إشارة إلى فظاعة

فصل في قوله تعالى: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت

هذا الفعل، فلا شئ أفرح للشيطان من الخلاف بين الزوجين لما يترتب عليه من فتح أبواب كثيرة من الشر، وقد أخرج الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجئ أحدهم فيقول ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئا ويجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله. قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول نعم أنت». 4 - السحر قديم فقد كان في زمن سليمان عليه السلام، وكان قبل في زمن موسى كما ذكر القرآن وكان في قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إذ إنهم قالوا لصالح إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* (سورة الشعراء) أي المسحورين على المشهور كل هذا يدل على أن السحر كان موجودا قديما وقد جاءت الحفريات وجاء علم الآثار ودراسة تاريخ الأقوام فأعطى المزيد في هذا الشأن. فصل في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ: في (ما) في هذا النص مذهبان الأول: أنها نافية، والثاني: أنها اسم موصول: - فعلى القول بأنها نافية تصبح جملة وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ جملة معطوفة على وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ فيصير المعنى على هذا التقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشيطانين هاروت وماروت كفرا يعلمان الناس السحر ببابل، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما. هذا مذهب القرطبي في فهم الآية وقد وجه ذلك من حيث اللغة والإعراب، والمقصود بالملكين المبرءين هنا جبرائيل وميكائيل؛ لأن اليهود تزعم أن جبرائيل وميكائيل هما اللذان نزلا بالسحر على سليمان. وعلى القول بأن (ما) نافية يمكن أن نعتبر وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ جملة اعتراضية فيصير المعنى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، يعلمون هاروت وماروت، وهاروت وماروت يعلمان الناس وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر؛ فيتعلم الناس منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما أنزل السحر على الملكين جبرائيل وميكائيل. وهناك قراءة بكسر اللام؛ فيكون الملكان داود وسليمان وأنهما ما أنزل عليهما السحر. هذه أهم التفاسير التي تترتب على اعتبار ما نافية.

- وعلى القول بأن (ما) اسم موصول فإن معاني متعددة يحتملها النص على ضوء فهم قضية هاروت وماروت. إن المعنى العام للآية على هذا الاتجاه هو: ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت من السحر مع أن الملكين ما كانا يعلمان أحدا السحر إلا بعد أن يعلماه أنهما أنزلا ابتلاء للناس، فلا يعلمان أحدا السحر حتى ينهياه عن ذلك، فإذا أصر علماه فيكون المتعلم قد اختار الكفر عن بصيرة فيستحق عذاب الله. وبعض العلماء لم يفهم أن هناك تلازما بين التعلم والكفر. قال النسفي: «والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا إن كان فيه رد ما لزم في شرط الإيمان، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا» والفتنة في الآية معناها المحنة والإخبار، وهل هذا التعليم من قبل الملكين أثر عن تكليف لهما من الله ليفرق الناس بين السحر والمعجزة فيكونان غير عاصيين به، فهما على أصل العصمة أو أن الأمر غير ذلك؟ إن الفهم الشامل لشريعة الله ولنصوص الكتاب والسنة يرجح الأول. اختلف المفسرون في هاروت وماروت الوارد اسمهما في الآية فقال بعضهم: إن هاروت وماروت شيطانان ونصر هذا القرطبي، وقال بعضهم: إنهما قبيلان من الجن ونصر هذا ابن حزم، وقال بعضهم إنهما رجلان من أهل بابل وصفهما الناس بالملكين لظنهم صلاحهما، وقال بعضهم: إنهما ملكان أنزلا من السماء. ثم هؤلاء اختلفوا فمنهم من قال إنهما كلفا أن يعلما الناس السحر من أجل أن يميز الناس بين المعجزة والسحر، وكل هذه الآراء إنما يريد أصحابها أن لا يجرحوا العصمة الثابتة للملائكة بالنصوص القطعية. وهذا الذي يرجحه علماء الأصول وليس عنه نميل. وأما القول الآخر الذي عنه نعدل فهو: أنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بني آدم، فأهبطا إلى الأرض، فواقعا المعصية، فخيرا بين عذاب الدنيا أو الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا على الآخرة، فهما يعذبان الآن. والذين ذهبوا هذا المذهب جمعوا بينه وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصا لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفى قول: إنه من الملائكة، والذين ذهبوا إلى أن هاروت وماروت ملكان عصيا،

استشهدوا بما ظنوه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها رواية رواها الإمام أحمد، وقد نقلها ابن كثير ثم قال: «فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل» وإذن فليس هناك حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع واستشهد أصحاب هذا المذهب بآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وقد سردها كلها ابن كثير ثم علق عليها بقوله: «وحاصلها راجع ... إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال». قال صاحب الظلال في حديثه عن هاروت وماروت: فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود، بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها، وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين لها، وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض، ولم يكن هناك ما يدعو إلى تفصيل أكثر، لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود. وقد أغرب القصاصون في هذا الموضوع كثيرا كما يرى فيما نقله ابن كثير ومن أغرب ما ذكروه: أن كوكب الزهرة إنما هو المرأة التي زنيا بها وهذا كلام غريب جدا». قال الألوسي: «والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول» وسبب هذا الغلط هو العقلية الخرافية الإسرائيلية، فقد وردت في الإسرائيليات كلمة الزهرة إما على هذه الشاكلة أو أن القصاص أحبوا الإغراب فذكروا ما ذكروا، وقد يدل لذلك أن القصة في رواية ابن عباس- فيما يبدو عن أهل الكتاب- «وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب» قال الألوسي عن هذه القصة: «هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا، وقال غلطا، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى ويبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رءوس الكفرة الطغام، كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين». وتعليقا على قصة امرأة من دومة الجندل ادعت أنها اجتمعت بهاروت وماروت، وحدث لها ما حدث ثم جاءت تستفتي الصحابة في أمر توبتها يقول الألوسي: «فهو ونظائره مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه المرأة الدوجندلية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شئ عن رسول رب البرية صلى الله عليه وسلم ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا

فصل في التشبه

يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام». - وهناك أكثر من بابل والمراد في الآية (بابل العراق) ومما استدل به العلماء على أن بابل في الآية هي بابل العراق ما رواه أبو داود وسكت عنه. وهي علامة الحديث الحسن عنده: «أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة» قالوا عن هذا الحديث: «ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين» فصل في التشبه: يغلط كثير من الناس في موضوع التشبه ومن ثم فإننا نحب أن نضع أساسا في هذا الموضوع هنا، ثم يتضح لنا بعد ذلك شيئا فشيئا: كل بني الإنسان يشتركون في أمور، في كونهم يأكلون وينامون ويتناكحون ويتناسلون والإنسان يشترك مع الحيوان في أمور، فما هو التشبه المنهي عنه؟ هناك التشبه الذي ورد النهي عنه في النصوص، كالنهي عن إقعاء الكلب، وافتراش الثعلب، ونقر الديك في الصلاة، وكالنهي عن تشبه الرجال بالنساء فيما هو من خصوصيات النساء، وعن تشبه النساء بالرجال فيما هو من خصوصيات الرجال. ثم هناك تشبه بالكافرين فيما هو علم على الكفر، أو تشبه بالفاسقين فيما هو علم على الفسوق، أو تشبه بالكافرين والفاسقين فيما به تترك فريضة أو سنة، أو فيما يحقق مصلحة للكفر والكافرين، في مثل هذا يطبق النهي الوارد عن التشبه. فليس كل تشبه منهيا عنه، وسنرى ما يوضح هذه الشئون في التفسير وفي كتاب الأساس في السنة وفقهها بما نعرف حدود ذلك بدقة. فصل في النسخ: ألف في موضوع الناسخ والمنسوخ الكتب الكثيرة، وتبحث عادة قواعده

وتفصيلاته في كتب أصول الفقه وننقل لك هاهنا من كلام القرطبي في تفسيره ما يلائم حدود هذا التفسير: قال القرطبي: « ... معرفة هذا الكتاب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، روى أبو البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس فقال: ليس برجل يذكر الناس لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا .. قال: فاخرج من مسجدنا فلا تذكر فيه. وفي رواية أخرى: أعلمت الناسخ من المنسوخ قال: لا قال: هلكت وأهلكت. ومثله عن ابن عباس رضي الله عليه. قال علماؤنا .. : جائز نسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين (أي في القتال) ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان على ما يأتي بيانه في آية الصيام، وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة، وينسخ الشئ لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن ... وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة وذلك موجود في قوله عليه السلام «لا وصية لوارث» وهو ظاهر مسائل مالك، وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي ... والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى وفي قوله تعالى (في سورة الممتحنة) فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا (أقول: في كون كل الحذاق هذا مذهبهم فيه نظر) ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شرط القياس ألا يخالف نصا، وهذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي. (وهناك) ... نسخ الحكم دون التلاوة ومثله صدقة النجوى، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد تنسخ التلاوة والحكم معا ومنه قول الصديق رضي الله عنه كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر» ومثله كثير.

فصل في التأويل

والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول كما يأتي بيانه في تحويل القبلة، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس على ما يأتي بيانه في سورتي الإسراء والصافات. ... الجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى، وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه كقوله تعالى (في سورة النحل) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وهناك يأتي القول فيه ... - اختلفت عبارات أئمتنا في حد النسخ (أي في تعريفه) فالذي عليه الحذاق من أهل السنة: أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر. وزاد: لولاه لكان السابق ثابتا. فحافظا على معنى النسخ اللغوي إذ هو بمعنى الرفع والإزالة وتحرزا من الحكم العقلي، وذكرا الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيرها، وليخرج القياس والإجماع إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما وقيد بالتراخي لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا نسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله. وقال القرطبي: «أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة». وقال: لمعرفة الناسخ طرق منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا ونحوه» ومنها أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق وكان المنسوخ معلوما قبله، أو يقول نسخ حكم كذا بكذا، ومنها: أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية والله الموفق للهداية. فصل في التأويل: تعمدنا عند قوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ

فصل في قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله

كُنْ فَيَكُونُ أن نذكر أن هناك اتجاهين: اتجاها يمرها كما جاءت، واتجاها يحملها على المجاز، مع أننا نفضل المذهب الأول في مثل هذه النصوص وذلك من أجل هذا البيان: إن كثيرين من الناس يحملون على التأويل والتعطيل دون إدراك دقيق للتأويل المذموم، لقد لاحظنا عند الكلام عن بني إسرائيل أن بني إسرائيل إنما ذموا بتحريفهم كلام الله على علم منهم بالتحريف وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وسنرى عند قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أن هناك اتجاهات تقف على قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل ما تشابه من القرآن، ولا أعرف أن اتجاها من الاتجاهات حارب التأويل إلا وقد اضطر للتأويل، والمراد به هنا إخراج معنى اللفظ عن ظاهره إلى معنى مجازي، ولذلك فإنني أقول: إنه لا يصح أن يكون موقفنا تشنجيا ونحن نقرأ كلام الراسخين في العلم وهم يعرضون لنا وجهات نظرهم، ما داموا ممن شهدت لهم الأمة بالرسوخ في العلم ويتكلمون في الحدود التي تحتملها اللغة العربية، وبالشكل الذي لا يعارض القرآن بعضه بعضا، أو لا تتعارض به النصوص، ومع أنني أرجح دائما في آيات الصفات عدم التأويل مع التنزيه، إلا أنني لا أرى مانعا من عرض اتجاهات العلماء في الفهم ومناقشتها ورؤية الحجية أو عدمها في كلامهم، مع أنني من خلال تجربتي الشخصية وبعد التمحيص للتأويلات ومن خلال ما أفهمنيه الله عزّ وجل لبعض آيات الصفات أشعر أن كلام الله عزّ وجل عن ذاته لا يسعه إلا تعبيره عن ذاته، فسبحانه وتعالى ما أجله وأعظم صفاته وأرفع كلماته. ولكن كما قلت فهذا لا يمنع أن نرى فهوم العلماء لكل آية ولكل حديث مهما كان، وإني أعتقد أنه ما دام المسلم في دائرة فهوم الراسخين في العلم من هذه الأمة فيما لا يتعارض مع البديهيات ومع الإجماع فإنه لا يقرب من دائرة الضلال. فصل في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: هناك مجموعة من المسائل تثار أثناء الكلام عن هذه الآية منها المسائل الفقهية ومنها ما له علاقة في معرفة الذات الإلهية: أولا: هل هذه الآية منسوخة؟ في ذلك قولان، والذين ذهبوا إلى النسخ لهم في توجيهها قولان، ومن محص هذه الأقوال وجد أنها لا يترتب عليها خلاف عملي إلا

قليلا، إذ الجميع متفقون على وجوب التوجه إلى الكعبة في الأحوال العادية، والجميع متفقون على وجوب التحري حيث جهلت الجهة في ليل أو نهار، وإذا صلوا أجزأتهم، واختلفوا هل على من تبين له بعد أن صلى أنه صلى لغير القبلة هل عليه الإعادة؟ قولان والحنفية على عدم الإعادة، والجميع متفقون على أنه إذا اشتد الخوف صلوا إلى أي جهة قدروا، في صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا (قياما على أقدامهم) وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع متفقون على أن المتطوع في الصلاة على دابته في السفر يجوز له أن يصلي إلى أي جهة قدر، ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة والسفر القريب، وذهب أبو يوسف إلى جواز التطوع على الراحلة ولو في المصر واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي. ثانيا- وفي باب العقائد يثور نقاش في المراد بقوله تعالى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فللعلماء في النص اتجاهان: الاتجاه الأول هو عدم التأويل مع التنزيه فلله وجه ليس كمثله شئ، وعلى هذا فإن معنى الآية: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال عَلِيمٌ بأعمالهم ما يغيب عنه منها شئ، ولا يعزب عن علمه صغير أو كبير. والاتجاه الثاني هو التأويل، وهذه نماذج من أقوال السلف في الآية: قال عكرمة عن ابن عباس فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا. وقال مجاهد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة» وقال ابن جرير: « .. وقال آخرون ... لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان». قال ابن كثير تعليقا على آخر الكلام: وفي قوله «وأنه تعالى لا يخلو منه مكان، إن أراد علمه فصحيح، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شئ من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا». وقد ذكر ابن جرير وجها آخر للآية فقال: «ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في

فصل: في الفرية الكبرى: أن لله ولدا.

دعائكم لي فهناك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ... قال ابن جريج قال مجاهد: لما نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا: إلى أين فنزلت فأينما تولوا فثم وجه الله أقول: ولنا عودة على هذا الموضوع عند قوله تعالى في سورة القصص: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. فصل: في الفرية الكبرى: أن لله ولدا. إن هذه الفرية التي تكاد تكون مستمرة في تفكير الكثيرين في تاريخ البشرية تسللت إلى الديانة النصرانية من خلال بولس الذي حرف دين المسيح عليه الصلاة والسلام. إن هناك دراسة صدرت لعالم مسيحي شغل منصب رئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس اسمه (شارل جنيبير) تحت عنوان «المسيحية نشأتها وتطورها». في هذه الدراسة يثبت المؤلف أن المسيحية الحالية هي بولس وأن في أفكار بولس صبت كل الديانات المعروفة وقتذاك ومما يقوله المؤلف مما له علاقة بموضوعنا: «تعبير ابن الله لا يرد سوى مرة واحدة في أعمال الرسل (9/ 20) ويقدم لنا في تلك المجموعة باعتباره تعبيرا خاصا ببولس». «ولكن بولس لم يكن ليدرك في ذلك الوقت كل ما ترتب على مفهوم ابن الله بعد ذلك من مشاكل في فلسفة الدين لا تحصى» «فاليهود كانوا يطلقون عبارة «خادم يهوه» على كل إنسان يظنون لديه إلهاما ... وكلمة Rais تعني في نفس الوقت «خادم» أو (طفل) تماما كالكلمة اللاتينية Puem وعلى هذا يكون التطور من (Rais) أي طفل إلى (Uios) أي ابن، أمرا في غاية البساطة، وقد حدث مثل هذا التطور اللفظي فعلا في النصوص اليهودية- المسيحية (كمجموعة أعمال الرسل) عند ما نقل بعضها إلى رسائل بولس». والمؤلف لا يعتبر أن العملية تمت عند بولس بشكل لفظي بل كانت مرادة كجزء من فلسفة تعليلية لا بد منها لسد ثغرات. وهكذا تسللت هذه الفرية إلى الديانة المسيحية فكانت استمرارا ودعما لاتجاه باطل في التفكير البشري لا يشك عاقل ببطلانه. يقول الشيخ عبد الحليم محمود مترجم الكتاب في مقدمته: «ونفى المؤلف عن

فائدة

المسيح عليه السلام القول بالتثليث: هذا القول الذي لا يفهمه المسيحيون أنفسهم، ولا يفهمه كل من له عقل، إن الثلاثة ليست واحدا كما يقولون، وإن الواحد ليس ثلاثة كما يقولون، وأي عقل يمكنه أن يفهم أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة؟». أقول إن مأساة المسيحية أنها أرادت أن توفق بين التوحيد الذي أتى به موسى وعيسى، وبين كلام بولس فوصلت إلى اللامعقولية ثم قدستها، يقول الشيخ عبد الحليم محمود: ويقول القديس أوغسطين (وهو من أكبر فلاسفة النصرانية) مبررا كل هذا اللامفهوم بلا مفهوم جديد إنه يقول: «أومن بالمسيحية لأنها دين غير معقول». وهكذا حكمت المسيحية على نفسها باللامعقولية من هذه البداية فدخلت في سلك الأباطيل. إنه يستحيل في منطق العقل أن يجتمع كمال الإله مع البنوة، لأن النبوة فيها معنى الجزئية، والله منزه عن الأجزاء، وفيها معنى الافتقار، والله منزه عن ذلك. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ* سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ «سورة الزخرف». فائدة: بمناسبة الكلام عن قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً قال ابن كثير: «وقال الإمام أحمد ... عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لافظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا) انفرد بإخراجه البخاري ... قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال بلغته: «أعينا عمومى وآذانا صموما وقلوبا غلوفا» أخرج هذه الزيادة الحافظ أبو بكر بن مردويه. أقول: إن هذا النقل الصحيح عن ابن عمرو بن العاص له أهميته الكبيرة، إذ كان عند عبد الله بن عمرو زاملتا بعير من كتب أهل الكتاب، فهو من المتتبعين لهذه القضايا في كتب أهل الكتاب، كما كانت في عصر النبوة، وسأنقل في سورة الأعراف البشارة

فائدة

الموجودة في ما يسمى بالتوراة الحالية، وسنرى هناك عجيبة من العجائب، ومعجزة من معجزات هذا القرآن. فائدة: بمناسبة قوله تعالى وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى ... قال ابن كثير: «قال قتادة: «وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) قلت: هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو» أقول: في الظاهر لا توجد مناسبة بين ذكر هذه الرواية وسياق الكلام في تفسير هذه الآية، والذي أتصوره أن ابن كثير ساق ذلك حتى لا يتوهم متوهم بأن إرضاء اليهود والنصارى هو الطريق للنصر بل هو القتال ليظهر الإسلام. فائدة: عند قوله تعالى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قال ابن كثير: «وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ حيث أفرد الملة: على أن الكفر ملة واحدة، كقوله تعالى في سورة (الكافرون) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه، وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث والله أعلم». فصل في ألوية الخداع والرد المكافئ: عند قوله تعالى وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ يقول صاحب الظلال: «إنها العقيدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التى يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة، إنها معركة العقيدة المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين! إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاما شتى في خبث

فصل خاتم في المعجزات وخوارق العادات

ومكر وتورية، إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة، ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة. لم يعلنوها حربا باسم العقيدة- على حقيقتها- خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها، إنما أعلنوها باسم الأرض والاقتصاد والسياسة والمراكز العسكرية وما إليها، وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا، أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها، ولا يجوز رفع رايتها. وخوض المعركة باسمها، فهذه سمة المتخلفين المتعصبين، ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها، بينما هم في قرارة نفوسهم: الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية- بإضافة الشيوعية العالمية- جميعا يخوضون المعركة أولا وقبل كل شئ لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا فأدمتهم جميعا. إنها معركة العقيدة، إنها ليست معركة الأرض، ولا القلة، ولا المراكز العسكرية، ولا هذه الروايات المزيفة كلها، إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته وهو سبحانه أصدق القائلين وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه وما سواه فمرفوض ومردود! ولكن الأمر الحازم والتوجيه الصادق: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى على سبيل القصر والحصر، هدى الله هو الهدى، وما عداه ليس بهدى، فلا براح منه ولا فكاك عنه، ولا محاولة فيه ولا ترضية على حسابه، ولا مساومة في شئ منه قليل أو كثير، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ». أقول: إنه في فترات الضعف الإسلامي الأخيرة لم يزل العالم يتعامل معنا على أساس مصالح بمبادئ ومصالح، ونحن الخاسرون في كل صفقة، وعلينا أن نعمل لنكون أقوياء، فنفرض على العالم أن يتعامل معنا مصالح بمصالح، وضمن موازين عادلة، وحيث تجيز شريعتنا. فصل خاتم في المعجزات وخوارق العادات: لاحظنا من خلال مقطع بني إسرائيل كثرة المعجزات وخوارق العادات في حياة بني إسرائيل، وفي حياة أمتنا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى عصرنا ظهرت معجزات وكرامات، وخوارق عادات كثيرة، حتى إن بعض أولياء هذه الأمة ظهرت على أيديهم خوارق للعادات كثيرة، هذا الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول عنه ابن تيمية رحمه الله:

المقطع الرابع من القسم الأول من سورة البقرة

إن كراماته منقولة تواترا وابن تيمية معروف تدقيقه في هذه الشئون. ومن عرف الله لم يستغرب وقوع المعجزة أو الكرامة، فالله الذي خلق السموات والأرض بكلمة (كن) والذي خلق الأسباب والقوانين؛ لا يعجزه أن يخرق السبب والقانون؛ معجزة لنبي أو كرامة لولي، ولكن علينا في الحالتين أن نتثبت من الوقوع. فإذا ما حدثنا القرآن عن الوقوع فإن من البدهيات أن يوجد عندنا التسليم، وكذلك إذا حدثتنا السنة، وفي كرامات الصحابة والتابعين والأولياء حتى عصرنا، علينا أن نتثبت، فإذا صح النقل ولم يكن ثمة مبرر شرعي للرفض فالأصل التصديق، وقد حدثنا الله في القرآن عن أولياء أكرموا بكرامات كمريم، وجليس سليمان الذي عنده علم من الكتاب. والعجيب أن يسري الإنكار من المجتمعات الكافرة إلينا في هذه الشئون، إن المجتمعات الكافرة لا تظهر فيها كرامات؛ لأنها كافرة ولذلك فهي ترفض مبدأ خرق القانون، أما نحن فالأمر يختلف، فعندنا بفضل الله أولياء وعباد وزهاد، ولم تزل الكرامات تجري على أيديهم، وقد رأينا من كرامات بعض شيوخنا ما نجزم به، ولكن الأعجب من ذلك أن يسري هذا الإنكار حتى على المعجزات التي أخبر عنها القرآن، فيظهر ذلك بمحاولات التأويل لظواهر الآيات، بحيث تؤول كل المعجزات على أنها عادات، وذلك من عمى القلب وضعف اليقين بل هو الكفر نسأل الله العافية. وليكن هذا الفصل خاتمة الفصول. ولنعد إلى سياق السورة حيث وصلنا إلى المقطع الرابع في القسم الأول من سورة البقرة وهو مقطع الحديث عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. المقطع الرابع من القسم الأول من سورة البقرة: يمتد هذا المقطع من الآية (124) إلى نهاية الآية (141) يبدأ بقوله تعالى وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ... وينتهي بقوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.

الفقرة الأولى

يبدأ المقطع بالكلام عن إبراهيم، وينتهي بالكلام عن إبراهيم، ومن أدنى تأمل للمقطع يرى أن المقطع يتألف من ثلاث فقرات واضحة المعالم تضمها وحدة جامعة، والفقرتان الثانية والثالثة تنتهيان بآية واحدة هي قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ* وهذا هو المقطع في فقراته الثلاث. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 124 الى 129] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 134] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) الفقرة الثالثة: [سورة البقرة (2): الآيات 135 الى 141] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

كلمة في هذا المقطع وسياقه

كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - ختمت قصة آدم عليه الصلاة والسلام بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

وجاء مقطع بني إسرائيل ليعرض علينا نموذجا لأمة أنزل عليها هدى فانحرفت عنه، ويأتي الآن مقطع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ليقص علينا قصة النموذج الكامل لإنسان أنزل عليه هدى فقام به قياما كاملا وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال البيضاوي: فأداهن كملا وقام بهن حق القيام لقوله تعالى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (سورة النجم) لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى في أول آية في مقطع آدم عليه السلام: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وبين قوله تعالى في أول آية من مقطع إبراهيم عليه السلام: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. فالذي جعل آدم خليفة، جعل إبراهيم إماما فهو النموذج الكامل على الخليفة الكامل. 2 - وقبل مقطع آدم في سورة البقرة يأتي مقطع الدعوة إلى التوحيد يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي مقطع إبراهيم نرى النموذج الأعلى على التوحيد متمثلا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ .... أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فمقطع إبراهيم يعمق سياقه المعاني التي وردت في مقطع الدعوة إلى العبادة والتوحيد. 3 - ومن قبل المقطع الأول في هذا القسم جاءت مقدمة سورة البقرة وفيها: قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وفي مقطع إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأتي الأمر المفصل: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. 4 - ومن قبل جاءت الفاتحة وكانت الفقرة الخاتمة فيها: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ* غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. وقد رأينا في مقطع بني إسرائيل بعض صراط المغضوب عليهم والضالين، وفي مقطع إبراهيم نرى صراط الذين أنعم الله عليهم. ومع ذلك كله الحوار مع المغضوب عليهم والضالين وإقامة الحجة.

5 - وكما أن مقطع إبراهيم عليه السلام يخدم في سياقه ما مر من السورة، فإنه الأساس والمقدمة للمقطع اللاحق من السورة، وهو مقطع القبلة، إن القبلة التي هي مرتكز من مرتكزات العبادة لله ستتحدد في المقطع اللاحق، ولكن مقطع إبراهيم جاء بمثابة الترشيح للكلام في شأنها، وجاء بمثابة المقدمة لتقريرها أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ .. وَأَرِنا مَناسِكَنا .... وهكذا نرى أن مقطع إبراهيم عليه السلام في محله يخدم سياق الفاتحة، ومقدمة سورة البقرة، ومقطع التوحيد، ومقطع آدم، والمقطع اللاحق، فما صلته بالمقطع السابق عليه مباشرة مقطع بني إسرائيل؟ 6 - قلنا من قبل: إن الحوار مع بني إسرائيل لا زال مفتوحا، وإن ختم مقطع بني إسرائيل، ذلك لأنه لا زال لليهود. كلام يقولونه، متكئين عليه في رفض الإيمان بالإسلام، وفي مقطع إبراهيم يستكمل جزء من الحوار، إذ الإمامة في ذرية إبراهيم مشروطة، وقد أخل اليهود بالشرط فلا حجة لهم في أن تستمر الإمامة فيهم، ولذلك تنتقل الإمامة إلى أمة تقوم بحق الله، وذلك مقتضى دعوة إبراهيم وإسماعيل وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم مقتضى دعوة إبراهيم عليه السلام لأبناء إسماعيل وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... والمقطع يقرر أن دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب هو الإسلام، فإن يرغب بنو إسرائيل عن الإسلام فذلك سفه فيهم. وكما أنه في مقطع بني إسرائيل أعطيت أمتنا دروسا، فكذلك في مقطع إبراهيم، وكما أن أمتنا قد علمت كيف ترد على الدعوات الباطلة في المقطع السابق فكذلك الحال هنا في هذا المقطع. 7 - في مدخل الكلام عن بني إسرائيل رأينا أنه وجهت لبني إسرائيل أوامر ونواه، وأن المقطع جاء بعد ذلك بمثابة تعليل لتوجيه هذه الأوامر والنواهي، ورأينا أن الفصل الثاني من مقطع بني إسرائيل مرتبط بقوله تعالى في المدخل وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وأن الحوار في الفقرتين الأخيرتين من الفصل الثاني انصب على هذه المعاني، وقلنا في هذه الكلمة إن مقطع إبراهيم عليه السلام يكمل الحوار في هذا الشأن، والآن نقول إن مقطع إبراهيم زيادة على تكملة الحوار فإنه يضع أساسا لنقطة تعرض لها مدخل مقطع بني

الفقرة الأولى وتفسيرها

إسرائيل، وهي القضية المذكورة بعد الآية التي ذكرناها آنفا، إن الآية اللاحقة لهذه الآية هي قوله تعالى وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إذ الملاحظ أن مقطع إبراهيم يرد فيه قبل الآية الأخيرة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وسنرى أن مقاطع لاحقه ستتعرض بشكل أوسع لموضوع كتمان ما أنزل الله إن تعانق المقطع مع ما قبله ومع ما بعده كثير كبير شديد، وتعانق فقراته مع بعضها كثير شديد كما سنرى. ولنطرز هذه المقدمة عن سياق المقطع بخاتمة ما قدم سيد قطب لهذا المقطع. يقول: وفي ثنايا هذا العرض التاريخي (الذي عرضه النص وتحدث عنه سيد) يبرز السياق أن الإسلام بمعنى إسلام الوجه لله وحده، كان هو الرسالة الأولى وكان هو الرسالة الأخيرة، هكذا اعتقد إبراهيم، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى، ثم آلت أخيرا إلى ورثه إبراهيم من المسلمين، فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ووريث عهودها وبشاراتها، ومن فسق عنها ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد الله، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشارته. عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته، وهم ورثته وخلفاؤه، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة، وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثه باني هذا البيت ورافع قواعده؛ بانحرافهم عن عقيدته، ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون، فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم، كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب حافل بالإشارات الموحية، والوقفات العميقة الدلالة، والإيضاح القوي التأثير». ولنبدأ عرض وتفسير المقطع: الفقرة الأولى وتفسيرها: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي: واذكر إذ اختبر إبراهيم ربه بأوامر ونواه فَأَتَمَّهُنَّ أي: قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية، من غير تفريط ولا توان، والابتلاء: هو الاختبار والاختبار منا لظهور ما لم نعلم، ومن الله لإظهار ما قد

علم، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى، وللمفسرين في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام كلام كثير، وكل أقوالهم استنباط، إما من خلال السياق، أو من خلال قصة إبراهيم في القرآن، أو من خلال ما قصه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبينا إبراهيم وهو كلام مفيد ولذلك سنعقد له فصلا. أما هاهنا فنقول: «لقد وردت كلمة (بكلمات) منكرة للإشعار بأن الهدف من السياق هو تبيان قيام إبراهيم بما كلف به لا تبيان التكليف، على أنه من الفقرة، سنرى نموذجا على قيام إبراهيم بما يكلف به من خلال قيامه ببناء البيت قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً الإمام هو: من يؤتم به ويقتدى، وإمامة إبراهيم مؤبدة يجمع عليها حتى المختلفون من أبناء الديانات الكتابية، والظاهر أن إتمام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكلمات سبب الإمامة، فكأنه كان نبيا ثم بإتمامه الكلمات أعطي منصب الرسالة مكافأة، فالقيام بأمر الله كاملا هو الذي يرشح لمنصب الإمامة في دين الله، فما أكثر خطأ الذين يتصدرون للإمامة عن غير طريقها. قالَ إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم، وذرية الرجل: أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ اختلف المفسرون في تفسير العهد والظلم في هذه الآية، فقد فسر الظلم: هنا بالكفر والشرك، وفسر: بالظلم الذي هو مخالفة الشريعة، فعلى الأول يكون المعنى لا ينال عهدي كافر. وعلى الثاني: لا ينال عهدي فاسق، وفسر العهد: بالنبوة والدين والأمر والطاعة والنجاة في الآخرة، كما فسر بالوعد بالإمامة وهو أحقها بالاعتماد. فالمعنى: أنه لا ينال الإمامة فى الدين ظالم، والظلم نوعان: ظلم يتعدى الإنسان إلى غيره، وظلم لنفسه، وسنعقد من أجل إبراز ما يدخل في هذا النص أو من أجل رد الفهوم الخاطئة فيه فصولا. قال ابن كثير: وقال ابن خويزمنداد المالكي: «الظالم لا يصلح أن يكون خليفة، ولا حاكما، ولا مفتيا، ولا شاهدا، ولا راويا». فالمعنى العام للآية كما يفهم من مجموع كلام ابن كثير: واذكر لهؤلاء المشركين، وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها، واذكر لهؤلاء وتذكر ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره بما كلفه به من الأوامر والنواهي، فأتمهن: أي: قام بهن كلهن؛ فاستحق بذلك منصب الإمامة جزاء على ما فعل، فكما قام بالأوامر وترك الزواجر؛ جعله الله قدوة وإماما يقتدى به في الخير،

كلمة في سياق هذه الآية

فرغب إلى الله أن تكون الإمامة في بعض ذريته كذلك فأجيب لذلك، لكنه أخبر بأنه سيكون من ذريته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة؛ فلا يقتدى بهم. وبعد الآية الأولى تأتي في الفقرة هذه الآية: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. كلمة في سياق هذه الآية: تأتي هذه الآية بعد إعطاء إبراهيم منصب الإمامة، وبعد إعطائه الوعد بأن يكون من ذريته أئمة، فترينا هذه الآية مظهرا من مظاهر إمامة إبراهيم وواحد من ذريته، وترينا نموذجا على قيام إبراهيم وإسماعيل بما كلفا به، وترينا كذلك أن البيت الذي سيكون قبلة للمسلمين ومحجا لهم إنما وجد بإرادة تشريفية من الله وبأمره، كما ترينا الحكمة من بناء البيت، وترينا أنه في الأصل بني للطواف والعكوف والسجود، وترينا أن الأمر صدر لإبراهيم وإسماعيل بتطهيره، ففي الآية تصحيح لمفاهيم أهل الكتاب والمشركين في شأن البيت، وتأسيس للرد على اليهود في شأن القبلة، وتأنيب لمن ينجس البيت بالشرك بعد أن بني في الأصل للتوحيد، وفي ذلك تأنيب لمن روع المؤمنين وآذاهم وفتنهم، حتى اضطروا أن يخرجوا من جواره، وقد جعله الله مثابة للناس جميعا وأمنا، وفي ذلك دروس لما يستقبل من الزمان. وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً البيت: الكعبة، والمثابة: المباءة والمرجع للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه، والأمن هنا: مكان السلام. وقد فسر ابن عباس كون هذا البيت مثابة بقوله: «لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه»، وقال غيره: «لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا»، وقال ابن زيد: «يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه»، وقال كثيرون من أئمة التفسير: إن المثابة: المجمع، وعلى هذا القول يكون المعنى: أن الله عزّ وجل أراد أن يكون هذا البيت ملتقى للشعوب كلها، وللأجناس كلها، يجتمعون فيه، فيتعارفون وينتفعون، قائمين بأمر الله، عابدين له موحدين معظمين شعائره، وأما كون البيت أمنا فمن حيث: إن من دخله كان آمنا، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف

الناس من حولهم وهم آمنون، واستدل الحنفية بهذه الآية على مذهبهم بأن الجاني إذا أوى الحرم فلا يتعرض له حتى يخرج، لكنه يلجأ إلى الخروج بمقاطعته. وسنعقد لموضوع الأمن عند البيت وحدوده واتجاهات العلماء فصلا. ذكر في هذا النص: شرف هذا البيت، وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مجمعا للناس من كل أقطار العالم، يعرف فيه بعضهم بعضا، ويألف فيه بعضهم بعضا، ويستمع فيه بعضهم إلى بعض، وينفع فيه بعضهم بعضا، وهو كذلك، المكان الذي تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام؛ استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (سورة إبراهيم) كما وصفه تعالى بأنه جعله آمنا لمن دخله حتى الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يهيجه، وقد فسر ابن عباس الأمن هنا بأن هذا البيت والقيام بحقه أمن لهذا العالم كله فلا يخرب، قال ابن عباس: «لو لم يحج الناس هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض» قال ابن كثير: وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى اختلف المفسرون في المراد بمقام إبراهيم ما هو: قال ابن عباس: «مقام إبراهيم الحرم كله، مقام إبراهيم الحج كله». وقال سعيد بن جبير: «الحجر مقام إبراهيم فقد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة» وقال السدي: «المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه» وهذا القول يلتقي مع الذي قبله في أن المراد بمقام إبراهيم هو الحجر الذي غاصت فيه قدما إبراهيم، فكان آية، وهو الحجر المعروف الآن، والأدلة التي تعضد أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء البيت كثيرة، من جملتها، أنه هو الذي عليه عمل الناس وفهمهم خلال العصور، إذ يطبقون هذا الأمر بصلاتهم عند الحجر الذي عليه آثار قدمي إبراهيم، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمر: «قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ومنها ما في صحيح مسلم عن جابر قال: «استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين» ومنها ظاهر قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وعلى هذا الاتجاه يكون المعنى: وقلنا اتخذوا من مقام إبراهيم موضع صلاة تصلون فيه.

وهل الحجر الآن في محله حيث تركه إبراهيم؟ يذكر ابن كثير: أن الذي وضعه محله الآن إنما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما قبل ذلك فقد كان ملصقا بجدار الكعبة، فدل فعل عمر، وصنيع الناس أن الحجر أيا كان من الكعبة، فذلك مقام إبراهيم وعنده تكون الصلاة التي أمر الله بها في هذه الآية. وفي فقه الحنفية «يجب على من طاف بالبيت أن يصلي ركعتين لكل طواف، ويسن أن تكون هاتان الركعتان وراء مقام إبراهيم، فإذا لم يتمكن الإنسان من الصلاة عند مقام إبراهيم صلى حيث أمكنه». وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي: أمرناهما أن يطهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها، للدائرين حوله، والمجاورين الذين عكفوا عنده، أي: أقاموا لا يبرحونه، أو المعتكفين والمصلين راكعين وساجدين. فالعهد هنا بمعنى الأمر، وإنما عدي بإلى لأنه بمعنى: تقدمنا وأوحينا فتقدير الكلام: وتقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي من الشرك والريب، وابنياه خالصا لله، معقلا للطائفين والعاكفين والراكعين الساجدين. وقد فهم من ذلك أن الطواف والعكوف والركوع والسجود كلها مما يتعبد الله عزّ وجل به في الحرم، وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل عند البيت الصلاة النافلة أو الطواف النافلة؟. قال مالك: الطواف به لأهل الأمصار أفضل وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا. قال العلماء: وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى في سورة النور: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... ومن السنة من أحاديث كثيرة في الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك، ولهذا قال عليه السلام: «إنما بنيت المساجد لما بنيت له» ومن قوله تعالى وَالْعاكِفِينَ استدلوا على جواز النوم في المسجد: قال ثابت: قلنا لعبد الله ابن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون: قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون قال ابن كثير: «وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب». وهكذا رأينا في الآية ثلاث قضايا معطوفا بعضها على بعض ومرتبطا بعضها ببعض إذ

المعنى الحرفي

التقدير: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وقلنا: اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. ثم بين تعليل الأمر الثاني وكيف تم تنفيذ القضية الأولى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ومن العبارة الثالثة عرفنا لم جعل البيت مثابة وأمنا، وذلك من أجل الطواف والعكوف والركوع والسجود، فمن كان في مكة أو ذهب إليها فعليه أن يلاحظ ذلك. وسنرى أنه بعد مقطع إبراهيم ومقطع القبلة سيأتي قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وذلك استكمالا للسياق في عبادات الحرم. ولكن بعد أن يأخذ السياق مجراه في استكمال التقرير والحوار في القضايا الرئيسية التي يحتاجها السياق. وهكذا رأينا في الآية الأولى من مقطع إبراهيم كيف قررت إمامة إبراهيم وسببها، ورأينا في الآية الثانية إمامة الكعبة واختصاصها بشرف عظيم، فلله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، يخص من شاء وما شاء بما شاء، وإذ تتقرر إمامة البيت وإمامة إبراهيم؛ يأتي الأمر لهذه الأمة باتخاذ مقام إبراهيم مصلى وصلة ذلك بإمامة إبراهيم واضحة: ثم يأتي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. المعنى الحرفي: واذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا البلد أو هذا المكان بلدا ذا أمن، وارزق المؤمنين بالله واليوم الآخر من أهله من الثمرات فقال الله تعالى جوابا له وَمَنْ كَفَرَ أي: وأرزق من كفر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا أي فأمتعه تمتيعا قليلا، أو زمانا قليلا إلى حين أجله ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي ألجئه إلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الذي يصير إليه وهو النار. قاس إبراهيم عليه السلام الرزق على الإمامة، فإذ أعلمه الله بخصوصية الإمامة في المؤمنين، فإنه قطع كل عاطفة تربطه بغيرهم فلم يدع الله بالرزق إلا لهم، فأخبره الله أنه يرزق الكافرين كما يرزق المؤمنين، قال ابن إسحاق: «لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف

كلمة في السياق

أمره، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك، قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا» أقول: ولذلك لم يكن الرزق علامة على القرب، فكان ذلك استدراجا في حق الكافر، ومحل اعتبار من المؤمن، وقد وافق دعاء إبراهيم بالأمن للبيت تقدير الله، فكان البيت آمنا، واستجاب الله عزّ وجل دعوة إبراهيم في رزق سكان الحرم، قال الألوسي: «حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد». كلمة في السياق: جاءت هذه الآية بعد آية العهد لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت، وبعد آية إعطاء الإمامة لإبراهيم، وقبل الآية التي تذكر الشروع ببناء البيت، فدلتنا على أن إبراهيم (عليه السلام) وقد علم مكان البيت بالنسبة للعالم دعى لأهله بالأمن والرزق، كما أرتنا نموذجا على قيام إبراهيم بأمر الله، فإنه لما علم أن عهد الله لا يناله الظالمون لم يدع إلا للمؤمنين بالرزق، فالآية ترينا في سياقها نموذجا على مسارعة إبراهيم في تنفيذ الأمر وقيامه بالأوامر والنواهي. وبعد أن عرفنا الله عزّ وجل على إرادته في جعل البيت مثابة وأمنا، وعرفنا على رغبة إبراهيم في أن يعطي أهل الحرم رزقا وأمنا، تأتي الآية اللاحقة لتقص علينا بناء البيت، ورغبات إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيانه، ورغبتهما إلى الله في ذلك مما حققه الله عزّ وجل فيما بعد، ومما يعاند أهل الكفر في شأنه بعد ذلك كما سنرى. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. المعنى الكلي: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يدعوان هذه الدعوات، فهما في عمل صالح، ويدعوان الله، إذ الدعاء والإنسان في طاعة أمر الله مظنة إجابة، ومجموع هذه الدعوات تعبر عن العواطف التي كانت تثور في أنفسهما آنذاك، ومجموع ذلك هو: الرغبة في قبول العمل، وفي قبول الذات بتوفيقها للإسلام في شأنها كله، والرغبة في استمرار الإسلام في الذرية،

المعنى الحرفي

وذلك تعبير عن الحرص على بقاء الإسلام، والرغبة في التعرف على الشعائر التي يحبها الله، والرغبة في مغفرة الله، والرغبة في أن يبعث الله للذرية رسولا يتلو عليها آيات الله، ويعلمها كتاب الله وسنن الأنبياء، ويطهرها من الأدران الحسية والمعنوية، وقد استجاب الله لهما ذلك كله: المعنى الحرفي: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ البيت: الكعبة والقواعد: جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه ومعناها: الثابتة، ورفع الأساس: البناء عليه، لأنه إذا بني على القاعدة نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر، وذكر القواعد مبهمة أولا ثم تبيانها بقوله مِنَ الْبَيْتِ تفخيم لشأن المبين، وإسماعيل معطوف على إبراهيم، وكان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قال الألوسي: «وآثر صيغة المضارع أي في قوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ مع أن القصة ماضية .. استحضارا لهذا الأمر؛ ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها، وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه» وفي العرض من خلال الفعل المضارع يَرْفَعُ مع الابتهالات: «ما يرينا مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، يرينا إياه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن» عن الظلال بتصرف رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي قائلين: يا ربنا إنا تقربنا إليك ببناء هذا البيت، فتقبل عملنا؛ إنك أنت السميع لدعائنا، العليم بضمائرنا ونياتنا. قرأ وهيب بن الورد مرة هذه الآية ثم بكى وقال: «يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن، وأنت مشفق أن لا يتقبل منك» ذكره ابن كثير ثم قال: «وهذا كما حكى الله عن حال المؤمنين الخلص في قوله تعالى (في سورة: المؤمنون) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة أن لا يقبل منهم كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» كما سيأتي في موضعه رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي اجعلنا مستسلمين لك يقال: أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن، قال ابن جرير: «واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك». وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ قال السدي: يعنيان العرب. قال ابن كثير

[سورة البقرة (2): آية 129]

«والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ... قال النسفي: «وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة» أقول: والذين لا يعطون العواطف البشرية العميقة في النفس البشرية حقها مخطئون، فالحرج أن تتجاوز العواطف البشرية حدودها المشروعة، أو تؤثر على النكوص عن أمر أو الوقوع في نهي وَأَرِنا مَناسِكَنا أي وبصرنا متعبداتنا في الحج، أو عرفنا إياها وواحد المناسك: منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك أقول: وقد عرف الله إبراهيم على المناسك، وإن حجنا الحالي كله له صلة بإبراهيم وآله عليهم السلام كما سنرى ذلك. وَتُبْ عَلَيْنا ما فرط منا من التقصير. قالا ذلك هضما لنفسيهما وإرشادا لذريتهما وللخلق إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ لمن تاب الرَّحِيمُ بعباده رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أي من الذرية أي وأرسل فيهم رسولا لهم من أنفسهم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلى الله عليه وسلم رسولا في الأميين إليهم، وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن، فكانت دعوة مستجابة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك، وصدق أنبيائك ورسلك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، قال الألوسي «بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ويوقفهم على حقائقه وأسراره، والظاهر أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن» أقول: كانت هذه الدعوة قبل إنزال التوراة على موسى (عليه السلام) بسنين طويلة، وهذا يقتضي إما أنهما دعوا بذلك بإخبار من الله تعالى أنه سينزل كتبا، أو بمعرفة عن الكتب، وعلى القول الثاني فإن احتمال أن يكون هناك كتب منزلة من الله قبل التوراة والزبور والإنجيل يبقى قائما، وإن كثيرا من الأمم كأهل الهند وفارس تدعي وجود كتب مقدسة عندها، فهل لهذه الكتب أصل، ثم طرأ عليه ما طرأ؟ موضوع قابل للدراسة، وإن دراسة مستوعبة مقارنة شاملة يمكن أن توصلنا إلى بعض الحقائق مع الاحتراس الكثير وَالْحِكْمَةَ أي: ويعلمهم الحكمة وهي: وضع الأشياء في مواضعها: سواء كانت دنيوية أو أخروية، وإذ كانت الحكمة هي ما سوى الكتاب من تعليم الرسل، فإن كل ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى حكمة، ومن ثم فسر بعضهم الحكمة بالسنة وفسر ابن إسحاق دعوة إبراهيم وإسماعيل بتعليم الكتاب والحكمة بقوله: «يعلمهم الخير فيعقلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضى الله عنهم إذا أطاعوه، ليستكثروا من طاعته، ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته» أقول فكأنه فسر

فوائد

الكتاب بالفرائض والحكمة بالسلوك الصحيح وَيُزَكِّيهِمْ أي: ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس الحسية والمعنوية أقول: دل ذلك على أن شأن الوارث الكامل للرسل أن يعلم الكتاب، ويربي على السلوك الحكيم، ويطهر الأنفس من شركها وأمراضها، فمن فاته شئ من ذلك؛ فاته شئ من الوراثة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يغلب، والذي لا يعجزه شئ، وهو قادر على كل شئ الْحَكِيمُ في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من مقطع إبراهيم «وقد أعطتنا دلالات وإيحاءات، وعلى ضوء هذه الدلالات والإيحاءات تأتي الفقرة الثانية لتواجه الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة، وينازعون الرسول صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالة، ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة» عن الظلال بتصرف. فوائد: 1 - قال ابن كثير: «وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل: الملائكة قبل آدم ... وقيل: آدم ... وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب ابن منبه أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث من ذلك فعلى الرأس والعين». 2 - روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قصة إسماعيل وإبراهيم ومنها ما له علاقة ببناء البيت. «قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا (وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. 3 - أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: «قلت يا رسول الله .. ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام .. » قال ابن كثير: وقوله: (ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام) قيل: كان مناما رأته حين حملت به، وقصته على قومها

كلمة في السياق

فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة، وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم، إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» وفي صحيح البخاري «وهم بالشام» .. اه. أقول: والمراد ببدء أمره عليه الصلاة والسلام أي بدء ظهور أمره في هذا العالم وأقول: إن للشام لرسالة وإن على أهلها لواجبا. 4 - وقال صاحب الظلال تعليقا على دعوة إبراهيم وإسماعيل في أن يبعث الله في ذريتهما رسولا: «وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون .... إن الدعوة المستجابة تستجاب ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته، غير أن الناس يستعجلون، وغير الواصلين يملون ويقنطون». كلمة في السياق: انتهت الفقرة الأولى من مقطع إبراهيم وقد تقررت فيها إمامة إبراهيم وسببها، وإمامة بعض ذريته، وتقررت فيها إمامة البيت، وبعض الآداب فيه ومعه، وتقررت فيها مجموعة الرغبات التي كانت في قلب إبراهيم وإسماعيل، والتي تمثلت بدعوات، وإذ كان إبراهيم إماما فإن هذه الرغبات لكل منها وزنه العظيم. والقضيتان الكبيرتان في الفقرة هما الإسلام والبيت، والفقرتان اللاحقتان في هذا المقطع تناقشان الراغبين عن الإسلام والداعين لغيره. وسيأتي المقطع اللاحق ليكون فيه كلام عن اتخاذ البيت قبلة ولم نخرج من الفقرة الأولى إلا وقد اتضح موضوع الإسلام، والأمة المسلمة، التي سيتجدد ظهورها فيما بعد، بذرية إبراهيم وإسماعيل من العرب، ليشكلوا نواة الأمة الإسلامية في العالم بعد غياب، بالقائد والمنشئ والمربي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. الفقرة الثانية في مقطع إبراهيم عليه السلام: قلنا الفقرتين التاليتين في مقطع إبراهيم كلتاهما تناقش موضوع الإسلام.

[سورة البقرة (2): آية 130]

إحداهما تناقش الراغبين عنه؛ ولذلك تبدأ بقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. والثانية: تناقش الداعين إلى غيره؛ ولذلك فإنها تبدأ بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً .. فنحن الآن إذن في الفقرة التي تناقش الراغبين عن الإسلام: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ هذا استفهام فيه معنى الإنكار والاستبعاد أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح، الذي هو ملة إبراهيم، والملة: هي السنة والطريقة وقوله إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جهل نفسه فظلمها بسفهه، وسوء تدبيره؛ بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطفاه الله في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنة، إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من سفهه؛ أم أي ظلم أكبر من ظلمه؛ كما قال تعالى (في سورة لقمان): إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ هذا بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملة إبراهيم، لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. هذا بيان لسبب الاصطفاء أنه أمر بالإسلام والاستسلام لله فأسلم واستسلم، والإسلام فيه معنى التسليم والإذعان والطاعة والإخلاص لله. فوائد: 1 - اصطفاء إبراهيم في الدنيا أي: اختياره بالرسالة واجتباؤه من سائر المخلوقات، وكونه في الآخرة من الصالحين شهادة له بفعل الصلاح، والثبات على الاستقامة والخير والصلاح، فاجمع له الكمالات الدنيوية والأخروية. فالسفيه وحده أي: الجاهل الخفيف العقل هو الذي يرغب عن طريق فيه خير الدنيا والآخرة. 2 - ذهب أبو العالية وقتادة: «أن هذه الآية نزلت في اليهود؛ أحدثوا طريقا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه» والقاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فما من إنسان يرغب عن ملة إبراهيم إلا جاهل لنفسه، إذ الوضع الصحيح للنفس أن تكون مستسلمة لله علما وحالا وسلوكا، وكان إبراهيم إماما في ذلك، فالرغبة عن هذه الطريقة لا تكون إلا أثرا عن الجهل والسفه والطيش.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - مر معنا في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ وسيأتي معنا في أول المقطع اللاحق مقطع القبلة قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. وفي هذه الفقرة تحدد معنا معنى السفهاء بما لا يقبل لبسا، ألا وإنهم الراغبون عن الإسلام لله رب العالمين. 2 - إن الاستسلام لله رب العالمين هو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فمهما أمر به الله أو نهى عنه أو اختاره، فعلى الإنسان أن يستسلم له، وقد اختار الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلى الإنسان أن يستسلم لله في ذلك، ومن لم يفعل فإنه من السفهاء كائنا من كان. 3 - ولقد احتج اليهود من قبل في رفضهم الإيمان بالقرآن؛ بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، وتستكمل الحجة عليهم فيما يأتي من هذه الفقرة، بأن وصية إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الإسلام والتوحيد، فعليهم أن يسلموا، ولا ينفعهم انتسابهم للصالحين إن كانوا كافرين. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله، أو وصى بهذه الكلمة وهي (أسلمت لله رب العالمين) إبراهيم بنيه لحرصه عليها ومحبته لها، حافظ عليها إلى حين الوفاة، ووصى بنيه بها من بعده كقوله تعالى (في سورة الزخرف) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَيَعْقُوبُ هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى: ووصى بها يعقوب بنيه أيضا، يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذه هي الوصية للأبناء، وإذن يقدر قبل: يا بَنِيَّ قول محذوف فيكون التقدير: قال «يا بني إن ... » ومعنى هذه الوصية: إن الله أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام، ووفقكم للأخذ به، فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، قال ابن كثير في تفسير هذه الوصية: «أي: أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحا ثبت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة

[سورة البقرة (2): آية 133]

حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع- أو ذراع- فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع- أو ذراع- فيسبق عليه الكتاب؛ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: «ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس»، وقد قال الله تعالى (في سورة الليل) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى اهـ. كلام ابن كثير. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. أَمْ على الراجح في الآية أنها منقطعة بمعنى بل، والهمزة للإنكار، ومعنى (بل) الانتقال عن الكلام الأول وهو التوصية- إلى توبيخ اليهود على ادعائهم أن يعقوب وأبناءه دينهم اليهودية، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى: أي ما كُنْتُمْ شُهَداءَ أي حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ حين احتضاره عليه الصلاة والسلام، وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟! قال ابن كثير في الآية: «يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب- أبناء إسماعيل- وعلى الكفار من بني إسرائيل- وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام- بأن يعقوب لما حضرته الوفاة إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه، قال النحاس: والعرب تسمي العم أبا نقله القرطبي ... إِلهاً واحِداً أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به غيره وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مطيعون خاضعون ... والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم» اه. ثم قال تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة في تِلْكَ إلى إبراهيم عليه السلام وأولاده والأمة هنا بمعنى: الجماعة قَدْ خَلَتْ أي قد مضت لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين، لا ينفعكم انتسابكم إليهم؛ إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا تؤاخذون بأعمالهم، نصت الآية على أن الكافر لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أم متأخرا، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم

فائدة

إلا ما اكتسبتم؛ وذلك لافتخارهم بآبائهم. وفي الحديث الذي رواه مسلم «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه». وبهذا استكملت الحجة على الراغبين عن دين إبراهيم، ومن رغب عن الإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فقد رغب عن ملة إبراهيم. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. فائدة: - استدل بقوله تعالى قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ من جعل الجد أبا (في حال وفاة الأب) وحجب به الإخوة في الإرث، كما هو قول الصديق، حكاه البخاري عنه، من طريق ابن عباس وابن الزبير ثم قال البخاري: ولم يختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف، وقال مالك والشافعي وأحمد فى المشهور عنه: إنه يقاسم الإخوة واختاره صاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد بن الحسن. كلمة في السياق: بالفقرة السابقة تنتهي مناقشة الراغبين عن دين إبراهيم، وخاصة أصحاب دعوى الانتساب إليه، مع انحرافهم عن التوحيد والإسلام والعبادة الخالصة. وقد ذكرنا قوله تعالى- حكاية عن أبناء يعقوب (عليه السلام): نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ببداية هذا القسم كله يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فالأمر الذي وجه للناس جميعا بالعبادة والتوحيد تأتي المقاطع لتعمقه، ولم يبق من مقطع إبراهيم إلا الفقرة الأخيرة، وهي التي تناقش الداعين إلى غير ملة إبراهيم، بعد أن ناقشت الفقرة السابقة الراغبين عن ملته، وتختم بالآية نفسها التي ختمت بها الفقرة السابقة: الفقرة الثالثة في مقطع إبراهيم عليه السلام: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ

كلمة في السياق

الْمُشْرِكِينَ أي قالت اليهود: كونوا يهودا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، والجواب قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً الحنيف: هو المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق، وقد رأينا في الفقرة السابقة أن ملة إبراهيم هي الإسلام، فالاستسلام لله واتباع هداه هو الهدى لا دعاواهم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل من الموحدين، هذا تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلا منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك، بينت الآية أن الهداية في الاستسلام لله وعدم الشرك به، وبدون ذلك فلا هداية، وهؤلاء وهؤلاء ليسوا مسلمين وليسوا موحدين، فأنى يكونون مهتدين، وكيف يزعمون أن الهداية عندهم ويدعون إليها، روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ... قال قتادة: «الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم الأمهات، والبنات، والخالات، والعمات، وما حرم الله- عزّ وجل- والختان» أقول: الحنيفية: هي موافقة الفطرة بالتوحيد، وترك ما نهى الله عنه، وفعل ما أمر به، ذلك مقتضى العهد الأول. كلمة في السياق: في هذه الآية الأولى من هذه الفقرة جاء الرد على زعم اليهود والنصارى، أن الهدى عندهم فجاء الرد عليهم: بأن الهداية في ملة إبراهيم، واستكمالا للرد واستكمالا لإقامة الحجة، يأمر الله هذه الأمة أن تعلن إيمانها بكل هدى أنزله الله، من لدن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل ذلك، وأن تعلن استسلامها لله عزّ وجل، تلك هي الهداية الكاملة لا مزاعم اليهود والنصارى. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا الخطاب للمؤمنين، وما أنزل إلينا هو القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ السبط: هو الحفيد والأسباط: هم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. قال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، ونحن مأمورون بأن نؤمن بالوحي الذي أنزل على أنبيائهم وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أوتي موسى التوراة؛ فنحن نؤمن بذلك، وأوتي عيسى الإنجيل؛ فنحن نؤمن بذلك، أخرج ابن أبي حاتم .. عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن» وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ أرشد الله عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم

[سورة البقرة (2): آية 137]

بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا، وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي نؤمن بهم جميعا فلا نفعل ما فعلت اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي ونحن لله مستسلمون، والاستسلام لله هو ذروة الإخلاص. يقول صاحب الظلال تعليقا على هذه الآية: «تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعا، وبين الرسل جميعا، هي قاعدة التصور الإسلامي، وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور، والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي، الذي يملك الجميع الحياة في ظله، دون تعصب ولا اضطهاد، والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا مفتوحا للناس جميعا في مودة وسلام، ومن ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى من اتبعها فقد اهتدى، ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت، ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار». فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا قال ابن كثير: يقول تعالى: فإن آمنوا يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، فقد اهتدوا أي: فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي في خلاف وعداوة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم، هذا ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم، وقد أنجز وعده بقتل بعضهم وإجلاء بعضهم، والوعد لا زال مستمرا ومعنى (السين) أن ذلك كائن لا محالة ولو تأخر إلى حين وَهُوَ السَّمِيعُ لما يضمرون من الحسد والغل، وهو معاقبهم عليه، فهو وعيد لهم، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يسمع ما تدعو به، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق، وهو مستجيب لك، وموصلك إلى مرادك صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ هذه تتمة الحجة في الرد على الداعين إلى ترك ملة إبراهيم إلى يهودية أو نصرانية، فتقدير الكلام على رأي بعض المفسرين إما: قولوا صبغنا الله صبغة أو قولوا: صبغة الله، أو بل صبغة الله، على البدل من ملة إبراهيم أي: بل ملة إبراهيم، بل صبغة الله، وعلى كل هذه الأقوال فإن هذه الآية استمرار للرد على دعاة اليهودية والنصرانية ومزاعمهم، أن الهدى عندهم، أمرنا أن نعلن أن الهداية في ملة إبراهيم ونحن عليها، وأمرنا أن نعلن إيماننا بكل

وحي أنزله، وأمرنا أن نعلن أن ما نحن عليه هو صبغة الله، وأنه لا أحسن من ذلك، وأننا مخلصون له العبادة فمن اجتمع له ذلك فهو على الهداية الكاملة، لا من زعم أن الهداية عنده بلا دليل. من عادات النصارى أنهم يغمسون أولادهم بماء يسمونه: المعمودية، ويقولون عنه: إنه تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانيا حقا. يقول شارل جنيبير في كتابه (المسيحية وتطورها) عن التعميد هذا: «فإذا ما آمن الإنسان به (أي بالمسيح) أقيمت له مراسم التعميد، وهي طقوس يهودية الأصل تبناها المسيحيون .... تعقد الدخول في الكنيسة المسيحية بفعل نمو الطقوس التي شملت شيئا فشيئا جميع المجالات الدينية .... وأصبح التعميد نفسه احتفالا معقدا يشتمل- على أقل تقدير- على مجموعة من التعليمات الخاصة، وعلى الغسل بالماء الذي يكرر ثلاثا، وعلى إجراء اللمس باليد الذي يصاحبه المسح بالزيت المقدس (المسح بالزيت تقليد من تقاليد اليهود كما يقول المؤلف) ثم ينتهي إلى طقوس القربان الأول .... وليس من العسير علينا أن نكشف عن روح الأسرار الهيلينية فى هذا التعليم التدريجى .... » فأمر المسلمون بهذه الآيات أن يقولوا لهم: آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغته، فعلى هذا الاتجاه في الفهم تكون صِبْغَةَ اللَّهِ هنا حديثا عن أثر الإيمان الذى أمر به المسلمون في الآية قُولُوا آمَنَّا .... فالإيمان الصحيح الشامل يطهر النفوس، فتصبح هذه الأنفس بالإيمان ذات لون رباني. قال البيضاوي ذاكرا بعض اتجاهات المفسرين في تفسير صِبْغَةَ اللَّهِ « .... أو طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسماه: صبغة، لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب، أو للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم .... » وهناك اتجاه في تفسير الآية أن المراد بصبغة الله دينه، فهذا الدين الذى أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي صبغه هذه الصبغة، فهو أثر مباشر عن الله صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي: لا دين أحسن من دينه، أولا تطهير أحسن من تطهيره الذي تأخذ به الأنفس لونها الصحيح وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ قال البيضاوي: (هذا) تعريض لهم أي: لا نشرك به كشرككم .. ، فنحن قائمون بعبادته كما أمر، معطون العبودية له كما يحب، وهذا مفترق الطريق بين المسلم وغيره، المسلم يعتبر أن مقامه الصحيح هو في العبودية لله، وغير المسلم يعتبر نفسه حرا، فلا عبودية ولا عبادة، أو عبودية وعبادة في

كلمة في السياق

غير محلهما الصحيحين. لقد صبغنا الله بالإيمان صبغته، فالحمد لله رب العالمين. كلمة في السياق: لقد رأينا أن هذه الفقرة رد على الداعين لغير ملة إبراهيم، وهذا الرد يأتي على مرحلتين: المرحلة الأولى هي ما مر معنا، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية: وهي الآيات الأخيرة في الفقرة فصار التسلسل: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ... قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ .... قُولُوا آمَنَّا .... صِبْغَةَ اللَّهِ .... هذه المرحلة الأولى في الرد، والمرحلة الثانية تبدأ بقوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ ... فهذا وما بعده من الفقرة تتمة الجواب على قولهم الذي بدأت به الفقرة فلنر تفسير تتمة الفقرة: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي أتجادلوننا وتناظروننا في شأن الله وهدايته واصطفائه من شاء، كاصطفائه النبي صلى الله عليه وسلم من العرب دونكم، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترون أنكم أحق بالنبوة منا وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي نشترك جميعا في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن العمل علامة ودليل، أنتم لكم أعمال ولنا أعمال، ومن تأمل أعمالنا وأعمالكم عرف المستقيم على أمر الله من المنحرف وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ هذه هي العلامة الثانية على أننا أهل الهداية لا أنتم والمعنى: ونحن له موحدون، نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالهداية، فنحن المهتدون لا أنتم، قال البيضاوي: «روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا، فنزلت: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم (أي الحجة) على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء- والكل فيه سواء- وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص، فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها، فلنا أيضا أعمال وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أي: موحدون نخلص بالإيمان والطاعة دونكم». وقد رد الألوسي اتجاه البيضاوي هذا،

[سورة البقرة (2): آية 140]

معتبرا أن القول الأقوى، هو في كون اليهود والنصارى ادعوا أن الدين الحق اليهودية والنصرانية، وبنوا دخول الجنة والاهتداء عليهما، فجاء الرد عليهم من خلال الحديث عن ربوبيته، وصلاح أعمالنا وفساد أعمالهم، وإخلاصنا في العمل له» ومما يمكن أن يقال: إن الله علمنا إلزامهم الحجة من خلال الإخلاص وحده في الآية، وذلك أنهم مشركون، وأنهم يعملون رياء وسمعة، وخضوعا لضغوط اجتماعية وغيرها، فالله رب الجميع، ولكل عمله، ولكنا مخلصون وأنتم غير مخلصين، فلا تدعوا أن الله لكم ومعكم وأنتم كذلك، وتكون المحاجة بيننا وبينهم في أن الله معنا أو معهم، لنا أو لهم، ومن تأمل لغة اليهود والنصارى حتى الآن، أدرك أن لغتهم الحديثة، هي لغتهم القديمة، في دعوى أن الله لهم ومعهم، مع أن إيمانهم بالربوبية مخدوش، وأعمالهم منقوضة، وإخلاصهم معدوم؛ لأن الإخلاص عمل لله وبالله، وفيما شرع الله، وأنى لهم ذلك كله، ثم تأتي الآية اللاحقة فتستكمل الحجة: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي: أتحاجوننا في الله ... فأنتم مغلوبون في زعمكم أنكم المهتدون، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ ......... كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى حتى تنحصر الهداية فيكم فأنتم كاذبون لأن هؤلاء كانوا قبل اليهودية والنصرانية، والله شهد بأن دينهم الإسلام، هذا إذا اعتبرنا أن (أم) في هذه الآية معادلة للهمزة الموجودة في الآية السابقة عليها، وهو اتجاه للمفسرين، وعلى هذا الاتجاه يكون الاستفهام في الآية السابقة وهذه الآية إنكاريا. قال الألوسي: «والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى: كل من الأمرين منكر ينبغي ألا يكون إقامة الحجة وتدوير البرهان على حقية ما أنتم عليه- والحال ما ذكر- والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام». وفائدة هذا الأسلوب- مع أن العلم حاصل بثبوت أحد الأمرين، الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم، فكيف إذا اجتمعا، كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: «أتدبيرك أم تقريرك». وعلى القول بأن (أم) منقطعة أي بمعنى الهمزة وبل، يكون التقدير: «بل أتقولون إن إبراهيم وإسماعيل ... » فيكون المعنى أنكم تحاجون في الله من خلال دعواكم أنكم على الهداية، فأنتم في هذه الدعوى تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم الصلاة والسلام، كانوا هودا أو نصارى؛ لأنكم تعتقدون هدايتهم، فذلك زعم منكم أن هؤلاء كانوا على اليهودية أو النصرانية، وذلك زعم باطل وسنرى في سورة (آل عمران) التي هي تغطية لمعان في

[سورة البقرة (2): آية 141]

سورة البقرة كيف يأتي قوله تعالى ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا .. وبهذا استكملت الحجة على اليهود والنصارى، في زعمهم أن الهداية عندهم و (أم) على القول الراجح معادلة للهمزة في (أتحاجوننا)، يعني: أي الأمرين تأتون؟ المحاجة في الله، أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين، فإذا حاججتمونا في الله تبين أننا المهتدون، وإذا ادعيتم أن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية فهذا كذب، فهل كان هؤلاء المذكورون على يهودية أو نصرانية؟ ولا يهودية إلا من بعد موسى، ولا نصرانية إلا من بعد عيسى، فالهداية إذن هداية الله التي يخص بها من شاء، الأمر أمره والوحي وحيه، ثم قال: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ بل الله أعلم بمن اهتدى، وأعلم بمن يهدي، وأعلم بخبر أنبيائه المذكورين، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى. قال الألوسي: أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين، بل الله تعالى أعلم بذلك، وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا، فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض، ثم قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة ثابتة عنده، واصلة من الله إليه، وهي شهادته تعالى لإبراهيم بالحنيفية، أو شهادتهم التي عليهم أن يؤدوها في حق محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وعلى كل فالآية فيها تعريض بهم؛ إذ إنهم يعرفون أن محمدا رسول الله، بشرت به التوراة والإنجيل، وكان عليهم أن يشهدوا له ويتابعوه فلم يفعلوا فليس أشد في الظلم من هذا، أن يكتم الشهادة الشهود. عرفوه وأنكروه وظلما … كتمته الشهادة الشهداء. وهم يعرفون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ... كانوا على الإسلام لله، وهم يكتمون هذا، ويدعون أن هؤلاء كانوا يهودا أو نصارى، فلا أظلم منهم، حملهم الله الشهادة فكتموها، أو شهد الله في كتبهم على أشياء فأنكروا شهادة الله؛ فمن أظلم منهم؟ لا أحد وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من تكذيب الرسل، وكتمان الشهادة، والدعوة إلى الباطل، وادعاء الهداية، وصرف الناس عن الدين الحق، هذا تهديد ووعيد لأهل الكتاب، أي: إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى، بل هو محصل لأعمالكم، محيط بجميع ما تأتون وتذرون، فيعاقبكم بذلك أشد عقاب. وبنفس الخاتمة التي ختمت بها الفقرة السابقة تختم هذه الفقرة. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ

كلمة في السياق

وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ. قال الألوسي: (هذا) تكرير لما تقدم، للمبالغة في التحذير، عما استحكم في الطباع، من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم ... ، أو تأكيد وتقرير للوعيد، يعني: أن الله يجازيكم على أعمالكم، ولا تنفعكم آباؤكم، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم، بل عن أعمال أنفسكم» فكما لا يسألون عن أعمالكم السيئة، فلا يغني عنكم انتسابكم إليهم، من غير متابعة منكم لهم، فلا تغتروا بمجرد النسبة إليهم، حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله، واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل، ولا سيما بسيد الأنبياء، وخاتم المرسلين، ورسول رب العالمين، إلى جميع الإنس والجن صلى الله عليه وسلم، أقول كررت الآية للتأكيد، وعلامة على نهاية الفقرة، فمما يستدل به على نهاية بعض الفقرات، أو بعض المقاطع، أو بعض الأقسام، التشابه، مع نهايات سابقة أو لاحقة، كما سنرى في هذا التفسير. والمعاني هي التي تحدد. كلمة في السياق: 1 - بدأت سورة البقرة بمقدمة حددت صفات المتقين والكافرين والمنافقين، ثم جاء القسم الأول من السورة داعيا إلى عبادة الله وحده وتوحيده، ثم سار السياق حتى وصلنا إلى مقطع إبراهيم، فعلمنا من خلال المقطع أن ما دعينا إليه وما طولبنا به هو الإسلام دين إبراهيم. وبهذا نرى كيف أن السورة تبني الشخصية الإسلامية شيئا فشيئا، وتتكامل معانيها شيئا فشيئا، وتتلاحم المعاني بشكل هو وحده معجز. 2 - وإذا تأملت الفقرة الأخيرة في عرض القول ورده، تجد في ذلك نموذجا على نوع من الإعجاز، يستحيل أن يصدر من بشر، على مثل هذه الطريقة وهذا الأسلوب، وهكذا الشأن في رؤيتك تلاحم الفقرات في مقطعها، واتصال المقاطع ببعضها. 3 - ومن قبل رأينا محل مقطع إبراهيم في السياق: فإبراهيم هو النموذج الكامل على اتباع الهدى المنزل عليه، ومن قبل كانت قصة بني إسرائيل نموذجا على أمة انحرفت، وجاء المقطعان بعد مقطع آدم، الذي قرر أن

فصول شتى وفوائد

وظيفة الانسان هي اتباع ما أنزل الله، جاء ذلك كله بعد دعوة الناس جميعا للسير في طريق التقوى، التي أحد أركانها، الاهتداء بكتاب الله ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أليس مقطع إبراهيم درسا في أن كلمات الله ينبغي أن تقام على الوجه الأمثل، وأن اتباع هدى الله هو الطريق الأمثل، وبالتالي فإن هذا القرآن يجب أن يقام. 4 - وكما قلنا من قبل فإن مقطع إبراهيم هو مقدمة الحديث عن القبلة، وعن وجوب التوجه إلى الكعبة، الذي هو مرتكز كبير من مرتكزات العبادة لله رب العالمين، في سياق القسم الذي يأمر بعبادة الله رب العالمين، وهكذا نصل إلى المقطع الخامس في القسم الأول من سورة البقرة، وهو مقطع القبلة، وقبل أن نبدأ عرضه فلنذكر بعض الفصول التي وعدنا بعقدها هنا، أو اقتضاها المرور على بعض المعاني. فصول شتى وفوائد: فصل في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام: للمفسرين في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلام كثير، وكل أقوالهم استنباط، إما من خلال ما قصة الله علينا في القرآن، أو من خلال ما قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبينا إبراهيم، أو من خلال فهم قضية الفطرة، ومجموع ما ذكروه في الكلمات أنها: شرائع الإسلام، وبعضهم قال: ابتلاه الله بالمناسك، وقال آخرون: ابتلاه بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس، قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد، تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء، وبعضهم ذكر بدل فرق الشعر غسل البراجم وهي: عقد الأصابع، وذكر بدل الاستنجاء الاستحداد وهو: حلق العانة، وقال بعضهم: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن، فراق قومه في الله، حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمرود في الله، حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله، حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه، حين أمره بذبحه، وبعضهم قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس، وبالقمر، فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم، ابتلاه بعمارة البيت فقام به، وبعضهم

فصل في قريش والإمامة

قال: ابتلي بالكلمات: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ... هذا مجموع ما فسر به المفسرون الكلمات تقريبا. قال ابن جرير ما حاصله «إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا نجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين، إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر، بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له» وقال ابن كثير: وقوله تعالى بِكَلِماتٍ أي بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام (في سورة التحريم) وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ. وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى (في سورة الأنعام) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا أي كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمرا ونهيا، ومن ذلك هذه الآية الكريمة. فصل في قريش والإمامة: قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهم بعضهم من هذا النص أن الإمامة ينبغي أن تكون في بني إسماعيل لأنهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، فقد انتقلت الإمامة بعد بعثة رسولنا عليه السلام من بني إسرائيل من ذرية إبراهيم إلى بني إسماعيل من ذريته باصطفاء الله محمدا صلى الله عليه وسلم منهم، ثم هي في ذريته النسبية وفيه قوله عليه السلام «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي- أهل بيتي- لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ولكن الفاسق منهم والمبتدع- بله الكافر- ليس أهلا لها ثم هي في ذرية إبراهيم من المسلمين أي في قريش، ومن ثم كانت الأئمة منهم، قال عليه السلام «الأئمة من قريش» ولكن لا يستأهلها منهم فاسق أو مبتدع أو كافر، وبعضهم قال: إنه لا تلازم بين الإمامة في الدين ومنصب الخلافة بالذات، ومنذ عصر الصحابة وجد في موضوع الخلافة ثلاث اتجاهات رئيسية: الأول: أنها في آل البيت، والثاني: أنها في قريش، والثالث: أنها في الأكفاء من مجموع الأمة، وفي كلام عمر رضي الله عنه ما يؤيد الاتجاه الأخير، ولكن أقوى الاتجاهات أنها في قريش، والمفروض بالنسبة للمستقبل أن يعطى كل اتجاه من هذه الاتجاهات حقه

فصل في أن قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين نص في أن الباطنين على باطل

في الترشيح، ويبقى للأمة حق الاختيار، ولن يفوت الأمة الإسلامية أن تختار الأرضى لله. قال تعالى (في سورة الشورى) وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ويا حبذا من خلال الشورى إمامة هاشمي عدل: فإن لم يكن فإمامة قرشي عدل: فإن لم يكن فإمامة مسلم عدل، ويا للأسف لم يعد في عصرنا للمسلمين خليفة يجمعهم. فصل في أن قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ نص في أن الباطنين على باطل: في العالم الآن فرق باطنية تدعي أن للقرآن ظاهرا يخالف الباطن، وأن أئمتهم هم الذين يعرفون هذا الباطن، وبناء على أقوال أئمتهم ظالمون في زعمهم عطلوا الصلاة والصوم والزكاة والحج، وغير ذلك من شعائر الإسلام، وبذلك ثبت أن أئمتهم ظالمون، وبذلك ثبت أنهم لا يستحقون الإمامة، وبذلك ثبت أن هؤلاء على باطل، والأمر أوضح من أن يتكلم به. فصل: في الظلم الذي لا يستحق به صاحبه منصب الخلافة: في شريعة الله الظلم ظلمان: ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لغيره، وظلم الإنسان لنفسه يتمثل فى الشرك والكفر، ويتمثل في البدعة والفسوق، وكلها تخرج صاحبها عن استحقاقه الإمامة في الوضع العادي، وإذا انعقدت الإمامة ثم فسق من انعقدت له ينعزل تلقائيا بفسوقه أو يستحق العزل؟ القول الأقوى عند الحنفية: أنه يستحق العزل من أهل الحل والعقد. قال القرطبي: «استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله على ما تقدم من القول فيه، فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل لقوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ولهذا خرج ابن الزبير، والحسين بن علي رضي الله عنه، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم، على الحجاج. وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم عقبة بن مسلم. والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض، والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج فاعلمه». أقول وهو مذهب كبار في أئمة أهل السنة والجماعة، ويكفي من ذكر،

كالحسين وابن الزبير وسعيد بن جبير وأقول: تبقى الموازنة بين الخروج على الظالمين وعدمه قائمة، إلا إذا كفروا وكنا قادرين. وأقول: إن علينا أن نعمل لإيجاد أنظمة إسلامية، لا يجد فيها الفاسق والظالم أحدا يتجاوب معه من الأمة، فضلا عن أهل الحل والعقد، وبالتالي فإذا فسق أو جار حاكمته محكمتنا العليا، أو مؤسساتنا العليا، ثم طرد من منصبه غير مأسوف عليه، لقد استطاع الغريبون أن يوجدوا نوعا من الأنظمة لا يستطيع معها زعيم أو قائد أن يستمر إذا ما وقع في خطأ أو خلل. فكيف نعجز نحن عن ذلك؟ والإسلام هو الإسلام، لقد سقط إيدن في بريطانيا لأنه ارتكب خطأ سياسيا، وسقط نيكسون في أمريكا لأنه استغل أجهزة الحكم لصالح تجديد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة. ولنعد إلى القرطبي: قال القرطبي: قال ابن خويزمنداد: «وكل من كان ظالما لم يكن نبيا، ولا خليفة، ولا حاكما، ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد، وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض، وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة، أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص، وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم، ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة، ولا إقامة الحدود التي أخذوا بها وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم». أقول: ومن قبل لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في شأن الجاهلية إلا في قضية قائمة، كإسقاطه ربا العباس، ومن ثم فالحركة الإسلامية إذا استلمت الحكم فإنها لن تنظر إلا في قضية قائمة، ومن هنا يعرف أننا لن نتعرض لماض، وإنما سنعالج الحاضر على ضوء الإسلام، وبالتالي فإننا لن نتعرض لمواضيع الإصلاح الزراعي وغيرها، مما حدث في مراحل سابقة على حكمنا وانتهى الأمر فيه، وسنحاول أن نعطي كل الناس مما يسعهم ويغنيهم، فالإسلام يزيد ولا ينقص، وسنربي الناس على المسامحة، وعلى أن يتخلصوا من مظالمهم على ضوء الفتوى المعتبرة من أهلها، ونعود إلى القرطبي. وقال القرطبي: قال ابن خويزمنداد: «وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد

فصل في الحاكمين بغير ما أنزل الله

أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره، وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه ... ، وإن كان ما في أيديهم، ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا، غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق ويجعل في بيت المال، وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين». أقول: في خطبة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون» ومن هنا نفهم أن الحركة الإسلامية إذا ورثت الحكم ففي القضايا المعلقة ستطبق الإسلام، فلا يعطى إنسان- كان قد وضع ماله في بنك ولا يزال- ربا، ولن يؤخذ من أحد ربا، ولكن في القضايا المنتهية لا مراجعة، فكل الأموال التي ترثها الحكومة الإسلامية ستتصرف بها في مصالح المسلمين، أما ما قبل ذلك فالمسلم أحق من غيره في خزينة الدولة سواء كانت كافرة، أو فاسقة، على ألا يسرق، أو يخون، أو يضر بآخرين، أو يغش، وللمقاتلين حيث- يجوز القتال- أحكام خاصة، ولقيادة الحركة الإسلامية حقوق في الحركة على ضوء الفتوى المعتبرة من أهلها، لأنها هي الأحق بالتصرف في أموال الأمة فليلاحظ ذلك، ولكنه مقام دقيق ومزلة قدم إن لم يكن ذلك على ضوء العلم والفتوى من أهلهما. فصل في الحاكمين بغير ما أنزل الله: بنص كتاب الله فإن الذين لا يحكمون بما أنزل الله ظالمون، قال تعالى: (في سورة المائدة) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وبنص كتاب الله فهؤلاء لا يستحقون الإمامة فكيف يعطيهم مسلم تأييده وولاءه، وكيف لا يضع يده بيد أهل الله للوصول إلى حكم الله!؟ غير أننا نحب أن نوضح أن الحركة الإسلامية وهي تواجه أوضاعا متعددة، قد ترى شرا أهون من شر، وضررا أهون من ضرر، وظلما دون ظلم، وبالتالي فإنها على ضوء الموازنة والمقايسة تختار أهون الشرين، وأخف الضررين مبقية على نظام- إذا كان الذي بعده سيكون شرا منه- ما دامت لا تستطيع أن تغير النظام إلى إسلام كامل، فليس المهم أن تسقط نظاما، ولكن المهم أن يكون النظام البديل إما أحسن لإسلامنا، أو هو إسلامي خالص، وهذه قضية خطيرة، وموازناتها صعبة، وحكم الله أولا، ثم الشورى ثانيا هما عصام الحركة عن الزلل الشرعي، أو السياسي الاستراتيجي، أو التكتيكي.

فصل: في الأمن عند البيت

فصل: في الأمن عند البيت: 1 - وردت أحاديث تدل على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ووردت أحاديث تدل على أن إبراهيم حرم مكة والجمع بينها: أن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلدا حراما عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها. 2 - في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» أي لقتال، فدل هذا وغيره مما سنرى على تحريم القتال في الحرم. جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها (أي لا يجز ولا يقلع كلؤها) فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: إلا الإذخر» وهذا لفظ مسلم. وأخرج مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما، وإني حرمت المدينة، حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة بركتين». فصل في دلالة ذكر الذرية في مقطع إبراهيم عليه السلام: يلاحظ أن إبراهيم عليه السلام رغب أن تكون الإمامة في ذريته فلما قال الله تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وقص الله علينا دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ولذلك دلالاته: قال صاحب الظلال تعليقا على النص الأول: «عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر: الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد، ذلك الشعور الفطري العميق الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة، وتمضي في طريقها المرسوم، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق، ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله (كالحركة الشيوعية)، وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك (الحكمة) البعيدة المدى وعلى

فصل: في إقامة الحدود في الحرم

أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث (انسجاما مع تلك الفطرة) وتنشيطا لها لتعمل ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد، وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها، وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة، وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى، وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة. ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق، وفكرة عن تكوينها أدق، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح» عن الظلال بتصرف. فصل: في إقامة الحدود في الحرم: قال القرطبي وهو مالكي عند قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: (في سورة آل العمران) وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال: آمنوا من دخل البيت والصحيح (في ترجيح القرطبي) إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ؛ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ويقتل خارج البيت، وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا، والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة، وقد أجمعوا على أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه، وقال أبو حنيفة: «من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه، ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج، فنحن (أي المالكية) نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا؟. وفي قوله أَمْناً تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه» أقول: نقلت الكلام الأخير لأن له صلة في السياق إذ مقطع إبراهيم مقدمة لمقطع القبلة الآتي. فصل في أبناء إبراهيم: رأينا أن الله عزّ وجل قال وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ هكذا بالجمع فمن هم أبناء إبراهيم سوى إسماعيل وإسحاق؟ قال القرطبي: «ثم لما توفيت سارة، تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومدائن ونهشان وزمران

فصل في أن أعلى مقام للإنسان هو الإسلام لله رب العالمين

ونشيعه وشيوخ» وقد ذكر الطبري وابن الأثير ست أولاد لإبراهيم عليه السلام سوى إسماعيل وإسحاق، ولكن كلا منهم أورد الأسماء إيرادا يختلف عن الآخر وكلاهما يختلف مع القرطبي، ولا شك أن مرجع الجميع روايات أهل الكتاب وقد تحدث سفر التكوين مما يسمى بالتوراة الحالية عن هذا الموضوع في الإصحاح (الخامس والعشرين)، فقال: «وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشاق وشوحا» وهذه الرواية تتفق إلى حد كبير مع رواية الطبري، ومما قاله الإصحاح الخامس والعشرون: «وأعطى إبراهيم إسحاق كل ما كان له، وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا، وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقا إلى أرض المشرق، وهو بعد بقيد الحياة». فهذا النص يفيد أن لإبراهيم أبناء من سرار بينما النص السابق يفيد أن له ست أبناء من زوجة واحدة تزوجها بعد سارة، وليس في كل ذلك ما يفيد القطع سوى أن لإبراهيم بنين فهم أكثر من أن يكونوا اثنين، وسيأتي كلام في سورة البقرة عن إبراهيم عليه السلام مرة أخرى وهناك سننقل اتجاهات الدارسين عن عصر إبراهيم واحتمالاته، وزمن وجوده، والدول التي عاشها، وليس في ذلك كله ما يصلح أن يجزم به. فصل في أن أعلى مقام للإنسان هو الإسلام لله رب العالمين: بحث بعضهم موضوع أيهما أرقى الإسلام أو الإيمان، وذلك بسبب قوله تعالى: (في سورة الحجرات) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ونقول: إن الإسلام الكامل والإيمان الكامل مترادفان، إذ يدخل في الإسلام الكامل إسلام القلب والجوارح، ويدخل في الإيمان الكامل تصديق القلب والجوارح، ولذلك نجد قوله تعالى (في سورة الذاريات) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فههنا المؤمنون هم المسلمون، فالإيمان الكامل هو الإسلام الكامل، غير أن في الإسلام معنى أتم لما يفيده من الخضوع الزائد على مجرد التصديق، ولذلك نرى أن الكلام في قصة إبراهيم ينصب على الثناء على إسلامه إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (سورة النساء)، قال القرطبي عند قوله تعالى إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، والإسلام هنا على أتم وجوهه، والإسلام في كلام العرب الخضوع والانقياد وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله

كلمة أخيرة في مقطع إبراهيم عليه السلام

فقد انقاد واستسلم لله، وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فرقا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الإيمان فكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن، لقوله تعالى: (في سورة آل عمران) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن ودليلنا (أي أهل السنة والجماعة)، قوله تعالى (في سورة الحجرات) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له: «اعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم .. الحديث أخرجه مسلم. فدل على أن الإيمان ليس الإسلام، فإن الإيمان باطن والإسلام ظاهر، وهذا بين، والإسلام ويراد به الإيمان للزوم أحدهما الآخر، وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته فاعلمه». كلمة أخيرة في مقطع إبراهيم عليه السلام: 1 - نحن لا زلنا في القسم الأول من أقسام سورة البقرة، والذي بدايته المقطع الأول، الذي حدد الطريق إلى التقوى، وحدد الطريق إلى الكفر والنفاق، ثم جاء مقطع آدم، ومقطع بني إسرائيل، ومقطع إبراهيم، وكل من هذه المقاطع بين في الطريق إلى التقوى، وفصل في الطريق إلى الكفر لتجتنب، وإذ كان الطريق إلى التقوى هو عبادة الله وحده، فإن مقطع إبراهيم عمق ذلك، وعرفنا من خلاله أن الطواف بالبيت والعكوف فيه والركوع والسجود كل ذلك من العبادة. وإذ كان الركوع والسجود يحتاج إلى قبلة، وإذ كانت كل المقدمات تشير إلى أن كعبة إبراهيم التي حولها يكون الطواف، وإليها يكون الحج، هي المرشحة لأن تكون قبلة المسلمين في صلاتهم، فإن قلب محمد صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى ذلك ومن ثم كان المقطع اللاحق (في القبلة). 2 - وبمقطع إبراهيم عليه السلام، ومن قبله مقطع بني إسرائيل، اتضح الكثير من صراط المغضوب عليهم والضالين، وصراط الذين أنعم الله عليهم، في سياق تعليم العبادة والاستعانة بالله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ألا ترى كيف يبني إبراهيم وإسماعيل البيت وهما يدعوان. وليكن هذا خاتمة الكلام عن مقطع إبراهيم لننتقل إلى الحديث عن مقطع القبلة:

المقطع الخامس من القسم الأول من سورة البقرة

المقطع الخامس من القسم الأول من سورة البقرة: يمتد هذا المقطع من الآية (142) إلى نهاية الآية (152) وهذا هو: [سورة البقرة (2): الآيات 142 الى 152] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)

كلمة في هذا المقطع وسياقه

كلمة في هذا المقطع وسياقه: - مر معنا في مقطع إبراهيم قصة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الكعبة، ويأتي هذا المقطع ليكون الشئ الرئيسي فيه هو الكلام عن جعل الله هذه الكعبة هي قبلة المسلمين في صلاتهم، ورأينا في مقطع إبراهيم عليه السلام كيف أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دعوا بدعوات وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ونجد في بداية هذا المقطع قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ونجد في نهايته كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... فمقطع القبلة يرينا استجابة الله عزّ وجل لإبراهيم وإسماعيل في شأن الأمة والرسول صلى الله عليه وسلم.

تفسير الفقرة الأولى

- حدثنا مقطع إبراهيم عن السفاهة في العزوف عن ملة إبراهيم وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وهذا المقطع يبدأ بالكلام عن مواقف السفهاء سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها وفي ذلك تقرير أن التوجه إلى حيث وجه الله إنما هو من الإسلام الذي هو ملة إبراهيم. والمقطع يقيم الحجة على بني إسرائيل وعلى النصارى في شأن القبلة. فالمقطع امتداد للحوار الذي مر معنا في مقطع بني إسرائيل. وإذ كانت القبلة بعض هدى الله المنزل نجد في هذا المقطع قوله تعالى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فإن صلة المقطع بقصة آدم عليه السلام المنتهية بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إن الصلة واضحة بين هذا المقطع ومقطع آدم عليه السلام من حيث إن المقطع يرينا ويقص علينا بعض ما أنزله الله علينا من هدى بواسطة رسول كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... ومحل القبلة في قضية العبادة لا يخفى. ومن ثم كان هذا المقطع جزءا من القسم الذي ابتدأ بالأمر بالعبادة والتوحيد يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وفي مقدمة سورة البقرة كلام عن المتقين والكافرين والمنافقين. ومما وصف به المنافقون قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وهاهنا حديث عن قولة من قولات السفهاء سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ... وهاهنا حديث عن نعمة الله على هذه الأمة بالهداية وكيف ينبغي أن تقابلها. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ... فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فالمقطع فيه تذكير بالنعمة، وتأكيد للسير، وتفصيل في الطريق. فلم يأت مقطع القبلة إلا بعد كل المقدمات اللازمة له. وهذا يدلنا على أهمية قضية القبلة في حياة الأمة، لقد سبق بمقدمة تعمق الثقة بالبيت وبناته، وسبق ذلك بمقدمة تسلب الثقة عن نوع من المشوشين، وسبق ذلك ما يعمق الالتزام بطاعة الله واتباع هداه، وسبق ذلك بالأمر بالعبادة، وسبق ذلك ما يعرف به السفهاء من أهل النفاق وما يعرف به المتقون. وذلك كله ليأتي المقطع في مكانه، مفصلا قضية جديدة سبقتها كل تمهيداتها والكلام عن المقطع وسياقه مستمر فلنكتف هاهنا بما مر. تفسير الفقرة الأولى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها السين في

قوله تعالى سَيَقُولُ للاستقبال. فهل الآية إخبار عن القول قبل وقوعه أو أنها إخبار عنه بعد وقوعه؟ قولان للمفسرين: فعلى القول أن الآية نزلت بعد القول فذلك يفيد أن القائلين مستمرون في لغطهم وفي قولهم. وتكون الآية وما بعدها متأخرة نزولا على قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة. فأنزل الله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... إلى آخر الآية. فقال السفهاء وهم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ وعلى القول بأن الآية إخبار عما يأتي تكون الحكمة كما قال الألوسي: «وتقديم الإخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس عليه فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما. والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب. ولما أن فيه إعداد الجواب. والجواب المعد قبل الحاجة أقطع للخصم» والسفهاء: هم خفاف الأحلام. فأصل السفه الخفة. وهم هنا إما اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ. أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء. أو المشركون لقولهم: رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها. والله ليرجعن إلى دينهم. قال ابن كثير: والآية عامة في هؤلاء كلهم. قال الألوسي في ترجيح العموم: «لأن الجمع فيها محلى باللام وهو يفيد العموم. فيدخل فيه الكل. والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع» أقول وقد مر معنا في السورة قوله تعالى وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ومر معنا في المنافقين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فحمل الآية على جميع من وصف الله في السورة بالسفه مقتضى السياق. ومعنى قولهم: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس. والقبلة: هي الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة. لأن المصلي يقابلها. فهؤلاء السفهاء قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الصراط المستقيم هو الطريق المستوي. ومن الصراط المستقيم التوجه إلى كعبة إبراهيم بعد إذ أمر الله به. وفي ذكر ذلك إشارة إلى نعمة الله على هذه الأمة بهدايتها في شأنها كله إلى الصراط المستقيم. وتعريض بغيرهم. ومعنى النص: أن بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها لله. والحكم والتصرف والأمر كله لله فالشأن كله في امتثال أوامره. ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة. فنحن عبيده وفي تصرفه. وقد شاء عناية بعبده محمد صلى الله عليه وسلم وأمته

كلمة في السياق

أن يهديهم إلى اتخاذ كعبة إبراهيم خليل الرحمن قبلة. فجعل توجههم إليها وهي المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له، وهي أشرف بيوت الله في الأرض. كلمة في السياق: 1 - ذكرنا من قبل صلة المقطع بما قبله. فما الصلة بين آية سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ بما قبلها مباشرة؟ لقد كان ما قبلها يناقش اليهود والنصارى في قضايا العقائد. وهاهنا النقاش في العمليات ولذلك قال الألوسي: «ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول (أي في العقائد) وهذا في أمر متعلق بالفروع (أي في العمليات من الشريعة) وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منها في الشناعة». 2 - ثم يبين الله عزّ وجل في الآية اللاحقة أن تحويل القبلة بحيث تكون إلى الكعبة ينسجم مع مبدأ الوسطية الذي هو سمة هذه الأمة. وفي تحقيق أشار إليه الأستاذ الندوي في السيرة النبوية كتبه أحد المتخصصين: أثبت فيه أن مكة بالنسبة للعالم تقع في مركزه تماما. فهي وسط هذا العالم. فتحويل القبلة إلى البيت الحرام ينسجم مع صفة الوسطية لهذه الأمة. ولذلك جاءت الآية اللاحقة تقول: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. 3 - في قوله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إشارة إلى أن في تشريعاته لهذه الأمة هداية لها إلى صراطه المستقيم، فلنتذكر أننا في الفاتحة ندعو الله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... وقد فعل جل جلاله فيما هدانا إليه. وليكن في هذا إشارة إلى الربط بين سورة البقرة في سياقها كله وبين سورة الفاتحة ولنعد إلى التفسير: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً الوسط: الخيار. وقيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل. والأوساط محمية. أي: كما جعلكم خير الأمم جعلت قبلتكم خير القبل. والوسط كذلك العدول. لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض. أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة جعلناكم أمة وسطا، فهذه الآية بمثابة تعليل لاختيار الكعبة قبلة لنا. ذلك أننا أمة وسط. فلتكن قبلتكم كذلك. وقد أفاض صاحب الظلال في استخراج مظاهر الوسطية في هذه الأمة كما سنرى في فوائد هذه الفقرة. وقد علل جل جلاله لجعلنا أمة وسطا أي عدولا أو خيارا بقوله لِتَكُونُوا شُهَداءَ

عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي لتكونوا شهداء على سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم وحده شهيدا علينا بأنه قد بلغ وأدى وأقام الحجة. وأننا قد لبينا واستجبنا فنحن شهداء على الناس يوم القيامة أن رسلهم قد بلغتهم. ورسولنا شهيد علينا يزكينا. وأخر الجار والمجرور (على الناس) في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وقدم الجار والمجرور (عليكم) في قوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم. وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم. أخرج الحافظ ابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق. ما من الناس أحد إلا ود أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه» وإذا كنا عدولا في الآخرة فنحن عدول في الدنيا كذلك. روى الحاكم وابن مردويه واللفظ له عن جابر بن عبد الله قال: «شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني سلمة. وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: والله يا رسول لنعم المرء كان. لقد كان عفيفا مسلما وكان .. وأثنوا عليه خيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت بما تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت ثم شهد جنازة في بني حارثة. وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان. إن كان لفظا غليظا. فأثنوا عليه شرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبعضهم أنت بالذي تقول. فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر. فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ثم قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الإمام أحمد .... عن أبي الأسود أنه قال: «أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع فيها مرض فهم يموتون موتا ذريعا. فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثنى على صاحبها خيرا. فقال: وجبت. ثم مر بأخرى فأثنى على صاحبها شرا. فقال عمر: وجبت. فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟. قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» قال: فقلنا وثلاثة؟ قال: فقال «وثلاثة» قال: فقلنا: واثنان. قال «واثنان» ثم لم نسأله عن الواحد» وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات. وأخرج ابن مردويه عن

أبي زهير الثقفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» قالوا: بم يا رسول الله؟. قال: «بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله في الأرض» ورواه ابن ماجه والإمام أحمد. ثم علل تعالى لاعتماد بيت المقدس أولا، والانتقال إلى الكعبة ثانيا بقوله: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي: إنما شرعنا ذلك يا محمد: التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك ويستقبل معك حيثما توجهت، ممن ينقلب على عقبيه أي: مرتدا عن دينه وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة إنه لعظيم شاق على النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه. وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء. فله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك. بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا. كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق .. وفي الحكمة التربوية التي نصت عليها الآية تعليلا لتحويل القبلة إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ يقول صاحب الظلال: «وكما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم ... فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى؛ ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر. اتباع للطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه؛ اعتزازا بنعرة جاهلية، تتعلق بالجنس والقوم، والأرض والتاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد ... حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام. ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله، وليكون تراثا للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولا منهم، بالإسلام الذي كان عليه

فوائد

هو وبنوه وحفدته ... ». وفي تفسير قوله تعالى لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أقوال للمفسرين يذكرونها كيلا يفهم فاهم أن لله علما حادثا وهو جل جلاله لم يزل عالما فيقولون فيها: «أي لنعلم كائنا أو موجودا ما قد علمناه أنه يكون ويوجد. فالله تعالى عالم أزلا بكل ما أراد وجوده أنه يوجد، في الوقت الذي شاء وجوده فيه أو: ليميز التابع من الناكص. فوضع العلم موضع التمييز. لأن العلم يقع به التمييز. أو: ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ذلك. وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه مثل قوله تعالى في سورة الفتح إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أو: هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب (فلنلقه في النار لنعلم أ يذوب) وهو يعلم أنه يذوب. أو: المراد به الجزاء أي: لنجازي الطائع والعاصي. وكثيرا ما يعلم التهديد في القرآن بالعلم» ولكي لا يفهم فاهم أن الصلاة إلى بيت المقدس ليس لها أجر، أو هي في إبان فرضها ليس لها فضل قال تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي: صلاتكم إلى القبلة المنسوخة التي هي أثر إيمانكم، سمى الصلاة إيمانا لأن أهل الإيمان هم الذين يعلمون وجوبها فيؤدونها. وبها يحيا الإيمان ويستمر ويستقر ويعلم، وقبولها إنما هو من أهل الإيمان وأداؤها في الجماعة دليل الإيمان. في الصحيح عن البراء قال: «مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس. فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه. ثم علل تعالى لعدم إضاعته إيمان المؤمنين بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أجورهم. والرأفة في اللغة: أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم. وبهذا انتهت الفقرة الأولى من مقطع القبلة وهي بمثابة المقدمة للأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام. فوائد: 1 - في عملية استقراء لمظاهر الوسطية في هذه الأمة يقول صاحب الظلال: إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم. وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم

وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم .. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يشهد عليها. فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة ... وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها .. لتعرفها أو لتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد. أو من الوسط بمعناه المادي الحسي أُمَّةً وَسَطاً. في التصور والاعتقاد .. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح تلبس الجسد، أو جسد تتلبس به روح. ويعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد واعتدال. أُمَّةً وَسَطاً في التفكير والشعور .. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك .. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب. وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها في تثبت ويقين. أُمَّةً وَسَطاً في التنظيم والتنسيق. لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب. وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك. أُمَّةً وَسَطاً .. في الارتباطات والعلاقات .. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فردا أشرا جشعا لا هم له إلا ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في الجماعة. وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة. والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق ..

أُمَّةً وَسَطاً في المكان .. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال. وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا. وتشهد على الناس جميعا. وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء. أُمَّةً وَسَطاً في الزمان .. تنهي عهد طفولة البشرية قبلها. وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهدى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك. وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها. واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها. والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحده. وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها خليقة بأن تتحمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها. ولا بد أن تفتن قبل كل ذلك، وتبتلى ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الرشيدة. 2 - ومن كلام صاحب الظلال في تبيان الحكمة في اتخاذ القبلة وتمييز قبلة المسلمين عن غيرهم يقول: إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد. والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة. وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص. وقد يكون الأمر واضحا فيما يختص بالتصور والاعتقاد، ولكنه بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة .. هنا نعرض التفاتة. إلى قيمة أشكال العبادة .. إن في النفس الإنسانية ميلا فطريا ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب، إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة. فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ ولا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس، وبذلك يتم

التعبير عنها. يتم في الحس كما في النفس، فتهدأ حينئذ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا، وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن، وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل. وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان. وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدى بمجرد النية ولا بمجرد التوجه الروحي. ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا: قياما واتجاها إلى القبلة، وتكبيرا وقراءة وركوعا في الصلاة. وإحراما من مكان معين ولباسا معينا، وحركة وسعيا ودعاء، وتلبية ونحرا وحلقا في الحج. ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم .. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص ... ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة. وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه .. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد. كما أنه بدوره ينشئ شعورا بالامتياز والتفرد. ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة. كالنهي عن طريقهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال والظواهر. وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصور، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلق، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج على جماعة فقاموا له: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا». وقال صلوات الله وسلامه عليه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» صلى الله عليه وسلم. فنهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة وسلوك، ونهى عن تشبه في قول أو أدب .. لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة. ثم هو نهي عن التلقي من

غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض. نهي عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض. فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين. والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية. فينبغي لها أن تستمد تقاليدها- كما تستمد عقيدتها- من المصدر الذي اختارها للقيادة ... والمسلمون هم الأعلون. وهم الأمة الوسط. وهم خير أمة أخرجت للناس. فمن أين إذن يستمدون تصورهم ومهجهم؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم؟ إلا يستمدوها من الله فهم يستمدونها من الأدنى للأسف. ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور، وأقوم منهج في الحياة. فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه. وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو، لا على أي أساس آخر. وعلى منهجه هو، لا على أي منهج آخر. وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى. فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله، والوحدة في الأرفع من التصور، والوحدة في الأفضل من النظام، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله، والتردي في مهاوي الجاهلية .. ليس متعصبا، أو هو متعصب ولكن للخير والحق والصلاح. والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه. إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة. فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز. رمز للتميز والاختصاص. تميز التصور، وتميز الشخصية، وتميز الهدف وتميز الاهتمامات، وتميز الكيان. والأمة المسلمة- اليوم- بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعا وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعا، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا. الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة، والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور، والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها .. إن هذه العقيدة منهج حياة كامل، وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة والوارثة لتراث العقيدة. الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله .. وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي

الأهداف والاهتمامات. وفي الراية والعلامة. وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله. وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام.» 3 - تطلق العرب كلمة الوسط على الخيار ومن ثم تقول: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم. ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب. 4 - روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة. فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه. فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال: فذلك قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال: والوسط: العدل. فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم» رواه البخاري وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجئ النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه. فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال من يشهد لك؟. فيقول: محمد وأمته. فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال: عدلا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. 5 - استدل الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله بقوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، على أن الإجماع حجة. لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة. والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها. فإذا اجتمعوا على شئ وشهدوا به لزم قبوله .. وقد ناقش الألوسي أن تكون الآية يدخل فيها ذلك. وختم مناقشته بقوله «على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم. وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها» أقول لكن من تأمل استهالات رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة لهذه الآية كما رأينا نموذج ذلك أثناء شرحها لم يستبعد ما ذهب إليه أبو منصور. وقد ناقش الألوسي ادعاء الشيعة أن المراد بالأمة

كلمة في السياق

الوسط الأئمة الاثني عشر؛ بناء على نقول ينقلونها عن بعض الأئمة. فقال: «ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد» أقول: ومما يشهد لفساد هذا الاتجاه الخطاب العام لكل الأمة بقوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً نعم الصالحون من آل البيت هم من خيار هذه الأمة الوسط، وهم فيها محل المودة من قلوب أهل الإيمان. ولكن هذا وحده لا يعطيهم حقا في إمامة وخلافة إذا لم تقدم الشورى أحدا منهم. ولنعد إلى قضية فهم الإجماع من الآية: فممن ذهب هذا المذهب القرطبي وذهب إلى أن الآية دليل على أنه لا يشهد إلا العدول وذلك منه قياسا على اعتماد الله شهادة هذه الأمة في الآخرة بسبب العدالة التي هي أحد تفسيري الوسط في الآية. قال القرطبي: «قال علماؤنا: أنبأنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه .. وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول. ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا .. وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده. فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين. وقول التابعين على من بعدهم. وإذا جعلت الأمة شهداء فقد وجب قبول قولهم ... ». 6 - في قوله وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها رد واضح على من زعم أنه لا نسخ في الشريعة، وفيها دليل على نسخ السنة بالقرآن. يقول القرطبي: «في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى، ناسخا ومنسوخا. وأجمعت عليه الأمة إلا ممن شذ كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ ... ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس وليس في ذلك قرآن. فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة. ثم نسخ ذلك بالقرآن ... ». 7 - بمناسبة ذكر رأفة الله ورحمته في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أورد ابن كثير الحديث الصحيح فقال: في الصحيح: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها. فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها. فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟ فقالوا: لا يا رسول الله. قال: فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها». كلمة في السياق: 1 - لا خلاف أن قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ نزل متأخرا عن

تفسير الفقرة الثانية في مقطع القبلة

الأمر بالتوجه نحو البيت الحرام. ولكن الخلاف في قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ هل نزل متأخرا؟ فعلى القول أنه نزل متأخرا فإن الآيتين تكونان قد نزلتا متأخرتين عن الفقرتين اللاحقتين في هذا المقطع. وقد ذكرتا متقدمتين على الفقرتين مع تأخرهما نزولا. لأنهما بمثابة المدخل لتغيير القبلة. وتعليل لهذا التغيير، ومن ثم فلم نبعد إذا اعتبرناهما فقرة من فقرات المقطع. 2 - ومما دلنا على أن الآيتين فقرة تميز الفقرتين اللاحقتين بما يدل على أنهما فقرتان ذواتا خصائص مشتركة. فكل من الفقرتين اللاحقتين تبدأ بآية مضمونها متشابه وخاتمتهما واحدة. فأول آية في الفقرة اللاحقة فيها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. وخاتمة هذه الآية قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وأول آية في الفقرة الثانية فيها قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وخاتمتها هي وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وهكذا يأتي مقطع القبلة من فقرات ثلاث واضحة المعالم: الأولى منها بمثابة التعليل للتغيير، والثانية فيها أمر بالتغيير، والثالثة فيها تأكيد للأمر. وفي كل من الفقرات الثلاث تعليم حجة أو إقامة حجة. وفي الفقرة الأولى والثالثة تبيان النعمة في شأن الأمر الناسخ. وفي الفقرة الثانية تهديد لمن خالف أو ناقش أو تردد، وفي ثنايا ذلك ومع ذلك معان لا يحاط بها. وذلك كله أوسع من أن يستطيع البشر بعضه لمن عقل. وذلك مظهر من مظاهر الإعجاز. تفسير الفقرة الثانية في مقطع القبلة: آثار: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: «كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود. فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم. فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء. فأنزل الله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إلى قوله تعالى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ

التفسير

وقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وقال تعالى وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمرو عن داود بن الحصين .... عن ابن عباس قال: «كان النبي- صلى الله عليه وسلم إذ سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء. فأنزل الله فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه السلام» وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ... عن يحيى بن قطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلا هذه الآية فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها قال: نحو ميزاب الكعبة. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي ذكر ميزاب الكعبة في هذا النص والذي قبله إشارة إلى قبلة أهل المدينة ومن وراءهم. فميزاب الكعبة في الجهة الشمالية منها. وأهل المدينة في تلك الجهة بالنسبة للكعبة. التفسير: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأينا يحب أن يحول إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود. ولأنها أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومطافهم. قال الألوسي: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه. بل كان ينتظر فقط .. وذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله عليه وسلم فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أي فلنعطينك ولنمكننك من استقبال هذه القبلة التي تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته. والفعل (ولى) هنا يحتمل التولية. فإن كان من باب الولاية يكون المعنى ما ذكرنا. وإن كان من باب التولية يكون المعنى فلنجعلنك تتوجه سمت القبلة التي تحبها وتميل إليها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: نحوه. فصار المعنى: «اجعل تولية وجهك تلقاء المسجد الحرام. وهل المراد إصابة عين الكعبة أو المراد الجهة؟ قولان للأئمة في ذلك. والأكثر على أن المراد الجهة وهو أحد قولين للشافعي. ومما استدل به الحنفية وغيرهم على أن المراد إرادة الجهة لا عين القبلة من الآية، أن الآية ذكرت المسجد الحرام ولم تذكر الكعبة بالذات. فدل ذلك على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. واستدلوا كذلك بقوله عليه الصلاة والسلام ما بين

[سورة البقرة (2): آية 145]

المشرق والمغرب قبلة وهذا لمن كان في جهة الشمال أو الجنوب من الحرم. واستدلوا كذلك بالحديث «البيت قبلة لأهل المسجد. والمسجد قبلة لأهل الحرم. والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي». أخرج ابن جريج عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «أي حيثما كنتم من الأرض وأردتم الصلاة فولوا وجوهكم نحوه». قال ابن كثير: أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ولا يستثنى من هذا شئ سوى النافلة في حالة السفر. فإنه يصليها حيثما توجه قالبه، وقلبه نحو الكعبة. وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئا في نفس الأمر؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليها الشافعي وأحمد وأبو حنيفة قال شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع، وقد ورد به الحديث. وأما في حال ركوعه، فإلى موضع قدميه. وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حجره. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ليعلمون أن التحويل أو التوجه إلى الكعبة هو الحق من الله عزّ وجل، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب بشقيهم من يهود ونصارى يعلمون أن النبوة القادمة المبشر بها قبلتها كعبة إبراهيم، وهذا واضح لكل من تأمل موضوع البشارات بالنبوة القادمة في كتب العهد القديم التي هي محل اعتماد اليهود والنصارى. إذ في هذه البشارات كما نقلنا نصوصها في كتابنا «الرسول» صلى الله عليه وسلم الفصل الخامس، كلام عن مكة، وإشارات إلى الكعبة بالذات. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ هذا وعيد للكافرين بالعقاب والعذاب على الجحود وإنكار الحق وكتمانه وإبائه. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ. وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يخبر تعالى في هذه الآية عن كفر أهل الكتاب، ومنهم اليهود. إذ هم المرادون أولا بهذا النص، يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفون من شأن رسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على

[سورة البقرة (2): آية 146]

صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم، كما في الآية إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه مستمسك بأمر الله وطاعته، واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله. وفي الآية تحذير العالم من مخالفة الحق الذي يعلمه إلى الهوى. فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأن تركهم المتابعة ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة. إنما هو عن مكابرة وعناد. وفي النص برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ. هذا حسم لأطماعهم، إذ كانوا اضطربوا في ذلك، وقالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وطمعوا فى رجوعه إلى قبلتهم. ووحدت القبلة فى النص مع أنهما قبلتان: قبلة لليهود، وقبلة للنصارى لاتحادهم فى البطلان وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي مع إنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة. وأن دين الله هو الإسلام إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق، وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته، ويتبع الهوى. والخطاب في الظاهر للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد أمته. وقد لزم الوقف على الظالمين في الآية. إذ ليس الَّذِينَ بعدها صفة لها. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. يخبرنا تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده من بين أبناء الناس كلهم. والعرب تضرب المثل في صحة الشئ بهذا. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ أي محمدا عليه الصلاة والسلام، أو القرآن، أو تحويل القبلة، والأول أظهر كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: «أنا أعلم به مني

[سورة البقرة (2): آية 147]

بابني. فقال له عمر: ولم؟. قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي. فأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه». وفي رواية: «نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته، فعرفته. وإني لا أدري ما كان من أمه» أي من أم ابنه. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي الذين لم يسلموا لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ حسدا وعنادا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الله تعالى بينه في كتابهم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: الحق من الله لا من غيره. يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله. كالذي أنت عليه. وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين في أنه من ربك. وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: ولكل أهل دين من أهل الأديان قبلة يرضونها. ووجهة الله حيث ما وجه المؤمنين فيا أيها المؤمنون جدوا في الخيرات، وليسابق بعضكم بعضا. أو جدوا في الخيرات حتى تسبقوها وتكونوا أمامها. فالله تعالى هو القادر على جمعكم من الأرض، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم. وَلِكُلٍّ من أهل الأديان قبلة وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها. الضمير (هو) إما أن يعود لأهل كل دين. وإما أن يعود إلى الله. والضمير في موليها يعود على الوجهة. فصار المعنى على الاتجاه الأول في الضمير: ولكل أهل دين من الأديان قبلة يوليها وجهه. ويتوجه إليها منكم ومن غيركم. وعلى الاتجاه الثاني في الضمير: أن لأهل كل دين قبلة وجهها الله إليهم في الأصل. وقد وجه هذه الأمة لقبلتها الجديدة التي هي القبلة الحق للناس والبشر. فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فاستبقوا أنتم وغيركم من الأمم الخيرات. فأهل كل دين سابق عند ما كانوا على الحق، فعلوا الخيرات. فأنتم فافعلوا وحاولوا أن تسبقوا. أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فيفصل بين المحق والمبطل. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شئ أراده. ويمكن أن تفهم الآية فهما آخر هو: ولكل منكم يا أمة محمد وجهة يصلي إليها، جنوبية أو شمالية، أو شرقية، أو غربية. فاستبقوا الفاضلات من الجهات. وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعا. ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة. وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام. وقد رد الألوسي هذا الاتجاه. ويمكن أن تفهم بداية الآية على ما ذكر هنا، ونهايتها على ما ذكر من قبل.

فوائد

فوائد: 1 - في التأكيدات الأخيرة من قوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ قال الألوسي: تعظيم لأمر الحق، وتحريض على اقتفائه، وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الإنذار عليه أحوج، حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته. فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي، والمعني به غيره. لكن القرطبي يرى أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. والمراد به أمته. 2 - عند قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ يقول صاحب الظلال: (وإن كثيرا من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة .. وهذا وهم .. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه. يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وسلطانهم، ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق، وشتى الوسائل، عن طريق مباشر، وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجها لوجه، ويحاربونه من وراء ستار، ويحاربونه بأنفسهم، ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار ... ) 3 - وعند قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يقول الألوسي: (وليس المراد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. لأن النهي عن شئ يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه، وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. بل المراد إما تحقيق الأمر، وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه. فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر. وعند النص نفسه يقول صاحب الظلال: «وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير، ونحن في بلاهة منقطعة النظير- نروح نستفتي المستشرقين- من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار .. في أمر ديننا، ونتلقى عنهم تاريخنا، ونأمنهم على

مسائل

القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتنا لقرآننا وحديث نبينا، وسيرة أوائلنا ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتعلمون عنهم علوم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم، ثم يعودون إلينا مدخولي العقل والضمير. إن هذا القرآن قرآننا. قرآن الأمة المسلمة. وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره. وأهل الكتاب هم أهل الكتاب. والكفار هم الكفار، والدين هو الدين». مسائل: 1 - قال القرطبي: «لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها. وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له. وعليه إعادة كل ما صلى. ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها، أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها. فإن خفيت عليه، فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم، والرياح، والجبال، وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة. وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة». قال عطاء ومجاهد: «واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين، أو الجهة؟ فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف. لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ يعني من الأرض من شرق أو غرب فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت». 2 - من مجئ قوله تعالى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ بعد وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فهم بعضهم أن المراد منه، المبادرة بالصلاة أول وقتها أفضل وهو مذهب الشافعي، وبعض الأئمة كمالك فصل. فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما

كلمة في السياق

أفضل، وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه، وأما الظهر فأول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وأما العصر فتقديمها أفضل .. والحنفية يرون أن الإسفار في الفجر أفضل. ويوافقون مالكا فيما سوى ذلك. ومناقشة الموضوع تكون في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها. فإن فضل الجماعة معلوم. وفضل أول الوقت مجهول. وتحصيل المعلوم أولى، قاله ابن العربي. كلمة في السياق: جاءت الفقرة الأولى من مقطع القبلة بمثابة مدخل ومقدمة لتحويل القبلة. فبينت حكمة التحويل، وحكمة التوجه إلى القبلة الأولى، وعلمت المسلمين كيف يردون على الاعتراضات، وطمأنتهم على صلاتهم الأولى وثبتتهم على أمر الله. ثم جاءت الفقرة الثانية وفيها الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في الصلاة، وأن هذا الأمر إنما جاء بعد تطلع إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا التوجه معلوم لأهل الكتاب الذين يعرفون أن كعبة إبراهيم هي قبلة أمة النبي المبشر به. ثم بينت الفقرة أنه لن تزال أكثر من قبلة. وأن هذه القبلة هي الحق. وأن كلا من أهل الكتاب لن يرجع عن قبلته. ثم هددت الفقرة: أن يتابع أهل الكتاب على أهوائهم. وكيف! وهم يعرفون، ويكتمون. ثم استقرت الفقرة في تقرير أن الحق من الله، ونهت عن الشك في هذا الحق. وأن لكل من الناس وجهته. وأن على هذه الأمة أن تفعل الخيرات. وأن المرجع إلى الله. ثم تأتي الفقرة الثالثة: الفقرة الثالثة: في هذه الفقرة كرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام. وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده. لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة، فكرر عليهم الأمر ليثبتوا. على أنه قد نيط بكل أمر ما لم ينط بالآخر، فاختلفت فوائدها، وفي هذه الفقرة ذكرت الحكمة في الأمر بالتوجه الدائم إلى المسجد الحرام، كما أن فيها أوامر ذكرت في معرض نعمة الأمر

التفسير

بالتوجه، وأي نعمة أجل من نعمة الهداية؟ وأي نعمة أجل من نعمة إرسال رسولنا عليه الصلاة والسلام؟ دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى عليهم السلام. التفسير: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ للسفر. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: نحوه إذا صليت. وَإِنَّهُ أي هذا المأمور به لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فراقبوا الله في أعمالكم كلها. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. قال ابن كثير: «هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار العالم. وقد اختلفوا في حكم هذا التكرار ثلاث مرات. فقيل تأكيد. لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره. وقيل بل هو منزل على أحوال: فالأمر الأول: لمن هو مشاهد الكعبة. والثاني: لمن هو في مكة غائبا عنها. والثالث: لمن هو في بقية البلدان. هكذا وجهه فخر الدين الرازي» وقال القرطبي: الأول: لمن هو بمكة. والثاني: لمن هو في بقية الأمصار. والثالث: لمن خرج في الأسفار. ورجح هذا الجواب القرطبي. وقيل إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق. فقال أولا قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. إلى قوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته، وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها. وقال في الأمر الثاني وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فذكر أنه الحق من الله. وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم. فبين أنه الحق أيضا من الله يحبه ويرتضيه. وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يحتجون باستقبال الرسول إلى قبلتهم. وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، إلى الكعبة. وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف. وقد كانوا يعظمون الكعبة. وأعجبهم استقبال الرسول لها. وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار. وقد بسطها الرازي وغيره والله أعلم.

لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. أطلق اسم الحجة على المعاندين لأنهم يسوقونه سياق الحجة. علمتنا الآية أن على المسلم أن يبطل حجج أعداء الله بمواقفه وسلوكه، وقد أبطل الله عزّ وجل حججا كثيرة للكافرين على هذه الأمة بهذا التوجه إلى القبلة. إن كثيرا من الكافرين يريدون أن يبرهنوا على أن هذا الدين مأخوذ عن غيره، بينما القاعدة الأساسية فيه هي التميز عن غيره، والقبلة من مظاهر هذا التمييز. فلو بقيت القبلة إلى غير الكعبة لكان للكافرين في ذلك كلام. ومن الحجج التي بطلت بهذا التوجه، حجة العرب في أنه كيف يكون على ملة إبراهيم ويتوجه إلى غير بيته، ومن الحجج التي بطلت. زعم المشركين من العرب أن محمدا وأصحابه لا يعظمون الكعبة، ومن الحجج التي بطلت. حجة أهل الكتاب أنه بالإمكان أن يتابع محمد أهل الكتاب ما دام تابعهم في بعض دينهم. فكان التوجه نحو الكعبة قطعا لطمع أهل الكتاب في متابعة هذه الأمة. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ: الذين ظلموا هنا، إما اليهود، وإما قريش في ساعة نزول القرآن. وهي عامة في كل ظالم، لأن الاستثناء من الناس. وكلمة الناس يدخل فيها الجميع. دلت الآية على أن المسلم لا ينبغي أن يبالي بالكلمة الظالمة، ولا بحجة الظالم. ولكن عليه أن يبطل الحجج حتى لا ينخدع بها غير قائليها من الظلمة. وبالنسبة لموضوعنا إذا حملنا الآية على أن المراد بالظالمين اليهود، فإنهم قالوا: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه، وحبا لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام. وإذا حملنا الآية على أن المراد بالظالمين مشركو قريش إذ قالوا: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم. مثل هذه الحجج لا ينبغي أن تلتفت إليها هذه الأمة التي تعلم أن الحق والخير هو في طاعتها لله في جميع أحوالها. فلا تخرج عن أمر الله طرفة عين إلى كلام الخارجين عن أمر الله. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي. أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين. وأفردوا الخشية لي. فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه. فصار المعنى: لا تخشوا الظالمين، فتخافوا مطاعنهم فإنهم لا يضرونكم. واخشوني، فلا تخالفوا أمري. وهكذا شأن المسلم. إذا كان على الحق فإنه لا يبالي بأحد. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ هذه معطوفة على قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ فصار المعنى وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة، ولأتم نعمتي عليكم. ومن أجل هدايتكم. وإتمام النعمة هنا بشرع استقبال الكعبة، لتكمل الشريعة من جميع وجوهها. وتتميز هذه الأمة بشعائرها وشرائعها. وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مما

[سورة البقرة (2): آية 151]

ضلت عنه الأمم في كل ما هو الأحب إلى الله والحق عنده، هديناكم إليه، وخصصناكم به. ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ. هذه الآية، إما أنها متعلقة بما قبلها، فيصبح المعنى: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول الذي يتلو ... وإما أنها متعلقة بما بعدها. فيصبح المعنى: كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. فعلى هذا القول يوقف على تَهْتَدُونَ وعلى القول الأول لا يوقف. والخطاب في مِنْكُمْ للعرب. وفي ذلك إشعار للعرب بنعمة الله عليهم. فما أخس العرب إذا تركوا دعوة الله ودينه بعد ما خصهم الله بها من جميع الأمم. وكلفهم بتبليغها لكل الأمم. يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أي: يقرؤها عليكم. وآيات الله هي كتابه. وَيُزَكِّيكُمْ أي: يطهركم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجكم من الظلمات إلى النور. وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ. أي: القرآن. فهو يقرأ عليهم القرآن ويعلمه لهم. ففي التعليم زيادة على التلاوة. وذلك أن التلاوة وحدها مقصودة. وتعليم القرآن كذلك مقصود ولهذا فإن علينا أن نقيم حلقات التلاوة والتجويد، كما نقيم حلقات التفسير. وَالْحِكْمَةَ الحكمة: السنة والفقه. وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي. كانوا في الجاهلية الجهلاء، فانتقلوا ببركة رسالته، ويمن سفارته إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء. فصاروا أعمق الناس علما، وأبرهم قلوبا، وأقلهم تكلفا، وأصدقهم لهجة. ولهذا ندب الله المؤمنين بالآية التالية إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. فاذكروني بالطاعة، أذكركم بالمغفرة. أو بالثناء والعطاء. أو اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. أو اذكروني بالتوبة، أذكركم بعفو ... أو اذكروني بالإخلاص، أذكركم بالخلاص. أو اذكروني بالمناجاة، أذكركم بالنجاة. أو اذكروني بهذا كله وغيره ومثله، أذكركم بهذا كله وغيره ومثله. واشكروا لي ما أنعمت به عليكم ولا تكفرون أي: لا تجحدوا نعمائي. أمر الله تعالى بشكره، ووعد على شكره بمزيد الخير وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. (سورة إبراهيم) قال الله عزّ وجل: «يا ابن آدم .. إن ذكرتني في نفسك، ذكرتك في نفسي. وإن ذكرتني في ملأ، ذكرتك في ملأ من الملائكة. أو قال: في ملأ خير منه. وإن دنوت مني شبرا، دنوت منك ذراعا. وإن دنوت مني ذراعا، دنوت منك باعا. وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة».

فوائد ومسائل

صحيح الإسناد. أخرجه البخاري من حديث قتادة. وعنده قال قتادة: الله أقرب بالرحمة. قال الحسن البصري: «إن الله يذكر من ذكره. ويزيد من شكره. ويعذب من كفره». فوائد ومسائل: 1 - قال صاحب الظلال في تفسير الشكر: «والشكر درجات. تبدأ بالاعتراف بفضله، والحياء من معصيته. وتنتهي بالتجرد لشكره. والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان». 2 - قال القرطبي: «الخشية أصلها: طمأنينة في القلب، تبعث على التوقي والخوف. فزع القلب تخف به الأعضاء. ولخفة الأعضاء به سمي خوفا». وقال: «وأصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي باللسان ذكرا، لأنه دلالة على الذكر القلبي. غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم». ونقل عن سعيد بن جبير قوله: «الذكر طاعة الله. فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن». وقال القرطبي: «وسئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته». 3 - ذكر القرطبي الخلاف في المتنفل في السفر على الدابة. هل يتوجه في ابتداء صلاته إلى القبلة ثم يتم صلاته حيث توجهت به راحلته، أو لا يلزمه التوجه إلى الكعبة أصلا ابتداء وانتهاء؟ فذكر أن مذهب الشافعي وأحمد وأبي ثور، الأول. وأن مذهب مالك أنه لا يلزم الاستقبال. أقول: وفي قول مالك فسحة لمن أراد التنفل في عصرنا وهو مسافر راكب. لأنه قد يشق عليه أن يتوجه إلى القبلة في ابتداء صلاته إذا كان راكبا سيارة أو قطارا ... 4 - تزكية النفس بدايتها ونهايتها التوحيد. ويدخل في ذلك تطهيرها من أمراضها وتحقيقها بكمالاتها. ومنعها المحرمات وإقامتها للطاعات. والأمر واسع جدا، وتزكية الأمة بإقامة شرع الله كاملا. والأمر كذلك واسع. والرسول صلى الله عليه وسلم تلا علينا الآيات وزكانا، وعلمنا القرآن وعلمنا السنة. فأصبحنا بذلك نضع الأمور كلها في مواضعها

فأصبحنا حكماء. وعلمنا الطريق الذي نتعرف به حكم الله، والذي نصل به إلى كل حكم عادي أو عقلي في أمر دنيا أو أخرى. فأي نعمة أجل؟. وفي منة الله علينا بالتزكية بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول صاحب الظلال: «ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهرهم. يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتغمره. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات. فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة. والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبئ من الشهوات والنزوات، تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة. وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الإنسان بدون الإيمان، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب .. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر ويلطخ المجتمع والحياة. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي. وينشر العدل النظيف الصريح الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في الإسلام، وحكم الإسلام، ومنهج الإسلام. ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور ... ». 5 - ذكرت الآية كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بعض مهمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن من الوراثة الكاملة لرسول الله أن يقوم إنسان ما بهذه الوظائف، فيزكي الأنفس بالعلم والعمل والحال والقدوة. ويقيم حلقات التلاوة وحلقات التفسير، وحلقات السنة، وحلقات الفقه. وإن على المسلمين جميعا أن يقيموا هذا أخذا وعطاء. والتلاوة واضحة. وطريق إقامتها واضحة. ويدخل فيها علم التجويد وآداب التلاوة. وتعليم الكتاب والحكمة واضح. ويدخل في ذلك علم التفسير للكتاب والسنة. ومن علم القرآن بتفسير آياته من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قد حقق ذلك. وتعليمنا ما لم نكن نعلم يدخل فيه الفقه في الدين بشكل شامل في كلياته، وجزئياته، ويدخل فيه علم الفقه وأصوله، وعلم التوحيد، وأمثال ذلك. بقيت قضية التزكية. فالتزكية في الحقيقة شئ زائد على العلم. فالعلم يعطي القواعد والبيان لكل شئ. أما التزكية فهي تطبيق هذا العلم على النفس البشرية، وأمراضها، وأغراضها،

كلمة في الفقرة وسياقها، والمقطع وسياقه

ومعرفة بالتطبيب وطرقه، ومعرفة بالكمال وكيفية النقل إليه، وأدوات ذلك، وفراسة خاصة بكل نفس لنقلها من حال إلى حال. وهذا شئ للكسب فيه نصيب. ولكن عطاء الله هو الأساس وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. 6 - روى الإمام أحمد عن عائشة (رضي الله عنها) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أهل الكتاب: «إنهم لا يحسدوننا على شئ كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله إليها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين» أقول ولا زالت الجمعة والجماعة والكعبة هي أعظم مظهر من مظاهر وحدتنا التي تغيظ الكفار. 7 - روى الإمام أحمد عن أبي رجاء العطاردي قال: «خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه». 8 - جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن. وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام. فاستداروا إلى الكعبة». قال ابن كثير: وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه. لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء. كلمة في الفقرة وسياقها، والمقطع وسياقه: 1 - كررت هذه الفقرة الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، وبينت الحكمة في ذلك وهي: قطع الطريق على أي كلمة يقولها كافر محتجا على هذه الأمة. وإتمام النعمة على هذه الأمة بأن تكون أمة متميزة. وهداية هذه الأمة إلى الحق في كل شئ. وفي الأصل ومن أجل الهداية الكاملة بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. وبمناسبة الكلام عن ذلك ذكر الله عزّ وجل مجموع ما أنعم به على هذه الأمة من هداية من خلال بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: التعريف بآياته، وتعليم الكتاب والحكمة، وتطهير الأنفس، والتعريف على كل ما يحتاج إلى تعليم. وعندئذ يذكرنا الله عزّ وجل بما ينبغي أن نقابل ذلك: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ كما أرسلت فيكم رسولا فعل لكم كذا وكذا. فقابلوا ذلك بالذكر والشكر. ويأتي المقطع اللاحق ليدلنا على طريق الذكر والشكر كما سنرى.

وهكذا نجد أن مقطع القبلة في فقراته الثلاث قد تكاملت المعاني فيه حتى وضع قضية القبلة في محلها في حياة هذه الأمة، مبينا قيمة هذا التوجه الكريم إلى كعبة إبراهيم. 2 - يلاحظ أن مقطع (إبراهيم) عليه السلام قد وردت فيه دعوة إبراهيم لذريته وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وفي مقطع القبلة يمن الله على هذه الأمة أنه فعل ذلك. ويأتي ذلك في معرض الكلام عن اتخاذ كعبة إبراهيم قبلة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. وفي ذلك من تكامل المقطعين وترابطهما ما فيه. 3 - جاء مقطع القبلة في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... فهو يعرفنا على قضية من قضايا العبادة. وهي التوجه إلى الله في العبادة، التي هي عمود الإسلام لله رب العالمين. فمحل المقطع في سياق قسمه واضح المعالم. 4 - وكان مقطع القبلة استمرارا للحوار مع أهل الكتاب. وهو حوار فتح منذ مقطع بني إسرائيل، واستمر في مقطع إبراهيم، ولا يزال. 5 - إن المقطع اللاحق لمقطع القبلة مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. ومقطع القبلة له صلة بالصلاة. فصلة ذلك ببعضه، وصلة ذلك بالعبادة، وصلة ذلك كله بقضية التقوى التي جاءت مقدمة سورة البقرة، لتقرر فيها الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ .... ثم صلة ذلك كله بقضية الهداية الربانية. وهي ما أوصلتنا إلى وجوبه قصة آدم. إن صلات ذلك كله ببعضه لا تخفى على المتأمل. وما يفوت كل متأمل على حدة من إدراك الصلات، وما يفوت الجميع كثير كثير. 6 - يلاحظ أن مقطع القبلة سبق بمقطعين كانا بمثابة المقدمتين له. لقد رأينا كيف شوش أهل الكتاب على المسلمين في موضوع القبلة. فكان مقطع بني إسرائيل وما ذكر فيه بمثابة تفريغ للثقة أصلا بأهل الكتاب عامة، وباليهود خاصة. فكان كالمقدمة الأولى لجعل هذا التشويش لا قيمة له. ثم جاء مقطع إبراهيم فكان استمرارا لعملية تحطيم الثقة، وتمهيدا لقضية القبلة. فكان كالمقدمة الثانية. ثم جاء مقطع القبلة. فإذا تذكرنا هذا. وتذكرنا ما مر معنا من قبل ندرك درسا من دروس الحكمة

المقطع السادس والأخير من القسم الأول من سورة البقرة

الربانية في أن الله جعل هذا القرآن على ما هو عليه من ترتيب، وندرك بذلك لم لم يكن هذا القرآن فصولا وأبوابا تضع النظير إلى جانب النظير. والأمر أوسع من ذلك بكثير كما سنرى. ولكنها لفتة أحببنا أن نذكرها هنا. 7 - لقد بدأ مقطع القبلة بالكلام عن التوجه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وانتهى بالأمر بالذكر والشكر. وقبل ذلك جاءت قصة إبراهيم عليه السلام. وجاء مقطع بني إسرائيل. وجاء مقطع آدم عليه السلام. وجاء قبل ذلك كله الأمر بالعبادة. فكان مقطع القبلة بعد تقريرات كثيرة لشئون كثيرة، هو التبيان العملي لأمور عملية في موضوع العبادة. وكأن ما سبقه بمثابة أساس نظري لبناء الجانب العملي. وسنرى كيف أن الجانب النظري والعملي سيتساوقان في المقطع اللاحق. ثم لنرى أن بدايات القسم الثاني من السورة كذلك. ثم يتمحض القسم الثاني لتقرير أمور عملية تتكامل خلالها قضية بناء التقوى ليأتي بعد ذلك القسم الثالث في البقرة فيكمل بناء الأمة المشرق بالإسلام. ويكمل بناء الإسلام. 8 - عمق مقطع القبلة في سياقه أن الأصل هو طاعة الله. واتباع هداه. والقيام بالتكليف كائنا ما كان. لا اتباع الهوى في مثل توجه نحو شرق وغرب قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وسنرى أن المقطع الأول من القسم الثاني من سورة البقرة سينتهي بآية لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَلكِنَّ الْبِرَّ ... فلنتذكر الصلة بين هذا المقطع وآية البر التي ستأتي، والتي هي خاتمة الحوار الذي بدأ مع أهل الكتاب في سورة البقرة. وسنرى من خلال هذه الصلة كيف أن الصلات بين أقسام سورة البقرة، والمقاطع في هذه الأقسام، وبين المقدمة والخاتمة والوسط واسعة جدا، حتى لا يحاط بها. وفي ذلك مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن. المقطع السادس والأخير من القسم الأول من سورة البقرة: ويمتد هذا المقطع من الآية (153) إلى نهاية الآية (167) ويتألف من فقرتين وهذا هو. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 162] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية:

كلمة في هذا المقطع وسياقه

[سورة البقرة (2): الآيات 163 الى 167] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) كلمة في هذا المقطع وسياقه: يأتي هذا المقطع خاتمة لقسم وفيه معان متعددة. وقد لا يلحظ المتأمل لأول وهلة الصلات التي تربط بين معاني هذا المقطع نفسه فضلا عن الصلات بينه وبين ما سبق ولذلك فإننا نرجو أن يتابعنا القارئ بدقة ونحن نعرض لمحل هذا المقطع في السياق ولسياقه الخاص به: 1 - سبق هذا المقطع بشكل مباشر قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي

وَلا تَكْفُرُونِ. وجاء هذا المقطع ليدلنا على جوانب في الذكر والشكر والكفران. فالاستعانة بالصبر والصلاة ذكر. ومن ذكر الله بالصبر ذكره الله بالرحمة. ومن شكر الله، السعي بين الصفا والمروة. ومن الكفران، كتمان ما أنزل الله. وجزاء الكفران، اللعنة. ورأس الذكر والشكر، التوحيد. وإن مما يدل على التوحيد ويستخرج به الذكر والشكر ما أنعم الله على الإنسان من كثير النعم. ومع أن مقتضيات الذكر والشكر كثيرة فهناك ناس يتخذون من دون الله أندادا ... على هذه الشاكلة تتسلسل المعاني في هذا المقطع، وصلة ذلك في الآية السابقة مباشرة على المقطع واضحة جدا. 2 - بدأ هذا القسم بالدعوة إلى العبادة والتوحيد للتحقق بالتقوى. ونفر عن السلوك المؤدي إلى الكفر والنفاق والفسوق. ثم جاء مقطع آدم، فمقطع بني إسرائيل الذي كان في بدايته النهي عن كتمان الحق وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وكان فيه حوار مع أهل الكتاب، ثم جاء مقطع إبراهيم وفيه تركيز على الكعبة وذكر للمناسك، ثم جاء مقطع القبلة، ثم جاء المقطع الأخير في القسم، وله صلة بذلك كله: فمواقف أعداء الله تحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة، وهما عبادة، وارتباط ذلك بالأمر بالعبادة وبالأمر الذي وجه لبني إسرائيل ولم يعقلوه وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. وبالحوار معهم، وبالقبلة، واضح. والصفا والمروة من شعائر الله. فالكلام عنهما استكمال للكلام الذي بدأ في مقطع إبراهيم. والترهيب من كتمان ما أنزل الله، والترهيب من الكفر هو التحذير المتوقع بعد هذه الجولات الطويلة مع اليهود وغيرهم، وإعلان التوحيد. والتنديد بالمشركين في آخر المقطع هو مظهر الانسجام الكامل بين بداية القسم كله ونهايته. لاحظ كيف أن بداية القسم كانت دعوة لعبادة الله وحده. وتعليلا ونهيا عن الشرك: [سورة البقرة (2): الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

الفقرة الأولى

إن في هذه البداية دعوة إلى العبادة والتوحيد. وتعليلا لهذه الدعوة، كما فيها نهي عن الشرك. وانظر نهاية القسم ففيها إعلان التوحيد. والتعليل له والتحذير من الشرك. الإعلان: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. التعليل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي ...... التحذير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ....... وهكذا نجد أن الصلة بين هداية هذا القسم ونهايته على أوضح ما تكون. وإذا اتضحت الصلة بشكل عام بين هذا المقطع والآية السابقة عليه. وبين هذا المقطع والمقاطع السابقة عليه فلنبدأ عرض المجموعة الأولى من الفقرة الأولى منه. إذ المقطع فقرتان، الفقرة الأولى: تعرض ما هو ذكر وشكر، وتوضح قضايا من الكفر. والفقرة الثانية: تعرض ما هو ذكر وشكر، وتوضح جوانب من الكفر: [الفقرة الأولى] المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. الصلة واضحة بين هذه المجموعة وما قبلها من حيث إن جولات الحوار السابقة التي عرضها القرآن بين أهل الإيمان وغيرهم تقتضي تثبيتا ومساعدات على هذا الثبات كما أن جولات الحوار تخللها ما يدل على أن الكافرين والظالمين ستكون لهم مواقف إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وهذا يقتضي ما يقابله بشكل مكافئ. فإذا وقع ما وقع فكيف ينبغي أن تكون مواقف هذه الأمة. مثل هذه المعاني كلها وغيرها انتظمتها المجموعة الأولى في الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.

[سورة البقرة (2): آية 154]

لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر شرع في بيان الصبر والإرشاد إلى ما يتم به، من معرفة بالله وبما أعد للشهداء والصابرين. وقد أمر بهذه الآية بالاستعانة بالصبر والصلاة فهما أجود ما يستعان به على تحمل المصائب. وفي الحديث «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» والصبر صبران: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات، والثاني أكثر ثوابا، لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب. ويدخل بالأمر بالاستعانة بالصبر، الصوم لأنه نصف الصبر. كما يدخل بالأمر بالاستعانة بالصلاة قراءة الفاتحة والدعاء. لأن الفاتحة صلاة ولأن الدعاء صلاة. ولكن المقصود الرئيسي من الصبر التصبر. فإذا وضح هذا نقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ لأنه به تنال كل فضيلة وَالصَّلاةِ لأنها تنهى عن كل رذيلة وتعطي صاحبها اطمئنانا. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة. قال عليه الصلاة والسلام «عجبا للمؤمن لا يقضي له الله قضاء إلا كان خيرا له .. إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له». قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان. والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله». وقال سعيد بن جبير: «الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه. وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر». وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تبغون. فقالوا: يا ربنا وأي شئ نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. ثم عاد عليهم بمثل هذا. فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى. لما يرون من ثواب الشهادة. فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون». وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر تعلق

[سورة البقرة (2): آية 155]

في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى حيث يبعثه». ما يدل على أن هذا الخير لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر بالقرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما. وفي الآية نهي لنا أن نصف من قتل في سبيل الله بالموت، إذ هو حي حياة لا نشعر بها، لأن حياة الشهداء لا تعلم حسا. ذكر النسفي عن الحسن رضي الله عنه: (أن الشهداء أحياء عند الله، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا، فيصل إليهم الوجع). وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. أمر في بداية المقطع بالاستعانة بالصبر والصلاة. ووعد على الصبر النصر والمعونة. ثم ذكر بعد ذلك ما يعين على الصبر على أعظم المصائب في الله وهو القتل، بأن عرفنا حال الشهيد عنده. ثم بين لنا حال الصابرين، وحقيقة الصبر، وأجره، وعلى ماذا يكون، فاستكملت المجموعة بذلك قضية الصبر المكمل للشكر، الذي طولبنا به في نهاية المقطع السابق. وهل الإسلام إلا صبر وشكر وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ. أي: لنمتحننكم ولنختبرنكم بِشَيْءٍ أي: بقليل مما ذكر. وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه. ويرينا أن رحمته معنا في كل حال. وأعلمنا بوقوع البلواء قبل وقوعها لنوطن نفوسنا عليها مِنَ الْخَوْفِ خوف العدو وَالْجُوعِ القحط أو الإملاق أو الفاقة أو العوز. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أي: ذهاب بعضها كموت المواشي وأمثال ذلك وَالْأَنْفُسِ كموت أو قتل الأصحاب والأقارب والأحباب والإخوان، أو بالمرض والشيب. وَالثَّمَراتِ فلا تقل الحدائق والمزارع كعادتها. قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر إلا واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده. فمن صبر أثابه ومن قنط حل به عقابه. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة. والصابرون: هم الذين صبروا على هذه البلايا واسترجعوا عندها لأن الاسترجاع تسليم وإذعان. وهذا غاية الصبر. وأعلى منه الرضى. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ من مكروه أو شدة. قالُوا إِنَّا لِلَّهِ إقرارا له بالملك. وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار على أنفسهم بالهلك والعودة إليه، يتسلون بقولهم هذا عما أصابهم. عالمين أنهم ملك لله. يتصرف بعبيده بما يشاء وأنه لا يضيع

[سورة البقرة (2): آية 157]

لديه مثقال ذرة يوم القيامة. فأعطاهم الله مقابل اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة أن رحمهم وأمنهم وهداهم. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي تعطف وحنو. وَرَحْمَةٌ أي: أمنة من العذاب. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ إلى الطريق الصواب وذلك حين استرجعوا وأذعنوا لأمر الله. قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة أي: الصلاة والرحمة والاهتداء. فوائد: 1 - قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، ظلمات الشهوة والشك والشرك والكفر والنفاق والحيرة وغير ذلك. وقد جعل الله عزّ وجل مما لو فعلناه صلى علينا ما رأينا في هذه الآيات عند ما ذكر المسترجعين عند المصيبة، الصابرين عليها فإنه يصلي عليهم فلنحصل هذا المقام. 2 - ورد في الاسترجاع آثار كثيرة منها: أخرج الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: «أتاني أبو سلمة رضي الله عنه يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به، قال: لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا فعل ذلك. قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه. فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. ثم رجعت إلى نفسي فقلت من أين لي خير من أبي سلمة؟. فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي. فغسلت يدي من القرظ وأذنت له. فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف. فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت يا رسول الله: ما بي أن لا يكون بك الرغبة، ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن. وأنا ذات عيال. فقال صلى الله عليه وسلم: وأما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عزّ وجل عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي».

قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه: (رسول الله صلى الله عليه وسلم)» وفي صحيح مسلم بمعناه. وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها- وقال عباد: قدم عهدها- فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله عزّ وجل له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب». وأخرج الإمام أحمد والترمذي وقال حسن غريب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: يا ملك الموت. قبضت ولد عبدي؟. قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟. قال نعم. قال: فما قال؟. قال: حمدك واسترجع. قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد». 3 - بعد الأمر بالشكر جاء الأمر بالصبر. والشكر أعلى مقامات السالكين. ولا سلوك بلا صبر. فالصبر زاد الطريق من بدايته إلى نهايته. وقد يجر الهلع والجزع وانعدام الصبر إلى الكفر والعياذ بالله وأعلى من الصبر والتسليم والرضا بقضاء الله فيما ابتلى. وقد جاء الكلام عن الذكر والشكر والصبر والصلاة بين القبلة والسعي بين الصفا والمروة مما يذكرنا بأن هذا الدين شعائر كما أنه شرائع. وخصائص نفسية كما هو أعمال بدنية. وأن لتكوين النفس ارتباطا بعمل البدن ... 4 - يلاحظ أن الخطاب الأول للمؤمنين بصيغة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .... في هذه السورة جاء في سياق الحوار مع بني اسرائيل. فكان هناك بمثابة درس في سياق خطاب الآخرين، إلا أن هذه المجموعة في هذا المقطع يتوجه فيها الخطاب لأهل الإيمان بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. بشكل مباشر في السياق. فكأن الإيمان نما لدرجة استقلال شخصية أصحابه بعد أن أصبحوا مستقلين بقبلتهم. فأصبحوا يخاطبون بشكل مباشر. لا من خلال لفت نظر، أو إعطاء درس من خلال تصرفات الآخرين. وهذه نقطة مهمة في الدعوة والتربية: فكثيرا ما يضطر الداعية والمربي إلى تحريك العواطف الإيمانية، من خلال لفت النظر إلى تصرفات أهل الكفر. ولكن هذا إنما يكون بمثابة علاج لقصور أو لفتور أو لمرض

ريثما يعي المسلم حقيقة مركزه في الوجود. فلا ينظر إلى الأمور إلا من خلال وظيفته كإنسان مكلف أمام الله. فيرى الأمور كلها ببصيرة أهل الإيمان. 5 - يقدم صاحب الظلال لهذه المجموعة بقوله: «بعد تقرير القبلة وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك .. كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس .. كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم. والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والخوف والجوع، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس، وإقراره في الأرض بين الناس، وربط قلوب هذه الأمة بالله ورحمته وهدايته وهي وحدها جزاء ضخم للمؤمن الذي يدرك قيمة هذا الجزاء». ويختم صاحب الظلال الكلام عن هذه المجموعة معلقا على قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بقوله: «وبعد. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد والاستشهاد والقتل والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف. إن الله يضع هذا كله في كفة، ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا .. صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون .. إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا ولا يعدهم مغانم ولا يعدهم هنا شيئا، إلا صلوات الله ورحمته وشهادته .. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها، وأكبر من حياتها. فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية- حتى الرغبة في انتصار العقيدة- كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شئ إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها. إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس

كلمة في سياق المجموعة

والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة إن الكفة ترجح بهذا العطاء، فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر، وأرجح من التمكين، وأرجح من شفاء غيظ الصدور. هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب. وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين». كلمة في سياق المجموعة: انتهت المجموعة بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لاحظ كلمة الْمُهْتَدُونَ. وتذكر خاتمة قصة آدم عليه السلام: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. ثم تذكر مقدمة سورة البقرة وفيها ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إذا أدركت هذا كله أدركت محل هذه المجموعة في السياق القرآني وأدركت قيمة الصبر في دين الله. وأدركت الجانب العملي في هذا المقطع بعد ذلك الحوار الطويل. ثم إذا لاحظت أن هذه المجموعة جاءت بعد قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. فإنك ترى فيها نموذجا على ذكر نفعله لله، ونموذجا على نوع من الذكر يذكرنا الله به. فإذا ذكرت الله عند المصيبة بالاسترجاع، ذكرك الله بالصلاة عليك والرحمة لك. كما ترى فيها نموذجا على نوع من الكفر لا ينبغي أن يقربه الإنسان. وهو أن يقول لمن يقتل في سبيل الله إنه ميت. وقد جاءت هذه المجموعة في مقطعها قبل الأمر بالسعي بين الصفا والمروة، وقبل الترهيب من كتمان ما أنزل الله، وقبل التحذير من الموت على الكفر، وقبل إعلان التوحيد. وكلها قضايا تحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة. وجاء هذا المقطع خاتمة لقسم وسابقا لقسم. وفي القسم الثاني من سورة البقرة أوامر ونواه، منها الأمر بأكل الطيبات، ومنها الأمر بالصوم، ومنها الأمر بالقتال، ومنها الأمر بالحج. وكلها تحتاج إلى صبر وإلى استعانة بالصبر والصلاة. كما جاء المقطع بعد سياق طويل. فكان ما سبقه يحتاج إلى هذا التعليم للمؤمنين أن يستعينوا بالصبر والصلاة. وبعد المجموعة الأولى من الفقرة الأولى تأتي آية: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - إن أمر الصفا والمروة كان من المتردد فيه- كما سنرى في أسباب النزول- هل هو من الذكر والشكر اللذين أمر الله بهما قبل هذا المقطع في مقابل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم،؟ أو هو من الكفر الذي نهى الله عنه؟ ومن ثم- والله أعلم- جاء البت فيه في هذا السياق على أنه من الشكر ومن شعائر الله وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ. 2 - في سياق مقطع إبراهيم ورد كلام عن البيت، وورد دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وَأَرِنا مَناسِكَنا. ثم جاء مقطع القبلة وانصب الكلام فيه عن البيت. وفي معرض التوجيهات الكبرى التي جاءت في نهاية القسم: ذكر الله عزّ وجل شعيرة السعي بين الصفا والمروة حتى لا يفهم فاهم أنه ليس من الشعائر إلا تعظيم البيت. فهناك شعيرة أخرى في الحرم نفسه وهي شعيرة السعي بين الصفا والمروة. 3 - وفي محل هذه الآية في السياق حكمة تظهر من خلال عرض بعض المعاني فيعرف بذلك لماذا جاءت بعد مجموعة الصبر؟ فلنر ذلك: بين الله عزّ وجل في هذه الآية أن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله. أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج. وأصل ذلك مأخوذ من ترداد أمنا هاجر بين الصفا والمروة في طلب الماء لابنها إسماعيل لما نفد ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هناك وليس عندهما أحد من الناس. فلما خافت على ولدها الضيعة هناك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عزّ وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها طعام طعم وشفاء سقم. وأكرمها الله عزّ وجل وأكرم آل إبراهيم بأن جعل فعلها هذا شعيرة من شعائره إلى يوم القيامة. تتذكر فيه هذه الأمة ارتباطها بإبراهيم وآله، وتقتدي بفعله وفعل آله، وتتذكر فيه هذه الأمة عاقبة التسليم لأمر الله وطاعته مجيء الفرج بعد الشدة، وتتذكر فيه هذه الأمة تلك اللحظات الصعاب التى مرت بها أمنا هاجر أثرا عن طاعتها وطاعة إبراهيم لله. فكم هي مكافأة عظيمة أن جعل الله عزّ وجل فعلها شعيرة من شعائره إلى يوم القيامة فهذه عاقبة الصبر على أمر الله.

المعنى الحرفي

فهل وضحت الصلة بين هذه الآية وما قبلها في مجموعة الصبر؟ إن هذه الشعيرة سببها الصبر. فما نالت أمنا هاجر هذه الإمامة إلا بالصبر. وعلى هذا فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عزّ وجل: أن يزيل ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام، إذ نقلها من حال إلى حال. المعنى الحرفي: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ هما علمان للجبلين المعروفين. مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة. وهي العلامة. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أي قصده لإقامة فريضة الحج. أَوِ اعْتَمَرَ: أي زاره لإقامة العمرة. فالحج القصد والاعتمار الزيارة. ثم غلبا على قصد البيت وزيارته المعروفين. فَلا جُناحَ عَلَيْهِ: أي فلا إثم عليه أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي: أن يتطوف. وأصل الطواف المشي حول الشئ. والمراد هنا السعي بينهما. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي: بالسعي بينهما فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ يجازي على القليل كثيرا. عَلِيمٌ بالأشياء صغيرا وكبيرا. فوائد: 1 - في أسباب النزول: قال الإمام أحمد «عن عروة عن عائشة قال: قالت: أرأيت قول الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟ قلت فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي (الخطاب لعروة ابن أختها أسماء) إنها لو كانت على ما أولتها عليه كان فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله. إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عزّ وجل إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما. فليس

لأحد أن يدع الطواف بهما» أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية عن الزهري «أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهلي يقولون: إن الناس- إلا من ذكرت عائشة- كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة. فأنزل الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء». وأخرج البخاري: «عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسا عن الصفا والمروة قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما. فأنزل الله عزّ وجل: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ». 2 - في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل: «وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به». وفي رواية النسائي: «ابدءوا بما بدأ الله به». وروى الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة عن حبيبة: بنت أبي تجراة قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى، حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». ثم رواه الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا». وقد استدل ابن كثير بهذا الحديث لمذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه، ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل أنه واجب وليس بركن. فإن تركه عمدا أو سهوا جبره بدم. وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة، وقيل: بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين. وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس. وحكي عن مالك في العتبية قال القرطبي: واحتجوا بقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال: «لتأخذوا عني مناسككم». فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل. والله أعلم. وقد تقدم قوله عليه السلام: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». أقول: الذي عليه الفتوى في مذهب الحنفية، أن السعي بين الصفا والمروة في الحج واجب عند الحنفية. فما نقله ابن كثير عن أبي حنيفة في كونه مستحبا، لعله قول

ضعيف في المذهب؟!. 3 - من قوله تعالى: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما. نفهم أن السعي بين الصفا والمروة عبادة مرتبطة بالحج والعمرة، وليس عبادة مستقلة. والعمرة إحرام وطواف حول البيت، وسعي بين الصفا والمروة. أما الحج فأركانه عند الحنفية: إحرام ووقوف بعرفات ولو لحظة ما بين ظهر التاسع من ذي الحجة وفجر العاشر. وطواف الإفاضة. وما سوى ذلك عندهم فإما واجبات أو سنن. ومن سعى بعد طواف فقد أسقط واجب السعي. وإلا فإن عليه أن يسعى بعد طواف الإفاضة الذي هو طواف الركن. 4 - قال القرطبي: «ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر. فإن طاف معذورا فعليه دم. وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال: «خذوا عني مناسككم». وإنما جوزنا ذلك من العذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بغيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة وقد قالت: إني أشتكي. فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة». وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان. فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا. إنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويزمنداد: وهذه تفرقة اختيار وأما الإجزاء فيجزئ. ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه؟!. 5 - وعلى التحرج الذي تحرجه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسعوا بين الصفا والمروة ابتداء قبل نزول الإباحة علق صاحب الظلال بقوله: «وهذا هو الإسلام .. هذا هو: انسلاخا كاملا عن كل ما في الجاهلية، وتحرجا بالغا من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذرا دائما من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية. حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه .. فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة، أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى مما لا يرى فيه بأسا. ولكن يربطه بعروة الإسلام، يأتيه بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي. فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية. ولكن

المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام تستمد أصلها من الإسلام». [المجموعة الثانية من الفقرة الأولى] كلمة في السياق: جاءت آية إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ .. بعد مجموعة الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة وهي مبدوءة بكلمة (إن). وبعد ذلك يأتي معنيان، كل منهما قد جاء في آيتين. وكلاهما قد بدئت آيتاه بكلمة (إن). فههنا تقريرات مؤكدة ثلاثة. فيها معنى الأمر والنهي. الأمر الأول: طوفوا بين الصفا والمروة. النهي الثاني: لا تكتموا ما أنزل الله. النهي الثالث: لا تموتوا كفارا. فالأمر الأول: تبيان أن السعي بين الصفا والمروة من نوع الشكر. والنهي الثاني والثالث: تبيان لجوانب من الكفران لا ينبغي أن تفعل: وصلة ذلك بقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ لا تخفى. ثم إن مجئ موضوع السعي بين الصفا والمروة. والكتمان والكفر بعد مجموعة الاستعانة بالصبر والصلاة، يدل على أن هذه أمور تحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة. فالسعي بين الصفا والمروة شاق جسديا ومعنويا على طبقات كثيرة من الناس. وليس تبيان حكم الله سهلا في كل موطن. وليس أن ينتقل الإنسان من دينه إلى الإسلام هينا، إن هذا كله يحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة. ولقد كررنا الكلام كثيرا في هذا المقطع لاعتقادنا أن السياق يحتاج لذلك. أما وقد أصبح سياق الفقرة الأولى واضحا. فإن تتمة الفقرة لا تحتاج إلى وقفة طويلة. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. في الآية السابقة تقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله. وفي هذا التقرير أمر كما رأينا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا». وقد رأينا أن الصلة بين الأمر بالصبر الوارد في أول المقطع. وبين السعي بين الصفا والمروة واضحة. إذ الأمر بالسعي بين الصفا والمروة تخليد لموقف من

المعنى العام

مواقف الصبر في قصة إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، وهو يحتاج إلى صبر. وفي هذه الآية تقرير فيه معنى الطلب: أن علينا ألا نكتم حكم الله، وفيه جزاء من يخالف ذلك. وطريق التوبة من هذا والصلة بين آية الكتمان والأمر بالصبر واضحة إذ تبيان حكم الله يترتب عليه أذى كما قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ. (سورة لقمان) فالاستعانة بالصبر والصلاة والاسترجاع أشياء أساسية لمن يريد أن يبين حكم الله. المعنى العام: في الآية وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله، فهؤلاء يستحقون اللعنة. ثم استثنى الله عزّ وجل من ذلك من تاب وأصلح وبين ما قد كان كتم. المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحات وَالْهُدى أي الهداية مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أي: من بعد ما أوضحناه للناس في كتاب الله. سواء في ذلك التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو القرآن. أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي الذين يتأتى منهم اللعنة. وهم الملائكة والمؤمنون من الإنس والجن. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عن الكتمان وترك الإيمان. وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم. وَبَيَّنُوا أي وأظهروا ما كتموا. فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أقبل توبتهم. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. فوائد: 1 - دلت هذه الآية على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. 2 - يلاحظ أن التوبة من الكتمان يشترط لها: الإصلاح والبيان. فمن كان يعرف الحق في قضية ما، فإن عليه أن يتوب ويصلح ويبين. وعندئذ تقبل توبته. وإلا فإنه يستحق اللعن من الله والملائكة والناس أجمعين. فما أصعب هذا وأشده إلا على من وفقه الله!!؟. 3 - قال ابن كثير: (جاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس

أجمعون. واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أو لو كان له عقل فى الدنيا ويوم القيامة). 4 - في الصحيح (عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا: أي آية الكتمان هذه). 5 - قال ابن كثير: (وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، أقول: هذا في علم يفترض تعليمه). قال الألوسي: (واستدلوا بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة، وحرمة كتمانه. ولكن اشترطوا لذلك: أن لا يخشى العالم على نفسه. وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم. إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه. وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد. لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله). وقال القرطبي: (وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه. وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»). رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص. أخرجه ابن ماجه ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه الصلاة والسلام: «حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله». وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام، أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام. فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته. وقال القرطبي كذلك: «وتحقيق الآية: هو أن العالم إذا قصد كتمان العلم، عصى. وإذا لم يقصد لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. ولكن لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم. وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقتطع بها ما له. ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. كما قال: مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى: دل على أن ما كان

المعنى الكلي

من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف. فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل، إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن. والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى. 6 - هناك اتجاه في تفسير قوله تعالى وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. أن المراد بذلك دواب الأرض. ويشهد لهذا الاتجاه حديث حسن رواه ابن ماجه. قال القرطبي: «قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال: دواب الأرض. اه. أقول: والحديث في حال ثبوته لا ينفي العموم عن الآية. بل يدخل في هذا العموم دواب الأرض. إذ يمكن أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام بيان لشئ يدخل في هذا العموم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. في هذا المقطع كما رأينا صدر الأمر لهذه الأمة- بعد أن استكملت فيما مضى وجودها المتميز كأمة- أن تستعين بالصبر والصلاة، ثم أمرت أن تصف الشهيد بالحياة، ثم حضت على الاسترجاع عند المصيبة، ثم صدر لها الأمر بصيغة التقرير أن تسعى بين الصفا والمروة، ثم صدر لها الأمر بصيغة التقرير أن لا تكتم الحق الذي أنزله الله عليها، ثم يصدر لها الأمر هنا بصيغة تقرير ألا تكفر. فمن خلال الأوامر المباشرة. والتقريرات الحاسمة تبني سورة البقرة هذه الأمة شيئا فشيئا. وتبني شخصية المسلم كذلك. المعنى الكلي: تخبر الآيتان عمن كفر بالله واستمر به الحال على الكفر إلى أن مات، أن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأنهم خالدون في هذه اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة. ثم المصاحبة لهم إلى نار جهنم التي لا يخفف عنهم عذابها فتنقص ولا يفتر ولا يغير ولا يؤجل. بل هو متواصل دائم. المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي: استمروا على الكفر حتى ماتوا عليه.

[سورة البقرة (2): آية 162]

إذ الإسلام يجب ما قبله. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. هل المراد بالناس هنا المؤمنون فقط أو المؤمنون والكافرون؟! إذ يلعن الكافرون بعضهم بعضا يوم القيامة كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. (سورة الأعراف) قولان للمفسرين. قال أبو العالية وقتادة: (إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون). خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، أو في النار وأضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا. لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ. أي: لا ينقص عما هم فيه. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ من الإنظار، أي لا يمهلون. أو من الانتظار، بمعنى أنهم لا ينظرون ليعتذروا. أو من النظر، بمعنى أن الله لا ينظر إليهم نظر رحمة. فائدة: قال ابن كثير: لا خلاف في جواز لعن الكفار. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره. فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن. لأنا لا ندري بما يختم الله له. واستدل بعضهم بالآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين، واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف. واستدل غيره بقوله عليه الصلاة والسلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده. فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن). كلمة في السياق: 1 - مجئ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ... بعد الكلام عن الصفا والمروة، الذي هو استمرار للكلام عن البيت الذي وقف من التوجه إليه أهل الكتاب تلك الوقفة، يشعر بأن أهل الكتاب على علم بتفصيلات كثيرة في شأن هذه الأمة، ولكنهم يكتمونها. ومجئ هذه الآية في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ... وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ ... يشعر بأنه لا ينجو من آفة الكتمان. إلا من استعان بالصبر والصلاة. ووطن نفسه على كل امتحان.

الفقرة الثانية من المقطع السادس

كما أن مجئ آية الكتمان في مقطعها، ومجئ مقطعها بعد قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ يشعر بأن كتمان ما أنزل الله فيه معنى الكفر. أو هو موصل للكفر والعياذ بالله. 2 - في الكلام عن مقطع بني إسرائيل قلنا: إن مدخل المقطع المؤلف من أوامر ونواه هو بمجموعه العلاج الشامل الناجع للنفسية اليهودية. وكانت خاتمة الأوامر والنواهي في ذلك المدخل هي: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ* أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ* وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. وقد رأينا أثناء عرض مقطع بني إسرائيل كيف أن المقطع في فصليه، كان وكأنه في بعض مقاصده يعلل لتوجيه الأوامر والنواهي التي سبقت هذه الآيات التي ذكرناها آنفا وانصب الكلام على الإيمان وكان الأمر على الشكل التالي: إذا لم يؤمن بنو إسرائيل فلا فائدة من مناقشة ما بعد قضية الإيمان من التزامات. ومن ثم فإن الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة والتحذير من الكتمان، يتوجه لهذه الأمة التي هي وحدها المستفيدة من مثل هذا التوجيه، وإن كان التحذير يشمل بني إسرائيل. ومن قبل قلنا إن الحوار مع بني إسرائيل لا زال مستمرا في السورة. ولننتقل إلى الفقرة الثانية في المقطع. الفقرة الثانية من المقطع السادس تأتي هذه الفقرة وفيها إعلان للتوحيد والرحمة الربانية، وتدليل على هذا التوحيد والرحمة، وذكر للمنحرفين عن هذا التوحيد بعد كل هذه الدلائل. وإذ كان المقطع كله قد جاء بعد قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. فإن هذه الفقرة تفصيل في قضية الشكر. وتعليل لوجوب الذكر والشكر. فلنرها. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يخبر تعالى في هذه الآية عن تفرده بالإلهية. وأنه لا شريك له ولا عديل له. بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو. وأنه الرحمن الرحيم. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. أي فرد في

كلمة في السياق

ألوهيته. لا شريك له فيها. ولا يصح أن يسمى غيره إلها. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: هذا تقرير للوحدانية بنفي غيره أن يكون إلها. وإثبات إلهيته جل جلاله. الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: أي المولي لجميع النعم أصولها وفروعها. ولا شئ سواه بهذه الصفة. فما سواه، إما نعمة، وإما منعم عليه. وكل ذلك من آثار رحمته العامة والخاصة. كلمة في السياق: جاءت هذه الآية في بداية فقرة، وبعد فقرة في سياق مقطع. فلنلاحظ محلها في السياق: بدأ المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .... وتأتي هذه الآية لتعلن أن الله وحده هو الإله. فإذا كان الأمر كذلك فكيف لا يصبر الإنسان على أمره؟ وإذا كان رحمانا رحيما. فكيف لا يسلم الإنسان له؟ وجاءت هذه الآية بعد ذكر الكتمان والتحذير من الكفر، فكانت تذكيرا بالله. وكما قلنا فإن هذا المقطع كله جاء بمثابة تفصيل لقضايا من الذكر والشكر بعد قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فكانت هذه الآية بداية فقرة جديدة تستخرج الذكر والشكر. ففيها تذكير بوحدانية الله ورحمته بين يدي ما يكون بمثابة الدليل على الوحدانية والرحمة. فوائد: 1 - قال ابن كثير: وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ». 2 - في التقديم للفقرة التي بين أيدينا. وللآية الأولى فيها يقول صاحب الظلال: «إن وحدة الألوهية، هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني. فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله- تختلف التصورات حول ذاته، وحول صفاته، وحول علاقاته بالخلق. ولكنها لا تنفي وجوده- ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة. حقيقة وجود إله. إلا في هذه الأيام الأخيرة. حين نبتت نبتة منقطعة

عن أصل الحياة، منقطعة عن أصل الفطرة، تنكر وجود الله. وهي نبتة شاذة لا جذور لها في أصل الوجود. ومن ثم فمصيرها حتما إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود. هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور. ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التوكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة، وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك، ويتوحد المصدر الذي يتلقى الخلق منه أصول الشرائع والقوانين، ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق». 3 - وفي الصلة بين آية وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وما قبلها، وما بعدها يقول القرطبي: «لما حذر تعالى من كتمان الحق، بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه: أمر التوحيد. ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شئ». إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. هذه الآية جسر بين ما قبلها وما بعدها. فما قبلها وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وهذا دليل وحدانيته ورحمته. وما بعدها وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وهذه الآية دليل على أنه وحده الحري بالمحبة، إذ هو المنعم الوحيد. وإذ كانت هذه آياته فهو حري ألا يكفر، وألا يكتم هداه، وأن يطاع أمره في كل شئ، وأن يسلم له في قضائه وقدره، وأن يستعان به. فهذه الآية هنا بعد ما سبق من توجيهات، تفيدنا زيادة يقين وتمسك وطاعة والتزام. والآية كما أنها تقرير، فهي أمر بالتفكر في هذا الكون. فهي واحدة من توجيهات هذا المقطع: استعينوا ... اسعوا ... لا تكتموا ... لا تكفروا ... تفكروا ... ثم في المجموعة القادمة: أحبوا الله. وقد ذكر النسفي بمناسبة هذه الآية حديثا هو: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي: لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. في كتابنا «الله جل جلاله» تحدثنا عن تسع ظواهر في هذه الكون. كل منها يدل على الله

التفسير الحرفي

بما لا يقبل جدلا: ظاهرة حدوث الكون، وظاهرة الإرادة فيه، وظاهرة الحكمة، وظاهرة الهداية، وظاهرة الإبداع، وظاهرة الاستجابة، وظاهرة العناية، وظاهرة الوحدة. وفي هذه الآية حديث عن مجموع هذه الظواهر تقريبا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ظاهرة الحدوث. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ظاهرة الإرادة والحكمة والهداية والعناية. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ظاهرة الحياة والإبداع وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ظاهرة حكمة وعناية وهداية وإرادة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يدرك هذه الآيات أصحاب العقول، أما الذين يعطلون قوانين العقل كبرا أو عنادا فهؤلاء لا يدركون هذه الآيات. ولعل كتابنا «الله جل جلاله» فيه تفصيل لهذه المعاني كلها فليراجع. وفي كتابنا هذا ذكرنا: كيف أن التناسق في الكون والتكامل فيه يدلان على وحدة الخالق ووحدانيته. وقد جاءت هذه الآية هنا بعد قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .. إشارة إلى أن كل هذه الآيات دليل على الوحدة والوحدانية. ومجئ قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ ... بعد هذه الآية إشارة إلى أن هذه الآيات في هذا الكون والتي تدل على ظاهرة العناية تستدعي أن يحب الإنسان الله. فكيف ينحرف الإنسان؟. روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟. فأنزل الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ .... وعن أبي الضحى قال: لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ... قال المشركون: إن كان هكذا فليأتنا بآية. فأنزل الله عزّ وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... إلى قوله يَعْقِلُونَ. التفسير الحرفي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تلك بما فيها من كواكب ومجرات وغير ذلك، وهذه الأرض بما فيها من جبال وبحار وقفار ووهاد وغير ذلك وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ

فوائد

وَالنَّهارِ ... تارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، وهذا يجئ ثم يعقبه الآخر، ضمن نظام دقيق عجيب. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الفلك: السفن. وتطلق على المفرد والجمع. أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء، وما عند أولئك إلى هؤلاء. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: وما أنزل الله من السحاب من مطر فأحيا بالماء الأرض من بعد يبسها. وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ أي: وفرق فيها من الدواب من كل الأنواع والأصناف، مختلفة الأشكال والألوان والمنافع والصغر والكبر. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ضمن نظام دقيق عجيب. وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ المسخر: المذلل المنقاد لمشيئة الله. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: لدلالات بينة على وحدانية الله لمن ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها. فوائد: 1 - عند قوله تعالى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ قال القرطبي: «هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا، لتجارة كان أو عبادة كالحج والجهاد» وبعد أن ذكر بعض النصوص التي تفيد ذلك قال: «ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء. وإذا جاز ركوبه للجهاد، فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب». ثم بعد مناقشات قال: (قلت: فدل الكتاب والسنة على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، وفيهما الحجة، وفيهما الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم. فرب راكب سهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد المفرط الميد. حتى لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض: فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم عليه ويمنع منه، ولا خلاف بين أهل العلم .... أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه، ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة. وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن، السلامة فيه الأغلب. فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم. والذين يهلكون فيه محصورون).

أقول: كلامه الأخير ينبغي تقييده بأن الحكم كذلك في الأحوال العادية لمريد سياحة، أو لمريد تجارة، وغلب على الظن الهلاك. أما إذا كانت هناك ضرورات عسكرية إسلامية أو غيرها من الضرورات، فالفتوى البصيرة هي التي تقدر الحكم. 2 - في تعليق صاحب الظلال على قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يقول: «نعم لو ألغى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوره بالإيمان. ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة، تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر. إن هذا هو ما يصنعه الإيمان ... ». فيرى العقل في كل شيء آية. ومن كلمات صاحب الظلال في الآية: «وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها- كما يوحي القرآن للقلب المؤمن- بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها .. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء .. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية .. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة ... ! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها .. ؟ مصدرها الأول ... ؟. إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة .. لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات. وحاولوا طويلا أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة- بلا حاجة إلى إله- ثم أخيرا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر. ينتهون إلى نفض أيديهم أو الإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة: وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل، راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال. ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود .. إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب إن السر الأعمق، هو سر هذه الأسباب .. سر خلق الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب، وبهذه الأوضاع التي تسمح بنشأة الحياة ونموها، وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة .. سر هذه

الشرح الكلي

الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلفت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة!!». ثم تأتي المجموعة الأخيرة في الفقرة لتبين لنا أنه مع كل هذه الدلائل على الوحدانية فهناك ناس يشركون وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. الشرح الكلي: يذكر تعالى أن مآل المشركين به في النار وحالهم في الدار الآخرة، لأنهم جعلوا لله أمثالا ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه. وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له، ولا ند له، ولا شريك معه. ولكن الذين آمنوا ليسوا كذلك، فهم لا يشركون به شيئا، ويعبدونه وحده، ولتمام معرفتهم به فإن حبهم له لا يعدله حب. وبعد أن بين الله عزّ وجل هذا توعد المشركين الظالمين لأنفسهم بذلك، فأعملهم أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وسلطانه، وإذ يعاينون العذاب فسيعلمون ذلك تماما بأن القوة كلها لله. فلو أن الكافرين والمشركين يعلمون ما يعاينونه يوم القيامة، وما يحل بهم من الأمر الفظيع الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر تعالى عن كفرهم بأوثانهم وشركائهم وزعمائهم وآلهتهم، وكيف تبرأ المتبوعون من التابعين. وكيف يتمنى التابعون أن لو تتاح لهم فرصة ليبرءوا من المتبوعين. التفسير الحرفي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: أي أمثالا ونظراء. يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ: أي يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له ومحبته. أو أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من الكافرين والمشركين والملحدين لمن أعطوهم صفات الألوهية وخصائصها. لأن المؤمنين لا يعدلون عن الله إلى غيره بحال وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: أي الذين اتخذوا من دون الله أندادا. دل

[سورة البقرة (2): آية 166]

ذلك على أن الشرك والكفر ظلم للنفس أي ظلم. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ يوم القيامة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ أي: عذابه شديد. فصار المعنى: لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شئ من الثواب والعقاب دون أندادهم. ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة- والجواب المقدر- لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أي الرؤساء المتبوعون مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي الأتباع. وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ أي الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد، أو مذهب واحد، أو اتجاه واحد، ومن الأنساب والمحاب وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي قال الأتباع: لو أن لنا عودة ورجعة إلى الدار الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أي: حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم واتباعهم وطاعتهم كما تبرءوا منا. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ أي ندامات. والمعنى: أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات. فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم. وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ بل هم فيها دائمون. فوائد: 1 - الصلة المباشرة بين هذه المجموعة والآية التي قبلها مباشرة واضحة، إذ إن الآية تدلل على وحدانية الله من خلال آياته في الكون. فكأن السياق يقول ومع هذا البرهان النير على توحيد الله، فإن من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. فماذا يستحق هؤلاء من عذاب؟. وإذن فمن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ .. إلى نهاية هذا المقطع إنما هو أمر بالتوحيد الخالص المبني على الدليل الذي من آثاره المحبة الخالصة. فصارت التوجيهات العامة في هذا المقطع السادس: أن على المسلم أن يستعين بالصبر والصلاة، وألا يقول بموت الشهيد، وأن يسترجع حال المصيبة، وأن يسعى بين الصفا والمروة إذا حج أعتمر، وأن يبين حكم الله فلا يكتمه وألا يكفر، وأن يوحد التوحيد الخالص بالمحبة الخالصة. وارتباط هذه المعاني بالسياق الكبير واضح. فهذه الأمة لا تتلقى إلا عن الله بواسطة رسوله، ولا تهتدي إلا بهداه في شعائرها وشرائعها. ومما يساعدها على ذلك،

الاستعانة بالصبر والصلاة والاسترجاع. وفي معرض ذلك ذكر من الشعائر السعي. فهو وضع قديم أقر فأخذ قوة من الإقرار لا من العمل السابق. وإذا أقره الله، أخذ محله في عمل المسلم، والهدى يحتاج إلى توضيح وتبيان، لا إلى كفر وكتمان. ومرجع كل هذا إلى التوحيد الذي تنبثق عنه الشرائع والشعائر والمشاعر والعواطف. 2 - لو في اللغة العربية إذا جاءت فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما توصل بجواب، ليذهب القلب في جوابها كل مذهب. وكذلك هي في هذا المقطع: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ الجواب ما ذكرناه أي لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة. 3 - لو، وإذ: تدخلان على الماضي في الأصل. ولكنهما في المقطع دخلتا على المستقبل لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضي. 4 - في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». 5 - دل قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أن من مقتضيات الإيمان الواضحة الكبيرة محبة الله. ومحبة الله تكون أثرا عن الشعور بنعمه. قال عليه السلام: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه .. ». ولكن القلب لا يحس بها إلا إذا تحرر من أمراضه. كالحسد والكبر والنفاق. ومن ثم كانت ذروة السير إلى الله، محبة الله. وطريق ذلك الإقبال على الله بالفرائض والنوافل: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه». فإذا أحبه الله أعطاه بما يشعره بالمحبة: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». وعندئذ يفيض القلب بالمحبة لله بما لا يعرفه إلا أهله. 6 - دلت الآيات الأخيرة على أن الاتباع في غير طريق الله شرك يعقب ندامة يوم القيامة. فلينظر الإنسان من يتبع؟ وعلى ماذا؟ وبماذا؟ وإلا فإنه سيكون من النادمين. فإذا قال الله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً (سورة التوبة) لمن تابعوا رجال دينهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال!! فكيف بمن يتبع من لا يعترف بحلال وحرام أصلا؟.

كلمة في الفقرة الثانية

نقل القرطبي عن ابن عباس والسدي في تفسير الأنداد في آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً قولهما: (المراد بالأنداد: الرؤساء المتبعون. يطيعونهم في معاصي الله). 7 - عند قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ قال الألوسي: «واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقال الألوسي عند قوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ: ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين». 8 - يفهم من المجموعة أن التوحيد بدايته اعتقاد الوحدانية لله، ثم البناء على ذلك. فمن لم يعط الله الخضوع والاستسلام، ويعرف له حقه في العبادة والطاعة فليس موحدا. أما من عرف ذلك ولم يأت بناقض للشهادتين فإنه يكون موحدا ولو ارتكب بعض المعاصي مما لا يعتبر نقضا للشهادتين، ولكنه يكون فاسقا. مثل هذا لا يخلد في النار- إن دخلها ولم يعف الله عنه- أما الكافرون فليس لهم خروج من النار بنص الآية وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. فضلا عن أن يكون لهم دخول في الجنة: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (سورة الأعراف). كلمة في الفقرة الثانية: 1 - بعد أن بين الله جل جلاله في نهاية الفقرة الأولى ما يستحقه الكافرون من عذاب خالد دائم، بين أنه واحد ورحمن ورحيم. وفي ذلك رد وبيان: رد على من يظن أن ذلك العذاب ينافي الرحمة الإلهية. كيف وهم أهل لذلك؟! ومن الرحمة العدل، ومن العدل ألا يكون الكافرون والمؤمنون سواء، ثم هي بيان في هذا كله. وتأتي الآية اللاحقة لتقيم الحجة على أحديته وعلى رحمته، من خلال ظواهر الخلق والعناية والحكمة وغير ذلك. ثم تأتي المجموعة الأخيرة لتبين كيف أن بعض الناس مع ذلك يشركون!!؟ 2 - كررنا كثيرا أن هذه الفقرة هي نهاية القسم الأول من أقسام سورة البقرة. ومن جملة أدلتنا على ذلك التشابه بين بداية هذا القسم، وهذه الفقرة. فلنلاحظ ذلك من خلال الأسطر التالية: بدأ القسم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

ويقابلها في الفقرة الآية الأولى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. وقد جاء بعد الآية الأولى في بداية القسم قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ. ويقابلها في الفقرة الآية الثانية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وقد ختمت الآية الثانية في بداية هذا القسم بقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .... إن هذا يقابله في الفقرة قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ .... إن هذا التشابه الكبير بين بداية القسم وهذه الفقرة، توحي بأن السياق قد بدأ بشيء واستقر عليه. خاصة وأنت ترى أن ما بين بداية القسم وخاتمته، كانت آيات كثيرة وفقرات ومقاطع كلها خدمت السياق. ولكن لم يظهر فيها مثل هذا التشابه، حتى إن هذا التشابه وحده يكاد يشكل نقطة علام على سياق السورة وأقسامها.

كلمة أخيرة في المقطع السادس والقسم كله

كلمة أخيرة في المقطع السادس والقسم كله: إن هذا المقطع كما أنه خاتمة قسم، فهو مقدمة مباشرة للقسم اللاحق. وإن القسم الأول والقسم اللاحق يتعانقان حتى ليكادان يشكلان قسما واحدا. فهما يبنيان مع المقدمة قضية التقوى ليأتي القسم الثالث ليبني على ذلك الإسلام كله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. فالقسم الثالث في السورة يبني على القسمين السابقين، والقسم الثاني في السورة يبني على القسم الأول الذي جاء بعد المقدمة. فمثلا: القسم الأول بدأ بالدعوة إلى العبادة والتوحيد. وختم بذلك. وفي بدايات القسم الثاني يأتي قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وكل ذلك سنراه تفصيلا. لقد جاءت المقدمة لتبين التقوى وتصف أهلها، كما بينت الكفر والنفاق ووصفت أهل ذلك. وجاء القسم الأول ليدلنا على طريق التقوى وطريق الكفر والنفاق، وحدد بداية الطريق للتقوى، أنه العبادة والتوحيد. وسيأتي القسم الثاني ليكمل معاني ويبني على معان، ويفصل بناء على ما مر في قضية التقوى، وليدلنا على طرق أخرى للتقوى. والمقطع السادس والأخير في القسم الأول هو بمثابة المقدمة للقسم الثاني. فكما سبق القسم الأول بمقدمة، فقد جاء المقطع الأخير من القسم بمثابة مقدمة للقسم الثاني. ومن ثم كان هناك تشابه بين مقدمة سورة البقرة وهذا المقطع. في مقدمة سورة البقرة: كلام عن المتقين الذين من صفاتهم اهتداؤهم بالقرآن، وإيمانهم وإقامتهم الصلاة. وقد ختم الكلام عنهم بقوله تعالي: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لاحظ قوله تعالي: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ. وجاء المقطع السادس وفي بدايته أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة. وختمت مجموعة الصبر بقوله تعالى. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. ثم جاءت بعد ذلك آية فيها هداية قرآنية في شأن الصفا والمروة، ثم آية في التحذير من كتمان شئ من كتاب الله. وكل ذلك له صلة ما بالكلام عن المتقين

وصفاتهم في مقدمة سورة البقرة. ثم جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وجاء بعد آية الكتمان في المقطع قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. ثم جاءت آيتان تضمنتا بيانا في التوحيد والرحمة، هو بمثابة رد على زاعمين. وفي مقدمة سورة البقرة يأتي الكلام عن المنافقين ويبدأ بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ .... وآخر مجموعة في المقطع تأتي حديثا عن المشركين، وأولها قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ. فكان المقطع السادس خاتمة قسم، ولكنه بمثابة المقدمة لقسم آخر. ولذلك- وكما تتعانق المعاني بين القسم الأول والثاني من سورة البقرة، فإن المعاني تتعانق بين المقطع السادس والأخير من القسم الأول، وبين المقطع الأول من القسم الثاني، ومن مظاهر هذا العناق أن المقطع السادس فيه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى .... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ .... وأن المقطع الأول من القسم الثاني فيه: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً .... إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. وقد آن الأوان لنقول كلمة عما مر معنا من سورة البقرة: جاءت مقدمة سورة البقرة لتبين أن هناك تقوى وضلالا، ثم جاء المقطع الأول مقطع الطريقين ليبين طريق التقوى؛ وطريق الكفر والنفاق. وأن طريق التقوى: هو العبادة والتوحيد والإيمان والعمل الصالح. وأن طريق الضلال: هو نقض الميثاق وقطع

ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض. وجاءت المقاطع الخمسة اللاحقة لتعمق هذا كله. فمن خلال مقطع آدم عليه السلام اتضحت أمور، ومن خلال مقطع بني إسرائيل اتضحت أمور، ومن خلال مقطع إبراهيم اتضحت أمور، ومن خلال مقطع القبلة اتضحت أمور، ومن خلال مقطع الذكر والصبر والشكر وترك الكفران اتضحت أمور. وكلها تعمق قضايا مرتبطة في المقطع الأول، وفي المقدمة، وتمهد لمرحلة قادمة نراها في القسم الثاني من أكل الحلال في الأرض إلى الحج. ولئن دل القسم الأول على الطريقين. فإن القسم الثاني في أغلبيته، سيكمل الدلالة على طريق المتقين. ولأمر ما، فإن المقطع الأول من القسم الثاني ينتهي بآية البر، التي هي تلخيص لكل ما سبقها في شأن التقوى- مما عمق السياق الطويل لسورة البقرة ليكون ذلك قبل جولة جديدة تتحدث عن القصاص كطريق للتقوى. وعن الصيام كطريق للتقوى. وإذا كانت مقدمة سورة البقرة واضحة الصلة مع الفاتحة من خلال كلمة الهداية: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. وإذا كان القسم الأول من سورة البقرة واضح الصلة بالفاتحة من خلال كلمة العبادة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. فإن القسم الثاني واضح الصلة بالفاتحة من خلال كلمة الشكر: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وهكذا يأتي سياق سورة البقرة مفصلا لشئون وردت في سورة الفاتحة. ومبينا، حكمة تسلسل ورود المعاني فى سورة الفاتحة على نظامها المعروف. ولعل ما ذكرناه في هذه الكلمة يصلح في الوقت نفسه تمهيدا للبدء في الكلام عن القسم الثاني من أقسام سورة البقرة فلننتقل إليه: مر معنا فيما مضى تفسير مقدمة سورة البقرة والقسم الأول منها، وقد رأينا أن المقدمة

تحدثت عن أصناف الناس فجعلتهم ثلاثة أصناف: متقين وكافرين ومنافقين، ثم جاء القسم الأول فدعا الناس إلى سلوك الطريق الذي يتحررون به من الكفر وانفاق، ويكونون به من المتقين فعم وخص في الدعوة، وكان المضمون الرئيسي الذي بينه القسم الأول: أن التوحيد والعبادة والإيمان والعمل الصالح هي الطريق إلى التقوى، وأن نقض العهد وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض هو الطريق إلى الكفر والنفاق، وأن بداية ذلك كله الكبر والحسد والمعصية، وأن أهل الكتاب الأول عليهم أن يعقلوا معاني كثيرة إذا أرادوا أن يحققوا تقواهم ويتحرروا من أمراضهم، وقد أرانا الله عزّ وجل في القسم الأول النموذج الكامل للتقي، وعرفنا على محل القبلة في الصلاة، وذلك في سياق الأمر بالعبادة التي هي طريق التقوى، وطالبنا بالاستعانة بالصبر والصلاة، ودلنا على معالم العبادة والتوحيد اللذين هما طريق التقوى، وكانت خاتمة القسم المجموعة التي أعلنت التوحيد وأدلته، واستحقاق أهل الشرك العقوبة، وبعد ذلك كله وغيره يأتي القسم الثاني من أقسام سورة البقرة، التي تتألف من: مقدمة وأقسام ثلاثة وخاتمة. وهذا أوان الكلام عن القسم الثاني، ونرجو من القارئ ألا ينفد صبره وهو يرانا نعيد الكرة مرة بعد مرة في توضيح قضية السياق فإن الأمر يحتاج لذلك.

القسم الثاني من أقسام سورة البقرة

القسم الثاني من أقسام سورة البقرة ويمتد من الآية (168 - 207)

بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثاني من أقسام سورة البقرة ويمتد من الآية (168 - 207) كلمة في هذا القسم: يبدأ هذا القسم بالآية (168). يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وينتهي بنهاية الآية (207): وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. وكما أن القسم الأول في سورة البقرة بدئ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ... فإن هذا القسم بدئ بالنداء نفسه: يا أَيُّهَا النَّاسُ. وهما النداءان الوحيدان اللذان وردا بهذه الصيغة في سورة البقرة. وكما أن القسم الأول سبق بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ. فهذا القسم مسبوق بمجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ. وكما ختمت مقدمة سورة البقرة بفقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ...

وختم القسم الأول بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً .. فإن هذا القسم يختم بمجموعة تتحدث عن صنفين من الناس: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ .... وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. ولقد رأينا أن القسم الأول في مقاطعه قد عرض لمعان. وهاهنا نلاحظ أن تلك المقاطع قد وطأت للمعاني التي سترد معنا في القسم الثاني. حتى لنكاد نرى توطئة على تسلسل معين لمعان على نفس التسلسل نجدها في القسم الثاني: فمثلا نجد المقطع الأول في القسم الأول يختم بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... ويأتي بعده مقطع آدم. وفيه كلام عن طريق الشيطان. ويبدأ القسم الثاني بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وفي مقطع بني إسرائيل كلام عن كتمان ما أنزل الله، وعن البر. ويأتي في المقطع الأول من القسم الثاني كلام عن الكتمان والبر. وفي مقطع بني إسرائيل كلام عن قتل ظالم. ويأتي في القسم الثاني بعد آية البر كلام عن القصاص. وفي مقطع بني إسرائيل أشياء أخرى سنرى صلتها بأشياء في القسم الثاني. ثم في القسم الأول مقطع إبراهيم، وفيه كلام عن المناسك. وفي أواخر القسم الثاني كلام عن الحج والعمرة. وفي موضوع توطئة القسم الأول لمعاني القسم الثاني سنجد تفصيلات أثناء عرضه. ونكتفي هنا بهذه الإشارة. ولقد دلنا القسم الأول على الطريق إلى التقوى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وسنرى أن القسم الثاني يكمل الدلالة على التقوى، ويفصل فيما يدخل فيها. ويبين لنا تفصيلات في طريق إقامتها والوصول إليها: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ .... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ .... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

وجاءت في هذا القسم آية البر، وفيها تعريف مفصل للمتقين. ولذلك ختمت بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. ثم جاء بعدها آيات القصاص كطريق مساعد لإقامة التقوى في المجتمع. ثم جاءت آيات الوصية لتدل على حق على المتقين. ولذلك ختمت بقوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. ثم جاءت آيات الصيام لتدل على طريقين للتقوى. ثم تأتي آية فيها المنع عن الرشوة، وذلك من التقوى. ثم تأتي آية السؤال عن الأهلة، ودخول البيوت من غير أبوابها؛ وفيها: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى .. وَاتَّقُوا اللَّهَ ... ثم آيات في القتال والإنفاق وفيها: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ثم تأتي آيات في الحج والعمرة وفيها: وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ. وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ. ثم تأتي مجموعة الختام وفيها: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. إن القسم الثاني يكمل القسم الأول. ويكمل مقدمة سورة البقرة في الدلالة على التقوى أركانا وطريقا واستقامة. ومن خلال القسم الأول والثاني، نعرف محل أركان الإسلام الخمسة في قضية التقوى. فالملاحظ أن مقدمة سورة البقرة ذكرت من أركان الإسلام: الإيمان والصلاة والإنفاق. أي الشهادتين والصلاة والزكاة. وذكر القسم الثاني من أركان الإسلام: الصوم والحج. وكان الحج آخر ما ذكر في القسم الثاني من الأركان وبعد ذلك يأتي القسم الثالث الذي يأمر بالدخول في الإسلام كله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وفي ذلك كله مظهر من مظاهر وحدة السورة وتكامل معانيها، وارتباط بعضها ببعض. ومظاهر الإعجاز في ذلك لا تخفى. والملاحظ أن بداية القسم الأول كان فيها أمر ونهي: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. وأن بداية القسم الثاني فيها أمر ونهي: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ومن ورود كلمة: يا أَيُّهَا النَّاسُ* مرتين فقط في سورة البقرة: ندرك أن الإسلام يخاطب الناس كل الناس بأوليات محددة. حتى إذا استجابوا خوطبوا بتفصيلات أخرى. من هذه الأوليات: العبادة، والتوحيد، وأكل الحلال، وعدم اتباع خطوات الشيطان وهذا

المقطع الأول في القسم الثاني

شئ نجد مظاهره في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثلا عند ما أرسل معاذا إلى اليمن، أمره أن يدعوهم إلى التوحيد. فإن استجابوا، فليأمرهم بالصلاة. فإن استجابوا، فليأمرهم بالزكاة. وهذه قضية ينبغي أن يفطن لها الدعاة. والملاحظ أن هذا القسم بدأ بقوله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً .... وانتهى بمجموعة فيها: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ... فقد وردت كلمة الْأَرْضِ في البداية والنهاية. وسنرى صلة ذلك بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. فالبشرية على هذه الأرض كافرة كلها إذا لم تدخل في الإسلام. وإذا دخلت في الإسلام، فما لم تخط الخطوة التالية في السير إلى التقوى والاستقامة. فإنها تكون مفرطة. وقد ختم القسم الثاني بمجموعة فيها حديث عن صنفين من الناس، وختم القسم الأول بحديث عن صنف من الناس، وختمت المقدمة بالحديث عن صنف من الناس، وكل ذلك باستعمال كلمتي: وَمِنَ النَّاسِ التي لا تأتي بعد ذلك في سورة البقرة مرة أخرى. وكأنه سبحانه وتعالى بذلك قد عرفنا أصناف الناس حقا وعدلا وحكما فصلا، ولنبدأ عرض مقاطع هذا القسم. المقطع الأول في القسم الثاني: يمتد هذا المقطع من الآية (168) إلى نهاية الآية (177) ويتألف من فقرتين وهذا هو: الفقرة الأولى [سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 173] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية

كلمة في هذا المقطع وسياقه

كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - بدأ المقطع بالأمر بأكل الحلال وعدم اتباع خطوات الشيطان، ثم علل للنهي عن اتباع خطوات الشيطان، ثم عاب على من يتبع خطوات الآباء على ضلالهم وكفرهم، ثم مثل للكافرين فضرب لهم مثلا يعرف على حقيقة حالهم بما لا يصح معه اتباعهم. فاستقر بذلك أن الكتاب ينبغي أن يتبع، وأن الحلال الذي أحله الله هو الذي ينبغي أن يؤكل. وعندئذ يتوجه الخطاب إلى أهل الإيمان بأكل الطيبات والشكر، وبتبيان المحرمات من الأطعمة، وفي هذا السياق يذكر الله لنا نموذجين: نموذجا من الناس يكتم ما أنزل الله. ونموذجا استكمل صفات المتقين وخصائص التقوى. فكان مجئ ذكر هذين النموذجين هنا ارتقاء بالنفس إلى التسليم المطلق للحق وإعلانه والتحقق به. 2 - جاء هذا المقطع بداية للقسم الثاني. وسبق بخاتمة القسم الأول. وقد قلنا عن خاتمة القسم الأول إنها كالمقدمة للقسم الثاني فنلاحظ الآن ما يلي: سبق هذا المقطع بشكل مباشر بالآيات: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ... إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا .... لاحظ قوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إنه في هذا السياق يأتي المقطع وفي آيته الأولى نهي عن اتباع خطوات الشيطان، وفي آيته الثالثة: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. فالصلة إذن على أشدها بين الآيات الأولى من المقطع وما سبقها مباشرة. وفي المقطع السابق على هذا المقطع ترد آية في موضوع كتمان الكتاب. وفي هذا المقطع ترد آيات في هذا الموضوع تفصل فيه. وفي المقطع السابق آيات الصبر. وتأتي في هذا المقطع آية البر التي فيها حديث عن الصبر: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فالصلة بين المقطع الأول من القسم الثاني والمقطع الأخير من القسم الأول واضحة جدا.

3 - وفي نظرة متأملة لسورة البقرة، نجد كأن هذا المقطع يبني على المقاطع الثلاثة الأولى في القسم الأول، وعلى مقدمة سورة البقرة. وكأن ما جاء قبله بعد ذلك في السورة اقتضاه السياق، ثم عاد السياق مرة ثانية إلى مجرى معين. ولإدراك هذا المعنى نقول: أ- بدأت سورة البقرة بوصف المتقين والكافرين والمنافقين. وجاء مقطعهما الأول ليعمق الإدراك للطريق: طريق التقوى، وطريق الكفر والنفاق. وسار القسم الأول في السورة في هذا المجرى. ومن خلال ذلك كله عرفنا خصائص التقوى وصفات تفصيلية أكثر للمتقين. ومن ثم تأتي آية البر في نهاية هذا المقطع لتعرف لنا المتقين تعريفا يلخص كل ما قدمه لنا السياق من تفصيلات توضح التعريف الذي مر معنا في أول السورة. ب- في المقطع الأول من القسم الأول ورد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ... ثم جاء مقطع آدم عليه السلام. وفيه عرفنا على عداء إبليس ومظاهر خطواته. وعرفنا كيف أن آدم عليه السلام حرم عليه شئ فخالف، فعوقب. ويأتي هذا المقطع وكأنه يبني على ذلك كله: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ .... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ .. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ .... وأوضح ما يظهر فيه البناء على المقطع الأول من القسم الأول: أن المقطع الأول من القسم الأول بدايته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... والآية التي سبقت آية التحريم هنا ختمت بقوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وبعد قصة آدم في القسم الأول يأتي مدخل مقطع بني إسرائيل وفيه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ* وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ* أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وقد جاءت الفقرة الثانية في هذا المقطع وفيها: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ....

تفسير الفقرة الأولى

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ .... فالفقرة تعرف البر، وتبين عقوبة الكتمان وبيع الآخرة بالدنيا. وبذلك فإن مقطع بني إسرائيل يكون قد غطي تغطية كاملة في السورة، وجاءت التغطية النهائية بآية البر، وبذلك أقفل الحوار مع بني إسرائيل. إذ كانت آية البر فيها إشارة إلى قضية القبلة سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وهكذا نجد أن هذا المقطع قد بني على المقطع الأول والمقطع الثاني، وعلى مقطع بني إسرائيل خاصة. وفيه بناء قليل على ما جاء بعد ذلك. إنه من خلال هذه النظرة الشاملة إلى السورة، التي رأينا من خلالها نموذجا على ترابط معاني هذه السورة، نستطيع أن نسجل ملاحظة حول السياق القرآني. هذه الملاحظة هي: إنه بدون نظرة شاملة إلى الآيات في السورة وإلى مجموع القرآن، فإن الإنسان قد لا يفطن للصلات بين الآيات والسور. فكما أن الوحدة الكلية لهذا الكون تحتاج إلى نظرة شاملة حتى تدرك. فكذلك الوحدة القرآنية، والسياق القرآني. وهذا موضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا. يتألف المقطع من فقرتين: الفقرة الأولى موضوعها الرئيسي أكل الحلال. والفقرة الثانية موضوعها كتمان ما أنزل الله، وتعريف البر. وإنما جعلنا آيات الكتمان وآية البر فقرة واحدة للصلة التي رأيناها بين ما ورد هنا وبين مقطع بني إسرائيل، حيث اجتمع هناك الكلام عن الكتمان مع الكلام عن البر. ولملحظ كنا ذكرناه من قبل، وهو أنه بعد الكلام عن أكل الحلال وتبيان المحرمات من الأطعمة يذكر الله عزّ وجل نموذجين من الناس. وبالتالي فإن الكلام عن النموذجين يشكل كلا متكاملا ولذلك اعتبرنا الحديث عنهما فقرة واحدة. تفسير الفقرة الأولى: يقول صاحب الظلال: «لما بين الله- سبحانه- أنه الإله الواحد، وأنه الخالق الواحد- في الفقرات

[سورة البقرة (2): آية 169]

السابقة- وأن الذين يتخذون من دون الله أندادا سينالهم ما ينالهم .. شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام .. وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا. فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع، فتحرم وتحلل. وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك ... ». (وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض- إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصا- يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون، وفطرة الناس. فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالا، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتداء والقصد. ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق .. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق. لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة. لا يأمرهم إلا بالسوء والفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والافتراء عليه، دون تثبت ولا يقين). يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً: الأمر هنا للإباحة، والحلال الطيب هو الطاهر من كل شبهة. ولم يحرم الله علينا إلا ما كان ضارا بالأبدان أو العقول أو الأنفس أو بها كلها، ومن ثم فالحلال وحده هو المستطاب. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: طرقه التي يدعوكم إليها. يقال: اتبع خطواته، إذا اقتدى به، واستن بسنته. وخطوات تزيين الحرام واتباع الشهوات ... إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. أي ظاهر العداوة. لا خفاء في عداوته. ولكن الأمر ملبس على أولياء الشيطان، فإنه يريهم في الظاهر الموالاة، ويزين لهم أعمالهم، فيأتيهم من حيث يشتهون، وإنما يريد بذلك هلاكهم في الباطن. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ أي بالقبيح، أو ما لا حد فيه من الذنوب وَالْفَحْشاءِ أي ما يتجاوز الحد في القبح من العظائم، أو ما فيه حد من الذنوب. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ هو قولهم: هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه. فصار المعنى العام: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وبما هو أغلظ منها: الفاحشة، كالزنا ونحوه. وبما هو أغلظ من ذلك، وهو: القول على الله بلا علم. فيدخل في هذا كل كفر وكل ابتداع. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ: الضمير للناس، والمقصود به بعضهم من أهل الكفر والشرك والنفاق. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أي

[سورة البقرة (2): آية 171]

ما وجدنا عليه آباءنا. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الذين يتبعونهم ويقتدون بهم ويقتفون أثرهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أي ليس لهم فهم وَلا يَهْتَدُونَ أي ليس لهم هداية إلى صواب. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي: يصيح بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً هي الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها. بل إذا نعق بها راعيها؛ أي دعاها، لا تفقه ما يقول، ولا تفهم محتواه، بل إنما تسمع صوته فقط: والنداء ما يسمع. والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع. شبه الكافرين بالبهائم من حيث إن الكافر إذا دعي للإيمان لا يسمع من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار. وكذلك الحيوانات لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه. ولا تفقه شيئا آخر صُمٌّ عن سماع الحق بُكْمٌ لا يتفوهون به عُمْيٌ عن رؤية طرقه ومسالكه فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يفهمون موعظة فيعقلونها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من مستلذاته المشروعة، أو حلالاته وَاشْكُرُوا لِلَّهِ الذي رزقكموها إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن صح إنكم تختصونه بالعبادة، وتقرون أنه معطي النعم. ثم بين المحرم فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وهي كل ما فارق الروح من غير ذكاة شرعية مما يذبح. وقد خصصت الأحاديث من ذلك: السمك والجراد. وَالدَّمَ يعني السائل لقوله تعالى في موضع آخر: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً (سورة الأنعام) وخصصت الأحاديث من الدم: الكبد والطحال. واستثنى الفقهاء ما يبقى في العروق بعد الذبح للضرورة. وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ يعني الخنزير بجميع أجزائه، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل، ولأن الشحم وغيره يدخل مع اللحم تغليبا. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أصل الإهلال رفع الصوت، والمراد به هنا ما ذبح على غير اسم الله، أي رفع به الصوت للأصنام وغيرها من الآلهة المزعومة أو الأشياء المعظمة. فَمَنِ اضْطُرَّ أي فمن ألجئ فأكل غَيْرَ باغٍ أي غير ظالم بأن لم يأكل للذة وشهوة وَلا عادٍ: أي غير متعد مقدار الحاجة: أي غير متجاوز الحد المباح له، وهو قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع، لأن الإباحة للاضطرار. فتقدر بمقدار ما تندفع به الضرورة. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي في الأكل. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب الكبائر، فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار رَحِيمٌ ومن رحمته أنه رخص. فوائد: 1 - عند قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً يقول الألوسي: (والأمر

للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية. وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف. وللإباحة فيما عدا ذلك). قال القرطبي: (وسمي الحلال حلالا، لانحلال عقدة الحظر عنه. قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم). وقال أبو عبد الله الساجي- واسمه سعيد بن يزيد-: (خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عزّ وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال. فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا، والحرام، والسحت، والغلول، والمكروه، والشبهة). 2 - ذكرنا في المثل الذي ضربه الله للكافرين الاتجاه الذي يقول: إن المراد به أن هؤلاء الكافرين إذا دعوا إلى الحق لا يفهمون ولا يستجيبون، لأنهم كالأنعام لا تسمع إلا صيحة الراعي، ولا تفهم معناها. وهناك اتجاه آخر في تفسير المثل نقل فيه القرطبي من جملة ما نقل كلام ابن زيد في شرحه فقال: (وقال ابن زيد: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل. فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع). 3 - إنما: في اللغة العربية تفيد الحصر. فعند ما ذكر الله عزّ وجل المحرمات الثلاثة: الميتة والخنزير وما أهل به لغير الله بعد (إنما) فهم بعضهم من ذلك أن المحرمات من المأكولات هذه الثلاثة حصرا، وقد ناقش بعضهم في الحصر وهو موضوع سيأتي فيما بعد. وإنما ذكرنا هذا هنا للإشارة إلى أن الأمر محل بحث عند العلماء. 4 - ذكرنا أثناء التفسير أن معنى قوله تعالى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما ذبح على غير اسم الله، وعلى هذا الاتجاه فإن ما ذبح على اسم المسيح مثلا، لا يجوز أكله ولو كان الذابح نصرانيا. وهناك اتجاه في تفسير الآية أن المراد بها ما ذبح لغير الله، من صنم وغيره. ويبنون على ذلك أن ما ذبح على غير اسم الله إذا كان ذابحه نصرانيا يجوز أكله. من هؤلاء: عطاء ومكحول، والشعبي، والحسن، وسعيد بن المسيب. قال الألوسي عن هؤلاء: (وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح) (وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم). أقول: هذا إذا تأكدنا أن الذابح ذكر اسم المسيح، وعلى كل الأحوال فالأمر ليس محل اتفاق كما رأينا.

5 - في قصة آدم رأينا أن الخطوة الأولى للشيطان كانت معصية الأمر في السجود لآدم وكان سبب ذلك: الكبر. ورأينا أن أبانا آدم نهي عن أكل الشجرة، فأكل هو وزوجته عليهما السلام، فعوقبا. وكان ما وقعا فيه أثرا عن وسوسة الشيطان. فخطوات الشيطان مخالفة للأمر، أو دعوة لمخالفة نهى. وبداية البدايات في اتباع خطوات الشيطان هي: الكبر. والكبر فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه «غمط الناس وبطر الحق». ومجئ ذكر المحرمات من الأطعمة في سياق النهي عن اتباع خطوات الشيطان فيه تذكير لنا بألا نقع في مخالفة النهي. فإن أبانا آدم قد عوقب على ذلك. 6 - في غير شريعتنا عوقبت بعض الأمم بتحريم بعض الطيبات عليها. قال تعالى (في سورة النساء): فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أما في شريعتنا فقد أحلت لنا الطيبات كلها. قال تعالى عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فى سورة الأعراف: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ومن هنا ندرك أنه لم يحرم على هذه الأمة شئ إلا وهو من باب الخبائث التي تستقذرها النفس المستقيمة الفطرة. إنه كما أن البول والغائط نجسان ومستقذران وتستخبثهما كل نفس، فكذلك الخمر والخنزير والميتة والدم المسفوح. ولو أن نفسا لم تستقذر البول والغائط وأقبلت عليهما في الأحوال العادية فإنها لا تدلل إلا على فساد فطرتها. فكذلك من يقبل على أكل الخنزير أو الدم المسفوح أو الميتة، إنما يدلل على فساد فطرته، فضلا عن مجاوزته حدود الله الذي له حق التحريم والتحليل، لأنه المالك. فإذا حرم مع كثرة العطاء، فما على الإنسان إلا أن يلتزم. 7 - الحكمة الأولى فى تحريم الدم المسفوح أو الميتة أو ما أهل به لغير الله. أو الخنزير هي النجاسة. أولا: فقد حكم الله على هذه الأشياء بالنجاسة. وأمر النجاسة والطهارة في الأصل أمر تعبدي. تعبدنا به الله خالقنا ورازقنا ومالك كل شئ. وما علينا إلا التسليم. - ولا مانع بعد التسليم أن يفتش الإنسان عن حكمة التحليل والتحريم. فإن فعل الله وتشريعه لا ينفكان عن الحكمة، فالله تعالى حكيم. وعلينا أن لا نفهم الحكمة على أنها الضرر الجسمي وحده. فإنه من حيث الظاهر لا فارق بين ذبيحة المجوسي أو الملحد، وبين ذبيحة المسلم، فالحكمة ينبغي أن ينظر إليها بمنظار أوسع. فمثلا: قد يكون السر في تحريم الخنزير أن من يأكله يصبح تركيبه النفسي غير مستقيم مع الفطرة. فمن

المعروف أن للتغذية تأثيرها على تركيب نفس الإنسان. فهذا دواء يجعل الإنسان مستريح الأعصاب. وهذا دواء يجعل عند الإنسان استعدادا للغضب، ومن المشهور أن أكل لحم الخنزير يوجد عند صاحبه بلادة في شأن العرض، ولذلك فإن البلدان التي يكثر أهلها من أكل لحم الخنزير لا تهتم كثيرا بقضية الأعراض. - إن تحريم بعض الأمور قد تكون الحكمة فيه إبقاء التركيب الفطري للإنسان على سلامته. إن الحيوان يشترك مع الإنسان في أن له حياة، فلماذا يزهق الإنسان روح الحيوان؟. إن الله الذي خلق الحياة أجاز للإنسان أن يذبح بعض الحيوانات وأن يأكلها. وشرط لذلك شروطا. من جملتها أن يكون الذبح على اسمه، وأن يكون الذابح ذا اعتقاد خاص. وأن يكون الذبح على طريقة معينة. فإذا لم تتوفر مثل هذه الشروط فإن الله الذي خلق الحياة لا يبيح لك أن تأكل، فإذا أكلت أكلت بدون إذن صاحب الحق. وتأثير ذلك على التركيب النفسي للإنسان واضح. وإذن فمن خلال نظرة شاملة يتم البحث عن الحكمة. فقد تكون حكمة التحريم الضرر الجسمي فقط كتحريم السم الضار، وقد تكون حكمة التحريم الضرر الجسمي والعقلي والنفسي، كما هو الشأن في الخمر، فعلينا أن نتنبه لذلك. - في موضوع الميتة والدم واضح أن هناك ضررا جسميا زيادة على أنهما نجسان ومستقذران لدى النفس المستقيمة، وفي موضوع الخنزير: تذكر الدودة الشريطية. وهي تختلف عن الدودة نفسها في البقر بأكثر من عشرة فروق تجعلها أكثر خطرا، وتذكر أنواع من الديدان أخرى تسبب إصابات للإنسان كنت ذكرتها في الفصل الرابع من كتاب (الإسلام)، ولكن السر في التحريم أوسع من مثل هذا. إنه يكمن في نجاسة الخنزير، وقذارته. ويكمن في تأثيرات لحمه على التركيب الكلي للإنسان. وللبحث تتمة. وإن الإنسان لا زال يكتشف. وفي كل ما كشفه الإنسان حجة لهذا الإسلام. 8 - يجئ قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ... بعد قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بيانا لوجوب الانتهاء عن اتباعه، ولظهور عدواته. فكأنه تعالى قال: لا تتبعوا خطوات الشيطان لأنه يأمركم بالسوء والفحشاء، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. قال قتادة والسدي في قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ: (كل

معصية لله فهي من خطوات الشيطان). وقال عكرمة: (هي نزعات الشيطان). وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال .. وإني خلقت عبادي حنفاء. فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم). دل الحديث على أن من مظاهر الضلال الكبيرة؛ تحريم الحلال وتحليل الحرام. وذلك كفر وهو من خطوات الشيطان وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً. فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: يا سعد. أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه أربعين يوما. وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به). - قال الشعبي: (نذر رجل أن ينحر ابنه. فأفتاه مسروق بذبح كبش وقال: هذا- أي نذره- من خطوات الشيطان). - (وأتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح. فجعل يأكل. فاعتزل رجل من القوم. فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال أصائم أنت؟ قال: لا، قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان. فأطعم وكفر عن يمينك). وعن أبي رافع قال: (غضبت يوما علي امرأتي. فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك، فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان). (وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة. وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة. وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك). وعن ابن عباس قال: (ما كان من يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين). 9 - العقلية المؤمنة عقلية متبعة للهدي المنزل، أما العقلية الكافرة فعقلية مقلدة. العقلية المؤمنة تزن الرجال بالحق. والعقلية الكافرة تزن ما تؤمن به بالرجال ولو كانوا على غير علم وعقل وفهم. فشتان بين العقليتين. 10 - روى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحل

لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال». 11 - سئل الحسن البصري عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت جزورا. فقال: (لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم). أورد القرطبي عن عائشة: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين؟ فقالت: (ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه وكلوا من أشجارهم). 12 - ذكر ابن كثير مسألة قال: (إذا وجد المضطر ميتة، وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف، وإذا أكله، والحالة هذه- هل يضمنه أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك). 13 - عن مسروق أنه قال: (من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار). وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة كالإفطار للمريض. 14 - قال الحنفية: يرخص شرب الخمر للعطشان، وأكل الميتة في الجماعة إذا تحقق الهلاك. 15 - قال الحنفية: ويحرم الذبح لمخلوق ولو ذكر اسم الله تعالى، لأنه أهل به لغير الله تعالى، أما لو نوى إكرامه فإنه يحل، ويظهر ذلك فيما لو ضافه أمير مثلا فذبح عند قدومه شاة فإن قصد التعظيم فلا تحل- وإن أضافه بها. وإن قصد الإكرام فتحل. اه. (الهداية العلائية 326). 16 - قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. دلت هذه الآية على أن أكل الحلال وشكر الله أثر من آثار العبادة. ومن هنا نعلم لماذا تأخر هذا الأمر في السورة هذا التأخر، ولماذا استغرق موضوع تعميق معنى العبادة القسم الأول كله. فإذا عرفنا أن الله لا يقبل العبادة إذا لم يرافقها أكل جلال، أدركنا الارتباط الكامل بين ما وصلنا إليه وبين ما سبق. والدليل على ارتباط قبول العبادة بأكل الحلال؛ الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ .. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب

فصول شتى

يا رب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك».؟ فإذا تذكرنا أن الدعاء مخ العبادة. وتذكرنا الحديث الذي ذكرناه قريبا أنه لا يقبل العمل أربعين يوما بسبب لقمة حرام، أدركنا الصلة بين العبادة وأكل الحلال. وإنما ذكرنا هذا الموضوع مع الفوائد مع أن له صلة بالسياق من أجل الفائدة التي تضمنها الحديث فصول شتى: فصل في التقليد: يثار بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا موضوع التقليد للغير بدون معرفة دليله. هل يجوز ذلك أو لا يجوز؟. وهذه نقول توضح حدود هذه المسألة: عند قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يقول الألوسي: (وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا؛ لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا. ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص، فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟. وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع. وكل حكم يجب العمل به قطعا علم بأنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا. فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا. وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله، ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما، وانقلب الظن علما. فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شئ). وقال القرطبي بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ... (تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية، وهذا في الباطل صحيح. أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي. وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح). ثم بعد كلام قال القرطبي:

فصل: في نقول لها صلة بآية المحرمات من الأطعمة

(فرض على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته، فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه، أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه. لقوله تعالى فى سورة النحل: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه حتى يقع عليه الاتفاق من أكثر الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر، أو أراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابيا أو غيره. وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين). أقول: هذا في التقليد في الفروع. أما في الأصول فقد قال ابن عطية: أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وقد نازعه في ادعاء الإجماع علماء، خاصة إذا كان التقليد للمعصوم أو كان التقليد في حق، وكان صاحبه جازما به. حتى لو رجع الأول لبقي الثاني متمسكا بالحق. ولكن حتى من نازعوا في الإجماع فإنهم لا يخالفون في أنه: من يستطيع أن ينظر في الدليل المؤدي للأصل ثم لا ينظر فإنه آثم. فالإجماع منعقد على إثم المقلد في الأصول إذا كان قادرا على النظر، ومع حملة الشيخ القرطبي على أنواع من المتكلمين فإنه يختم كلامه بالدفاع عن المتكلمين الذين يدرسون ما يستطيعون به أن يقيموا الحجة على أعداء الله من خلال اللغة التي يفهمونها فيقول: (ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين؟!. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم. وأما المخاصمة والجدل بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن). وقد قال الألوسي في قضية التقليد: (وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد التعلم بدليل فإنه محض اتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى، وليس من التقليد المذموم في شئ، وقد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ سورة الأنبياء. فصل: في نقول لها صلة بآية المحرمات من الأطعمة:

فصل في الاضطرار المبيح

قال القرطبي: (واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات؟ واختلف عن مالك في ذلك أيضا .. ). (فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه) أقول: لا يجيز فقهاء الحنفية أكل الجنين إلا إذا خرج حيا وذبح ذبحا شرعيا) (واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة، هل يطهر بالدباغ أم لا؟ فروي عنه أنه لا يطهر وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر لقوله عليه الصلاة والسلام (أيما إهاب دبغ فقد طهر) وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر. اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويزمنداد: (وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه ... «وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره». لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة والإصر والمشقة في الدين موضوع). (ولا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر. فإنه يجوز الخزازة به). أقول لأنه لا ينوب غيره منابه. فإباحة استعماله ضرورة للخرازين. (ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره، والوثني لوثنه لا يؤكل ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما؛ وإن لم يذبحا لناره ووثنه كذلك وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبحا لمسلم بأمره). أقول: بعض الفقهاء يعتبرون فعل المأمور بأمر الآمر فعلا للآمر ومن ثم أجازوا أن يستلم وزارة التنفيذ ذمي. لأن أمره على المسلم هو أمر الخليفة وليس أمرا له على الحقيقة. فصل في الاضطرار المبيح: قال القرطبي: (الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم، أو بجوع في مخمصة، والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث، (وهو الجوع) إلى ذلك؛ وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه

المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه. كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير، وغيره من معصية الله تعالى. ألا إن الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه). (وأما المخصمة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة (¬1) الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه). وذلك لأن حفظ مهجة المسلم واجب إسلامي عام يلزم من استطاعه:- قال القرطبي: (قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره، قضي عليه بترميق تلك المهجة الآدمية. وكان الممنوع منه له في ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا، أو جماعة، أو عددا، كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشئ على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون. وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشئ اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه، وفيه البلغة). (وإن كان الثاني- أي المخمصة العارضة- وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما- أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها، قال معناه مالك في موطئه وبه قال الشافعي وكثير من العلماء). (وقالت طائفة: يأكل بقدر سد الرمق، وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب. وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر، فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود، فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها). (فإن اضطر إلى خمر، فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف. وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية. قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا، وهو قول ¬

_ (¬1) فى القاموس المحيط: والحريسة المسروقة.

كلمة في الفقرة

الشافعي: فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لأن الله تعالى قال في الخنزير فَإِنَّهُ رِجْسٌ ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها رِجْسٌ فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة. وترد الجوع ولو مدة). (فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا؟. فقيل: لا، مخافة أن يدعى ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة) قال ابن العربي: (أما الغاص بلقمة، فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا يخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها؛ فيصدق إذا ظن ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا). (سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما؟. فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله؟ يأكل من أي ذلك وجد، ما يرد جوعه، ولا يحمل منه شيئا؛ وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة). (قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا. وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقا بالسفر. بل هو من نتائج الضرورة، سفرا كان أو حضرا). أقول: وفي هذا الأخير خلاف. فمن الفقهاء من لم يعتبر أن سفر المعصية يصلح رخصة للمضطر قبل توبته. كلمة في الفقرة: 1 - جاءت هذه الفقرة بعد آيات عن الشرك والمشركين، وعن اتباع القادة بالباطل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً .... إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا. وجاءت هذه الآيات وفيها مناقشة للمتبعين غيرهم على الباطل. وفيها دعوة إلى أكل الحلال وترك اتباع خطوات الشيطان. وفيها تبيان للمحرمات من الأطعمة. ومجئ هذا بعد الكلام عن الشرك يشعر بأن ذلك كله: من استحلال أكل الحرام، واتباع خطوات الشيطان، ومتابعة الآباء في الباطل، من

تفسير الفقرة الثانية

مظاهر الشرك. 2 - ابتدأت الفقرة بدعوة الناس جميعا إلى الحلال وترك اتباع خطوات الشيطان. وإذ كانت هناك أفكار متراكمة خلال العصور حول موضوع الحلال، فقد ناقشت الفقرة اتباع الآباء على عمى. ثم بينت حال الكافرين أصلا، الذين يتابعون على الباطل: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وإذ كان المستجيبون لدعوة القرآن هم الذين يستفيدون من الخطاب، توجه الخطاب إلى أهل الإيمان للأكل من الطيبات، ثم طولبوا بالشكر على ذلك، ثم بينت لهم المحرمات ليجتنبوها فلا يتابعون خطوات الشيطان إذ أمر فرفض الأمر. 3 - يأتي بعد هذه الفقرة مباشرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ .... وتباشر هذه الآية آية المحرمات من الأطعمة. والحالات الاستثنائية في ذلك. وفيه ما يشعرنا بأهمية البيان في هذه الشئون فلننتقل إلى الفقرة الثانية في المقطع: تفسير الفقرة الثانية: مقدمة: تتألف هذه الفقرة من آيات الكتمان وآية البر. فلتكن هذه المقدمة حديثا عن كل من هذه وهذه، لنعرض بعد ذلك تفسير الفقرة عرضا واحدا. 1 - قبل ثلاث عشرة آية من آيات الكتمان هنا جاءت آيتان في الموضوع نفسه؛ هناك تذكر الآيتان أن في هذا الكتاب معجزات وهدى، ومن كتم هذه المعجزات والهدى استحق اللعنة، إلا إذا تاب وأصلح وبين. أما هذه الآيات فإنها تذكر أن من كتم الكتاب واشترى به ثمنا قليلا فجزاؤه النار، والبعد والإبعاد والذم. ومن عقوبتهم الدنيوية الشقاق والاختلاف، فالآيات هنا فيها زيادات وتوكيد وتلك من حكمة التكرار، ويمكن أن نفهم من خلال أسلوب القرآن أن ما بين آيتي الكتمان هناك وآيات الكتمان هنا معان يمكن أن يقع فيها الكتمان. ومجمل هذه المعاني التي وقعت بين النصين: الكفر والتوحيد، والعلم الكوني الذي يخدم العقيدة، وقضايا الشرك، والاتباع على باطل وبباطل، وموضوع الحلال والحرام. وتتبع الآن مواضع الفتنة في الفتوى والتأليف. فإنك تجد أن هذه أمهاتها خذ مثلا قضية الاتباع على الباطل. كم من العلماء يجرؤ أن يضع النقاط على الحروف

فيها؟ وما أضر بقلب الإنسان المعاصر شئ كالتأليف المجرد عن الإيمان في العلوم الكونية .. !! (وقد ذهب بعض المفسرين أن آيات الكتمان الأولى فيها خطاب لأمتنا، وأن هذه الآيات خطاب لبني إسرائيل أخذا من أن الخطاب في أول آية البر متوجه لبني إسرائيل، والخطاب عام في كلتا الآيتين. ويدخل فيه الجميع. ولعل الكاتمين من هذه الأمة أكثر إثما، لأن حجة قرآننا علينا، وعلى الناس أظهر.) وقد جاءت آية الكتمان في هذا المقطع بعد الفقرة الأولى التي تحدثت عن أكل الحلال، وعدم اتباع خطوات الشيطان، ووجوب اتباع ما أنزل الله؛ والتحذير عن متابعة الآباء؛ فضلا عن غيرهم، ثم تبيان حقيقة الكفر، والأمر بأكل الطيبات والشكر، وبيان المحرمات؛ وهذه كلها يجتمع فيها شيئان: أن لها تفصيلات دقيقة. وأنه يقع فيها تهيب. ومهمة العلماء أن يفصلوا، وألا يتهيبوا بأن يبينوا. وعلماء بني إسرائيل هم الشهود الكاتمون. فناسب أن يذكر هنا خطر الكتمان، خاصة والسياق قارب أن يغلق الحوار معهم في هذه السورة فاستوعبت آيات الكتمان الحديث عن كتمان أهل الكتاب، وكتمان أهل القرآن. وبعد آيات الكتمان جاءت آية البر. 2 - فكانت تلخيصا لكل ما مر مما له علاقة في قضية التقوى ليكون ذلك كالمقدمة لكلام جديد تذكر فيه طرائق جديدة لتحقيق التقوى في نفس الإنسان أو في المجتمع الإنساني. إن آية البر تلخيص لما مر معنا في شأن التقوى، وهي في الوقت نفسه تفصيل لبعض ما مر، لقد تحددت معنا فيما مضى قضية التقوى، والطريق إليها، وما يتنافى معها، وما يساعد عليها. فالتقوى إيمان بغيب وصلاة وإنفاق واتباع كتاب. والطريق إليها العبادة. ومما ينافيها نقض العهود: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... ومما يساعد عليها الصبر والصلاة. وجماع ذلك طاعة الله دون قيد أو شرط في أي شئ؛ في القبلة وغيرها. وإنك لترى مجموع هذه المعاني في هذه الآية. فمن أخذها وفهمها وعمل بها فكأنه أخذ بالأمر كله. وهذا معنى قولنا إنها تلخيص لما مر. وأما أنها توضيح لبعض ما مر فذلك لأنه مر معنا الإيمان مجملا: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ومر معنا الإنفاق مجملا: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ومر معنا الصبر مجملا: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ* فجاءت هذه الآية لتوضح المجمل فتذكر في تفصيل الإيمان: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ

1 - آيات الكتمان

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. وتذكر محال الصدقات: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ. وتذكر مواطن الصبر: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. فكانت هذه الآية تلخيصا لما مر في شأن التقوى. وتوضيحا لبعض ما مر لينطلق السياق- كما قلنا- موضحا طرائق أخرى للتقوى، ومبينا حقائق أخرى تدخل في التقوى. ولنبدأ عرض تفسير الفقرة مع ذكر شئ من الفوائد ولنا عودة على السياق: 1 - آيات الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ: المراد به إما كل كتاب لله، أو التوراة أو القرآن، والأرجح الأول. وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: الثمن القليل هو الدنيا كلها إذا قيست بقيمة الحق أو بالآخرة. فصار المعنى: ويشترون بهذا الكتمان، الدنيا أو جزءا منها. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه، فكأنه أكل النار. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كلاما يسرهم ولكن بنحو قوله تعالى في سورة (المؤمنون): اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. وَلا يُزَكِّيهِمْ: أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم، أو لا يثني عليهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي شديد مؤلم وذلك لأنهم كتموا، وقد علموا فاستحقوا الغضب. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي: اعتاضوا عن الهدى بالضلالة بهذا الكتمان فأصبحوا ضلالا. وكان بوسعهم أن يكونوا مهتدين. وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب بتعاطيهم أسباب العذاب. وكان بوسعهم أن يتعاطوا أسباب المغفرة بإظهار الحق عملا وسلوكا. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل. يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك. أو المعنى: فأي شئ أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار. وعلى هذا، فالاستفهام توبيخي. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل. وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره. فخالفوه وكذبوه. فأي شهود هؤلاء؟. وأي شهادة ضيعوها؟. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فقالوا في بعض كتب الله إنها حق، وفي بعضها إنها باطل. أو

فوائد

قالوا عن بعض الكتاب إنه حق وعن بعضه إنه باطل. أو اختلفوا في فهمه، فكتموا الفهم الصحيح حسدا وبغيا. وأظهروا الفهوم الباطلة، جزاء هؤلاء لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ: أي لفي اختلاف بعيد عن الحق والهدى. فوائد: 1 - لقد اختلفت أمتنا اليوم في الكتاب: فمن كافر به، ومن مؤمن ببعضه وكافر ببعض سلوكا وعملا إن لم يكن اعتقادا. فكان من آثار ذلك ما نراه مما أخبر عنه القرآن من الشقاق البعيد المتمثل في الحروب الداخلية والفتن والاختلافات في الآراء والأهواء. نسأل الله عزّ وجل أن نكون من الفئة الظاهرة على الحق الناجية التي لا يضرها من خذلها أو خالفها. 2 - عند ما نظهر الحق قد نخسر في الظاهر قليلا، والدنيا كلها قليل. ولكن هذه الخسارة الظاهرة ربح في الدنيا والآخرة. فهؤلاء اليهود في عصر النبوة أول من تنطبق عليهم الآيات وأول من انطبقت عليهم. كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم. فخشوا- لعنهم الله- إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير. فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعل معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات. فصدقه الذين كانوا يخافون عليهم أن يتبعوه، وصاروا عونا له على قتالهم وباءوا بغضب على غضب، وفي الآخرة رأينا ما هو عذابهم بما خالفوا هذا الرسول الخاتم وكذبوه، وجحدوا وكتموا صفته. 3 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة حديثا يذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا آخرين يستحقون عذاب هؤلاء الكاتمين. يقول عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر». وفي الصحيح حديث يذكر كذلك عذاب نوع من الناس يشبه عذاب هؤلاء

2 - آية البر

الكاتمين هو «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». 4 - يلاحظ أن الكلام في آية الكتمان الأولى قد انصب على كتمان البينات والهدى في الكتاب. وفي آية الكتمان الثانية انصب على كتمان كتاب كله. نفهم من ذلك أن نشر المعجزات الموجودة في الكتاب مقصد من مقاصد الشارع. كما أن نشر الهدى الموجود في الكتاب وهو أحكام الله في كل شأن مقصد آخر من مقاصد الشارع. وكما أن كتمان حكم الله حرام، فكتمان المعجزات والدلائل حرام. ويدخل في ذلك الكثير. ففي هذا القرآن معجزات يعرفها علماء الفلك، أو علماء الحياة. فمن كتم حيث ينبغي أن يوضح فذلك يدخله في هذا الوعيد. وفي هذا القرآن هدى لكل جوانب الحياة الإنسانية. في السياسة بفروعها جميعا من الولاء، إلى التجمع، إلى مواضيع الأمة والقوم والإنسانية، إلى قضايا الشورى، إلى قضايا الرئاسة المتمثلة بالخلافة إلى غير ذلك وفى الاقتصاد من التملك إلى غيره. وفي السلم والحرب. من الجهاد إلى الإعداد. وفي الاجتماع من قضايا الأسرة إلى غيرها. وفي الأخلاق والتعليم وغير ذلك. وقد دأب الكثير على المخاتلة وعدم البيان مراعاة للسلطان وغيره، رغبة في الجاه أو رهبة من موقف الحق. وكل ذلك داخل في الوعيد، إلا إذا كان للإنسان رخصة شرعية فذلك مستثنى. وللخروج من الكتمان لا بد من إشاعة حلقات العلم والفقه والتلاوة والتفسير وغيرها. 2 - آية البر: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ: لما أمر الله المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة. كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في هذا الأمر. فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو: أن المراد إنما هو طاعة الله عزّ وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع. فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه. وَلكِنَّ الْبِرَّ هو ما سيأتي في الآية. «قال الثوري بعد ما تلا الآية: هذه أنواع البر كلها» قال ابن كثير- وصدق رحمه الله-: فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله. وذلك أن البر اسم لكل فعل مرضي، ولا بر إلا بما ذكر الله عزّ وجل في هذه الآية مَنْ آمَنَ

بِاللَّهِ بوجوده، وصفاته، وأسمائه، وتوحيده، وربوبيته، وألوهيته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي يوم البعث. وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ أي: جنس الملائكة، وجنس كتب الله أو القرآن، وَالنَّبِيِّينَ جميعا بلا استثناء. فهذا أول البر وأساسه. وبدونه لا يكون بر. إذ من لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن البر لا يصدر منه وإذا صدر فإنه لا يكون دائما. ويكون معلولا بعلة ينتهي البر بانتهائها. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي: أخرجه وهو محب له راغب فيه. ذَوِي الْقُرْبى أي: الأقرباء. وَالْيَتامى: هم الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب. وَالْمَساكِينَ: هم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسد به حاجاتهم وخلتهم. وإنما سمي مسكينا لأنه دائم السكون إلى الناس، لأنه لا شئ له. وَابْنَ السَّبِيلِ. وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته. قال ابن كثير: (وكذا الذي يريد سفرا في طاعة. فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه. ويدخل في ذلك الضيف) ثم روي عن ابن عباس أنه قال: (ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين). وَالسَّائِلِينَ: هم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات. أو هم المستطعمون. وَفِي الرِّقابِ هم المكاتبون. يعانون حتى يفكوا رقابهم. أو هم الأسارى. يعانون لفك رقابهم أو الرقيق مطلقا يعتق ويحرر وَأَقامَ الصَّلاةَ المكتوبة فأتم أفعالها في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي. وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا الله أو الناس فهم لا ينكثون مع الله أو مع الناس. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ: في حال الفقر والشدة وَالضَّرَّاءِ أي: في حال المرض والأسقام والزمانة. وَحِينَ الْبَأْسِ: أي في حال القتال والتقاء الأعداء. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم. لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال. فهؤلاء هم الذين صدقوا. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لأنهم حققوا التقوى حالا وعملا وسلوكا، فاتقوا المحارم، وفعلوا الطاعات. إن هذا هو البر، لا ما يتمسك به أهل الأديان من عصبيات نسخها الله، أو لم ينزل بها سلطانا في الأصل.

فوائد

فوائد: 1 - تبين من الآية أن البر: 1 - إيمان 2 - وإنفاق مما يحب 3 - وإقام صلاة 4 - وإيتاء زكاة 5 - ووفاء عهد 6 - وصبر على كل حال وفي كل حال. فمن اجتمعت له هذه الأمور فقد حصل البر والصدق والتقوى والإيمان. ومن أخل بشيء من هذا فهو إخلال بالبر والتقوى والصدق والإيمان. 2 - روى مجاهد عن أبي ذر- مع أنه لم يدركه فالحديث منقطع- (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟. فتلا عليه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ .. الآية. قال: ثم سأله أيضا. فتلاها عليه. ثم سأله؟ فقال: إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك). فالآية إذن ميزان للإيمان، كما أنها ميزان للبر والتقوى والصدق. وأعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ميزانا دقيقا نعرف به إيمان قلوبنا من خلال محبتنا للطاعة، وكراهيتنا للمعصية. 3 - في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر» نذكر هذا بمناسبة قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ فإذا رأيت نفسك شحت بشيء حبا له، من لقمة، إلى طعام، إلى مال، إلى غير ذلك، واستطعت أن تحملها على الإنفاق، فأنت من أهل هذا المقام. ومن عصته نفسه بالكثير فليحملها على القليل. 4 - أخرج عبد الرزاق عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يتم بعد حلم». فاليتيم هو من لم يبلغ. 5 - في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان. لكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه». في هذا الحديث يلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى أنواع من الناس، ينبغي أن نتذكرهم. 6 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: للسائل حق ولو جاء على فرس». في هذا الحديث أدب عال. هو أن نعامل الإنسان كما يحاول أن يظهر لنا، على شرط هو: أنني لو عاملته بذلك لا يضرني، ولا يضر المسلمين. بل ينفعني عند الله كما في هذه الصورة التي أمامنا. قال عمر رضي الله

عنه: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني). 7 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «في المال حق سوى الزكاة». ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ .... 8 - في الحديث الصحيح: «الصدقة على المساكين صدقة. وعلى ذوي الرحم اثنتان: صدقة وصلة. فهم أولى الناس ببرك وإعطائك». - يلاحظ أن قوله تعالى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ. قد جاء بعد قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ. فلم كانت الصابرين منصوبة، وما قبلها مرفوع؟ وما العامل في النصب؟. يقول النحويون: إن العامل في النصب هو الاختصاص. وحكمة ذلك الإشعار بمدح الصبر وأهله في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، ولإظهار فضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. 9 - يلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما حدد أركان الإيمان في الحديث الصحيح، ذكر ستة «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر». بينما الآية هنا ذكرت خمسا: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. فما السبب؟. السبب والله والله أعلم أن الإيمان بالقدر هو فرع الإيمان بالله. فالقدر: هو علم الله بالأشياء أزلا، وإرادة ما شاء أن يكون، وإبراز ذلك بقدرته. فمن عرف علم الله، وإرادته، وقدرته، آمن بالقدر. ومن ثم لم يذكر هنا- والله أعلم- ولكنه ذكر في مكان آخر بشكل مستقل. وإنما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث تبيانا لأهميته، وتأكيدا لضرورته. 10 - بمناسبة قوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا. قال الألوسي بعد كلام: (وعلى هذا، فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا من العهود الجارية بين الناس. والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق، وحقوق الخلق). أقول: تستغل قضية الوفاء بالعهود عند المسلم في عصرنا استغلالا سيئا. فبعض الناس يأخذون العهود والمواثيق على الناس لأشخاصهم. ويعتبرون ذلك ملزما لمعطي العهد، وكأنه أعطاه للخليفة الشرعي للمسلمين في وجوب الطاعة والالتزام لهذا الشخص. وذلك لا أصل له. ولا ترتب عليه أي أحكام. وأحيانا يكون العهد مرتبطا بطاعة شرعية، فهذا قد

كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الثاني

يكون له أحكام النذر أو اليمين. وأحيانا تكون العهود بين حكومة ودولة كافرة، فإذا لم تكن المعاهدة ابتداء فيها مصلحة للمسلمين فإنها لا تسري عليهم. 11 - قلنا إن الفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الثاني قد ذكرت نموذجين من الناس. نموذج الكاتمين، ونموذج الأبرار. وفي الكلام عن الكاتمين قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى. وإذن فكتمان ما أنزل الله جزء من صراط الضالين. والكلام عن الأبرار جزء من صراط الذين أنعم الله عليهم. ولعل هذا يذكر بما ندعو الله عزّ وجل به كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ولعله يذكرنا بالمسرى العام لسورة البقرة، وصلته بما قبله من سورة الفاتحة، ولعله يوجد من يلومنا على هذه الاستقصاءات. ونظنه مخطئا. وسيتضح له خطؤه كلما سار في هذا التفسير، فرأى من الصلات والروابط ما تندفع به أوهام كثيرة لا بد من دفعها. كلمة أخيرة في المقطع الأول من القسم الثاني: 1 - لعل القارئ لاحظ من خلال عرضنا لهذا المقطع تشابك الصلات بينه وبين المقطع الذي قبله مباشرة، وبينه وبين كل ما سبق من السورة. وهذا يري كيف أن كل آية لاحقة تكمل ما قبلها، وتوصل إلى ما بعدها في خطاب مستوعب للنفس البشرية من أين ينبغي أن يبدأ معها؟ وإلى أين ينبغي أن يسار فيها؟ ولقد رأينا كيف أن المقطع استقر على آية ختم بها الحوار مع بني إسرائيل، ولخصت قضية التقوى ليكون ذلك مقدمة للكلام عن مجموعة أمور تحمي التقوى، أو تحقق بها، أو تعمقها، أو هي جزء منها. وذلك كله مما تضمنته بقية القسم الثاني. وإذا كان ما بقي من القسم الثاني يشكل جولة جديدة في قضية التقوى، فقد يكون من المناسب أن نقدم لذلك بتلخيص لما مر معنا ليكون ذلك بمثابة مقدمة أولى للكلام عن الثلاثين آية القادمة. والتي هي تتمة القسم الثاني: مر معنا من قبل: مقدمة سورة البقرة: وفيها حديث عن المتقين، والكافرين، والمنافقين. ثم جاء القسم الأول وفيه مقاطع، وكله في توضيح معالم الطريق إلى التقوى سلبا أو إيجابا: المقطع الأول في تبيان الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الضلال.

كلمة في الثلاثين آية القادمة

ثم جاء مقطع آدم. فعمق في الطريقين. ثم جاء مقطعا بني إسرائيل وإبراهيم كنموذجين على انحراف عن أمر الله، وإقامة لأمر الله. ثم جاء مقطع القبلة، ومحلها في العبادة- التي هي طريق- التقوى، لا يخفى. ثم جاء مقطع الصبر والذكر والشكر. ومحل ذلك في التقوى طريقا، وفي العبادة لا يخفى. وهكذا جاء القسم الأول ليبين الطريق إلى التقوى، ويحرر من الطريق إلى الكفر والنفاق والفسوق. ثم جاء القسم الثاني: يأمر بالأكل من الحلال الذي هو شرط قبول العبادة، وليحرر من السبب الأول في الانحراف عن أمر الله: وهو كتمان ما أنزل الله. وجاءت آية البر لتلخص ما مر معنا من حقيقة التقوى. والآن يأتي مقطع جديد يتحدث عن القصاص، وعن الوصية: القصاص كطريق يحقق التقوى الاجتماعية، والوصية كحق من حقوق التقوى. ثم يأتي كلام عن الصوم. وهو عبادة وطريق يحقق التقوى الفردية والاجتماعية. ثم يسير السياق. كلمة في الثلاثين آية القادمة: في الثلاثين آية القادمة من الآية (177) إلى الآية (207) مجموعة من الأحكام والأوامر، والنواهي، والتقريرات، وغير ذلك. وقد سبقت كما رأينا بآية البر التي تشبه الآيات الأولى في مقدمة سورة البقرة. إذ في كل تعريف للمتقين. فلنتذكر الآن أن من صفات المتقين أن القرآن فيه هداهم: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولنتذكر أن المقطع الأول من القسم الثاني ورد فيه: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. وورد فيه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ .. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.

ثم جاءت آية البر لتذكر الصادقين المتقين: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. ثم تأتي هذه الآيات الثلاثون لتعرض علينا جزءا من هداية الله للمتقين في كتابه. وهكذا فإن فى الثلاثين آية القادمة تفصيلا في الركن الرابع للتقوى: وهو الاهتداء بكتاب الله، وهكذا. يأتي دور عرض بعض القضايا العملية، بعد تمهيدات طويلة توجد استعدادا للأخذ والتلقي والطاعة. ولذلك نجد كلمة كُتِبَ التى تعني فرض، تتكرر في هذه الثلاثين آية. كما تتكرر صيغ الأمر والنهي. وكل ذلك يأتي بعد المقطع الأول من القسم الثاني الذي هو التمهيد المباشر لذلك. تشكل الثلاثون آية مقطعين، مقطعا قصيرا، ومقطعا طويلا. وكل من المقطعين يبدأ بنداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .... وكل من المقطعين يبدأ بذكر طريق من الطرق الموصلة إلى تحقيق التقوى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فلأول مرة بعد قوله تعالى في بداية القسم الأول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تحدثنا سورة البقرة بشكل مباشر عما يوصل إلى التقوى بمثل هذه الصيغة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وإذا كان القسم الأول دلنا على طريق تقوى الفرد. فإن هذا القسم يحدثنا عما تتحقق به تقوى الفرد والمجتمع، وإن كان كل من الأمرين لا ينفصل عن الآخر. ولكن الكلام عما هو أظهر. وإذا كانت الثلاثون آية القادمة تتألف من مقطعين. وقد مر معنا مقطع من القسم الثاني، فإن القسم الثاني على هذا يتألف من ثلاثة مقاطع. يشكل المقطع القادم؛ المقطع الثاني فيه. كنا من قبل تحدثنا كيف أن القسم الأول من السورة قد وطأ للقسم الثاني؛ فوطأ مقطع الطريقين، ومقطع آدم، والمدخل لمقطع بني إسرائيل، للمقطع الأول في القسم الثاني. وفي مقطع بني إسرائيل يأتي كلام عن قتل رجل، وعن أكل أموال الناس، وعن ظلم الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. ويذكر أن هؤلاء ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ. ثم ....

وفي هذه الجولة يأتي كلام عن القصاص، ثم عن الصيام كطريقين للتقوى. ثم عن القتال الذي به يخاف أعداء الله، ثم عن الحج والعمرة إلى كعبة إبراهيم. وقد جاءت آية البر قبل هذه الجولة وفيها حض على الصبر، والصوم مران على الصبر. وفيها حض على الصبر حين البأس، أي في القتال، وفي الجولة كلام عن القتال وفي آية البر كلام عن الإنفاق. وفي الجولة كلام عن الإنفاق. وإذن فقد سبقت هذه الجولة في مقطعيها بكل المقدمات الضرورية لها. فلنبدأ عرض مقطعها الأول الذي هو المقطع الثاني في القسم الثاني.

المقطع الثاني من القسم الثاني: مقطع القصاص والوصية.

المقطع الثاني من القسم الثاني: مقطع القصاص والوصية. يمتد هذا المقطع من الآية (178) إلى نهاية الآية (182). وهذا هو. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) الفقرة الثانية: [سورة البقرة (2): الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - يتضمن هذا المقطع فقرتين: الفقرة الأولى في شأن القصاص، والفقرة الثانية في الوصية. القصاص كطريق مساعد لتحقيق التقوى في المجتمع الإسلامي وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. والوصية كحق من الحقوق على المتقين: كُتِبَ عَلَيْكُمْ .. الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ .. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فالمقطع إذن يأخذ في بناء التقوى على مستوى الفرد والأمة. 2 - والملاحظ أن كلا من الفقرتين صدرت بقوله تعالى: كُتِبَ* يا أَيُّهَا

الفقرة الأولى

الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... ففي المقطع إذن فريضتان من فرائض الله على هذه الأمة. فبعد أن تحددت صفات المتقين التي من جملتها الإيمان، والصلاة، والإنفاق، والصبر، والوفاء بالعهود، والاهتداء بالقرآن. يأتي هذا المقطع ليبين فريضتين من فرائض الله، فهما إذن داخلتان في السياق الكبير في باب الاهتداء بكتاب الله. 3 - قلنا إن القسم الأول من سورة البقرة وطأ لمعاني القسم الثاني. ولو أنك رجعت إلى ما بعد قصة آدم ومقدمة مقطع بني إسرائيل. لوجدت من جملة ما تجد في نهاية الفصل الأول قصة البقرة، وقتل النفس. وهاهنا تجد كلاما عن القصاص في الفقرة الأولى، ثم إنك تجد في بداية الفصل الثاني تأنيبا لبني إسرائيل على تحريفهم كتاب الله. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وفي الفقرة الثانية فرض الوصية والتهديد لمن يبدل فيها: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. والصلة بين المعنيين غير مباشرة ولكنها صلة. الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ* وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. المعنى العام: يقول تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم. بأنثاكم، وفي شرع القصاص لكم- وهو قتل القاتل- حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها. لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. ولا يسقط القصاص في القتل العمد إلا في حالة العفو وقبول الدية. فإذا حدث العفو فلا يحل للقاتل أن يماطل في الدية. ولا يحل لأهل القتيل أن يثأروا.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ: أي فرض. والقصاص عبارة عن المساواة. وأصله: من قص أثره، إذا تبعه. ومنه القاص، لأنه يتتبع الآثار والأخبار. فِي الْقَتْلى: جمع قتيل. فصار المعنى: فرض عليكم المماثلة والمساواة بين القتلى. الْحُرُّ بِالْحُرِّ أي: الحر مأخوذ بالحر، أو مقتول بالحر. وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ أي: والعبد مقتول بالعبد وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. أي: والأنثى مقتولة بالأنثى. والكلام كله في القتل العمد. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي: فمن ترك له من أخيه. وذلك بالعفو عن القتل، وقبول الدية، ف (من) ترجع إلى القاتل. والأخ هنا، ولي المقتول. والعفو ضد العقوبة. وعبر بكلمة شئ ليفيد سقوط القتل، وقبول الدية. وذكر الأخوة في هذا المقام بعث لأهل القتيل على العطف على القاتل لما بينهما من الجنسية والإسلام. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: فليتبع الطالب القاتل بالمعروف، بأن يطالبه مطالبة جميلة. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي: وليؤد القاتل بدل الدم، أداء بإحسان، بألا يمطله ولا يبخسه. فالولي إذا أعطي له شئ من مال أخيه- يعني القاتل- بطريقة الصلح، فليأخذه بمعروف من غير تعنيف. وليؤده القاتل إليه من دون تسويف. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أي: هذا المذكور، من العفو وأخذ الدية، تخفيف من الله ورحمة عليكم، ورحمة بكم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي: من قتل، وثأر، بعد أخذ الدية أو قبولها. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: موجع شديد في الآخرة. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص، حياة عظيمة، وأي حياة؟. وذلك مما يؤدي إليه- القصاص بالقتل- من الردع عن القتل. فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل من القتل. فكان في شرع القصاص سبب حياة النفسين على الأقل. فإذا أضفنا قضايا الثأر غير المعقول من قتل غير القاتل ثأرا كما هي عادتهم في الجاهلية عرفناكم في القصاص من حياة يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: يا أولي العقول والأفهام. دل ذلك على أن غير أولي العقول هم الذين لا يرون القصاص، وتالله إنهم لكذلك، وما أكثرهم في عصرنا، وما أكثرهم في بلادنا. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: أي: لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، ومنها القتل. قال القرطبي: (والمراد هنا- أي بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- القتل، فتسلمون من القصاص. ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك. فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة).

فوائد

أقول: في الآية إشارة إلى أن القصاص يحقق تقوى الأفراد، ويحقق تقوى الأمة. فوائد: 1 - قال القرطبي: (روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية. فقال الله لهذه الأمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى. الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ. فالعفو أن يقبل الدية في العمد. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ. مما كتب على من كان قبلكم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ: قتل بعد قبول الدية». هذا لفظ البخاري .. وقال الشعبي في قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. قال: «أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا. فقالوا: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان» ونحوه عن قتادة .. أقول: وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فعلى هذا فالآيات تحرم قتل غير القاتل وتوجب القصاص إلا إذا كان صلح فالدية هي البديل. 2 - دلت هذه الآيات على أن مرتكب الكبيرة- حتى ولو كانت القتل العمد- مؤمن، للوصف بالإيمان بعد وجود القتل، ولبقاء الأخوة الثابتة بالإيمان، ولاستحقاق التخفيف والرحمة. وفي القتل ثلاثة حقوق: حق الله الذي انتهك بالاعتداء على خلقه، وحق القتيل الذي اعتدي على حياته، وحق أهل القتيل الذين فجعوا بقتيلهم. والدية أو القتل إنما هما في مقابل حق أهل القتيل، ويبقى حق الله، وحق القتيل. فمن تاب توبة نصوحا فإن الله مرجو أن يعفو عنه، وأن يرضي عنه قاتله، ويدخله الجنة. 3 - في قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ إن أرجعنا ذلِكَ إلى العفو وقبول الدية، كان المعنى ما ذكرنا. ولكن إذا أرجعناه إلى ما قبل ذلك كله، أصبح معنى العدوان أوسع. فدخل في ذلك من قتل غير القاتل. إذن الحكم قتل القاتل، أو العفو عنه، فمن تجاوز هذا وهذا فقد اعتدى. 4 - في تعريف القصاص، وتنكير الحياة، بلاغة بينة. وأعظم من عبر عن بلاغة هذا المقام، مصطفى صادق الرافعي في كتابه الرائع: (تحت راية القرآن) إذ بين أن في هذا المقام من البلاغة ما يفوق أبلغ كلمة قالتها العرب في هذا الباب. وهي قولهم: «القتل

مسائل.

أنفى للقتل». من وجوه عدة، ذكرها فليراجع. فما أعظم هذا القرآن الذي لا يحيط بعظمته إلا من أنزله. 5 - نلاحظ أن القصاص مفروض إقامته على المسلمين. ولما كان القصاص لا تستطيعه إلا دولة وحكومة، فقد وجب على المسلمين إذن إقامة الحكومة الإسلامية التي تؤمن بالإسلام وتحكم به. إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا الواجب من أهم الواجبات الإسلامية التي غفل عنها المسلمون في عصرنا، فتعطلت أحكام الله عزّ وجل وتعطلت شريعته. 6 - دلت آية: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ على أن التقوى لا تتم إلا بسلطان وحكم وعقوبة. ومن ثم قال عثمان رضي الله عنه: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» فلا تقوى على الكمال والتمام إلا بوجود الحكومة الإسلامية، التي تطبق أحكام الله 7 - روى الإمام أحمد عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أخيه، فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها». وعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية». قال ابن كثير في تفسيره: (يعني لا أقبل منه الدية بل أقتله). 8 - هناك اتجاه عالمي في منع القصاص بالقتل. يحاول كثير من الكتاب أن يثيروا الشفقة على القاتل. ويدعوا إلى رفع عقوبة الإعدام، ومن الآية نفهم أن أمثال هؤلاء لا عقول لهم، ولو كان لهم عقول، لرأوا من خلال التجربة كيف أن أكثر البلاد أجهزة أمن؛ كأمريكا، هي أكثرها جريمة؟! لعدم وجود العقوبات العادلة. وكيف أن أقل البلاد أجهزة أمن عند ما تقام بها شريعة الإسلام هي أقلها جريمة؟! مسائل. 1 - فرضت الآيات القصاص وذكرت أن الحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. وهنا تثور أسئلة: هل يقتل الحر بالعبد؟ هل يقتل الرجل بالمرأة؟ هل يقتل المسلم بالكافر؟. ذهب أبو حنيفة: إلى أن الحر يقتل بالعبد، والرجل بالمرأة، والمسلم بالذمي لعموم آية المائدة: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.

وذهب جمهور العلماء إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، وأن المسلم لا يقتل بالكافر لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري: «لا يقتل مسلم بكافر». وقد حمل الحنفية هذا النص على الكافر الحربي. فإنه لا يقتل به مسلم ولا ذمي. وقال الحسن وعطاء: (لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية). وخالفهم الجمهور لآية المائدة، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم». وقال الليث: (إذا قتل الرجل امرأته، لا يقتل بها خاصة). وقد خولف في ذلك. 2 - قال مالك في المشهور عنه، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد في أحد قوليه: ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل. وقال الباقون: له أن يعفو عليها، وإن لم يرض القاتل، وعليه الدية. 3 - مذهب الأئمة الأربعة، والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد. قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ، وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت. ثم قال ابن المنذر: (وهذا أصح. ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه. وإذا اختلف الصحابة، فسبيله النظر). 4 - عند ما يكون للقتيل أولياء، فإن أيا ممن له الولاية المباشرة يحق له أن يعفو. وبالتالي يسقط القصاص، وتجب الدية وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو. منهم الحسن، وقتادة، والزهري، وابن شبرمة، والليث، والأوزاعي. وخالفهم الباقون. 5 - مما يشهد لمن ذهب أن الحر يقتل بالعبد، ولو كان سيدا له. الحديث: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه». 6 - هل تعتبر آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. من باب المنسوخ، نسختها آية: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ؟. ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء. والموضوع متعلق بتعريف النسخ، وما يدخل ضمنه، إذ إن آية المائدة لم تلغ ما دخل في هذه الآية بل وضحته، أو زادت عليه. فهذه الآية خصصت الحكم بنوع، وتخصيصها

شبهة

بنوع لا ينفيه عن نوع آخر. بل يبقى الحكم موقوفا على ورود دليل آخر. وقد جاء الدليل في سورة المائدة. شبهة: يحاول بعض الخبثاء؛ وبعض الجاهلين أن ينسفوا التشريع الإسلامي بحجة كثرة الأقوال والمذاهب في بعض المسائل. والجواب: 1 - ما اختلف فيه لا يكون علة لنسف ما لم يختلف فيه. فمثلا في مسألتنا لم يختلف في قتل المسلم بالمسلم، أو في قتل الكافر بالمسلم. فالاختلاف في شئ لا يعني الاختلاف في كل شئ. فإذا كانوا صادقين بأنهم مؤمنون مسلمون، فليسلموا بما لا خلاف فيه، وليطبقوه. على أن ما اختلف فيه، سبيله النظر، الترجيح بطرق الترجيح التي يعتمدها أهل الحل والعقد في هذه الأمة. 2 - إن ما اختلف فيه لا ينبغي أن يكون سببا لترك الشريعة. إذ هو حجة للشريعة إذ إن الأقوال الكثيرة في المسألة الواحدة، تجعلنا أمام خيار واسع، نختار منها ما يصلح لزماننا، وقطرنا، وحالنا. على شرط أن يكون الاختيار من أهله، ومراعى فيه الدليل، ومتحققة فيه المصلحة. 3 - في الشريعة الإسلامية أعطي الإمام أو نائبه حق الترجيح والاختيار لما اختلف فيه من آراء. وفي ذلك ضمان لوحدة التشريع والقانون. فالاختلافات المذهبية إذن لا تعني عدم وحدة القانون المطبق على الأمة، أو على قطر من أقطارها. فكم من ميزة لهذا الإسلام ينكرونها ليجعلوها مأخذا. محل هذه الفقرة من السياق: رأينا أن سورة البقرة بدأت بوصف المتقين في مقدمتها. ثم جاء السياق ب يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ليدعو الناس أن يكونوا من المتقين بسلوك طريق ذلك. وطريق ذلك: العبادة لله وحده بمفهومها الواسع الذي بينه السياق حتى نهاية آية البر. ثم جاء هذا المقطع ليذكر لنا طريقا مساعدا للتقوى، وهو القصاص وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

توضيح هام

فلا تقوى إلا بقصاص، ولا قصاص إلا بدولة وحكومة، ولا نكون من المتقين المهتدين بهدي كتاب الله- وهي الصفة الأولى من صفات المتقين- حتى نقيم القصاص بإقامة الدولة التي تقيمه، ورقابتها، ومحاسبتها. فليعلم ذلك الذين يظنون أن التقوى مجرد صلاة، وليعلم ذلك الذين لا يبذلون أدنى جهد صحيح لإقامة حكم الله في الأرض. فالسياق إذن ماض على نسق واحد هو الدعوة إلى التقوى، بتبيانها، وتبيان طريقها، وتعميق مفاهيمها. توضيح هام: التقوى: هي تنفيد ما يطالب به كل إنسان من كتاب الله، وسنة رسوله. والمحاسبة تكون على التقصير ضمن الوسع. فمثلا أنا كمسلم لا أستطيع أن أطبق حكم القصاص بمفردي. ولكي أبرئ ذمتي عند الله علي أن أبذل جهدا من أجل الوصول إلى تطبيق حكم القصاص والعمل ضمن وسعي، إما بالسعي نحو إقامة الحكومة الإسلامية حال فقدها، أو بتذكيرها حال وجودها، أو بالسعي نحو العفو في كل حال. الفقرة الثانية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اتجاهات المفسرين في هذه الفقرة: هل الآية الأولى في هذه الفقرة منسوخة بآية المواريث الموجودة في سورة النساء؟ أو أن آية المواريث مفسرة لها؟ أو أن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصية؟. ثلاثة أقوال في الآية، الذي عليه عامة الفقهاء هو الأول. والذي نقله الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني هو الثاني ثم قال أي الرازي: (وهو قول أكثر المفسرين، والمعتبرين من الفقهاء). والقول الثالث ذهب إليه الكثير، منهم ابن عباس، والحسن، ومسروق، وطاوس، والضحاك، ومسلم بن يسار، والعلاء بن زياد، وغيرهم. وسنرى أنه من الناحية العملية لا يترتب على هذا الخلاف كبير أمر في موضوع التطبيق. وإنما الموضوع مرتبط بذوقية تذوق القرآن، وبانسجام الفهم للنص مع مجموعة النصوص. وسنشرح الآية شرحا حرفيا وكليا على ضوء القول الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.

شرح الآية على القول الأول

شرح الآية على القول الأول: اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبا قبل نزول آية المواريث. فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصي. فإذا اتضح هذا، صار المعنى الحرفي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: أي فرض عليكم إذا دنا الموت من أحدكم فظهرت عليه أماراته. إِنْ تَرَكَ خَيْراً: أي ترك ما لا كثيرا. وحدده ابن عباس بستين دينارا فما فوق الْوَصِيَّةُ أي فرضت الوصية قضاء لحق القرابة والوالدين. لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالرفق والإحسان. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ: أي واجبا على الذين يتقون الله. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي فمن بدل الوصية وحرفها، فغير حكمها، وزاد فيها، أو نقص- ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى- فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ: أي إثم التبديل على المبدل دون غيره من الموصي والموصى له. لأنهما بريئان من الحيف. وللميت الأجر. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: أي قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك، وبما بدله المبدلون. فهو سميع لقول الموصي، عليم بجور المبدل فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ: أي من علم منه. جَنَفاً أَوْ إِثْماً. الجنف: هو الميل عن الحق بالخطإ، والإثم: هو الميل المتعمد عن الحق هنا. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: أي بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون، بأن يعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء وأشبهها بالحق والعدل. فهذا الإصلاح والتوفيق ليسا من التبديل في شئ. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ: في هذا التبديل. لأن تبديله تبديل باطل إلى حق. وقيل هذا في حال حياة الموصي. أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح، فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولا. أو فلا إثم على هذا الناصح. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: يغفر لمن أصلح ويرحمه. أو يغفر لمن وقع في الخطأ ثم تراجع عنه، ويرحمه. هذا شرح الآيتين على القول بأنهما منسوختان. نسختهما آيات المواريث. وأما شرح الآيتين على القول الثاني فهو: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ: أي فرض عليكم

شرح الفقرة على القول الثالث

أيها المسلمون إذا مات أحدكم وترك مالا أن تنفذوا ما وصاكم الله به في صلة الوالدين والأقربين. والتي حددها الله في هذه الحالة بآيات الميراث فيما بعد. بِالْمَعْرُوفِ: أي بالعدل وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، كما حدده الله تعالى. قال عليه الصلاة والسلام بعد أن أنزلت آيات الميراث: «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه. فلا وصية لوارث». حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ: إن تطبيق هذه الوصية وإعطاء الوارثين حقوقهم أمر واجب على المتقين. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ: فمن بدل حكم الله في قضايا الإرث بعد ما سمعه فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ: فإنما إثم التبديل على من فعله. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً: أي فمن خاف من مورث أوصى جنفا: أي خطأ بأن زاد وارثا بواسطة أو وسيلة كما لو أوصى ببيعه الشئ الفلاني محاباة، أو أوصى لابن بنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل. إما مخطئا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدا آثما. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: بأن أرجع الأمور إلى نصابها في تطبيق حكم الله في قضايا الإرث. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، بل هو مأجور لإقامة أمر الله. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعلى هذا الاتجاه فهذه الفقرة مقدمة لآيات الميراث وبإطلاقها تطبق على مرحلة ما قبل نزول آيات الميراث، فهي تمهيد لما بعدها وحل مؤقت لبعض الأمور. شرح الفقرة على القول الثالث: القول الثالث: أن هذه الآية ثابتة فيمن لا يرث، منسوخة فيمن يرث. فالأقربون أعم ممن يرث أو من لا يرث. فرفع حكم من يرث بما عين له. وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى. وهذا الاتجاه لا يصح إلا إذا اعتبرنا أن الوصية في الأصل كانت ندبا، وبقيت مندوبة. وعلى هذا ف كُتِبَ في الآية، المراد بها على رأي هؤلاء، ندب. وهذا يخالف ظاهر الآية وسياقها. إلا إذا اعتبرنا قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ في الآية تخصيصا. بمعنى أن هذا على من اتقى كالفريضة. إذ التقي يأخذ بالعزيمة من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. فعلى هذا فإن في آية الميراث في سورة النساء حكما مستقلا، لأهل الفروض والعصبات رفع به حكم هذه الآية بالنسبة لهم بالكلية. وبقي الأقارب الذين لا ميراث لهم. يستحب للمسلم أن يوصي لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية، وشمولها. وللأحاديث الواردة في ذلك. فلنذكرها أولا. ثم نشرح الآية على ضوء ذلك.

1 - في الصحيحين أن سعدا قال يا رسول الله: «إن لي مالا، ولا يرثني إلا ابنة لي. أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فبالشطر؟. قال لا. قال: فالثلث؟. قال: الثلث. والثلث كثير، إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس». وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث. والثلث كثير». 2 - في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. 3 - في مسند عبد بن حميد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «يا ابن آدم. ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك به، وأزكيك. وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك». أي إن الله من علينا بما شرع لنا من الوصية التي تنفعنا بعد موتنا كما من علينا بقبوله دعوات المؤمنين لأمواتهم. فإذا اتضح هذا، صار معنى الآية على هذا الاتجاه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ: أي يستحب لكم أن توصوا لمن لا يرث من الأقربين بشيء من أموالكم في حدود الثلث. أما الوارثون، فإرثهم- ضمن ما حدد الله في سورة النساء- واجب. بِالْمَعْرُوفِ: أي في حدود الثلث بعد ما نزلت آية المواريث. حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ: من الأوصياء والشهود. فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ: فما إثم التبديل إلا على مبدله. والأجر كامل للموصي. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً. بأن زاد على الثلث في الوصية، أو أوصى لوارث خطأ أو عمدا. فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بإجراء الأمور على طريق الشرع. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هذا شرح لهذه الفقرة كما رأينا على كل الاتجاهات الرئيسية لفهمها ومنه نعلم أنه لا يترتب على الخلاف في فهمها كبير أمر فالإجماع منعقد على ألا وصية لوارث والإجماع منعقد على استحباب الوصية.

فوائد

فوائد: 1 - مر معنا حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». وقد حمل العلماء هذا على من عليه دين، أو عنده مال لقوم، أو كانت له حقوق على الناس يخاف تلفها على الورثة. فعندئذ تكون الوصية في حقه واجبة. أما عن سوى ذلك. فالوصية في حقه مندوبة، أن يوصي أهله بتقوى الله، والاستمرار على الإسلام وألا يفعلوا منكرا في جنازته. ثم إذا ترك مالا، فالمستحب في حقه أن يوصي لغير الوارثين من الأقربين، والأرحام، والفقراء، وأوجه الخير. 2 - هناك اتجاه يرى أن الوصية للوالدين والأقربين من غير الوارثين واجب، كما إذا كان الوالدان كافرين. وبناء على هذا الاتجاه، فقد اعتمد قانون الأحوال الشخصية في بعض الأقطار الإسلامية وجوب الوصية لابن الابن إذا توفي أبوه في حياة جده. 3 - قال القرطبي في قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ (الخطاب .. لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية، وعدولا إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته، لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم. فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح والإصلاح فرض على الكفاية. فإذا قام أحدهم به سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل) أي ممن يعلم. 4 - أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة. فإذا أوصى، حاف في وصيته فيختم له بشر عمله. فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة». قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها. الآية وقد وصف ابن كثير هذا الحديث بأنه أحسن ما ورد في هذا الباب. 5 - قال النسفي في الآية: (وقيل غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر. لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام. يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه. والإسلام قطع الإرث. فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندبا.

محل هذه الفقرة في السياق

وعلى هذا لا يراد ب كُتِبَ فرض). اه. وهذا القول يمشي على الاتجاه الثالث. محل هذه الفقرة في السياق: في الفقرة السابقة ذكر أن القصاص عامل من عوامل التقوى في المجتمع الإسلامي، وفي هذه الفقرة ذكر أن تطبيق حكم الله في موضوع الوصية والميراث حق على المتقين. فدل ذلك على أن من صفات المتقين، الاهتداء بهدى الله في موضوع الوصية والميراث. محل هذا المقطع في السياق: رأينا أن هذا المقطع يتألف من فقرتين، وفيه فريضتان: فريضة لها علاقة بالتشريع الجنائي. وفريضة لها علاقة بالأموال. وقد ربطت كل من القضيتين بقضية التقوى، التي هي عنوان التربية القرآنية عامة، ومضمون السياق الرئيسي في سورة البقرة حتى نهاية هذا القسم خاصة. وهذا المقطع جزء من هذا السياق. فهو يبين أن من التقوى اتباع الكتاب في موضوع الأنفس وفي موضوع الأموال.

المقطع الثالث من القسم الثاني

المقطع الثالث من القسم الثاني: يمتد هذا المقطع من الآية (183) إلى نهاية القسم الثاني. أي إلى نهاية الآية (207). ونكتفي بذكر فقراته فقرة فقرة عند تفسيرها بدلا من ذكره كله هاهنا. كلمة في هذا المقطع وسياقه: 1 - يتألف هذا المقطع من ست فقرات: فقرة حول الصوم كطريق إلى التقوى. وفقرة حول بعض الأحكام المالية. وفقرة حول تصحيح مفهوم خاطئ في شأن الدخول إلى البيوت. وفقرة حول القتال والإنفاق. وفقرة حول الحج والعمرة. وفقرة حول صنفين من الناس. وكل هذه الفقرات صلتها بالتقوى موجودة. إذ لا زال الكلام عنها يشكل السياق الرئيسي في السورة. ففي هذا المقطع يوجد في شأن التقوى إما دلالة على طريق يوصل إليها، وإما تصحيح مفهوم حولها، أو تذكير بخلق من أخلاقها. 2 - نلاحظ أن هذا القسم بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. وفي المقطع الأول يبين الله عزّ وجل ما حرم علينا من الخبائث الطعامية: من دم، وميتة، ولحم خنزير، إلا في حالة الاضطرار. وفي المقطع الثاني رأينا قضية القصاص والدية. ورأينا قضية الوصية. والدية والوصية لهما صلة بقضية المال الحلال من وجه. وفي هذا المقطع يأتي الأمر بالصوم. وإذن فالأمر بإباحة الأكل الحلال، مقيد بألا يكون في وقت الصوم من رمضان. ثم يأتي قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ .... ولذلك صلة في موضوع الحلال، وترك اتباع خطوات الشيطان. ثم يأتي سؤال له صلة في الحج، ثم كلام عن قتال له صلة في المسجد الحرام. ثم يأتي كلام عن الحج. وفي ذلك كله تعميق لقضية عدم اتباع خطوات الشيطان. فالصوم عامل مساعد على عدم اتباع خطوات الشيطان، وأكل الحلال كذلك. ثم إن إتيان البيوت من ظهورها، وفتنة أهل الله عن دينهم، وترك القتال في سبيل الله، وترك الإنفاق، وترك إقامة المناسك كل ذلك من اتباع خطوات الشيطان. ثم يعرض علينا المقطع نموذجين من الناس. نموذجا خالصا لله. ونموذجا خالصا للسير في طريق الشيطان. فصلة المقطع الثالث بفقراته كلها بالمقطع الأول ذات مظاهر متعددة أشرنا إلى بعضها من قبل. وهذه بعض مظاهرها هنا.

3 - قلنا من قبل إن القسم الأول وطأ للقسم الثاني. وجاءت هذه التوطئة على تسلسل معين، بحيث إن ما يرد في القسم الثاني تتسلسل معانيه بحيث تتوافق مع تسلسل المعاني في القسم الأول. فمعاني المقطع الأول والثاني والثالث من القسم الأول وطأت لمعاني المقطع الأول في هذا القسم. وهكذا. ولو أنك تأملت قضية الصوم في هذا المقطع، وصلتها بتزكية النفس، وورود آية الدعاء في وسط ذلك. ثم لو رأيت مجموعة ما ورد بعد ذلك من معان تصحيحية أو أوامر مربية، أو موجهة، أو معان لها صلة بالمناسك. وتذكرت قوله تعالى في مقطع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا، لو أنك تأملت هذا كله لرأيت مظهرا جديدا من مظاهر التوطئة التي قدم لها القسم الأول للقسم الثاني. 4 - جاءت آية الإنفاق في المقطع بين آيات القتال، وآيات الحج. لأن القتال والحج يحتاجان إلى مال وإنفاق. وذلك كله جاء بعد الأمر بإتيان البيوت من أبوابها. والقتال والحج يحتاجان إلى أن يسلك الإنسان الطريق المؤدي إلى إنجاحهما. وذلك كله جاء بعد النهي عن أكل أموال الناس بالباطل والرشى، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل لا يضحي بنفسه، ولا ينفق، ولا يحج إلا على مرض يقل فيه الإخلاص أو ينعدم. وذلك كله مسبوق بالكلام عن الصوم مما يشير إلى أهمية الصوم في تحقيق أمر الله في هذه الأمور كلها. فالحج والقتال يحتاجان إلى صبر، والصوم صبر. وترك أكل أموال الناس بالباطل يحتاج إلى ضبط نفس، والصوم ضبط نفس. والإنفاق يحتاج إلى دوافع. وفي شهر الصوم يكثر الإنفاق ويعتاده الإنسان. ولهذا وغيره من الحكم تقدم الكلام عن الصوم فقرات هذا المقطع. 5 - ولقد قلنا أكثر من مرة: إن الإسلام أركان وبناء، الأركان هي الشهادتان والصلاة، والزكاة، والصوم والحج. أخذا من الحديث: «إن الإسلام بني على خمس». وأما البناء فهو أحكام الله في كل شئ. فالإسلام مجموع أحكام الله في العقائد والعبادات ومناهج الحياة وغير ذلك. وسورة البقرة عرضت حتى نهاية هذا القسم- في جملة ما عرضت- للأركان الخمسة فذكرت الإيمان الذي رمزه العملي الشهادتان، وذكرت الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكان ذلك مقدمة للقسم الثالث الذي سيدعو إلى الدخول في الإسلام كله. وخلال عرضها لقضية الأركان ذكرت أمورا كثيرة مما يشير إلى عدم انفصال الأركان عن

الفقرة الأولى

البناء ومما يشير إلى الأسس النظرية والعملية لهذه الأركان، ومما يدل على أن الوضع السليم أن ينبثق عن الإيمان عمل، وأن العمل الصالح بعضه مرتبط ببعض، وكل ذلك مرتبط بصلاح النفس لصلاح الحياة بالله ولله. وسنعرض فقرات هذا المقطع حتى ينتهي. ثم نعقب بكلمة عنه، وعن القسم كله. الفقرة الأولى: [سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 185] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

كلمة في الفقرة

كلمة في الفقرة: يلاحظ أن الفقرة مبدوءة بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وانتهت بقوله تعالى كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. نلاحظ كلمة التقوى في الآية الأولى وفي الآية الأخيرة. فهذه الفقرة إذن تشرح طريقا جديدا من طرق التقوى. فعبادة الله طريق إلى التقوى، والقصاص عامل من عوامل التقوى، والصيام طريق من طرق التقوى. ولأهمية الصيام جعل ركنا من أركان الإسلام، كالشهادتين والصلاة والزكاة. وبهذا المقطع تتأكد التقوى في الأنفس ويصبح عند المسلم استعداد عملي كامل لاتباع كتاب الله في كل شأن. ومن ثم تأتي أوامر، ونواه، وتقريرات مباشرة، بلا أي نداء مباشر حتى آخر هذا المقطع ليأتي بعد ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وسنشرح هذه الفقرة آية آية، شرحا حرفيا. وإذا كان من فائدة لها علاقة بآية نأتي بها مباشرة بعد الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي: فرض عليكم الصيام. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: كما فرض على الأمم من قبلكم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الله باجتناب معاصيه. لأن الصيام أضبط للنفس، وأردع لها عن مواقعة السوء. أو لعلكم تنتظمون في زمرة

فوائد

المتقين. إذ الصوم شعارهم. والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع والمفطرات، من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، بنية الصوم لله عزّ وجل. خاطب الله عزّ وجل المؤمنين من هذه الأمة آمرا لهم بالصيام، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرذيلة. وذكر أنه إن أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم. فلهم فيهم أسوة. والحكمة من الصوم، تحصيل التقوى، لما في الصوم من تزكية للبدن، وتضييق مسالك الشيطان. ولهذا ثبت في الصحيحين: «يا معشر الشباب. من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». فوائد: 1 - في كتاب الأركان الأربعة لأبي الحسن الندوي عرض للصوم كما هو الآن في الأديان العالمية الكبيرة، كالنصرانية، واليهودية، والهندوسية .. مما يثبت أن الصوم لم تخل منه ديانة. وهذا الذي ذكره القرآن هنا. ولكن أهل الأديان حرفوا، وبدلوا، وزادوا، ونقصوا كما هي عادتهم في كل شئ وسننقل كلام الأستاذ الندوي في نهاية الحديث عن الصوم. 2 - إن الحكمة من فرض الصوم علينا هي الوصول إلى التقوى. فمن صام رمضان ثم لم يحصل التقوى فقد فرط، إن الإيمان بالغيب وإن التوحيد هما البذرة التي تتفرع عنهما شجرة الإسلام لتؤتي ثمارها، والصلاة هي الغذاء اليومي لهذه الثمرة، والإنفاق هو الذي يجتث الحشائش الضارة من أرض القلب، كالشح والبخل والحرص. ويأتي الصوم ليضبط الاندفاعات النفسية الخاطئة في أخطر مظاهرها، شهوة الفرج، وشهوة البطن، إذ يعود المسلم على ضبط ذلك، ثم يأتي الحج ليسقي بذرة الإيمان تسليما. فبقدر ما يعطي المسلم لكل ركن من أركان الإسلام مداه في نفسه ومن نفسه فإنه يكمل بذلك وتكمل بذلك تقواه. إن الصوم تعويد للناس على ضبط شهواتها، كما أنه تخل لله عن شهوات النفس طاعة لله، وإن آثار ذلك لمن فعله إيمانا واحتسابا هي أن يكرم الله الصائم بتحقيقه بالتقوى التي فيها جماع خيرى الدنيا والآخرة، تلك هي الحكمة الرئيسية في الصوم وهي التي نصت عليها الآية الأولى من فقرة الصوم. فإذا

[سورة البقرة (2): آية 184]

صام الإنسان وأقام فرائض شهر الصوم، وسننه، فإنه يخرج بزاد من التقوى يحمله سنة. فالصلاة في أوقاتها، والصوم في وقته، والحج إذا أدي، والإنفاق إذا كان، كل ذلك زاد القلب المتكامل الذي من آثاره القيام بأمر الله في كل شئ والذي من ثمراته الاستقامة على أمر الله. ولنعد إلى التفسير: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي: كتب عليكم أن تصوموا أياما مؤقتات بعدد معلوم. وهذا يفيد القلة فكأنه إشعار بسهولة ما كلفنا به فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي: فمن كان منكم يخاف من الصوم زيادة المرض، أو بطء البرء، أو يخاف المرض بسبب الصوم بغلبة الظن، إما بإمارة، أو تجربة، ولو كانت من غير المريض عند اتحاد المرض، أو بإخبار طبيب حاذق مسلم عدل، أو مجهول الحال، لم يظهر له فسق ولا عدالة. أو كان مسافرا سفرا شرعيا، بأن يكون قاصدا موضعا يبعد عن بلده مسافة واحد وثمانين كيلومترا- على اجتهاد بعضهم- بشرط أن يكون قد أنشأ السفر قبل الفجر، ليصح له أن يفطر اليوم الأول وذلك يقتضي أن يكون متلبسا بالسفر عند الفجر- على الرأي الأحوط- فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره. والعدة بمعنى: المعدوم. أي: أمر أن يصوم أياما معدودة بدل أيام مرضه وسفره. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ في هذا النص اتجاهان رئيسيان، الاتجاه الأول: أنه قبل: يُطِيقُونَهُ توجد (لا) مقدرة فصار المعنى: وعلى الذين لا يستطيعونه، كالشيخ الفاني الذي فنيت قوته، وعجز عن الأداء وهو في تناقص إلى أن يموت، والعاجز عن الصوم عجزا مستمرا، والمريض اليائس من الصحة، فهؤلاء يفطرون وعليهم فدية وجوبا إطعام مسكين يوما عن كل يوم. أو أن يدفع إليه نصف صاع من بر، أو صاعا من غيره عن كل يوم، أو ثمنه. والصاع حوالي أربعة كيلوغرام في أول تقدير الحنفية. في أول الشهر أو أوسطه أو آخره، أو بعد ذلك. وعلى هذا الاتجاه، فهذا النص غير منسوخ. وأما الاتجاه الثاني في فهمه، فكما قال معاذ: كان هذا في ابتداء الأمر. من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا. قال النسفي: وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية. ثم نسخ التخيير بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. ولهذا كرر قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ لأنه لما كان مذكورا مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم. قال ابن كثير: فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.

فوائد

بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. وأما الشيخ الفاني الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه .. ولكن هل يجب علية إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة. فيه قولان .. والثانى هو الصحيح، وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على مقدار الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فالتطوع او الخير خير له وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كان عندكم علم. وهذا يتمشى مع الاتجاه الثاني في فهم النص. أي على اعتبار أن هذه الآية منسوخة أما على الاتجاه الأول الذي لا يفيد النسخ فإن المعنى يكون: وصيامكم في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم إن كان عندكم علم. وهل المقصود بالعلم، العلم بالآخرة؟ أم العلم بما يضر وينفع للروح والجسد في الحياة الدنيا؟. العموم يشمل الجميع. فالصوم خير كله. فوائد: 1 - أكثر العلماء على أن هذا النص منسوخ بالآية بعده. ولعدم النسخ وجه تؤيده قراءة حفصة رضي الله عنها: (وعلى الذين لا يطيقونه) ومثل هذه القراءة الشاذة لا تثبت قرآنا ولكنها تفيد تفسيرا. 2 - المرضع والحامل إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما نسبا كان أو رضاعا، فإنه يباح لهما الفطر يوم العذر. وكذلك للمريض. أما المسافر فقد رأينا أنه لا يباح له الفطر يوم السفر، إلا إذا كان سفره قبل الفجر في رأي من ذهب إلى ذلك من العلماء كما سنرى. 3 - ضعف أنس عن الصوم. فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم. 4 - في قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. بيان أن العلم فيه بيان لخيرية الصوم. وأنه كلما ازدادت معارف الإنسان الدينية أو الدنيوية يتأكد هذا المعنى. فكم للصوم من آثار طيبة في شفاء أمراض الجسد. وكم من آثار طيبة في شفاء النفس، وقد كتبت في هذا الموضوع الكتب ودبجت المقالات بأقلام أطباء ومجربين مرضى فلله الحمد. شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: يمتدح الله تعالى شهر رمضان، وتخصيصه بفريضة الصوم من بين الشهور. بإنزال القرآن فيه إما بابتداء إنزاله فيه- وكان

فوائد

ذلك في ليلة القدر-. أو بإنزاله فيه إلى السماء الدنيا، أو بالاثنين معا. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ: هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به، وصدقه، واتبعه، ودلائل وحججا بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى والرشاد، المنافي للضلال، والمخالف للغي، ومفرقا بين الحق والباطل، والحلال والحرام، فالفرقان: هو ما يفرق بين الحق والباطل، والبينات: الواضحات المكشوفات. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي فمن كان شاهدا، أي حاضرا مقيما غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر. ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي. ولما حتم الصيام. أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء كما مر. ليعلم أن هذا مما لم ينسخ فقال: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: وجمهور السلف والخلف على أنه لا يجب التتابع في القضاء. بل إن شاء فرق، وإن شاء تابع. لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: حيث أباح الفطر في السفر والمرض. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: أي إنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ: أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم معظمين إياه على نعمة هدايتكم إلى صراطه المستقيم في كل شئ، وفي أمر الصوم. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده. فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك. فوائد: 1 - قال الحنفية: صوم المسافر أفضل من فطره إذا لم يضره، ولم تكن عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة. فإن كانوا مشتركين أو مفطرين ولو أكثرهم فالأفضل فطره، موافقة للجماعة. وقال الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار .. وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل أخذا بالرخصة. وقالت طائفة: هما سواء. وقيل إن شق الصيام فالإفطار أفضل. قال ابن كثير: فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الإفطار ويحرم عليه الصيام والحالة هذه. 2 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن خير دينكم أيسره. إن خير دينكم أيسره». وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام قال: «يسروا ولا تعسروا

وسكنوا ولا تنفروا». وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا». وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة». 3 - استدل قوم بقوله تعالى هنا: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ: على مشروعية التكبير في عيد الفطر. حتى ذهب داود الظاهري إلى وجوبه. وقال الحنفية: يكبر في طريقه إلى المصلى سرا بحيث يسمع نفسه. وعامة العلماء على استحبابه يوم الفطر. 4 - روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان. وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان. وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان». وأخرج ابن مردويه من حديث جابر وفيه: «أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدم». قال ابن كثير: وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة. وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا. وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه .. ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ: قال ابن كثير: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر كما رواه الإمام أبو داود .. عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة». فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى- ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد». قال عبيد الله بن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمر يقول إذا أفطر: «اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ أن تغفر لي» وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح

أسباب النزول

لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين». اه. أسباب النزول: أخرج ابن أبي حاتم: .. : أن أعرابيا قال: يا رسول الله- صلى الله عليك وسلم- أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي .. الآية إذا أمرتهم أن يدعوني، فدعوني استجبت. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل الله عزّ وجل: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ .... وقال ابن جريج عن عطاء أنه بلغه لما نزلت: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو؟. فنزلت: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي .... المعنى الحرفي: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ: هذا وعد صدق من الله لا خلف فيه، غير أن إجابة الدعوة لا تعني بالضرورة قضاء الحاجة، فإجابة الدعوة أن يقول العبد: يا رب، فيقول الله: لبيك عبدي. وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن، وقضاء الحاجة: إعطاء المراد. وذا قد يكون ناجزا، وقد يكون بعد مدة، وقد يكون في الآخرة، وقد يكون الخيرة له في غيره. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي: إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي: بوجودي وأسمائي الحسنى، وصفاتي العليا، وقربي، وإجابتي. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ: أي ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد، وهو ضد الغي. أحاديث وآثار: 1 - روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو الله عزّ وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذن نكثر. قال: «الله أكثر». 2 - روى البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم. واحدة لك، وواحدة لي، وواحدة فيما بيني وبينك.

فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئا. وأما التي لك: فما عملت من شئ، أو عمل، وفيتكه. وأما الذي بيني وبينك: فمنك الدعاء، وعلي الإجابة». 3 - أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القلوب أوعية. وبعضها أوعى من بعض. فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة. فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل». 4 - أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول: دعوت فلم يستجب لي». 5 - قالت عائشة رضي الله عنها: «ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا، أو تؤخر له في الآخرة إذا لم يعجل، أو يقنط. قال عروة: قلت: يا أماه. كيف عجلته وقنوطه؟. قالت: يقول: سألت فلم أعط، ودعوت فلم أجب». 6 - أخرج الإمام أحمد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين». 7 - وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني». 8 - في الصحيحين وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة. فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلو شرفا، ولا نهبط واديا، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال: فدنا منا فقال: «يا أيها الناس: أربعوا على أنفسكم. فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إنما تدعون سميعا بصيرا. إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. يا عبد الله بن قيس: ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله». أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ

المعاني العامة

الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. المعاني العامة: في هذه الآية رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام. فإنه كان إذا أفطر أحدهم، إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء، أو ينام قبل ذلك. فمتى نام أو صلى العشاء، حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة. فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة. فأنزل الله في هذه الآية رخصة. وفي هذه الآية بيان لمكان الزوج من زوجته، ومكان الزوجة من زوجها. كما أن فيها تحديد وقت الصوم، وتحديد وقت الفطر، وإباحة ما أبيح بين الوقتين. كما أن فيها إشارة إلى الاعتكاف. وما يحظر فيه. وختمت الآية بالتحذير من مجاوزة حدود الله. وتبيان فضل الله على هذه الأمة، إذ بين لها طريق النجاة في الدنيا والآخرة. من أسباب النزول: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام فى شهر رمضان بعد العشاء- منهم عمر بن الخطاب- فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ. المعنى الحرفي للآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ: الرفث هنا الجماع. والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. فصار المعنى: أبيح لكم إتيانكم نساءكم في ليلة صومكم. والدليل أن الجماع يدخل في كلمة الرفث هنا، استعمال كلمة إِلى. فدل على أن ما قبلها قد تضمن معنى الإفضاء. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: هذا استئناف، وهو كالبيان لسبب الإحلال. وهو إنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن. وصعب عليكم اجتنابهن. فلذا رخص لكم في مباشرتهن. شبهت الزوجة باللباس لزوجها، وشبه الزوج باللباس لزوجته، بجامع المخالطة والمماسة والمضاجعة، فناسب هذا الترخيص بالجامعة في ليل رمضان. لئلا

يشق عليهم ويحرجوا. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ: أي تظلمونها بالجماع والأكل والشرب بعد العشاء، أو بعد النوم فتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة. كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة. فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ: أي ما فعلتموه قبل الرخصة، وذلك من كمال رحمته جل جلاله، ولعلم الله من قلوبهم الندم على المخالفة إذا واقعوها. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ: أي جامعوهن في ليالي الصوم. وهو أمر إباحة. وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: أي واطلبوا ما قسم الله لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة. وفي ذلك لفت نظر إلى أن المباشرة ليست لقضاء الشهوة وحدها. ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل. ويحتمل أن يكون المعنى: واطلبوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله، وهو الفرج، دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم، كالدبر وكالفرج حال الحيض والنفاس وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ: كما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام، فقد رخص لهم الأكل والشرب. وحدد نهاية الوقت المبيح، وهو نهاية الليل، وهو طلوع الفجر. والخيط الأبيض هو أول ما يبدو من الفجر المعترض المستطير. والخيط الأسود هو ما يمتد من سواد الليل. شبها بخيطين: أبيض وأسود لامتدادهما. وقوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ: بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره. واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر. قال ابن كثير: (وكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود: فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما. فأنزل الله: مِنَ الْفَجْرِ. فعلموا أنما يعني الليل والنهار) وقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ: فيه بيان أن إباحة الأكل والجماع والشرب يستمر حتى يتبين الفجر. فإذا ما تبين دخول الفجر ارتفعت الإباحة. وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب، واستحباب تأخيره. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ: أي ثم استمروا بالكف عن هذه الأشياء إلى دخول الليل. وعلامة ذلك، غروب الشمس. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ: أي وأنتم معتكفون فيها. بين أن الجماع يحل في ليالي رمضان، لكن لغير المعتكف. وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد. وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد. ومن المتفق عليه بين العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في

أحاديث وآثار

مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يمكث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط، أو الأكل، وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه. ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ولا يعود المريض. ولكن يسأل عنه وهو مار في طريقه. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ: أي الأحكام التي ذكرت أحكامه المحدودة. فَلا تَقْرَبُوها: بالمخالفة والتغيير. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ: أي شرائعه. فكما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: أي لعلهم يعرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون، وكيف يجتنبون المحارم. أحاديث وآثار: 1 - أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال: فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس. ثم إن الله عزّ وجل أنزل عليه: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها الآية. فوجهه الله إلى مكة. هذا حال. قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون. ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم، ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت، إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران. فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، مثنى حتى فرغ من الأذان. ثم أمهل ساعة، ثم قال مثل الذي قال، غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة- مرتين-. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علمها بلالا فليؤذن بها». فكان بلال أول من أذن بها. قال: وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله. قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنه سبقني. فهذان حالان. قال: وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها. فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى؟ فيقول: واحدة، أو اثنين. فيصليهما. ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها. قال: فثبت معه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد سن لكم معاذ

فهكذا فاصنعوا». فهذه ثلاثة أحوال. وأما أحوال الصيام: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام. وصام عاشوراء. ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عزّ وجل أنزل الآية الأخرى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر. وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. فهذان حالان. قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا. فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: صرمة. كان يعمل صائما حتى أمسى، فجاء أهله فصلى العشاء ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح. فأصبح فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا. فقال: «ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال: يا رسول الله. إني عملت أمس، فجئت حين جئت، فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائما. قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك. فأنزل الله عزّ وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. 2 - أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». 3 - أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: «لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: عمدت إلى عقالين. أحدهما أسود، والآخر أبيض. قال: فجعلتهما تحت وسادتي قال: فجعلت انظر إليهما. فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت. فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: إن وسادك إذا لعريض. إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل». وجاء في بعض الألفاظ في بعض الروايات: «إنك لعريض القفا». ففسره بعضهم بالبلادة. وهذا تفسير غير مقبول. وإنما معناه كما ورد في بعض الروايات: «إن

فوائد ومسائل

وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأسود والأبيض تحت وسادتك». فمن كان الليل والنهار تحت رأسه ينبغي أن يكون رأسه كبيرا جدا. 4 - في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة». وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور». وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السحور أكلة بركة، فلا تدعوه، ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين». 5 - في الصحيحين عن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: «قدر خمسين آية». وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور». 6 - في الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم». وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر». وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب عبادي إلى، أعجلهم فطرا». فوائد ومسائل: 1 - رأينا أن قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: قد جاء في معرض البيان لحكمة إباحة حل الجماع في ليلة الصوم. وهي رفع الحرج في هذه القضية. فمن خلال السياق عرفنا المراد الرئيسي من النص. وإذا نظرنا إلى النص مجردا رأينا في النص تشبيها بليغا. هذا التشبيه نفهم منه أشياء. فكون المرأة لباسا للرجل، وكون الرجل لباسا للمرأة، يقتضي هذا من كل منهما أن تتوافر فيه شروط اللباس، من كونه ساترا لا يكشف عورة، ومن كونه طاهرا ليس فيه دنس، ومن كونه خاصا بصاحبه، ومن كونه متناسبا مع مكانة الإنسان .. فانظركم في هذا القرآن من معان من خلال النص، ومن خلال السياق الجزئي. ومن خلال السياق الكلي في السورة. وسنرى كذلك أنه من خلال السياق القرآني كله نفهم معاني. وبذلك نجد في هذا القرآن معاني متولدة من بعضها لا تنتهي.

2 - فهم العلماء من قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: أن صوم الوصال منفي. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن صوم الوصال. وهو أن يصل يوما بيوم آخر، أو أكثر. ولا يأكل بينهما شيئا. قالت السيدة عائشة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم. فقالوا: إنك تواصل. قال: «إني لست كهيئتكم. إني يطعمني ربي ويسقيني». وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا. قالوا: يا رسول الله إنك تواصل. قال فإني لست مثلكم. إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. قال: فلم ينتهوا عن الوصال. فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين. ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم». كالمنكل لهم. وثبت أن صوم الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وأنه كان يقوى على ذلك، ويعان. والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي. وصوم الوصال عند الحنفية مكروه تنزيها وقد ذكر ابن كثير تحقيقا لطيفا في موضوع صوم الوصال قال: (وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر، فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تواصلوا. فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ... » أخرجاه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر. وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة. وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة. والله أعلم. ويحتمل أنهم يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة كما في حديث عائشة «رحمة لهم». فكان ابن الزبير وابنه عامر، ومن سلك سبيلهم، يتجشمون ذلك ويفعلونه، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه. وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر. لئلا تتمزق الأمعاء بالطعام أولا. وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم. وقال أبو العالية: إنما فرض الله الصيام بالنهار. فإذا جاء الليل، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل» 3 - في ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام، إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام، أو في آخر شهر الصيام كما ثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، حتى توفاه الله عزّ وجل. ثم اعتكف أزواجه من بعده».

4 - قال الحنفية: (والاعتكاف ثلاثة أقسام. أولا: واجب، وهو الاعتكاف المنذور ثانيا: سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان. وهو سنة كفاية. إذا قام به البعض سقط العتاب عن الباقين. ثالثا: مستحب في غيره من الأزمنة) ويبطل الاعتكاف المنذور بالوطء ولو خارج المسجد. ويبطل بالإنزال بدواعيه عامدا أو ناسيا. ثم المراد بالمباشرة المنهي عنها في الآية للمعتكف ما قاله ابن كثير: «إنما هو الجماع ودواعيه، من تقبيل، ومعانقة، ونحو ذلك. فأما معاطاة الشئ ونحوه فلا بأس به. فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلى رأسه فأرجله، وأنا حائض. وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان». 5 - قال ابن كثير: ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب أي في قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لمن أراد الصيام. يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل، وليتم صومه، ولا حرج عليه. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء سلفا وخلفا. لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم» وفي حديث أم سلمة عندهما «ثم لا يفطر ولا يقضي». 6 - وقع بعض المؤلفين، وبعض العلماء السابقين في خطأ كبير: إذ أجازوا الأكل بعد طلوع الفجر. إما بفهم خاطئ للتبين في الآية، وإما بحمل بعض الآثار على غير محملها، وإما بسبب عدم النظر الدقيق إلى عامة النصوص، وإما بفهم خاطئ للنصوص. ومهما كان الأمر، فالذي عليه إجماع العلماء خلال العصور المتطاولة هو عدم حل الأكل بعد الفجر. ومن الأسباب التي دعت بعضهم للوقوع في الخطأ ورود لفظ الفجر المستطيل والمستطير في الأفق. فظنوا أن المستطير هو ما بعد الفجر المعروف. والحقيقة أن الفجر المستطيل هو الفجر الكاذب. وهو الذي يكون عادة قبل الفجر المعروف بحوالي خمس عشرة دقيقة، وهو ليس فجرا أصلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الفجر فجران. فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا. وإنما المستطير الذي يأخذ الأفق. فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام». قال ابن كثير: وهذا مرسل جيد. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل. ولكنه الفجر المستطير في الأفق». وقد ورد في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعكم أذان بلال من سحوركم، فإنه ينادي بليل. فكلوا

فتاوى

واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم. فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر». فتاوى: 1 - قال النووي في المجموع: إذا سافر المقيم فهل له الفطر في ذلك اليوم؟ له أربعة أحوال: - أن يبدأ السفر في ليل، ويفارق عمران البلد قبل الفجر، فله الفطر بلا خلاف. - ألا يفارق العمران إلا بعد الفجر: مذهب الشافعي المعروف من نصوصه، وبه قال مالك وأبو حنيفة ليس له الفطر في ذلك اليوم. وقال المزني: له الفطر. وهو مذهب أحمد وإسحاق. وهو وجه ضعيف، حكاه أصحابنا عن غير المزني من أصحابنا أيضا. والمذهب الأول ... - أن ينوي الصيام من الليل ثم يسافر، ولا يعلم هل سافر قبل الفجر أو بعده؟ قال الصيمري والماوردي وصاحب البيان وغيرهم: ليس له الفطر لأنه يشك في مبيح الفطر. ولا يباح بالشك. - أن يسافر من بعد الفجر. ولم يكن نوى الصيام. فهذا ليس بصائم لإخلاله بالنية من الليل. فعليه قضاؤه. ويلزمه الإمساك هذا اليوم ... أقول: تصح نية صوم رمضان بعد الفجر إلى ما قبيل منتصف النهار الشرعي في مذهب أبي حنيفة. فمن نوى في هذا الوقت، صح صومه عند أبي حنيفة، والحنيفة لا يجيزون الإفطار يوم السفر لمن لم يتلبس بالسفر قبل الفجر. 2 - يبدأ الصوم بتبين الفجر المستطير، وهو الفجر الصادق الذي يكون بعد الفجر المستطيل- وهو الفجر الكاذب- بخمس عشرة دقيقة. والفجر الصادق هو الذي يمسك عنده الناس الآن، خاصة وقد أصبح للناس ما يستطيعون به التبين بدقة في ثانيته الأولى. قال ابن قدامة في كتابه (المغني) بعد ما ذكر قول الأعمش في جواز الأكل بعد تبين الفجر: (دلنا قول الله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ: يعني بياض النهار من الليل. وهذا يحصل بطلوع الفجر) قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل. فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم». دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح. وأن السحور لا يكون إلا قبل

الفجر. وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده. فشذ ولم يعرج أحد على قوله. والنهار الذي يجب صيامه: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين. 3 - في السفر الذي يصح فيه قصر الصلاة وفطر المسافر استقرت الفتوى في المذاهب الأربعة على أنه السفر الذي هو في حدود (ثمانين كيلو مترا ونصف، ومائة وأربعين مترا). ولا يضر نقصان المسافة عن المقدار المبين بشيء قليل كميل أو ميلين باتفاق الحنفية والحنابلة، أما المالكية فقالوا: إن نقصت المسافة عن القدر المبين بثمانية أميال وقصر الصلاة، صحت صلاته، ولا إعادة عليه على المشهور، ويستثنى من اشتراط المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمحصب إذا خرجوا في موسم الحج للوقوف بعرفة، فإنه يسمح لهم بالقصر في حال ذهابهم. وكذا في حال إيابهم إذا بقي عليهم عمل من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا أتموا. وأما الشافعية فقد قالوا: يضر نقصان المسافة عن القدر المبين. فإذا نقصت ولو بشيء يسير فإن القصر لا يجوز. على أنهم اكتفوا في تقدير المسافة بالظن الراجح. ولم يشترطوا اليقين. هذا ما استقرت عليه فتوى المذاهب الأربعة في شأن السفر المبيح للفطر وللقصر. 4 - والفتوى في المذاهب الأربعة على أن الاستمناء باليد في نهار رمضان مفطر، وصاحبه آثم، وعليه القضاء. 5 - ذكرنا أثناء الشرح تعريفا للمرض الذي يجوز معه الإفطار. وهو يتمشى مع مذهب الحنفية. وننقل هاهنا ما ذكره القرطبي لتعرف الاتجاهات الفقهية في هذا الشأن: قال القرطبي: للمريض حالتان: إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال. فعليه الفطر واجبا. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة. فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف تزايده، صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك، وبه يناظرون. وأما لفظ مالك: فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به.

فصل في الصوم عند الأمم

وقال ابن خويزمنداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر. فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه، والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه. وهو مقتضى الظاهر. لأنه لم يخص مرضا من مرض. فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع، والحمى، والمرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما، أفطر. وقال النخعي: وقالت فرقة لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى. قلت (القائل القرطبي): قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان. فعادني إسحاق ابن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان. كما قال الله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً. قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم، إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا، أو حماه شدة، أفطر. فصل في الصوم عند الأمم: رأينا أن الله عزّ وجل قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. فالصوم شريعة الله عزّ وجل لكل الأمم في الماضي. لأن كل الأمم قد أرسل لها رسل عليهم الصلاة والسلام ولكن الأمم حرفت، وبدلت، ونسيت وتناست. فأرسل الله عزّ وجل محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الذي فيه كل الكتب، والذي صحح الإرث كله لمن عقل. ومما يدلنا على أن الله أرسل رسلا لكل الأمم قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ثم إنك تجد في إرث كل أمة بقايا، أو شذرات، تدلك على الوحي. من ذلك أنك تجد بقايا فكرة الصوم موجودة في الديانات القديمة المشهورة. وقد عقد الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه (الأركان الأربعة) فصلا عن الصوم في الديانات القديمة، استقاه من كتاب (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) لسليمان الندوي، الذي استقاه من دائرة المعارف البريطانية. وعقد فصلا عن الصوم عند اليهود، استقاه من دائرة المعارف اليهودية. وعقد فصلا عن الصوم عند النصارى، استقاه من دائرة معارف الأديان والأخلاق. وهذه هي الفصول الثلاثة:

الصوم في الديانات القديمة

الصوم في الديانات القديمة: « .. لذلك اشتملت جميع الأديان، والشرائع المعروفة في التاريخ على الصوم، وطالبت به جميع من كان يدين بها. فمن أقدم الديانات التي لا يزال عدد كبير من الناس يدين بها، الديانة الهندية البرهمية. ويحدث عنها الأستاذ T.M.P.Mahadevan رئيس قسم الفلسفة في جامعة مدارس الهند، وهو يشرح الصوم ومكانته في الشريعة الهندوكية، والمجتمع الهندي: ومن الأعياد، والأيام المحتفل بها في السنة، ما خصصت للصوم الذي تقصد به تزكية النفس. إن كل طائفة من الطوائف الهندكية تخصص لنفسها أياما تقضيها في الدعاء والعبادة، ويصومها أكثر أفرادها كذلك. فيكفون عن الطعام، ويسهرون الليل كله، ويبيتون يتلون الكتب المقدسة، ويراقبون الله. ومن أعم هذا الصيام، وأكثرها انتشارا في الطوائف المختلفة (ويكنته إيكاوشى) الذي ينسب إلى (وشنو) فلا يصوم ذلك اليوم أتباع (وشنو) فحسب، بل يصومه أكثر الناس. فيصومون نهاره ويسهرون ليله. ومن الأيام ما يصومها النساء فقط، ويدعون الإلهة (مظهر صفات الله النسوية) في مختلف مظاهرها. وتسمى هذه الأيام لأهميتها الخاصة ب (برت)، أو العهد. وقد خصصت لتزكية الروح. وغايتها تغذية الروح بالغذاء الروحاني. ولا يزال البراهمة يصومون في اليوم الحادي عشر، من كل شهر هندي. وهكذا يبلغ عدد الأيام التي تصام عند البراهمة (24) يوما في كل سنة، إذا حافظوا عليها وتقيدوا بها. وقد قامت الديانة الجينية في الهند بالتشدد في شرائط الصوم وأحكامه. فأتباعها يواصلون أربعين يوما بالصوم. ... ويظهر الصوم عند المصريين القدماء بجوار أعيادهم الدينية. وكان صوم اليوم الثالث من شهر (تهسمو فيريا) اليوناني خاصا بالنساء عند اليونان. ولا تخلو الصحف المجوسية عن الأمر بالصوم، والحث عليه، ولو لطبقة خاصة. وتدل كلمة وردت في بعض كتبهم المقدسة على أن صوم خمسة أعوام كان فريضة على الرؤساء الدينيين. الصوم عند اليهود: أما اليهود، فقد كان الصوم يعتبر رمزا للحداد والحزن عندهم في العهد البابلي.

وكان يلجأ إليه، إذا هدد خطر، أو إذا كان كاهن أو (ملهم) يعد نفسه لإلهام، أو (نبوة)، وكان اليهود يصومون مؤقتا إذا اعتقدوا أن الله ساخط عليهم، غير راض عنهم. أو إذا حلت بالبلاد نكبة عظيمة، أو خطب كبير أو إذا أصيبت البلاد بوباء فاتك، أو بجدب عام، وفي بعض الأحيان، عند ما يعزم الملوك على مشروع جديد. أيام الصيام المحددة الدائمة، قديمة، ومحدودة في التقويم اليهودي، علاوة على يوم الكفارة: يوم الصوم المقرر الوحيد في الديانة الموسوية. وكانت هنالك أيام معينة للصوم الدائم، وهي ذكرى حوادث أليمة، وقعت لليهود في أيام الأسر في (بابل)، وهي تقع في الشهر العاشر (تبت، (tebet) (ويرى بعض ربيي (التلمود) أن صيام هذه الأيام إجباري، عند ما يعيش الشعب الإسرائيلي تحت قسوة الحكومات الأجنبية، وفي اضطهاد. ولا تلزم عند ما يتمتع الإسرائيليون بأمن ورخاء. وزيدت إلى أيام الصيام هذه أيام أخرى، تصام تذكارا لكوارث ومآسي، نزلت باليهود وأضيفت إلى الأولى على مر الأيام. وهي لا تعتبر إلزامية، ولم تنل الحظوة الكافية عند الجمهور. ومع اختلاف يسير يبلغ عددها إلى خمسة وعشرين يوما. وهنالك أيام صيام شعبية، محلية، تختلف باختلاف الأقاليم والمناطق التي يسكنها اليهود منذ زمن بعيد. وهي تذكار كذلك لكوارث وخطوب، أصيبت بها هذه الشعوب في أوقات مختلفة، واضطهاد، وقسوة تعرضوا لها من بعض الحكومات، وأيام صيام تصومها بعض الطبقات دون بعض في ذكرى وقائع ومحن في تاريخ اليهود، وفي ذكرى مآتم وأفراح في حياتهم الشخصية. وصوم أول يوم من السنة شائع في كثير من الطبقات. وهنالك أيام صيام تشرع، ويأمر بها الربيون، إذا تعرض الشعب لخطر، أو تأخر المطر، أو أصيبت البلاد بالمجاعة، أو صدرت مراسيم قاسية، أو قوانين غليظة. وأيام الصيام الشخصية المختارة، التي يفضلها بعض الأفراد دون بعض، شائعة في تاريخ اليهود منذ زمن مبكر. وهي أيام صوم تذكارية لبعض الحوادث الفردية، أو ككفارة عن بعض المعاصي والآثام، أو لجلب رحمة الله وعفوه عند خطر داهم، أو بلاء نازل. وصوم تلك الأيام لا يشجعها الربيون، ولا يوافقون عليها إذا كان الصائم رجلا علميا، أو أستاذا معلما، حتى لا يشوش ذلك خاطره، أو يضعف صحته. وهنالك صوم يصام على إثر رؤية مفزعة. ولما كانت الشريعة اليهودية لا تسمح بالصوم في أيام الأعياد، (فالتلمود) يبيح هذا الصوم في هذه الأيام، بشرط أن يكفر عنه بصوم آخر في أيام عادية ..

الصوم عند المسيحيين

والصوم عند اليهود يبتدئ من الشروق عند ظهور أول نجوم الليل، إلا صوم يوم الكفارة، واليوم التاسع من شهر (آب) فإنه يستمر من المساء إلى المساء وليس هنالك أحكام وتقاليد للصيام العادية. وقد رغب في الصدقة وإطعام المساكين، وخصوصا توزيع العشاء المعتاد التقليدي. إن الأيام التسعة الأولى من شهر (آب) وبعض أيام بين اليوم السابع عشر من شهر (تموز) وبين اليوم العاشر من شهر (آب) تعتبر أيام صوم جزئي فيحرم فيها تناول اللحوم، وتعاطي الخمور فقط. الصوم عند المسيحيين: أما الصوم عند المسيحيين فيطول شرحه وتفصيله، لأن الديانة المسيحية هي أقل الديانات تشريعا فقهيا. وأحكامها كلية، تشمل أدوار التاريخ، والمجتمعات المسيحية، والطوائف الدينية كلها، وأكثرها تطورا مع الزمن والعوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية أحيانا. ولذلك يصعب أن يطلق عليها اسم شريعة إلهية. وقد حاولنا أن نقدم صورة موجزة عن الصوم عند المسيحيين، وما مر به من أدوار، وأطوار. المسيح صام أربعين يوما قبل أن يبدأ رسالته، ومن المرجح أنه كان يصوم يوم الكفارة، الذي كان الصوم المفروض في الشريعة الموسوية. ككل يهودي مخلص إنه لم يشرع أحكاما للصوم، إنه خلف المبادئ، وترك كنيسة تقنن قوانين لتطبيقها، وليس لأحد أن يزعم أنه أصدر قوانين عن الصوم رأسا. إننا نقرأ في المصادر المسيحية حديثا عن صوم (بولس) والمسيحيين الأولين، إن المسيحيين الذين كانوا من السلالة الإسرائيلية، ظلوا يصومون يوم الكفارة. وينوه به الراهب ليوك، LuKe كيوم يحتفل به. ولكن المسيحيين الذين ينتمون إلى أصول أخرى، لم يلحوا على ذلك. وبانتهاء القرن المسيحي الأول، ونصف قرن بعد وفاة القديس (بولس) نواجه رغبة ملحة في تقنين القوانين للصوم. وقد كان ذلك موكولا إلى تقوى الصائم. نرى الرهبان، وبعض رجال الكنيسة يقترحون صياما ليقاوم به المسيحيون الإغراءات (المادية والجنسية). وكان يسود في ذلك العصر شعور بالواجب، وتحذير عن أن يظل الصوم عملا خارجيا لا يؤثر في نفس الصائم. ويتحدث القديس (إيرينيس) عن أنواع من الصيام، منها ما يستغرق اليوم. ومنها ما يستغرق يومين، أو بضعة أيام. ومنها ما يستغرق أربعين ساعة

متوالية. وقد استمر هذا الوضع مدة طويلة. وكان صوم (جمعة الآلام، أو الصلبوت) صوما شعبيا عاما. وكان صوم يوم الأربعاء، ويوم الجمعة في كل أسبوع شائعا في بعض الأقطار في القرن الثاني المسيحي. وكان الذين ينتظرون الاصطباغ (التعميد)، يصومون يوما أو يومين. وكان يشترك فيه الذين يأخذون الاصطباغ والذي يتولى ذلك. وهنالك خلافات جزئية في مناهج الصوم، وأحكامه في الطوائف المسيحية. وقد نال الصوم قسطا كبيرا من التنظيم، والتقنين في فترة بين القرن الثاني، والقرن الخامس المسيحيين. فقد أصدرت الكنيسة قائمة أحكام وتوجيهات عن الموضوع. وقد اتسم الصوم بصلابة وشدة في القرن الرابع، فقد انتقل من طور الرقة والتوسع والمرونة، إلى طور الصلابة، والغلظة، والتدقيق. وقد حدد اليومان اللذان يسبقان (عيد الفصح) بالصوم في هذا العصر. وكان الصوم في هذين اليومين ينتهي في نصف الليل. والمرضى الذين لا يستطيعون أن يصوموا في هذين اليومين، كان يسمح لهم أن يصوموا يوم (السبت). وقد سجلت في تاريخ المسيحية، والمسيحيين في القرن الثالث أيام الصوم، وكان هنالك اختلاف في نهاية الصوم. فكان بعضهم ينهي ويفطر عند صوت الديك. وبعضهم إذا أرخى الليل سدوله. أما صوم أربعين يوما، فلا يوجد له أثر إلى القرن الرابع الميلادي. وكانت هنالك عادات وأوضاع للصوم تختلف باختلاف البلاد التي يسكنها المسيحيون. فكان في (روما) صيام يختلف عن الصيام في (لانان) و (الإسكندرية). وكان بعضهم يمسك عن تناول الحيوانات، خلافا لغيره. وبعضهم يجتزئ بالسمك والطيور، وبعضهم يضرب عن البيض والفواكه، وبعضهم يجتزئ بالخبز اليابس، وبعضهم يكف عن كل ذلك، وبتاريخ المسيحية، أنواع من الصوم يطول عدها، منها ما كان يستغرق ثلاث ساعات، وأربعا، يمسك فيها الصائم عن الأكل والشرب. وقد حددت أيام مختلفة في القرون الوسطى للصوم في العالم المسيحي، تطورت مع تقدم الزمن، وهي تختلف باختلاف الأقاليم والبلاد، التي تحكم عليها الكنيسة المسيحية. وبعد الإصلاح، حددت الكنيسة الإنجليزية أيام الصوم. ولم تقنن قوانين وحدودا للصائمين. تاركة ذلك لضمير الفرد، وشعوره بالمسئولية. ولكن قوانين البرلمان الإنجليزي في عهد (إدوارد السادس) و (جيمس الأول) و (مرسوم اليزابيت): فرض الإمساك عن اللحوم في أيام الصوم، وبرر ذلك بقوله: (إن صيد السمك،

كلمة في السياق

والتجارة البحرية، يجب أن تشجع وتربح). ا. هـ. من كتاب الأركان الأربعة لأبي الحسن الندوي من ص 187 - 193 أقول: هذا عرض للموجود من الصوم حسب روايات أهل النحل نفسها. وهي بمجموعها، لا يصلح أن نعتمد عليها في ورد أو صدر، لأن كل الشواهد تدل على ضياع الأصول والحقيقة، إما بتعمد من عصبية، أو بسبب من أوضاع تاريخية. ولكن هذا يدلنا بشكل عام على وحي قد نزل على الأمم هذه بقاياه. والإسلام جاء ليدل الإنسان على الطريق المستقيم. كلمة في السياق: مرت معنا الفقرة الأولى من المقطع الثالث من القسم الثاني في سورة البقرة. وهي فقرة الصوم. وهي الفقرة الوحيدة في هذا المقطع، المبدوءة بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. مما يشير إلى استمرارية التوجيهات وصلتها بالفقرة الأولى. من حيث تأثيرات عبادة الصوم على مجموع التكاليف، والتكليف الأول الذي يأتي بعد آيات الصوم هو ما تضمنته الفقرة الثانية من تحريم أكل أموال الناس بالباطل، ومن تحريم الرشوة. وهو التوجيه الأول بعد آيات الصيام التي دلت على أكثر من طريق يحقق بالتقوى: الصوم، وتبيان الآيات. وهذا يشير إلى أن مظهر التقوى الأول، استقامة الإنسان على أمر الله في موضوع حقوق الناس، وفي موضوع الأموال. والملاحظ أن بداية هذا القسم كانت: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وقد جاء في هذا المقطع كلام عن الصوم الذي يساعد على تربية النفس، ثم نهي عما هو من قبيل الحرام واتباع خطوات الشيطان فلننتقل إلى عرض الفقرة الثانية من المقطع الثالث من القسم الثاني من سورة البقرة. الفقرة الثانية: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) المعنى الحرفي للآية: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ: أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه

فوائد

الذي لم يبحه الله ولم يشرعه من مثل السرقة، والغضب، وغير ذلك. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لها تفسيران، الأول: لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام. كأن يكون على رجل مال وليس عليه بينة. فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم، آكل حرام. يخاصم وهو يعلم أنه ظالم. والتفسير الثاني: وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ: أي لتأكلوا بواسطة التحاكم طائفة من أموال الناس بِالْإِثْمِ: أي بطريق الإثم. إما بشهادة الزور، أو بالأيمان الكاذبة، أو بالصلح مع العلم بأن المقضي له ظلم. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: أنكم على الباطل. وارتكاب المعصية مع العلم أقبح، وصاحبها بالتوبيخ أحق. فوائد: 1 - الحاكم لا يكون آثما إذا قضى حسب الظاهر. ولم يكن مرتشيا. والإثم في هذه الحالة على المبطل. ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنما أنا بشر. وإنما يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها». قال ابن كثير: «فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشئ في نفس الأمر فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام. ولا يحرم حلالا هو حلال. وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الأمر فذاك. وإلا فللحاكم أجره، وعلى المحتال وزره». 2 - عند قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قال القرطبي: (الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه. كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان الخمور، والخنازير، وغير ذلك). وقال قوم: المراد بالآية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي في الملاهي، والقيان، والشرب، والبطالة. فيجئ على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين. 3 - في الآية نهيان: إذ وَتُدْلُوا بِها معطوفة على وَلا تَأْكُلُوا. فهي

الفقرة الثالثة

مجزومة. النهي الأول: عن أكل الأموال بالباطل. والنهي الثاني: عن أكل الأموال بالباطل عن طريق الحكام. إما باستغلال ظاهر، أو برشوة قاض. وكل ذلك حرام. ولا تظهر التقوى بشيء كما تظهر بالتورع عن أكل الحرام. لأن النفس بطبيعتها تحب المال كثيرا. فإذا خالف الإنسان هواه في ذات الله، فذلك علامة التقوى. الفقرة الثالثة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) أسباب النزول: 1 - قال معاذ بن جبل: يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ. ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس. فنزل: يَسْئَلُونَكَ. 2 - عن جابر قال: «كانت قريش تدعي الحمس. وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام. وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ... ». وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا منازلهم من ظهورها. ويرون أن ذلك أدنى إلى البر. فقال الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا .... وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من بابه. ولكن يتسوره من قبل ظهره. فقال الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ .... المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ: عن أسباب انتقالها من حال إلى حال. وهذه قضية

المعنى العام

كونية، تعرف من خلال دراسة الكون العلمية. والدين لم يأت ليعلم الناس قوانين الظواهر الكونية. بل ليعلم الناس عقائدهم وعبادتهم، ومناهج حياتهم .. ولذلك كان الجواب بما ينسجم مع طبيعة الرسالة، ومهمة الرسول، وتعليم القرآن. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ: أي هي معالم. يؤقت بها الناس صومهم، وعدة نسائهم، وأيام حيضهن، ومدة حملهن، ومحال ديونهم، وغير ذلك. كما أنها معالم للحج، يعرف بها وقته. وربط العبادات الإسلامية بمظاهر كونية كالشمس والقمر أدعى إلى المعرفة السهلة وأبعد عن التلاعب من أي مصدر كان وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أي وليس البر بتحرجكم من دخول الباب في بعض أحوالكم، إذ هذه قضية غير معقولة المعنى، وأعمال البر كلها معقولة المعنى. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى: ما حرم الله. فهل حرم الله عليكم دخول البيوت من أبوابها. فإذا لم يفعل فليس ما تفعلونه برا. وهذه هنا من تمام تصفية التصرفات كلها حتى تكون أثرا عن اتباع كتاب الله وهداه. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها: معناها ظاهر. ولكنها في سياقها تفيد ما قاله النسفي أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا. وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما أمركم به، ونهاكم عنه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: أي لتفوزوا في أمر دنياكم وأخراكم. المعنى العام: في الآية موضوعان: موضوع الأهلة. وموضوع دخول البيوت من أبوابها. والصلة بينهما من وجهين رئيسيين: أولا: لما سألوا عن الأهلة كان الجواب كأنه ما يلي: معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا لحكمة. فدعوا السؤال عن السبب. وانظروا في الحكمة، ثم انظروا فيما هو أليق بكم كهذه الخصلة التي تفعلونها مما ليس من البر في شئ، وأنتم تحسبونها برا. ثانيا: لقد سألتم عن أسباب انتقال القمر من حال إلى حال. ولم ينزل الدين من أجل هذا. إذ سبيل هذا العلم بظواهر الكون من خلال التأمل والتجربة ومعرفة الأسباب. ففعلكم هذا يشبه إتيانكم البيوت من ظهورها. فكما أنكم أخطأتم هذا الموضوع بتصوركم. فقد أخطأتم في سؤالكم. وكما أن الصواب أن تأتوا البيوت من أبوابها، فكذلك الصواب فى هذا الموضوع أن تأتوا الأمور من وجوهها فتتعرفوا على ظواهر هذا الكون.

فوائد

فالتقوى في هذا الموضوع ذات شقين: أن تعرفوا حكمة الأشياء. وهذا سبيله الدين. وأن تعرفوا حقيقة الأشياء الحسية عن طريق ذلك. ووجهه وبابه الدراسة والتأمل والعلم الكوني. فوائد: 1 - أفادت الآية أن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب. فعلينا الاعتقاد بذلك من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك. 2 - أخرج الحاكم في مستدركه وصححه قوله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس. فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما». 3 - بمناسبة قوله تعالى عن الأهلة: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب، أو إلى أيام معروفة العدد، أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس، أو إلى العطاء وشبه ذلك. فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف. وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة: ذلك غير جائز، لأن الله تعالى وقت المواقيت، وجعلها علما لآجالهم في بيعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها قال القرطبي: في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة، ولا ندب إليه، لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويزمنداد: (إذا أشكل ما هو بر وقربة، بما ليس هو بر ولا قربة أن ينظر في ذلك العمل. فإن كان له نظير في الفرائض والسنن، فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم في

محل الآية في السياق العام

الشمس. فسأل عنه فقالوا: هو أبو إسرائيل. نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه». فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته. وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن). محل الآية في السياق العام: رأينا أن السياق العام كله إما في شرح التقوى، أو في بيان الطرق المؤدية إليها، أو في تبيان آثارها. وهذه الآية تصحح مفهومين خاطئين، يمكن أن يقع فيهما الناس. والتقوى خلافهما: المفهوم الأول: الخلط بين معرفة الحكمة، ومعرفة القانون الكوني. والخلط بين مهمة الدين، ومهمة العلم التجريبي والتأملي. فجاءت الآية لتبين أن معرفة الحكمة من خلق الأشياء جزء من الدين. وأما معرفة الأشياء الحسية، فطريقها شئ آخر. فالدين يبين الحكمة والحكم. وقد أعطاك الله أيها الإنسان ما تستطيع به أن تعرف الأشياء، وتسخرها. فاسلك لذلك طريقه ضمن هداية الله إياك، وتوجيهه، وتنفيذ أوامره. المفهوم الثاني: التصرف المعقد غير المعقول المعنى. يظنه بعض الناس دينا. والدين ما نص عليه الشارع، وما كلف به الإنسان، لا ما اخترعه لنفسه، سواء شدد على نفسه به أو رخص. فالآية في محلها إذن تصفية لقضية التقوى من التطلعات الخاطئة، أو التصرفات الغالية. فائدة في صلة هذه الآية بما بعدها من المقطع: قال صاحب الظلال: والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة، وأنها مواقيت للناس والحج، والحديث عن القتال في الأشهر الحرم، وعن المسجد الحرام، والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما. كلمة في السياق: تأتى الآن فقرة تتحدث عن القتال، والإنفاق. وتأخذ هذه الفقرة محلها في تصحيح

"مقدمة في القتال"

التصورات عن التقوى. فكما حدث قديما فسيحدث في هذه الأمة تصورات خاطئة عن التقوى. ومن نظر إلى مفاهيم الناس عن التقوى في عصرنا، أدرك بعض أسرار هذا السياق فما أكثر الذين يفهمون أن التقوى لا صلة لها بقتال، أو إنفاق، أو علم، أو جمع مال. ومن ثم فمجيء آيات القتال والإنفاق في سياق بناء التقوى. تقوى الأفراد والمجتمع واضح الملامح. لاحظ الآن أن الأمر: وَقاتِلُوا. وبعده الأمر: وَأَنْفِقُوا وبعده الأمر وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ومن قبل وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها. ومن قبل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. هذه الأوامر والنواهي جاءت بعد ثلاث مرات ذكرت فيها الكلمة: كُتِبَ.* ومن بعد ثلاث مرات ذكرت فيها قضية التقوى كهدف: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.* مما يشير إلى أن الأوامر والنواهي في هذا السياق لها صلة ببناء التقوى. تقوى الفرد وتقوى الأمة. والملاحظ أنه يأتي هاهنا أمر بالقتال. وفي القسم الثالث فيما بعد ستذكر فريضة القتال. فما السر في ذلك؟. السر أن هذه آتية في سياق. وتلك في سياق. فتلك آتية في سياق إقامة الإسلام كله. فالإسلام لا يقوم بلا جهاد لتكون كلمة الله هي العليا، سواء قاتلنا الناس أو لم يقاتلونا. أما هذه فآتية في سياق بناء التقوى. فلا تقوى لأحد بلا جهاد وإنفاق. ثم هذه خصت من يقاتلوننا بالذكر. فالأمر هنا لتحقيق فريضة عينية. وهناك لتحقيق فريضة كفائية. وليس الأمر كما فهمه بعضهم من أن القتال المشروع في الإسلام هو القتال الدفاعي. بل هو أحد أنواع القتال المفروضة. «مقدمة في القتال» كثيرون من الناس لا يفهمون النصوص، ولا يمتلكون القدرة على فهمها. فتراهم يفهمون النصوص فهما مبتسرا، أو فهما خاطئا، فيعطلون العمل بنص غير منسوخ ويفهمون نصا آخر فهما غير صحيح. ومن أكثر ما حدث في هذا الشأن، ما حدث في فهم آيات القتال، وآيات السلام. فمثلا هناك قتال مفروض فرض عين، وقتال مفروض فرض كفاية. وهناك حالات يجوز فيها السلام والعهد. وحالات لا يجوز. ويأتي أصحاب الفهوم الخاطئة ليلغوا

الفقرة الرابعة

القتال المفروض فرض كفاية بحجة الآيات التي تذكر القتال المفروض فرض عين. ويحملون الآيات التي تجيز السلام على حالات لا يجوز فيها السلام. فالقتال ابتداء من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا فرض كفاية. والقتال إذا هو جمنا فرض عين. ثم إنه حيثما كنا قادرين على قهر خصمنا، فلا نقبل منه إلا الحرب أو الجزية، أو الإسلام. فإذا تساوت القوتان، جاز السلام، فإذا رجحت قوتهم جاز السلام كذلك على أن تكون النظرات التي تحكمنا نظرات إسلامية، وسنرى ذلك كله تفصيلا وإنما ذكرنا ذلك لأن الآيات التي بين أيدينا تحدثنا عما ينبغي فعله- إذا قوتلنا من قتال وسهر ومتابعة للعدو حتى نخرجه من حيث أخرجنا، وأن ننهي شوكته ليكون السلطان لله. وأنه يحق لنا أن نستعمل مع خصمنا الوسائل التي يستعملها معنا. فإن اعتدى بضرب القنابل على المدن الآمنة، كان لنا أن نفعل ذلك معه، هذا مع تبيان الأحكام الخاصة في القتال في الحرم والأشهر الحرام. والآيات تبين أنه حيث أخذت أرضنا فلا قرار. وحيث قوتلنا فمرحبا بالقتال. فالآيات هنا إذن تبين وضعا من الأوضاع التي يمكن أن يواجهها المسلمون. وتبين لهم كيف ينبغي أن يواجهوها. وهناك آيات أخرى تبين أوضاعا أخرى. ومهمة طالب العلم أن يحمل كل نص على الحالة التي ينطبق عليه النص. فلنر الفقرة الرابعة على ضوء المقدمة. الفقرة الرابعة [سورة البقرة (2): الآيات 190 الى 195] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: بين الكلام عن القتال والإنفاق صلة. لاحتياج القتال إلى مال. وقد جاءت آية الإنفاق بين آيات القتال، وآيات الحج. والحج نوع جهاد، ويحتاج إلى مال. وقد جاءت آيات القتال، وآية الإنفاق لتصفي قضية التقوى من التصورات الخاطئة- كما فعلت الآية السابقة على هذه الفقرة- ولتعطي المسلم التصورات الصحيحة عن التقوى، ولتوجهه إلى التقوى في كل حال. في سلمه وحربه. إن هناك تصورات كثيرة خاطئة تصححها هذه الآيات. منها: أن يظن الإنسان أن من التقوى ألا يقاتل، وألا يقدم إلا السلام للآخرين في كل حال. ومنها: أن يظن الإنسان أن التقوى لا يرافقها غلبة، ولا نصر، ولا ظهور. ومنها: أن يركن الإنسان إلى السلام، والعمل، والأمن، والحين حين جهاد. إن آيات هذه الفقرة جاءت لتصحيح ذلك كله، وتصحيح غيره. كما أنها تعطينا بيانا وهداية في شئون كثيرة. المعنى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ: أي قاتلوا الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ، والصبيان، والرهبان، والنساء، وليكن قتالكم في سبيل الله، لا في سبيل غيره. ومن سبيل الله في القتال، أن يكون القتال لتكون كلمة الله هي العليا فقط. وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: أي لا تعتدوا في قتالكم، بارتكاب ما نهيتم عنه في القتال، من المثلة، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ، الذين لا رأي لهم، ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب

أحاديث

الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة، والغلول. فكل ذلك تجاوز لأمر الله في القتال، واعتداء. والله لا يحب المعتدين، الذين يتجاوزون حدوده. هذا الاتجاه في تفسير الآية هو الذي رجحه ابن كثير، ورد الاتجاه الذي يقول إن هذه الآية منسوخة. ذكر ابن كثير: (عن أبي العالية في قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ: قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة. فلما نزلت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله. ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، حتى قال- أي الرازي- هذه منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. (سورة التوبة) وفي هذا نظر. لأن قوله تعالى: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ: إنما هو تهييج، وإغراء بالأعداء الذين همهم قتال الإسلام وأهله. أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم). ثم استشهد ابن كثير بالآية التالية للآية الأولى على صحة ما ذهب إليه بعدم النسخ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ. فهي تشبه الآية التي قيل عنها إنها ناسخة، وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. يبقى أن يقال: إن هذه الآية قد يفهم منها معنى زائد على آية براءة. وهو أن الذين يناجزوننا القتال، يقدم قتالهم على غير المناجزين، مع حل قتال الجميع وإذ يقاتل المسلمون الكفرة غير المعاهدين، فلا اعتداء. والآية على هذا الفهم فيها أمر بقتال كل كافر غير معاهد. لأن كل كافر إنما هو مقاتل لنا إن استطاع. وعلى كل فإن قتال من يقاتلنا فريضة والآية نص في ذلك وهي ليست منسوخة. أحاديث: 1 - روى الإمام مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع». 2 - في الصحيحين عن ابن عمر قال: «وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة. فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان». 3 - قال صلى الله عليه وسلم: «إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة. قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم. فعمدوا إلى عدوهم، فاستعملوهم، وسلطوهم

[سورة البقرة (2): آية 191]

فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة» رواه الإمام أحمد. قال ابن كثير: هذا حديث حسن الإسناد. ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتدوا عليهم، واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء. اه. كلام ابن كثير. لكني أفهم من الحديث أن الكافر إذا ظهرت عليه فلا تسلمه مقاليد الأمور، ولا تستعمله على المسلمين. فإذا فعلت فإنك تستحق سخط الله. وهاهنا أسئلة: إذا كان الراهب، أو المرأة، أو الشيخ، أو الصبي يشارك في المعركة برأيه، أو بفعله، فما حكم قتله؟ الفتوى على جواز القتل. بعض العمليات الفدائية المعاصرة قد يقتل فيها النساء، والشيوخ والأطفال تبعا بسبب أنها تكون عن طريق التسلل والخفاء، لعدم التكافؤ بين المسلمين وعدوهم. فما حكم ذلك؟. الفتوى على الجواز إذا تعين ذلك طريقا للصراع مع الكفر وأهله. في الحرب الحديثة نرمي العدو من بعد. فنرمي مدنه، ومستعمراته، وقراه. فما حكم ذلك؟. الفتوى على الجواز إن كان هو يفعل بنا ذلك أو يستحله ويعمل له. وهناك أسئلة كثيرة أخرى يمكن أن تثار بمناسبة الحديث عن القتال في عصرنا. وأدبنا في هذا التفسير ألا نستقصي المسائل حرصا على الاختصار. ولأن هذا التفسير جزء من سلسلة الأساس في المنهج التي منها (الأساس في السنة وفقهها) وهناك معنا أجوبة على الكثير من المسائل. فللتنويه بذلك أشرنا هذه الإشارة. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ: أي حيث وجدتموهم. والثقف: الوجود على وجه الأخذ والغلبة. وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ: أخرجوكم من مكة، فأخرجوهم منها. وأخرج اليهود فى عصرنا المسلمين من فلسطين. فليخرجوهم منها. قال ابن كثير: (أي لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما همتهم منبعثة على قتالكم. وعلى إخراجهم من بلادكم التي أخرجوكم منها قصاصا). يفهم من هذا أن المسلم لا يستكين. فإذا أراد عدو الله أن يؤذيه، أو أراد به شرا من أجل أن يميت فيه روح الإسلام فإنه يقابل ذلك بما يكافئه. ولما كان ما أمر الله به في هذه الآية فيه إزهاق النفوس، وقتل الرجال. نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه

[سورة البقرة (2): آية 192]

من الكفر بالله والشرك به، والصد عن سبيله والعمل على تكفير أهل الإيمان وفتنتهم عن دينهم أبلغ وأشد، وأعظم، وأطم من القتل. فمن استعظم أن يقتل أعداء الله الذين يكفرون المسلمين وذراريهم فإنه لم يعرف دين الله. لذلك قال تعالى بعد ما تقدم: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: أي وإقامتهم على شركهم وكفرهم، وإنزالهم المحنة والبلاء بأهل الإيمان لإيمانهم، أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ: أي لا تبدءوا بقتالهم في الحرم حتى يبدءوا. وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن المسجد الحرام يقع على الحرم كله. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ: فإن بدءوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم، وقتلهم. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ: القتل. نفهم من ذلك أن الكفر جريمة. بل هو أعظم الجرائم على الإطلاق. ومن ثم جاز لنا أن نقاتل الكافرين ابتداء لارتكابهم أكبر جريمة على الإطلاق، وهي الكفر. كما جاز لنا قتلهم ابتداء إلا أن يسلموا، أو يخضعوا بدفع الجزية، إلا وثنيي العرب. فإنهم لا يقبل منهم إلا الإسلام، أو القتل. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أي فإن انتهوا عن الشرك والقتال، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله تعالى. فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، إلا ما استثناه من الشرك. فهو غفور لما سلف من طغيانهم، رحيم بقبول توبتهم وإيمانهم. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ: أي شرك وكفر غالبان، ظاهران، عاليان. بحيث يقدران على فتنة المسلم عن دينه. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان. فبالله هل نحن مسلمون حقا، والكفر والشرك، والفتنة هم الأعلون. والإسلام وأهله هم الأضعفون. ولا قتال، ولا جهاد؟. فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قال عكرمة وقتادة: الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله. فصار معنى الآية: فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين. ولم يبقوا ظالمين بعد أن أسلموا. سمى جزاء الظالمين عدوانا للمشاكلة، من باب فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. وفي قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أكبر رد على من فهم أن قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا في أول هذه الآيات أن المراد بها تبدءوا غيركم بالقتال. ثم فهم الآيات كلها بأن المراد منها، القتال الدفاعي فقط.

فائدة

في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وحسابهم على الله». وهذا في مشركي العرب خاصة. أما غير مشركي العرب، فالقتال، أو الإسلام، أو الجزية كما سنرى في محله. ولا شك أن المراد بالسياق من خلال أسباب النزول قريش أولا ولكن كما هو معلوم فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فائدة: من تطبيقاته صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ما حدث يوم الحديبية، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقاتل ولم ينو القتال حتى بلغه إشاعة مقتل عثمان، فعندئذ بايع أصحابه على القتال تحت الشجرة، خاصة بعد أن اتضح تألب قريش، ومن والاهم على قتاله. ثم تم صلح الحديبية. وتبين أن عثمان لم يقتل ولم يكن قتال. حديث: جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. ولم يحل إلا ساعة من نهار. وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم». فمن فهم هذا الحديث، وعرف أن المشركين هم الذين بدءوا بالقتال في المسجد الحرام إذ قتلوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني خزاعة. عرف كيف يطبق هذه الآيات على الوضع الخاص في زمنه صلى الله عليه وسلم. وكيف يجمع بين قوله تعالى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وبين وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ. فالحرم له أحكامه الخاصة ولرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصياته. والأمر: أَخْرِجُوهُمْ عام. ويدخل فيه الحرم بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. وقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام استثني منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ: أراد المشركون القتال قبيل صلح الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو العقدة. ثم تم الصلح. وكان من جملة بنوده، أن يرجع المسلمون عامهم ذاك ويعتمروا في عام لاحق. فلما خرج المسلمون لعمرة القضاء. وكان ذلك في ذى القعدة أيضا. وقريش هي قريش. أنزل الله هذه الآية مبينا فيها أن

فوائد

هذا الشهر بذلك الشهر وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: أي وهتكه بهتكه. يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم إذ كل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك حرمة، أي حرمة كانت، اقتص منه بأن تهتك له حرمة. فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك. ولا تبالوا. وهذا كله مع الالتزام بالعهود، والوعود، والاستقامة على أمر الله. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. أي فعاقبوه بعقوبة مماثلة لعدوانه، بعدوان مثل عدوانه. وَاتَّقُوا اللَّهَ: في كل حال. وفي حال كونكم منتصرين على من اعتدى عليكم. فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: بالنصر، والتأييد في الدنيا والآخرة. فوائد: 1 - اتجه بعضهم إلى أن قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ نزل بمكة. وأنه منسوخ بآية القتال. وقد رد هذا القول ابن جرير. وقال: بل الآية مدنية بعد عمرة القضاء. وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله. 2 - أخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام، إلا أن يغزى، وتغزوا. فإذا حضره أقام حتى ينسلخ». قال ابن كثير. هذا إسناد صحيح. والذي يبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا مراعاة لأعراف سائدة بما لا يعطل قضية الجهاد. وبما لا تتضرر منه مصلحة المسلمين. 3 - نفهم من قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: أنه إذا خالف غير المسلمين عرفا عاما فإن المسلمين في هذه الحالة يستطيعون أن يردوا بالمثل. ونتساءل الآن في عصرنا بعد أن أصبح صاحب الضربة الأولى هو المنتصر هل ينتظر المسلمون الضربة الظالمة إذا تأكدوا من وجودها؟ وهل تكفير أبنائنا الذي هو أشد من القتل يبيح لنا قتل أبناء الذين يكفرونهم إذا كانوا غير بالغين كنوع من أنواع الضغط على الكافرين ليراجعوا خططهم وطريقهم؟ الجواب على السؤالين: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: التهلكة والهلاك والهلك واحد. وفي هذا النص أمر ونهي. أمر بالإنفاق في سبيل الله فدخل في ذلك التصدق

للجهاد وغيره. وأما النهي عن إهلاك النفس. فإذا نظرنا إلى النص مجردا كان له معنى. وإذا نظرنا إليه من خلال الآية التي هو فيها، أعطانا معنى آخر. وإذا انظرنا إليه أنه جزء من السياق أعطانا معنى جديدا. وكل هذه المعاني مرادة. وكلها قد ذكرها أئمة التفسير عند شرح هذه الآية. فإذا نظرنا إلى النص مجردا فهمنا منه أنه نهي عن قتلنا أنفسنا. أي لا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده. إذا تسبب لهلاكها. وهل يدخل في ذلك لو أن الإنسان أمر المسلمين بمعروف، أو نهاهم عن منكر فقتلوه؟. الجواب: لا. بل هو مأجور. نص على ذلك فقهاء الحنفية. وهل يدخل في إلقاء النفس إلى التهلكة لو أن إنسانا هجم على الكافرين ملقيا نفسه عليهم فقتلوه؟. قال الحنفية: إن كان بعمله هذا ينكي فيهم، ويلقي الرعب في قلوبهم فهو مأجور. ولا يدخل في النهي. وإن كان لا ينكي فيهم بل يزيد من جرأتهم على المسلمين فلا يحل له ذلك. ويدخل في النهي. وإذا نظرنا إلى هذا النهي ووروده بعد الأمر بالإنفاق، فهمنا منه أنه نهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله. لأنه سبب للهلاك. ذهب إلى ذلك كثير. أخرج البخاري عن حذيفة في الآية قال: «نزلت في النفقة». وقال ابن عباس في الآية: «قال ليس ذلك في القتال. إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله. ولا تلقي بيدك إلى التهلكة». وعن الضحاك بن أبي جبير قال: «كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله، فنزلت: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ وقال الحسن البصري: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: قال: «هو البخل». وإذا نظرنا إلى هذا النهي من خلال وروده بعد آيات القتال، فهمنا منه أنه نهي عن ترك الجهاد. وأن ترك الجهاد هو الهلاك. وهكذا فسرها أبو أيوب الأنصاري. روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه. ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية. إنما نزلت فينا. صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه. فلما فشا الإسلام، وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا. فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه حتى فشا الإسلام وكثر أهله. وكنا قد آثرناه على الأهلين، والأموال، والأولاد. وقد

المعنى العام للآية

وضعت الحرب أوزارها. فنرجع إلى أهلينا، وأولادنا فنقيم فيهما. فنزل فينا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد). وقد لاحظنا أن هذه الاتجاهات الثلاثة الرئيسية في فهم هذا النص، سببها ملاحظة النص مجردا، أو السياق القريب، أو السياق العام. وهذا قد يكون أبرز مثال من خلال كلام أئمة التفسير لما حاولنا إبرازه سابقا من أن هذا القرآن معانيه لا تتناهى. فمن خلال المعنى المجرد للنص، ومن خلال السياق القريب، والسياق العام، والوحدة القرآنية، ومن خلال عبارة النص، ومن خلال إشارة النص، تتولد معاني لا تتناهى. وكل يأخذ من كتاب الله على قدر ما قسمه الله له وهذه المعاني كلها حق. فما أكثر جناية من كفر بهذا القرآن. وهناك اتجاهان آخران في فهم قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: اتجاه يفهم من خلال النص المجرد واتجاه من خلال السياق القريب. الاتجاه الأول: تفسير الهلاك بالهلاك الأخروي. وذلك بالذنب، والاستمرار عليه. وهو تفسير النعمان بن بشير رضي الله عنه. قال: «إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له. فيلقي بيده إلى التهلكة. أي يستكثر من الذنوب فيهلك». وكذلك فسرها البراء قال: «ولكن التهلكة، أن يذنب الرجل الذنب. فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب». والاتجاه الثاني: ذكره النسفي من جملة الأقوال في تفسير النهي في الآية. فقال: والمعنى: النهي ... عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه، ويضيع عياله. وكأنه أخذه من السياق. وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، والإحسان فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك». والإحسان فعل الحسن والأحسن. فالأمر بالإحسان هنا يقتضي أن ننفق، وأن نجاهد، وأن يكون ذلك بإتقان وإحسان مع الإخلاص لله والمراقبة. المعنى العام للآية: أمر الله عزّ وجل المؤمنين في هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه

فوائد

القربات، ووجوه الطاعات. وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم. ونهاهم عن البخل وترك الجهاد. إذ بذلك هلاكهم وقوة عدوهم عليهم. ثم عطف الأمر بالإحسان. وهو من أعلى مقامات الطاعة. وبذلك انتهت هذه الفقرة. لتبدأ فقرة جديدة مضمونها الحج والعمرة. وقد تحدثنا في ابتداء هذه الفقرة، عن محل هذه الفقرة في السياق العام. وأنه تصحيح لمفاهيم خاطئة عن التقوى. وقد رأينا ذلك من خلال الشرح. ونقول هنا: إن هذه الفقرة جزء من الهدى الذي أنزله الله فى كتابه لهداية المؤمنين، في شئونهم كلها. ومن صفات المتقين أنهم يهتدون بهذا القرآن. فلا تقوى إلا بقتال، وإنفاق، وعمل مكافئ لعمل أعداء الله ضدنا، وانتقام من أعداء الله، وبذل جهد لنصرة دين الله، ومن لم يفهم التقوى كذلك لم يفهم كتاب الله. فوائد: 1 - في تعامل المسلمين مع بعضهم، هناك مقامان. مقام العدل، ومقام الفضل. فمن ضربك من المسلمين، جاز لك أن تقتص منه. والأولى أن تعفو رحمة وفضلا. إلا إذا أصبحت الإساءة خلقا لصاحبها، فالأولى الانتصار منه. كما نص على ذلك ابن العربي. وأما في تعاملنا كأمة مع أعداء الله، إذا كنا نمتلك القدرة، فمقام واحد، الرد بالمثل: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. وهذا حيث لا نستطيع الإخضاع ابتداء من خلال الجهاد. 2 - ستتضح لنا قضية القتال في الإسلام من خلال النصوص شيئا فشيئا. وسنرى كيف يحمل كل نص على ما يدخل فيه. وهاهنا نقول كلمة باختصار: لقد كلفت هذه الأمة أن تبذل جهدا متواصلا لإقامة دين الله في العالم كله. وهذا من الفرائض بحسب الاستطاعة. وقد توجد ظروف غير مكافئة، يكون المسلمون فيها ضعفاء، فلهم في هذه الحالة ألا يقاتلوا. ولكن إذا هوجمت أراضيهم، فلا بد من القتال. وتختلف شدة الفرضية فيما إذا كان وراءهم أحد، أم لا؟ فالحالة الثانية أشد في الفرضية. فلا بد في هذه الحالة من القتال. ويصبح القتال في هذه الحالة فرض عين على كل قادر رجلا كان أو امرأة. وفي هذه الحالة لا يشترط التكافؤ ولا غيره، ولا يصح للإنسان الفرار، ولو كان أعداء الإسلام أضعاف أضعافه، على خلاف حالة الهجوم، وحالة ما إذا كان

وراءنا من نتحيز له. والأمر دقيق سنراه في محله. والتضحيات في هذه الحالة لا تضيع. لأن مثل هذا يعطي الكافرين دروسا في ألا يدخلوا مع المسلمين في تجربة. 3 - عند قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يقول صاحب الظلال: (إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة. القتال في سبيل الله. لا في سبيل الأمجاد، والاستعلاء فى الأرض، ولا فى سبيل المغانم والمكاسب، ولا فى سبيل الأسواق والخامات، ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة، أو جنس على جنس. إنما هو القتال لتلك الأهداف التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام. القتال لإعداء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو أن يجرفهم الضلال والفساد. وما عدا هذه، فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لمن يخوضها أجر عند الله، ولا مقام). 4 - رأينا أنه من المستثنين من الأمر بالقتال، الذين لا يقاتلون. فدخل فى ذلك أصناف من الناس. وفي هؤلاء الأصناف يقول القرطبي: (والقتال لا يكون في النساء، ولا في الصبيان، ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى، والشيوخ، والأجراء، فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد ابن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام. إلا أن يكون لهؤلاء إذاية. أخرجه مالك وغيره. وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء. إن قاتلن، قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها. لعموم قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. وللمرأة آثار عظيمة في القتال. منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال. وقد يخرجن ناشرات شعورهن، نادبات مثيرات معيرات بالفرار. وذلك يبيح قتلهن. غير أنهن إذا حصلن فى الأسر، فالاسترقاق، أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن. وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال. الثانية: الصبيان. فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل. الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون. بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم.

يقول القرطبي

وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر. لقول أبي بكر ليزيد. (وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله. فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له). فإن كانوا مع الكفار في الكنائس، قتلوا. ولو ترهبت المرأة، فروى أشهب أنها لا تهاج. وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح عندي رواية أشهب، لأنها داخلة تحت قوله: فذرهم وما حبسوا أنفسهم له. الرابعة: الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم. فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة، وصاروا حالا على حالهم وحشوة. الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا، هرما، لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي، ولا مدافعة، فإنه لا يقتل. وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما، مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول. لقول أبي بكر ليزيد ولا مخالف له. فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل، ولا يعين العدو. فلا يجوز قتله كالمرأة. وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي، أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل، أو المن، أو الفداء، أو الاسترقاق، أو عقد الذمة على أداء الجزية. السادسة: العسفاء. وهم الأجراء والفلاحون. فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون، والأجراء، والشيوخ، والكبار، إلا أن يسلموا، أو يؤدوا الجزية. والأول أصح. لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رباح بن الربيع: «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلن ذرية، ولا عسيفا». وقال عمر بن الخطاب: «اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب». وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثا. ذكره ابن المنذر. وحتى لا يدخل أحد أصنافا يجب قتلهم في هؤلاء الذين منعنا من قتلهم. يقول القرطبي: (فأما المرتدون، فليس إلا القتل أو التوبة. وكذلك أهل الزيغ والضلال. ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل، ثم ظهر فهو كالزنديق، يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل، فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق)

5 - في قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ: يقال: إن هذه الآية تنطبق على حالة مضت وانقضت. وهي حالة كون مكة دار حرب في أول الإسلام. أما الآن، فالإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال لأقاتلنكم وأمنعكم من الحج، ولا أبرح من مكة. فقد وجب قتاله، وإن لم يبدأ بالقتال. 6 - عند قوله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: قال الألوسي: (واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد، أو خنق، أو حرق، أو تجويع، أو تغريق، حتى لو ألقاه في ماء عذب، لم يلق في ماء ملح. واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا يلزمه رد مثله. ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة، كما في ذوات الأمثال. وقد يكون من طريق المعنى، كالقيمة فيما لا مثل له). وبمناسبة هذه الآية ذكر القرطبي مسألة ما إذا كان لإنسان حق عند آخر والآخر يجحده. فهل يحق لصاحب الحق إذا وقع بيده مال للآخر، سواء كان من جنس ماله، أو من غير جنسه، أن يأخذ صاحب الحق حقه دون علم الآخر، حتى ولو كان المال أمانة عنده؟. ذكر القرطبي الأقوال في ذلك وذكر من جملة من جوز الأخذ، الشافعي. أقول: والفتوى عند الحنفية على ذلك. 7 - عند قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. قال القرطبي: (وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية في العدو. فإن لم يكن كذلك فهو مكروه. لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه، فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية (سورة التوبة). إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء. قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَ

الفقرة الخامسة

ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (سورة لقمان). وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب. ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله». 8 - عند قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. قال الألوسي: (واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه، أو على المسلمين). الفقرة الخامسة: [سورة البقرة (2): الآيات 196 الى 203] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

كلمة في الفقرة والسياق

كلمة في الفقرة والسياق: 1 - بهذه الفقرة المعدودة الآيات عرض علينا القرآن موضوع المناسك وقد مر معنا من قبل كيف أن إبراهيم وإسماعيل دعوا الله عزّ وجل: وَأَرِنا مَناسِكَنا. وهذا ربنا يتفضل على ذرية إبراهيم وإسماعيل وعلى العالم كله فيريهم مناسك الحج والعمرة. ويدلهم مع ذلك على أحكام، ويهديهم إلى آداب، ويبين لهم حكما كثيرة ويذكرهم. وكل ذلك في آيات معدودات تسع ما لا يخطر على بال بشر. وبشكل معجز لا يتطاول إليه أحد من البشر- إلا إذا كان مجنونا أو كالمجنون. 2 - في الآيات أمر بإتمام الحج والعمرة. وإذن فهناك أمور واضحة، متى ذكر الحج والعمرة فهي معروفة. ومن ثم فالآية تأمر بالإتمام. وهذا يوحي بأن المعاني الآتية، لها صلة بهذا الإتمام، ومن الإتمام إيقاع الحج في أشهر الحج. ومن الإتمام الوقوف بالمزدلفة بعد الإفاضة من عرفات، ومن الإتمام أن تكون الإفاضة من عرفات بعد الوقوف بها. لا كما كانت قريش تفعل، ومن الإتمام ألا يرافق الحج رفث، أو جدال، أو فسوق، ومن الإتمام الاستغفار والدعاء فى أمر الدنيا والآخرة، وكثرة الذكر، ومن الإتمام إقامة أيام منى بأداء حق الله فيهن وفي منى.

3 - ومن الآيات عرفنا أشياء كثيرة. كجواز التمتع، وماذا يفعل المحصر، وماذا يفعل المتمتع، ولمن يجوز التمتع. وعرفنا جواز التجارة في الحج. وبعض عادات الجاهلية، وجواز التعجل فى النفر من منى. وعرفنا كثيرا من الآداب والأخلاق. وكل ذلك بعض ما في هذه الفقرة التى تشرح بعض معالم الرحلة إلى كعبة إبراهيم، وتبين كثيرا من معالم الحكمة في شريعة الحج، حيث يتجمع المسلمون في عرفات، لينطلقوا منها في أعظم مظاهرة لتعظيم بيت الله. معلنين الحرب قبل ذلك على الشر في رجمهم المكان الذي وسوس فيه الشيطان لأبينا إبراهيم عليه السلام. 4 - وإذا كنا ذكرنا من قبل أن مقاطع القسم الأول مهدت لمعاني القسم الثاني. فإن باستطاعتنا هنا أن نذكر أن مقطع إبراهيم عليه السلام، ومقطع القبلة، والمقطع الذي جاء فيه ذكر الصفا والمروة. كل ذلك قد وطأ لهذه الفقرة التى كانت بدايتها: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. وإن البداية لتشعرنا وكأنها استمرار لحديث سابق. 5 - والمناسبة بين هذه الفقرة وما قبلها واضحة كوضوح المناسبة بين الحج والقتال. فالقتال يحتاج إلى بذل جهد ومال. والحج بذل جهد ومال. وتجد الصلة بين الحج والجهاد في كثير من النصوص من مثل: «ولكن أفضل الجهاد حج مبرور». أما محل هذه الفقرة في السياق الكبير فدقيقة جدا. من المعلوم أن الإسلام أركان وبناء. فالأركان: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج. والبناء أحكام الإسلام. وتفصيل ذلك في أول كتابنا (الإسلام). وقد بدأت سورة البقرة بذكر أركان ثلاثة. الإيمان بالغيب، والصلاة، والإنفاق. وذكرت أن القرآن هو الهدى للمتقين. فذكرت من الأركان، وذكرت الأصل في البناء. وسارت السورة لتعمق هذا وهذا. وذكرت الصوم في بداية هذا المقطع كطريق للتقوى. فزادت ركنا رابعا. وبنت عليه بعد ذلك قضايا في الأموال، والتصورات، والسلوك، والجهاد. ليأتي الركن الخامس في نفس القسم الذي ذكر فيه الصوم. ففي

المعنى الحرفي لآيات الفقرة

جولة من السورة، ذكرت ثلاثة أركان، وبناء. وفي جولة أخرى ذكر ركنان، وبناء. ليتضح الإسلام كله شيئا فشيئا، ولتتضح التقوى شيئا فشيئا بطريق مدهش متشابك لا يشبه طرق البشر في الشرح والعرض؛ وبطريق مرب، لا يشبه طرق البشر في التربية. وذلك أن هذا الإسلام مشروح في الكتاب والسنة، وهو واسع كبير لم يترك شاردة ولا واردة إلا وقد بين حكم الله فيها. وما يطالب به كل مسلم من هذا الإسلام يختلف باختلاف استعداده ومسئولياته. والذي يطالب به كل مسلم هو أن يكون تقيا باطنا وظاهرا، حقيقة وسلوكا. وإذا كان من أهداف القرآن البيان، فمن أهدافه إيصال المؤمن إلى التقوى. وهذه الطريقة التي رأيناها في سورة البقرة تجمع بين البيان والعرض. وبين التربية التي تخلص من الشوائب. فإذا جاءت الآية فإنها تأتي بعد أن يكون ما قبلها مهد لها نفسيا وعقليا. ويأتي ما بعدها يغذيها ويقويها. إن أرض نفسك تفلحها آية، وتبذر بها آية، وتسقيها آية. فإذا كانت أرض نفسك صالحة، ظهر الثمر. إن هذا القرآن عجيب، مدهش، لا يشبهه شئ من كتب البشر. ومع ذلك يكفر به كثيرون مما يدل على أن العلة في الإنسان. ومن مظاهر ارتباط هذه الفقرة بالسياق العام، ما نلاحظ من أن الجولة الأولى من السياق ابتدأت بالأركان الثلاثة التي تلازم الإنسان كالإيمان، والصلاة، والإنفاق، ثم جاء الصوم وهو طريق سنوي لتحقيق التقوى، ثم جاء الحج، وهو ركن العمر، ولا شك أنه طريق من طرق التقوى. فكما أن في الصوم يعتاد الإنسان على التقوى من حيث إن بالصوم يكف الإنسان في فترة معينة عن أعتى شهواته. وبالتالي يعتاد على ضبطها. فكذلك بالحج يعتاد على الاستسلام لله في كل أمر. ويعتاد على تعظيم الله. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (سورة الحج:) وبالصلاة اليومية، وبالإنفاق اليومي والسنوي، وبالصوم السنوي، والنافلة، وبالحج العمري، وبالاتباع الكامل لكتاب الله، وبالعبادة، وبالجهد الفردي، وبعمل الدولة المسلمة تقوم التقوى في المجتمع الإسلامي على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، وعلى مستوى الدولة. المعنى الحرفي لآيات الفقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: أي وأدوهما تامين شرائطهما، وفرائضهما لوجه

الله تعالى بلا توان، ولا نقصان. هذا الاتجاه الأول فى تفسير هذا النص. الاتجاه الثاني: أي: إذا شرعتم في الحج أو العمرة فأتموهما. فهو دليل على أن من شرع فيهما ألزمه إتمامهما قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع فى الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما قولان للعلماء. وفسر علي رضي الله عنه الإتمام فقال: «أن تحرم من دويرة أهلك». وفسره سفيان الثوري: «أن تحرم (أي تنوي) من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة. وتهل من الميقات (أي تلبي وتنشئ الإحرام) ليس أن تخرج (أي ابتداء) لتجارة، ولا لحاجة. حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت لو حججت، أو اعتمرت وذلك يجزئ، ولكن الإتمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره ومرجع هذا القول إلى القول الأول. أي الإتمام بمعنى: الأداء الكامل. ويدخل في ذلك أن تكون النفقة حلالا. ويقتضي المقام أن نعرف الحج والعمرة. الحج لغة: القصد إلى معظم. وشرعا: زيارة مكان مخصوص، في زمن مخصوص، بفعل مخصوص. وهو فرض في العمر مرة على من استطاع الزاد والراحلة، فائضة عن حاجات أهله. أما العمرة ففيها خلاف: هل هي واجبة، أو مستحبة. وهي إحرام وطواف وسعي بين الصفا والمروة، ثم تحلل. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: قال النسفي: يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف، أو مرض، أو عجز، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي. وعند الحنفية، الإحصار يثبت بكل منع، من عدو، أو مرض، أو غيرهما. ويشهد لهم الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عنه صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو وجع، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى». وعند الشافعي: الإحصار بالعدو وحده. وهذان الاتجاهان في تفسير الإحصار عليهما مدار الاختلاف بين العلماء، قال النسفي: وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضا. لأنه ذكر عقبهما. فإذا أحصر الإنسان بعد تلبسه بالإحرام، فماذا يفعل؟. قال تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. أي فما تيسر من الهدي. والهدي. جمع هدية. وهدية البيت، بعير، أو بقرة، أو شاة من المعز والضأن. فصار المعنى العام: فإن منعتم من المضي إلى

البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة، فعليكم إذا أردتم التحلل أن تهدوا إلى البيت ما تيسر من بعير أو بقرة أو شاة. والمناسبة بين ذكر الإحصار وما قبله واضحة. فبعد أن أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر ما يمكن أن يعرض دون هذا الإتمام. وما هو الحل لو حدث هذا العارض. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. هل هذا الخطاب مرتبط بما قبله مباشرة فيكون خطابا للمحصرين، أو هو معطوف على وَأَتِمُّوا فيكون خطابا للحجاج والمعتمرين؟ فإن كان الخطاب للمحصرين، وهو الذي رجحه ابن جرير، وهو مذهب الحنفية، كان المعنى: لا تحلوا من إحرامكم بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه، وهو الحرم. إذ عند الحنفية لا يذبح دم الإحصار إلا في الحرم. وعلى الاتجاه الثاني يكون المعنى: ولا يجوز لكم أن تحلقوا رءوسكم بعد إحرامكم حتى تنحروا هديكم يوم النحر. وذلك يكون بعد الإفاضة من عرفات ثم مزدلفة. وبعد رمي جمرة العقبة في يوم النحر. والمحصر على من فهم النص هذا الفهم كالشافعية ينحر حيث أحصر. ولكن لا إحصار عندهم إلا من عدو. واستدلوا لمذهبهم بنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية خارج الحرم. والقضية خلافية. والربط بين هذا النص والذي قبله على الاتجاه الأول قد رأيناه. وأما على الاتجاه الثاني، فإن السياق يكون قد اتجه بعد الأمر بالإتمام إلى التفصيل في الأحكام. وقد فهمنا من النص السابق أن التحلل من الإحرام إنما يكون بالحلق. وهذا يعني أنه لا حلق أثناء الإحرام. فإذا وجدت الضرورة فما العمل؟. قال تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أي: فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق، أو به أذى من رأسه كالقمل، والجراحة التى تحوج إلى الحلق، فعليه إذا حلق فدية. هذه الفدية إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر أي: ما يعدل كيلوين حنطة، أو يذبح شاة. وهو المراد بالنسك. ومذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء. أي ذلك فعل أجزأه. وإذا كان النص في معرض بيان الرخصة، فقد جاء بالأسهل فالأسهل. أخرج الإمام أحمد عن كعب بن عجرة قال: أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أو قد تحت قدر. والقمل يتناثر على وجهي، أو قال حاجبي فقال: «يؤذيك هوام رأسك»؟ قلت: نعم. قال: «فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو

انسك نسيكة». قال أيوب:- أحد رواة الحديث- لا أدري بأيتهن بدأ. وبعض الروايات الصحيحة تعين البداءة بالنسيكة، ثم بالإطعام، ثم بالصوم. ولذلك قال ابن كثير: ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل فقال: «انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام». فكل حسن في مقامه. وهذه الذبيحة لا يشترط لها مكان معين. ولكن يجب التصدق بها للفقراء. أمرتنا الآية التي ندرسها، أولا بإتمام الحج والعمرة. وبينت لنا ماذا نفعل في حالة الإحصار. ثم بينت لنا كيف أن التحلل من الإحرام إنما يكون بالحلق. فلا حلق مع الإحرام. فإذا وجدت ضرورة للحلق، فقد بينت الحكم. والآن ينتقل السياق إلى موضوع جديد. وذلك أنه في الأحوال العادية، المسلم مخير بين أن يحج مفردا بالحج، أو يقرن الحج بعمرة. فيعتمر أولا، ثم يبقى محرما. فيقوم بأعمال الحج ثم يتحلل من الجميع، أو أن يعتمر أولا ثم يتحلل من عمرته. ثم يحرم من الحرم بحج. هذه أشكال ثلاثة للحج. فجاء السياق بنص له علاقة بهذا الموضوع. قال تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ولكي نفهم النص لا بد من لفت النظر إلى مسألة. وهي أنه في زمن النبوة لم يكن يفرق بين حج القران، وحج التمتع. بل يطلق اسم التمتع والقران كل منهما على الآخر. لأن المعنى اللغوي يسعهما. ولكنه بعد ذلك أخذ كل من الاسمين معناه الاصطلاحي. فصار للقران مضمون غير مضمون التمتع. فالتمتع: أن يتحلل الإنسان بين عمرته وحجه. فيتمتع أياما بين عمرته وحجه بإحلاله. والقران: ألا يتمتع بين عمرته وحجه، بل يجمع بينهما. ولكن هذا التفريق بهذه الدقة لم يكن موجودا زمن النبوة. ولذلك فإن قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. يشمل في هذه الحالة القران والتمتع بالاصطلاح المعروف حاليا. فإذا اتضح هذا صار بالإمكان أن نفهم كلام ابن كثير في شرح الآية: أي: فإذا تمكنتم من أداء المناسك. فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا. فلما فرغ منها أحرم بالحج ... فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة. وقد ذكر ابن كثير الدليل على أنه لم يكن يفرق بين القران والتمتع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فإن من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر يقول: قرن. ولا خلاف أنه ساق هديا). أي كان قارنا. وقد كان

عمر ينهى عن التمتع. وتعليل ابن كثير لذلك هو: لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها، محرما لها. إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين معتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه. في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: لما نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري: يقال إنه عمر. والقران عند الحنفية أفضل. لأنه أشق. والتمتع عند الحنابلة أفضل للحض عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المالكية: إن الإفراد أفضل. والإجماع منعقد على جواز كل من التمتع أو القرآن، أو الإفراد. وهل دم التمتع، أو القران، دم شكر، أو جزاء؟. وإذا كان هذا أو هذا، فماذا يترتب على ذلك من جواز ذبحه قبل يوم النحر، أو فيه؟. ومن حل أكل صاحبه منه أولا؟. الجواب: الحنفية يقولون: إن هدي المتعة نسك، يؤكل منه. ويذبح يوم النحر والشافعية قالوا: يذبح قبل يوم النحر. ولا يجوز الأكل منه. وسمي الجمع بين العمرة والحج في أشهره- سواء فصل بين ذلك بإحلال أو لا- تمتعا لانتفاع المسلم بالتقرب بالعمرة إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج. وخص الفقهاء اسم التمتع بمن أحل من إحرامه بعد العمرة بسبب ما ينتفع به الحاج من استباحة ما كان محرما عليه إلى أن يحرم بالحج. فهمنا من النص أن التمتع أو القارن عليه أن يذبح. فإذا لم يجد فماذا يفعل؟. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ أي: فمن لم يجد الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين إحرام العمرة ويوم النحر، وسبعة إذا فرغ من أفعال الحج. فصار مجموع الصيام البديل عن الهدي عشرة كاملة وذكره كامِلَةٌ بعد عشرة، إما إشارة إلى وقوعها بدلا كاملا عن الهدي في الثواب، أو لرفع أي إيهام يمكن أن يتصور في أنها أقل من عشرة. أو هي للتأكيد. وفي وقت الأيام الثلاثة خلاف كثير. فبعضهم جوز صيامها من أول شوال إذا كان الإنسان متلبسا بالعمرة. ومنهم من جوز صيامها بعد يوم النحر في ثلاثة أيام التشريق. والمفتى به عند علماء الشافعية والحنفية أنه إذا لم يصم الثلاثة أيام حتى يوم النحر، فإنه لا يجزئه إلا الهدي. ولا شك أن صيام الثلاثة أيام قبل التلبس بإحرام العمرة مردود. بقي إذن الوقت المحدد لصيام الثلاثة أيام ما بين التلبس بإحرام العمرة إلى يوم النحر. قال ابن عباس: «إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة. فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه. وسبعة إذا رجع إلى أهله».

ولنرجع إلى السياق

وأما السبعة أيام، فليس شرطا أن تصام بعد العودة إلى الوطن. بل بمجرد فراغه من أفعال الحج يستطيع البدء بها. على أن لا تكون يوم النحر لأنه لم يفرغ من أفعال الحج. ويحرم فيه الصوم. ولا في أيام التشريق لعدم جواز صومها عند الشافعية، أو لكراهة صومها تحريما عند الحنفية. روى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجل». ولنرجع إلى السياق: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: هذه الرخصة في التمتع هي للآفاقي الذي هو خارج المواقيت. أما من كان داخل المواقيت، فلا يحل له القران أو التمتع، هذا مذهب الحنفية. وقال الشافعي: إنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة. لأن من كان كذلك، يعد حاضرا لا مسافرا فهؤلاء عند الشافعي لا يحل لهم التمتع. وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة لا متعة لكم. أحلت لأهل الآفاق، وحرمت عليكم. إنما يقطع أحدكم واديا، أو يجعل بينه وبين الحرم واديا. ثم يهل بعمرة. وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما أمركم به، ونهاكم عنه في الحج وغيره. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي: لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجره. فائدة: في آيات القتال قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: وهاهنا قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. فهذان أمران أمرنا بهما في حق معرفة الله. كما أمرنا أن نعلم أنه لا إله إلا الله. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (سورة محمد) فمن لم يحقق في قلبه العلم بهذا كله لا يكون عارفا بالله. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي: وقت الحج أشهر معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وهي شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة. وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئا من أفعال الحج، لا يصح إلا فيها. وكذا الإحرام عند الشافعي رحمه الله، وعند الحنفية ينعقد قبلها، لكنه مكروه. قال ابن عباس: من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهره. قال ابن جرير: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث كما تقول العرب: رأيته العام، ورأيته اليوم. وإنما وقع ذلك في العام، واليوم. وذهب الإمام مالك إلى أن ذا الحجة كله من أشهر الحج. وبناء عليه فقد كره العمرة في بقية ذي الحجة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من

الفرض هاهنا، الإيجاب والإلزام. وقال ابن عباس في تفسيره: «من أحرم بحج أو عمرة» فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي: من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث، وهو الجماع ودواعيه، من المباشرة، والتقبيل، ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء. ويدخل فيه الكلام الفاحش. وليتجنب الفسوق: وهو المعاصي عامة. ويدخل في ذلك السباب. لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». ومن الفسوق التنابز بالألقاب لقوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ (سورة الحجرات). واختار ابن جرير أن الفسوق هنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظافر، ونحو ذلك. وهي داخلة فيما ذكرنا. فائدة: في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه». وكما يجتنب الرفث والفسوق، فإنه يجتنب الجدال. والجدال هو المراء مع الرفقاء والخدم، والسائقين. وإنما أمرنا باجتناب الرفث والفسوق والجدال- وهو واجب الاجتناب في كل حال- لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن. روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى نسكه، وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه». وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ: لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا، وفعلا. وحثهم على فعل الجميل. وأخبرهم أنه عالم به. وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. ففي هذا النص إخبار منه تعالى بعلمه الجزئيات والكليات ومن السياق يفهم أن في النص حثا على الخير، عقيب النهي عن الشر. فكأنه أمرهم أن يستعملوا مكان القبيح من الكلام، الحسن. ومكان الفسوق، البر والتقوى. ومكان الجدال، الوفاق والأخلاق الجميلة. ثم أمرهم بالتزود إذا سافروا لحجهم. قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا. في البخاري عن ابن عباس قال: «كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون. ويقولون: نحن المتوكلون. فأنزل الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى». وكان ابن عمر يقول: «إن من كرم الرجل، طيب زاده في السفر». فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا. أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى

[سورة البقرة (2): آية 198]

إليها. فكأن معنى قوله تعالى في هذا المقام: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى: تزودوا، واتقوا الاستطعام، وإبرام الناس، والتثقيل عليهم. وتزودوا للمعاد، باتقاء المحظورات. فإن خير زاد الآخرة اتقاؤها. قال مقاتل بن حيان: لما نزلت هذه الآية: وَتَزَوَّدُوا. قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله. ما نجد ما نتزوده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزود ما تكف به وجهك عن الناس. وخير ما تزودتم التقوى». رواه ابن أبي حاتم. وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: واتقوا عقابي ونكالي، وعذابي لمن خالفني، ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والأفهام. فهم من النص أن قضية اللب الذي هو العقل، تقوى الله. ومن لم يتقه فكأنه لا لب له. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي: ليس عليكم إثم في أن تبتغوا في مواسم الحج عطاء وتفضلا. وهو النفع والربح بالتجارة والكراء، روى البخاري عن ابن عباس فى سبب نزول هذه الآية قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية. فتأثموا أن يتجروا في الموسم. فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكرى. فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف، وترمون الجمار، وتحلقون رءوسكم؟ قال: قلنا بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبرائيل بهذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح مولى عمر. قال: قلت يا أمير المؤمنين: كنتم تتجرون في الحج؟. قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟!! .. وقال النسفي من أئمة الحنفية عند هذه الآية: ونزل في قوم زعموا أن لا حج لحمال، وتاجر. وقالوا: هؤلاء، الداج وليسوا بالحاج لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ .... لكن قال الحنفية في كتبهم: (من نوى الحج والتجارة لا ثواب له إن كانت نية التجارة غالبة أو مساوية). والظاهر أنه لا ثواب كاملا. وإلا فلا يقول قائل: إن من تاجر ولم يشارك في أفعال الحج، كمن تاجر وشارك في أفعاله. وهذا من باب الحض على تغليب نية الآخرة على عمل الدنيا. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: دل قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ على وجوب الوقوف في عرفات. والإفاضة من عرفات

إنما تكون لمزدلفة. فدل ذلك على أن الوقوف بمزدلفة من شعائر الحج. ونلاحظ أن في الفقرة تسلسلا في أفعال الحج. فقد رأينا أن في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ما يشير إلى الإحرام الذي هو الركن الأول من أركان الحج. ويأتي بعد ذلك الوقوف بعرفات. وهو الركن الثاني من أركان الحج، ثم الإفاضة إلى المزدلفة، وهو النسك الذي يلي الوقوف بعرفات. وقبل أن نشرح الآية شرحا حرفيا فلنقرأ هذه النقول: قال علي بن أبي طالب: (بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فحج به حتى إذا أتى عرفة، قال: عرفت. وكان قد أتاها مرة قبل ذلك. فلذلك سميت عرفة). وقال عطاء: «إنما سميت عرفة، أن جبريل كان يري إبراهيم المناسك، فيقول: عرفت، عرفت. فسميت عرفات» .. وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي مجلز. وعرفة موضع الوقوف في الحج. وهي عمدة أفعال الحج. ولهذا روى الإمام أحمد وأصحاب السنن، بإسناد صحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحج عرفات- ثلاثا- فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة. فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه. ومن تأخر فلا إثم عليه». ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة، إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال: «لتأخذوا عني مناسككم». وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة، مستدلا بقوله عليه السلام: «من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع- وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا- فقد تم حجه، وقضى تفثه». رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وصححه الترمذي. وأما المشعر الحرام، فإنه المزدلفة. قال ابن عمر: (المشعر الحرام: المزدلفة كلها) قال ابن كثير: (والمشاعر: هي المعالم الظاهرة. وإنما سميت المزدلفة: المشعر الحرام؛ لأنها داخل الحرم. وهل الوقوف بها ركن في الحج، لا يصح إلا به، كما ذهب إليه طائفة من السلف، وبعض أصحاب الشافعي؟ .. أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم؟ .. أو مستحب؛ لا يجب بتركه شئ كما هو القول الآخر في ذلك. ثلاثة أقوال للعلماء). اه.

المعنى الحرفي للنص

قال ابن جريج: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟. قال: (إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة. ولكن مفضاهما قال: فقف بينهما إن شئت. قال: وأحب أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس). وسمي المشعر الحرام: مزدلفة، لأن الناس يزدلفون فيها إلى بيت الله. ويتقربون إليه بذلك. وسمي جمعا لأن الناس يجمعون فيها بين الصلاتين. صلاة المغرب والعشاء. المعنى الحرفي للنص: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: أي دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات. فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء، والدعوات. أو بصلاة المغرب والعشاء. عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: عند جبل قزح في المزدلفة. ولا يعني هذا أنه لا يصح الوقوف إلا عند الجبل. بل المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. ولكن خير الموقف ما كان عند قزح. والدفع من عرفات إنما يكون بعد الغروب. والوقوف الواجب في مزدلفة عند الحنفية بعد الفجر. والدفع من مزدلفة إلى منى قبل شروق الشمس. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوائد: 1 - ذكر حتى الآن في هذه الآية من مناسك الحج: الإحرام، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمزدلفة. والإحرام الركن عند الحنفية هو نية الحج والتلبية. أما لبس غير المخيط، وكونه من الميقات، فواجبان. والوقوف- الركن- بعرفات عند الحنفية، الكون في عرفات ولو لحظة ما بين الزوال والفجر نائما، أو مستيقظا ولو مارا إذا كان ناويا الحج. وأن يكون جزء منه بالليل، وجزء منه في النهار؛ فهذا واجب. ويجب عندهم تأخير المغرب إلى العشاء، وصلاتهما في المزدلفة. والوقوف في مزدلفة عندهم واجب. والوقوف الواجب: هو الكون في المزدلفة بعد الفجر، وقبل الشمس، ولو لحظة واحدة. 2 - روى الحاكم في مستدركه، وابن مردويه عن المسور بن مخرمة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أما بعد- وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد- فإن هذا اليوم الحج الأكبر. ألا وإن أهل الشرك والأوثان

كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس. وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس إذا كانت الشمس في رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها. وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدي أهل الشرك». هذا لفظ ابن مردويه. وفي صحيح مسلم عن جابر في وصف حجته صلى الله عليه وسلم: «فلم يزل واقفا- يعني بعرفة- حتى غربت الشمس. وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرخى للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس: السكينة، السكينة» كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد. حتى أتى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبح بينهما شيئا (أي لم يتنفل). ثم اضطجع حتى طلع الفجر. فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة. فدعا الله، وكبره، وهلله، ووحده. فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا. فدفع قبل أن تطلع الشمس». هذان الحديثان يفسران لنا النص الذي بين أيدينا. الدفع من عرفات، وذكر الله عند المشعر الحرام على الكمال والتمام. وبمناسبة الكلام عن الحج نحب أن نتحدث عن ضرورة الفقه، فنحن نلاحظ في هذه السورة حديثا عن الحج. ولكن ليس حديثا عن كل ما له علاقة به. بل هناك حديث عنه في (سورة آل عمران) وحديث عما له علاقة به في (سورة المائدة)، وكلام في (سورة براءة)، وكلام في (سورة الحج)،. فالكلام عن الحج متفرق في القرآن. ومنه ما له علاقة في الأحكام، ومنه ما له علاقة بنواح أخرى من العظة والتذكير. والكلام في كتب السنة عن الحج متفرق فيها. وهو يشمل الأحكام وغيرها. وفي كتب السنة لا تذكر الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع مع شرحها. فاقتضى ذلك وجود الكتب التي تتحدث عن الأحكام المتعلقة بالحج، المأخوذة من الكتاب، ومن السنة عامة جامعة الشئ إلى نظيره، ضمن تبويب، وتأليف. وهذا هو الفقه. وهذا هو سبب وجوده، وسبب وجود كتبه. وسيختلف حتما الفقهاء في الفهم لكتاب الله، أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه توجد نصوص يختلف الناس في بعض تفسيراتها، أو في بعض تطبيقاتها. ويختلفون في بعض طرق الاعتماد للسنة؛ لأسباب

ولنعد إلى السياق

متعددة. وتجد مسائل ليس فيها نص صريح في الكتاب والسنة تتعلق بهذه الأبواب لا بد من ذكرها في مواطنها ليسهل الرجوع إليها لمن يريد. هذا كله يمثل الضرورة لوجود الفقه، ولوجود المدارس الفقهية. فمن غلا في الكتاب، فألغى السنة ضل. ومن غلا، فضلل الأمة بسبب المدارس الفقهية فقد ضل. ومن ألغى دراسة الكتاب والسنة بحجة الفقه، فقد جعل الفرع أصلا، فلا بد من دراسة الكتاب، ولا بد من دراسة السنة، ولا بد من دراسة للفقه. ولنعد إلى السياق وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة. أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، ولا تعدلوا عنه. هذا تنبيه لنا على ما أنعم الله به علينا من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج وغيرها. ولا يعرف مقدار هذه الهداية إلا من قارن بين ما كان عليه الناس في الجاهلية وما جاء به الإسلام، وإلا من قارن بين الإسلام وغيره من الأديان. وسنعرض لهذا الموضوع شيئا فشيئا في هذا التفسير. وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ: الضمير في (قبله) يعود على الهدى، على القول الراجح. وقيل يعود إلى القرآن. وقيل يعود إلى الرسول. والكل متقارب ومتلازم وصحيح. إنه بدون هذا الهدى، كنا ضالين عن مشاعر إبراهيم ودينه. وكنا ضالين عن طريق الله. وعما يقربنا إليه. وكنا ضالين عن السلوك الصحيح في شئون الحياة. وكنا ضالين عن المعرفة الحق لله، والغيب، والإنسان ... قال النسفي: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ «أي: الجاهلين. لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه». ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: أخرج البخاري عن عائشة قالت: كانت قريش، ومن دان دينها؛ يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس. وسائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، يفيض منها. فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم. واختاره ابن جرير. وحكى عليه الإجماع. والآن نتساءل، لماذا جاءت: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ هنا مع أنه

المعنى الحرفي

عزّ وجل قد تحدث من قبل عن الوقوف بعرفات. ففصل في الحديث عن عرفات، بالوقوف في مزدلفة؟. الجواب- والله أعلم- يكمن في ترتيب هذا القول على ما قبله مباشرة: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. فمن نماذج ضلالهم التي هداهم الله عزّ وجل إلى تركها هذا الوضع الشاذ الذي كانت عليه قريش بأن تميز نفسها عن الناس، فلا تقف بعرفات مع أهمية الوقوف فيها وفي ذلك ما فيه من تميز باطل وفي ذلك ما فيه من الإخلال بالحكمة في وقوف الناس عامة في عرفات لينطلقوا بأعظم مظاهرة تعرفها البشرية، معظمة الله وشعائره، وبيته. ومهينة عدو الله، إبليس. وإذن فهذه الآية أمر من ناحية. وفي هذا الأمر نموذج على الهداية من الضلال المذكور سابقا. بقي أن نعرف أن (ثم) التي هي حرف عطف، تعطف هذه الآية على ماذا؟ الظاهر أنها تعطفها على قوله تعالى: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فيكون الترتيب من حيث المعنى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ .. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. المعنى الحرفي: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي: ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس من عرفات. فهذا أمر لقريش خاصة بسبب الوضع الشاذ الذي كان لها، ولكل إنسان عامة. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: واستغفروا الله من مخالفتكم في الموقف، ونحو ذلك من جاهليتكم، أو من التقصير في أعمال الحج إن الله غفور لكم إذا استغفر تموه، رحيم بكم، يعلم ضعفكم. فوائد: 1 - من مظاهر الحج في الجاهلية أن المرأة من غير أهل الحرم كانت تطوف عارية عريا تاما إلا إذا كستها امرأة من أهل الحرم، ومن مظاهر الحج عندهم أن قريشا كانت تميز نفسها عن بقية الناس فلا تقف مع الناس في عرفات، وأن السعي بين الصفا والمروة كان سعيا بين صنمين إساف ونائلة، وأن البيت كان محفوفا بالأصنام من فوقه ومن حوله، قارن ذلك كله بالحج في الإسلام، لترى فضل الله على الإنسان في هدايته إلى معالم العبادة الصحيحة، وسنرى، في سورة الحج موضوع الحج عند الأمم لندرك الفارق الكبير بين عبادة تربي وتهذب، وتكمل وتحقق بالكمالات في كل حركة

وشعيرة، وبين عبادة ينتكس فيها الإنسان ويرتكس. ورأينا فيما نقلنا عن الصوم عند الأمم كيف أن نوعا من الناس يدعون في صيامهم ما يزعمون أنه مظهر صفات الله النسوية في مختلف مظاهرها فأي جهل وجاهلية يكون عليها الإنسان بلا إسلام؟ 2 - يلاحظ أنه ما من عبادة أمرنا الله عزّ وجل بها إلا وقد أمرنا الله بذكره عقبها رأينا ذلك في آيات الصوم ونراه في آيات الصلاة بمجموعها. ونراه هنا في بحث الحج، وما ذلك إلا ليبقى العبد في عبادة دائمة، ولنلاحظ أنه هنا في آيات الحج أمرنا بالاستغفار مع الأمر بالإفاضة من عرفات. فكأن المراد من ذلك أن يستشعر العبد قصوره في هذه المواطن كيلا يستشعر عجبا بعد أداء العبادة. وبمناسبة الأمر بالاستغفار نذكر ثلاثة أحاديث في الاستغفار وهي الفائدة الثالثة. ا- قال صلى الله عليه وسلم: «من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب». ب- قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة. ومن قالها في يومه، فمات دخل الجنة». أخرجاه في الصحيحين ج- في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن أبا بكر قال: «يا رسول الله؛ علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا. ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني. إنك أنت الغفور الرحيم». فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ: بعد الإفاضة من مزدلفة إلى منى، يرمي الحجيج عادة جمرة العقبة. فإذا رموها، ذبحوا هديهم، ثم حلقوا، وقد حل لهم كل شئ إلا النساء. ثم يطوفون طواف الإفاضة، وقد حل لهم كل شئ حتى النساء. ولم يبق عليهم إلا المبيت في منى، ورمي

المعنى الحرفي

الجمرات وطواف الوداع وأن يذكروا الله، وألا يشتغلوا بعادة من عادات الجاهلية. وإذ كان التحلل من الإحرام قد تعقبه غفلة؛ فقد نبه في الآيات على الذكر الكثير، ونبه على خلق خطر، وهو حصر الدعوات في هذه الأيام بطلب الدنيا، ونبه على أفضل دعوة يدعى بها في تلك الأيام. وهل المراد بقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ المراد به قضاء المناسك كلها، فيكون هذا توجيها لما ينبغي أن يكون عليه الوضع عند القفول؟. أو المراد به قضاء المناسك يوم النحر بما في ذلك طواف الإفاضة؟. أو المراد به قضاء المناسك يوم النحر دون طواف الإفاضة؟. يدل على الأخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في طوافه: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». فإذا اعتبرنا هذا تطبيقا للآية كان المراد بقضاء المناسك؛ الذبح يوم النحر. ويمكن أن يراد بالآية قضاء المناسك بما في ذلك الطواف. ويدل عليه ما ذكره النسفي: «كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى، وبين الجبل، فيعدون فضائل آبائهم، ويذكرون محاسن أيامهم». وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم. فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات. ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. لكن الأرجح عندنا أن الآيات لها علاقة بما بعد قضاء مناسك يوم النحر، ما عدا الطواف، وعلى هذا فيكون ذكر المناسك هنا من باب ذكر الكل وإرادة الجزء. المعنى الحرفي: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً: فإذا قضيتم مناسك يوم النحر فاذكروا الله ذكرا مثل ذكركم آباءكم. والمعنى: فأكثروا من ذكر الله، وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم. ومفاخرهم وأيامهم أو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه. و (أو) في النص أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لتحقيق المماثلة في المخبر عنه أو أزيد منه. ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة، وذم من

[سورة البقرة (2): آية 201]

لا يسأله إلا في أمر دنياه، وهو معرض عن أخراه. وذلك أن قوما من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام ولاد حسن. لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا. فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي: من الذين يشهدون الحج من لا يسأل الله إلا حظوظ الدنيا كالجاه والدنيا وغير ذلك. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي: من نصيب لأن همه مقصور على الدنيا، لكفره بالآخرة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي: ومن الذين يشهدون الحج من يقول: ربنا آتنا في الدنيا نعمة، وعافية، وعلما، وعبادة، ونحو ذلك، وفي الآخرة عفوا، ومغفرة، وجنة، ونحو ذلك. واحفظنا من عذاب جهنم. فصار المعنى العام: أكثروا ذكر الله ودعاءه. لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين. فكونوا من المكثرين الذكر، الطالبين خيري الدنيا والآخرة. أُولئِكَ أي: الداعون بالحسنتين. لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا أي: من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ: وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وكثرة أعمالهم، ليدل على كمال قدرته، ووجوب الحذر من نقمته. فوائد: 1 - روى الحاكم في مستدركه عن سعيد بن جبير قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني آجرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم. أفيجزي ذلك ذلك. فقال: أنت من الذين قال الله: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ». 2 - أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا يقول: آمين. فإذا مررتم عليه فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». 3 - قال ابن كثير: (فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر. فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحيبة وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين. ولا منافاة بينهما. فإنها كلها مندرجة في

الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة؛ فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة. وأما النجاة من النار؛ فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا؛ من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام، وقال القاسم أبو عبد الرحمن: «من أعطي قلبا شاكرا، وجسدا صابرا فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار». 4 - وإذا كانت هذه الدعوة رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ... قد علمنا أن نقولها في أشرف المواطن، وفي أنقى الأحوال، وأحسنها. فإنه من المناسب أن ندعو الله بها دائما، وفي كل أحوالنا. وبهذا وردت السنة: روى البخاري عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وفي مسند الإمام أحمد سأل قتادة أنسا: أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم؟. قال: يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». وفي صحيح مسلم: (وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة، دعا بها. وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه). أخرج ابن أبي حاتم عن أبي طالوت قال: «كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام قال: يا أبا حمزة إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم. فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور. إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار؛ فقد آتاكم الخير كله» وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟. قال: نعم؛ كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله. لا تطيقه- أو لا تستطيعه- فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله فشفاه» ورواه مسلم. روى الإمام الشافعي عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح، والركن الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».

ولنعد إلى السياق

ولنعد إلى السياق: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في النص السابق على هذه الآية رأينا أمرا بالذكر بعد قضاء مناسك يوم النحر، وبعد يوم النحر تأتي أيام التشريق الثلاثة، والنسك الذي يتم بها هو رمي الجمار الثلاثة يوميا فيها، ورمي الجمار نفسه ذكر. لأنه طاعة لله. ويرافقه ذكر ودعاء. والدعاء ذكر. جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: «إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله عزّ وجل». فإذا اتضح هذا عرفنا أن المراد بالأمر بالذكر في الأيام المعدودات- والله أعلم- إقامة نسك هذه الأيام، وهو رمي الجمار وما يرافقه، بدليل قوله تعالى بعد الأمر بالذكر: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ مما يشير إلى أن الأمر له علاقة بالمبيت بمنى، وما يرافق ذلك. المعنى الحرفي: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ: قال ابن عباس: (الأيام المعدودات: أيام التشريق). وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. بدليل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام. وهي أيام أكل وشرب». فدل أن أيام التشريق بعد يوم النحر. وذكر التعجل في يومين دليل على أنها ثلاثة. وذكر الله فيها رمي الجمار، والذكر أثناء الرمي. والدعاء بعده فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ: من هذه الأيام الثلاثة، فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث فيذكر الله بالرمي فيه واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي: فلا يأثم بهذا التعجل. وَمَنْ تَأَخَّرَ حتى رمى في اليوم الثالث. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى أي: لا يأثم بهذا التأخير. فالمؤمن مخير في التعجل والتأخر. وإن كان التأخر أفضل، فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل. ثم ختم الله عزّ وجل آيات المناسك بأمرين: التقوى، والعلم بالحشر فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع الأمور والأحوال، خاصة وأنتم قد أديتم حجكم الذي به ترجعون كيوم ولدتكم أمهاتكم.

فوائد ومسائل وآثار

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تجمعون إليه حين تبعثون من قبوركم، فاعلموا هذا خاصة وقد رأيتم نموذجا من الحشر الدنيوي الاختياري في موافقكم بعرفات وغيرها مما يذكركم بالحشر الأخروي الإجباري. فوائد ومسائل وآثار: 1 - .. مر معنا في هذا القسم قوله تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وفي كل من الأمرين نلحظ إرادة وجه الله عزّ وجل، والعمل له بما شرع، وهذا مفرق الطريق بين الإسلام وغيره، فلم يزل الناس ولا يزالون يقاتلون ويحجون، ولكن أن يكون القتال لله وفي سبيله، وأن يكون الحج لله وفي شريعة الحق، فذلك هو ميزة المسلم فكل أعماله لله وبأمره وضمن شريعته وفي ذلك كمال الإنسان. 2 - في مقطع إبراهيم عليه السلام رأينا الحكمة في بناء الكعبة: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فهذا البيت بني للطواف والعكوف، والركوع والسجود، وجاء بعد مقطع إبراهيم عليه السلام مقطع القبلة لنرى أول مظهر من مظاهر القيام بحقوق البيت، وفي هذا القسم يأتي الأمر بالحج والعمرة ليستكمل المسلم إقامة أمر الله في شأن البيت، ونلاحظ أنه قد جاء الأمر بالحج والعمرة متأخرا كثيرا عن مقطع إبراهيم، وذلك ليأتي بعد كل المقدمات اللازمة له، ففي الحج تعظيم البيت، وفيه رمي الجمار، حيث وسوس إبليس، والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فمحله بعد الصوم، وحتى لا تغلب قدسية الحج واجب القتال في الحرم إذا اقتضى الأمر جاء الأمر بالحج مسبوقا بمقطع إبراهيم، ومقطع القبلة، ومقطع الصفا والمروة، ومقطع النهي عن متابعة خطوات الشيطان، وسبق في مقطعه بموضوع الصوم وحكمة وجود الأهلة، وموضوع القتال والإنفاق. 3 - ومن خلال الحج ندرك مظهرا من مظاهر جعل الله إبراهيم إماما قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فالسعي بين الصفا والمروة إحياء لفعل أمنا هاجر سرية إبراهيم عليه السلام، ورمي الجمار إحياء لفعل إبراهيم إذ رجم إبليس عند ما وسوس أثناء إقامة إبراهيم أمر الله في شأن الذبح. والطواف بالبيت فيه تحقيق الحكمة من بناء البيت. 4 - واضح أن المقصد الأعظم في الحج هو الطواف بالبيت، وإنما بين رسول الله

صلى الله عليه وسلم أهمية الوقوف بعرفات حتى لا يظن أنها ركن ثانوي في الحج ولكن الوقوف في عرفات نفسه إنما هو لتعظيم البيت إذ ذلك الوقوف هو مركز التجمع للانطلاق نحو البيت. 5 - مما مر معنا ندرك بعض أسرار هذه الرحلة الربانية التي تبدأ بالنية، والتجرد عن لبس المخيط، والتلبية وتنتهي بطواف الوداع والذكر. فالتجرد من اللباس تجرد من الدنيا، والوقوف في عرفات استعداد للانطلاق نحو البيت بلا ذنب، ورمي جمرة العقبة قبل الطواف، ثم رمي الجمار بعده إشارة إلى الصراع المستمر ضد الشيطان، وأن يكون طواف الإفاضة بعد الحلق والذبح والتحلل الجزئي بالعودة إلى اللباس العادي ليكون الطواف على أكمل الحالات ظاهرا وباطنا والحج كله تربية للتسليم الذي هو طابع الإسلام لله رب العالمين. 6 - الأيام الخمسة. يوم عرفات، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة لها أحكام خاصة. منها ما هو مشترك بين الحجاج وغيرهم. ومنها ما هو خاص بالحجاج. ومنها ما هو خاص بغيرهم. فما تختص به، وهو مشترك بين الحجاج وغيرهم، تكبير التشريق بعد الصلوات المكتوبات. وأشهر أقوال العلماء فيه أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وهو آخر النفر الآخر. قال فقهاء الحنفية: يجب تكبير التشريق من بعد صلاة فجر عرفة، إلى ما بعد عصر رابع أيام العيد فور كل صلاة، سواء كان إماما، أو مقتديا، أو منفردا، ذكرا كان أو أنثى- ولكن المرأة لا تجهر به- مسافرا كان أو قرويا. والتكبير عندهم أن يقول مرة واحدة: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله؛ والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. ومن خصوصيات يوم عرفة لغير الحاج استحباب صيامه. أما الحاج فلا يستحب له. ليقوى على الوقوف. ومن خصوصيات يوم النحر وأيام التشريق عدم جواز صيامها لأحد، ومن خصوصيات يوم النحر لغير الحاج، الأضحية. أما الحاج فلأنه مسافر لا تجب عليه. ولكن من خصوصياته ذبح الهدي في ذلك اليوم. ومن خصوصيات يوم النحر لغير الحاج صلاة العيد. أما الحاج فلأنه مسافر، ولأن

كلمة بين يدي الفقرة السادسة

منى ليست مصرا فلا تجب عليه. ومن خصوصيات يوم النحر، وأيام التشريق؛ التكبير الجهري المطلق فيه للحجاج وغيرهم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في قبته، فيكبر أهل السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيرا. ومن خصوصيات يوم عرفات للحاج أنه يوم أداء ركن الوقوف. ومن خصوصيات ليلة النحر، أنها ليلة الإفاضة من عرفات، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة، ومن خصوصيات يوم النحر أنه يوم الوقوف بمزدلفة ما بين الفجر والشمس، ويوم الإفاضة إلى منى، ورمي جمرة العقبة فيه. وهو يوم الذبح ... ويوم الحلق ... ويوم طواف الإفاضة. ومن خصائص أيام التشريق للحاج. أن فيها المبيت بمنى، ورمي الجمرات. وبانتهاء الكلام عن مناسك الحج يبدأ السياق موضوعا جديدا، هو الموضوع الختامي للقسم الثاني في سورة البقرة. وهو موضوع الفقرة السادسة. كلمة بين يدي الفقرة السادسة: بعد آية البر خوطب المؤمنون مرتين بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* ودلوا في كل مرة على طريق مؤد إلى التقوى. وبعد الخطاب الأول ذكر شئ له علاقة بالتقوى كثمرة من ثمارها. وبعد الخطاب الثاني ذكرت أشياء لها علاقة بالتقوى كثمرة من ثمارها، أو أثر من آثارها. ثم جاء الكلام عن الحج، وهو طريق من طرق الوصول إلى التقوى. وقد ختمت آياته بالأمر بالتقوى كما رأينا. وبالكلام عن الحج تكون سورة البقرة قد تحدثت عن أركان الإسلام الخمسة. الثلاثة الأولى في آياتها الأول. وفي القسم الثاني تحدثت عن الصيام والحج، كما تحدثت عن اتباع الهدى المتمثل بالكتاب الذي هو الثمرة المباشرة للتقوى. وعن مجموعة أمور مرتبطة بهذا الموضوع. والمفروض بعد هذا البيان المتسلسل العجيب أن يصفو الإنسان لله خالصا. ولا نقصد بالإنسان هنا. الكافر الخالص، لأن ذلك انتهى أمره كما رأينا في مقدمة سورة البقرة بل المراد هو الإنسان المنتسب للإسلام ولكن الواقع أن الناس يبقون صنفين. فصنف يبقى منافقا مع كل هذا البيان. وصنف يخلص لله خلوصا تاما. والحديث عن هذين الصنفين هو الذي يختم به القسم الثاني وهو مضمون الفقرة السادسة.

الفقرة السادسة

الفقرة السادسة: [سورة البقرة (2): الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) هذه الآيات عامة في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم. هذا قول قتادة، ومجاهد، والربيع بن أنس، وغير واحد. قال ابن كثير: وهو الصحيح. المعنى الحرفي: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ أي: يروقك، ويعظم في قلبك. ومنه الشئ العجيب الذي يعظم في النفس. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: يعجبك حلو كلامه في أمر الدنيا، أو في كل ما هو من معنى الدنيا. ودخل في ذلك علومها، وأمورها .. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي: يحلف ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من الإسلام، ومحبة الله والرسول. ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق. قال ابن عباس: معناه: إذا أظهر للناس الإسلام، حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ: وهو شديد العداوة للمسلمين. هذا إذا فسرنا الخصام بالمخاصمة. أما إذا اعتبرنا الخصام جمع خصم. فيكون المعنى: وهو أشد الخصوم خصومة. والألد في اللغة: الأعوج. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويزور على الحق، ولا يستقيم معه، بل يفتري، ويفجر. روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم». وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ: ذاك قوله،

[سورة البقرة (2): آية 206]

وهذا فعله. فهو أعوج المقال؛ كاذبه، سيئ الفعال، كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. وَإِذا تَوَلَّى ... أي: إذا كان له سلطان. فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. أو أنه يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر، فيهلك الحرث والنسل. والمهم أن المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث: وهو محل نماء الزرع والثمار، والنسل: وهو نتاج الحيوانات؛ إهلاك للناس لأنه لاقوام للناس إلا بهما. وسعى في الآية بمعنى قصد. وما أصدق هذا في منافقي عصرنا. يحلفون أنهم مسلمون، وأنهم لا يريدون إلا الخير، وهم شديدو الخصومة للإسلام والمسلمين. وإذا كانت لهم سلطة لم يكن لهم هم إلا في الإفساد بالخروج عن الشريعة، وإهلاك الحرث والنسل بسبب الظلم تحت شعاراتهم الخبيثة ولقد رأينا من آثار حكمهم هلاك الحرث وهلاك النسل. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ: ولا أهله فهو لا يحب من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك، وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع، وأبى، وأخذته الحمية، والغضب بالإثم. أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام. أو أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه، وهو الكفر، أو حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ: أي هي كافيته عقوبة. وَلَبِئْسَ الْمِهادُ: أي ولبئس الفراش جهنم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: لما أخبر عزّ وجل عن المنافقين بصفاتهم الذميمة. ذكر صفات المؤمنين الحميدة. من أسباب النزول: قال ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة، وجماعة: «نزلت في صهيب بن سنان الرومي. وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله. وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل. فتخلص منهم وأعطاهم ماله. فأنزل الله هذه الآية. فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم. وما ذاك. فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية».

المعنى الحرفي للآية الأخيرة

قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم. فاتبعه نفر من قريش. فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش: قد علمتم أني من أرماكم رجلا. وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شئ، ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة، وخليتم سبيلي. قالوا: نعم. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ربح البيع». قال: ونزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي .... وفي رواية ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك. وتخرج أنت ومالك. والله لا يكون ذلك أبدا. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟. قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني. فخرجت حتى قدمت المدينة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب- مرتين-». وبهذه المناسبة نقول: ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في صهيب، وذكروا كذلك أن آية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... : نزلت في الأخنس بن شريق. والقاعدة: أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالعبرة لعموم اللفظ، وما يمكن أن يدخل تحته من أفراد. ويكون سبب النزول فردا من هذه الأفراد. وفي موضوعنا هذا نستطيع أن نقول: إن الأخنس بن شريق كان نموذجا على ذاك النوع المنافق من الناس. وكان صهيب يمثل نموذج المؤمن الذي تنطبق عليه هذه الآية. ولكن العبرة للعموم. ولذلك قال ابن كثير في هذه الآية: وأما الأكثرون، فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله. واستشهد على ذلك أنه لما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليهم بعض الناس فرد عليه عمر ابن الخطاب، وأبو هريرة، وغيرهما، وتلوا هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي .... قال النسفي بمناسبة الكلام عن هذه الآية: نزلت في صهيب ... أو فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حتى يقتل. المعنى الحرفي للآية الأخيرة:

[سورة البقرة (2): آية 207]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ. أي يبيعها. ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي: مبتغيا في ذلك رضوان الله. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: إذ ييسرهم لهذا المقام، ويلطف بهم ليتحققوا به، ويثيبهم على ذلك. فائدة: أخرج ابن جرير عن نوف البكالي- وكان ممن يقرأ الكتب، قال: «إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين. ألسنتهم أحلى من العسل. وقلوبهم أمر من الصبر. يلبسون للناس مسوك (أي جلود) الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى: فعلي يجترءون، وبي يغترون حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران» قال القرطبي: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون. فوجدتها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا .... وبهذه الآيات ينتهي القسم الثاني من أقسام سورة البقرة. ونلاحظ تشابها بينها وبين نهاية مقدمة السورة. ونهاية القسم الأول. ونلاحظ أنه ذكر في الفقرة الأخيرة صنفان من الناس، منافق ومؤمن. وفي مقدمة سورة البقرة ذكر: مؤمن، وكافر، ومنافق. فإذا تذكرنا المجموعة الأخيرة في القسم الثاني: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: وهي في الكافرين. أدركنا مظهرا من مظاهر التكامل والتناسق في السورة إذ ذكرت هذه الفقرة منافقا ومؤمنا فقط وبانتهاء القسم الثاني نصل إلى القسم الثالث الذي يبدأ بالأمر بالدخول في الإسلام كله، بعد أن وضعت السورة كل الأسس التي يحتاجها بناء الإسلام. كلمة في القسم الثاني وما سبقه من السورة: لقد أكمل القسم الثاني معاني القسم الأول، ومعاني مقدمة سورة البقرة فتكاملت المعاني في المقدمة والقسمين لتوصلنا إلى القسم الثالث، ومن مظاهر هذا التكامل أنه بانتهاء القسم الثاني مرت معنا أركان الإسلام الخمسة وهي في العقائد والعبادات، وإذ كانت العبادات لا تقبل بلا أكل الحلال فقد مر معنا شئ عن أكل الحلال، وإذ كانت العقائد والعبادات هي أساس الاستقامة وإذ كان الشيطان بالمرصاد لسالك طريق الاستقامة؛ فقد جاء التعريف بخطوات الشيطان والنهي عنها، وإذ كان يخشى على هذه

الأمة أن تقع فيما وقعت فيه أمم أخرى؛ فقد نبهت على ذلك؛ وإذ كانت هناك أمم ستسعى لإضلال هذه الأمة؛ فقد نبهت هذه الأمة على نماذج من وسائل هؤلاء وأقاويلهم وكل ذلك يأتي سابقا للقسم الثالث الذي يبدأ بالدعوة إلى الدخول في الإسلام كله، وذلك بعد أن ذكرت كل المقدمات اللازمة لهذه الدعوة وقبول تفصيلاتها. لقد بدأت السورة في تصنيف الناس إلى متقين، وكافرين، ومنافقين، ثم دعت الناس جميعا للسير في طريق العبادة لله ليكونوا من المتقين وسار السياق موضحا، وقاصا، وواعظا، ولافتا النظر، ومناقشا للآخرين، ومؤكدا معاني، وذاكرا نماذج، وداعيا إلى تفصيلات حتى استقر السياق على آية البر التي حددت المواصفات الرئيسية للمتقين، من إيمان، لصلاة، لزكاة، لإنفاق، لصبر، لوفاء عهد. ثم نادى السياق المؤمنين مرتين: مرة في شأن القصاص، ومرة في شأن الصيام. وبين أن القصاص طريق للتقوى. وأن الصيام طريق للتقوى، وذكرت الوصية بين النداءين، ثم ذكر الصيام والحج. وهما الركنان الرابع والخامس في الإسلام. وبدونهما لا يكون الإنسان تقيا، ومعهما تتأكد التقوى. وما بين الكلام عن الصيام والحج ذكرت قضايا تصحح مفاهيم عن التقوى. فذكر القتال، والإنفاق في سبيل الله. وذكر غير ذلك. والصلة بين القتال والإنفاق، وبين الصوم والحج واضحة. فالصوم صبر. قال صلى الله عليه وسلم: «الصوم نصف الصبر». والقتال يحتاج إلى صبر. والحج بذل جهد ومال. وإنفاق المال في الجهاد من هذا النوع. ثم بعد الحج ذكر السياق صنفين من الناس ليعلم أن التقي هو من باع نفسه كلها لله، وأن المنافق شأنه غير ذلك. فالسياق تدرج في تربيتنا حتى نصل إلى مقام بيع النفس في سبيل الله. وقبل ذلك حذرنا أن نكون من نوع آخر، ظاهره مسلم، وباطنه منافق خبيث حتى إذا وصلنا إلى مقام بيع النفس لله فصفت النفس خالصة لله، يبدأ قسم جديد بأمر جديد، بخطاب جديد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: في الإسلام كله.

القسم الثالث من أقسام سورة البقرة

القسم الثالث من أقسام سورة البقرة ويمتد من الآية (208 - 284)

القسم الثالث من أقسام سورة البقرة يبدأ هذا القسم بالآية (208) وينتهي بنهاية الآية (284) حيث تأتي بعده مباشرة خاتمة السورة. يبدأ القسم بآية هي مفتاح سياقه كله وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... فهذه الآية دعوة إلى الدخول في الإسلام كله. والإسلام: عقائد، وعبادات، وشعائر، ومناهج حياة وغير ذلك. فإذا صفت النفس وخلصت كما رأينا في السياق وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ .. فقد أصبح عندها استعداد لأن تلتزم بأحكام الإسلام كلها، وأن تفهم هذه الأحكام، وأن تستسلم لله فيها. فجاء هذا القسم دعوة للدخول في الإسلام كله، ونهيا عن متابعة خطوات الشيطان، وعرضا لكثير من أحكام الإسلام. فبعد مقدمة واعظة يذكر القسم أحكاما في الإنفاق. ويقرر فريضة القتال، ويعرض لأحكام في الخمر والميسر، وفي شأن اليتامى، وفي شأن الزواج، وفي شأن الحيض، وفي شأن الأيمان. ويفصل في أحكام كثيرة، لها صلة بالطلاق، وأحكام الوفاة، وكثير من الأمور الزوجية، وبعض أحكام الصلاة، ويذكر القسم أمورا لها صلة بالسياسة، والحرب، والاقتصاد. إن من أعظم مشكلات العالم المعاصر: قضايا الأسرة، والاجتماع، والأحوال الشخصية وقضايا السلم والحرب، وقضايا الاقتصاد، والقسم حديث عن هذا كله وعن غيره، وكل ذلك يأتي في سياق الأمر بالدخول في الإسلام جميعا. وفي ذلك درس، أي درس للواهمين بأن الإسلام يقبل شريكا في تغطيته لشئون الحياة. يتألف القسم من مقطعين كبيرين: الأول منهما يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وينتهي بالآية (253): تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.

المقطع الأول

والمقطع الثاني يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وينتهي بآخر آية في القسم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. والذي دلنا على بداية القسم ونهايته، المعاني أولا، ثم بعض العلامات. فمثلا سبق هذا القسم بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ ... كما سبق القسم الأول والثاني. فتلك علامة. ولقد ذكر في الآية الأولى منه؛ النهي الذي ورد في بداية القسم الثاني: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. فكان ذلك علامة ثانية. ودلنا على المقطع الأول، عرض المعاني فيه. فإنه لم يرد فيه ما يدل على فصل بين فقراته، ودلنا على المقطع الثاني فيه، أنه كله في شأن المال، أو فيما يخدم أمرا مرتبطا بذلك فلنر المقطع الأول. المقطع الأول: يمتد هذا المقطع من الآية (208) وينتهي بنهاية الآية (253) وفيه مواضيع متعددة، وفقرات كثيرة. وسنعرضه فقرة .. فقرة. الفقرة الأولى: تمتد هذه الفقرة من الآية (208) إلى نهاية الآية (220). وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 220] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: تبدأ هذه الفقرة بمقدمة آمرة، ناهية، واعظة. هي بمثابة المقدمة للقسم كله وللمقطع الذي هي فيه. ثم تأتي آيتان هما بمثابة التمهيد لفريضة القتال، ثم تأتي فريضة القتال، ثم سؤال عن أحكام في القتال، ثم قاعدة، ثم أسئلة وأجوبتها. تبدأ الفقرة بالأمر بالدخول في الإسلام كله. والنهي عن اتباع خطوات الشيطان. ودواء الزلل إن حدث، ثم تذكر بيوم القيامة، وبعض ما يكون فيه، ثم تحذر من

كفران نعمة الوحي، والبينات والمعجزات، وتحذر من سلوك طريق الكافرين في أمر تزيين الدنيا، وكل ذلك مقدمة لتفصيلات الأحكام الإسلامية في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، ثم تأتي آية فيها تبيان لحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتذكير بمنة الله على من يشاء هدايته، وصلة ذلك بتفصيل الأحكام الإسلامية في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله لا تخفى. وبعد هذا تأتي آيتان بين يدي الآية التي تذكر فريضة القتال، آية تصحح مفهوما خاطئا هو أن يتصور متصور أنه لا ابتلاء، ولا شدة. وآية حول الإنفاق، وصلته بالقتال لا تخفى. وتأتي الآية التي تفرض القتال، ثم آية في تفصيل الجواب حول موضوع مرتبط بالقتال، وفيها ما هو كالتعليل لفريضة القتال. وفي هذا السياق تأتي آية لتصحيح مفهوم الرجاء الذي يغلط فيه أكثر الخلق، فتبين أن الذين يرجون رحمة الله هم من اجتمع لهم إيمان؛ وهجرة؛ وجهاد، حيث تكون الهجرة والجهاد واجبين، ثم تأتي أجوبة على ثلاثة أسئلة: سؤال حول الخمر والميسر، وهما داء العسكريين في العالم كله. وسؤال حول الإنفاق، وهو لا بد منه للقتال. وسؤال عن اليتامى. والحرب تخلف يتامى كثيرين. وبهذا تنتهي الفقرة، وتبدأ فقرة جديدة. لاحظ الآن أن آخر آية في المقطع الأول من هذا القسم فيها: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. لاحظ هذه الآية، ولاحظ أن هذه الفقرة التي هي مقدمة المقطع، ومقدمة القسم فيها كلام عن البينات، وعن الاختلاف، وعن القتال. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ. وهذا يؤكد أن ما ذكرناه هو بمجموعه فقرة مترابطة. وأن تحديدنا لبداية المقطع ونهايته، كان صحيحا. ولنبدأ عرض آيات الفقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

المعنى العام

المعنى العام: يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام، وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك زواجره ما استطاعوا من ذلك، وأن يجتنبوا ما يأمر الشيطان به. ثم خاطبهم جل جلاله محذرا بأنهم إن عدلوا عن الحق بعد ما قامت عليهم الحجج، فليعلموا أن الله عزيز في انتقامه، ولا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب. ينتصر ممن كفر به. حكيم في أحكامه، ونقضه وإبرامه. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً: أي في الإسلام جميعا. قاله ابن عباس وأبو العالية، والربيع بن أنس. وهو الذي رجحه ابن كثير. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ: بالاقتداء به، والائتمار بأمره، والاتباع لوساوسه. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: أي ظاهر العداوة. قال مطرف: (أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان). وما أوضح عداوته لمن تأمل ما يدعو إليه!!. وأي عدو أعدى ممن يدعوك إلى النار، ويوصلك إليها؟. فَإِنْ زَلَلْتُمْ: أي ملتم عن الدخول في السلم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ: أي الحجج الواضحة، والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: أي غالب لا يمنعه شئ من عذابكم. حَكِيمٌ: في أمره وحجته، لا يعذب إلا بحق. فائدة: قرأ قارئ الآية الأخيرة، وختمها ب غَفُورٌ رَحِيمٌ. فقال أعرابي منكرا على القارئ: (الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان، لأنه إغراء عليه). فانظر ما أدق هذا الفهم، وما أعظم هذا القرآن الذي لا يكون شئ فيه إلا على غاية الحكمة، والعلو. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. هذا الخطاب فيه تهديد للكافرين، وللذين يتبعون خطوات الشيطان، وللذين يزلون عن طريق الله. هذا تهديد لهم بيوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين. فيجزي كل عامل بعمله. إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فالصلة بين الآية وما قبلها واضحة.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: هَلْ يَنْظُرُونَ: أي ما ينتظرون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ الظلل: جمع ظلة، وهي ما أظلك. مِنَ الْغَمامِ أي: السحاب وَالْمَلائِكَةُ: معطوف على لفظ الجلالة، أي وتأتي الملائكة. وَقُضِيَ الْأَمْرُ: أي وتم أمر إهلاك من يستأهل الهلاك بالحكم عليه بالعذاب. وفرغ منه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: فهو مرجعها كلها. إذ هي كلها بعلمه، وإرادته، وقدرته. وإذ ملك العباد بعض الأمور في الدنيا، فإنها يوم القيامة إليه جميعا. فوائد: 1 - ذكر ابن جرير بهذه المناسبة حديثا طويلا لبعضه علاقة بالآية وهذه فقرة منه: «أن الناس إذ اهتموا لموقفهم في العرصات، تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا، واحدا، من آدم فمن بعده. فكلهم يحيد عنها، حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا جاءوا إليه قال: أنا لها، أنا لها. فيذهب فيسجد لله تحت العرش، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا، وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية، ثم الثالثة إلى السابعة. وينزل حملة العرش، والكروبيون وقال: وينزل الجبار عزّ وجل في ظلل من الغمام، والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت. سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، سبوح قدوس، سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه سبحانه أبدا أبدا». 2 - يدور صراع كبير بين اتجاهين حول هذه الآية عند قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ: اتجاه يحارب أي تقدير في فهم الآية. والاتجاه الثاني يقدر محذوفا هنا أخذا من آية النحل إذ يقول تعالى هناك: أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فيقولون هذه الآية شبيهة بالآية تلك. فتلك من باب البيان لها. وعلى هذا فالتقدير هنا: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمر الله بفصل القضاء، وبالتعذيب وبالبأس، في ظلل من الغمام، وتأتي الملائكة؟ والجميع متفقون على تنزيه الله عن صفات الحوادث. وأنه ليس كمثله شئ في ذاته، وصفاته، وأفعاله. ولنا عودة على هذا الموضوع.

المعنى العام

3 - إن مجئ هذه الآية هنا بعد الأمر بالدخول في الإسلام كله، وعدم اتباع خطوات الشيطان، يشير إلى أن الإنسان ما لم يتذكر موقفه بين يدي الله يوم القيامة، فإنه لا يقيم أمر الله ونهيه. وإن لفت النظر إلى هذا الموضوع بعد تلك الآية يدل على أن علينا أن نرقي مشاعر الإنسان في تذكر اليوم الآخر، حتى يمكن أن يكون وقافا عند حدود الله، وما لم يستطع المسلم أن يرتقي بقلبه إلى مثل هذه التصورات، يكون بعيدا، ولا تظهر قدرة المربين كقدرتهم على نقل الإنسان إلى هذه الأحوال. قال حنظلة: (نكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار فكأنا رأي عين)، أخرجه مسلم. 4 - إن من مصادر الخطأ في باب المعرفة، أن نتجاوز قدرنا في باب التصورات والقوانين فنخضع الذات الإلهية، وصفاتها لتصورات مقيسة على الخلق. إذ كل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك. أو نخضع عالم الآخرة، لقوانين الحياة الدنيا. فللآخرة قوانينها الخاصة التي قد تتفق مع قوانين الحياة الدنيا أو لا تتفق. سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ما الرابط بين هذه الآية وما قبلها؟ جاء قبلها أمر بالدخول في الإسلام كله. ونهي عن اتباع خطوات الشيطان، وتهديد لنا في حالة الزلل مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ. وهل يكون مع الحجج الواضحة زلل؟. نعم يكون. وهل تستبدل أمة النعمة بالكفران؟. نعم تستبدل. وهل يعاقب الله أمة أنعم عليها بأن هداها، وبعث لها رسلا؟. نعم يعاقب. فهؤلاء بنو إسرائيل، سلهم كم أنزل عليهم من آية بينة. ومع ذلك بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم. فكيف كان الأمر؟. كان العقاب. لأن جلال الله عظيم. فيا هذه الأمة: إياك وقد جاءتك البينات أن تستبدلي نعمة الله، فقومي بحق الله بتنفيذ أمره واجتناب نهيه. ولا تتبدلي نعمة الله عليك كفرا، فتحرفي، وتبدلي، وتفسقي أو تكفري. فإن فعلت فإن الله سيعاقبك كما عاقب بني إسرائيل. المعنى العام: يذكر تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، كم شاهدوا مع موسى من آية بينة، أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به. كاليد، والعصا، وفلقه البحر وضربه الحجر، وما كان

المعنى الحرفي

من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات البينات، الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه. ومع هذا أعرض كثير منهم عنها. وبدلوا نعمة الله كفرا. فاستبدلوا بالإيمان بها، الكفر بها والإعراض عنها. فاستحقوا بذلك عقوبة الله في الدنيا، وعقوبته في الآخرة. المعنى الحرفي: سَلْ: أي اسأل، وهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ: على أيدي أنبيائهم. وهي معجزاتهم. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ: وتبديلهم إياها، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم. فاختاروا الضلال بدل الهدى. وأعظم نعم الله: آياته وشريعته. فآياته سبب الهدى، والنجاة من الضلالة. وشريعته سبب الهدى في كل شأن. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ: أي من بعد ما عرفها، وصحت عنده فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ: أي لمن استحق عقابه. فائدة: يدخل في تبديل نعمة الله: أن نستبدل بقانون إسلامي قانونا غير إسلامي، وبدستور الإسلام دستورا غير إسلامي، وبنظام الله نظام البشر، وبالأخلاق الإسلامية الأخلاق الجاهلية، وبمفاهيم الإسلام مفاهيم الجاهلية. وقد فعلت أمتنا هذا كله. فهل تستغرب بعد ذلك عقابا ينزله الله بنا؟! اللهم إنا نسألك رحمتك. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. قد يتساءل متسائل: ما أسباب الزلل؟. وما أسباب استبدال نعمة الله بغيرها؟ في هذه الآية الجواب. فإذا أدركنا هذا، عرفنا الرابطة بين هذه الآية وما قبلها في الفقرة. إن سبب الزلل، واستبدال نعمة الله كفرا، إنما هو الحياة الدنيا، وزينتها، وشهواتها، والكبر الموجود في قلوب الكافرين مما يجعلهم يحتقرون أهل الإيمان، ويزدرونهم، فيستكبرون بالتالي عن متابعتهم، أو الكون منهم. وذلك أول خطوة من خطوات الشيطان. ولئن فات أهل الإيمان شئ من الدنيا وحظها بسبب الالتزام بشرع

المعنى العام

الله، فإن الله يعوضهم عن ذلك الآخرة. وقد يعطي الله عباده المؤمنين، الدنيا والآخرة. المعنى العام: يخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين، الذين رضوا بها، واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال، ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم. وسخروا من الذين آمنوا، الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوه ابتغاء وجه الله. فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم. فكانوا فوق أولئك في محشرهم، ومنشرهم، ومستقرهم، ومأواهم. فاستقروا في الدرجات، في أعلى عليين. وخلد أولئك في الدركات، في أسفل سافلين. ومن شأنه جل جلاله أن يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاء كثيرا، جزيلا بلا حصر، ولا تعداد في الدنيا والآخرة. المعنى الحرفي: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا: المزين على الحقيقة؛ هو الله الخالق لكل شئ. وقد زين الحياة الدنيا للكافرين عقوبة لهم، بأن جعل عندهم استعدادا للاستغراق في شهواتها، وبأن سلط عليهم الشيطان، يحسنها في أعينهم، ويحببها إليهم بوساوسه. فيصبحون، ولا يريدون غيرها. وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا: أي وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها. أو ممن يطلب غيرها، وهم أهل الإيمان. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا: أي تحققوا بالتقوى حالا وعملا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: لأن المتقين في جنة عالية. وهم في نار هاوية. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ: أي بغير تقتير. فمن شأنه جل جلاله أن يوسع على من أراد التوسعة عليهم في الدنيا وفي الآخرة. وإذا وسع على أحد في الدنيا، فإنما ذلك ابتلاء ليستخرج شكر المؤمن ويستدرج الكافر، وإذا ضيق على أحد في الدنيا، فإن كان كافرا فلعله يرجع، وإن كان مؤمنا فليصبر، وليعلم عباده أن التوسعة في الدنيا ليست ملازمة للكرامة. فوائد: 1 - الفارق الرئيسي بين أهل الكفر، وأهل الإيمان في الهدف أن الكافر ليس له هدف إلا في الدنيا: مال، شهوات، جاه ... أما المؤمن، فليس له هدف إلا وجه

المعنى العام

الله، ونيل رضوانه في الآخرة، والدنيا بالنسبة له طريق ومعبر وممر. 2 - في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا دار من لا دار له. ومال من لا مال له. ولها يجمع من لا عقل له». كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. المعنى العام: كان الناس على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم الرسل، وتتابع إرسال الرسل بالتبشير والإنذار. وأنزل مع الرسل الكتاب المرجع للناس في شئونهم كلها، وجعل الكتاب من الوضوح والحجة بحيث لا يمترى فيه، ومع ذلك اختلف الناس بعد ما قامت الحجج عليهم. وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض. أما أهل الإيمان فإن الله عزّ وجل تولى هدايتهم إلى الحق عند الاختلاف، فكانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف. فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف. وكانوا بذلك شهداء على الناس في كل عصر، وحجة على الخلق. وذلك شأن الله. يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم عدلا، وفضلا. المعنى الحرفي: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً: أي متفقين جماعة واحدة على الإسلام الخالص من بعد آدم. ثم حدث الخلاف. ويدل على ذلك ما جاء في الآية بعد لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. ويدل على ذلك القول الأصح عن ابن عباس قال: «كان بين نوح وآدم، عشرة قرون. كلهم على شريعة الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين». فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. أي فأرسل الرسل عليهم السلام مبشرين بالثواب للمؤمنين، ومنذرين بالعقاب للكافرين. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: قال النسفي: (أي أنزل مع كل واحد منهم كتابه بتبيان الحق) لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ: أي ليحكم الكتاب بين الناس في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق، فيرجعون إلى الإسلام، ويبقون عليه. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ: أي في الحق. إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ: أي إلا الذين أوتوا هذا

فوائد

الحق المتمثل بكتاب الله وهدي الرسل. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ: من بعد ما قامت الحجج عليهم على صدقه. بَغْياً بَيْنَهُمْ: هذا سبب خلافهم: حسدا بينهم، وظلما لحرصهم على الدنيا، وقلة إنصاف منهم. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي: فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف بإذنه وقال ابن جرير: (أي بعلمه بهم، وبما هداهم له). وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ: من خلقه. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: لا عوج فيه ظاهرا وباطنا، عقائد وعبادات، ومناهج حياة، شعائر وشرائع ومشاعر. فوائد 1 - قال أبو العالية: (في هذه الآية: المخرج من الشبهات، والضلالات، والفتن). وذلك أن هذه الآية بينت أن سبب الاختلاف هو الحسد. فمن أراد الحق فعليه أن يتحرر من الحسد. ومن أراد الحق، فليحقق الإيمان في نفسه. فإن الله- عزّ وجل- يهدي أهل الإيمان إلى الحق في قضايا الاختلاف، رحمة بهم. 2 - بمناسبة هذه الآية يروي عبد الرزاق حديثا يرويه أبو هريرة تفسيرا لقوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ: قال عليه الصلاة والسلام: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة. نحن أول الناس دخولا الجنة. بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وأوتيناه من بعدهم. فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه. فهدانا الله له. فالناس لنا فيه تبع. فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى». يفهم من الحديث أنه ما من قضية اختلف فيها الناس من أمر الدين، إلا وفي كتابنا بيان الحق فيها. 3 - في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وفي الدعاء المأثور: «اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه. وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل. واجعلنا للمتقين إماما». 4 - قال تعالى في الآية: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. يقول المفسرون:

«المقصود هنا جنس الكتاب». فهل يفهم من ذلك أن كل رسول أنزل معه ما يمكن أن يسمى كتابا، إما حقيقة وإما مجازا؟. فإذا كان الأمر كذلك، وعلمنا أنه ما من أمة، إلا وأرسل لها رسول، كما نص القرآن. عرفنا سر وجود كتب فيها معان إسلامية عند أمم كالفرس، والهنود، وغيرهم. غير التوراة، والإنجيل، والزبور. ولكنها خولطت، وغيرت، وبدلت، كما حدث للتوراة، والإنجيل، والزبور. 5 - الصلة ما بين هذه الآية وما قبلها واضح. فالمقطع دعوة إلى الدخول في الإسلام كله. وعدم اتباع خطوات الشيطان. وهذه الآية تزيد هذا المعنى وضوحا. إذ الدخول في الإسلام كله هو الوضع الصحيح للبشرية والدخول في الإسلام كله، اتباع للكتاب كله، وتحكيم له في كل شئ، والدخول في الإسلام كله يقتضي أن تكون صورة الإسلام المبينة في الكتاب واضحة، وترك اتباع خطوات الشيطان يقتضي عدم الاختلاف في الكتاب. ويقتضي ترك الحسد والبغي، والدخول في الإسلام كله يحتاج إلى هداية خاصة من الله. وهذه يعطيها الله لأهل الإيمان. فلنؤمن. فالارتباط بين هذه الآية، وما قبلها على غاية الوضوح. وتأتي الآن آيتان فيهما تصحيح مفهوم، وإجابة على سؤال. وهما بمثابة التمهيد لفرضية القتال. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ* يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. ارتباط الآيتين بما قبلهما واضح. وذلك أن الدخول في الإسلام كله يقتضي صراعا. ويستتبع تضحيات، ومواقف. ويقابل من أعداء الله بمجابهة، ويترتب على ذلك ما يترتب. وإذا كان كثيرون من الناس قد يتوهمون أن حمل دين الله يقتضي أن يعيش الإنسان في منتهى الراحة، والدعة، والأمن. فإن الآية الأولى جاءت لتصحيح هذا المفهوم. ثم تأتي الآية التالية لتبين جانبا من دين الله كرد على سؤال له علاقة في الإنفاق. وارتباط هذا بما بعده واضح، فالارتباط بين الصبر والتحمل، والرغبة بالنصر والإنفاق، وبين القتال، الذي هو موضوع المجموعة التالية لا يحتاج إلى مزيد تأمل. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ

المعنى العام

وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. المعنى العام: ينكر الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتصوروا أن دخول الجنة يكون دون ابتلاء، أو اختبار، أو احتمال. ويبين جل جلاله أن الابتلاء هو سنة الله في الذين قبلنا من الأمم. وابتلاء الله إنما يكون بالأمراض، والأسقام، والآلام والمصائب، والخوف من الأعداء، والفتنة عن الدين. وبين الله عزّ وجل أن من سنة الله أن يستمر هذا الابتلاء حتى يصل الضيق والشدة إلى منتهاه. ويكاد يفرغ صبر أهل الإيمان ويتساءلون: متى يكون النصر. عندئذ ينزل الله نصره، ويبعث فرجه. المعنى الحرفي: أَمْ حَسِبْتُمْ: أم هنا بمعنى: بل. والتقدير: (بل حسبتم). والهمزة فيها للتقرير، وإنكار الحسبان، واستبعاده. والحسبان: الظن. بدأت الآية بإنكار مثل هذا التصور. أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ: أي أن تستأهلوا دخول الجنة. وَلَمَّا يَأْتِكُمْ: أي ولم يأتكم. وفي (لما) هنا معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر. مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ: أي حال الذين مضوا من قبلكم من النبيين والمؤمنين. والتي هي مثل في الشدة. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا: هذا بيان للمثل. وهو استئناف. كأن قائلا قال: كيف ذلك المثل؟. فقيل: مستهم .. والبأساء: الفقر. والضراء: السقم. ومعنى زلزلوا: حركوا بأنواع البلايا، وأزعجوا إزعاجا شبيها بالزلزلة؛ بالفزع والخوف. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟: أي بلغ بهم الضجر إلى الغاية التي قالوا بها: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟. لم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه: طلب النصر، وتمنيه، واستطالة زمان الشدة. والجواب: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. فوائد: 1 - في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: «قلنا يا رسول الله: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا. فقال: إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما بين

عظمه ولحمه، لا يصرفه ذلك عن دينه». ثم قال: «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم قوم تستعجلون». 2 - في حديث أبي رزين: «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه. فينظر إليهم قانطين، فيظل يضحك. يعلم أن فرجهم قريب». 3 - عندنا صورة تاريخية كاملة عن سنة الله هذه، من خلال سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد قص علينا القرآن الكثير عمن قبلنا. ولكن تبقى سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه (رضي الله عنهم) هي النموذج العملي، الكامل التفاصيل على هذه السنة. ففي سورة الأحزاب وصف الله حالهم يوم الأحزاب: وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وفي سورة الحشر، وصف الله المهاجرين فقال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ .... 4 - مما سأل عنه هرقل أبا سفيان من أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا السؤال قال: هل قاتلتموه؟. قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟. قال: سجالا. يدال علينا، وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ. يلاحظ أنه في هذا المقطع قد ذكر القرآن ستة أسئلة وجهت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر السياق جوابها، وهذا أولها. ومجئ الأسئلة ضمن هذا السياق غير مستغرب، فما دامت بداية السياق لها علاقة في الدخول بكل شرائع الإسلام، وعدم اتباع خطوات الشيطان فشئ عادي أن يأتي في السياق أسئلة عن بعض شرائع الإسلام، والأجوبة عليها. وفي هذه الآية سؤال عن كيفية الإنفاق، ومحاله، والأفضلية فيه؟ فجاء الجواب مبينا ذلك، ومبينا ترتيب الأفضلية بما ينسجم مع الفطرة حيث يقدم الأقرب، كما جاء في الحديث: «أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ثم أدناك .. أدناك». والأحوج: اليتيم أولا، ثم المسكين، ثم ابن السبيل. وليس من داع يدعو إلى القول بأن هذه الآية منسوخة، لأنها في نفقة التطوع. لذلك علق ابن كثير على قول السدي بأن الآية منسوخة بآية الزكاة قال: (وفيه نظر). وصاحب السؤال في هذه

المعنى الحرفي

الآية: عمرو بن الجموح رضي الله عنه وكان له مال عظيم. فسأل ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟. فكان الجواب هذه الآية!! .. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟: هذا هو السؤال؛ وظاهر السؤال أنه ماذا يكون الإنفاق؟. فجاء الجواب متضمنا هذا، ومتضمنا بيان المصرف. قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ: هذا بيان لما ينفقونه. وهو كل خير. والخير في كثير من آيات القرآن يأتي بمعنى المال. وهو هنا كذلك- والله أعلم- فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ: هذا بيان المصرف. تلا ميمون بن مهران هذه الآية ثم قال: «هذه مواضع النفقة؛ ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا، ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان». فكأنه يشير بهذا إلى قوم ينفقون الكثير على الزينة لمسجد ولغيره، يتقربون فيه إلى الله، مع وجود من يحتاج. فهو ينكر مثل هذا- والله أعلم- وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: أي مهما صدر منكم من فعل معروف فإن الله يعلمه، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة. ثم تأتي في السياق مجموعة جديدة بعد أن سبقت معانيها بتمهيد. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. في هذا المجموعة، فريضة، وسؤال له علاقة بهذه الفريضة. وقاعدة عامة مرتبطة بهذه الفريضة. والفريضة، فريضة القتال. وهذه الفريضة تأتي بالأهمية بعد الأركان الخمسة مباشرة لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد سهم، وقد خاب من لا سهم له». وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) بينا أن بين الجهاد، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعا من

المعنى العام

الترادف، والتلازم. فالجهاد أمر بمعروف خارج حدود أرض الإسلام. والأمر بالمعروف جهاد على الأرض الإسلامية، ونلاحظ أنه في السياق العام في سورة البقرة قد جاءت هذه الفريضة بعد ما ذكر الحج. فالإيمان بالغيب ذكر أولا. ثم الصلاة، ثم الإنفاق الذي منه الزكاة ثم الصوم، ثم الحج وهاهنا تذكر فريضة القتال. ويلاحظ أن هذه الفريضة قد ذكرت في سياق الأمر بالدخول بشرائع الإسلام عامة، وسنرى أنه بدونها لا يبقى إسلام. ومن ثم نفهم حكمة ذكرها في هذا السياق. وإذ تكون أول فريضة منصوص عليها في السياق الجديد يفهم من ذلك أهميتها في موضوع الدخول في الإسلام كله فمن أراد أن يحقق أمر الله في الدخول في الإسلام كله فعليه أن يقاتل أو ينوي القتال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. المعنى العام: هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، مع علمه تعالى بشدة هذه الفريضة عليهم، وكثرة مشقتها لما يترتب عليها من قتل، أو جرح. ولما يكون فيها من مشقة سفر وتنقل، ومجالدة عدو. ولكن الله عزّ وجل لا يفرض ما يفرض مراعاة لما يحب عباده أو يكرهون. بل مراعاة لما هو المصلحة لهم في دنياهم وأخراهم. إذ قد يكره العبد شيئا، وفيه الخير. وقد يحب شيئا وفيه الشر. والله وحده هو الذي يعلم، وغيره لا يعلم. فمن ثم هو الذي يشرع. ولا حق لغيره أن يشرع. وفي موضوعنا: ترك القتال، يعقبه استيلاء الكفرة على البلاد والحكم. ويترتب عليه تعطيل أحكام الله. ويترتب عليه اغتيال العقيدة، والشريعة. وفي القتال تكون كلمة الله هي العليا. وفي ذلك الخير كل الخير. المعنى الحرفي: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ: أي فرض وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي: وهو مكروه لكم. ووضع المصدر محل اسم المفعول لتبيان فرط الكراهية. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: ككراهة للقتال، مع أن فيه إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ: كحبنا

فوائد

للقعود عن القتال مع ما فيه من الذل، والفقر، واستئصال الحق، وحرمان الغنيمة والأجر. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ: أي هو أعلم بما هو خير لكم. وهو أعلم بعواقب الأمور منكم. والأعلم بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم. فاستجيبوا له وانقادوا لأمره. فوائد: 1 - قال الزهري: (الجهاد واجب على كل أحد غزا، أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين، أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث. وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه، قعد). قال ابن كثير: ولهذا ثبت في الصحيح: «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات ميتة جاهلية». وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح. ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا». 2 - من أقوال الفقهاء في الجهاد: «الجهاد فرض كفاية ابتداء وإن لم يبدأنا الكفار بالقتال». «وإياك أن تتوهم أن فرضيته تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلا، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عينا». «والكلام كله في القتال ابتداء ولو لم يهاجمنا الكفار فآية: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً. (سورة التوبة) تدل على أن الجهاد فرض على كل من يلي الكفار من المسلمين على الكفاية فلا يسقط بقتال الروم ممن يليهم عن أهل الهند مثلا». «ويكون القتال فرض عين إن هجم العدو فيخرج الكل من ذكر وامرأة ومديون وغيرهم، ولو بلا إذن زوج أو أب أو صاحب دين، ويأثم الزوج والأب ونحوهما من المنع». «ويجب أن لا يأثم من عزم على الخروج وقعوده لعدم خروج الناس وتكاسلهم أو قعود السلطان أو منعه». (راجع حاشية ابن عابدين). 3 - تحدث الفقهاء عن صورة ما إذا كنا عاجزين عن مكافأة العدو فذكروا أنه يفترض علينا في هذه الحالة أن نعد العدة ونأخذ بالأسباب الموصلة إلى مكافأتهم وسيأتي معنا في هذا التفسير مزيد بيان في شأن القتال. 4 - إن القاعدة العامة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإذا كان قتال الكافرين حتى تكون كلمة الله هي العليا في العالم فريضة. فإن كل المقدمات اللازمة

سبب النزول

لذلك تكون من باب الفرائض، من التكوين الجهادي إلى التنظيم المناسب الذي يقيم دولة الإسلام في كل قطر إسلامي، إلى وحدة الأقطار الإسلامية إلى التصنيع والتخطيط إلى التعبئة الشاملة. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. سبب النزول: أخرج ابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله: أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيده بن الجراح. فلما ذهب ينطلق، بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسه فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا. وقال: «لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك». فلما قرأ الكتاب، استرجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله. فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب. فرجع رجلان وبقي بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه. ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام. فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... المعنى العام: لما أكثر المشركون في تعيير المسلمين بالقتل في الشهر الحرام، وإذ اشتد ذلك على المسلمين. وخاصة على من شاركوا في القتل، أنزل الله عزّ وجل مبينا أن الصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، وأن الكفر بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام. وأن فتنة المسلم عن دينه حتى يرد إلى الكفر أكبر من القتل. فليكف المشركون عن استغلال هذه الحادثة، وليطمئن المسلمون. ثم بين الله عزّ وجل حقيقة: وهي أن أهل الكفر مقيمون على أخبث الكيد، وأعظمه لأهل الإسلام. وهم مستمرون في قتال أهل الإسلام حتى يرتدوا عن الإسلام. وفي هذا كله بيان لحكمة القتال إذ بدون قتال تكون الفتنة عن دين الله، ويكون استحلال كل

المعنى الحرفي

شعيرة، وتكون الردة الشاملة عن دين الله. ثم بين الله عزّ وجل عقوبة من يرتد عن دينه، إذ جزاؤه حبوط العمل، والخلود في النار. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ: السائل- كما قال عروة بن الزبير- هم وفد من مشركي قريش بعد الحادثة التي ذكرناها كسبب نزول. سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟. فالسؤال إذن عن القتال في الشهر الحرام. والجواب: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: أي فيه إثم كبير. قال النسفي: وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وسواء كان النسخ، أو لم يكن. فإنه يفهم من الآية أن المسلمين يحل لهم الجهاد في كل وقت. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أي منع عن صراط الله. وَكُفْرٌ بِهِ: أي وكفر بالله. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ: أي وصد عن المسجد الحرام فالمسجد الحرام معطوف على سبيل الله. وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ: أي وإخراج أهل المسجد الحرام، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من المسجد الحرام. أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ: هذا خبر لكل ما سبق. فصار المعنى: أن الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، والكفر بالله، أكبر عند الله من القتل في الشهر الحرام. فهم من هذا أن ما فعلته السرية أقل مما فعله المشركون فما فعلته السرية إذن عدل، وليس ظلما. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: أي تعذيب الكفار للمسلمين ليفتنوهم عن دينهم أشد قبحا، وأعظم من القتل في الشهر الحرام. بله غيره. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ: إلى الكفر. و (حتى) هنا معناها التعليل. أي يقاتلونكم ليردوكم. وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين. وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم إِنِ اسْتَطاعُوا أي: إن استطاعوا أن يردوكم عن دينكم فلن يقصروا. والتعبير يشعر بعدم استطاعتهم بفضل الله. وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ: أي ومن يرجع منكم عن الإسلام. فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ: أي فيمت مرتدا. فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب، وحسن المآب. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ خلودا أبديا. لأنهم ماتوا على الكفر. والكافر لا يخرج من النار أبدا.

فائدة

فائدة: 1 - فهم من هذه الآية حكمة فرض القتال، وسبب وجوب قتال الكافرين. وذلك أنهم يصدون عن سبيل الله، ويكفرون به، ويفتنون المسلمين عن دينهم ويحرصون على تكفير المسلمين، واستئصال الإسلام؛ فمن ثم فرض الله علينا قتالهم. 2 - احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها صاحبها. وقال الحنفية: إن الردة تحبط العمل مباشرة، لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. (سورة المائدة) وسبب الخلاف يرجع إلى خلاف أصولي فعند الشافعي: المطلق يحمل على المقيد. وعند الحنفية أن المطلق لا يحمل على المقيد. ويتفرع على الخلاف في الحبوط المباشر للعمل، أو عدمه ما يلي قال الشافعي: (إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله، ولا حجه الذي فرغ منه. بل إن مات على الردة، فحينئذ تحبط أعماله. وقال مالك: تحبط بنفس الردة. ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم. فقال مالك: يلزمه الحج. لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه. لأن عمله باق). ا. هـ من القرطبي. وقال الحنفية: بمجرد الردة ينفسخ عقد نكاحه. وإذا عاد إلى الإسلام يلزمه عقد جديد على من كانت زوجته. وقال الشافعي: لا يلزمه عقد جديد إن عاد إلى الإسلام. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات الثلاثة أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. هذه هي القاعدة التي ختم الله بها هذه المجموعة. وهي تبين أن من اجتمع له الإيمان والهجرة- حيث تجب الهجرة- والجهاد في سبيل الله. فهذا الذي يستأهل رحمة الله، ويرجوها. وفي ذلك من الحض على الجهاد، ومن التخويف من تركه الكثير، وأكثر الناس عن هذه الآية غافلون. فهم يرجون رحمة الله- وهذا طيب- ولكن لا يفكرون في الجهاد ولا يهاجرون إذا وجبت الهجرة. سبب نزول الآية: إن المحنة التي مرت بها السرية إذ بقوا فترة وهم في حيرة وقلق قبل نزول الآية السابقة من أن يكونوا قد أثموا، إذ قتلوا في الشهر الحرام- جعلتهم يتطلعون إلى غزوة أخرى

فوائد

يكون لهم أجر فيها لا نزاع فيه. فأنزل الله فيهم هذه الآية، فوضعهم على أعظم الرجاء. لا فيما يأتي فقط. بل فيما مضى، كذلك قال ابن إسحاق: (فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان؛ حين نزل القرآن طمعوا في الأجر، فقالوا يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا .... فوضع الله منهم ذلك على أعظم الرجاء). فوائد: 1 - إن مجئ هذه الآية في نهاية هذه المجموعة، وفي سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. يصحح مفهوما خاطئا يمكن أن يقع فيه المسلمون، وهو الرجاء بلا هجرة ولا جهاد. وفيه تهديد لمن ترك بعض شرائع الإسلام ولو أدى بعضا. 2 - كانت الهجرة في أول الدعوة الإسلامية مفروضة إلى المدينة. وبعد فتح مكة قال صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». أي لا هجرة بعد فتح مكة منها. لأنها أصبحت دار إسلام. ولكن ما حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام؟. ومن دار البدعة إلى دار السنة؟ قال الحنفية: إنها واجبة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، وقال الشافعية: حيثما استطعت أن تعلن بالإسلام وتجهر به فأقم. فوجودك يجعل مكانك دار إسلام. ولكن حيث لا يستطيع الإنسان أن يجهر بدينه، أو حيث يخشى على نفسه، أو أهله الفتنة هل تجب عليه الهجرة أو لا؟. الظاهر إن كان يستطيع الهجرة إلى حيث يأمن فإنه يجب عليه. ونعود إلى السياق: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. هاهنا ثلاثة أسئلة وأجوبتها. سؤال حول الخمر والميسر. وسؤال ثان حول الإنفاق. وسؤال ثالث حول اليتامى. والأسئلة الثلاثة جاءت في سياق الأمر بالدخول

المعنى الحرفي

في شرائع الإسلام كلها. وهذه أسئلة عن أحكام الإسلام في أمور ثلاثة وأجوبتها. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. روى الإمام أحمد عن عمر أنه قال: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا». فنزلت هذه الآية التي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر. فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر فقرئت عليه. فلما بلغ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: قال عمر: انتهينا، انتهينا. وفي رواية ابن أبي حاتم بعد قوله انتهينا: إنها تذهب المال، وتذهب العقل». قال النسفي: (نزل في الخمر أربع آيات. نزل بمكة: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ... (سورة النحل) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله! أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ... فشربها قوم، وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة، فشربوا، وسكروا. فأم بعضهم فقرأ: «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون .. ». فنزل: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. فقل من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك جماعة، فلما سكروا منها، تخاصموا، وتضاربوا. فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. فقال عمر: انتهينا يا رب. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: عن تعاطيهما، وعن حكم الله فيهما. والخمر: مصدر خمره خمرا إذا ستره. وسميت بذلك، لسترها العقل. والميسر: القمار، مصدر من يسر كالموعد من وعد. يقال: يسرته، إذا قمرته. واشتقاقه من اليسر، لأنه أخذ من مال الرجل بيسر، وسهولة: بلا كد، ولا تعب. أو من اليسار. لأنه سلب اليسار. قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ: أي يحتويان آثاما عظيمة بسبب التخاصم والتشاتم، وقول الفحش والزور. ولما في الخمر من زوال العقل وفقدان

فوائد

الاتزان. ولما يترتب على شربها من أخطاء وجرائم. ولما يترتب على شربها من نقصان أوقات الصحو للعبادة ولإقامة الدنيا. ولما في الميسر من خراب البيوت، وتحطيم الأعصاب، ووجود العداوة. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ومنافع الخمر من حيث إن فيها أحيانا بعض النفع للجسد في بعض حالاته، وفيها لذة لمن اعتادها، وفيها مصالح اقتصادية في الزرع والتسويق والتجارة. ومنافع الميسر مثل ارتفاق الفقراء، ونيل المال بلا تعب، وقيام كثير من المؤسسات عليها وقد يستفيد من ذلك خلق كثير. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما. فإذا قورنت المنافع بالمضار الآثمة فإن المضار أكثر. والذي يقول هذا هو الله المحيط علما بكل شئ والذي وحده يملك الحكم الخالي من كل نقص، أو جهل. وهكذا ينتهي الجواب عند هذا الحد. فكانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر والميسر على البتات. ولم تكن مصرحة بل معرضة. ولكنه التعريض الكافي لرفع الهمم إلى تركها، ولإشعار المسلم بالمكان الأردأ لهاتين القضيتين. إذ ذكر الإثم مشعر بالخطإ ولكن بما يترتب عليهما، وبما تحتويانه. فأصحاب الشرب والقمار، يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. ومن ثم يأثم متعاطيهما قبل التحريم القطعي. فمن الذي يستطيع أن يشرب الخمر، ويلعب الميسر، ولا يفعل أثرا محرما من آثارهما؟! فوائد: [1 - ان الميسر نقل للملكية غير معقول] 1 - إن الميسر نقل للملكية غير معقول. فإن تنتقل الملكية بضربة نرد، أو باستقرار رقم، أو ما أشبه ذلك. فذلك كله غير معقول في نقل الملك. لأنه لم يرافقه مقابل. ثم إن الميسر يتساقط حوله، وحول مؤسساته آلاف من الناس، يربحون دون أن يقدموا إنتاجا حقيقيا للأمة. 2 - صفة الميسر في الجاهلية: قال النسفي: (كانت لهم عشرة أقداح: سبعة منها عليها خطوط، وهي: الفذ وله سهم. والتوأم: وله سهمان. والرقيب: وله ثلاثة، والحلس: وله أربعة. والنافس: وله خمسة، والمسبل: وله ستة، والمعلى: وله سبعة وثلاثة أغفال لا نصيب لها. وهي: المنيح، والسفيح، والوغد. فيجعلون الأقداح في خريطة، ويضعونها على يد عدل. ثم يجلجلها، ويدخل يده، ويخرج باسم رجل، قدحا قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح. ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك

الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك. ويذمون من لم يدخل فيه). فأنت تلاحظ من صفة الميسر هذه أن ما يسمى باليانصيب اليوم الذي قد يكون قسم منه للفقراء، والقسم الكبير منه يذهب إلى المؤسسات، وإلى من يربح من أصحاب بعض الأرقام. هو من الميسر المحرم. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ: الْعَفْوَ. أخرج ابن أبي حاتم أن معاذ بن جبل، وثعلبة (رضي الله عنهما) أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول صلى الله عليه وسلم، إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا. فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ: الْعَفْوَ. والسؤال هنا- والله أعلم- عن مقدار ما ينفقون، وما يتركونه لأنفسهم. فكان الجواب أن ينفقوا ما فضل عن مقدار حاجة أنفسهم وأهليهم. فلا ينفق الإنسان ما يجهده، أو يجهد أهله، ثم يقعد يسأل الناس. روى مسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: (قال رجل يا رسول الله! عندي دينار. قال: «أنفقه على نفسك». قال: عندي آخر. قال: «أنفقه على أهلك». قال: عندي آخر. قال: «أنفقه على ولدك». قال: عندي آخر. قال: «فأنت أبصر»). وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. واليد العليا خير من اليد السفلى. وابدأ بمن تعول». وهل الأمر بإنفاق العفو كان فرضا في أول الإسلام ثم نسخت الفريضة بآية الزكاة، وبقي إنفاق العفو على الندب؟. قاله ابن عباس، ولم يذكر النسفي غيره. أو أن الأمر بإنفاق العفو كان مندوبا في الأصل، وبقي على الندب ثم جاءت آية الزكاة لتحدد المفروض؟. أو أن الأمر بإنفاق العفو كان فرضا، وجاءت آية الزكاة لتحدد هذا العفو الواجب، فآية الزكاة إذن مبينة؟. قاله مجاهد وغيره. قال ابن كثير: وهو أوجه، وعلى كل حال، فالزكاة هي فريضة المال، وفي المال واجبات أخرى. ويبقى إنفاق ما زاد عن الحاجة نافلة. وفي الحديث: «ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك. ولا تلام على كفاف». كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: أي مثل هذا التبيين المار بينه الله لكم لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين. فتأخذون بما هو أصلح لكم، أو تتفكرون في الدارين، فتؤثرون أبقاهما، وأكثرهما منافع. فصار المعنى العام: كما فصل لكم هذه الأحكام، وبينها، وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في شأن الدنيا، وفنائها. وأنها دار بلاء، ثم دار فناء. وإقبال الآخرة، وبقائها. وأنها دار جزاء، ثم دار بقاء فتعلمون

المعنى الحرفي

فضل الآخرة على الدنيا، وتؤثرون الآخرة عليها. نفهم من هذا أن من حكم نزول القرآن العظيم بآياته كلها، إثارة تفكير الإنسان. فمن لم يستثر القرآن تفكيره في أمر الدنيا والآخرة، فإنه لا يكون قد حقق الحكمة من هذا البيان الواضح في القرآن. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة الأنعام) وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (سورة النساء) انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه. فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ... رواه أبو داود والنسائي. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... أي: عن مخالطتهم في الطعام والشراب، بجعل الطعام والشراب مشتركا بين اليتيم ووصيه، وأمثال ذلك. والجواب قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ: أي مداخلتهم على وجه الإصلاح خير لهم ولأموالهم وخير من مجانبتهم ويحتمل أن يكون المراد بالإصلاح عزل طعامهم وشرابهم على حدة. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ: أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم، لأنهم إخوانكم في الدين. قالت عائشة: «إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة حتى أخلط طعامه بطعامي، وشرابه بشرابي». وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ: لأموالهم. مِنَ الْمُصْلِحِ: لها. أي: يعلم من قصده ونيته الإفساد، أو الإصلاح، فيجازيه على حسب مداخلته، فاحذروه. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ: العنت هو المشقة، والحرج. أي: لو شاء الله لضيق عليكم، وأحرجكم. ولكنه وسع عليكم، وخفف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل، لمن أيسر، أو مجانا، كما سيأتي بيانه في سورة النساء. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ. أي: غالب. يقدر أن يعنت عباده ويحرجهم إن شاء ويعاقبهم إن خالفوا في الدنيا وفي الآخرة. حَكِيمٌ: لا يكلف عباده إلا وسعهم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: ما الصلة بين الأسئلة الثلاثة، والآيات التي قبلها مباشرة؟. إن المجموعة التي سبقت هذه الأسئلة كان موضوعها الرئيسي هو القتال. وآخر آية منها تحدثت عن الهجرة والجهاد. ادرس ظواهر الهجرة في العالم، تجد أنها تنتشر بسببها عادتا شرب الخمر، والميسر، ثم هي تحتاج إلى أعلى درجات الإنفاق. وتجد كثرة اليتامى أثناءها. وادرس حياة الجند، وقضايا القتال تجد أن القتال يحتاج إلى أعلى درجات الإنفاق. وأن اليتامى يكثرون بسبب القتال، وأن أكثر جنود العالم يسكرون ويقامرون فإن تأتي هذه الأسئلة، ويجاب عليها في هذا السياق، فلذلك أسبابه الكثيرة. وكنا ذكرنا من قبل، أن الموضوع الرئيسي للقسم الثالث كله في مقطعيه هو الدخول في الإسلام كله. ومن ثم نعرف سر ذكر الأسئلة في هذا السياق، والإجابة عليها. فإذا جاءت فريضة القتال في هذا السياق، أو جاء التمهيد لتحريم الخمر. أو جاءت الإباحة لمخالطة اليتامى. فكل ذلك جامعه أنه من الإسلام الذي يأمر السياق بالدخول فيه كله. فصول شتى: فصل في أن الإسلام هو السلام: يلاحظ أن قوله جل جلاله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً قد فسر في أنه أمر بالدخول في الإسلام. وسنرى أنه في أكثر من مكان في القرآن يعبر عن الإسلام؛ بالسلام. كقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (سورة النساء) أي: لا تقولوا لمن قال لكم لا إله إلا الله، لست مؤمنا. وفي ذلك دليل على أنه لا سلام إلا بهذا الإسلام. صحيح أن الإسلام فرض القتال على المسلمين، وأن الجهاد في الإسلام هو بذل الجهد في القتال من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا. ولكن ذلك كله من أجل أن يعم السلام العالم. فعند ما تكون كلمة الله هي العليا في العالم كله. عندئذ يتحقق السلام على هذه الأرض في صوره كلها. السلام في محيط الأسرة، والسلام في نفس الفرد، والسلام بين المسلمين وغير المسلمين ممن يعيشون في ظل الدولة المسلمة، والسلام بين العامل ورب العمل، والسلام بين الحاكم والمحكوم، وذلك لا يكون إلا إذا كانت كلمة الله هي الحاكمة. وكلمة الله حق وعدل. فالله عزّ وجل كلف كل إنسان أن يدخل في الإسلام ليحقق السلام في ذاته، وكلف المسلمين أن يخضعوا العالم لكلمة الله ليتم السلام بانتصار الإسلام.

فصل في الحذر من الدراسات الموجهة في شأن الأديان

فصل في الحذر من الدراسات الموجهة في شأن الأديان: رأينا قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ورأينا اتجاهات المفسرين فيها. وبهذه المناسبة نحب أن نشير إلى نقطة مهمة هي: إن الغالبية العظمى من الدارسين في الآثار، والباحثين عن الديانات، والمشتغلين بالمقارنة بين الأديان، ينطلقون من نظرة مسبقة. وعلى ضوء ذلك يبحثون، ويحللون، ويعللون. وأسوأ هؤلاء أصحاب الفكر الشيوعي. فهؤلاء ينطلقون من نظريتهم في التطور التاريخي ليضعوا الأحداث في بوتقتها. فليست المكتشفات، ولا الآثار، ولا الروايات هي التي توجه النظرية، أو المقارنة بل كل شئ يكتشف هو لصالح هذه النظرية. ومن ثم فإن علينا أن نكون حذرين جدا ونحن نقرأ كل دراسة للتاريخ القديم، وكل دراسة مقارنة للأديان. الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الثالث: تتألف هذه الفقرة من خمس آيات. من الآية (221) إلى نهاية الآية (225) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 221 الى 225] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

كلمة في الفقرة

كلمة في الفقرة: رأينا أن قسما من الفقرة السابقة كان بمثابة المقدمة للقسم كله. وكان قسم منها فيه تكليف عليه طابع الفعل بينما هذه الفقرة عليها طابع الترك في التكليف. فهي تنهى عن نكاح المشركين، والمشركات. وتنهى عن جماع الزوجة في الحيض. وتنهى عن إتيان المرأة في دبرها. وتنهى أن تكون الأيمان حائلا دون البر والإصلاح. فإذا كانت الفقرة الأولى فى أجواء: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فهذه الفقرة في أجواء: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ولو أنك فتشت عن نهي يسبق قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا .. يمكن أن تربط به هذا النهي فإنك تجد أول نهي على نفس الوزن هو: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. ولكن حتى قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ جاء بعد الأمر بالدخول في شرائع الإسلام كلها. ولذلك، فإن هذه الفقرة تعرض علينا مجموعة من شرائع الإسلام في موضوع النكاح، والحياة الزوجية، والأيمان. وفيها نهيان، وسؤال وجوابه، وقاعدة. أما النهيان: فلهما صلة بموضوع تحريم الزواج بأهل الشرك، وبموضوع اتخاذ الأيمان حائلا دون البر والإصلاح. وأما السؤال: فحول علاقة الرجل بزوجته في فترة الحيض. وأما القاعدة: فحول الوظيفة الحياتية بين الرجال والنساء. والصلة بين آيات الفقرة سنراها. والصلة بين النهي الأول، وقضايا القتال، من حيث إن القتال قد يوجد تطلعات عند أصحابه للزواج بالمشركات، أو لتزويج المشركين. وعلى كل فكما قلنا فإن الفقرة آتية في سياق الدخول في شرائع الإسلام كلها فهي تفصيل لبعض هذه الشرائع. ولنبدأ تفسير الفقرة. وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا

المعنى الحرفي

وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. هذا تحريم من الله عزّ وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات، أو يزوجوا المشركين. والحكمة في ذلك، أن معاشرة أهل الشرك ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة. والله يريد بشرعه، وبما أمر ونهى أن يسير المؤمنون في طريق الجنة، والمغفرة. فعلى المؤمن أن يكون متذكرا يقظا. إذ لم تنزل الآيات وتبين إلا لهذا. المعنى الحرفي: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ أي: لا تتزوجوهن. حَتَّى يُؤْمِنَّ أي: إلا إذا آمن وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي: لعبدة رقيقة مؤمنة. خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ: أي: أحسن من حرة مشركة، ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم، وتحبونها. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي: ولا تزوجوا المشركين بمسلمة حَتَّى يُؤْمِنُوا أي: حتى يدخلوا في الإسلام وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أي: ولرجل مؤمن ولو كان عبدا رقيقا خير من مشرك، وإن كان رئيسا، سريا. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ هذه حكمة التحريم. والإشارة في أُولئِكَ إلى المشركين والمشركات. والمعنى أن أهل الشرك يدعون إلى الكفر والدنيا فقط. وذلك عمل أهل النار. فحقهم ألا يوالوا، وألا يصاهروا. أما المؤمنون، وهم أولياء الله. فإنهم دعاة إلى الجنة، والمغفرة، وما يوصل إليها. فهم الذين تجب موالاتهم، ومصاهرتهم. إذ إنهم هم الذين يدعون إلى ما يدعو الله له من الجنة، والمغفرة بأمر الله، وبعلمه. وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: يتعظون. فوائد: 1 - غير المسلم، مشرك. النصارى أشركوا، واليهود أشركوا، والمجوس مشركون والبراهمة والبوذيون، وكل أصحاب دين غير الإسلام. وكذلك الملحدون، وشرك الملحدين من باب أنهم أعطوا المادة والطبيعة، صفات الله. فهي عندهم الخالقة، والرازقة، والمحيية، والمميتة، وهكذا. وقد حرم الله عزّ وجل على المسلمين نكاح المشركات جميعا إلا يهودية، أو نصرانية بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. (سورة المائدة) ولكنه حرم على المسلمة أن تتزوج إلا من

مسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نتزوج نساء أهل الكتاب، ولا يتزوجون نساءنا». قال ابن جرير: (وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فالقول به، لإجماع الجميع من الأمة عليه). وقد حكى ابن جرير أن الإجماع منعقد على إباحة تزوج الكتابيات وقال: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس بالمسلمات. وروي عن شقيق قال: (تزوج حذيفة يهودية. فكتب إليه عمر: خل سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟. فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعافوا المؤمنات منهن). قال ابن جرير: وهذا إسناد صحيح. فإذا اتضح هذا. فهل ذكر المشركين والمشركات في الآيات هنا خاص بغير أهل الكتاب؟ أو أنه يدخل فيه أهل الكتاب، ثم أخرج منهم أهل الكتاب بآية المائدة؟ قولان للعلماء. ولا يترتب على هذا الخلاف عمل. والحكمة- والله أعلم- في تحريم الزواج بالمشركة، وحله بالكتابية، أن الكتابية تؤمن بالله، واليوم الآخر، نوع إيمان على خلاف المشركة. والحكمة في تحريم غير المسلم على المسلمة، أن الزواج نوع سيادة. ولا سيادة لكافر على مسلم، أو مسلمة. 2 - فى الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك». وفي صحيح مسلم، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع؛ وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة». 3 - لا يجوز نكاح المرتدة عن الإسلام. ولا يجوز تزويج المرتد. وهذه قضية دقيقة في عصرنا. فلا بد لراغب الزواج، أو التزويج أن يتأكد من عدم وجود نوع من أنواع الردة. 4 - ذكر السدي سببا لنزول قوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. قال: نزلت في عبد الله بن رواحة. كانت له أمة سوداء. فغضب عليها، فلطمها. ثم فزع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها. فقال له: «ما هي». قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال: «يا أبا عبد الله هذه مؤمنة». فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها. ففعل. فطعن عليه ناس من المسلمين. وقالوا: نكح أمته. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم. فأنزل الله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ.

المعنى الحرفي

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، قُلْ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ. فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ: روى الإمام أحمد عن أنس: أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت (أي لا يجتمعون بها أصلا) فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ .. الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصنعوا كل شئ إلا النكاح». المعنى الحرفي: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ أي: عن الأحكام التي تترتب على الحيض. وتعريف الحيض في كتب الحنفية: «دم يخرج من رحم آدمية تم لها من العمر تسع سنين فأكثر، ولا داء بها، ولا حبل، ولم تبلغ خمسا وخمسين سنة. وأقله ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره عشرة أيام بلياليها. والناقص عن أقله، والزائد عن أكثره، أو على العادة، وجاوز أكثره: استحاضة». والجواب: قُلْ: هُوَ أَذىً أي: شئ يستقذر ويؤذي من يقرب صاحبته، ويؤذيها اقترابه. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي: فاجتنبوا مجامعتهن وَلا تَقْرَبُوهُنَّ: مجامعين، أو ولا تقربوا مجامعتهن حَتَّى يَطْهُرْنَ: أي: حتى ينقطع الحيض وتغتسل، أو تتيمم من عذر. قال ابن كثير: (وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء، أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول: فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض- وهو عشرة أيام عنده- إنها تحل بمجرد الانقطاع. ولا تفتقر إلى غسل) اه. ونضيف أنه عند الحنفية إذا انقطع لأقل من عشرة، لا يجوز وطؤها حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت صلاة بعد الطهر ولم تغتسل. فَإِذا تَطَهَّرْنَ: أي بالماء، أو بما ينوب منابه فَأْتُوهُنَّ: أي فجامعوهن. والأمر هنا للندب. وهو إرشاد إلى غشيانهن بعد الطهر. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. أي: في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره. وفيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أي: من الذنب، وإن تكرر غشيانه. فالتواب هو الذي يتوب مرة، فمرة، فمرة، كلما تكرر ذنب، أحدث له توبة. وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ المتنزهين عن الأقذار، والأذى، أو المتطهرين بالماء، أو المتنزهين من أدبار النساء. أو من الجماع في الحيض. أو من الفواحش، أو من هذا كله.

فوائد

فوائد: 1 - يخطئ بعض الناس، فيظن أن الطهر من الحيض هو انقطاع الدم، وعدم ظهوره في الخارج. والواقع أنه قد لا يظهر الدم في الخارج، ولا يكون طهر. فالعبرة هي في الانقطاع الفعلي من الداخل. وعلامة ذلك أن تدخل المرأة القطن في داخل فرجها. فإذا خرج عليه الطهر الخالص، أو لم يظهر عليه شئ أصلا عندئذ تكون قد طهرت. 2 - قال ابن كثير: (ثم ذهب كثير من العلماء، أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج). قال النسفي: (ثم عند أبي حنيفة، وأبي يوسف: يجتنب ما اشتمل عليه الإزار. ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج). روى أبو داود عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد قالت: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. دخل فمضى إلى مسجده- قال أبو داود: تعني مسجد بيتها- فما انصرف حتى غلبتني عيني. فأوجعه البرد. فقال: «ادني مني». فقلت: إني حائض. فقال: «اكشفي عن فخذيك. فكشفت فخذي. فوضع خده وصدره على فخذي. وحنيت عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم». وعن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟. قالت: كل شئ إلا الجماع. والذين ذهبوا إلى أنه لا يحل إلا ما فوق الإزار أدلة، مأخذهم أنه حريم الفرج، فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله، الذي أجمع العلماء على تحريمه. وهو المباشرة في الفرج. ومن أدلتهم ما ورد في الصحيحين عن ميمونة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه، أمرها فأتزرت وهي حائض»، هذا لفظ البخاري. 3 - من أتى امرأته وهي حائض، فقد أثم. وعليه التوبة، والاستغفار. وهل يلزمه مع ذلك كفارة أو لا؟. فيه قولان، أحدهما: نعم، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار، أو نصف دينار. وفي لفظ للترمذي: «إذا كان دما أحمر فدينار. وإن كان دما أصفر فنصف دينار». وللإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض نصاب دينار. فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار. والقول الثاني- وهو الصحيح- من

المعنى الحرفي

مذهب الشافعي. وقول الجمهور: أنه لا شئ فى ذلك. بل يستغفر الله عزّ وجل. لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث. فإنه قد روي مرفوعا كما تقدم، وموقوفا، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث. 4 - ويحل مضاجعتها، ومواكلتها بلا خلاف. قالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه، وأنا حائض. وكان يتكئ في حجري وأنا حائض. فيقرأ القرآن). وفي الصحيح: (كنت أتعرق العرق «العرق هو العظم إذا كان عليه لحم»، وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه. وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه). وقالت: (كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعار الواحد، وأنا حائض، طامث. فإن أصابه مني شئ غسل مكانه. لم يعده «أي لم يتجاوزه»، وصلى فيه). وأما ما رواه أبو داود عن عائشة أنها قالت: (كنت إذا حضت، نزلت عن المثال «الفراش» على الحصير. فلم تقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تدن منه حتى تطهر). فهو محمول على التنزه، والاحتياط. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. هذا بيان وتوضيح لقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي: إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث، تنبيها على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب الأولاد، لا قضاء الشهوة فحسب. فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي نيط به هذا المطلوب. المعنى الحرفي: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي: نساؤكم مواضع حرث لكم. وهذا مجاز، شبهه بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي فيها النسل- بالبذور والولد بالنبات. فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي: جامعوهن متى شئتم، أو كيف شئتم، باركة، أو مستلقية، أو مضطجعة بعد أن يكون المأتى واحدا. وهو موضع الحرث. وهو تمثيل. أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم. لا يحظر عليكم جهة دون جهة. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يجب تقديمه من الأعمال

سبب نزول هذه الآية

الصالحة، وما هو خلاف ما نهيتم عنه، أو هو طلب الولد، أو التسمية على الوطء، أو القبلة والمداعبة قبل الجماع. وَاتَّقُوا اللَّهَ: بعدم اجترائكم على مناهيه. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي: صائرون إليه، فمحاسبكم على أعمالكم جميعا، فاستعدوا للقائه. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: أي بما أعد الله لهم في الآخرة. سبب نزول هذه الآية: عن جابر بن عبد الله قال: إن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول. فأنزل الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مقبلة ومدبرة، إذا كان ذلك في الفرج». أخرجه ابن أبي حاتم. وعن ابن عباس: (كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب- وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم. فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم. وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف. وذلك أستر ما تكون المرأة. فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم. وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا. ويتلذذون بهن مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار. فذهب يصنع بها ذلك. فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني. فسرى أمرهما، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ .. أي: مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات. يعنى بذلك موضع الولد). قال ابن كثير: تفرد به أبو داود، ويشهد له بالصحة ما تقدم من الأحاديث. ولا سيما رواية أم سلمة. فإنها مشابهة لهذا السياق. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: (جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: هلكت. قال: «ما الذي أهلكك؟» قال: حولت رحلي البارحة. قال: فلم يرد عليه شيئا. قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ .... أقبل، وأدبر، واتق الدبر والحيضة). ورواه الترمذي من طريق آخر وقال: حسن غريب. روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ في أناس من الأنصار، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه؟. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ائتها على كل حال إذا كان في الفرج».

فوائد

فوائد: 1 - عن حفصة أم المؤمنين: أن امرأة أتتها فقالت: إن زوجي يأتيني مجبية ومستلقية، فكرهته. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا بأس إذا كان في صمام واحد». عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا. إن الله لا يستحيي من الحق. لا يحل أن تأتوا النساء فى حشوشهن». روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون من أتى امرأته في دبرها». وإتيان النساء في أدبارهن حرام. أجمع على ذلك الأئمة الأربعة بالنقول الثابتة عنهم. وما عدا ذلك فمردود. 2 - إن ما بين قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. وما بين الآية قبلها: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... وما بين النص قبله ارتباط واضح. فوقت الحيض ليس أوان بذار. والمشركة ليست أرضا صالحة للبذرة الصالحة. 3 - ورد معنا في تفسير الآية الأخيرة أنه مما فسر به قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ: التسمية قبل الجماع. وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله. اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدا». 4 - ورد في هذه الفقرة قوله تعالى عن الحيض: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ ... وقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. وقوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. وهذا كله من الكنايات اللطيفة، والتعريضات المستحسنة عما لا ينبغي التصريح به إلا في حالة الضرورة. فعلى كل مسلم أن يتأدب بها. ويتكلف مثلها في المحاورات، والمكاتبات.

ولنعد إلى السياق

5 - يلاحظ في هذا السياق المبدوء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. أنه قد جاء حتى الآن- ولا يوجد بعدها غيرها- ستة مرات، يسألونك. ثلاث مرات بلا واو. ثم مع الواو ثلاثا. قال النسفي في تعليل ذلك: (لأن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة. فلم يؤت بحرف العطف. لأن كل واحد من السؤالات، سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد. فجيء بحرف الجمع لذلك. 6 - أيهما أشد حرمة: إتيان الرجل زوجته في فرجها وهي حائض أو نفساء؟. أو إتيانها في دبرها؟ المسألة خلافية. والقائلون بأن إتيان الحائض في الفرج أشد حرمة قالوا: لو أن رجلا ازداد شبقه، ولم يجد سبيلا إلى صرف شهوته لا بتبطين، ولا تفخيذ، فإنه يأتي زوجته في دبرها، ولا يأتيها في فرجها أثناء حيضها، أو نفاسها. والحرمة واقعة، والاستغفار واجب. ولنعد إلى السياق: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. هذا معنى جديد في سياق الأمر بالدخول في شرائع الإسلام كافة. وهو بيان لجزء من شرائع الله في موضوع الأيمان. ومجيئه بين الكلام عن النكاح، والطلاق واضح الحكمة، لأن الطلاق نوع يمين، ولأن حلف الإنسان في حياته الأسرية كثير. المعنى العام: يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم، إذا حلفتم على تركها. ثم بين الله عزّ وجل أنه لا يعاقبنا، ولا يلزمنا بما صدر منا من الأيمان اللاغية، ولكن يؤاخذنا على ما تعمدنا من الإثم في الأيمان. المعنى الحرفي: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ: العرضة فعلة، بمعنى مفعول. وهي اسم ما تعرضه دون الشئ. فيتعرض دونه، ويصير حاجزا، ومانعا منه. تقول: فلان

[سورة البقرة (2): آية 225]

عرضة دون الخير. كان الرجل يحلف ألا يفعل بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات البين، أو إحسان إلى أحد، ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البر، إرادة أن يبر في يمينه. فقيل لهم: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي حاجزا لما حلفتم عليه. والمقصود باليمين في الآية المحلوف عليه. وإنما سمي يمينا لتلبسه باليمين. كقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين- أي على محلوف عليه- فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه». فصار المعنى: ولا تجعلوا اسم الله مانعا لكم عن ما حلفتم عليه من أن تفعلوا البر، أو تتقوا .. أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ: هذا بيان للأمور المحلوف عليها. والتي لا ينبغي أن يبر الإنسان بيمينه إذا حلف ألا يفعلها: البر، والتقوى والإصلاح بين الناس. ويدخل في البر والتقوى كل شرائع الإسلام. ويدخل في الإصلاح بين الناس كل بذل جهد يؤلف بين القلوب على الحق. وذهب بعضهم إلى أن اللام لِأَيْمانِكُمْ للتعليل وعلى هذا يكون معنى الآية: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به مانعا لأن تبروا، وتتقوا، وتصلحوا بين الناس. إذ فعلكم هذا قلب لما ينبغي. فالله عزّ وجل يريد ممن آمن به أن يندفع في البر والتقوى، والإصلاح بين الناس وهذه هي ثمرة الإيمان بالله. فإذا فعلتم غير هذا، قلبتم الحقائق. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم. عَلِيمٌ: بنياتكم. لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو: هو ما لا يعتد به من كلام، وغيره. ولغو اليمين: هو الذي لا يعتد به في باب الأيمان. وتعريفه عند الحنفية: أن يحلف الرجل على شئ يظنه على ما حلف. والأمر بخلافه. وعند الشافعية: هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف. نحو: لا والله، وبلى والله. ومعنى النص: لا يعاقبكم الله بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي: ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد إلى الكذب في اليمين. وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله، وهو اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في النار. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ: حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم. وحيث يقبل التوبة النصوح عن أي ذنب. فوائد: 1 - قال الحنفية: الأيمان ثلاثة: غموس، ومنعقدة، ولغو، فالغموس أن يحلف كاذبا عمدا. ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار. واللغو: أن يحلف على أمر يظنه كذلك، وليس كذلك. والمنعقدة: أن يحلف على مستقبل آت. وهذا القسم فيه الكفارة إن حنث فيه: فاللغو لا إثم فيها، ولا كفارة. ولكن الأدب أن لا يحلف. قال

الشافعي: ما حلفت بالله كاذبا ولا صادقا. والمنعقدة فيها الكفارة كما سنرى في سورة المائدة إن شاء الله. والغموس فيها الإثم. والواجب فيها: التوبة فقط عند الحنفية، والتوبة والكفارة عند الشافعي. تعلق الإمام الشافعي بوجوب الكفارة بالآية المارة آنفا. لأن كسب القلب: العزم، والقصد. والمؤاخذة غير مبينة هنا. وبينت في المائدة. فكان السياق ثمة بيانا هنا. ورد الحنفية: بأن المؤاخذة هنا مطلقة، وهي في دار الجزاء. والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء، فلا يصح حمل البعض على البعض. 2 - في الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه: باللات، والعزى. فليقل: لا إله إلا الله». قال ابن كثير: (فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا، وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد. فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد، لتكون هذه بهذه). 3 - رأينا أن ليمين اللغو تعريفا عند الشافعية وآخر عند الحنفية. ومدار التعريفين على كلام عائشة، (رضي الله عنه) ومن وافقها. قالت عائشة في إحدى الروايات عنها في تعريف اللغو: هو الشئ يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه. وفي رواية أخرى: هو قوله: والله، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك. 4 - وفي حديث مرسل عن الحسن، إسناده حسن. قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون- يعني يرمون- ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه. فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله؟ قال: «كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة». 5 - أخرج أبو داود عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة. فقال: إن عدت تسألني عن القسمة مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية من مالك. كفر عن يمينك، وكلم أخاك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عزّ وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك». 6 - روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لأن يلج أحدكم بيمينه في

كلمة في الفقرة الثانية وسياقها

أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه». وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها». وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها من غير مسألة، أعنت عليها. وإن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك». وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير». كلمة في الفقرة الثانية وسياقها: منعت هذه الفقرة من نكاح المشركات والمشركين. وحضت على نكاح المؤمنين والمؤمنات. وبالنكاح يوجد وضع ما بين الزوجين. ومن ثم تحدثت الفقرة عن حرمة الوطء في الحيض، وحله بعد الطهر والتطهر حقيقة، أو حكما. وبينت الفقرة أنه متى اجتنب الإنسان الحيض والدبر، فإن أي وضعية من وضعيات الجماع، تحل له. وفي هذا السياق الذي فيه كلام عن أنواع الطهارة، والذي يتحدث عن أمور هي من مكامن الضعف البشري. جاء قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. وفي الحياة الزوجية، والعائلية، تكثر الأيمان. والحياة الزوجية معرضة للفساد ومن ثم جاءت آيتان في الأيمان. ثم تأتي فقرة لاحقة، تبدأ بكلام عن نوع من الأيمان، يؤثر على الحياة الزوجية، وهو ما يسمى بالإيلاء كما سنرى إن شاء الله. ثم ينتقل السياق إلى الكلام عن الطلاق، وصلة ذلك ببعضه لا تخفى: فصول شتى: فصل في الأسرة: رأينا في الفقرة السابقة بعضا مما له علاقة في موضوع الأسرة في الإسلام. والفقرة السابقة واللاحقة تشكلان بعضا من دستور الأسرة في الإسلام. وفي هذا المقام، عن موضوع الأسرة يقول صاحب الظلال. والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تلتقي

مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة وتفسر الحياة وتتعامل مع الحياة. والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة. تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته. ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة. ودوره في الأرض هو أضخم دور .. امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل .. ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة. وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم، الذي جعله الله للإنسان. أو التي اضطرت بعض الدول الأوروبية اضطرارا لإقامتها، بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة، التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني، والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام، أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشئوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل، تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان. هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظلل الأسرة، لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي، فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات .. وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية، وهو هو هذا النظام الملعون، الذي يضحي بالصحة النفسية لأعلى ذخيرة على وجه الأرض .. الأطفال .. رصيد المستقبل البشري .. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل زيادة في دخل الأسرة. أو في مقابل إعالة الأم، التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل، بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه الأرض. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم، وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل ... يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها

فصل في نكاح غير المسلمات

من العناية ما يتفق مع دورها الخطير .. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام. وهذه السورة واحدة منها. فصل في نكاح غير المسلمات: عند قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ، ذكر القرطبي الاتجاهات الفقهية في مجموعة مسائل لها صلة في نكاح غير المسلمات. فبالنص أن المشركة لا يجوز نكاحها وكذلك المشرك، وبالنص في سورة المائدة أبيح لنا نكاح الكتابيات فتعينت حرمة نكاح المسلمة من مشرك وجاز نكاح المسلم من الكتابية. قال القرطبي بعد أن نقل قول ابن عمر في عدم جواز نكاح الكتابية: قال النحاس: (وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قد قال: بتحليل نكاح أهل الكتاب من الصحابة، والتابعين جماعة، منهم: عثمان، وطلحة، وابن عباس، وجابر، وحذيفة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وطاوس، وعكرمة، والشعبي، والضحاك؛ وفقهاء الأمصار عليه). قال القرطبي: (واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب. فقال مالك: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ... وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز نكاح إماء أهل الكتاب). قال القرطبي: (واختلفوا في نكاح نساء المجوس. فمنع مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وإسحاق من ذلك. وقال ابن حنبل: لا يعجبني .. وقال ابن القصار: قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين، أن لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم). وقال القرطبي: (وروى ابن وهب عن مالك أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين. وكذلك الوثنيات، وغيرهن من الكافرات. وعلى هذا جماعة العلماء، إلا ما رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء وعمرو بن دينار أنهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيات؟. فقالا: لا بأس بذلك .. ) وأطال القرطبي برد هذا القول. ومما مر ندرك أن الإجماع منعقد على حرمة تزويج المسلمة بكافر، وندرك دليلة: وهو أن النص حرم زواج المسلمة بالمشرك ولم يأت مخصص ولا ناسخ. فصل في النكاح بولي: من المعارك الفقهية، معركة هل يجوز للمرأة البالغة أن تزوج نفسها بغير ولي. ومن

فصل في النكاح عند الحنفية

حجج القائلين بالمنع قوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. فقد أسند النكاح إلى الأولياء. ومن حجج المجيزين أن هناك آيات أسندت النكاح إلى المرأة: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ. وكل من الطرفين وجه حجج الآخر. وهو موضوع سيمر معنا تفصيلا في كتاب (الأساس في السنة وفقهها) إن شاء الله. وممن ذهب إلى الجواز: أبو حنيفة. قال القرطبي: (وكذلك كان أبو حنيفة يقول: «إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا، بشاهدين، فذلك نكاح جائز». وهو قول زفر. وإن زوجت نفسها غير كفء، فالنكاح جائز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما). فصل في النكاح عند الحنفية: الزواج عند الحنفية أفضل من التفرغ للعبادة. وهو واجب عندهم متى تاقت نفس الإنسان للجماع. وفريضة إن تيقن الإنسان أنه سيقع في الزنا إن لم يتزوج. وسنة حال الاعتدال. ومكروه لخوف الجور. وحرام إن تيقن من نفسه الجور. ويتم بإيجاب، وقبول بالألفاظ المعتمدة لذلك، بحضور شاهدين، حرين. أو حر، وحرتين، مكلفين، سامعين قولهما معا، فاهمين أنه نكاح مسلم لنكاح مسلمة كما صح نكاح مسلم ذمية عند ذميين، ولو مخالفين لدينها. فلو قال مسلم بالغ عاقل لمسلمة بالغة عاقلة: زوجيني نفسك على مهر قدره كذا. فقالت: زوجتك. وكان الشاهدان حاضرين، وسمعا كلام الطرفين، انعقد العقد. فصل في سبب الحيض ومدته: الحيض عند المرأة سببه عدم تلقيح البويضة عند الأنثى. فالبويضة إذا لم تأتها النطفة تنفجر. ويتسبب عن ذلك خروج هذا الدم المعروف. وواضح أن المرأة خلال فترة حيضها ليست جاهزة للحمل. بل لا تحمل المرأة إلا في الطهر. ومن ثم ربط جواز وطئها فيه، على أن المنع من الوطء حال الحيض له أكثر من حكمة. أولها عدم نظافة المحل. وهذا بعض ما حمل عليه المفسرون كلمة الأذى في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. قُلْ: هُوَ أَذىً. فالأذى على هذا الاتجاه نفسي، عملي. ولكن الأمر فيما يبدو أوسع من ذلك. فالنساء اللواتي يأتيهن أزواجهن في الحيض يشتكين من آلام، وأوجاع كثيرة. فالأذى حاصل للزوج. وحاصل للمرأة على اختلاف في نوع الأذى، ودرجته، وطبيعته عند كل من الرجل والمرأة. وأقل الحيض عند الشافعية والحنابلة يوم. وأكثره خمسة عشر يوما. فما نقص عن يوم، أو زاد عن خمسة عشر

الفقرة الثالثة في المقطع الاول من القسم الثالث

يوما فهو استحاضة عندهم. وقال الحنفية: أقله ثلاثة أيام. وأكثره عشرة أيام. فما نقص عن الثلاثة أيام فليس حيضا. وما زاد عن عشرة فهو استحاضة. وإذا كان لها عادة فاستمر معها الدم حتى جاوز العشرة. فما زاد عن عادتها فهو استحاضة أما إذا لم يتجاوز العشرة فكله حيض. وعند المالكية تفصيلات يرجع إليها في كتبهم. الفقرة الثالثة في المقطع الاول من القسم الثالث: وتمتد هذه الفقرة من الآية (226) إلى نهاية الآية (242) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 226 الى 242] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

كلمة في هذه الفقرة وسياقها

كلمة في هذه الفقرة وسياقها: من الكلام عن الأيمان إلى الحديث عن الإيلاء: وهو يمين في قضية خاصة هو: أن يحلف الإنسان ألا يقرب زوجته أربعة أشهر، أو أكثر على خلاف في ذلك، إلى الكلام عن الطلاق، إلى الكلام عن الوفاة وهما الصورتان الرئيسيتان لتصفية الحياة الزوجية ثم العودة إلى ذكر صور في الطلاق، ثم كلام عن الصلاة، ثم عودة إلى حديث الوفاة والطلاق. ثم تأتي خاتمة الفقرة. وبهذه الفقرة، والفقرة السابقة يستكمل الحديث عما له علاقة في شئون الأسرة. نكاح، فحياة زوجية، فاستقرار، ففراق بطلاق أو موت. فإن كان طلاق فكيف تصفى الحياة الزوجية؟ .. وإن كان موت فما العمل؟ .. وهناك صور يتم فيها الطلاق قبل الدخول أصلا .. فما العمل؟. وفي هذا السياق يأتي أمر بالصلاة حال الأمن والخوف. مما تستشعر به أن أحكام الإسلام لا تقوم، ولا تقام إلا بصلاة. ثم تختتم الفقرة بعودة إلى قضية الوفاة والطلاق. فتذكير بنعمة الله علينا بالبيان. تبدأ الفقرة بقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... ثم بعد سياق طويل يأتي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... ثم بعد سياق طويل يتأتي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ... فكأن الآيتين معطوفتان على قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ ... مما يشعر أن السياق واحد، وأن الحديث عن الطلاق والوفاة سياقه واحد، وفقرته واحدة. وفيما بين قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ .... وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ.* الأولى يأتي قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ .. ثم بعد سياق طويل يأتي قوله تعالى: وَالْوالِداتُ ... فتصفية الحياة الزوجية لا تقتصر على إنهاء الزواج. وإنما تبين الآيات كيف يكون حال الأولاد الرضع. وفي الفقرة كلام عن الخلع، وعن العودة إلى الزوج الأول، وشروطها وعن زواج المرأة من آخر إذا توفى زوجها، وغير ذلك من المواضيع التي تفصل في أمور الحياة الزوجية وتصفيتها، وغير ذلك من شئون سنراها تفصيلا. فلنبدأ تفسير الفقرة: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ*

الإيلاء

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. هاتان الآيتان تأتيان بعد آيتي الأيمان، وقبل الآيات التي تفصل أحكام الطلاق، وصلتهما بما قبلهما واضحة. فما قبلهما كلام عن الأيمان. وهاهنا حديث عن نوع خاص من الأيمان: وهو حلف الرجل ألا يقرب زوجته مدة ما. والكلام عن هذا النوع من الأيمان يوصل إلى الكلام عن الطلاق الذي ستفصل أحكامه بعد هاتين الآيتين. وهذا كله يأتي ضمن السياق الذي يدعو إلى الدخول في شرائع الإسلام كلها. وعدم اتباع خطوات الشيطان في أي أمر. الإيلاء: الإيلاء: الحلف. فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها؟ فإن كانت أقل، فله أن ينتظر انقضاء المدة، ثم يجامع امرأته. وعليها أن تصبر. وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة. ومن آيتي الأيمان السابقة ندرك أنه يستحب له أن يكفر عن يمينه ويفيء فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر، فهل تقع بمضي الأربعة أشهر تطليقة بائنة؟ أو تطليقة رجعية؟ أو لا يقع طلاق، وللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفئ- أي يجامع- وإما أن يطلق. فيجبره الحاكم على هذا، أو هذا. لئلا يضر بها؟. ثلاثة أقوال للعلماء. ذهب الشافعي إلى الأخير. وعلى هذا كثير من الصحابة، والتابعين. وذهب إلى الأول أبو حنيفة. وعلى هذا كثير من الصحابة، والسلف. وذهب إلى أنه تطليقة رجعية بعض التابعين. وعلى قول الشافعية تكون الطلقة رجعية، سواء طلقها هو، أو طلقها عليه الحاكم. وله رجعتها في العدة. المعنى الحرفي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أي: للذين يحلفون على ترك الجماع من نسائهم. تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: ترقب أربعة أشهر. فَإِنْ فاؤُ: للعلماء قولان فيها، الأول قول الشافعية: فإن رجعوا إلى ما كانوا عليه من الجماع بعد الأربعة أشهر كان بها. وإلا فإن عليه أن يطلق، أو يطلق عليه الحاكم. والقول الثاني، قول الحنفية: فإن رجعوا إلى الوطء خلال الأربعة أشهر، ولم يصروا على ترك الوطء كان بها، وإلا فإذا استمروا على الترك أربعة أشهر فإن يمينهم يعتبر طلاقا بائنا. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ:

فوائد

قال الحنفية: بأن استمروا على ترك الوطء، ولم يفيئوا خلال الأربعة أشهر. وقال الشافعي: بعد مضي الأربعة أشهر فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سميع للإيلاء، عليم بالنيات. وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة. وفي مجيء آيتي اليمين قبل هذا، عظة لمن يؤلي من زوجته أن يراجع نفسه .. فوائد: 1 - في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا. فنزل لتسع وعشرين، وقال: «الشهر تسع وعشرون» وهذه عملية تأديبية منه عليه الصلاة والسلام اقتصر فيها على ما يحتاجه التأديب. 2 - في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ. دليل على أن الإيلاء يختص بالزوجات، دون الإماء، كما هو مذهب الجمهور فإذا آلى من أمته فلا يترتب عليه أن تطالبه إذا انقضت مدة ما بحقوق وإذا فاء فعليه الكفارة. 3 - على الحالف المولي إذا فاء خلال الأربعة أشهر، الكفارة. وإذا فاء بعد الأربعة أشهر على مذهب الشافعية، التكفير، لعموم وجوب التكفير على كل حالف. وهو مذهب الجمهور. وهذا إذا كان يمينه على التأبيد. أما إذا كان مؤقتا بالأربعة أشهر فلا كفارة عليه. 4 - جعل الأربعة أشهر هي الحد في الإيلاء، دليل على أن الأربعة أشهر هي الحد بين الضرار بالمرأة بترك الجماع، وعدمه. وبهذه المناسبة يروي الفقهاء الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه الله فى الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه … وأرقني أن لا خليل ألاعبه فو الله لولا الله أني أراقبه … لحرك من هذا السرير جوانبه فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر، أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك. 5 - فهم الشافعي أن الفاء بقوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ للتعقيب. ومن ثم قال: الطلاق بعد مضي المدة. أما الحنفية فقالوا: إن الفاء للتفصيل، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر. فإن أحمدتكم أقمت عندكم.

ولنعد إلى السياق

ولنعد إلى السياق: توصل هاتان الآيتان إلى مجموعة تبدأ بالآية (228): وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ .... إلى نهاية الآية (233) أي إلى نهاية آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ... وفي هذه المجموعة كلام عن الطلاق. وعدة المطلقة، وغير ذلك. وكل ذلك يأتي ضمن السياق الذي يدعو إلى الدخول بشرائع الإسلام عامة. وقد رأينا الصلة المباشرة بين هذه المجموعة، وما قبلها مباشرة. ولنبدأ بشرح المجموعة وتفسيرها شيئا فشيئا: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. المعنى العام: هذا أمر من الله سبحانه للمطلقات المدخول بهن من ذوي الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. أي تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج إن شاءت. وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم، الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم قرءين لأنها على النصف من الحرة. والقرء لا يتبعض، فكمل لها قرءان. ولما كانت الثلاثة قروء متعلقة بالحيض، ولا يعرف إلا من جهتها، ولما كانت من جملة الحكم في القروء، استبراء الرحم من الحمل، ولا يعرف إلا من جهتها فقد حرم الله على المرأة أن تكتم الحق في أمر الحيض والحبل استعجالا منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد. فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان: ثم بين الله عزّ وجل أن زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا كان مرادا- بردها- الإصلاح والخير. وهذا في الرجعيات. وأما المطلقات البوائن فسيأتي حكمهن بعد. ثم بين الله عزّ وجل أن للنساء من الحق على الرجال مثل ما للرجال عليهن. فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. ولكن للرجال عليهن درجة زائدة في الفضيلة في الخلق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح. ويفسر هذه الدرجة قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. ثم بين الله أنه عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره، وشرعه، وقدره.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ: المراد بالمطلقات هنا المدخول بهن أما غير المدخول بهن فسيأتي حكمهن في سورة الأحزاب. والمراد بهن كذلك ذوات الأقراء على الخلاف في القرء. هل هو الطهر، أو الحيض؟. أما غير ذوات الأقراء ممن لا يحضن، فسيأتي حكمهن في سورة الطلاق. وقوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ. خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: ولتتربص المطلقات. وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله. فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه وجودا. وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص الذي هو الترقب، وزيادة بعث. لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعنها، ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص. والقروء جمع قرء. وهو من ألفاظ الأضداد. يستعمل للحيض، ويستعمل للطهر وقد اختلف السلف والخلف، والأئمة في المراد بالأقراء على قولين. أحدهما أن المراد بها الأطهار. وهو مذهب مالك، والشافعي وكثير. والقول الثاني أن المراد بالأقراء، الحيض. وهو مذهب أبي حنيفة وأصح الروايتين عن الإمام أحمد، ومذهب كثيرين غيرهم. ويؤيد هذا ما رواه أبو داود، والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك». وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد، أو دم الحيض وذلك إذا أرادت فراق زوجها، فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع. ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها. أو كتمت حيضها فقالت وهي حائض قد طهرت، استعجالا للطلاق. فكل هذا محرم عليهن. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. لأن من آمن بالله واليوم الآخر، لا يجترئ على ارتكاب الحرام. ففي هذا تهديد لهن على خلاف الحق. ودل هذا، وما قبله على أن المرجع في هذا إليهن. لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهنّ. ويتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك. فرد الأمر إليهن. وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ أي: وأزواجهن أولى برجعتهن في مدة ذلك التربص. أي في العدة. دل هذا على أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، حيث سماه زوجا بعد الطلاق. ودل على أن الرجل إن أراد الرجعة، وأبتها المرأة، وجب إيثار قوله على قولها. وكان هو أحق بها. ولا يفهم من النص أن لها حقا في الرجعة. فالرجعة حق خالص للرجل. إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً: أي إن أراد الأزواج بالرجعة إصلاحا لما بينهم، وبينهن، وإحسانا إليهن، ولم يريدوا مضارتهن. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: ويجب لهن من الحق على

فوائد

الرجال من المهر، والنفقة، وحسن العشرة، وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي بالوجه الذي لا ينكر في الشرع، وعادات الناس. فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له. والمراد بالمماثلة، مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة. لا في جنس الفعل. فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه، أو طبخت له، أن يفعل نحو ذلك. ولكن يقابله بما يليق بالرجال. قال ابن عباس: (إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي المرأة. لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ: زيادة في الحق، وزيادة في الفضيلة، بسبب القوامة عليها، وبسبب الإنفاق، وملك النكاح، وإن اشتركا في اللذة، والاستمتاع وَاللَّهُ عَزِيزٌ: لا يعترض عليه في أموره حَكِيمٌ: لا يأمر إلا بما هو صواب، وحسن. فوائد: 1 - الطلاق ثلاثة أنواع: حسن، وأحسن، وبدعي. فالأحسن أن يطلقها طلقة رجعية فقط في طهر لم يجامعها فيه ثم يتركها حتى تمضي عدتها، وهو أحسن بالنسبة لما بعده، وأما الحسن فهو أن يطلقها ثلاث تطليقات في ثلاثة أطهار لا وطء فيها، أو في ثلاثة أشهر فيمن لا تحيض، كل طلقة في شهر ولو رافقه وطء، لأن كراهة الطلاق مع الوطء فيمن تحيض لتوهم الحبل، وهو مفقود هنا عند الآيسة أو الصغيرة أو الحامل. وأما البدعي الذي يأثم فيه صاحبها فهو ما خالف الحسن والأحسن كأن يطلقها ثلاثا أو اثنتين دفعة واحدة، أو يطلقها في طهر جامعها فيه، أو طلقها وهي حائض، فتجب رجعتها لو طلقها وهي حائض، رفعا للمعصية. فإذا طهرت طلقها. 2 - الطلاق قسمان: رجعي وبائن. والبائن قسمان: بينونة كبرى وبينونة صغرى. فالطلاق الرجعي: تبقى فيه المرأة على عصمة الرجل حتى تنقضي عدتها فيستطيع أن يراجعها في العدة بلا عقد جديد، فالطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، وللزوج مراجعتها في العدة بغير رضاها. وتثبت الرجعة بقوله: راجعتك ورجعتك ورددتك وأمسكتك، وبكل فعل تثبت فيه حرمة المصاهرة من الجانبين، ويستحب أن يشهد على الرجعة. وأما البينونة الصغرى بحيث لا تحل له إلا بعقد جديد، فذلك كأن يطلقها قبل أن يدخل بها، أو يطلقها طلاقا رجعيا حتى انقضت عدتها أو ما استعملت فيه ألفاظ الكنايات بنية الطلاق كقوله لزوجته: هي علي حرام.

وأما البينونة الكبرى: فهي التي لا تحل له إلا بعد أن تتزوج زوجا غيره ثم يطلقها فتنقضي عدتها ثم يعقد عليها عقدا جديدا، وذلك كأن طلقها ثلاثا. وسيأتي في هذا التفسير مزيد بيان في شأن الطلاق وكذلك في قسم السنة من هذه السلسلة وأما الصور الكثيرة لقضايا الطلاق فمحلها في كتب الفقه. 3 - رأينا أن القرء هو الطهر على مذهب الشافعية. فإذا طلقها زوجها في طهر، فهل يعتبر هذا الطهر من الثلاثة أطهار عنده؟. الجواب: نعم. وعلى هذا فمتى دخلت في الحيضة الثالثة، تبين من زوجها عنده. قال ابن كثير: (وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها، اثنان وثلاثون يوما، ولحظتان). وهذا على القول بأن المراد بالقرء، الطهر. ورأينا أن القرء هو الحيض على مذهب الحنفية. فإذا طلقها زوجها وهي حائض، فهل يعتد بهذه الحيضة من الأقراء عندهم؟ الجواب: لا. فلا بد من ثلاث حيضات كاملات حتى تطهر. وعلى هذا القول، فأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة. وعلى القول بأن المراد بالقرء الحيض، فهل تبين بمجرد الطهر؟ أو حتى تطهر، ويمضي وقت تستطيع أن تغتسل فيه؟ الجواب: إن وقت الاغتسال متمم للطهر. فلو حدث أنه قد جاءها زوجها لحظة طهرها، وقبل أن يمر وقت تستطيع أن تغتسل فيه، فإنها لا زالت زوجته. ويستطيع مراجعتها. عن علقمة قال: (كنا عند عمر رضي الله عنه. فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة، أو اثنتين، فجاءني وقد نزعت ثيابي، وأغلقت بابي- (أي لتغتسل) - فقال عمر لعبد الله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال وأنا أرى ذلك). 4 - عند قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: نقل ابن كثير حديثين يذكران بعض أوجه التقابل في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء هما: أ- في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: «فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن رزقهن، وكسوتهن بالمعروف».

المعنى العام

ب- وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا؟. قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». [سورة البقرة (2): الآيات 229 الى 232] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) المعنى العام: الآية الأولى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ .. : رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة. فلما كان

هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاثة طلقات. وأباح الرجعة في المرة والثنتين. وأبانها بالكلية في الثالثة. وبين تعالى في الآية أنه لا يحل للأزواج أن يضاجروهن، ويضيقوا عليهن ليفتدين منهم بما أعطوهن من الأصدقة، أو ببعضه. ثم بين فيها أنه إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل، وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها. ولا حرج عليها في بذله له. ولا حرج عليه في قبول ذلك منها. ثم بين الله عزّ وجل أن هذه الشرائع التي شرعها لنا هي حدوده، فلا يصح تجاوزها ومن تعداها فإنه هو الظالم. والظالم عند الله له ما له من العذاب. ثم بين الله عزّ وجل في الآية الثانية أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره. أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح. فلو وطئها واطئ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج. وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول. فإذا طلقها الزوج الثاني بعد الدخول بها فإنها تحل لزوجها الأول بعد انقضاء العدة. فإذا شاءا أن يعودا إلى الحياة الزوجية فلهما ذلك بعقد جديد. ثم بين الله عزّ وجل في الآية، أن شرائعه، وحدوده بينها لقوم يتصفون بالعلم. أما الجاهليون، فإنهم جهلة. لا يعرفون حراما، ولا حلالا. ثم بين تعالى في الآية الثالثة للرجال أنه إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا، له فيه رجعتها. فإما أن يمسكها. أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بالمعروف وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف. أو يسرحها. أي يتركها حتى تنقضي عدتها. ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن. من غير شقاق ولا مخاصمة، ولا تقابح. ثم نهى الله عزّ وجل عن الإمساك بقصد الإضرار. وذلك أن الرجل كان يطلق المرأة. فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، فتقعد فإذا شارفت على انقضاء العدة، طلق، لتطول عليها العدة. ثم نهى الله عزّ وجل عن التلاعب، واللعب بآيات الله بأن لا تؤخذ آيات الله وأحكامه بمنتهى الجد. ثم أمرنا تعالى أن نتذكر نعمته علينا بإرسال رسوله بالهدى والبينات وإنزاله الكتاب، والسنة يأمرنا فيهما، وينهانا، ويتوعدنا على ارتكاب المحارم. ثم أمرنا بالتقوى فيما نأتي، وفيما نذر. ثم أمرنا أن نعلم أن علم الله محيط بكل شئ. فلا يخفى عليه شئ من أمورنا السرية، والجهرية. وسيحاسبنا على ذلك. ثم يبين الله عزّ وجل في الآية الرابعة حكم الرجل يطلق امرأته طلقة، أو طلقتين. فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها. وتريد المرأة ذلك، فيمنعهم أولياؤها من ذلك. فنهى الله أن يمنعوها. ثم بين

المعنى الحرفي للآيات

الله عزّ وجل فيها، أن هذا الأمر الذي نهاهم عنه. من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن، إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به، ويتعظ به، وينفعل له الذي يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله، وعذابه في الدار الآخرة، وما فيها من الجزاء. ثم بين تعالى أن اتباع شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك أزكى للأنفس، وأطهر للقلوب. ثم بين الله تعالى أنه يعلم من المصالح فيما يأمر به، وينهى عنه. ونحن لا نعلم الخير فيما نأتي وما نذر، إلا بتعليم الله إيانا. المعنى الحرفي للآيات: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ: روى الإمام أحمد: قال رجل: يا رسول الله: أرأيت قول الله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟. قال: «التسريح بالإحسان». والطلاق بمعنى التطليق. كالسلام، بمعنى التسليم، وقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي: التطليق الشرعي، تطليقة بعد تطليقة، على التفريق، دون الجمع والإرسال دفعة واحدة. ولم يرد بالمرتين، التثنية. ولكن التكرير كقوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ. (سورة الملك) أي كرة بعد كرة. وهو دليل على أن الجمع بين الطلقتين والثلاث في طهر واحد بدعة لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق فإنه وإن كان ظاهر النص الخبر، فمعناه الأمر. فصار المعنى: الطلاق مرة، فمرة. ثم إما أن يراجعها، ويمسكها بمعروف. وإما أن يطلقها الثالثة. فإذا طلقها الثالثة، بانت منه بينونة كبرى. فلا تحل له كما سنرى إلا بعد أن تتزوج من غيره، ويدخل بها، ثم يطلقها، وتنقضي عدتها. سبب النزول: في الأثر الصحيح: «كان الرجل أحق برجعة امرأته، وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة. وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك، ولا أفارقك، قالت: وكيف ذلك؟. قال: أطلقك. فإذا دنا أجلك، راجعتك. ثم أطلقك. فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عزّ وجل: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق. ومن لم يكن طلق». رواه عبد بن حميد في تفسيره، والترمذي، والحاكم، وابن مردويه. قال ابن عباس: (إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في ذلك- أي في الثالثة- فإما أن يمسكها بمعروف. فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان. فلا يظلمها من حقها

سبب النزول

شيئا). وقد مر معنا من قبل أحسن الطلاق، والطلاق الحسن، والطلاق البدعي. ومر معنا الطلاق الرجعي، والبائن بينونة صغرى، وكبرى فلا نعيده. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي: ولا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا مما أعطيتموهن من المهور شيئا إلا في حالة واحدة: وهي أن يعلم الزوجان عدم استطاعتهما إقامة حدود الله فيهما يلزمهما من واجب الزوجية بسبب من الزوجة. فعندئذ رخص الله لها أن تفتدي نفسها بدل ما أوتيت من مهر مقابل أن يخلعها. ورخص للرجل أن يأخذ. والضمير بقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعود إلى الجماعة المسلمة المتمثلة بقضاتها، وحكامها، وأهل الرأي فيها. ودل قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ على أن طلب المرأة الخلع من غير موجب حرام عليها. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة». وقد احتج كثير من الأئمة بقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ على أن الخلع لم يشرع إلا في هذه الحالة. حتى قال الأوزاعي ومالك: لو أخذ منها شيئا، وهو مضار لها، وجب رده إليها. وكان الطلاق رجعيا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق، وعند الاتفاق، بطريق الأولى والأحرى. وهذا قول جميع أصحابه قاطبة. سبب النزول: ذكر ابن جرير أن هذا النص نزل في شأن ثابت بن قيس بن شماس، وامرأته. وهو أول خلع في الإسلام. ولنذكر روايتين عن هذه الحادثة الواردة بأسانيد كثيرة. عن ابن عباس (أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين، ولا خلق. ولكني أكره الكفر في الإسلام. لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «تردين عليه حديقته؟.» قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بستانه، ولا يزداد). رواه ابن ماجه بإسناد جيد مستقيم. وروى ابن جرير عن عكرمة، عن ابن عباس: (إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي. أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: لا يجمع رأسي ورأسه شئ أبدا. إني

فوائد

رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة. فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها. فقال زوجها: يا رسول الله! إني أعطيتها أفضل مالي. حديقة لي. فإن ردت علي حديقتي. قال: «ما تقولين؟». قالت: نعم. وإن شاء زدته. قال: ففرق بينهما). تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها: الإشارة في تِلْكَ إلى ما حد الله من أحكام سابقة في النكاح، واليمين، والإيلاء، والطلاق. ومعنى فلا تعتدوها. أي: لا تجاوزوها بالمخالفة. أي: قفوا عندها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ: أي يتجاوزها بعدم الوقوف عندها فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: الذين يظلمون أنفسهم فيضرونها في الدنيا والآخرة. فوائد: 1 - من حوادث الخلع في زمن عمر ما رواه ابن جرير «أن عمر أتي بامرأة ناشز. فأمر بها إلى بيت كثير الزبل (أي حبسها به) ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟. فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها» وفي رواية «فحبسها فيه ثلاثة أيام» ومن حوادث الخلع زمن عثمان ما حدثت به الربيع بنت معوذ قالت: «كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني. قالت: فكانت مني زلة يوما فقلت له: أختلع منك بكل شئ أملكه؟. قال: نعم، قالت: ففعلت. قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان، فأجاز الخلع. وأمره أن يأخذ عقاص رأسي، فما دونه» أو قالت: «ما دون عقاص رأسي» 2 - هل يجوز في الخلع أن يأخذ الرجل أكثر مما أعطاها؟ قال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الإضرار من قبلها، جاز أن يأخذ منها ما أعطاها. ولا يجوز الزيادة عليه. فإن ازداد جاز في القضاء. وإن كان الإضرار من جهته، لم يجز أن يأخذ منها شيئا. فإن أخذ جاز في القضاء. وقال الإمام أحمد: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال الأوزاعي: القضاة يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها. ومذهب مالك، والشافعي أنه يجوز له أن يأخذ كل ما يتفقان عليه من كثير، أو قليل. ولو كان ما بيدها. حتى لا يترك لها سوى عقاص شعرها.

[سورة البقرة (2): آية 230]

3 - هل يعتبر الخلع طلاقا؟. قال الحنفية: إن الخلع تطليقة بائنة. وهو مذهب مالك، والشافعي في الجديد. ومذهب أحمد والشافعي في القديم: أن الخلع فسخ، وليس بطلاق. وعلى هذا، فمن طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، يجوز له أن يتزوجها. 4 - وليس للخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة. واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة. 5 - روى النسائي في سننه عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا. فقام غضبان، ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم». حتى قام رجل فقال: يا رسول الله: ألا أقتله؟، قال ابن كثير فيه انقطاع. ولنعد إلى الآيات: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ: أي فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين، فلا تحل له من بعد التطليقة الثالثة حتى تتزوج غيره. والحكمة في ذلك، أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصا لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع من ارتكابه. ولا بد في هذا الزواج من أن يجامعها الزوج الثاني. إن هذه الإصابة شرطت بحديث العسيلة الذي سنذكره بعد قليل إن شاء الله. وقد استدل الحنفية على مذهبهم بعدم اشتراط الولي في نكاح الكبيرة بإسناد النكاح للمرأة بهذا النص حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الوطء فلا إثم عليهما أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه الأول بالزواج متى انقضت عدتها من الثاني إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل إن علما أن يقيما. لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: أي وتلك شرائع الله، وأحكامه. يوضحها لقوم يفهمون ما يبين لهم. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن عائشة، قالت: «دخلت امرأة رفاعة القرظي، وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني البتة. وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني. وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها. وخالد بن سعيد بن

[سورة البقرة (2): آية 231]

العاص بالباب لم يؤذن له. فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك». وكون ذوق العسيلة شرطا لصحة العودة إلى الأول مذكور في أحاديث صحيحة، وحسنة كثيرة. وليس المراد بالعسيلة المني. لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن العسيلة الجماع». 2 - وينبغي أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة، قاصدا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج. فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول. فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه. ومتى صرح بمقصوده في العقد، بطل النكاح عند جمهور الأئمة. روى الإمام أحمد، والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال: (آكل الربا، وموكله، وشاهداه، وكاتبه إذا علموا به. والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصدقة، والمتعدي فيها، والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته، والمحلل، والمحلل له ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة). والأحاديث الصحيحة، والحسنة في ذم المحلل، والمحلل له كثيرة. وقد اشتد بعض الصحابة في هذا الموضوع، حتى إنهم لم يرتبوا على زواج المحلل أي أثر. وإن كان بدون تآمر بين الزوج الأول والمحلل. حتى إنهم رووا عن عثمان أنه فرق بين المحلل والزوجة. والفتوى في هذا الموضوع على مذهب الحنفية أنه إذا لم يشترط التحليل في العقد ودخل بها المحلل ثم طلقها فانقضت عدتها حلت لزوجها الأول بعقد جديد. 3 - اختلف الأئمة- رحمهم الله- فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة، أو طلقتين، وتركها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر. فدخل بها، ثم طلقها. فانقضت عدتها. ثم تزوجها الأول. هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق. فإن عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه رحمهم الله. وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: أي إذا طلقتم النساء طلاقا رجعيا، فبلغن آخر عدتهن، وشارفن منتهاها، إذ الأجل يقع على المدة كلها، وعلى آخرها. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ:

فائدة

أي: إما أن تراجعوهن من غير رغبة ضرار بالمراجعة، أو تخلوهن حتى تنقضي عدتهن. فيبن من غير ضرار. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا: أي ولا تمسكوهن مضارين بأن تراجعوهن لا عن حاجة، ولكن لتطولوا العدة عليهن لتظلموهن، أو لتلجئوهن إلى الافتداء. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ: أي ومن يمسكهن ضرارا فقد ظلم نفسه بتعريضها لعقاب الله. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً: أي جدوا بالأخذ بها، والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها. وإلا فقد اتخذتموها هزوا. يقال لمن لم يجد في الأمر، إنما أنت لاعب، وهازئ. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: بالإسلام، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ أي: اذكروا ما أنزل الله عليكم من القرآن والسنة يذكركم به، ويخوفكم. وتذكر ذلك إنما يكون بالشكر، وبالقيام بالحق. وَاتَّقُوا اللَّهَ: فيما امتحنكم به. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: من ذكركم، وتقواكم، واتعاظكم، وغير ذلك. وهو أبلغ وعد، ووعيد. فائدة: قال مسروق في قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً: (هو الذي يطلق في غير كنهه. ويضار امرأته بطلاقها، وارتجاعها لتطول عليها العدة). وقد فهم مسروق هذا من السياق. وقال الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع، ومقاتل في تفسيرها: (هو الرجل يطلق ويقول كنت لاعبا، أو يعتق، أو ينكح ويقول: كنت لاعبا. فأنزل الله: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فألزم الله بذلك). وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد. النكاح، والطلاق، والرجعة». قال الترمذي: حسن غريب. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: أي وإذا طلقتم النساء فانقضت عدتهن وإذا سأل سائل: لماذا فسرنا قوله تعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ في الآية السابقة بمقاربة انتهاء العدة. وهاهنا بانقضاء العدة؟. نقول: دل السياق على افتراق البلوغين. فههنا أعقب النص النكاح. وهذا يكون بعد العدة. وهناك أعقب النص الرجعة. وهذا يكون في العدة. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ: العضل: هو المنع، والتضييق. والخطاب للأولياء الذين لا يتركون مولياتهم يتزوجن من أزواجهن الأول. وسموا أزواجا باعتبار ما كان. فصار المعنى: فلا تمنعوهن أن يتزوجن أزواجهن الأول اللائي يرغبن فيهم، ويصلحون لهن إذا تراضى

فوائد

الخطاب والنساء، ضمن حدود المعروف، والمعروف هنا هو ما يحسن في الدين. والمروءة من شرائط ذلك. ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: لأن الموعظة تنجح فيهم فقط ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي: ترك العضل والضرار أفضل، وأطيب، وأزكى لأنفسكم، وأطهر لها من أدناس الآثام. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ومن ثم فهو الذي يحكم، ويأمر، وينهى، ويشرع. وليس لكم شئ من ذلك فما أجهل من نازع الله حق التشريع، وحق الأمر والنهي، وحق الحكم. فوائد: 1 - استشهد كل من الشافعية والحنفية بهذه الآية على مذهبيهما المتعارضين في موضوع جواز تزويج البالغة نفسها بدون ولي، كما هو مذهب الحنفية. أو عدم جواز ذلك إلا بولي كما هو مذهب الشافعية. استشهد الحنفية بقوله تعالى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ. فقالوا: أسند النكاح إليها. فدل على انعقاد النكاح بعبارة النساء. وقال الشافعية: نزلت هذه الآية في الرجل، يطلق امرأته طلقة، أو طلقتين. فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها، وأن يراجعها. وتريد المرأة ذلك. فيمنعها أولياؤها من ذلك. فنهى الله أن يمنعوها. فدل ذلك عندهم على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها. وأنه لا بد في النكاح من ولي. وفي الحديث: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها. فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» وفي الأثر الآخر: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل». وبسط هذا الموضوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب (الأساس في السنة وفقهها). 2 - نزلت هذه الآية في معقل بن يسار المزني وأخته. وذلك أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة، لم يراجعها حتى انقضت عدتها. فهويها، وهويته. ثم خطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع ابن لكع. أكرمتك بها، وزوجتكها فطلقتها. والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ إلى قوله وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة. ثم دعاه فقال: «أزوجك، وأكرمك». رواه الترمذي، وصححه. وزاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.

المعنى العام

3 - فسر فقهاء الحنفية المعروف في قوله تعالى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ: أنه مهر المثل، والكفء. لأنه عند عدم كفاءة الرجل فللأولياء أن يعترضوا. وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. المعنى العام: في هذه الآية إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان. ثم بين عزّ وجل على والد الطفل نفقة الوالدات، وكسوتهن بالمعروف. أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، أو توسطه، أو إقتاره. لأن القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية التكليف بقدر الوسع. ثم بين الله عزّ وجل أنه لا يجوز للمرأة أن تدفع الولد عنها، لتضر أباه بتربيته. كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار بها. وكما أن عدم الضرار واجب على الوالد، فكذلك الوارث، يجب عليه عدم الضرار بزوجة المتوفى. ثم يبين الله عزّ وجل أنه إذا اتفق والدا الطفل على فطامه، قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك. ثم بين الله عزّ وجل أنه إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها، أو لعذر له، فلا جناح عليها في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن. واسترضع لولده غيرها ثم أمرنا الله عزّ وجل أن نتقيه في جميع أحوالنا، وأن نعلم أنه لا يخفى عليه شئ من أحوالنا وأقوالنا. المعنى الحرفي: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ: هذا خبر في معنى الأمر. أي وليرضع الوالدات أولادهن حولين كاملين. وهذا الأمر على وجه الندب، أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه. أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزا عن

الاستئجار. ومعنى كاملين: تامين. ويمكن أن يراد بالوالدات هنا، الوالدات المطلقات. وإيجاب النفقة، والكسوة، لأجل الرضاع. لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ: هذا بيان لمن توجه إليه الحكم. أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة. قال النسفي: والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم. وعليه أن يتخذ له ظئرا، إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه. وهي مندوبة إلى ذلك. ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة، أو معتدة. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ: أي وعلى الذي يولد له وهو الوالد، رزقهن وكسوتهن بلا إسراف ولا تقتير. وتفسيره ما يعقبه. وهو لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه. ولا يتضاران. وإنما قيل على المولود له، دون الوالد، ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن. فكان عليهم أن يرزقوهن، ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظآر. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها التكليف: إلزام ما يؤثر فيه الكلفة. والوسع هو، الوجد، أو قدر الإمكان. أي لا يلزم الله نفسا إلا بقدر وجدها وإمكانها. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها لا: هنا، ناهية. أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها. وهو أن تعنف به، وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئرا. وما أشبه ذلك. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ: أي: ولا يضار مولود له، امرأته بسبب ولده. بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذه منها، وهي تريد إرضاعه. ويمكن أن يفهم النص لا تُضَارَّ .. فهما آخر، إذا فهمنا لا تضار، بمعنى تضر. فيكون المعنى على هذا: لا تضر والدة ولدها. فلا تسئ غذاءه، وتعهده. ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضر الوالد به، بأن ينتزعه من يدها، أو يقصر في حقها، فتقصر هي في حق الولد. وإنما قيل: بولدها، وبولده: لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة، أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه، وكذلك الوالد. وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أي: وعلى وارث الصبي عند عدم وجود الأب، مثل الذي كان على أبيه في حياته، من الرزق والكسوة. ووارث الصبي في الأصل هو كل من يرثه لو مات. ولذلك كان مذهب ابن أبي ليلى أن نفقة الصبي على كل من يرثه. وعند الحنفية الرحم المحرم أولى به، فعليه النفقة. وعند الشافعية: النفقة على من بينه وبين الصبي ولاد إذ لا نفقة إلا بهذا عنده. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما: أي: فإن أراد الأبوان فطاما صادرا عن تراض بينهما

فوائد

وتشاور بينهما فلا إثم عليهما في ذلك، زادا على الحولين، أو نقصا. وهذه توسعة بعد التحديد، والتشاور استخراج الرأي. وذكر التشاور في الآية، ليكون التراضي عن تفكر. فلا يضر الرضيع. واعتبر اتفاقهما. لأن للأب التبعة والولاية. وللأم الشفقة، والعناية. ويؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي. ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر. وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره. وهو من رحمة الله بعباده. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ: أي وإن أردتم حين عجز الأم، أو إبائها أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فلا إثم عليكم إذا سلمتم هذه المراضع ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة بالمعروف الذي هو هنا طيب النفس، والسرور، وتسليم الأجرة للمرضع ابتداء مندوب، وليس شرط جواز. أو إذا سلمتم الأمهات أجورهن على ما مضى بالمعروف. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: فلا تخفى عليه أعمالكم، وهو مجازيكم بها. وهاهنا أمران. أمر بالتقوى وأمر بمعرفة الله. وهما متلازمان. فوائد: 1 - جاءت هذه الآية في سياق آيات الطلاق. فإذا فهمناها من خلال السياق. فإن الآية تكون حديثا عن موضوع لا بد من حله، وهو موضوع الولد من حيث رضاعه، وتربيته: إن الأم المطلقة من شأنها أن ترضع ولدها حولين كاملين. وفي مقابل ذلك لها النفقة. وهذه النفقة تجب لها إذا كانت زوجة، أو معتدة بحكم الزوجية. أما بعد انفصام الزوجية، فبحكم قيامها على تربية الطفل، وانحباسها من أجل مصلحته. والشورى، والرغبة الصالحة في الإحسان هما الأصل في العلاقة من أجل الطفل. وإذا مات الأب، تنتقل النفقة على من تجب نفقة الطفل عليه. وإذا حدث ما يمنع الأم من الاستمرار في الرضاع، يسلم الطفل إلى مرضع أخرى. وفي مقابل ذلك، فعلى الأب أجرة الإرضاع للمرضع الجديد. 2 - رأينا أن التشاور بين الأب والأم في شأن الطفل واجب لتحصيل ما هو مصلحة للطفل. ونفهم من ذلك، أدبا عاما، هو أن كل ما فيه مصلحة لأكثر من إنسان، ينبغي أن تقام فيه الشورى. وتجتمع فيه الآراء. فكيف إذا كان ذلك مصلحة الإسلام، والمسلمين ومن ثم فإننا نعتبر هذه الآية أصلا في موضوع كثير من الأمور في

المعنى العام

سير الحركة الإسلامية. 3 - رأينا أن الرضاعة الكاملة سنتان. وقد رأى علقمة امرأة ترضع بعد الحولين. فقال: لا ترضعيه. وكأنه يرى أن ما زاد على السنتين ربما أضر بالولد، إما بنفسه، أو بعقله، أو بجسمه هذا مع كون الرضاع بعد السنتين مباحا. والاتجاه الغالب عند الفقهاء أن الرضاعة بعد السنتين لا يترتب عليها حكم من ناحية الحل والحرمة في شأن الزواج. 4 - قال فقهاء الحنفية في شأن الحضانة والنفقة: «ونفقة الأولاد الصغار على الأب إذا كانوا فقراء، وليس على الأم إرضاع الصبي إلا إذا تعينت، فيجب عليها. ويستأجر الأب من ترضعه عندها فإن استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز، أما بعد انقضاء العدة فهي أولى من الأجنبية، إلا أن تطلب زيادة أجر». «وإذا اختصم الزوجان في الولد قبل الفرقة أو بعدها فالأم أحق بحضانته ثم أمها ... ومن لها الحضانة إذا تزوجت بأجنبي سقط حقها فإن فارقته عاد حقها .. ويكون الغلام عندهن حتى يستغني عن الخدمة وتكون الجارية عند الأم والجدة حتى تحيض .. ». وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. المعنى العام: في الآية أمر الله النساء اللائي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر، وعشرة أيام. وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن، وغير المدخول بهن بالإجماع. ومستند الإجماع هذه الآية، وحديث ابن مسعود الذي سنذكره بعد. ولم يخرج عن هذا الحكم إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل. فقد اختلف في عدتها. هل عدتها وضع حملها، لآية سورة الطلاق؟. أو أبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشرا؟.

المعنى الحرفي

وسنرى ذلك إن شاء الله. ويستفاد من الآية وجوب الإحداد على الزوجة المتوفى عنها زوجها مدة عدتها كما سنرى. فإذا انتهت عدتها، فلا عليها أن تتزين، وتتصنع، وتتعرض للزواج الحلال الطيب. وفي الآية الثانية يبيح الله لنا التعريض بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. كما يبيح لنا إضمار الخطبة لهن في أنفسنا دون الاتفاق السري، ومن باب أولى الجهري على التزوج بعد العدة. وإباحة الله لنا هذا لعلمه جل جلاله بأنفسنا، وتطلعاتها. كما حرم الله في الآية عقد النكاح علنا حتى تنقضي العدة. وختم الله الآية بأن توعدنا على ما يقع في ضمائرنا من أمور النساء. وأرشدنا إلى الخير دون الشر. مع عدم اليأس من رحمته، والتقنيط من عائدته جل جلاله. المعنى الحرفي: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي تستوفى أرواحهم. وَيَذَرُونَ أَزْواجاً أي: ويتركون زوجات. يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أي: وزوجات الذين يتوفون منكم يعتددن بعدهم بأنفسهن أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: فإذا انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ: أيتها الأمة أو أيتها الجماعة المتمثلة بأئمتها، وقضاتها. يفهم من ذلك أن الأمة بمجموعها مكلفة بإقامة أحكام الله، ومن مثل هذا النص عرف موضوع فرض الكفاية وفرض العين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: من التعرض للخطاب بالوجه الذي لا ينكره الشرع. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ: يعلم بواطن الأمور كما يعلم ظاهرها. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ: الخطبة طلب النكاح. والتعريض: أن تقول: إنك لجميلة، أو صالحة، من غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح. فلا يقول: إني أريد أن أتزوجك. والفرق بين الكناية والتعريض: أن الكناية أن تذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له. والتعريض: أن تذكر شيئا تدل به على شئ لم تذكره. فكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي: لا إثم عليكم فيما سترتم، وأضمرتم في قلوبكم. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي: علم الله أنكم ستذكرونهن لا محالة. ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن. ولكن لا تواعدوهن سرا. أي: لا تأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيرك. لا تقل لها إني عاشق،

فوائد

فعاهديني أن لا تتزوجي غيري. لا تحدثها عن الجماع، وقدرتك عليه لتثير شهوتها. فتأخذ منها وعدا. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: لا تواعدوهن مواعدة قط، إلا معروفة غير منكرة، كأن يقول لوليها: لا تسبقني بها. يعني: لا تزوجها حتى تعلمني. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ: العزم هو القطع. وذكر العزم هنا مبالغة في النهي عن عقد النكاح. لأن العزم على الفعل يتقدمه. فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. والمراد بالكتاب هنا: العدة. وسميت العدة كتابا، لأنها فرضت بالكتاب. فصار المعنى: ولا تعزموا عقدة النكاح حتى تنقضي عدتها، بأن يبلغ التربص المكتوب عليها أجله. أي: غايته وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من: العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ: أن تعزموا على ما حرم عليكم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ: لا يعاجل في العقوبة، يمهل، ولا يهمل، ويتوب على من تاب، ويعفو عن كثير. فوائد: 1 - التعريض بالخطبة في العدة للمتوفى عنها زوجها، وللمطلقة البائنة أما المطلقة طلاقا رجعيا، فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها أثناء العدة. والدليل على جواز التعريض للمطلقة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمر بن حفص آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وقال لها: «فإذا حللت، فآذنيني». فلما حلت، خطب عليها أسامة ابن زيد مولاه. فزوجها إياه. 2 - من تزوج امرأة في عدتها، فدخل بها، فإنه يفرق بينهما. وهل تحرم عليه أبدا؟. قولان: الجمهور على أنها تحرم عليه على التأبيد. وما هي عقوبتهما في هذه الحالة؟. لكون العقد يورث شبهة. فإنه لا يقام عليها حد الرجم. ولكن تعزر، والتعزير مفوض لرأي القاضي، وكذلك الرجل يعزر ولا يحد ولكن قد يصل التعزير على رأي بعض العلماء إلى القتل. 3 - قلنا: إن الإجماع منعقد على وجوب العدة على من توفي عنها زوجها، سواء كانت مدخولا بها، أو لا. والدليل على أن غير المدخول بها هذا حكمها ما رواه أهل السنن، والإمام أحمد وصححه، والترمذي: (أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج

امرأة فمات عنها ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟. فترددوا إليه مرارا في ذلك. فقال: أقول فيها برأيي. فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. لها الصداق كاملا- وفي لفظ- لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شطط. وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا). 4 - ذكر سعيد بن المسيب وأبو العالية، وغيرهما: أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، هي احتمال اشتمال الرحم على حمل. فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح». فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه. وقال قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشرة؟. قال: فيه ينفخ الروح! .. 5 - كان ابن عباس يرى أن الحامل إذا توفي عنها زوجها أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشرا، للجمع بين الآية التي مرت معنا، وقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. ولكن روى أبو عمرو بن عبد البر: أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وحديث سبيعة مخرج في الصحيحين من غير وجه وهو: «أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حامل. فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته. وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال. فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب. فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك. فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟. فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي. وأمرني بالتزويج إن بدا لي». 6 - الزوجة إذا كانت أمة، وتوفي عنها زوجها، فالجمهور على أن عدتها شهران وخمسة أيام. 7 - أما عدة أم الولد: إذا توفي عنها سيدها فمذهب أحمد في رواية عنه أن عدتها

أربعة أشهر وعشر. وفي رواية أخرى لأحمد وهو مذهب كثير أن عدتها نصف عدة الحرة. وقال أبو حنيفة وغيره: تعتد بثلاث حيض. وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة. وقال الليث: ولو مات، وهي حائض، أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض، فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر، وثلاثة أحب. 8 - قالت زينب بنت أم سلمة في وصف إحداد المرأة الجاهلية: (كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها. ثم تؤتى بدابة حمار، أو شاة، أو طير، فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات). أي من نتنها. والافتضاض مسح الفرج به. والظاهر أن الحيوانات التي تموت من الافتضاض هي ما كانت من نوع الطيور والحيوانات الصغيرة. 9 - الإحداد: هو ترك الزينة من الطيب، ومن لبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب، وحلي، وغير ذلك. وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا. ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا. بل يستحب لها أن تتزين. وهل يجب الإحداد في عدة البائن؟ فيه قولان. في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة، وزينب بنت جحش أم المؤمنين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرا». وفي الصحيحين عن أم سلمة أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟. فقال: «لا»، كل ذلك يقول: لا مرتين أو ثلاثا، ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشرا. وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة». وهذا منع من التكحل الذي هو مظنة الزينة، لا من التداوي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على كافرة، ولا على صغيرة، لعدم التكليف، ولا على أمة مسلمة لنقصها. 10 - رأينا أن الخطاب في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: إنما هو لمجموع الأمة، وقد رأينا أن الضمير في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: يرجع إلى الأمة المسلمة ممثلة بقضاتها وحكامها وأهل الرأي فيها، وسنرى مثل ذلك في القرآن كثيرا وهذا يدل على أن الأمة بمجموعها مكلفة بإقامة

ولنعد إلى السياق

كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومكلفة بإقامة أحكام الله عزّ وجل. فإذا حدث تفلت في هذا فعلى جماعة المسلمين العمل من أجل إرجاع الأمور إلى نصابها، فمن أوائل الشروط لإعطاء تجمع ما صفة جماعة المسلمين أن يعمل من أجل ذلك بطريقه. وإذ كان حسن البنا رحمه الله قد بدأ هذا الطريق وسار فيه وأقام جماعة تتوافر فيها جميع شروط الجماعة فإنه في حدود علمنا تكون جماعته- إن أحسنت- هي أقرب الجماعات الموجودة حاليا لأن تكون جماعة المسلمين. ولنعد إلى السياق: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ* وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. المعنى العام: أباح الله تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها، وقبل الدخول بها. وقبل الفرض لها إن كانت مفوضة. وإذ كان في هذا انكسار لقلبها فقد أمر تعالى بإمتاعها: وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره. وفي الآية الثانية أوجب الله نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول إلا أن تعفو المرأة فلا تأخذ شيئا، أو يعفو الزوج فيدفع المهر كاملا. ثم ندب الله الجميع، رجالا ونساء للعفو. ونهاهم عن نسيان الإحسان، وذكرهم أن الله لا يخفى عليه شئ من أمورهم، وأحوالهم. وسيجزي كل عامل بعمله. المعنى الحرفي: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً: المس: هو الجماع. وفرض الفريضة: تسمية المهر. هذه الآية فيمن طلق امرأته، ولم يكن سمى لها مهرا، ولا جامعها. فإنه لا إثم عليه. ولكن أمره الله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ الموسع: هو الغني الذي له سعة. والمقتر:

[سورة البقرة (2): آية 237]

هو الضيق الحال. والمتعة عند الحنفية: درع وملحفة وخمار. أي جلباب وثوب وخمار، وهي عند الحنفية وجمهور العلماء واجبة. قال النسفي: (ولا تجب المتعة عندنا إلا لهذه. وتستحب لسائر المطلقات). ومعنى قَدَرُهُ في الآية: مقداره الذي يطيقه. مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ: أي تمتيعا بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة. حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي: واجبا على المسلمين، إذ هم المحسنون. وليس ذكر الإحسان هنا علامة على التبرع. إذ دل على وجوب المتعة أكثر من شئ في الآية. ثم بين حكم التي سمي لها مهر في الطلاق قبل المس، قال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي: من قبل أن تجامعوهن. وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي: والحال أنكم قد سميتم لهن مهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي: فعليكم أن تدفعوا لهن نصف المهر. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي: إلا إذا عفون لكم عن حقوقهن. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. فيدفع في هذا الحال المهر كاملا. فصار المعنى: أن الواجب شرعا: هو النصف؛ إلا أن تسقط هي الكل، أو يعطي هو الكل تفضلا. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى: هذا خطاب للجميع. أي: عفو الزوج بإعطاء المهر خير له، وعفو المرأة بإسقاطه كله خير لها، فالعفو أقرب للتقوى تحصيلا، وتحقيقا، وحالا. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي: ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كل عامل بعمله. فوائد: 1 - قال ابن عباس: (متعة الطلاق، أعلاه: الخادم. ودون ذلك: الورق، ودون ذلك الكسوة. وقال: إن كان موسرا، أمتعها بخادم، أو نحو ذلك. وإن كان معسرا: أمتعها بثلاثة أثواب). وقال الشعبي: (أوسط ذلك: درع، وحمار، وملحفة، وجلباب). وكان شريح يمتع بخمسمائة. ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف. وقال الشافعي في الجديد: (لا يجبر الزوج على قدر معلوم، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة. وأحب ذلك أن يكون أقل ما يجزئ في الصلاة). وقال في القديم: (لا أعرف في المتعة قدرا إلا أنني أستحسن ثلاثين درهما كما روي عن ابن عمر). 2 - المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض لها. فإن كان قد دخل

بها، وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة. وإن كان قد فرض لها، وطلقها قبل الدخول: وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع. 3 - رأينا أن المطلقة إذا سمي لها صداق ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمي من الصداق. وهذا أمر مجمع عليه. وعند الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد أن الخلوة بها حكمها حكم الجماع، ولو لم يحدث جماع. فيجب عندهم جميع الصداق إذا خلا بها الزوج، وإن لم يدخل بها. وهو مذهب الشافعي في القديم، وبه حكم الخلفاء الراشدون. ولكن الشافعي ذهب في الجديد إلى مذهب ابن عباس الذي يقول: في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها، ولا يمسها، ثم يطلقها، ليس لها إلا نصف الصداق. قال الشافعي بهذا أقول: وهو ظاهر الكتاب. 4 - أخرج ابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولي عقدة النكاح الزوج» وأخرج عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح؟ فقلت له: هو ولي المرأة. فقال علي: بل هو الزوج. ومن حجج الحنفية على من قال: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي كمالك: أن الولي لا يملك التبرع بحق الصغيرة. فكيف يجوز حمل الآية عليه، وهو لا يملك العفو. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ذكر ابن كثير كلاما أخرجه ابن مردويه عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان عضوض، يعض المؤمن على ما في يديه، وينسى الفضل. وقد قال تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. شرار يبايعون كل مضطر». وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر. فإن كان عندك خير، فعد على أخيك، ولا تزده هلاكا إلى هلاكه. فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه، ولا يحرمه». وذكر ابن كثير كلاما لعون ابن عبد الله. آخره له علاقة بقوله تعالى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. هو: عن أبي هارون قال: (رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي. فكان عون يحدثنا، ولحيته ترش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء. فكنت من أكثرهم هما حين رأيتهم أحسن ثيابا، وأطيب ريحا، وأحسن مركبا. وجالست الفقراء، فاسترحت بهم. وقال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إذا أتاه السائل، وليس عنده شئ فليدع له).

المعنى العام

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ: هاتان الآيتان في شأن الصلاة. وردتا بعد آيات في الطلاق فما الحكمة في ذلك؟. أولا: جاءت هذه الآيات في حيز الأمر بالدخول في الإسلام كله. وإذا سار السياق في أحكام حياتية كثيرة فقد ناسب التذكير بالصلاة في هذا المقام، ليعلم أن الصلاة هي الابتداء، وهي الوسط، وهي الانتهاء. وأنها ضرورية. ومحلها في الإسلام لا يصح أن ينسى. ثانيا: إنه بلا معرفة بالله لا يدخل الإنسان في الإسلام كله. وبلا صلاة لا تكون معرفة بالله، ولا دخول في الإسلام كله. قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. (سورة طه) وقال: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ (سورة العنكبوت) فلا دخول في الإسلام كله إلا بصلاة ومن ثم ذكرت الصلاة في هذا السياق. ثالثا: إن مجئ الأمر بالصلاة بين أحكام الطلاق وغيرها من شئون النساء، يشعر أن هذه الأحكام تحتاج إلى صلاة في كل حال، في السلم والحرب، حتى تقوم. وأن المسلم الذي لا يقيم الصلاة في كل حال، لا يقيم أحكام الله الأخرى. رابعا: مجئ هاتين الآيتين هنا توطئة لما بعد آيات الطلاق. وربط لما بعد آيات الطلاق، بما قبل آيات الطلاق والنكاح. فبعض الأسئلة التي ذكرت في الآيات السابقة على آيات النكاح ذكرت فريضة القتال. وما بعد آيات الطلاق كلام عن القتال. وفي هاتين الآيتين أمر بالصلاة وإقامتها حتى في القتال. وهكذا الإسلام؛ كل متكامل. يتغذى كل جزء منه من الآخر، ويخدم كل جزء منه الآخر. وقيامه جميعا مرتبط بعدم نسيان جزء منه. ولا إسلام إلا بصلاة، هذا ما اتضح لي من الحكمة في مجئ هاتين الآيتين في هذا المقام، والله أعلم. المعنى العام: - في الآية الأولى، أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها، وأدائها في أوقاتها. وأمر بالقيام لله فيها خاشعين، ذليلين، مستكينين بين يديه. ولما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر

المعنى الحرفي

بتأكيدها. وذكر في الآية الثانية: الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل: وهي حال القتال، والتحام الحرب. فأمر في هذا الحال أن نصلي بقدر الوسع، على أي حال قدرنا عليها، راجلين، أو راكبين. مستقبلين القبلة، أو غير مستقبليها. إيماء إن لم نستطع غير ذلك. فإذا انتهت تلك الحال، فعلينا أن نقيم الصلاة كما أمرنا، بركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، وخشوعها، وهجودها. وذلك هو الشكر الذي يقابل نعمة الله علينا، أن علمنا وهدانا، بعد إذ كنا ضلالا جاهلين. المعنى الحرفي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي: داوموا عليها بمواقيتها، وأركانها، وشرائطها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي: صلاة العصر. وهي وسطى لأنها بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار. وخصصت بالذكر لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم. أو استرواحهم في وقتها للراحة بعد تعب. وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي: قوموا في صلاتكم لله خاشعين ذاكرين. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً أي: فإن كان بكم خوف من عدو، أو غيره، فصلوا راجلين، أو راكبين، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. فَإِذا أَمِنْتُمْ أي: إذا زال خوفكم. فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أي: فصلوا صلاة مثل ما علمكم ما لم تكونوا تعلمونه من صلاة الأمن ويحتمل المعنى الذي ذكرناه في المعنى العام. فوائد: 1 - اختلف المفسرون كثيرا في تفسير الصلاة الوسطى في الآية. فقيل: المغرب، وقيل: العشاء، وقيل: مجموع الصلوات الخمس، وقيل: الفجر، وقيل: بل صلاة الجماعة. وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: صلاة الخوف، وقيل: صلاة عيد الفطر، وقيل: صلاة عيد الأضحى، وقيل: الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: بل هي مبهمة، كما أبهمت ليلة القدر في الحول، أو الشهر، أو العشر ليحفظوا الكل. قال سعيد بن المسيب: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا- وشبك بين أصابعه-). قال ابن كثير: (وكل هذه الأقوال فيها ضعف ... وإنما المدار، ومعترك النزاع، في الصبح، والعصر. وقد ثبتت السنة بأنها العصر. فتعين

المصير إليها). ومن الأدلة على أنها صلاة العصر، ما رواه الإمام أحمد عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر. ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا». ثم صلاها بين العشاءين: المغرب والعشاء. وروى مثله البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي .. وروى مسلم عن البراء بن عازب قال: نزلت: (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله. ثم نسخها الله عزّ وجل، فأنزل: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. فقال له زاهر- رجل كان مع شقيق-: أفهي العصر؟. قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله عزّ وجل). وفي ذكر الوسطى هنا معنى بليغ جدا. إذ هو أكبر رد على بعض طوائف الباطنية، التي تزعم أنه لم يفرض علينا إلا صلاتين. فإذا اعتبرنا أن الواو تقتضي المغايرة. فقد ثبتت الصلوات الخمس بهذا النص. إذ أقل عدد فرد، يكون له وسط. والطرفان جمع هو الخمس. وقد وردت آثار تؤكد الأمر بالمحافظة على العصر. ففي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله» وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بكروا بالصلاة في يوم الغيم. فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله». وفي الحديث الصحيح: «إن هذه الصلاة عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها. ألا من صلاها، ضعف له أجره مرتين. ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد». 2 - روى الإمام أحمد، وغيره- والحديث صحيح- عن زيد بن أرقم قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ: فأمرنا بالسكوت. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة، فيرد علينا. فلما قدمنا، سلمت عليه، فلم يرد علي. فأخذني ما قرب، وما بعد. فلما سلم قال: «إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن ما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة». وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس. إنما هي التسبيح، والتكبير، وذكر الله». فهذه الأحاديث كلها تفسر قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. 3 - فصل الله صلاة الخوف في سورة النساء. ولكن تلك الصلاة إذا لم يكن

التحام، أما في حالة الالتحام، فأمام المسلمين سعة أن يصلوا- كما نصت الآية هنا- كيف قدروا. أو يؤخروا الصلاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. وكما فعل المسلمون يوم فتح (تستر) في عهد عمر. وهذه نقول حول هذا وهذا: (قال مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها- (أي كما وردت في سورة النساء) - ثم قال: (فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلى القبلة، أو غير مستقبليها). قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري. وهذا لفظ مسلم. ولمسلم أيضا عن ابن عمر قال: (فإن كان خوف أشد من ذلك، فصل راكبا، أو قائما، تومئ إيماء). وقال جابر بن عبد الله: (إذا كانت المسايفة، فليومئ برأسه إيماء حيث كان وجهه. فذلك قوله تعالى: فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً). قال مالك بن أنس: (حضرت مناهضة حصن «تستر» عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال. فلم يقدروا على الصلاة. فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار. فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها). هذا لفظ البخاري، وقد أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق إلى ما بعد غيبوبة الشمس. 4 - هل للزحف، والهجوم حكم المسايفة؟. يمكن أن يستدل على أن له نفس الحكم إذا اقتضى الزحف أو الهجوم الاستعجال بقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما وجههم إلى بني قريظة: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة». فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق، فصلوا، وقالوا لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل السير. ومنهم من أدركته فلم يصل إلا في بني قريظة فلم يعنف واحدا من الفريقين. 5 - قال الأوزاعي: (إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه. فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا. فيصلوا ركعتين- أي إن كانت صلاة الفجر، أو كانوا مسافرين ... - فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين. فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا). وكلام الأوزاعي أنهم يصلون ركعة واحدة في سجدتين اتجاه لكثير من السلف، أن صلاة الخوف في بعض حالات الشدة ركعة واحدة. ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة). قال ابن كثير: (وبه قال الحسن البصري، وقتادة، والضحاك، وغيرهم).

المعنى العام

6 - روى أحمد وأبو داود بإسناد جيد، عن عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله، وكان نحو عرفة، أو عرفات. فلما واجهه، حانت صلاة العصر. قال: فخشيت أن تفوتني، فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء. 7 - في بعض البلدان يشتد الأمر على المسلمين، لدرجة أنه لا يستطيع أحد أن يجهر بصلاته. حتى لو جهر قتل، كما حدث في أسبانيا، وفي بعض البلدان لو جهر حيل بينه وبين العمل، أو سرح من عمله إن كان له عمل وإن لم يسرح مباشرة سرح فيما بعد إما تحقيقا، أو بغلبة الظن فما الحكم في هذه الأحوال؟. وهل يصح لمسلم ينوي خدمة الإسلام في مثل هذه الظروف أن يجمع الصلوات كلها؟ وإذا خاف على نفسه أن يكشف أمره فهل يصح أن يومئ إيماء وهو سائر أو ماش أو متكئ؟ جواب هذه القضايا يحتاج إلى تفصيلات فمحلها في القسم الثاني من هذه السلسلة (الأساس في السنة وفقهها). وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. هذه الآيات خاتمة الكلام في الأحكام حول موضوع الطلاق، وموضوع الوفاة بالنسبة للزوجة. وهذا كله يأتي في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. المعنى العام: في الآية الأولى اتجاهان للمفسرين: الأول يقول بأنها منسوخة. والذين قالوا بالنسخ منهم من قال إنها منسوخة بالآية المارة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ومنهم من قال: نسختها آية الميراث. والاتجاه الثاني أنها غير منسوخة، وإنما فيها معنى جديد: وهو أنه يستحب للمتوفى أن يوصي لزوجته بالسكنى في بيته إلى نهاية السنة. فيكون إبقاء المرأة في بيتها أربعة أشهر وعشرا، فرضا. ويكون السماح لها في البقاء إلى نهاية السنة مندوبا. وروى البخاري عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً

المعنى الحرفي

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً: قال: (كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها واجب. فأنزل الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ .. قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر؛ وعشرين، وصية إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت. وهو قول الله: غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. فالعدة أربعة أشهر وعشر واجب عليها، وهذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما قال الجمهور، حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة أشهر وعشر. وإنما دلت على أن ذلك من باب الوصاية بالزوجات أن يمكن من السكن في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك. ولهذا قال: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ: ولا يمنعن من ذلك لقوله: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ. قال ابن كثير: (وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له. وقد اختاره جماعة منهم أبو العباس بن تيمية. ورده آخرون منهم الشيخ أبو عمرو بن عبد البر. والجميع متفقون على أن العدة الواجبة أربعة أشهر وعشر، أو وضع الحمل. والجميع متفقون على أنه لا يجب عليها أن تعتد سنة. يبقى الخلاف هل يندب لزوجها أن يوصي لها بالبقاء في بيت الزوجية تتمة السنة؟ فعلى القول بأنها منسوخة، لا يندب له. ولكنه لو أوصى، وأجازت الورثة فلها حق البقاء تتمة السنة. وعلى القول بأنها غير منسوخة يندب له ولها حق البقاء تتمة السنة. والذي نذهب إليه هو مذهب الجمهور في أن الآية منسوخة. لأنه إذا لم نقل بالنسخ، نعطي وارثا من الورثة؛ وصية زائدة على حقه الشرعي. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا وصية لوارث». ولكنا في الوقت نفسه نقول: لو لاحظت الورثة ذلك فإنه يكون حسنا. - وفي الآية الثانية توكيد لوجوب المتعة الذي مر معنا من قبل. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت. وإن شئت لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وفي الآية الثالثة من الله عزّ وجل علينا بتبيان آياته في إحلاله، وتحريمه. وفروضه، وحدوده فيما أمرنا به، ونهانا عنه. فبينه، ووضحه، وفسره، ولم يتركه مجملا في وقت احتياجنا إليه. وبين أن ذلك كله من أجل أن نعقل، فلا عقل، ولا فهم، ولا تدبر إلا إذا فهم الإنسان آيات الله. المعنى الحرفي:

[سورة البقرة (2): آية 240]

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ أي: والذين تقبض أرواحهم منكم، ويتركون أزواجا. فليوصوا لأزواجهم وصية، أن يمتعن تمتيعا بالبقاء في بيوتهن، والنفقة عليهن سنة كاملة. غَيْرَ إِخْراجٍ أي: لا يخرجن خلالها. والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا، بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا. أي ينفق عليهن من تركته، ولا يخرجن من مساكنهن. وكان ذلك مشروعا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. والناسخ متقدم عليه تلاوة، ومتأخر نزولا. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ: من التزين والتعرض للخطاب والزواج، فالمعروف: هو كل ما ليس بمنكر شرعا. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: يحكم بما شاء وحكمه كله حكم. وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ: إن أريد بها المطلقات الرجعيات؛ يكون المعنى واجبا على أهل التقوى نفقتهن في عدتهن. وإن أريد بالمطلقات ممن لم يسم لهن مهر، ولم يدخل بهن، يكون المعنى: هذه المتعة واجبة على أهل التقوى. وإن أريد بهن متعة المطلقات مما سوى ذلك، فيكون المعنى حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ بإيجابهم ذلك على أنفسهم. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: كمثل هذا البيان، يوضح الله لكم آياته من أجل أن تعقلوا، فتفهموا، وتعملوا. فوائد: 1 - قال ابن كثير عن الآية الأولى: (قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً. قال البخاري: (قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وقد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟. قال: يا ابن أخي: لا أغير شيئا من مكانه). ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة أشهر، فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها. وبقاء رسمها بعد التي نسختها، يوهم بقاء حكمها؟. فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي. وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها كما وجدتها. 2 - على القول بأن الآية الأولى في هذا النص منسوخة بآية الميراث، يثور سؤال: ما دامت المرأة من أصحاب الفروض. فهل يحق لها أن تقضي عدتها في بيت

كلمة أخيرة في الفقرة

زوجها؟. أو يكون ذلك زائدا على ما فرض الله لها؟. هذه القضية محل خلاف بين العلماء، وللشافعي قولان في هذا الموضوع- موضوع وجوب السكنى في منزل الزوج للمتوفى عنها زوجها- والذين يذهبون إلى وجوب السكنى في منزل الزوج للمتوفى عنها زوجها، يعتبرون ذلك من جملة الحقوق. وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه أن الفريعة بنت مالك بن سنان- وهي أخت أبي سعيد الخدري- رضي الله عنهما أخبرتها- أي لزينب بنت كعب- أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة. فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم». قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له. فقال: «كيف قلت»؟. فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك. فأخبرته، فاتبعه، وقضى به). قال الترمذي عن هذا الحديث: حسن صحيح. كلمة أخيرة في الفقرة: بدأت الفقرة في الكلام عن الإيلاء الذي قد يصل في بعض حالاته إلى الطلاق. ومنه وصلت الفقرة للكلام عن الطلاق الرجعي. ثم تحدثت عن الطلاق البائن بينونة كبرى، وعن الخلع، وعن شرط العودة إلى الزوج الأول بعد البينونة الكبرى. ثم يعود إلى الحديث عن الطلاق الرجعي، والأدب فيه. وإلى الطلاق البائن بينونة صغرى، والعودة إلى الزوج بعقد جديد إذا رغب الزوج والزوجة البائنان عن بعضهما بالعودة إلى الزوجية. ثم تعرض السياق لحالة وجود الولد إذا تم طلاق، وكيف ينبغي أن يفعل الزوجان البائنان في شأنه.

الفقرة الرابعة والأخيرة من المقطع الأول من القسم الثالث

وبهذا انتهت المجموعة الأولى في الفقرة لتأتي مجموعة ثانية، تتحدث عن تصفية الحياة الزوجية إذا حدثت وفاة بعد أن تحدثت المجموعة الأولى عن طريق تصفية الحياة الزوجية بالطلاق. وقد تحدثت المجموعة الثانية عن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها، وعما يجوز، وما لا يجوز أثناء العدة، وعن حقها في الزواج بعد انتهاء العدة. ثم يعود السياق للحديث عن الطلاق. فيذكر مسألتين. مسألة ما إذا تم الطلاق قبل المس وقبل فرض المهر. ومسألة ما إذا تم الطلاق قبل المس وبعد فرض المهر. ويذكر حكم هاتين المسألتين ثم تأتي آيتان في المحافظة على الصلوات، والصلاة حال الخوف. ثم يعود السياق لذكر حكم منسوخ. وليؤكد حكما قائما. وليمن علينا بنعمة البيان. وفي ذكر الحكم المنسوخ في نهاية السياق، تسجيل للعناية في شأن المرأة في ابتداء الإسلام حتى أوصلها إلى الأحكام النهائية التي هي الأرفق بها. وفي توكيد حق المطلقة في خاتمة السياق تسجيل للعناية في المرأة في كل حال. وفي ذكر الصلاة في هذا السياق تسجيل بأن الأحكام لا تقوم بلا صلاة. وفي ذكر صلاة القتال في هذا السياق تذكير بوحدة المقطع خاصة وأن فقرة جديدة لها صلة بالقتال ستأتي. فكأن الآية تشعرنا بأن الكلام الذي بدأ عن القتال في الفقرة الأولى لا زال مستمرا. وإذا كان المقطع لا يزال مستمرا فلننتقل إلى فقرة جديدة. الفقرة الرابعة والأخيرة من المقطع الأول من القسم الثالث: تمتد هذه الفقرة من الآية (242) إلى نهاية الآية (253). [سورة البقرة (2): الآيات 243 الى 253] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: تبدأ الفقرة بمجموعة لها صلة بالإنفاق والقتال. وهكذا نجد أن كل الأحكام التي مرت معنا في هذا المقطع آتية بين كلامين عن الإنفاق والقتال. فبدون ذلك لا تقوم أحكام الإسلام، ولا يكون دخول في الإسلام كله. ثم تأتي مجموعة أخرى، تعرض علينا صفحة من صفحات العبرة في تاريخ بني إسرائيل، وهي كذلك في موضوع القتال، وشروط إقامته. إنه حتى يقاتل شعب فإن نقطة البداية في ذلك هو وجود القيادة المتوافرة فيها الشروط المناسبة. إن المجموعة الثانية في هذه الفقرة فيها حديث عن ذلك، وعن غيره. وتأتي الآية الأخيرة وفيها كلام عن القتال. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ. وبهذا ينتهي المقطع، وتنتهي هذه الفقرة. فقد بدأ المقطع بعد المقدمة، والتمهيد بالقتال. وانتهى بالقتال. وإن دروس هذه الفقرة لأمتنا في هذه المرحلة لكثيرة. إذ ضعفت عند هذه الأمة إرادة القتال في سبيل الله. وفقدت القيادة الرشيدة التي تقودها في طريق القتال. وإن دروس هذه الفقرة في كل زمان ومكان لكثيرة. فلنأخذ ما استطعنا من دروس ذلك كله. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ* وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. المعنى العام: في الآية الأولى يقص الله علينا قصة تجري مجرى المثل في التعجب. وفي القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر. وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه. فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الموت، وطلبا لطول الحياة. فعوملوا بنقيض قصدهم. وجاءهم الموت سريعا في آن واحد. ثم أحياهم بعد موتهم. وكان في إحيائهم عبرة، ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ودليل على أن الموت والحياة بيد الله. وعقب الله على القصة بتذكير الناس بفضله عليهم فيما يريهم من الآيات الباهرات، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغات. ثم بين أنه مع هذا كله، فإن أكثر الناس لا يقومون بشكر ما

المعنى الحرفي

أنعم الله به عليهم، في دينهم، ودنياهم. وفي الآية الثانية أمر بالقتال، وأمر بمعرفة الله. وبين معرفة الله والجهاد في سبيله تلازم. وبين الآية الأولى والثانية اتصال. فكما أن الحذر لا يغني عن القدر، كذلك الفرار من الجهاد، وتجنبه لا يقرب أجلا، ولا يبعده. بل الأجل المحتوم، والرزق المقسوم مقدر، مقنن، لا يزاد فيه، ولا ينقص. وفي الآية الثالثة، حث على الإنفاق في سبيل الله. وبين الجهاد بالنفس والمال تلازم، وفي الآية بيان لما أعد الله- عزّ وجل- من مكافئات مضاعفة على الإنفاق. وبيان أن علينا أن ننفق، ولا نبالي. فالله هو الرزاق، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين. له الحكمة في ذلك، وإليه المرجع يوم القيامة فيجازي كلا بعمله .. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ: هذا استفهام تقريري لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب أو سمع بأخبار الأولين، التي فيها هذا الخبر، وهو في الوقت نفسه تعجيب من شأنهم، وخوطب به من لم ير ولم يسمع، لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل. فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا: أي فأماتهم الله. وإنما جئ به على هذه العبارة، للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد، بأمر الله، ومشيئته. وتلك ميتة خارجة عن العادة. ثُمَّ أَحْياهُمْ: ليعتبروا، ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه. وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد، وأن الموت إذا لم يكن منه بد، ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل الله. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثا على الجهاد، ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله. فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ: حيث أحيا أولئك ليعتبروا، وليعتبر من سمع بقصتهم. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي: لا يقوم أكثر الناس بشكر ما أنعم الله عليهم. وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: هذا الأمر لنا معشر هذه الأمة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: واعلموا أن الله يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون، عليم بما يضمره الجميع. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله نفقة طيبة، بنفس طيبة. سمى ما ينفق في سبيل الله قرضا، لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد، سمي به لأن المقرض يقطعه

فوائد

من ماله، فيدفعه إليه ليأخذه منه بعد، ففي استعمال القرض تنبيه على أن ذلك لا يضيع عنده، وأنه يجزيهم عليه لا محالة. ويدخل في هذا القرض، النفقة في الجهاد. لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله- ويحتاج فيه إلى المال- حث على الصدقة لتتهيأ أسباب الجهاد فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً: لا يعلم كنهها إلا الله. وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي: يقتر الرزق على عباده، ويوسعه عليهم. فكأنه يقول: فلا تبخلوا عليه، بما وسع عليكم، لا يبدلكم الضيق بالسعة. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: فيجازيكم على ما قدمتم. فوائد: 1 - بمناسبة هذه الآيات يذكر ابن كثير قول خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو في سياق الموت: (لقد شهدت كذا موقفا. وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية، أو طعنة، أو ضربة. وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير. فلا نامت أعين الجبناء). 2 - في هرب هؤلاء من الموت، اتجاهان للمفسرين. الاتجاه الأول: أنهم فروا من الجهاد. والاتجاه الثاني: أنهم فروا من الطاعون، فعوقبوا بما منه فروا. ثم من الله عليهم بالحياة، لتكون عبرة. وبمناسبة القول أنهم فروا من الطاعون يذكر ابن كثير الحديث الصحيح الذي فيه أدب المسلم في حالة انتشار وباء الطاعون وهذه هي رواية الإمام أحمد: «عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان (بسرغ) لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه. فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام- فذكر الحديث- فجاءه عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه». فحمد الله عمر ثم انصرف. وفي رواية: «إن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا» ولعل في هذا النص أول تأسيس لفكرة الحجر الصحي في تاريخ العالم. 3 - أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله: وإن الله عزّ وجل ليريد منا القرض؟. قال: «نعم يا أبا الدحداح». قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي عزّ وجل حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه، وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم

الدحداح. قالت: لبيك. قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجل). 4 - أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: لما نزلت مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ ... إلى آخرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رب زد أمتي». فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً .... قال: «رب زد أمتي». فنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. (سورة الزمر) وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: (والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة». وأخرج مثله الإمام أحمد عن أبي هريرة. 5 - إن مجئ هذه الآيات، والتي بعدها في موضوعها في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، دليل على أن الإسلام لا يقوم بلا قتال وبذل مال. وكل من يتصور غير ذلك يكون واهما ومخطئا. 6 - ذكر ابن كثير مجموعة أقوال المفسرين في الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم، وليس في واحد منها نص يمكن أن يركن إليه بحيث يعتبر تفسيرا قطعيا للآية، ومن جملة ما ذكره أن هذه القصة حدثت في زمن نبي من بني إسرائيل، اسمه حزقيال وبالرجوع إلى الترجمة العربية الحديثة لسفر حزقيال من أسفار العهد القديم نجد في الإصحاح السابع والثلاثين على لسان حزقيال ما يلي: «وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما، وأمرني عليها من حولها، وإذا هي كثيرة جدا على وجه البقعة، وإذ هي يابسة جدا، فقال لي: يا ابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت يا سيد الرب أنت تعلم، فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب، هكذا قال الرب لهذه العظام ها أنا ذا أدخل فيكم روحا فتحيون، وأضع عليكم عصبا، وأكسيكم لحما، وأبسط عليكم جلدا، وأجعل فيكم روحا فتحيون، وتعلمون أني أنا الرب. فتنبأت كما أمرت، وبينما أنا أتنبأ كان صوت، وإذا رعش، فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه، ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها، وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح، فقال لي: تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم وقل للروح هكذا، قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربعة، وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جدا جدا» يقول صاحب الظلال: «لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت من هم؟ وفي

أي أرض كانوا وفي أي زمان خرجوا؟ فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين كما يجئ القصص المحدد في القرآن، إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ... إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة ... يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي، وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلا ولا يردان قضاء ... ». قضاء ... ». [سورة البقرة (2): الآيات 246 الى 251] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

المعنى العام

المعنى العام: بعد المجموعة السابقة التي بين الله جل جلاله فيها أن الحذر لا يغني من القدر، وأن الموت والحياة بيد الله، وبعد الأمر بالقتال والإنفاق في سبيل الله، تأتي هذه المجموعة التي تبين أن الفئة القليلة المؤمنة تتغلب على الفئة الكثيرة الكافرة. وأنه لا بد من جهاد، وإلا لعم الفساد. في الآية الأولى بيان لحال وصل إليها بنو إسرائيل، من ذهاب بلادهم، وسبي أولادهم. فطلبوا نتيجة لذلك من نبي لهم أن ينصب عليهم ملكا يقاتلون تحت إمرته. وبفراسة النبي سألهم عما يتوقعه منهم، أنهم لو فرض عليهم القتال فسينكصون. ولكنهم أصروا. وكان واقع الحال ما توقعه منهم، أن الأكثرية منهم نكصوا عن القتال. - وفي الآية الثانية تم التعيين نزولا عند رغبتهم في أن يكون لهم ملك. وكان التعيين بناء على الخصائص المناسبة للحال. فهم يحتاجون إلى ملك يجتمع له العلم بالشريعة، وفن القتال، والقوة الجسدية كي يقوم بأعباء القيادة. وكان طالوت ذلك الرجل. ولكنهم اعترضوا تعنتا، وكان الأولى بهم التسليم والطاعة لو كانوا مؤمنين حقا. وسبب اعتراضهم أنهم يتصورون أن الملك لا يستحقه أحد إلا بنسب أو مال. فبين لهم أن هذا اصطفاء الله واختياره، وتلك مشيئته، وهو واسع الفضل. يختص برحمته من يشاء. عليم بمن يستحق الملك، ممن لا يستحقه. - وفي الآية الثالثة يبين الله عزّ وجل أنه قد أعطاهم معجزة. هي مجئ التابوت، تحمله الملائكة، كآية تزيد طمأنينتهم، ليزدادوا إيمانا بنبيهم، وليطمئنوا إلى

إمرة طالوت. وفي التابوت ما يتباركون به. وهو آثار من موسى وهارون. ومجئ المعجزة في هذه الحال لا تبقي شكا لمؤمن أن الله هو الذي اصطفى طالوت وأن نبيهم صادق، وأن طالوت يستأهل ما أقامه الله فيه. فالمفروض بعد هذا أن يكونوا على منتهى الطاعة والاندفاع في القتال. - وفي الآية الرابعة يبين الله عزّ وجل الظرف الذي وضع فيه طالوت قومه. عند ما خرج بهم للقتال، فالقتال يحتاج إلى انضباط. وفي فن الحرب يستحيل أن يكسب جيش لا انضباط فيه معركة. فكانت أول عملية قام بها طالوت- بأمر الله- هو اختبار انضباط هذا الجيش، بقضية تخالف الأهواء. وهي أنه كلفهم حين مرورهم على نهر الشريعة- الذي يسمى الآن نهر الأردن- ألا يشربوا منه إلا في حدود الغرفة الواحدة، فلم يلتزم بهذا الأمر إلا القليل. هذا القليل هو وحده الذي سمح له طالوت بتجاوز النهر. إذ هم المؤمنون حقا. والمطيعون حقا، والراغبون في الجهاد حقا. فلما جاوزوا النهر، رأوا قلتهم، فلما رأوا قلتهم ظهرت فيهم الظاهرتان الموجودتان دائما في هذه الأحوال، حتى عند أهل الإيمان. ظاهرة الذين يعطون الأسباب أكثر من حجمها، فهؤلاء قالوا بأنهم لا يستطيعون أن يربحوا المعركة ضد جالوت وجنده، والظاهرة الثانية ظاهرة المؤمنين المتوكلين، الذين لا يغفلون الأسباب. ولكن يعطونها حجمها، مع الثقة الكاملة بالله، فهؤلاء قالوا بأن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة إذا وجدت مشيئة الله. وقد وعد الله الصابرين بأن يكون معهم. فإذا صبرنا فنحن الغالبون. - وفي الآية الخامسة، يصف الله عزّ وجل التقاء الجمعين. وحال أهل الإيمان بالافتقار إلى الله في تلك الساعة الحاسمة، ودعائهم الله عزّ وجل أن يصبرهم ويثبت أقدامهم وينصرهم. وهذا منتهى الافتقار لله. حيث طلبوا منه الصبر، والتثبيت، والنصر. فلم يقولوا لله: علينا كذا، وعليك كذا. بل طلبوا منه أن يعينهم على ما كلفهم، وأن يعطيهم ثمرة ذلك. - وفي الآية السادسة بيان النتيجة. وهي النصر، وقتل جالوت على يد داود الذي جمع الله له النسب والعلم، والقوة الجسدية، وآتاه الملك، والحكمة بعد طالوت، ثم ختمت الآية بالقاعدة التي تبين حكمة مشروعية القتال في الإسلام، وهي أنه لولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بذلك فسادا، لغلب المفسدون وفسدت

المعنى الحرفي

الأرض، وهلك الحرث والنسل. فلولا أن أهل الإيمان يقاتلون أهل الكفر، ولولا أن أهل الإيمان يوقفون أهل الفساد عند حدهم، لفسدت البلاد والعباد. المعنى الحرفي أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى الملأ: هم الأشراف لأنهم يملئون القلوب جلالة، والعيون مهابة. ومِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد موته إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: حين قالوا لنبي لهم أنهض للقتال معنا أميرا نصدر في تدبير الحرب عن رأيه، وننتهي إلى أمره قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي: هل قاربتم إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا. أي: هل الأمر كما أتوقعه، أنكم لا تقاتلون وتجبنون، فأدخل (هل) الاستفهامية التي تفيد التقرير، والتثبيت للإشعار بما هو متوقع عنده قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي: ردوا على نبيهم بقولهم: وأي داع لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه، والحال أنه أخذت منا البلاد، وسبيت الأولاد. يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي: فلما أجيبوا إلى ملتمسهم بفرض القتال عليهم، أعرضوا عنه إلا القليل. أي لم يفوا بما وعدوا. بل نكل عن الجهاد أكثرهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: هذا وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا منهم، عين لهم طالوت، وأفهمهم أن هذا الأمر ليس باجتهاد من عنده، بل باصطفاء من الله. فهو أمرني به لما طلبتم مني ذلك. قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ. وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ أي قالوا معترضين على هذا التعيين: كيف ومن أين يمتلك علينا. والحال إنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير، ولا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن الملك كان في سبط يهوذا، كما قال المفسرون. وهذا اعتراض منهم على نبيهم، وتعنت. وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف. فأجابهم نبيهم قائلا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ: أي إن الله اختاره عليكم. وهو أعلم بالصالح منكم. ولا اعتراض على

[سورة البقرة (2): آية 248]

حكمه. ثم ذكر مصلحتين، هما أنفع مما ذكروا من النسب، والمال. وهما العلم المبسوط. قالوا: كان أعلم بني إسرائيل بالحرب، والديانات في وقته. وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه. والبسطة: السعة والامتداد. قال النسفي: والملك لا بد أن يكون من أهل العلم. فإن الجاهل ذليل مزدرى، غير منتفع به. وأن يكون جسيما، لأنه أعظم في النفوس، وأهيب في القلوب». وقال ابن كثير: «أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل، وأشكل منكم، وأشد قوة، وجدا في الحرب، ومعرفة بها. أي أتم علما، وقامة منكم. ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم، وشكل حسن، وقوة شديدة في بدنه ونفسه» وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي: واسع الفضل والعطاء. يوسع على من ليس له سعة من المال، ويغنيه بعد الفقر. وهو عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه، فيصطفي من شاء. وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أي: قال لهم نبيهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم، أن يرد عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي: في التابوت سكون، وطمأنينة لكم من ربكم، وفيه بقية مما تركه موسى، وهارون. وذكر الآل للتفخيم. وفسر النسفي هذه البقية بأنها رضاض الألواح، وعصا موسى، وثيابه، وشئ من التوراة، ونعلا موسى، وعمامة هارون عليهما السلام، ونقول ابن كثير عن المفسرين تجمع ما قاله النسفي. دل ذلك على التبرك بآثار الأنبياء. إذ ذلك من تعظيم حرمات الله، وإتيان التابوت كان بواسطة الملائكة. قال ابن عباس: (جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين بالله، واليوم الآخر، والرسل. قال النسفي عن التابوت: وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه. فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل، ولا يفرون.

[سورة البقرة (2): آية 249]

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي: حين خرج من بلده إلى جهاد العدو بجنده. قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي: مختبركم. أي: يعاملكم معاملة المختبر بتميز المحق في الجهاد، من المدعي. قال ابن عباس: وهو نهر بين الأردن وفلسطين. يعني نهر الشريعة المشهور. ثم جاء بيان الاختبار: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي: فمن شرب كرعا، فليس من أتباعي، وأشياعي. فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ أي: ومن لم يذقه فإنه مني. ثم رخص لهم في اغتراف الغرفة باليد دون الكرع. والغرفة، هي المغروف. فصارت الرخصة، أنه من اغترف بيده فشرب فلا بأس عليه. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي: فشربوا كرعا إلا القليل. فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي: فلما جاوز طالوت النهر هو ومن آمن معه ممن نجحوا في الاختبار. روى البخاري، وابن جرير عن البراء بن عازب قال: (كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة، وبضعة عشر، على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر. وما جازه معه إلا مؤمن). قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي: لا قوة لنا على جالوت وجنوده. استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم، لكثرته، وقوته. وقلتهم، وضعفهم. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي: قال الذين يوقنون بالشهادة- وهم العالمون حقا- تشجيعا، وتثبيتا كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إن النصر من عند الله، ليس عن كثرة عدد، ولا عدد فكثيرة هي الحالات التي انتصرت بها فئة قليلة على فئة كثيرة بنصر الله. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: ينصرهم، ويعينهم، ويوفقهم. شجعوهم، وطالبوهم بالصبر. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي: لما واجه حزب الإيمان، وهم قليل من أصحاب طالوت، لعدوهم أصحاب جالوت، وهم عدد كثير. قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: أنزل، واصبب علينا صبرا على القتال من عندك. وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: في لقاء العدو. جنبنا الفرار، والعجز، بتقوية قلوبنا، وإلقاء الرعب في صدور عدونا. وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي: أعنا عليهم، واهزمهم. دل ذلك على أن أدب المؤمنين في المعركة، الافتقار إلى الله، ودعاؤه بما يقتضيه الحال من التثبيت، والنصر. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ: أي فهزم طالوت والمؤمنون معه،

فوائد

جالوت وجنده بقضاء الله ونصره. فغلبوهم وقهروهم. وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ أي: آتى الله داود الملك في مشارق الأرض المقدسة، ومغاربها حتى إنه لم تجتمع بنو إسرائيل على ملك كما اجتمعت على داود. وآتاه مع الملك، الحكمة. أي: النبوة. وعلمه زيادة على ذلك ما شاء الله أن يخصه به من العلوم، من مثل صنعة الدروع، وغير ذلك. وفي ذكر ما أكرم الله به داود بعد ذكر قتله لجالوت، إشارة إلى أن البلاء في الجهاد يستحق به صاحبه الخير الكثير عند الله. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي: ولولا أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض، فيدفع الكافرين بالمؤمنين، وينصر المؤمنين على الكافرين، فكيف بذلك فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض بغلبة الكفار، وقتل الأبرار، وتخريب البلاد، وتعذيب العباد. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ أي: ذو من عليهم، ورحمة بهم. يدفع عنهم ببعضهم بعضا فساد العالم. وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه، في جميع أفعاله وأقواله. وإن فضله كما هو كائن على البشر بذلك. فإن فضله عام على عوالمه كلها، وخلقه جميعا. فوائد: 1 - دلت الآيات على أنه لا يحمي حمى الإسلام والمسلمين إلا جهاد وقتال. وأن الجهاد والقتال يحتاجان إلى إمرة، وطاعة، وانضباط، وإيمان، وافتقار إلى الله. كما دلت الآيات على أن الهجوم هو الطريق للنصر. 2 - مجئ هذه المجموعة في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، وانتهاء المجموعة بقاعدة وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يدل على أن الإسلام كله لا يقوم إلا بقتال، وإن طريق الإسلام والمسلمين دائما هو هذا الذي قصه الله علينا في قصة طالوت: إمرة، وجهاد. والإمرة التى لا تجاهد، لا تحقق ما ينبغي منها. وإن الإمرة تختار على أساس الخصائص المناسبة للوضع القائم لا على أساس آخر. 3 - لا تنطبق هذه الآيات على واقعة، كما تنطبق على مسلمي فلسطين. فقد أخرجوا من ديارهم، وأموالهم. وإن طريقهم لهذا: إمرة، وجهاد. أمير مؤمن، وصف مؤمن. وغير ذلك ليس طريقا. فصل في بعض الروايات الكتابية لقصة طالوت وجالوت:

ذكرنا في كتابنا (من أجل خطوة إلى الأمام) مجموعة ملاحظات حول نصوص أسفار العهد القديم، والجديد تنفي الثقة بثبوت ما في هذه الأسفار، سواء في ذلك الملاحظات العلمية، أو الملاحظات في الدلالة على أن هذه النصوص كتبت بعد آجال طويلة بلا سند معروف متصل إلى غير ذلك، وهذا وأمثاله يبين لنا أنه قد حدث التحريف والتبديل بسبب الغفلة والنسيان، فضلا عن التحريف والتبديل المتعمدين في هذه الأسفار، ولذلك فالنقل عنهما ليس لإثبات حجة بل إما لنقض الخطأ أو للاستئناس. ومن الأخطاء التي وقع فيها نساخ هذه الأسفار أن حادثة امتحان طالوت لجنده أثناء عبور النهر تنسب في هذه الأسفار إلى جدعون ولا يروونها عن طالوت فإما أن الحادثة تكررت وإما أن هناك خطا في النسبة: في سفر القضاء «وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل، وأما باقي الشعب جميعا فجثوا على ركبهم لشرب الماء، فقال الرب لجدعون: بالثلاث مائة الرجل الذين ولغوا أخلصكم .... وأمسك الثلاث مائة رجل» إن هذه الحادثة إما أنها تكررت في حياة بني إسرائيل مرة في زمن جدعون ومرة في زمن طالوت، أو أن النساخ غلطوا لتقادم العهد بين الحوادث والنسخ. إن قصة طالوت وجالوت مذكورة في سفري صموئيل الأول والثاني من أسفار العهد القديم، ولا نطمع أن نجد في السفرين كثيرا من الصواب، ولكن فيهما من الصواب ما دلنا عليه القرآن، وفيهما من الخطأ ما دلنا عليه القرآن، وفيهما ما سوى ذلك مما يسعنا السكوت عنه. ومما في هذين السفرين: «وكان تابوت الله في بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر». «وكان من يوم جلوس التابوت في قرية يعاريم أن المدة طالت وكانت عشرين سنة». «فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة وقالوا له: ..... اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب». «وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن .... وكان له ابن اسمه شاؤل شاب حسن ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب». «فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق، فقال صموئيل

لجميع الشعب: أرأيتم الذي اختاره الرب إنه ليس مثله في جميع الشعب». «وأما بنو بليعال فقالوا كيف يخلصنا هذا فاحتقروه ولم يقدموا له هدية». «وتجمع الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل. ثلاثون ألف مركبة وستة آلاف فارس وشعب كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة». «فقال شاؤل لأخيا قدم تابوت الله كان في ذلك اليوم مع بني إسرائيل». وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب ... واجتمع شاؤل ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للحرب للقاء الفلسطينيين». «فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من جت، طوله ستة أذرع وشبر، وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابسا درعا حرشفيا، ووزن الدرع خمسة آلاف مثاقل نحاس، وجرموقا نحاس على رجليه، ومزارق نحاس بين كتفيه، وقناة رمحه كنول النساجين وسنان رمحه ستمائة مثاقل ... فوقف ونادى ... اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إلي ... وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحا ومساء أربعين يوما». «فقال داود لشاؤل لا يسقط قلب أحد بسببه عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني، فقال شاؤل لداود لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني لتحاربه لأنك غلام ... ». ومد داود يده إلى الكف وأخذ منه حجرا ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته فارتز الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض، فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله ولم يكن سيف بيد داود، فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده، وقتله وقطع به رأسه فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا». أقول: يرى القارئ في سفري صموئيل من المبالغات، والأخطاء، وما يتنافى مع العقل أو العلم. إن اليهود أمة لم تحفظ إرث أنبيائها، ولعل من أهم العبر التي نأخذها من قصة طالوت وداود هنا: أن القيادة في الأزمات ينبغي أن تكون بحسب الخصائص التي تناسب المرحلة ولنعد إلى سياق المقطع:

المعنى العام

فبعد المجموعتين الأوليين من الفقرة الرابعة يأتي في هذا السياق، سياق الأمر بالدخول في شرائع الإسلام كلها: آيتان تشكلان خاتمة الفقرة الرابعة وخاتمة المقطع الأول من القسم الثالث في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ. المعنى العام: في الآية الأولى إشارة إلى الآيات التي مرت معنا، من إماتته الألوف، وإحيائهم. ومجئ التابوت تحمله الملائكة، وانتصار القلة المؤمنة المستضعفة، على الكثرة الكافرة. وأن هذه الآيات يقصها الله على رسوله بالحق. أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما حدث، وفي ذلك إشعار أن ما بأيدي أهل الكتاب مخلوط، وفي الآية كذلك خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى تأكيد رسالته، وتقريرها. كيف ومثل هذه الآيات تشهد على رسالته، حيث يخبر بها من غير أن يقرأ كتابا، أو يسمع من أهل الكتاب. وفي الآية الثانية: إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة، من آدم إلى داود، والتي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله عزّ وجل فضل بعض الرسل على بعض، وخص بعضهم بخصائص. فمنهم من كلمه، كموسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رفعه درجات على غيره. كأولي العزم من الرسل مثلا. ومن هذه الخصوصيات، ومن هذا الرفع، ما آتاه عيسى من الحجج، والدلائل القاطعات على صحة ما جاء به بني إسرائيل، تأييده بجبريل عليهما السلام. ثم يبين الله عزّ وجل أن الاقتتال الكائن بين البشر بمشيئته. وكذلك اختلافهم بمشيئته. وهذا لا ينفي الاختيار. فالحجة قائمة على من ظلم، وكفر، ولكن مشيئة الله، وإرادته محيطتان بكل شئ لا يخرج شئ عن مشيئته وإرادته، لأنه لا خالق سواه. وإذا كان الاختلاف قد وصل إلى درجة الكفر، فلا بد من قتال. هكذا شاء الله. وهو يفعل ما يريد. والحكمة في ذلك ما مر، أنه لولا القتال لفسدت الأرض، وإذن فيا أهل الإيمان قاتلوا من كفر. وهاهنا لا بد من توضيح قضيتين: الأولى أن الذين جاءتهم البينات من أمم الأنبياء

كلمة في السياق

انقسموا قسمين بعد أنبيائهم، فمنهم من كفر، ومنهم من آمن. فكان لا بد من قتال. وإن الأمة الإسلامية بعد رسولها، قد وقع لها ما وقع لغيرها. فلا بد من قتال. إنه يوجد الآن على الأرض الإسلامية مؤمنون، وكافرون. والكافرون من أبناء المسلمين أنفسهم. فلا بد إذن من قتال لهؤلاء. والقضية الثانية: أن هذه الآية هي التي ختم بها المقطع الأول في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. فكأنها تشير إلى أن المسلمين الذين أمروا بالدخول في الإسلام كله سينقسمون قسمين. قسما يبقى على إيمانه وإسلامه. وقسما سيكفر. وسيكون قتال من أجل ألا يعم الفساد. تلك مشيئة الله. وقد أمر أهل الإيمان أن يفعلوا وقتال المرتدين مقدم على أي قتال آخر. وحفظ رأس المال مقدم على التفكير في الربح. كلمة في السياق: إن الآية قبل الأخيرة جاءت تعليقا على المجموعتين الأوليين في الفقرة. فكلا المجموعتين السابقتين، كان فيها خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَلَمْ تَرَ. لتأتي هذه الآية مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤكدة أن ما أنزل عليه حق، ومؤكدة رسالته بمناسبة ذكر هاتين القصتين المجهولتين، إلا عند أهل الكتاب. وإذا كانت المجموعتان السابقتان مرتبطين بالسياق العام كما رأينا فهذه الآية كذلك لها علاقة بالسياق العام من حيث إنه ما دام ما ينزله الله حقا، وما دام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من الدخول في دينه كله، الإسلام جميعا. وإذ ذكرت الآية الأولى أن محمدا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، تأتي الآية الثانية لتبين مقامات الرسل، وخصوصيات بعضهم. وأن الجميع جاءوا بالبينات. وأن الأتباع منهم من آمن، ومنهم من كفر، ومن ثم كان القتال. ومن ثم كان هذا القتال بمشيئة الله، ومن ثم نعلم حكمة فرضية القتال علينا. فإذ أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وجاء بالبينات، فعلى الخلق جميعا متابعته، ومن لم يتابع فقد استحق أن يقاتل، فإما أن يسلم، وإما أن يخضع بدفع الجزية. ومن أسلم وارتد فجزاؤه القتل، وإذا سيطر المرتدون. فعلى من يستطيع قتالهم أن يقاتلهم. المعنى الحرفي: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ: الإشارة في (تلك) إلى ما سبق هذه

[سورة البقرة (2): آية 253]

الآية في المجموعتين السابقتين. بدليل أن كلا من المجموعتين بدئ بتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ وهذه الآية يتوجه الخطاب فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن في كل من المجموعتين ذكرت خارقة للعادة. ومعنى نتلوها: نقصها. والحق: هو الأمر المطابق للواقع. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ: بدليل ما تخبر به من الحق الذي ما كنت لتعرفه، لولا أنك رسول من عند الله، وأن الله يوحي إليك تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى المرسلين الذين منهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ: بالخصائص، وراء الرسالة. فهم يستوون في الرسالة، ويتفاوتون بالفضل كالمؤمنين. يستوون في صفة الإيمان، ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أي: منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير، كموسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك آدم، ورد في تكليم الله إياه حديث في صحيح ابن حبان عن أبي ذر. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء. فكان بعد تفاوتهم في الفضل، أفضل منهم بدرجات كثيرة. وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ إنه مفضل على كافة الرسل، بإرساله إلى الخلق عامة. وبأنه خاتم النبيين، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة، المتزايدة على الدهر. وفي إبهامه، وعدم ذكره صراحة، تفخيم، وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد. والمتميز الذي لا يلتبس صلى الله عليه وسلم. وقد يكون المراد تفاوت منازلهم عند الله. وقد يكون المراد اختلاف منازلهم الآن، كما ورد في حديث الإسراء. حيث إن بعضهم في السماء الدنيا، وبعضهم في الثانية، وهكذا. والله أعلم. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي: الحجج، والدلائل القاطعات. كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وغير ذلك. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي: قويناه بجبريل. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: ولو شاء الله ما اختلف الذين من بعد الرسل، فاقتتلوا. والقتال سببه الاختلاف. فذكر في الآية المسبب. فدخل السبب ضمنا. ولذلك فسرنا اقتتلوا باختلفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي: من بعد ما جاءتهم المعجزات، والآيات الواضحات كان المفروض ألا يختلفوا. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ كان المفروض ألا يختلفوا لوضوح الحق، ولكنهم اختلفوا. ثم بين الاختلاف بأن آمن بعضهم، وكفر الآخر. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أي: لو شئت ألا يقتتلوا لم يقتتلوا. إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي. ثم أثبت- سبحانه- الإرادة لنفسه. وأثبت أن إرادته- تعالى- مطلقة.

فوائد

فوائد: 1 - أثبت الله عزّ وجل في الآية الأخيرة تفاضل الأنبياء. فما الجمع بين هذه الآية والحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: «استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده، فلطم بها وجه اليهودي فقال: أي خبيث. وعلى محمد صلى الله عليه وسلم. فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى على المسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش. فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور؟. فلا تفضلوني على الأنبياء». وفي رواية: «لا تفاضلوا بين الأنبياء». قال ابن كثير: (فالجواب من وجوه. أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. وفي هذا نظر .. الثاني: أن هذا ما قاله من باب الهضم والتواضع. الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم. وإنما هو إلى الله عزّ وجل. وعليكم الانقياد، والتسليم له، والإيمان به). 2 - إن أوسع المخلوقات مشيئة هو الإنسان. ومع ذلك فإن مشيئته مقيدة بعالم الأسباب، فهو لا يستطيع ألا يتنفس؛ وهو مقيد بقوانين هذا العالم؛ ومشيئته لا تنفذ إلا ضمن استطاعته التي أعطاه الله إياها، ومشيئته يمكن أن تعاكسها مشيئات الآخرين. والذات الإلهية منزهة عن هذا كله، مشيئته تعالى غير مقيدة، ومشيئته نافذة. ومشيئته لا يمكن أن تعاكسها مشيئات الآخرين، وإن من يتصور غير هذا يكون قد شبه مشيئة الله بمشيئة خلقه. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أنه لا شئ إلا بمشيئة الله. وهذه الآية تشهد بما لا يقبل جدلا على صحة هذا المذهب، ولكن كيف نجمع بين كون كل شئ بمشيئة الله وبين اختيار الإنسان. بين كون أفعال الإنسان بمشيئة الله، ومع ذلك فالله يحاسبه عليها؟. والجواب أن عموم المشيئة لا يتعارض مع الاختيار فالقاعدة أن مشيئة الله على وفق علمه، مع اعتقادنا أزلية العلم والمشيئة. والعلم كاشف، لا مجبر. فالله عزّ وجل علم، وأراد، والعلم كاشف لا مجبر فكون الله عزّ وجل علم ما سيفعله فلان بمحض اختياره، وأراده، وأبرزه بقدرته، فذلك شأنه، ولا يسأل عما يفعل. ولا يعني هذا أنه أجبر. فالإنسان مختار، يشهد على ذلك إرادته،

كلمة في الفقرة والمقطع

وعقله. وإرسال الله له الرسل، وهو يحاسب على هذا الاختيار. وهذا الكلام في مثل هذا المقام يكفي. ومن أوسع أبواب الضلال، قياس شأن الخالق، على حال المخلوق والحمد لله رب العالمين. كلمة في الفقرة والمقطع: كنا ذكرنا من قبل أن القسم الثالث في سورة البقرة يتألف من مقطعين. وقد انتهى معنا عرض المقطع الأول، وقد رأينا أن المقطع الأول يتألف من أربع فقرات، ورأينا أن التكليف التفصيلي الأول فيه كان في شأن القتال، وكان في آخر آية في المقطع ذكر لسبب من أسباب القتال. فاجتمع في المقطع في بدايته، ووسطه، ونهايته كلام عن القتال، وأسبابه، وبعض أحكامه. وقد حدثنا المقطع بعد مقدمته الواعظة عن أحكام كثيرة، ونبهنا إلى أشياء كثيرة. وكلها جاءت في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان. فعرفنا أحكاما في شأن الخمر، والميسر، واليتامى، والإنفاق، والزواج، والحياة الزوجية، والإيمان، والإيلاء، والطلاق، والخلع، وواجبات الزوجة المتوفى عنها زوجها، ووجوب المحافظة على الصلوات الخمس، والصلاة حال القتال. وعرفنا أن الطريق للخروج من الضياع، والقهر، والغلبة هو الإمرة المؤمنة ذات الخصائص المناسبة، والقتال. وكما أن للقتال محله في إقامة الإسلام، فإن للإنفاق محله في هذا الشأن. ولذلك رأينا ذكرا للإنفاق في مقدمة السورة، وذكرا له في المقطع الأول من القسم الثاني. وكذلك في المقطع الثالث. ورأينا ذكرا له في المقطع الأول من القسم الثالث ورأينا تلازم الحديث عن القتال مع الحديث عن الإنفاق في كثير من المواطن، فاتضح لنا محل الإنفاق في التقوى، ومحله في إقامة الإسلام كله. وهذا يقتضي تفصيلا في شأنه. ومن ثم فإن الفقرة الأولى في المقطع الثاني من هذا القسم كانت حديثا عن الإنفاق في سبيل الله وحديثا عن مرتكزاته من إيمان بالله، واليوم الآخر. إن المقطع القادم، وهو المقطع الثاني من القسم الثالث يتحدث عن قضايا مالية في فقرات ثلاث. والفقرة الأولى منه في الإنفاق بعد أن قدمت السورة لذلك بأن عرفتنا على محل الإنفاق في دين الله. إن في قضية التقوى، أو في قضية إقامة الإسلام كله وترك اتباع خطوات الشيطان. فإلى المقطع الثاني من القسم الثالث.

المقطع الثاني من القسم الثالث

المقطع الثاني من القسم الثالث: يمتد هذا المقطع من الآية (254) إلى نهاية الآية (284). حيث تأتي بعده مباشرة خاتمة السورة. ويتحدث هذا المقطع عن ملامح النظام المالي في الإسلام. فالنظام المالي في الإسلام نظام زكوي، غير ربوي. ذو معاملات منضبطة بقيود الشرع. والفقرة الأولى في هذا المقطع تتحدث عن الإنفاق، والفقرة الثانية تتحدث عن الربا، والفقرة الثالثة تتحدث عن الدين، ويختم المقطع بآية تعلن أن المالكية لله، وأن الله سيحاسب. وبين آيات الإنفاق يأتي حديث عن الإيمان بالله، واليوم الآخر. فهو يبدأ بالأمر بالإنفاق، ثم يتحدث عن الإيمان بالله، واليوم الآخر، ثم يرجع الحديث إلى الإنفاق. وهكذا حتى تتم الفقرة الأولى. فيأتي حديث عن الربا، ثم تأتي آية الدين، فآية أخرى، فالآية الأخيرة. الآية الأولى في المقطع: أمر بالإنفاق مما رزق الله، والآية الأخيرة فيها إعلان المالكية لله؛ فبين الآية الأولى والأخيرة صلة واضحة وفي سياق الكلام عن الله، واليوم الآخر، يأتي كلام عن الحرية الدينية، وبذلك فإن هذا المقطع، والذي قبله يحدثنا عن أهم الأمور في حياة الإنسان: قضايا الأسرة، والقتال، والسياسة، والاقتصاد، والحياة العامة. وكل ذلك يأتي في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. الفقرة الأولى من المقطع تمتد هذه الفقرة من الآية (254) إلى نهاية الآية (274) وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 254 الى 274] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: تبدأ الفقرة بالأمر بالإنفاق، ثم يأتي كلام عن الله تعالى، هو أروع كلام عن الله عرفته البشرية. وكأنه بمثل هذه الروعة في الحديث عن الله تقوم الحجة على كل إنسان، ومن ثم يأتي النهي عن الإكراه على الدين؛ لأن الحجة قد قامت على الإنسان. ثم يأتي كلام عن الله، وكلام عما تقوم به الحجة في شأن اليوم الآخر، ثم يعود الكلام إلى الحديث عن الإنفاق. ومجئ الكلام عن الله، والتدليل على اليوم الآخر، مرتبط بطرفي الفقرة. أي بالإنفاق. وذلك واضح. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «والصدقة برهان». برهان على ماذا؟. برهان على الإيمان بالله واليوم الآخر، فالمال حبيب للنفس، وهو عديل الروح

المعنى العام

كما يقولون. فما لم يعرف الإنسان الله فيحبه. وما لم يؤمن باليوم الآخر فيحب العمل من أجل الثواب فيه، فإنه يصعب عليه أن ينفق. ومن ثم كان الحديث عن الله في هذه الفقرة أعظم منه في أي مكان آخر من كتاب الله. أليس فيه آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله. إن من يقرأ هذه الفقرة ملاحظا البداية والنهاية والوسط سيجد نفسه مندفعا للإنفاق. ولقد رأينا أولى آيات سورة البقرة هي: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وفيما مر من السورة، مرت تفصيلات كثيرة حول الصلاة. وهاهنا تأتي تفصيلات كثيرة حول الإنفاق وقد أخر الكلام عن الإنفاق ليكون بجانب ما يقابله من أكل الربا، وليكونا بجانب الحديث عن ضرورة الضبط في المعاملات، ومجئ ذلك كله في أواخر السورة يشعر بالاحتياجات التربوية الكثيرة للنفس البشرية، لتستقيم على أمر الله في شأن المال. ومجئ ذلك كله في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله يشعر بأنه ما لم يقم أمر المال على شرع الله فإن الناس لا يكونون قد دخلوا في الإسلام كله. وفي مثل هذا وغيره، تظهر دقائق من أسرار الإعجاز لمن عقل. ولنبدأ عرض الفقرة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ المعنى العام: يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله، سبيل الخير، ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم، ومليكهم. وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا من قبل أن يأتي يوم القيامة، يوم لا يباع أحد من نفسه، ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبا. ولا تنفعه صداقة أحد، أو نسابته، أو شفاعته؛ إن كان كافرا. ثم يقرر الله أنه لا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ: هذا أمر عام بالإنفاق في الجهاد،

كلمة في السياق

والإنفاق الواجب كالزكاة، وصدقة الفطر، والنفقة على من تجب إعالتهم، وعلى من عرفت حاجتهم، وغير ذلك من النفقات الواجبة ودخل في ذلك الإنفاق النافلة. لأن الأمر كان بالإنفاق مما رزقنا الله، وليس كل ما رزقنا الله إياه أوجب فيه نفقة مفروضة. ومن هنا نفهم حكمة تأخير هذه الفقرة. إذ جاءت بعد أن عرضت علينا السورة صورا من الإنفاق الواجب والمندوب. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ الخلة: الصداقة. والشفاعة للمؤمنين ثابتة بنصوص كثيرة. فالشفاعة المنفية في هذا اليوم إنما هي الشفاعة للكافرين، أو أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي لم يأذن بها. فصار المعنى: أنفقوا من قبل أن يأتي يوم القيامة. يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق. لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه. ولأنه لا صداقة بين كافر وكافر. فالجميع يتبرءون من بعضهم، والجميع لا مقام لهم عند الله، فينتفعون من صداقتهم، ولأنه لا شفاعة يومئذ تنفع عنده إلا بإذنه. ولم يأذن أن يشفع لكافر. فإذا كان الأمر كذلك فأنفقوا لله، وفي سبيله، وفي محال الإنفاق، لا تراعوا في ذلك إلا أن يكون ذلك لوجه الله خالصا فهذا وحده ينفعكم. وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: والكافر هو الظالم نفسه، بتركه التقديم ليوم حاجته. حصر الله عزّ وجل الظلم بأهل الكفر، لأنه لا أظلم منهم في موافقهم من ربهم، ودينه، ورسله، وأهله. ولا أظلم منهم لأنفسهم، إذ أوردوها النار. وأي شئ أفظع من النار: السجن الأبدي للكافرين. وإن في هذه الآية لدواء لمن مرض قلبه بالإعجاب بالكافرين وبعدالتهم فالكافر هو الظالم مهما ظهر على يده من بعض حيثيات العدل قال عطاء بن دينار: (الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون. ولم يقل والظالمون هم الكافرون). لأنه لا يوجد من لا يظلم نفسه نوع ظلم إلا من عصم الله. كلمة في السياق: 1 - تذكرنا هذه الآية أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ بقوله تعالى في أول سورة البقرة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فإذا كانت هذه الفقرة لها علاقة بالإنفاق، فإننا ندرك سرا من أسرار السياق. إذ نجد في هذه الفقرة تفصيلا لما أجمل في بدايات سورة البقرة. 2 - نحب أن نذكر بمعنى طرقناه أكثر من مرة. هو أننا إذا نظرنا إلى بعض الآيات من خلال السياق العام، فإنها تدلنا على معان، وإذا نظرنا إليها منفردة تدلنا على معان، وإذا نظرنا إلى كلمة منها على انفراد نأخذ معان، وهكذا جعل الله كتابه، لا تنتهي

حديث وتعليق

معانيه. نقول هذا بمناسبة أننا قلنا إن الكلام عن الله، وأدلة اليوم الآخر، قد جاء بين الأمر بالإنفاق قبله، والحض على الإنفاق بعده. لأن موضوع الإنفاق في سبيل الله مرتبط بالإيمان بالله، واليوم الآخر. فغير المؤمن بالله واليوم الآخر لا ينفق إلا إذا عاد عليه الإنفاق بمنفعة ما. أما المؤمن، فإنه ينفق لأن الله أمر. ولأن الله سيثيبه في الدنيا والآخرة على ما أنفق. إننا عند ما ننظر إلى الآيات الواردة بين آيات الإنفاق، نجد في كل آية على انفراد معاني في موضوعها، ذات دلالات زائدة على ما نفهم من محلها في السياق. وإن كانت تخدم غرضه فلنلاحظ هذا كله فيما يأتي. ولنلاحظ كيف تخدم الآية السياق القريب، والسياق العام. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ من كان هذا شأنه ألا ينفق الإنسان في سبيله، ومن كان هذا شأنه كيف لا يدخل الإنسان في دينه. إذا فهمنا هذه العبارة، أدركنا حكمة مجئ هذه الآية بين قوله تعالى: أَنْفِقُوا. وبين قوله تعالى بعدها: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وإذا أدركنا مجيئها في سياق الدخول في الإسلام كله فالذين لا يعرفون الله، هم الذين يظنون أنه لا دخل لله في شئون عباده، أو أن تشريعه ليس هو الأكمل. كيف وهو القيوم، المحيط علما. حديث وتعليق: روى مسلم والإمام أحمد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أي آية في كتاب الله أعظم»؟. قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارا، ثم قال: آية الكرسي. قال صلى الله عليه وسلم: «ليهنك العلم أبا المنذر». وعند أحمد زيادة: «والذي نفسي بيده، إن لها لسانا وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش». وإنما كانت أعظم آية في كتاب الله لاشتمالها على توحيد الله وتعظيمه، وتمجيده، وصفاته العظمى، بما لم يجتمع في آية أخرى. ولا مذكور أعظم من رب العزة. فما كان ذكرا له، كان أفضل من سائر الأذكار. ومن ثم نعلم أن أشرف العلوم، علم التوحيد. وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة، فيها خمسة معان رئيسية. وإنما

المعنى الحرفي

ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف، لأنها وردت على سبيل البيان. القسم الأول منها بيان لتوحيده وقيامه بتدبير خلقه، وكونه مهيمنا عليه، غير ساه عنه والثاني: بيان لكونه مالكا لما يدبره. والثالث: بيان لكبرياء شأنه. والرابع: بيان لإحاطته بأحوال خلقه. والخامس: بيان لسعة علمه، وتعلقه بالمعلومات كلها، وتعريف على جلاله، وعظم قدره. المعنى الحرفي: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: هذا إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق. الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبدا، الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء. والدائم القيام بتدبير خلقه، وحفظه. فهو قائم بنفسه، غير مفتقر لغيره. وأما غيره فقائم به، مفتقر إليه. فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها. ولا قوام لها بدون أمره. وجودها مفتقر إليه، وصفاتها مفتقرة إليه، واستمرارها مفتقر إليه. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة: هي النعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور، ومعنى لا تأخذه أي لا تغلبه، والنوم أقوى من النعاس، وقد نفى هذا، وهذا وذلك توكيد للقيوم لأن من جاز عليه النعاس، والنوم، استحال أن يكون قيوما. فهو جل جلاله لا يعتريه نقص، ولا غفلة، ولا ذهول عما خلقه. بل هو قائم على كل نفس بما كسبت. شهيد على كل شئ، لا يغيب عنه شئ، ولا تخفى عليه خافية، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: هذا إخبار بأن الجميع ملكه، وملكه. فالجميع عبيده، وتحت قهره وسلطانه. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ: أي ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه. وهذا من عظمته، وجلاله، وكبريائه. فلا يتجاسر أحد أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كما في حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش فأخر له ساجدا. فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع. قال: فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة». يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي: يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم. والضمير لما في السموات والأرض. ولم يقل: أيديها، وخلفها، لأن فيهما العقلاء. وفي هذا التعبير بيان لإحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها. ما من حركة إلا وهو يعلم ما قبلها، وما بعدها. ولا شئ إلا ويعلم ما قبله وما بعده. فسبحانه سبحانه. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ: المراد بالعلم هنا، المعلوم. فصار المعنى: لا يطلع أحد من

فوائد

علم الله على شئ إلا بمشيئة الله، وتعليمه. فما عرفه الإنسان من عالم الغيب، وما عرفه الإنسان من عالم الشهادة، وقوانين هذا الكون، وكيفية تسخيره، إلا بمشيئة الله، وتعليمه. فهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم. وهو الذي علم كل شئ ما علم. وهناك وجه آخر. قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شئ من علم ذاته وصفاته، إلا بما أطلعهم الله عليه. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: للعلماء في تفسير الكرسي هنا أقوال. منهم من فسره بالعلم، ومنهم من فسره بالعرش، ومنهم من فسره بمخلوق عظيم محيط دون العرش، ومنهم من فسره بالقدرة، ومنهم من فسره بالملك. وقد قدم ابن كثير ذكر تفسير الكرسي هنا بالعلم، نقلا عن ابن عباس. ومن عادته في هذه الحالة، أن يقدم الأرجح عنده. ثم نقل قول ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب مثله. ونستطيع أن نقول: إن أجود ما يفسر به الكرسي، إن أخرجناه عن لفظه هذا التفسير. وإما إذا لم نخرجه عن لفظه، فأجود ما يقال فيه، ما قاله ابن كثير، والصحيح، أن الكرسي غير العرش. والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وإذن صار معنى النص على القول الأول: أحاط علمه السموات والأرض. وعلى القول الثاني: إن كرسيه الذي هو دون العرش، محيط بالسماوات، والأرض. ومن كان مثل هذا خلقه، ما أعظمه. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي: لا يثقله، ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض، ومن فيهما، وما بينهما. بل ذلك سهل عليه، يسير لديه. وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شئ، ولا يغيب عنه شئ. والأشياء كلها متواضعة، ذليلة بين يديه، صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة، فقيرة. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ العلي في ملكه وسلطانه، العظيم في عزه وجلاله. أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به. العظيم المتصف بالصفات التي تليق به. فهما جامعان لكمال التوحيد. قال ابن كثير: (فقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ كقوله: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح، الأجود فيها طريقة السلف الصالح. أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه). فوائد: 1 - روى الحافظ أبو يعلى وغيره عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة. قال: فعظم

الرب تبارك وتعالى، وقال: «إن كرسيه وسع السموات والأرض. وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله» وقال ابن كثير: عبد الله بن خليفة ليس بذاك المشهور. وفي سماعه عن عمر نظر. وقال كذلك عن هذا الحديث: (وعندي في صحته نظر). نقلنا هذا الحديث، وتعليقات ابن كثير عليه، لئلا يظن ظان، أن هذا الحديث صحيح لاعتماده من قبل بعض المفسرين. 2 - أخرج ابن مردويه، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده. ما السموات السبع، والأرضون السبع عند الكرسي. إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة». 3 - عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة، آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت». رواه النسائي وابن حبان، قال ابن كثير عن إسناد ابن حبان: فهو إسناد على شرط البخاري. وخطأ من زعم أن الحديث موضوع. 4 - روى الإمام أحمد، والترمذي- وقال حسن صحيح-، وأبو داود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: في هاتين الآيتين: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «إن فيهما اسم الله الأعظم». 5 - نقل ابن كثير، بمناسبة آية الكرسي، ثلاث وقائع متشابهة. وقعت لأبي أيوب، ولأبي بن كعب، ولأبي هريرة. نكتفي بنقل واقعة أبي هريرة التي ذكرها البخاري، تعليقا بصيغة الجزم. ورواها النسائي: قال أبو هريرة: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان. فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك البارحة؟». قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته وخليت سبيله. قال: «أما إنه كذبك، وسيعود». فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. «أنه سيعود» فرصدته، فجاء يحثو من الطعام. فأخذته، فقلت:

لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني، فإني محتاج، وعلي عيال، فرحمته، وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته وخليت سبيله فقال: «أما إنه كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات، تزعم أنك لا تعود، ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية. فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شئ على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاثة يا أبا هريرة؟.» قلت: لا. «قال ذاك شيطان»). 6 - روى الإمام أحمد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته، فقال: «أي فلان: هل تزوجت؟ قال: لا. وليس عندي ما أتزوج به. قال: «أوليس معك قل هو الله أحد؟». قال بلى. قال: «ربع القرآن. قال: أليس معك إذا زلزلت؟ قال: بلى. قال: «ربع القرآن. قال أليس معك إذا جاء نصر الله؟» قال: بلي. قال: «ربع القرآن». 7 - روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست، فقال: «يا أبا ذر: هل صليت؟. قلت: لا. قال: «قم فصل». قال: فقمت، فصليت، ثم جلست. فقال: «يا أبا ذر: تعوذ بالله من شر شياطين الإنس، والجن». قال: قلت يا رسول الله: أو للإنس شياطين؟. قال: «نعم». قال: قلت يا رسول الله: الصلاة؟. قال: «خير موضوع. من شاء أقل، ومن شاء أكثر». قال: قلت يا رسول الله! فالصوم؟. قال: «فرض مجزي وعند الله مزيد». قلت: يا رسول الله! فالصدقة؟. قال: «أضعاف مضاعفة» قلت: يا رسول الله! فأيها أفضل؟. قال: «جهد من مقل. أو سر إلى فقير». قلت: يا رسول الله: أي الأنبياء كان أول؟. قال: «آدم». قلت: يا رسول الله: ونبي كان؟. قال: «نعم نبي مكلم». قلت: يا رسول الله: كم المرسلون؟ قال: «ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا- وقال مرة: وخمسة عشر-». قلت: يا رسول الله: أي ما أنزل عليك أعظم؟. قال: آية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ورواه النسائي.

سبب النزول

8 - ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ الحديث الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: «إن الله لا ينام. ولا ينبغي عليه أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار. حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». ثم ذكر ابن كثير روايات إسرائيلية، نبه عليها. وبعضها منسوب كذبا لرسولنا صلى الله عليه وسلم. من هذه الروايات ما فيه سؤال من موسى للملائكة: (هل ينام الله)؟. قال ابن كثير: وهو من أخبار بني إسرائيل. وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عزّ وجل. فإنه منزه عنه. والذي نقوله بهذه المناسبة: إن الروايات عن بني إسرائيل فيها من سوء الأدب مع الله ورسله الكثير، وفيها من الجهل بالله ورسله الكثير. فإذا ما أردنا أن ننقل، فلننقل مع البيان الناصع، والرد القاطع، أو فلننقل ما يتفق مع الحق، مع عزوه إلى مصادره، دون أن نحمل أنفسنا مسئوليته. وأجود ما نقله ابن كثير في هذا الموضوع مما لا يتنافى مع عصمة الأنبياء ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟. قال: اتقوا الله. فناداه ربه عزّ وجل: يا موسى: سألوك هل ينام ربك. فخذ زجاجتين في يديك. فقم الليلة. ففعل موسى. فلما ذهب من الليل ثلث، نعس. فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما. حتى إذا كان آخر الليل، نعس، فسقطت الزجاجتان، فانكسرتا. فقال: يا موسى: لو كنت أنام، لسقطت السموات والأرض، فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك». قال ابن عباس: فأنزل الله عزّ وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي. أي لكي لا يسأل جاهل عن مثل هذا الموضوع. لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كأنه من خلال آية الكرسي قامت الحجة على كل إنسان بهذا الدين. إذ من يستطيع أن يصف الله بهذا الوصف، وبمثل هذا الكمال إلا الله. فجاءت هذه الآية. سبب النزول: روى ابن جرير، وأبو داود، والنسائي عن ابن عباس قال:

المعنى العام

كانت المرأة تكون مقلاة، فتجعل على نفسها، إن عاش لها ولد، أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار. فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عزّ وجل: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. المعنى العام: يقول تعالى: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام. فإنه بين واضح. جلية دلائله وبراهينه. لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة. ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه، وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. ثم بين الله عزّ وجل أنه من خلع الأنداد، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله. ووحد الله فعبده وحده. وشهد أن لا إله إلا هو فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريقة المثلى، والصراط المستقيم، واستمسك من الدين بأقوى سبب، لا ينفصم أبدا. ثم وصف الله ذاته بالسمع والعلم. فهو سميع يسمع كل شئ فيسمع من آمن ولمن آمن عليم باعتقاد الجميع. المعنى الحرفي: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أي: لا إجبار على الدين الحق، وهو دين الإسلام. فليس الإكراه على دين الله من دين الله. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي: تميز الهدي من الضلال. قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ: الطاغوت: من الطغيان. وهو كل ما جاوز الحد. والشيطان هو وراء كل تجاوز للحد. فالكفر به، كفر بكل شر عليه البشر من شرك بالله، أو احتكام لغير الله، أو استنصار بغير الله. والكفر بالطاغوت: رفضه، واحتقاره، وازدراؤه، وعدم طاعته، وإهانته. وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويصدق به حق التصديق. بإعطاء ذلك لوازمه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الوثقى: تأنيث الأوثق. والأوثق: هو الأشد. واستمسك، بمعنى: تمسك. والعروة: هي المعتصم، والمتعلق. وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد

فوائد

المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده. والمعنى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد عقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا، لا تحله شبهة. لَا انْفِصامَ لَها أي: لا انقطاع لهذه العروة التي تمسك بها من آمن بالله، وكفر بالطاغوت شبه من آمن بالله، وكفر بالطاغوت، بالمستمسك بالعروة القوية التي لا تنفصم. لأنها في نفسها محكمة مبرمة، قوية. وربطها قوي شديد. ودخل في الإيمان بالله، الإيمان برسوله، وكتابه، ودينه. لأن ذلك كله من لوازم الإيمان. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: يسمع كل شئ، ويعلم كل شئ. فأسمعوه من أنفسكم خيرا، وأحكموا أمر الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت. فوائد: 1 - لاحظنا أن الاستمساك بالعروة الوثقى، كفر بالطاغوت، وإيمان بالله. وقد ذكر في الآية، الكفر بالطاغوت مقدما على الإيمان بالله، لغموض هذا الجانب في حياة الناس. وهكذا قال المربون الإسلاميون: التخلية، ثم التحلية. وبقدر ما تتخلى، تتحلى. بقدر ما يكون الكفر بالطاغوت قويا، يكون الإيمان قويا. 2 - من المعلوم أن هناك اتفاقا بين الفقهاء، أن العربي الوثني لا يقبل منه إلا الإسلام، أو القتل. وأما الذمي العربي، فيجوز أن تؤخذ منه الجزية. ولكنه لا يقر في جزيرة العرب. أما غير العرب، فإنه يعرض عليهم الإسلام، أو الجزية، أو القتال. على خلاف حول غير اليهود والنصارى. والشئ الذي تم عليه العمل خلال العصور، هو ما ذكرناه. ونتيجة لهذه الأحكام، وجد من يقول إن آية: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ منسوخة. والمسألة مرتبطة بموضوع تخصيص العام هل يعتبر نسخا أو بيانا. ومن الناحية العملية، لا يترتب على هذا الاختلاف شئ. فالقتال شئ، والإكراه على الدخول في الإسلام شئ آخر. أمرنا أن نقاتل الكافرين، وحرم علينا إكراههم، إلا عربيا وثنيا. فهذا ليس أمامه إلا الإسلام أو القتل لأن الحجة في حقه أظهر. 3 - قال عمر رضي الله عنه «إن الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان. وإن الشجاعة والجبن غرائز، تكون في الرجال. يقاتل الشجاع عمن لا يعرف. ويفر الجبان من أمه. وإن كرم الرجل دينه، وحسبه، وخلقه، وإن كان فارسيا، أو نبطيا» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

4 - في الحديث الصحيح: «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل». وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أسلم». قال: إني أجدني كارها. قال: «وإن كنت كارها». قد يفهم فاهم أن هذين الحديثين يتنافيان مع قوله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وليس هذا صحيحا. فالحديث الأول في الأسارى الذين يقدم بهم إلى بلاد الإسلام في الوثاق، والأغلال، والقيود، والأكبال. ثم بعد ذلك يسلمون، وتصلح أعمالهم، وسرائرهم. فيكونون من أهل الجنة. وليس في الحديث ما يدل على الإكراه. وأما الحديث الثاني فليس فيه ما يدل على الإكراه. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام. فأخبره بأن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له: أسلم وإن كنت كارها فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص. 5 - عن عبد الله بن سلام: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء. قال ابن عون: فذكر خضرتها، وسعتها- وفي وسطها عمود حديد. أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء. في أعلاه عروة. فقيل لي: اصعد عليه. فقلت: لا أستطيع. فجاءني منصف- قال ابن عون: هو الوصيف- فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة. فقال: استمسك بالعروة فاستيقظت، وإنها لفي يدي. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما الروضة، فروضة الإسلام. وأما العمود، فعمود الإسلام. وأما العروة، فهي العروة الوثقى. أنت على الإسلام حتى تموت». أخرجاه في الصحيحين. ومن ثم كان الصحابة يقولون عن عبد الله بن سلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. 6 - كنا ذكرنا قبل تفسير آية الكرسي شيئا عن الصلة بين آية الكرسي، وهذه الآية فبعد أن ذكر الله في آية الكرسي صفاته العليا بهذا البيان، ناسب أن يبين أن الإيمان به، والكفر بالطاغوت هو المقام الصحيح. وأن هذا ينبغي أن يكون على طواعية. لأن الأمر أوضح من أن يكون ملتبسا .. فالله غني عن خلقه، لا يريد استكراههم، وهو سيحاسبهم. 7 - في كتابنا (الله جل جلاله) رأينا كيف أن ظواهر الكون تدلنا على الله وصفاته بمحض التفكر. ورأينا أن ما دلتنا عليه ظواهر الكون عقلا، هو الذي يتفق مع ما ورد في الإسلام نقلا في هذا الموضوع. فالكلام عن الله عزّ وجل في الكتاب الكريم بمثل هذا

المعنى العام

الكمال هذا وحده دليل على أن هذا الدين، دين الله. وأن هذا القرآن، كتابه. ونلاحظ هنا ما يلي: بعد أن جاءت آية الكرسي التي هي أجمع آية في كتاب الله لصفاته. وكان فيها هذا البيان الرفيع لشأن الله العظيم. بمثل هذا الإعجاز البالغ جاء قوله تعالى بعدها لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فقوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ بعد آية الكرسي، فيه إشارة عظيمة لما ذكرناه من أن الكلام عن الله بمثل هذا البيان، والكمال، دليل وحده، وحجة كاملة في أن هذا الكتاب كتابه، وأن هذا الدين دينه. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. المعنى العام: يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر، والشك، والريب، والشهوة، إلى نور الحق، الواضح، الجلي، المبين، السهل، النير. وأن الكافرين، إنما وليهم الشيطان، يزين لهم ما هم فيه من الجهالات، والضلالات، واتباع الشهوات. ويخرجهم، ويحيد بهم عن طريق الحق، إلى الكفر، والإفك. فجزاؤهم على ذلك: الخلود الأبدي في النار. والملاحظ أنه وحد النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة. المعنى الحرفي: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: الله يتولى أمور مريدي الإيمان، يوفقهم ويرعاهم، وينصرهم. ومن ذلك: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: يخرجهم من كل ظلمة إلى نور الإيمان والهداية. وجمعت الظلمات، لأنها كثيرة: ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الشهوة، وظلمة البدعة. وهذه بشارة لمريدي الإيمان بأن الله يخرجهم من الشبه إن وقعت لهم بما يهديهم، ويوفقهم له من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي: ومريدو الكفر، والمصممون عليه، يتولى أمورهم الشياطين. وكون الطاغوت خبرا لجمع، فإنه يدل على جمع. فما أكثر شياطين الإنس والجن الذين شأنهم مع هؤلاء المصممين للكفر، والمريدين له ما أخبر تعالى: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى

فوائد

الظُّلُماتِ أي: يخرجونهم من نور الفطرة، والعقل، والإسلام، إلى ظلمات الشك، والشبهة، والشهوة. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: خلودا أبديا. فوائد: 1 - في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) ذكرنا أن الخروج من الظلمات إلى النور، لا يكون إلا بالله، أخذا من هذه الآية. وذلك بصلاة الله وملائكته علينا، أخذا من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (سورة الأحزاب) وقلنا هناك: إن علينا أن نعمل ما يستدعي صلاة الله وملائكته علينا من الأعمال التي وردت في الكتاب، أو السنة بأنها تستدعي ذلك. كالصبر، والاسترجاع، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس النفس بعد الصلاة، والإنفاق في سبيل الله. 2 - قلنا إن الفقرة الأولى من هذا المقطع مبدوءة بالأمر بالإنفاق، ومنتهية بالحض على الإنفاق. ويتوسط فيها كلام عن الله، وأدلة اليوم الآخر، لصلة ذلك بالإنفاق. وقد رأينا آية الكرسي تحدثنا عن الله، وهي مبدوءة بكلمة: (الله) وكذلك هذه الآية وبين ذلك آية لا إكراه. فماذا نستطيع أن نضيف هنا حول السياق؟. ا- إن الآية السابقة نهتنا عن الإكراه، وحضتنا على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وهذه الآية تبشرنا أن إرادة ذلك توصلنا إلى الهدى. وإذ كان الهدى متوقفا على الإرادة، فذلك حكمة النهي عن الإكراه على الإسلام. ب- رأينا أن الكمال في الكلام عن الله، وصفاته العليا في آية الكرسي، دليل على أن هذا الكتاب حق من عند الله، فهو دليل إذن على الله أصلا. والآية هذه تدلنا على الله من خلال توفيقه مريدي الإيمان إلى الإيمان، وتسليطه الشياطين على مريدي الكفر، فيضلونهم. ج- وإذا كان الله ولي الذين آمنوا .. أفلا ينبغي أن يبذل هؤلاء المؤمنون أموالهم في سبيله جل جلاله. وإذا كان ربنا كذلك .. أفلا ينبغي أن ندخل في الإسلام كله، ونقيم شرائعه كلها.

المعنى العام

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. المعنى العام: ألم تر يا محمد إلى الذي يجادل إبراهيم في وجود ربه، وربوبيته وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره. وما حمله على هذا الطغيان، والكفر الغليظ، والمعاندة الشديدة، إلا تجبره، وطول مدته في الملك. وكان طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه. فقال إبراهيم: إنما الدليل على وجوده، وربوبيته، ظاهرة الإحياء والإماتة. فظاهرة الإحياء والإماتة تدل على الله بما لا يقبل جدلا، إذ كيف تعلل ظاهرة الحياة، والإماتة بدون الله. وقد تحدثنا في كتابنا (الله جل جلاله) عن ظاهرة الإحياء. وكيف أنها تدل على الله بما لا يقبل جدلا، فليراجع البحث هناك، وقد استدل إبراهيم بهذه الظاهرة على وجود ربه، وربوبيته، لأنها أقرب الظواهر البديهية على وجود ربنا عزّ وجل، فعند ذلك قال المحاج: أنا أحيي وأميت. قال قتادة، ومحمد بن إسحاق، والسدي، وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين، قد استحقا القتل. فآمر بقتل أحدهما، فيقتل. وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل. وليس هذا جوابا لما قال إبراهيم، ولا في معناه، لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت. ولهذا قال إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أي إذا كنت تدعي أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته. فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق. فإن كنت إلها كما ادعيت، فأت بها من المغرب؟. فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام، بهت. أي: أخرس فلا يتكلم. وتلك سنة الله تعالى أنه لا يلهم الظالمين حجة، ولا برهانا. بل حجتهم داحضة عند ربهم، ومن ثم فإن أبسط المؤمنين يقيم الحجة على أكثر الكافرين عنادا. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالرؤية هنا: الرؤية القلبية والعلمية. والمحاجة: هي المجادلة، والمخاصمة، ومجادلته كانت في

فوائد

وجود ربه، وربوبيته التي تقتضي الطاعة والعبودية والخضوع. والاستفهام فيه معنى التعجيب. وأي عجب أكبر من أن يبطر الإنسان النعمة. فبدلا من أن يشكر المنعم، يكفر. وذلك أن سبب محاجة هذا الإنسان، إبراهيم: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي: لأن الله آتاه الملك. أي: إن إيتاءه الملك أبطره، وأورثه الكبر، فحاج إبراهيم. إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ: هذا مضمون الحوار الذي تم بين إبراهيم، ونمرود. فكأن نمرود قال: من ربك؟. فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت قالَ نمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ: يريد- عليه اللعنة- أنه يعفو عن القتل، ويقتل. وجوابه هذا دليل على انقطاعه عن الخصومة، وعجزه عن الجواب. فلما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد، وقتل آخر. كلمه من وجه لا يعاند- وكانوا أهل تنجيم- فقال: إن مقتضى الربوبية: السيطرة، والهيمنة على هذا الكون، بتسخير أجرامه. فإن كنت ربا، فغير حركة الشمس. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ: كلمه بحركة الشمس كما تبدو للناظر فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي: تحير، ودهش. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: لا يوفقهم ولا يلهمهم حجة في مناقشة أهل الحق. فوائد: 1 - دلت الآية على إباحة الكلام في علم التوحيد، والمناظرة فيه. لأنه قال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ ... والمحاجة تكون بين اثنين. فدل على أن إبراهيم حاجه أيضا ولو لم يكن مباحا، لما باشرها إبراهيم عليه السلام. لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام. ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده. وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل. وذا لا يكون إلا بعد المناظرة. فمعرفة الأدلة على وجود الله، ومعرفة الأدلة على بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الأدلة على صحة دين الإسلام، وإقامة الحجة بذلك على الكافرين. كل ذلك مطلوب محمود. وقد جمعنا في ذلك سلسلة الأصول الثلاثة: (الله جل جلاله) و (الرسول صلى الله عليه وسلم) و (الإسلام) من أجل هذا. 2 - محل هذه الآية في السياق واضح. ففي الآيات السابقة حديث عن الله. وفي هذه الآية عرض مناقشة بين رسول وكافر، حول وجود الله، وربوبيته، وقيام الحجة

فصل في عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام والكلام على ما أبهمه القرآن

على الكافر بهذا، وبيان أن الكافر لا حجة له، والكافرون جميعا لا حجة لهم. وخلال ذلك ذكرت ظاهرتان تدلان على الله: ظاهرة الحياة، وظاهرة الهيمنة والتسخير. وكلاهما يدل على الله بما لا يقبل جدلا من عاقل. فالسياق كما نرى، سائر في طريق التعريف بالله، والتدليل على وجوده ضمن سياق الأمر بالإنفاق في سبيله. وبعد الحديث عن الله بشكل مباشر، يأتي حديث عن الله بما يخدم قضية الإيمان باليوم الآخر. فصل في عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام والكلام على ما أبهمه القرآن: لم يقدم لنا علم الآثار شيئا يمكن من خلاله أن نحدد زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والنصوص الإسلامية ساكتة عن هذا الموضوع، والروايات الكتابية لا يمكن الاعتماد عليها في هذا الشأن أو غيره، وقد نقل عباس محمود العقاد في كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء) كل ما توافر أمامه من معلومات حول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن جملة ما نقله كلام كثير من الشراح الذين حاولوا أن يستفيدوا من علم الآثار، مضافا إلى ما ورد في كتب العهد القديم ليلقوا ضوءا على عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فذكر كيف أن بعضهم اعتبر عام (3000) قبل الميلاد هو الزمن الذي وجد فيه إبراهيم. بينما اعتبر بعضهم أن عام (2000) قبل الميلاد كان عصر إبراهيم، وبعضهم اعتبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أحدث عهدا من ذلك، وبعضهم اعتبر أن حمورابي هو الملك الذي دخل في حوار وصراع مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحدد عصره بأنه القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وليس في ذلك كله ما تقوم به الحجة، ويتحدث العقاد عن الكتب المعتمدة عند اليهود، وهي أسفار موسى الخمسة التي يسميها بعضهم التوراة وهي حصيلة دمج ثلاث نسخ، بعضها كتب في أيام المملكة الإسرائيلية، وبعضها كتب في المنفى بين النهرين، وبعضها كتب قبل الميلاد بثلاثة قرون، ومن الكتب المعتمدة عند اليهود ما يسمى بالمشنا، والذي منه التلمود، ويقول العقاد: وقد حصر المشنا في القرن الثاني للميلاد ودونت بعد الاعتماد على الرواية أو التعليقات المتفرقة» و «وزيدت على المشنا في العصور الحديثة كتب من قبيلها تسمى بالتصافوت ... ومعناها الإضافات ... وانتهى تمحيص المشنا القديمة إلى اختيار طائفة من الأحكام المتفق عليها تسمى الجمارة أي التكملة. ومن مرويات المشنا والجمارة تجتمع كتب التلمود ... وتعرف بعض المأثورات الإسرائيلية باسم «المدراش» أو الدراسات».

ولنعد إلى التفسير

ومن كتب المدراش ينقل العقاد بعض قصة إبراهيم، وبعض ما جرى بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام والنمرود، وبعض ما نقله يتفق إلى حد كبير مع ما ذكره القرآن، ولذلك فقد شكك بعضهم أن تكون هذه مترجمة عن العربية، وأيا ما كان الأمر فلا هذه الروايات ثابتة نقلا، ولا هي صالحة حتى للاستئناس لنعرف شيئا ما عن تفصيلات عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو لنعرف شيئا عن الملك الذي حاجه إبراهيم. ومن عدم ذكر القرآن الكريم لتفصيلات هذه الشئون تدرك أن العبرة المرادة من النص لا تحتاج إلى مثلها. وهذا الكلام ينطبق على النص اللاحق وغيره من أمثاله، فالله عزّ وجل الذي جعل كتابه معجزا جعله بذلك حجة على كل شئ، ولئن حاول المفسرون أن يقدموا بيانا لكثير مما أبهمه القرآن فإنهم في كثير من الأحيان لم يستندوا على ما تقوم به حجة فمثلا سنرى في تفسير الآية اللاحقة كيف أن بعض المفسرين قال عن الرجل الذي أماته الله ثم أحياه أنه حزقيال، وبعضهم قال: إنه أرميا، وبعضهم قال: إنه عزير. وعن القرية قالوا: إنها بيت المقدس بعد تخريبها من بختنصر، والأمر كله مرجعه إلى استقراءات لنصوص كتابية، هذه النصوص نفسها لا تقوم بها حجة، فكيف إذا بنيت الأقوال على استقراءات منها. إن من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل الحجة على صدق كتابه قائمة في نفس كتابه، فلا ينبغي لأحد يفسر كتاب الله ألا يحتاط في شأن التفسير فيجعل للذين في قلوبهم مرض مدخلا يلجون منه للاعتراض على المسلمين. إن كثيرين من المسلمين ولعوا في البحث عن المبهمات؛ حتى أصبح الكلام عنها مقصودا، والسؤال عنها عادة مع أن كثيرا مما أبهمه القرآن إنما أبهم لأن الفائدة فيما فصل، فتركت الاستفادة من الأصل، وصار الناس يبحثون عما لا فائدة فيه. إن العبرة في القصة الآتية عن الرجل الذي أحياه الله بعد ما أماته هي في معرفة قدرة الله على البعث، لتأكيد الإيمان باليوم الآخر، فإذا غفل القلب عن هذا، وبحث عن اسم الرجل، ولون حماره، فإنه يكون قد ترك ما من أجله خوطب إلى ما ليس مكلفا به. ولنعد إلى التفسير: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها. قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. قالَ كَمْ لَبِثْتَ. قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ

المعنى العام

بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. المعنى العام: هذه الآية معطوفة على التي قبلها. ففي الآية الأولى تعجيب من أن يجادل إنسان في ربوبية الله، وبيان لانقطاع حجته أمام دلائل الفطرة. وفي هذه الآية تعجيب أن يستبعد إنسان قدرة الله على تقليب الأحوال فيحيي قرية خربة، ليجعلها عامرة. وإذا قطعت فى الآية السابقة الحجة الجدال، فههنا قطع الاستبعاد- فعل الله بهذا الإنسان، إذ أماته مائة عام ثم أحياه، ليرى أن ما استبعده قد حدث. فعلم من خلال المشاهدة لفعل الله في تغيير الأشياء من حال إلى حال، قدرة الله على كل شئ، وهذا الذي شاهده صاحب القصة يشاهده كل منا خلال التاريخ برؤيته تقلب الأحوال أحيانا على حسب التوقعات، وأحيانا على خلاف التوقعات ضمن سنن الله. فمن لم ير قدرة الله من خلال مشاهداته لتصريف أمور خلقه، تكون رؤيته كليلة. وصاحب القصة إما (عزير) على القول المشهور الراجح، وإما (أرميا) على قول. وإما (الخضر) على قول، وإما (حزقيل)، وإما أنه رجل من بني إسرائيل. وأما القرية .. قال ابن كثير: فالمشهور أنها بيت المقدس. مر عليها بعد تخريب بختنصر لها، وقتل أهلها. ولم يذكر الله في كتابه، ولا رسوله في سنته اسم الرجل أو القرية. لأن العبرة في المضمون. المعنى الحرفي: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ أي: أو أرأيت مثل الذي مر على قرية. فهو مثل معطوف على المثل السابق. وفيه تعجيب، كما في المثل السابق تعجيب. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها: أي: وهي ساقطة مع سقوفها، أو سقطت عليها الحيطان، وكل مرتفع عرش. سقطت السقوف ثم سقطت الجدران، أو هي خالية. ليس فيها أحد، وسقوفها وجدرانها ساقطة على عرصاتها. فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: وذلك، لما رأى من دثورها، وشدة خرابها، وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه. وهل سؤاله من باب الاستبعاد. فيكون ذلك كفرا.

فائدة

وصاحبه كافرا في الأصل- ولا يكون عزيرا المشهور باستقامته؟ أو أنه من باب الاعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي؟ أو أراد أن يعاين إحياء الموتى، ليزداد بصيرة؟ أو أنه سؤال عن سنة الله في إحياء أمثال هذه؟ وفي هذه الحالات، يكون المتسائل مؤمنا وهو الأرجح. فيكون المعنى: كيف يحيي الله هذه القرية بعد هذا الموت فيها لا ساكن، ولا سكن. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي: أحياه. قالَ كَمْ لَبِثْتَ: القائل هنا ملك، عن الله. قال: كم مكثت؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ: قال ذلك مجتهدا. ويبدو أنه مات ضحى، وبعث قبل غيبوبة الشمس. فقال يوما، أو بعض يوم. إذ رأى الشمس باقية. فظنها أنها شمس ذلك اليوم. قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. بعد هذا القول، أراه عجيبين: طعامه لم يتغير، بينما حماره تفرقت عظامه ونخرت. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أي: لم يتغير. وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ: كيف تفرقت عظامه ونخرت. وكيف يحييه الله وأنت تنظر. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي: دليلا على المعاد، ودليلا على قدرة الله وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها أي كيف نحركها، ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي: ثم نكسو العظام لحما. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أي: فلما تبينت له قدرة الله، قال: أعلم علم يقين ورؤية، أن الله على كل شئ قدير، فلا يعجز الله شئ. فائدة: نلاحظ أن السياق قد استمر في الكلام عن الله، بالكلام عن قدرته على إحياء الموتى. فالكلام عن إحياء الموتى يأتي في سياق الكلام عن الله عزّ وجل في هذه الآية والتي تليها، وفي هذا كله تذكير بالله، واليوم الآخر، لتأتي بعد ذلك آيات الإنفاق. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. المعنى العام: يقول تعالى: واذكروا إذ سأل إبراهيم ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى. وقال العلماء: إن

المعنى الحرفي

إبراهيم لم يسأل ذلك شكا، أو تعنتا، وإنما سأله؛ ليترقى بذلك من علم اليقين، إلى عين اليقين. وأن يرى ذلك مشاهدة بعد أن رآه إيمانا ويقينا. فسأله لله عزّ وجل- وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا-: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ: فأجابه بالإيجاب. وبين إبراهيم سبب السؤال- والله أعلم به- أنه يسأل ذلك ليزداد سكونا، وطمأنينة، فأمره الله عزّ وجل أن يأتى بأربعة طيور، فيقطعها، ويجزئها. وأن يجعل على كل جبل جزءا. قال ابن عباس: وأخذ رءوسهن بيده. ثم أمره الله عزّ وجل أن يدعوهن، كما أمره الله عزّ وجل. فجعل ينظر إلى الريش من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا، ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها. وجعل كل طائر يجئ ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم له رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته. ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: عزيز لا يغلبه شئ ولا يمتنع منه شئ. وما شاء كان بلا ممانع، لأنه القاهر لكل شئ. وحكيم في أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره. المعنى الحرفي: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي: أي: سألت ذلك إرادة زيادة طمأنينة القلب. وذلك أن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة. وإذا ما اجتمع علم الضرورة أي البديهة مع علم الاستدلال، حصل عين اليقين. قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قال ابن كثير: اختلف المفسرون في هذه الأربعة، ما هي. وإن كان لا طائل تحت تعيينها. إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي: أملهن، واضممهن إليك، وقطعهن. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي: ثم جزئهن. وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك، وفي أرضك. ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي: قل لهن تعالين بإذن الله. يَأْتِينَكَ سَعْياً أي: يأتينك ساعيات مسرعات في طيرانهن، أو مشيهن على أرجلهن. وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها، وهيآتها وحلاها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يمتنع عليه ما يريده. حَكِيمٌ فيما يدبر. لا يفعل إلا ما فيه الحكمة. فوائد: 1 - روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من

ثم عاد السياق إلى الإنفاق

إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» قال ابن كثير: فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف. قال الخطابي: ليس في قوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم، اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم. لكن فيه نفي الشك عنهما. يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك. قال ذلك على سبيل التواضع، والهضم للنفس. 2 - روى الحاكم وغيره: «التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص. فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك: قال عبد الله بن عمرو: قول الله عزّ وجل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا ... الآية. (سورة الزمر) فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله عزّ وجل: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى. فرضي من إبراهيم قوله بلى. قال: فهذا لما يعترض في النفوس، ويوسوس به الشيطان» قال الحاكم صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ثم عاد السياق إلى الإنفاق: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. بهذه الآيات يعود السياق إلى الإنفاق، وقد جاءت هذه الآيات بعد آية تحدثت عن قدرة الله على الإحياء؛ وهذا يذكر بإحيائه الموتى يوم القيامة. ومن قبل رأينا أن الآيات السابقة كانت حديثا عن الله وصفاته، ورعايته عباده. ثم قبل ذلك كان الأمر بالإنفاق. فكان تسلسل الآيات أمرا بالإنفاق في سبيل الله من قبل أن يأتي يوم القيامة. ثم كان حديثا عن الله وقدرته التي لا يعجزها أن تقيم القيامة. والآن يأتي بيان جزاء الإنفاق في هذه الآيات، ومن ذا الذي يستحق هذا الجزاء، مع توجيهات في هذا الشأن.

المعنى العام

المعنى العام: - في الآية الأولى، مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله، وأن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف. وصيغ هذا المعنى بصيغة مثل: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. ليكون أبلغ في النفوس. فإن في هذا إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزّ وجل لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، ثم بين الله عزّ وجل أنه يضاعف الحسنات لمن يشاء بحسب إخلاصه بعمله، وأن فضله واسع كثير. وأنه عليم بمن يستحق، ومن لا يستحق. - وفي الآية الثانية، يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوا في الخيرات، والصدقات منا على من أعطوه. فلا يمنون به على أحد، لا بقول، ولا بفعل. ولا يؤذونه، بأن يفعلوا مع من أحسنوا إليه مكروها. وبين أن من كان كذلك، فله الجزاء الجزيل؛ الذي عبر عنه تعالى بقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: أي ثوابهم على الله، لا على سواه. ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوه من الأولاد، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها. لا يأسفون عليها؛ لأنهم صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك. وهذه العبارة تستعمل في القرآن عادة، في معرض مكافأة أولياء الله، فدل ذلك على أن من أنفق فلم يمن ولم يؤذ؛ كان من أولياء الله. فهذا المقام إذن، مقام ولاية. - وفي الآية الثالثة بين الله عزّ وجل أن القول المعروف، كالكلمة الطيبة، للمسلم. وأن العفو عن أخيك، إذا ظلمك ظلما قوليا، أو فعليا، خير في ميزان الله، من الصدقة المتبوعة بالأذى، ثم وصف الله عزّ وجل ذاته بأنه غني عن عباده؛ فلم يأمرهم بالنفاق افتقارا. فهو يخلف على من أنفق من خزائنه الملأى، وأنه حليم يحلم عنهم ويغفر ويصفح، ويتجاوز عن عباده إن شاء. المعنى الحرفي:

[سورة البقرة (2): آية 261]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. أي: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أخرجت ساقا، يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة ... وهذا التمثيل تصوير للأضعاف، كأنها ماثلة بين عيني الناظر. والتمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض والتقدير. وقيد بعضهم سبيل الله الذي تضاعف فيه الصدقة بأنها الجهاد والحج. والنصوص تشهد على أن المضاعفة للإنفاق كله، كما سنرى. فسبيل الله هنا، أوسع من أن يكون جهادا وحجا فقط. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي: يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق. لتفاوت أحوال المنفقين. ويمكن أن تفهم بمعنى: أو يزيد على سبعمائة ضعف لمن يشاء. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي: واسع الفضل، والجود. عليم بنيات المنفقين. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً المن: هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطفاه، وأوجب عليه حقا له. ولذلك كان آدابهم: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. والأذى هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: أي ثواب إنفاقهم. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: من بخس الأجر، أو فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، أو من العذاب. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: على ما خلفوه، أو على فوت أجر، أو على فوت ثواب. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي: رد جميل، أو كلمة طيبة. وَمَغْفِرَةٌ أي: عفو عن السائل إذا أثقل. أو مغفرة من الله بسبب الرد الجميل المذكور سابقا. خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً كالتطاول، والكلام المسئ. وَاللَّهُ غَنِيٌّ: لا حاجة له إلى منفق يمن، ويؤذي. حَلِيمٌ: عن معاجلة من يمن ويؤذي بالعقوبة. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة». وروى مثله النسائي، ومسلم. 2 - روى مسلم، والإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل

المعنى العام

عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله. يقول الله: إلا الصوم. فإنه لي، وأنا أجزي به. يدع طعامه، وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة، الصوم جنة». هذا لفظ أحمد. ولنلاحظ في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله». لندرك أن عند الله المزيد. وهذا يرجح أنه يدخل في تفسير قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ الزيادة على السبعمائة. ثم يأتي في موضوع الإنفاق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. المعنى العام: - في الآية الأولى، نهي لنا أن نبطل صدقاتنا بالمن والأذى، كما يفعل ذلك المرائي الذي لا يؤمن بالله، واليوم الآخر. ويظهر أنه يريد وجه الله. وإنما قصده مدح الناس له. أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله، وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه. ثم ضرب الله مثلا لذلك المرائي ومشابهته في بطلان الصدقة، بذاك الذي يتبع نفقته منا أو أذى، فمثله كمثل صخر أملس عليه تراب، فأصاب الصخر مطر شديد. فترك المطر الشديد هذا الصخر أملس يابسا، لا شئ عليه من ذلك التراب. بل قد ذهب كله. أي وكذلك أعمال المرائين وأمثالهم، تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب. ولكنهم لا يجدون ثواب شئ مما أنفقوه عند الله. ثم بين الله عزّ

المعنى الحرفي

وجل أن من شأنه ألا يهدي الكافر، ما دام مختارا لطريق الكفر، ومصمما عليه. - وفي الآية الثانية، ضرب الله مثلا للمؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله عنهم في ذلك. ومن أجل أن يثبتوا أنفسهم على طريق الإيمان بالله واليوم الآخر، بفعل ما يقربهم إلى الله. فمثل هؤلاء، كمثل بستان في مكان مرتفع من الأرض. أصابها مطر شديد، فآتت ثمرتها ضعفين بالنسبة إلى غيرها من الجنان. فإن لم يصبها مطر شديد، أصابها رذاذ، وهو اللين من المطر. فشأن هذه الجنة، أنها لا تمحل أبدا لأنها إن لم يصبها المطر الشديد، فالرذاذ. وأيا ما كان فهو كفايتها. وكذلك عمل المؤمن، لا يبور أبدا. بل يتقبله الله، ويكثره، وينميه، لكل عامل بحسبه. ثم بين الله عزّ وجل بأن الله لا يخفى عليه من أعمال عباده شئ. - وفي الآية الثالثة، ينكر الله عزّ وجل أن يكون المؤمن من ذلك الطراز الذي يفعل الحسن، ثم يغرقه بالسيئات فيبطله. فإذا ما احتاج إليه في أضيق الأحوال، لم يحصل منه شئ، وخانه أحوج ما كان إليه. والمثل الذي ضربه لذلك مثل رجل تكون له جنة من نخيل وأعناب، وأصابه الكبر، وأولاده وذريته ضعاف، عند آخر عمره. فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه. فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه. وكذلك الكافر ومن يعمل ما يحبط عمله يكون يوم القيامة، إذا رد إلى الله عزّ وجل، ليس له خير فيستعتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه. ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه. كما لم يغن عن هذا ولده. وحرم أجره غدا أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند ما كان أفقر ما كان إليها عند كبره، وضعف ذريته. وهذا من أصعب الأحوال. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني، وانقضاء عمري» رواه الحاكم. ثم بين الله عزّ وجل في نهاية الآية أنه يبين لنا آياته من أجل أن نتفكر فنعتبر، ونفهم الأمثال، والمعاني، وننزلها على المراد منها. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: معنى رئاء الناس. أي: من أجل أن يراه الناس. صار المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى إبطالا مثل إبطال

[سورة البقرة (2): آية 265]

المنافق الذي لا أجر له على إنفاقه؛ لأنه ينفق ماله رئاء الناس، ولا يريد بإنفاقه رضا الله، ولا ثواب الآخرة. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ أي: مثل هذا المرائي، وأشباهه ممن يبطلون ثواب أعمالهم، ومثل نفقتهم التي لا ينتفعون بها البتة، كمثل حجر أملس، عليه تراب. فالصفوان: هو الحجر الأسود. قيل بأنه جمع صفوانة. وقيل إنه مفرد. فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً: الوابل هو المطر العظيم القطر. والصلد: هو الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه. لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي: لا يجدون ثواب شئ مما أنفقوا. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ما داموا مختارين للكفر. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ هذا مثل لمن ينفقون جامعين بين ابتغاء مرضاة الله، وتثبيت أنفسهم. ومعنى: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ: ينفقون تثبيتا من أنفسهم لأنفسهم. فهو مصدق بالإسلام، متحقق به، موقن به. ومن أجل أن تثبت نفسه ذاتها على ما هي عليه من الحق. فإنها تعمل الأعمال الصالحة، وتنفق في سبيل الله. فالمعنى دقيق. وعبارات المفسرين في شرح (تثبيتا) تدور حول حيثية من الحيثيات المذكورة. فقالوا في تفسيرها: تصديقا للإسلام، وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم. لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه. وهذا يعني أنهم يثبتون إيمانهم بفعلهم هذا أمام الله من تلقاء أنفسهم. ومنهم من فسر التثبيت بالتثبت. فهم متثبتون، ومتحققون أن الله سيجزيهم على ذلك وافر الجزاء، من باب الحديث الصحيح المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا ... » أي يؤمن أن الله شرعه. ويحتسب عند الله ثوابه. وقالوا غير ذلك. وإنما قدمنا المعنى الأول لأنه من باب: «والصدقة برهان». فهؤلاء يبرهنون على إيمانهم بالله بإنفاقهم المال الذي هو عزيز، وحبيب للنفس في سبيل الله، دون أي غرض آخر. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ: الجنة: البستان. والربوة: المكان المرتفع. والبستان في المكان المرتفع، أزكى شجرا وأحسن ثمرا. والوابل: المطر الشديد، العظيم القطر. والطل: المطر الصغير القطر. وهو يكفي هذه البستان، لعلوها وكرم منبتها. وقد مثل الله عزّ وجل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله بمثل هذه الجنة. إما أنها تؤتي أكلها ضعفين، بسبب الوابل. أو تؤتي أكلها العادي، بسبب الطل. أو أنه جل جلاله مثل حالهم عند الله، بالجنة على الربوة. ونفقتهم

[سورة البقرة (2): آية 266]

الكثيرة والقليلة، بالوابل والطل. وكما أن كل واحد من المطرين، يضعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم، كانت كثيرة، أو قليلة، بعد أن يطلب بها رضى الله تعالى، زاكية عند الله، زائدة في زلفاهم، وحسن حالهم عنده. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أى: يرى أعمالكم على إكثار وإقلال، ويعلم نياتكم وما فيها من رياء وإخلاص. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: أيريد أحدكم أن تكون له بستان من نخيل وأعناب. تجري من تحت هذه البستان الأنهار، ولصاحب الجنة، في هذه الجنة من كل الثمرات، وخص النخيل والأعناب بالذكر، لأنهما أكرم الشجر، وأكثر منافع، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليبا لهما على غيرهما. ثم أردفهما بذكر كل الثمرات. وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ أي: أيريد أن تكون له جنة. والحال أنه قد أصابه الكبر، وأولاده صغار. فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ الإعصار في اللغة: ريح تستدير في الأرض، ثم تسطع نحو السماء كالعمود. والمراد هنا وضع مركب يجتمع فيه الإعصار مع النار. أي: فأصاب هذه البستان إعصار ناري فأحرقها. الجواب: إنه لا أحد يريد ذلك. فإذا كنا لا نريد ذلك. فلا نحبط أعمالنا الصالحة، برياء، أو من، أو أذى، حتى لا نتحسر مثل هذه الحسرة يوم القيامة. إذ نكون أحوج ما نكون إلى الحسنات، ولا حسنات. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: كهذا البيان الذي مر فيما تقدم، يبين الله الآيات في التوحيد والدين، لعلكم تتفكرون فتنتبهون، قبل أن لا ينفع الانتباه .. فوائد: 1 - في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى. والمسبل إزاره. والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر». وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه ولا منان». 2 - روى البخاري عن عبيد الله بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «فيمن ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ

مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ؟. قالوا: الله أعلم. فغضب عمر. فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي. قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عباس: لرجل غني يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله». وبعد أن حررنا الله في المجموعة السابقة من أن يكون في صدقاتنا دخل، أو يرافقها دخل يفسدها .. تأتي مجموعة جديدة، تحدثنا عن نوعية ما ينبغي إنفاقه، وعن صدقة السر، وصدقة العلانية، وعن الذين تنبغي الصدقة لهم. ثم تختم آيات الإنفاق بقاعدة فيها بشارة. ويأتي خلال ذلك كلام عن نواح أخرى، مرتبطة بالموضوع. وهذه هي المجموعة. [سورة البقرة (2): الآيات 267 الى 274] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

المعنى العام

المعنى العام: في الآية الأولى يأمر الله عباده المؤمنين بالإنفاق من أطيب المال، وأجوده وأنفسه. ونهاهم عن التصدق برذالة المال، ودنيئه، وخبيثه. فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وذلك أن الإنسان نفسه لو أعطي دنئ المال لم يأخذه، إلا إذا تغاضى فيه، وتساهل. فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون. ثم أمرهم الله عزّ وجل بأن يعلموا بأن الله غني عن جميع خلقه. وجميع خلقه فقراء إليه. وهو واسع الفضل، لا ينفد ما لديه. فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليعلم أن الله غني، واسع العطاء، كريم، جواد. وسيجزيه بها، ويضاعفها له أضعافا كثيرة. وأن يعلموا أنه الحميد. أي: المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وفي الآية الثانية يبين الله عزّ وجل أن الشيطان يخوفنا الفقر لنمسك ما بأيدينا فلا ننفقه في مرضاة الله. ومع نهيه إيانا عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمرنا بالمعاصي، والمآثم، والمحارم، ومخالفة الخلاق. وفي مقابلة ما يأمرنا به الشيطان من الفحشاء. الله يعدنا مغفرة منه. وفي مقابلة ما يخوفنا الشيطان من الفقر، الله يعدنا فضله. ثم بين الله عزّ وجل أنه الواسع الذي يوسع على من يشاء، العليم بالأفعال، والنيات. ومن سعة فضله، ما ذكره في الآية الثالثة من أنه يؤتي من يشاء الحكمة. وذلك أثر عن علمه المحيط إذ لا يوفق الإنسان إلى فعل الأحكم في كل شئ؛ إلا المحيط علما بكل شئ. ومن ثم بينت الآية الثالثة أنه هو الذي يعطي الحكمة من شاء من عباده، فما هي الحكمة؟. وما هي قيمتها؟. الحكمة: وضع الأمور في مواضعها، وهذا لا يكون إلا بفقه في دين

الله، وتوفيق من الله بألا يقول الإنسان كلمة إلا في محلها، ولا يعمل عملا إلا في محله، فيلهم الحكيم وضع الأمور في مواضعها في إطار تعامله مع زوجته، وأولاده، وأهله، وأرحامه، وجيرانه، وعمله، ومسئولياته، سواء كانت على مستوى ضيق، أو واسع. وإن الإنسان ليتصرف التصرف الأخرق في إطار الأسرة، فتخرب بيوت. ويتصرف تصرفا على مستوى دولة إن كان مسئولا، فتخرب أوطان. ومن ثم كانت قيمة الحكمة عظيمة جدا، ولذلك قال تعالى في هذه الآية: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. ثم ذيل الله تعالى هذه الآية بتبيان أنه لا ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب، وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام. وفي الآية الرابعة يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات، والمنذورات. وفي ذلك إشعار بمجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين، ابتغاء وجهه، ورجاء موعوده. وفيها وعيد لمن لا يعمل بطاعته، بأن خالف أمره، وكذب خبره، وعبد معه غيره بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته. وفي الآية الخامسة، ثناء على صدقة السر، وصدقة الجهر. وأشعر أن صدقة السر أفضل. لأنها أبعد عن الرياء، وأبعد عن كسر القلوب. وبين أن من موجبات تكفير السيئات، بذل الصدقات. وختم الآية بتذكيرنا أنه لا يخفي عليه سرنا، وجهرنا. وأنه سيجزينا عليه. وفي الآية السادسة بيان لعدم ربط الصدقات بموضوع الهداية. فلنتصدق ولو لم يترتب على ذلك هداية من نتصدق عليهم، ولو لم يكونوا مهتدين. وهذا في غير الزكاة، وصدقة الفطر؛ إذ لا تجوزان إلا للمسلمين. أو أن مقدمة الآية تشير إلى أن الرسول عليه البلاغ. ومن اهتدى فلنفسه والذي يخلق الهداية، ويوفق إليها، هو الله. ثم حصر الله عزّ وجل، فجعل الذي ينتفع بالإنفاق صاحبه. ثم بين أن المسلم ينفق في سبيل الله، وليس عليه بعد ذلك ما يكون من عمل المتصدق عليه، سواء كان برا، أو فاجرا. مستحقا، أو غيره. فهو مثاب على قصده. فإن الله عزّ وجل وعد من أنفق خيرا أن يوفيه له كاملا، وبذلك ختمت الآية. وفي الآية السابعة بين الله عزّ وجل أن أحق الخلق بالصدقات هم المهاجرون الذين انقطعوا إلى الله، وإلى رسوله. وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم. ولا

المعنى الحرفي

يستطيعون سفرا للتسبب في طلب المعاش. وهم مع هذا متعففون، يظنهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم وفعالهم. إلا أن سيماهم تدل ذوي الألباب على حاجتهم. ومن صفاتهم أنهم لا يلحون في المسألة، ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ثم ختم الله عزّ وجل الآية بقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي: لا يخفى عليه شئ منه. وسيجزي عليه أوفر الجزاء، وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون الإنسان إليه. وفي الآية الثامنة يثني الله عزّ وجل على الذين ينفقون في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقاف، من ليل أو نهار. وفي جميع الأحوال من سر وجهر، وبين ما لهم عند الله في مقابل ذلك. وأن لهم أجرا، وأمنا، وفرحا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي: أنفقوا من جياد مكسوباتكم. وفيه دليل على وجوب الزكاة في أموال التجارة. وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي من الحب، والثمر، والمعادن. والتقدير: من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض. وهذه الآية من أدلة الحنفية على وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض قليلا أو كثيرا، مخزونا أو غير مخزون. وفي كل مكان يدور فيه الخلاف حول الواجب، أو عدمه. يبقى الندب قائما. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ: المراد بالتيمم: هو القصد. أي: ولا تقصدوا المال الردئ تخصونه بالإنفاق منه. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ. أي: وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، إلا أن تتسامحوا في أخذه، وتترخصوا فيه. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي: واعرفوا أن الله غني عن صدقاتكم، مستحق للحمد لكمالاته، ولإنعامه. فوائد: 1 - روي الحاكم وغيره في سبب نزول الآية عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر، فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف (أي ردئ التمر) فيدخله مع أقناء

[سورة البقرة (2): آية 268]

البسر، يظن أن ذلك جائز. فأنزل الله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. 2 - فهم بعضهم قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ: أن المراد به الأمر بالإنفاق من الكسب الحلال. ولا شك أن الإنفاق من الحلال نحن مطالبون به شرعا. ولكن الآية معناها، ما ذكرناه بدليل سبب النزول. ولذلك قال عبد الله بن مغفل في هذه الآية وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ... : (كسب المسلم لا يكون خبيثا. ولكن لا يتصدق بالحشف، والدرهم الزيف، وما لا خير فيه). وبهذه المناسبة ننقل حديثا، وفتوى، حول الإنفاق من الحرام. أما الحديث فما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم. وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. ولا يعطي الدين إلا لمن أحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه. ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟. قال: غشه، وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه. ولا يتصدق به، فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. إن الخبيث لا يمحو الخبيث». وأما الفتوى: يقول فقهاء الحنفية: من تصدق بدرهم حرام ينوي به القربة لله، يكفر. وإذا علم به الفقير، فدعا له، يكفر. ومن أمن على دعائهما يكفر. فمن كان عنده مال حرام فلينفقه بنية التخلص منه لا بنية الصدقة. الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ: في الإنفاق. أي: يقول لكم: إن عاقبة إنفاقكم، أن تفتقروا. والوعد يستعمل للخير، وللشر. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي: يغريكم على البخل، ومنع الصدقات، إغراء الآمر بالمأمور. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا أي: والله يعدكم مغفرة لذنوبكم، وكفارة لها. وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم في الدنيا والآخرة. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ: يوسع على من يشاء، عليم بالأفعال، والنيات.

فائدة

فائدة: روى النسائي والترمذي، وابن حبان، وابن أبي حاتم، وابن مردويه- وهو حديث حسن- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة. فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله. ومن وجد الأخرى، فليتعوذ من الشيطان. ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ. وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ الحكمة: علم الكتاب والسنة، والعمل بهما. ووضع الأمور في مواضعها. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أي: ومن يعطه الله الحكمة، فقد أعطاه من الخير أعظمه. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي: وما يتعظ بمواعظ الله، إلا ذوو العقول السليمة. فوائد: 1 - الصلة بين هذه الآية وما قبلها أنها ندب إلى أن نضع الإنفاق في محله. 2 - للمفسرين عبارات كثيرة في شرح الحكمة. ومرجعها إلى ما ذكرناه. قال ابن عباس: (الحكمة: القرآن). يعني تفسيره- أما مجرد القراءة والحفظ- فإنه قد قرأه البر، والفاجر. وقال مجاهد في تفسيرها: (العلم، والفقه، والقرآن). وقال أبو مالك: (الحكمة: السنة). ويشهد لهذا كله الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين. رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها». رواه البخاري ومسلم، وغيرهما. فهذا الحديث يشهد على أن الحكمة يدخل فيها الفقه في الكتاب والسنة، والدين عامة، ويشهد على أن الحكمة: العلم بكتاب الله، وصف الله عزّ وجل كتابه بأنه حكيم: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (سورة يس) ويشهد على أن المراد بالحكمة السنة قوله تعالى:

[سورة البقرة (2): آية 270]

وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (سورة الأحزاب) وما كن يسمعن في بيوتهن مع القرآن، إلا السنة. وقال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله. وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. ومما يبين ذلك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا. إذا نظر فيها. وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه، عالما بأمر دينه، بصيرا به، يؤتيه الله إياه، ويحرمه هذا. فالحكمة: الفقه في دين الله. وقال مجاهد: الحكمة: الإصابة في القول. وقال أبو العالية: الحكمة: خشية الله. فإن خشية الله رأس كل حكمة. والأمر الجامع لهذا كله، هو ما فسرنا به الحكمة، أنها العلم بالكتاب والسنة والعمل بهما، ووضع الأمور في مواضعها. فمن اجتمع له هذا فقد اجتمعت له الحكمة. 3 - قال السدي: (الحكمة: النبوة). ولا شك أن أحكم الحكماء هم الأنبياء، ولكن كما قال ابن كثير: والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور، لا تختص بالنبوة. بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة. والرسالة أخص. ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث: «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه، غير أنه لا يوحى إليه». ونختم هذه الفائدة بتفسير ابن عباس للحكمة في الآية. قال: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ: في سبيل الله، أو في سبيل الشيطان. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ: في طاعة الله، أو في معصيته. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي: لا يخفى عليه. وهو مجازيكم عليه. وَما لِلظَّالِمِينَ: الذين يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو ينذرون في المعاصي، أو لا يفون في النذور. مِنْ أَنْصارٍ أي: ليس لهم من ينصرهم من الله، ويمنعهم من عقابه.

فائدة

فائدة: لا يجب الوفاء بالنذر عند الحنفية، إلا إذا كان المنذور من جنسه واجب، ولا شك أن الإنفاق من جنسه واجب، وهو الزكاة، وصدقة الفطر، فمن نذر أن يتصدق، فقد وجب عليه أن يتصدق. وسنبحث مسائل النذر عند قوله تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ في سورة الحج، إن شاء الله. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي: إن تظهروا الصدقات فنعم شئ إظهارها. وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. أي: وإن تسروا بها، مع إصابة مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم. قالوا: المراد بهذه الخيرية في صدقة السر، صدقات التطوع. والجهر في الفرائض أفضل، لنفي التهمة. حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار، كان إخفاؤه أفضل. والمتطوع إن أراد أن يقتدي به الناس، كان إظهاره أفضل. وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ: في حالتي الإسرار والجهر بالصدقة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: عالم بما تبدون وما تخفون. فوائد: 1 - قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: جعل الله صدقة السر في التطوع، تفضل علانيتها؛ يقال بسبعين ضعفا. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها؛ يقال بخمسة وعشرين ضعفا. 2 - ومما ورد في صدقة السر: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض، جعلت تميد، فخلق

[سورة البقرة (2): آية 272]

الجبال، فألقاها عليها، فاستقرت. فتعجبت الملائكة من خلق الجبال. فقالت: يا رب: هل في خلقك شئ أشد من الجبال؟ قال: نعم. الحديد. قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد؟. قال: نعم. النار: قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار؟. قال: نعم. الماء. قالت: يا رب. فهل من خلقك شئ أشد من الماء؟. قال: نعم. الريح. قالت: يا رب. فهل من خلقك شئ أشد من الريح؟. قال: نعم. ابن آدم يتصدق بيمينه، فيخفيها من شماله». وقد مر معنا عند الكلام عن آية الكرسي حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله. أي الصدقة أفضل؟. قال: «سر إلى فقير، أو جهد من مقل». 3 - قال الشعبي في هذه الآية: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ... : أنزلت في أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. أما عمر، فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر»؟ قال: خلفت لهم نصف مالي. وأما أبو بكر. فجاء بماله كله، يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر»؟. فقال: عدة الله، وعدة رسوله. فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر. والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي: لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، وإنما عليك أن تبلغهم النواهي فحسب. فالتوفيق إلى الهدى أو خلقه لله تعالى. وما مناسبة هذا النص لآيات الإنفاق؟ يبين هذا سبب النزول. روى النسائي عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا، فرخص لهم. فنزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ .... وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ... فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وإنما تصح الصدقة على غير المسلمين إذا كانت صدقة تطوع. وإذا صحت الصدقة على غير المسلم. فمن باب أولى على الفاسق

فائدة

المسلم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ الخير هنا: المال. أي: وما تنفقوا من مال فهو لأنفسكم. لا ينتفع به غيركم. فلا تلاحظوا إلا الله في إنفاقكم. ولا تروا لأنفسكم على الناس فضلا بإنفاقكم عليهم. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي: وليست نفقتكم إلا من أجل رضوان الله، وطلب ما عنده. فإذا كان الأمر كذلك، فأعطوه حقه من هضم نفس، وعدم من أو أذى. وقال بعض المفسرين: هذا نفي، معناه النهي وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ وما تنفقوا من مال يوفكم الله ثوابه أضعافا مضاعفة، دون أن تنقصوا منه شيئا فلا عذر لكم أن ترغبوا عن الإنفاق، ولا عذر لكم ألا يكون على أحسن الوجوه، وأجملها. فائدة: قال عطاء الخراساني: إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله. ويؤيد هذا، ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة. فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية. فأصبح الناس يتحدثون: تصدق على زانية. فقال: اللهم لك الحمد، على زانية؟ لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني. قال: اللهم لك الحمد، على غني؟ لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق. فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: إن صدقتك قد قبلت. وأما الزانية، فلعلها أن تستعفف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته». ولكن لا ينبغي أن يغيب عنا، أنه لئن رخص الله لنا أن ننفق على كل خلق الله، فلقد ندبنا أن نخص بها الأقرب، والأتقى، والأورع. مر معنا مثل هذا من قبل. وفي الآية التالية بيان. لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ ... أي: هذه الصدقات، الأولى أن تدفعوها للفقراء الذين اتصفوا بالصفات التالية: الإحصار في سبيل الله، والعجز عن الكسب، والتعفف،

فوائد

والسيما الدالة، وعدم الإلحاح في المسألة. فإذا اجتمعت هذه الصفات، فأصحابها أولى الناس بالصدقات. فإذا اجتمعت أربع صفات منها، يكون أصحابها في الدرجة الثانية. فثلاثة، فدرجة ثالثة. فاثنتان، فدرجة رابعة. فواحدة مع الفقر، فصاحبها أولى. ثم الفقراء فيما بعد. فإذا اتضح هذا، فلنشرح الآية: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: الذين أحصرهم الجهاد، فمنعهم من التصرف. لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ. أي: لا يستطيعون سفرا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض: هو السفر. وسبب احتباسهم، إما انقطاع للعلم، أو عدم حيلة، أو تفرغ لأمر من أمور المسلمين. يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي: يحسبهم الجاهل بحالهم، مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة. تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ. أي: بصفاتهم التي تدل على حالهم، من صفرة الوجوه، ورثاثة الحال. لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي: إلحاحا. والإلحاح: هو لزوم المسئول وعدم مفارقته إلا بشيء يعطاه. قيل في تفسير هذه الصفة: إنهم لا يسألون أصلا. وقيل إنهم إن سألوا، سألوا بتلطف. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي: وما تنفقوا من مال، فإن الله يعلمه، ولا يضيع عنده. فوائد: 1 - قلنا من اجتمعت له هذه الصفات، فهو أولى الناس بالصدقات. ثم الأقل فالأقل. ولذلك نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفت النظر إلى من اتصف ببعض هذه الصفات، كي نخصه. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة، والتمرتان، واللقمة، واللقمتان، والأكلة، والأكلتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا». 2 - وهناك مظهر من مظاهر الإلحاف، لا يعتبر من باب الإلحاف اللغوي ولكنه إلحاف شرعي. وذلك أن الإلحاح أثر من آثار الطمع. ولذلك أدخل الشارع في باب الإلحاف ما كان أثرا عن الطمع. وذلك أن يسأل الإنسان، وله ما يملك. ومما ورد في

[سورة البقرة (2): آية 274]

ذلك: روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأله. فأتيته، فقعدت. قال فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية. فرجعت فلم أسأله. وروى ابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف، وهو مثل سف الملة» يعني الرمل. ورواه النسائي كذلك. 3 - ويحرم على الإنسان أن يسأل أصلا إذا كان له ما يكفيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا، أو كدوحا في وجهه» قالوا: يا رسول الله: وما غناه؟ قال: «خمسون درهما، أو حسابها من الذهب». رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: الذين ينفقون أموالهم في كل الأحوال، والأوقات، لحرصهم على الخير، مسرين ومعلنين، في ليل أو نهار. فكلما نزلت بهم حاجة محتاج، عجلوا قضاءها ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقت، ولا حال. فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. وقد مر معناها من قبل. والملاحظ أن الجواب هنا مسبوق بالفاء. وذلك لتضمن ما قبله معنى الشرط. فكأننا نفهم من ذلك أن الذين لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، هم من تحققوا بهذه الصفة، من كونهم منفقين في كل حال. روى ابن مردويه عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب كان له أربعة دراهم. فأنفق درهما ليلا، ودرهما نهارا، ودرهما سرا، ودرهما علانية. وبهذا ننتهي من الكلام عن الفقرة الأولى في المقطع الثاني، لتأتي معنا فقرة نتحدث عن الربا، والصلة بين هاتين الفقرتين واضحة جدا. فالجانب المقابل للإنفاق في سبيل الله، هو الربا. فبقدر ما يدل الإنفاق في سبيل الله على النفس الخيرة، يدل الربا على النفس الشريرة الجشعة المستغلة. فإذ حض الله على الإنفاق، كان من المناسب أن يحذر عما يقابله. ولذلك تلاحظ أنه لم يفصل بين نهاية الفقرة السابقة، وبداية الفقرة

الفقرة الثانية من المقطع الثاني من القسم الثالث

اللاحقة بفاصل من نداء وغيره. بل تظهر الفقرة التالية، وكأنها استمرار لما قبلها، فلننتقل للحديث عن الفقرة الثانية. الفقرة الثانية من المقطع الثاني من القسم الثالث تمتد هذه الفقرة من الآية (275) إلى نهاية الآية (281). وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: قلنا إن الملامح الرئيسية للنظام المالي في الإسلام قد تحدث عنها هذا المقطع وأن هذه الملامح هي: أن الإسلام نظام زكوي، لا ربوي. وأنه ذو معاملات منضبطة. وإذا كان هذا المقطع يعطينا هذا بشكل عام، فإنه يعرض ما يعرضه على تسلسل معين. إن الإنفاق يدلل على نفسية مؤمنة بالله، واليوم الآخر. فهو علم على نفسية مؤثرة. بينما يقف في الصف المقابل لذلك المرابون الذين لا يعطون أموالهم إلا بمقابل من الربح دون أن يتحملوا حتى احتمال الخسارة. فهم مصاصو دماء ومستغلون. وفي وسط آيات الربا، يذكر الله الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، لينتشل المرابي من حمأة ما هو فيه. وينتهي الحديث عن الربا بالتذكير باليوم الآخر. ومن عادة المدافعين عن الربا، أنهم دائما يتساءلون عن البديل. ومن ثم تأتي آية الدين، وهي آية السلم لتدل على البديل كما سنرى. وكل ذلك يأتي في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان. ولنقدم لتفسير آيات الربا بكلام لصاحب الظلال: «الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي .. الوجه الكالح الطالح هو الربا!

الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل .. والربا شح وقذارة ودنس، وأثرة وفردية .. والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد. والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده، ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا .. ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة .. الوجه الكالح الطالح، لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب، السمح، الطاهر، الجميل، الودود! عرضه عرضا منفرا، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة، ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد. ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية، أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى. ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله، وعظمة هذا الدين، وكمال هذا المنهج، ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة. وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتؤكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي، في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها .. وتتلقى- حقا- حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب .. أفرادا وجماعات، وأمما وشعوبا، وهي لا تعتبر ولا تفيق!. وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه،

ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة .. في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم. إنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي. والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور! ولا يتفقان في أساس؛ ولا يتوافقان في نتيجة .. إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة. وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف .. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب!. إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود. يقيمه على أساس أن الله سبحانه هو خالق هذا الكون. فهو خالق هذه الأرض وهو خالق هذا الإنسان .. هو الذي وهب كل موجود وجوده .. وأن الله- سبحانه- وهو مالك كل موجود- بما أنه هو موجده- قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض؛ ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء. وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة. استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته، فما وقع منه من عقود، وأعمال، ومعاملات، وأخلاق، وعبادات، وفق التعاقد فهو صحيح نافذ، وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل. فإذا أنفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض- كما هي في الكون كله- لله وحده. والناس- حاكمهم ومحكومهم- إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم- في جملتهم- أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد، وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق. من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل- لا على قاعدة

الشيوع المطلق كما تقول الماركسية. ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة- فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه. مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله- فلا يكون أحدهم كلا على أخيه، أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل. وجعل الزكاة فريضة في المال محددة. والصدقة تطوعا غير محددة. وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم؛ وفيما يستمتعون به من الطيبات محدودة بحدود الاعتدال. وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة. وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره. وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق «كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم» ... وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها. وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود؛ وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض. ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا، ونظام يقوم على تصور آخر. تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى. ومن ثم لا رعاية فيه للمبادئ والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها. إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين الله وحياة البشر. فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء، وهو غير مقيد بعهد من الله، وغير ملزم باتباع أوامر الله!! ثم إن الفرد حر فى وسائل حصوله على المال، وفى طرق تنميته، كما هو حر فى التمتع به. غير ملتزم في شئ من هذا بعهد من الله أو شرط، وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته. وقد

تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحد من حريته هذه- جزئيا- في تحديد سعر الفائدة مثلا، وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب والغش والضرر. ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم، لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية! كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد. هو أن الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال- بأية وسيلة- واستمتاعه به على النحو الذي يهوى! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به، ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين!! ثم ينشئ في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا، ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا، لمصلحة حفنة من المرابين، ويحطمها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا، ويحدث الخلل في دورة المال، ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا .. وينتهي- كما انتهى في العصر الحديث- إلى تركيز السلطة الحقيقة والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله، وأشدهم شرا، وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة .. وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا، كما يداينون الحكومات والشعوب- في داخل بلادهم وفي خارجها- وترجع إليهم الحصيلة لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا. وهم لا يملكون المال وحده .. إنما يملكون النفوذ .. ولما لم تكن لهم مبادئ، ولا أخلاق، ولا تصور ديني وأخلاقي على الإطلاق، بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان، والأخلاق، والمثل والمبادئ، فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكون في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم .. وأقرب الوسائل هي تحطيم الأخلاق البشرية، وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد، وإلى انحراف

الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المراءين، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية!. والكارثة التي تمت في العصر الحديث- ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية- هي أن هؤلاء المراءين- الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية- قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها .. سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها .. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودمائهم في ظل النظام الربوي .. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي، وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب. وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين- غير العمليين- وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع، وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه. الذي تضطره عصابات المراءين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي. ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف على أن يكون نافعا للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة. إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة- وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم، وهم قد نشئوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق. وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة «دكتور شاخت» الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا. وقد كان مما قاله في

محاضرة له في دمشق 1953 أنه بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية، بينما المدين معرض للربح والخسارة. ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد بالحساب الرياضي- أن يصير إلى الذي يربح دائما! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل. فإن معظم مال الأرض الآن يملكه- ملكا حقيقيا- بضعة ألوف! أما جميع الملاك، وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف. وليس هذا وحده كل ما للربا من جريرة. فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة. فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة. ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة؛ ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شئ .. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين، وتضيق المصانع دائرة إنتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء. وعند ما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا. فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء .. وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية. ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة.! ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين. فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية. أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية

كذلك. إذ إن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها. وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف .. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ويكون الاستعمار هو نهاية الديون .. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار! ونحن هنا- في ظل القرآن- لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل- فنكتفي بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت: الحقيقة الأولى: التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم أنه لا إسلام يبيح قيام نظام ربوي في مكان. وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع. فأساس التصور الإسلامي- كما بينا- يصطدم اصطداما مباشرا بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم. والحقيقة الثانية: أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية- لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب- بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية. وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخداع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام!. والحقيقة الثالثة: أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم في حياته، ومحاسب عليه في آخرته. فليس هناك نظام أخلاقي وحده، ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء. وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية. والحقيقة الرابعة: أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وأخلاقه،

وشعوره تجاه أخيه في الجماعة، وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشر، والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة. أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار. كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شئ للمستدين، ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة، والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيما .. والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ أنفع المشروعات للبشرية، بل همه أن ينشئ أكثرها ربحا. ولو كان الربح إنما يجئ من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول .. وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض. وسببه الأول هو التعامل الربوي!! .. والحقيقة الخامسة: أن الإسلام نظام متكامل. فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه، وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد. والحقيقة السادسة: أن الإسلام- حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص- لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي؛ إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم. ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه. ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة. وفى أول هذه المؤسسات والأجهزة: المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث. والحقيقة السابعة:- وهي الأهم- ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما بأن هناك استحالة اعتقادية في أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في نفس الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها .. فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها، وهو الآمر بتنميتها وترقيتها؛ وهو المريد لهذا كله الموفق إليه. فهناك

استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شئ لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه. وأن يكون هناك شئ خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها .. وإنما هو سوء التصور، وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة: أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي. وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها .. ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين. وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر. وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان. كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه بما لهم من قدرة على التوجيه، وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة. والحقيقة الثامنة: أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غير الأساس الربوي .. ليست سوى خرافة، أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا! وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية- أو تعزم الأمم المسلمة- أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة، مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلا، ونمت الحياة في ظله فعلا، وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله، لو عقل الناس ورشدوا!!. وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله .. فحسبنا هذه الإشارات المجملة. وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية، وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديما حتى ردها الإسلام إليه، هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم.

المعنى العام للمجموعة الأولى في فقرة الربا

المعنى العام للمجموعة الأولى في فقرة الربا: لما ذكر الله تعالى، الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر، والصدقات لذوي الحاجات، والقرابات، في جميع الأحوال، والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا، وأموال الناس بالباطل. وأنواع الشبهات. فأخبر في الآية الأولى من هذه الفقرة كيف أن أكلة الربا لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم، ونشورهم، إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له. ذلك التخبط المعرف، المنكر. وإنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه. إذ اعترضوا على الله في تحريمه الربا، من أنه- في زعمهم- شبيه بالبيع. وهذا اعتراض منهم على شرع الله مع علمهم بتفريق الله بين هذا، وهذا. إذ هذا محرم، أفظع تحريم. وهذا مباح. والله هو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. وهو العالم بحقائق الأمور، ومصالحها. وما ينفع عباده فيبيحه لهم. وما يضرهم فينهاهم عنه. وهو أرحم بهم من الوالدة بطفلها. ثم بين الله عزّ وجل أنه من بلغه نهي الله عن الربا، فانتهى، فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم. أي: قبل نزول هذا النص. ومن فعل الربا بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، واستحق الخلود في النار. وفي الآية الثانية من هذا المقطع يخبر تعالى أنه يمحق الربا. أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله. فلا ينتفع به. بل يعدمه في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة. بينما هو جل جلاله، يبارك وينمي، ويكثر الصدقات، بأن يضاعف لأصحابها أجورهم. وإنما ذكر بركة الصدقة يوم القيامة، ولم يذكر تنمية الأموال المزكاة في الدنيا- مع أنه كائن- تبيانا لقصد أصحابها، وإشعارا بأن الدنيا هينة، وأن الآخرة هي الهدف. ثم ختم الله عزّ وجل هذه الآية بتبيان أنه لا يحب كل كفور القلب، أثيم القول والفعل. والمناسبة بين بداية الآية وخاتمتها، هي: أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة. فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.

ثم جاءت الآية الثالثة التي أثنى بها الله على المؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه، المقيمين الصلاة، والمؤدين الزكاة، ثم أخبر عما أعدلهم من الكرامة. وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون. وقد ختمت الآية الثالثة بقوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ كما ختمت الفقرة السابقة، إشارة إلى أن هذه الفقرة امتداد لما قبلها. فالمقطع واحد. وقبل أن نتحدث عن المعنى الحرفي للآيات، نحب أن نعرف الربا، وحكمة تحريمه. الربا هو فضل مال، خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وأنواعه كثيرة. روى الحاكم عن ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها أن ينكح الرجل أمه. وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون جزءا. أيسرها أن ينكح الرجل أمه». ولا شك أنه يدخل في هذه الأنواع الكثيرة، أنواع من الربا معنوية. كالاستطالة في عرض المسلم. قال ابن كثير: وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا، ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا) يفهم من هذا أن هناك أبوابا من الربا تحتاج إلى فقه أهل الاجتهاد حتى تعرف على ضوء نصوص الكتاب والسنة. ولا ننسى أن ما أدى إلى الحرام، فهو محرم. وكما حرم الله الربا، حرم المسالك المفضية إليه، والوسائل الموصلة إليه. وتتفاوت أنظار المجتهدين بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم. فأدخل بعضهم في أبواب الربا، ما لم يدخله غيره. والذي يدل على أن الوسائل التي تفضي إلى الربا محرمة، ما رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا». قال: قيل له الناس كلهم؟. قال: «من لم يأكله منهم ناله من

غباره». ومن أبواب الربا: ربا الفضل. ومن أبوابه ربا النساء. ومن أبوابه بيع العينة. ومن أبوابه ما كان ظاهره بيعا، وحقيقته ربا. فالعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن أبوابه المخابرة. وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. والمزابنة. وهي: اشتراء الرطب في رءوس النخل، بالتمر على وجه الأرض. والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل، بالحب على وجه الأرض. وأدخل الحنفية في الربا، كل ما كان من أنواع البيوع الفاسدة. وأما البيع، فإنه معاوضة مال بمال. وله أنواع كثيرة. والفارق بينه، وبين الربا، واضح. فالربا أعلى مظاهر الاستغلال والجشع. والبيع ضرورة، لا بد منها للحياة الاقتصادية ولنضرب مثالين، لنرى نتائج الربا الخبيثة. والحكمة في تحريمه. المثال الأول: يستقرض المزارع بالربا، ليشتري بذرا، يبذره في أرضه البعل وقد يأتي ذلك العام، عام جدب. فيخسر البذر، ويخسر ثمنه، ويجب عليه وفاء الدين والربا. ولما كان لا يستطيع أن يدفع شيئا، فإن عليه أن يؤجل الدين مع ربا العام القادم. وعليه أن يستقرض للبذار من جديد، بربا كذلك. فإذا ما جاء عام جدب آخر تضاعف عليه، ربا السنة الأولى ثلاث مرات. وربا السنة الثانية مرتين، وعليه أن يستقرض بربا من أجل أن يبذر للسنة الثالثة. ويستغل المرابون احتياجه، فيرفعون سعر الربا فإلى أي حد- لو جاء موسم جيد- يستطيع أن يفي بما استقرض، وبرباه، وبنفقات عياله. إن ثمرات جهده، خلال السنين تذهب إلى صندوق المرابي دون مقابل من جهد شخصي، ودون أن يتحمل رأس المال في مقابل ربحه، أي شيء من الخسارة. والمثال الثاني: نفرض أن مرابيا واحدا كان موجودا ببلد، واحتاج الناس أن يستقرضوا من هذا المرابي بالربا. ولنفرض أنه يملك عشرين مليونا. وأقرض بالربا بأرخص الأسعار. وليكن بخمسة بالمائة. فإذا ما أقرض العشرين مليونا، فإن العشرين تصبح خلال سنة واحدا وعشرين مليونا، وفي سنة ثانية، وثالثة .. وكل ذلك وهو جالس. ورأس المال مضمون الربح. ولا يتحمل أي خسارة. والجميع يجهدون. فإذا استمر الأمر. فلا بد أن يأتي يوم، تصبح فيه كل رءوس الأموال في البلد في صندوق المرابي، والجميع مدينون له.

المعنى الحرفي للمجموعة الأولى

ولا يستطيعون وفاء. فإما أن يثوروا، ويقتلوه، وينهبوا ماله. وإما أن يصبحوا أجراء، عبيدا عنده. وفي كل حالة فإن المسألة، هكذا. المستدينون بالربا يكدحون، ويشقون، ليملئوا خزينة المرابي، فإذا ما طبقنا هذا على مستوى عالمي كبير، أو على مستوى صغير نجد أن مآل الربا خطير، عدا عن كونه يمثل تصرفا وحشيا من قبل المرابي إذ لا يستقرض الإنسان بالربا إلا وهو محتاج. وقد استغل المرابي احتياج هذا الإنسان بوحشية وجشع وطمع، بدلا من أن يرحمه فيساعده، أو يقرضه. أو على الأقل أن يتعامل معه بمنطق المضاربة، أو السلم كما سنرى. ومن ثم فقد حرم الربا في الإسلام تحريما قطعيا. وقد رأينا أن أدنى أبوابه، كأن يزني الرجل بأمه. وفي الحديث: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية». أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الكبير. المعنى الحرفي للمجموعة الأولى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إذا بعثوا من قبورهم. إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ: المس: الجنون. والخبط: هو الضرب على غير استواء، كخبط العشواء. والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مختلين كالمصروعين. تلك سيماهم، يعرفون بها عند أهل الموقف. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي: ذلك العقاب بسبب أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا. ولم يقل إنما الربا مثل البيع، مع أن الكلام في الربا لا في البيع، لأنه جئ به على طريقة المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا، أنهم جعلوه أصلا، وقانونا في البيع، حتى شبهوا به البيع. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبا: هذا إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فأنى يتماثلان. وفي هذا النص دليل على أن القياس يهدمه النص. لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم، إحلال الله وتحريمه. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أي: فمن بلغه وعظ من الله، وزجر بالنهي عن الربا، فتبع النهي وانتهى، فلا يؤاخذ بما مضى منه. لأنه أخذ قبل نزول التحريم. وأمره إلى الله، يحكم في شأنه يوم القيامة. وليس من أمره إليكم من شئ، فلا تطالبوه به. وفي هذا بعث لهمة هؤلاء كي ينفقوا. وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: ومن عاد إلى الربا

[سورة البقرة (2): آية 276]

مستحلا له، فأولئك أصحاب النار خالدون فيها لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين. لأن من أحل ما حرم الله عزّ وجل عليه فهو كافر. فلذا استحق الخلود. أما من لم يستحل، وتاب، فأرجع ما أخذه من ربا إلى أهله، أو أنفقه- لا بنية القربة- إن لم يعلم أصحابه. فالمرجو أن يتوب الله عليه. ومن لم يستحل، ولم يتب، فأمره إلى الله. إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي: يذهب ببركته، ويهلك المال الذي يدخل فيه. وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. أي: ينميها، ويزيدها. أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة، ويبارك فيه. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. أي: لا يحب كل عظيم الكفر، باستحلال الربا، متماد بالإثم بأكله. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ أي: إذا اجتمعت لهم هذه المعاني كلها. لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. فوائد: 1 - روى البخاري عن ابن عباس قال: «آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا». وروى البخاري عن عائشة قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر». وما الصلة بين الربا، وتحريم التجارة في الخمر؟. قالوا: لما حرم الربا ووسائله، حرم الخمر وما يفضي إليه. 2 - قال عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين. وأول ربا أضع، ربا العباس». قال ابن كثير: ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حل الجاهلية بل عفا عما سلف. وبهذه المناسبة نتساءل: هل الحكم اللاحق، مسئول عن رد المظالم التي حدثت في عهد سابق، ومحاسبة من خالفوا أمر الله في عهد سابق؟. يبدو أن الدولة الإسلامية أمامها خيارات واسعة في هذا الشأن. 3 - روى الإمام أحمد، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الربا وإن كثر فإن عاقبته

المعنى العام

تصير إلى قل». 4 - روى مسلم، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يصعد إلى الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد». ولننتقل إلى المجموعة الثانية في فقرة الربا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. المعنى العام: في الآية الأولى يأمر الله المؤمنين بتقواه، وينهاهم عما يقربهم من سخطه ويبعدهم عن رضاه، بأن يخافوه، ويراقبوه فيما يفعلون. وأن يتركوا ما لهم على الناس من زيادة على رءوس الأموال في حالة ابتلائهم بالربا، ومخالطتهم له إن كانوا مؤمنين بما شرع الله لهم من تحليل البيع وتحريم الربا، وغير ذلك. وفي الآية الثانية تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، بأن أعلن على أصحاب ذلك الحرب من الله ورسوله، والحرب من رسول الله، حرب عقوبة دنيوية، ولذلك قال ابن عباس: فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه. فإن نزع، وإلا ضرب عنقه. والحرب من الله، مظهرها العقوبة الربانية في الدنيا، والعقوبة الأخروية. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. ثم بين الله عزّ وجل أن من تاب فله رأس ماله فقط. لا يظلم بأخذ زيادة، ولا يظلم بأن ينقص من رأس ماله. وفي الآية الثالثة يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء. لا كما كان أهل الجاهلية يفعلون. يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي.

المعنى الحرفي

ثم ندب الله عزّ وجل إلى أكثر من ذلك. وهو أن يترك الدائن رأس المال بالكلية. ووعد على الوضع عنه، الخير والثواب الجزيل. وفي الآية الأخيرة في الفقرة، يعظ الله عباده ويذكرهم زوال الدنيا، وفناء ما فيها من الأموال، وغيرها. والمصير إلى الآخرة والرجوع إليه تعالى، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي: يا أيها الذين آمنوا، خافوا الله، واتركوا بقايا الربا، ولا تطالبوا بها. فإذا كانت بقايا الربا قبل التحريم يجب أن تترك. فمن باب أولى أن تستأصل معاني الربا، وألا تستأنف أبدا. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: إن كنتم مؤمنين، كاملي الإيمان، فإن دليل كماله، امتثال المأمور به. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا. أي: فإن لم تتركوا بقايا الربا. فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أي: فاعملوا مستيقنين بحرب الله، ورسوله. وإنما قال بحرب من الله ورسوله، ولم يقل بحرب الله ورسوله، لأن الأول أبلغ. لأن المعنى: فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. وَإِنْ تُبْتُمْ: من ممارسة الربا. فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ المديونين بطلب الزيادة عليها. وَلا تُظْلَمُونَ: بالنقصان منها. فوائد: 1 - ذكر زيد بن أسلم أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير بن ثقيف، وبني المغيرة، من بني مخزوم. كان بينهم ربا في الجاهلية. فلما جاء الإسلام، ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم. فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام. فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا. وذكر هذا ابن جريج ومقاتل وابن حبان والسدي.

[سورة البقرة (2): آية 280]

2 - قال الحسن وابن سيرين: «والله إن هؤلاء الصيارفة، لأكلة الربا، وإنهم قد أوذنوا بحرب من الله ورسوله. ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم. فإن تابوا، وإلا وضع فيهم السلاح» أقول: اجعل هذا الكلام في عصرنا في أصحاب البنوك الربوية، والأنظمة التي تحميها. 3 - قال قتادة تعليقا على آية: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون. وجعلهم بهرجا أين ما كانوا، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا. فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه. فلا يلجئنكم إلى معصية فاقة. 4 - من روايات خطبة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله. لكم رءوس أموالكم، لا تظلمون، ولا تظلمون. وأول ربا موضوع، ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله». وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ذو العسرة أي: ذو الإعسار. أي: وإن وقع غريم من غرمائكم في الإعسار. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أي: فالحكم إنظاره إلى يساره. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي: وإن تتصدقوا برءوس أموالكم، أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم خير لكم يوم القيامة. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ للعلم هنا مدلول أوسع من مدلوله النظري. المراد به هنا: العلم الذي يرافقه العمل. فصار التقدير: وتصدقكم خير لكم إن كان عندكم علم بخيرية هذا عند الله، فتعملون به. فوائد: 1 - روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فلييسر على معسر، أو ليضع عنه». وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. 2 - روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان تاجر يداين الناس

[سورة البقرة (2): آية 281]

فإذا رأى معسرا، قال لفتيانه، تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا. فتجاوز الله عنه». 3 - روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر». 4 - روي الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انظر معسرا إلى ميسرته، أنظره الله بذنبه إلى توبته». ومن حديث رواه ابن عباس، وأخرجه الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «من انظر معسرا، أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم». 5 - روى الإمام أحمد عن بريدة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من انظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة». قال: ثم سمعته يقول: «من انظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة». قلت: سمعتك يا رسول الله تقول: من انظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة. ثم سمعتك تقول: من انظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة، قال له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين. فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة» وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. أي: توفى جزاء ما عملت. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أي: بنقصان الحسنات، وزيادة السيئات. فائدة: القول الراجح عند العلماء، أن هذه الآية آخر آية نزلت من كتاب الله. قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، ومات يوم الاثنين. وروي مثله عن سعيد بن جبير وفي رواية عن ابن عباس بعد أن ذكر أنها آخر ما نزل أن بين نزولها، وموت النبي صلى الله عليه وسلم واحدا وثلاثين يوما. فوائد من الظلال حول فقرة الربا: - 1 - إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة، وربا الفضل.

فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة: «إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه». وقال مجاهد: «كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني. فيؤخر عنه». وقال أبو بكر الجصاص: «إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة. فكانت الزيادة بدلا من الأجل. فأبطله الله تعالى». وقال الإمام الرازي في تفسيره: «إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله. فإذا حل طالبه برأس ماله. فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل». وقد ورد في حديث أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ربا إلا في النسيئة» (رواه البخاري ومسلم). أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشئ بالشئ من نوعه مع زيادة. كبيع الذهب بالذهب. والدراهم بالدراهم. والقمح بالقمح. والشعير بالشعير .. وهكذا .. وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به؛ ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا .. وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة .. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح .. مثلا بمثل .. يدا بيد .. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ... (رواه الشيخان) وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «من أين هذا؟» قال: كان عندنا تمر ردئ فبعت منه صاعين بصاع. فقال: «أوه! عين الربا. عين الربا. لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به». (متفق عليه) فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية. وهي: الزيادة على أصل المال. والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة. وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا

في التعاقد. أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا .. وأما النوع الثاني، فمما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة. وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الردئ وأخذ صاعا من التمر الجيد .. ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية إذ يلد التمر التمر، فقد وصفه صلى الله عليه وسلم بالربا، ونهى عنه. وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد. ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا. إبعادا لشبح الربا من العملية تماما! .. وكذلك شرط القبض: «يدا بيد» .. كيلا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل، ولو من غير زيادة، فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره! إلى هذا بلغت حساسية الرسول صلى الله عليه وسلم بشبح الربا في أية عملية. وبلغت حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية. فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا- ربا النسيئة- بالاستناد إلى حديث أسامة رضي الله عنه، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية وأن يحلوا- دينيا- وباسم الإسلام! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية! ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية .. فالإسلام ليس نظام شكليات. إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل. فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة. إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره، ويحارب عقلية لا تتمشى مع (أحكامه). وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا. ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام. سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة. ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية، أو تتسم بسمة العقلية الربوية .. وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة. وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث. شعور الحصول على الربح بأية وسيلة! (2) وبمناسبة قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يقول

صاحب الظلال: «فهذه الحرب معلنة- كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة. وهي حرب على الأعصاب والقلوب. وحرب على البركة والرخاء. وحرب على السعادة والطمأنينة .. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة. حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف .. وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول. الحرب الساحقة الماحقة التي تنشأ من جرائم النظام الربوي المقيت. فالمرابون أصحاب رءوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات. ثم تقع فيها الشعوب والحكومات. ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب، أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع- إن لم يقع هذا كله- هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطيم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرهيبة. إنها الحرب المشبوبة دائما. وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا .. وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع .. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها- وهي تخرج من منبت الربا الملوث- لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقا، في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون! .. - 3 - فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة. لها وسيلة الجهد الفردي، ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة، ووسيلة الشركات التى تطرح أسهمها مباشرة في السوق- بدون سندات

تأسيس تستأثر بمعظم الربح- وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه، ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة- على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة- ولا تعطيها بالفائدة الثابتة- ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت .. وللمصارف أن تتناول قدرا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال .. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها .. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن.

الفقرة الثالثة من المقطع الثاني من القسم الثالث

الفقرة الثالثة من المقطع الثاني من القسم الثالث إذ حرم الله الربا، فقد فتح أبوابا، تحل محل الربا المحرم. من ذلك بيع السلم. ومن ذلك القرض المضمون بالرهن، أو بالكفيل، أو بذمة الدولة. ومن ذلك شركة المضاربة. والذين يفرضون الربا على هذه الأمة، المحاربون لله ورسوله هؤلاء- زيادة على كونهم يثبتون إثمهم، وحربهم لله ورسوله بذلك- فإنهم يثبتون عجزهم كذلك عن التفكير. فلو أن حكومة من الحكومات، انطلقت من خلال مصارف شركة المضاربة. ومن خلال مصارف السلم. ومن خلال مصارف القرض الحسن. ثم لو حاولت أن توجد صيغ التعامل مع العالم الخارجي على أسس إسلامية مستمدة من كل المدارس الفقهية لكان الوضع مختلفا. لكن العجز عن التفكير، والعجز عن التنفيذ، والجهل والتقليد، وأشياء أخرى، كلها حالت دون قيام ذلك. ونرجو أن يتم ذلك كله في المستقبل. تأتي هذه الفقرة بعد آيات الربا لتذكر البديل عن الربا من ناحية، ولتذكر نموذجا على المعاملات المنضبطة في النظام الإسلامي من ناحية. وهي تكمل موضوع الدخول في الإسلام كله من خلال تبيان أحكام الإسلام، والتربية على الالتزام. تتألف الفقرة من آيتين في الدين وآية فيها إعلان المالكية لله والمحاسبة. والآية الأخيرة بمثابة درس الختام للفقرة، وللمقطع، وللقسم. فهي خاتمة الفقرة من حيث إن الفقرة توجيه في أمر المال الذي هو ملك الله. ومن حيث إن الدين مظنة الهلاك. فالتذكير بمحاسبة الله، يناسب ذلك. وهي بمثابة درس الختام في المقطع. إذ إن المقطع بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ. فإن يختم المقطع بالتذكير بمالكية الله، فذلك هو المناسب. وهي بمثابة درس الختام في القسم الذي يدعو إلى الدخول في الإسلام كله، لتذكر بمالكية الله لنا وحسابه إيانا، فنقيم شرعه، ودينه كاملا.

الفقرة الثالثة: تمتد الفقرة بآياتها الثلاث من الآية (282) إلى نهاية (284). وهذه هي: [سورة البقرة (2): الآيات 282 الى 284] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

كلمة في هذه الفقرة

كلمة في هذه الفقرة: بهذه الآيات ينتهي القسم الأخير من سورة البقرة. ولم يبق إلا خاتمتها والصلة بين هذه الفقرة وما قبلها واضحة. هي صلة القضايا المالية ببعضها. فالفقرة الأولى في الإنفاق، والفقرة الثانية فيما يقابله وهو الربا. وهذه الفقرة في ضبط التعامل بين الناس في الديون والبيوع. ويختم هذا القسم بالإعلان أن الله هو مالك ما في السموات وما في الأرض. فيتصرف الإنسان في ملكه ضمن ما أمر. وليكون ظاهر الإنسان وباطنه مستقيما على أمر الله. لأن الله سيحاسبه على الظاهر والباطن. وقدرة الله محيطة بكل شئ المعنى العام: - الآية الأولى هي آية الدين وهي أطول آية في كتاب الله. وفي الآية إرشاد لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها، وأضبط للشاهد فيها. ومما يدخل في المعاملات المؤجلة بيع السلف، أو السلم المشهور. حتى إن ابن عباس اعتبر الآية فيه. والأمر بكتابة الدين أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم. وأمر أن يتولى الكتابة كاتب. وأمر لهذا الكاتب أن يكتب بالعدل. والقسط، والحق. ولا يجور في كتابته على أحد. ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. ثم أمر من يعرف الكتابة ألا يمتنع من الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس، إذا لم يترتب على ذلك ضرر يصيبه. فكما علمه الله ما لم يعلم، فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة. ثم أعطي حق الإملاء على الكاتب للمدين، وأمر المدين أن يذكر ما في ذمته من الدين كاملا فلا ينقص منه شيئا وليتق الله في ذلك. وفي الحالات التي يكون فيها المدين محجورا عليه، أو صغيرا، أو مجنونا، أو عيا، أو جاهلا لا يعرف الخطأ من الصواب، فقد أعطي حق الإملاء لوليه، وأمر وليه أن يملي

بالعدل والقسط. ثم أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثيق. وأمر أن يكون الشهود إما رجلين، أو رجلا وامرأتين. وهذا النوع من الشهود، إنما يكون في الأموال، وما يقصد به الأموال. وأقيمت المرأتان مقام الرجل في هذا الباب لاحتمال نسيان إحداهما، فتحتاج إلى أخرى من جنسها، تذكرها. إذ قد لا يتاح دائما للرجل أن يخلو بها. ليذكرها، لعدم كونه محرما، والمرأة أقدر على تذكير المرأة، ثم أمر الله أن يكون الشهود عدولا، وطالب المسلمين إذا دعوا لتحمل الشهادة أن يستجيبوا ومن ثم قال الجمهور إن تحمل الشهادة فرض كفاية. ومن شهد ودعي لأداء الشهادة، فقد فرض عليه أداؤها وتكون الشهادة فرض عين على إنسان إذا تعين لإثبات الحق. ثم أتم الله إرشاده بأن أمر بكتابة الحق صغيرا كان أو كبيرا إلى الأجل المحدد. ونهانا عن السآمة والملل في ذلك. ثم بين الحكمة من الأمر بالكتابة والإشهاد، وغير ذلك مما مر بأن هذا أعدل، وأثبت للشاهد. إذ إنه حين يرى خطة يتذكر فلا ينسى. وأن هذا أقرب إلى عدم الريبة. ثم إن الأمر بالكتابة لا يدخل فيه بيع الحاضر يدا بيد. فلا بأس بعدم الكتابة، لانتفاء المحذور في تركها. وفي هذا دليل على أن بيع السلم يدخل في الأمر بالكتابة. ثم أمر الله على سبيل الندب، والإرشاد بالإشهاد على كل بيع. وليست المسألة من باب الوجوب. ثم نهى الكاتب والشاهد أن يضرا أحدا. بأن يكتب الأول خلاف ما أملي عليه. وأن يشهد الثاني بخلاف ما سمع. أو يكتم الحق. أو أن المراد بالنهي، عدم الإضرار بالكاتب، والشهيد بأن يحملا على الكتابة، أو الشهادة في وقت، أو في حال يضر بهما. ثم بين تعالى أنه إن وقعنا في مخالفة ما أمرنا به، أو نهينا عنه، فإنه فسق كائن بنا، ولازم لنا، لا نحيد عنه، ولا ننفك عنه، ثم أمر بتقواه. وذلك بالخوف منه، ومراقبته، واتباع أوامره. ووعدنا على التقوى أن يعلمنا، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وعواقبها. فلا يخفى عليه شئ من الأشياء. بل علمه محيط بجميع الكائنات. فإذا تولى تعليمنا، فذلك الخير كل الخير لنا. وفي الآية الثانية. أرشدنا الله- عزّ وجل- إلى أنه في حالة كوننا مسافرين، وتداينا إلى أجل مسمى، ولم نجد كاتبا يكتب لنا، أو لم نجد أدوات الكتابة، فليكن بدل الكتابة، رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، ثم بين الله- عزّ وجل- حكما عاما، وهو أنه في حالة ائتمان بعضنا بعضا، فلا بأس ألا نكتب، وألا نشهد. ولكن على من اؤتمن، أن يؤدي الأمانة، وأن يخشى الله ويتقيه. ثم نهانا عزّ وجل أن نخفي الشهادة،

فائدة حول السياق في هذا المقطع

فلا نظهرها عند الاحتياج إليها، أو عند الطلب منا أن نؤديها. ثم بين أن من يكتم الشهادة فذلك دليل فجور قلبه، ثم هددنا بأن الله يعلم أعمالنا كلها. فلنحرر أعمالنا على مقتضى شرعه. ثم يختتم هذا القسم كله بالآية الثالثة. فيخبر الله تعالى فيها أن له ملك السموات والأرض وما فيهن، وما بينهن. وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر، والضمائر، وإن دقت وخفيت. وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه، وما أخفوه في صدورهم فيعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء وأنه على هذا وغيره قادر. فإذا عرفنا أن هذه الآية ختام هذا المقطع، عرفنا صلتها بفقراته كلها. فما بين قوله تعالى في أول هذا المقطع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ... وبين قوله تعالى في هذه الآية: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ صلة واضحة. وما بين أمره تعالى بالإنفاق في سبيله، وعدم المن والأذى صلة واضحة مع: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ .... وما بين النهي عن الربا، وبين الآية صلة واضحة. فمالك السموات والأرض له أن يحرم، أو يحل. وما بين آية الدين، وما بعدها، وهذه الآية كذلك صلة واضحة. إذ كتمان الشهادة، أو مضارة الشهيد، وأمثال ذلك مرتبط بإبداء ما في الأنفس، أو إخفائه. فائدة حول السياق في هذا المقطع: نستطيع الآن، بعد ذكر المعنى العام لهذه الفقرة- وقبل ذكر المعنى الحرفي- أن نذكر مزيدا من الصلة بين فقرات هذا المقطع فنقول: 1 - إن هذا المقطع يمثل التوجيهات الربانية الرئيسية في موضوع الاقتصاد الإسلامي الذي يقوم على مبدأ الصدقات الإجبارية والطوعية، والذي يقوم على أساس غير ربوي، والذي يقوم على أسس ضبط التعامل بين الناس على مبادئ العدل والحق، والذي يقوم على أساس الاعتراف لله بمالكيته لكل شئ. هذا الاقتصاد الذي يقوم على أساس تربية الضمير والوجدان. 2 - إن ذكر فقرة عن الربا بين آيات الإنفاق وآية الدين ذو مغزى كبير إذ من هذا السياق ندرك البديل عن النظام الربوي. إن الله الذي حرم الربا، فتح للمسلمين طرق الخلاص منه. هذه الطرق إذا وجدت بشكل عفوي قضت على الربا،

المعنى الحرفي للفقرة

بشكل عفوي. وإذا كان للربا مؤسسات ووجد لها مؤسسات قضت على الربا: هذه الطرق هي: 1 - الزكوات والصدقات. 2 - القرض الحسن. 3 - بيع السلم، والبيع بالتقسيط. 4 - شركة المضاربة. ولقد جاءت آيات الربا بعد الأمر بالصدقات. وذيلت بإنظار المعسر. ففيها إشارة إلى القرض. وجاء بعدها آية الدين، التي فتحت باب السلم، وباب البيع بالتقسيط. المعنى الحرفي للفقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. أي: يا أيها الذين آمنوا إذا داين بعضكم بعضا إلى مدة معلومة، فاكتبوا الدين. وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق، وآمن من النسيان، وأبعد من الجحود. والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. والأمر للندب على قول الجمهور. ويدخل في ذلك بيع السلف. روى مجاهد عن ابن عباس في آية الدين قال: أنزلت في السلم إلى أجل معلوم. وروى البخاري عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه. ثم قرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. كما يدخل في ذلك البيع بالتقسيط والبيع إلى أجل. وقد ذكر ابن عباس الصلة بين هذه الآية، والتي قبلها فقال كما ذكره النسفي: لما حرم الله الربا، أباح السلف. واستدل الحنفية بهذه الآية على اشتراط الأجل في السلم لقوله تعالى فيها: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم». رواه البخاري ومسلم وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ: هل معنى الآية، وليكتب بالعدل كاتب، أو ليكتب كاتب عدل؟. قولان للمفسرين. وعلى القول الثاني يكون معنى النص: وليكتب بين المتداينين كاتب مأمون على ما يكتب. يكتب بالاحتياط. لا يزيد على ما يجب أن يكتب، ولا ينقص. وفيه دليل على أن يكون الكاتب فقيها، عالما بالشروط، حتى يجئ مكتوبه معدلا بالشرع. وفي المعاملات الدولية المعاصرة، وفي المعاملات التجارية المالية، ينبغي أن تراعى في الكاتب شروط أخرى. وفي النص أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وألا يستكتبوا إلا فقيها دينا حتى يكتب ما هو متفق عليه. وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ: أي: ولا يمتنع واحد من الكتاب أن يكتب مثلما علمه الله كتابة الوثائق. لا يبدل، ولا يغير. فليكتب تلك الكتابة، لا يعدل عنها. وَلْيُمْلِلِ

الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. الإملال والإملاء بمعنى واحد. أي: ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق. لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته، وإقراره به. فيكون ذلك إقرارا على نفسه بلسانه. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ. أي: وليتق- الذي عليه الدين- الله. فلا يمتنع عن الإملاء. فيكون جحودا لحق الآخرين. وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً: أي: ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا في الإملاء، فيكون جحودا لبعض الحق فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ: السفيه هنا هو المجنون .. لأن السفه خفة في العقل، أو المحجور عليه، لتبذيره وجهله بالتصرف. والضعيف هنا هو الصغير. وغير المستطيع هنا هو العاجز عن الإملاء، إما لعي، أو خرس، أو جهل باللغة. فإن كان الذي عليه الحق واحدا من هؤلاء فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. أي: فليمل الذي يلى أمره، ويقوم به بالصدق والحق. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ. أي: واطلبوا أن يشهد لكم على الدين شهيدين من المسلمين، والحرية والبلوغ شرطان مع الإسلام. وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ. أي فإن لم يكن الشهيدان رجلين، فليشهد رجل وامرأتان. قال الحنفية: وشهادة الرجال مع النساء تقبل، فيما عدا الحدود، والقصاص. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ. أي: ممن تعرفون عدالتهم. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى: هذا بيان لحكمة كون المرأتين في باب الشهادة هنا برجل. والمعنى: وذلك من أجل أنه إذا نسيت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى: يقول صاحب الظلال: «أنه لا بد من شاهدين على العقد مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ والرضى يشمل معنيين: الأول: أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة. والثاني: أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد .. ولكن ظروفا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرا ميسورا. فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم؛ فأما حين

لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان .. ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محددا واضحا معللا: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى .. والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة. فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته. ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معها على تذكر ملابسات الموضوع كله. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية. فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما. تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء .. وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة .. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها- حين تكون امرأة سوية- بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الواقع بلا تأثر ولا إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى- إذا انحرفت مع أي انفعال- فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة». وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا أي: ولا يرفض الشهداء إذا دعوا لأداء الشهادة، أو لتحملها أن يفعلوا حتى لا تهلك الحقوق. وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ أي: ولا تملوا أن تكتبوا الدين، أو الحق على أي حال كان الحق، من صغر، أو كبر. قال الحنفية: وفيه دلالة جواز السلم في الثياب. لأن ما يكال أو يوزن، لا يقال فيه الصغير والكبير. وإنما يقال في الذرعي، إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا. أي: ذلك الكتب أعدل عند الله، وأعون على إقامة الشهادة، وأقرب من انتفاء الريب للشاهد، والحاكم، وصاحب الحق. فإنه يقع الشك في المقدار، والصفات. فإذا رجعوا إلى المكتوب زال الشك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها. أي: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا، يدا بيد. فلا بأس ألا تكتبوه. لأنه لا يتوهم فيه، ما يتوهم في التداين. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ: هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا، ناجزا كان، أو إلى أجل. لأنه أحوط، وأبعد من وقوع الاختلاف. والأمر للندب. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ: هذا نهي للكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما. وعن

[سورة البقرة (2): آية 283]

التحريف، والزيادة، والنقصان، أو أنه نهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، ويلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الأجرة في حالة الكتابة بأجر. أو يحمل مئونة مجيئه من بلد إلى آخر. وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ: أي: وإن تضاروا، فإن الضرار مأثم بكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ: في مخالفة أوامره. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ: شرائع دينه. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: لا يلحقه سهو، ولا قصور. وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي: وإن كنتم أيها المتداينون مسافرين، فاستوثقوا بالرهن، بدل الإشهاد والكتب. قال النسفي: لما كان السفر مظنة لإعواز الكتب، والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر، بأن يقيم التوثيق بالارتهان، مقام التوثيق بالكتب والإشهاد. لا أن السفر شرط تجويز الارتهان. وذكر القبض بجانب الرهن دليل على اشتراط القبض حتى يتم الرهن فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به، فلم يتوثق بالكتابة، والشهود، والرهن. فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. أي دينه وسمي الدين أمانة هنا، مع أنه مضمون على خلاف الأمانة، لائتمان الدائن المدين عليه، بترك الارتهان منه. وفي النص تهييج للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له. وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ: بأن لا ينكر حقا، وأن يفي بما عليه. ثم توجه الخطاب للشهود، بقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أسند الإثم إلى القلب، لأن كتمان الشهادة، أن يضمرها في القلب، ولا يتكلم بها. فلما كان إثما مقترفا، مكتسبا بالقلب، أسند إليه. وإذ جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من أعاظم الذنوب. لأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح. ألا ترى أن الإيمان، والكفر. والحسد، والكبر، كلها من أفعال القلب. وهي ما هي في شريعتنا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. من كتمان الشهادة، وإظهارها، وغير ذلك من أعمالكم. فائدة: علق صاحب الظلال على آية الدين بقوله: «وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها

[سورة البقرة (2): آية 284]

أو تؤخر. وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته. وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطا لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية. وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها. وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينهما وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما ... إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة الإيحاء والتوجيه. بل هو أوضح وأقوى. لأن الغرض دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ. ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد. ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون؟ .. اه لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا .. وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. أي: وإن تظهروا ما في أنفسكم، أو تسروه، يحاسبكم به الله فيكافئكم ويجازيكم. قال النسفي: (ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان. لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه. ولكن ما اعتقده، وعزم عليه. والحاصل أن عزم الكفر كفر، وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة. وعزم الذنوب إذا ندم عليه، ورجع عنه، واستغفر منه مغفور. فأما إذا هم بسيئة، وهو ثابت على ذلك، إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره، فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله. فبالعزم على الزنا- مثلا- لا يعاقب عقوبة الزنا فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: من المغفرة، والتعذيب، وغير ذلك. فوائد: 1 - في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد، وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار. فقال ائتني بشهداء، أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت، فدفعها إلى أجل مسمى. فخرج الرجل في البحر، فقضى

حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله. فلم يجد مركبا. فأخذ خشبة، فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة معها إلى صاحبها. ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار، فسألنى كفيلا. فقلت: كفى بالله كفيلا. وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا. فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبا. وإني استودعتكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده. فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا تجيئه بماله. فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا. فلما كسرها، وجد المال، والصحيفة. ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينار. وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟. قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت به. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت. به في الخشبة. فانصرف بألفك راشدا» 2 - قال ابن كثير: جاء في الحديث: «إن من الصدقة أن تعين صانعا، أو تصنع لأخرق». وفي الحديث الآخر: «من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». 3 - وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار. فإني رأيتكن أكثر أهل النار». فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟. قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن». قالت: يا رسول الله: ما نقصان العقل والدين قال: «أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ولا تصلي، وتفطر في رمضان. فهذا نقصان الدين». 4 - ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟. الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». فما الجمع بينه، وبين الحديث الآخر الصحيح: «ألا أخبركم بشر الشهداء؟. الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا». وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم، شهادتهم. وتسبق شهادتهم أيمانهم». وكذا قوله: «ثم يأتي قوم يشهدون، ولا

يستشهدون». الجواب: أن الأول في الشهادة الحق. وأن هذه في شهادة الزور. 5 - رأينا أن الجمهور حملوا الأمر بالإشهاد على البيع الناجز على الندب. ومما يشهد لذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي «أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه. فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم: فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته. فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: «أو ليس قد ابتعته منك». قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل قد ابتعته منك». فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأعرابي وهما يتراجعان. فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني بعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقا، حتى جاء خزيمة. فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة، فقال: «بم تشهد؟». فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة، بشهادة رجلين». 6 - في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. اتجاهان للمفسرين: الاتجاه الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. والقول الثاني: أنها غير منسوخة. وإنما قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بيان لما يكون عليه الحساب. وهو مما يدخل تحت الوسع، ويدخل تحت الكسب. والمهم أن نعرف أن المؤاخذة في العزم ثابتة. وأما الخطرة دون العزم، فالجمهور على أنها معفو عنها. فإذا اتضح هذا، فمسألة النسخ وعدمه، إنما هي مسألة اصطلاحية، تدور حول التخصيص، هل هو نسخ، أو بيان،. مع الملاحظة أن القاعدة الكلية هي أن النسخ يكون في الأحكام، لا في الأخبار. وقد أخذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أمر شديد، حتى فرج الله عنهم بأن أنزل الآيتين بعدها. ومما ورد في ذلك. ما رواه الإمام أحمد، وغيره عن أبي هريرة قال: لما نزلت على

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... اشتد ذلك على أصحاب رسول الله: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، وقالوا يا رسول الله: كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم؛ سمعنا وعصينا؟. بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير». فلما أقر بها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: آمَنَ الرَّسُولُ ... إلى آخر الآيتين. فلما فعلوا ذلك نسخها الله. وكما قلنا سابقا، إن كلمة النسخ هنا كلمة اصطلاحية. تفيد البيان المقيد، لا أكثر. ولذلك نجد روايات عن ابن عباس تفيد النسخ، وروايات تفيد عدم النسخ. لأن الأمر كما ذكرنا. وممن روي عنه عدم النسخ: مجاهد، والضحاك، والحسن البصري. واختاره ابن جرير. واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة، المعاقبة. وأنه تعالى قد يحاسب؛ ويغفر. وقد يحاسب؛ ويعاقب: بالحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدنو المؤمن من ربه عزّ وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه. فيقول له: هل تعرف كذا؟. فيقول: رب أعرف، أعرف. حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا. وإني أغفرها لك اليوم قال: فيعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه. وأما الكفار، والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (سورة هود). 7 - من الأحاديث التي تدل على أن الله لا يحاسب على ما دون العزم ما رواه أصحاب الكتب الستة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل». وهذا في الخطرة الآثمة إذا رفضها القلب. أما إذا قبلها القلب، وعزم على فعلها، فالجمهور على أنه يأثم بذلك. ولكنه إن تركها لله، فإن الله يأجره على ذلك. روى مسلم عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات، والسيئات. ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده سيئة واحدة».

فصل في موضوع الأموال

والسؤال، لو أنه عزم على السيئة، وحاولها، ولم ينجح في الوصول إليها، الراجح أنه يأثم. ولكن دون إثم الفاعل. وبهذا ينتهي الكلام عن آخر قسم من أقسام سورة البقرة. وبقي الكلام عن خاتمتها. فصل في موضوع الأموال: رأينا أن النظام الإسلامي المالي من أركانه: الإنفاق. ومن معالمه، تحريم الربا. ومن معالمه، المعاملات المنضبطة. ويدخل في الإنفاق، الزكاة، وصدقة الفطر. ويدخل فيه الوقف. ويدخل فيه الإنفاق الواجب. وتدخل فيه التطوعات عامة. إن هذه المعاني عند ما تنطلق في الحياة البشرية، وتأخذ مداها، موجهة بالعلم، وحسن التطبيق. ووضع الأمور في مواضعها. فإن ما يمكن أن يترتب عليها من آثار، لا يمكن إحصاؤها في حل المشكلات، وإنقاذ الأوضاع، وإيجاد حياة اقتصادية نشيطة. فوجوب الإنفاق، وتحريم الربا يضطر أصحاب رءوس الأموال لتشغيلها في السلم، وشركات المضاربة، أو إقراضها القرض الحسن، مما يجعل رأس المال يتحرك، ويحرك في غير ما تأثير ضار على الحياة الاقتصادية، والاجتماعية. فإذا رافق هذا معاملات منضبطة، تضبطها قواعد العدل، والحق الإلهيين من خلال النصوص، ومن خلال الفتوى البصيرة فإن الوضع الاجتماعي، والاقتصادى للأمة، يكون على غاية المتانة. كلمة أخيرة في القسم الثالث: لقد رأينا في هذا القسم كلاما عن المرأة، وكلاما عن الرجل. ورأينا فيه كلاما في الحرب، والقتال، والسياسة. ورأينا كلاما عن شئون مالية، واقتصادية. ورأينا فيه كلاما عن الصلاة والإنفاق. ورأينا فيه كلاما عن الله، واليوم الآخر. وكل ذلك جاء في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله. ومجئ ذلك في هذا السياق، يشعرنا أنه لا انفصال بين أركان الإسلام، وبقية الإسلام. وأنه لا انفصال بين التقوى، وبين ما ينبغي أن ينبثق عنها من التزام بالإسلام كله. وفي ذلك كله تصحيح لمفاهيم أكثر الخلق. إنه تصحيح لمفاهيم الذين يتصورون أن الدين الحق منفصل عن الدولة. وإنه تصحيح لمفاهيم الذين يتصورون أن الله- جل جلاله- لا دخل له في شئون هذا العالم. وأنه تصحيح لمفاهيم الذين يتصورون أن التقوى مجرد صلاة فقط، أو إقامة لأركان

خاتمة السورة،

الإسلام فقط. وإنه تصحيح لمفاهيم تضخمت بسببها معان، وضمرت معان، وفي ذلك من مظاهر الإعجاز الكثير. ولكن الإعجاز في هذا القرآن أوسع مدى. خاتمة السورة، وهي آيتان، هما: [سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) مما ورد في فضل هاتين الآيتين: 1 - أخرج مسلم، والنسائي عن ابن عباس- وهذا لفظ النسائي- قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضا فوقه. فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء، ما فتح قط. قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته». 2 - روى ابن مردويه عن معقل بن يسار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، والمفصل نافلة». 3 - روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ الآيتين من سورة البقرة، فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش».

المعنى

4 - وفي الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة، كفتاه». وقال علي رضي الله عنه: «لا أرى أحدا عقل الإسلام، ينام حتى يقرأ آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة. فإنها كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش»، رواه ابن مردويه. المعنى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي: صدق. روى الحاكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية، قال: «حق له أن يؤمن». وهذا إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وَالْمُؤْمِنُونَ: هذا معطوف. على الرسول صلى الله عليه وسلم. أي: والمؤمنون آمنوا. ثم أخبر عن الجميع، فقال: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد، أحد، فرد، صمد. لا إله غيره، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء، والرسل، والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي: يقولون هذا. فهم لا يفرقون بين رسول، ورسول. فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض. بل الجميع عندهم صادقون، بارون، راشدون، مهديون هادون إلى سبيل الخير. وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. أي: سمعنا قولك يا ربنا. وفهمنا. وأطعنا أمرك، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه. فجمعوا بهذا: الإيمان اللساني، والطاعة. والسمع يقتضي علما بما أنزل. والطاعة أثر عن الاستسلام لله ورسوله. وتتمة قولهم: سمعنا وأطعنا كما قصه الله علينا: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: اغفر لنا. يا ربنا، وإليك مرجعنا ومآبنا. فهم يطلبون بعد الإيمان، والعمل: المغفرة، والرحمة، واللطف. ويقرون بالبعث، والجزاء، إقرار المؤمن، الخائف، الوجل، المشفق. بهذه الآية وصف الله المؤمنين هذا الوصف الجامع كما رأينا. فهم مصدقون، سامعون، مطيعون، شاعرون بالتقصير، طالبون للمغفرة، مشفقون من المصير. لقد أحاطت هذه الآية بصفات المؤمنين إحاطة كاملة، شاملة. وذكر ابن جرير أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، قال جبريل: (إن الله قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك. فسل، تعطه ... ). وإذ وصف الله عزّ وجل المؤمنين في الآية السابقة هذا الوصف الجامع. فإنه في الآية

الثانية، وصف شأنه، وعدله. ثم علم المؤمنين أن يدعوه بما يناسب مقامهم، وجلاله. قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. أي: لا يكلف الله أحدا فوق طاقته. وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته بهم، وإحسانه إليهم. فتكليفه لا يكون إلا ضمن القدرة، والطاقة بما يتيسر على الإنسان فعله، دون مدى غاية الطاقة والمجهود وهذا النص هو المبين، أو الناسخ لقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. كما رأينا. أي: هو- جل جلاله- وإن حاسب، وسأل، ولكن- لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه. فأما ما لا يملك الإنسان دفعه من وسوسة النفس، والشيطان، وحديثهما، فهذا لا يكلف به الإنسان. ولكنه يكلف برد ذلك، وعدم قبوله، وكراهيته. وهذا ضمن وسعه. والصلة بين هذا النص، وما قبله، واضحة. فالمؤمنون قاموا بحق ربهم. وربهم لم يكلفهم إلا ضمن طاقتهم. فلم يقوموا بحق الله لولا لطفه بهم. ولو شاء لأعنتهم. ولكنه رحيم، لطيف. ثم بين الله عزّ وجل عدله في معاملة أنفس عباده، فقال: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي: لها ما كسبت من خير. وعليها ما اكتسبت من شر. وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف. وإذ بين الله عزّ وجل لطفه، وعدله، أرشد عباده إلى سؤاله. وتكفل لهم بالإجابة. فعلمهم أن يقولوا: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. أي: لا تؤاخذنا إن تركنا فرضا أو أمرا على جهة السهو أو النسيان. أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا، أو من غير قصد منا ووقعنا في محظور. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. الإصر: هو العبء يأصر صاحبه. أي: يحبسه في مكانه لثقله. فصار المعنى: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا، من الأغلال، والآصار التي كانت عليهم. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. أي: من التكاليف، والمصائب، والبلاء. لا تبتلنا بما لا قبل لنا به. وَاعْفُ عَنَّا. أي: امح سيئاتنا بيننا وبينك، ومما تعلمه من تقصيرنا وزللنا وَاغْفِرْ لَنا. أي: واستر ذنوبنا فيما بيننا وبين عبادك. فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة. وَارْحَمْنا. بأن توفقنا فيما يستقبل فلا توقعنا بذنب آخر. وارحمنا بأن تثقل ميزاننا مع إفلاسنا. ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم.

فوائد

وأن يعصمه، فلا يوقعه في نظيره. أَنْتَ مَوْلانا. أي: أنت ولينا، وناصرنا. وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وإذ كنت مولانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك. فانصرنا عليهم. واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة. وكان معاذ بن جبل إذا ختم البقرة قال: آمين فاللهم آمين. أي خاتمة أعظم من هذه الخاتمة! التي أحاطت بصفات أهل الإيمان، ووصفت الله بما يليق بذاته، من فضل وعدل. وعلمتنا العبودية لله بهذه الدعوات التي أحاطت بالخير كله. فلئن كانت الآيات الأولى في سورة البقرة، وصفت المتقين. فقد ختمت السورة بتبيان حال المؤمنين. فافطن للصلة بين البداية، والنهاية بين قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... في البداية وبين قوله تعالى في النهاية: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. بين قوله تعالى في البداية وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وبين قوله تعالى في النهاية آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. بين قوله تعالى في البداية: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وبين قوله في النهاية، واصفا المؤمنين: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وافطن للصلة بين سورة البقرة كلها، وقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. وافطن لهذه الدعوات في نهايتها بعد تلك التكليفات فيها. فوائد: 1 - قد استجاب الله لهذه الأمة، هذه الدعوات التي وردت في آخر سورة البقرة. وقد ورد في ذلك أكثر من حديث صحيح. منه ما يفيد أن الله عزّ وجل يقول بعد كل دعوة: (نعم). ومنه ما يفيد أن الله عزّ وجل يقول بعد كل دعوة: (قد فعلت). 2 - روى ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والطبراني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». 3 - قال ابن كثير: (وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

كلمة عن سورة البقرة

«بعثت بالحنفية السمحة». 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. ينقل ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم من قول مكحول فيما يدخل تحتها: (العزبة، والغلمة) أي العزوبة، وفرط الشهوة. وهذا يعني أن مكحولا يرى، أن أشد ما يمتحن به الانسان، فرط الشهوة، مع عدم تيسر الزواج. ولنتذكر في هذه الحالة، أن الصوم حل. يقي المسلم جموح الشهوات. كلمة عن سورة البقرة 1 - بعد أن انتهينا من استعراض سورة البقرة. يحسن أن نتحدث عنها باختصار. رأينا أن سورة البقرة تتألف من مقدمة، وثلاثة أقسام، وخاتمة. أما المقدمة: فهي الآيات العشرون الأولى. وفيها أقسام الناس حسب التقسيم الرباني الإسلامي: متقين، وكافرين، ومنافقين، وصفة كل منهم. وأما القسم الأول: فمن الآية (21) إلى نهاية الآية (167). وفيها دعوة عامة إلى الناس جميعا كي يسلكوا الطريق الموصل إلى تقوى الله. ويتركوا كل ما يتاني ذلك. وأما القسم الثاني: فمن الآية (168) إلى نهاية الآية (207). وهو استمرار للقسم الأول في كونه دلالة على التقوى، وتفصيلا في شأنها، وتبيانا لأركانها، وشروطها، وما يدخل فيها. وموقف الناس منها. وغير ذلك من معان. وأما القسم الثالث: فمن الآية (208) إلى نهاية الآية (284). وفيه دعوة إلى الدخول في الإسلام كله. وتبيان لكثير من شرائع الإسلام. وتبيان ما يلزم لإقامة الإسلام كله. وفيه التوجيهات الرئيسية في قضايا المال. وفيه الملامح الرئيسية لنظام الاقتصاد في الإسلام. النظام القائم على الصدقات. والنظام غير الربوي. والنظام القائم على التعامل المنضبط. مع تقديم المالكية لله. ثم تأتي الخاتمة التى يدخل فيها هذا كله. إذ مرجع هذا كله إلى الإيمان، والسمع والطاعة والتوبة من التقصير. وهذا الذي عرضته الآية الأولى في الخاتمة، ومرجع ما مر كله يعود إلى التكليف المستطاع للإنسان. وأن هذا التكليف بسببه يكون الجزاء،

والعقاب. وهذا الذي ذكرته الآية الثانية من الخاتمة. وهذا والذي قبله، لا يتأتى إلا بعبودية كاملة، وتوفيق من الله وهذا الذي علمتنا إياه الدعوات. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. لقد جمعت هذه الدعوات الخاتمة، كل التطلعات التي يتطلع إليها المؤمنون. وكان ذلك ختام السورة. 2 - ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة قوله: «إن كادت لتستحصي القرآن كله». وقد رأينا خلال استعراض السورة، أنها استوعبت من المعاني ما لا يحاط به. ولكن الأمر بالنسبة لسورة البقرة، أوسع مما عرضناه فقد رأينا أن هذا القرآن يتألف من أربعة أقسام: قسم الطوال. وقسم المئين. وقسم المثاني. وقسم المفصل، كما ورد في حديث حسن. وقد رأينا في أول هذا التفسير، كيف أن بقية قسم الطوال مرتبة على نسق معين، مرتبط بنفس الترتيب الموجود في سورة البقرة. فسورة آل عمران، تفصيل لمعان جاءت في أول البقرة. وسورة النساء، تفصيل لمعان جاءت بعد ذلك. وهكذا قل في المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة. وسنرى أن قسم المئين يتألف من ثلاث مجموعات. كل مجموعة تفصل في محاور من سورة البقرة على ترتيب وتسلسل موجودين في سورة البقرة. ثم يأتي قسم المثاني وهو يتألف من مجموعات كثيرة، كل منها يفصل في محاور من سورة البقرة على ترتيب وتسلسل موجودين في سورة البقرة. وكذلك قسم المفصل. وسنرى ذلك في هذا التفسير واضحا دون أن نتكلف في شأنه، أو نتعسف. وبهذا كله يظهر لنا كيف تستوعب سورة البقرة معاني القرآن. وبهذا كله يظهر نوع من أنواع الإعجاز في القرآن. وما أكثر أنواع الإعجاز، وما أكثر المعجزات في هذا القرآن. وسنرى بشكل واضح، كيف أن كل مجموعة سور، ستعرض معاني بتسلسل خاص ضمن قاعدة كلية. وسنرى كيف أن بعض المعاني نتيجة لذلك عرضت على أشكال كثيرة، وبطرق عرض متعددة. وسنرى أن لكل مجموعة خصائصها، مع اشتراك الجميع في خصائص واحدة، وكل ذلك سنراه في هذا التفسير بإذن الله. ونسأل الله أن يجعلنا كلنا لله. ذواتنا، وأعمالنا، وأقوالنا، وكل شئ فينا.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

نحن نعتقد أن هذا التفسير انفرد بنظرية جديدة في فهم الوحدة القرآنية- في علمنا- فلقد كان المفسرون على اتجاهات متعددة في هذا الموضوع، بعضهم أهمله كلية، وبعضهم تكلم فيه ولكن في حدود وحدة السورة، وبعضهم تكلم فيه ولكن في حدود الوحدة الموضوعية الكلية للقرآن، بمعنى أن المعاني القرآنية تتكامل ولا تتعارض، وبعضهم تكلم فيه من حيث إن نهاية السورة السابقة لها صلة ببداية السورة اللاحقة، ونحن مع ملاحظتنا لهذا كله نرى أن هناك شيئا آخر قد غفل عنه المفسرون وحاولناه في هذا التفسير، ونعتقد أن هذه هي الميزة لهذا التفسير، إذ ما من شئ فيه إلا ويمكن أن يشاركنا فيه غيرنا، فإذا زاد في جانب فلربما نقص في جانب آخر، ولقد تحدثنا في مقدمة المجلد الأول عما استهدفناه في هذا التفسير بل في السلسلة كلها فلا نعيده. وفي سورة البقرة حاولنا قدر الإمكان أن نبرز وحدة السورة، ولكنا من سورة آل عمران سنحاول أن نبرز وحدة السورة مع إبرازنا لصلة هذه السورة في السياق القرآني العام، فلقد مر معنا من قبل أنه من خلال السنة، ومن خلال المعاني يتضح لنا أن هذا القرآن أربعة أقسام: قسم السبع الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل، وأن قسم السبع الطوال ينتهي بنهاية سورة براءة، فهذا القسم في الحقيقة ثمانية سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة. ومر معنا أن الأنفال وبراءة تشبهان أن تكونا سورة واحدة؛ ولذلك فإنه لم يفصل بينهما بالبسملة. وكنا ذكرنا كذلك من قبل، أن السور اللاحقة لسورة البقرة من قسم الطوال، تفصل في المعاني التي وردت في سورة البقرة. فمما ذكرناه هناك أن آل عمران. تقابل الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، وكما أن هذه الآيات مبدوءة ب الم، فإن «آل عمران» مبدوءة ب الم، وكما أن هذه الآيات مختومة بكلمة الفلاح: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، فإن سورة آل عمران مختومة بكلمة الفلاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وعلى هذا، فسورة آل عمران تلقي أضواء التفصيل على الآيات الأولى من سورة البقرة. وسورة النساء تقابل بعد ذلك في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ونلاحظ أن سورة النساء مبدوءة ب

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. وليلاحظ الشبه بين آية البقرة وبداية سورة النساء. والمائدة بعد ذلك تقابل في سورة البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... ونلاحظ أن سورة المائدة مبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. والأنعام بعد ذلك تقابل في سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... ويلاحظ أن سورة الأنعام مبدوءة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ... والأعراف بعد ذلك تقابل في سورة البقرة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ويلاحظ أن سورة الأعراف مبدوءة بقوله تعالى: المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .... والأنفال وبراءة- وهما في موضوع واحد- يقابلان في سورة البقرة قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .... بعد آية فرضية القتال، ويلاحظ أن سورة الأنفال مبدوءة بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ .... ثم يكون مضمون سورتي الأنفال وبراءة في معاني القتال. فأنت تلاحظ ملاحظة أولية- ستتضح لك فيما بعد- أن هذه المجموعة تلقي أضواء على آيات في سورة البقرة بنفس الترتيب الموجود في سورة البقرة، ومن ثم ندرك بعضا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سورة البقرة: «إن كادت لتستحصي الدين كله» وندرك سرا من أسرار الإعجاز في هذا القرآن العظيم. وسيتضح لنا من خلال تفسير بقية السبع الطوال هذا المعنى بشكل أعمق. على أن هذا التفسير وإن كان يركز على موضوع الوحدة القرآنية، والسياق القرآني العام، فهو كذلك يركز على وحدة السورة، وعلى إبراز سياقها الخاص، بل إن هذه النظرية التي اعتمدناها في موضوع الوحدة القرآنية، أعطت السياق الخاص لكل سورة آفاقا جديدة. إن لهذا القرآن ملامح عامة مشتركة، وله وحدته وترتيبه، ثم إن لكل سورة من سوره ملامحها الخاصة بها، وسياقها الخاص بها، وقد عبر صاحب الظلال عن

الشخصية الخاصة لكل سورة آنق تعبير- وهو يتحدث عن إحدى السور- بقوله: «إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا .. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة، أن تتجمع الموضوعات في كل سورة، وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها، تبرز فيه ملامحها، وتتميز به شخصيتها كالكائن الحي المميز السمات والملامح، وهو- مع هذا- واحد من جنسه على العموم. ونحن نرى في هذه السورة- ونكاد نحس- أنها كائن حي، يستهدف غرضا معينا، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل .. والفقرات والكلمات في السورة، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها- كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن- إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي، المعروف السمات، المميز الملامح، صاحب القصد والوجهة، وصاحب الحياة والحركة، وصاحب الحس والشعور!» اهـ. وسنحاول في هذا التفسير، أن نبذل جهدا متوازنا، لإبراز الوحدة القرآنية والسياق العام، مع إبراز وحدة السورة وسياقها الخاص، مع محاولتنا تفهيم القرآن بالقدر المستطاع لنا، مع التركيز على قضايا بعينها، وعلى ضوء ذلك، نسير على بركة الله- عزّ وجل- وهذا أوان الشروع في السورة الثانية من قسم الطوال.

سورة آل عمران

سورة آل عمران وهي السورة الثالثة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من قسم الطوال وآياتها مائتان آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة آل عمران

كلمة في سورة آل عمران: كنا لاحظنا ملاحظة مبدئية، أن الآيات الأولى في سورة البقرة، بدأت بقوله تعالى: الم. وأن تلك الآيات التي وصفت المتقين في سورة البقرة، انتهت بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وأن سورة آل عمران مبدوءة ب الم ومنتهية بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فآخر آية فيها هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وقلنا كذلك مبدئيا: إن سورة آل عمران تفصل في الآيات الأولى من سورة البقرة. فإذا كان الكلام عن المتقين في سورة البقرة، قد استتبع الكلام عن الكافرين والمنافقين، حتى جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ.* فإننا كذلك نفترض أن سورة آل عمران يستتبع الكلام فيها عن صفات المتقين أن يكون فيها تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة، أي لما ورد في العشرين آية الأولى. هذا كله ندعيه وعلينا أن نأتي بالبرهان. لنلاحظ الآن بعض الأمور: أول آيتين في البقرة هما: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. فههنا حديث عن الكتاب مباشرة وليس فيهما حديث عن منزل الكتاب، والملاحظ أن سورة آل عمران تبدأ بالحديث عن منزل الكتاب سبحانه: الم* اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. كما نلاحظ أنه بعد آيات يأتي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ .... وبعد الآيتين الأوليين من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. والملاحظ أن القسم المبدوء بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ .... من آل عمران يرد فيه قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. فكأنه فصل من فصول الإيمان بالغيب تفصل فيه سورة آل عمران، وبعد الآية الثالثة من البقرة يأتي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. والملاحظ أن الآية قبل الأخيرة في سورة آل عمران هي: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. ألا ترى أن هذه النقاط العلام الواضحة تدل على صحة ما ذهبنا إليه؟! ولكن الأمر سنرى براهينه

بشكل أوضح. والآن نريد أن نذكر لك شيئا جديدا حول الوحدة القرآنية لم نذكره من قبل: إن مقدمة سورة البقرة هي محور سورة آل عمران كما ذكرنا، ولكن مقدمة سورة البقرة لها امتداداتها في سورة البقرة نفسها، فمثلا في مقدمة السورة ورد قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. ومن امتدادات هذا المعنى قوله تعالى: ... وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. ومن امتداداته أيضا قوله تعالى: . وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ .... وفي مقدمة السورة ورد قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... ومن امتدادات هذا المعنى قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. وقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ .... وإذن ففي سورة البقرة نفسها آيات تفصل آيات. فإذا اتضح ذلك فلنقل كلمة أخرى سيأتي دليلها: إن سورة آل عمران محورها مقدمة سورة البقرة، ولكنها تفصل وتبني على المحور وامتداداته. ومن ثم فإن الحوار الذي جرى في سورة البقرة مع أهل الكتاب- في دعوتهم إلى الإيمان- نجد في موضوعه- قسما برأسه في آل عمران، ومبنيا على الحوار الذي تم في سورة البقرة. فمثلا: في سورة البقرة كلام عن النسخ. وفي سورة آل عمران ضرب مثل على نوع من النسخ حدث في حياة يهود: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ. وقال تعالى في سورة البقرة: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. وفي سورة آل عمران: لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وهكذا نجد أن سورة آل عمران تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وامتداد معاني المقدمة في السورة كلها. فالأمر بالنسبة للوحدة القرآنية أوسع مما صورناه مبسطين في أول هذا التفسير، وهو شئ لا ينقضي منه العجب كما سنرى. وحتى الآن نعتبر أن كل ما قلناه دعوى وعلينا أن نقيم عليها البرهان، ونكمل دعوانا فنقول: إن سورة آل عمران تنقسم إلى خمسة أقسام، واضحة المعالم، وقد دلنا على ذلك: المعاني، وبعض المعالم. فالقسمان الأولان نهايتهما متشابهة، والقسم الثالث نهايته

مشابهة لبدايته، والقسمان الأخيران بدايتهما متشابهة: القسم الأول: يمتد من الآية الأولى إلى نهاية الآية (32) وخاتمته: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. القسم الثاني: ويمتد من الآية (33): إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ... وينتهي بنهاية الآية (63) التي خاتمتها: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. لاحظ التشابه بين نهايتي القسمين!. القسم الثالث: ويمتد من الآية (64) إلى نهاية الآية (99). بدايته قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ .... ونهايته قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. لاحظ أن البداية والنهاية فيها: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ.* القسم الرابع: ويمتد من الآية (100) إلى نهاية الآية (148) وبدايته. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. القسم الخامس: وبدايته من الآية (149): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وينتهي بنهاية السورة، لاحظ التشابه بين بدايتي القسمين!! وسيأتي البرهان والتفصيل فيما بعد. فلنبدأ- على بركة الله- تفسير السورة، وقد رأينا من قبل الأحاديث الواردة في فضلها مع سورة البقرة. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو- غيايتان- أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان عن أهلهما يوم القيامة». وكان سعيد بن جبير يروي عن عمر قوله: «من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان- أو كتب- من القانتين». وكان يزيد بن الأسود الجرشي يحدث: أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما في ليلة برئ من النفاق حتى يصبح. قال فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه.

القسم الأول من سورة آل عمران

القسم الأول من سورة آل عمران يمتد هذا القسم من الآية (الأولى) حتى نهاية الآية (32)، وهو يتألف من مقطعين: المقطع الأول: وهو ثمان عشرة آية بدايته: الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. ونهايته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ. لاحظ أن بداية المقطع حديث عن قيوميته- جل جلاله- وأن خاتمته حديث عن قيوميته كذلك. والمقطع الثاني: بدايته: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ .... ونهايته: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وبين المقطع الأول والثاني تلاحم عجيب سنراه، ومن ثم فإنهما يشكلان قسما واحدا. والقسم كله يفصل في مقدمة سورة البقرة- كما سنرى- فلنعرض مقطعيه: المقطع الأول بسم الله الرحمن الرحيم [سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

[سورة آل عمران (3): الآيات 7 الى 14] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

كلمة في المقطع

[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 18] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) كلمة في المقطع: (1) يتألف المقطع من ثلاث فقرات، فقرة تتحدث عن القرآن وإنزاله ومنزله ونوعي آياته، والموقف الصحيح منهما، وفقرة تتحدث عن الكافرين، وفقرة تتحدث عن تزيين الحياة الدنيا للناس، وتبيان أن الآخرة خير لمن كان تقيا. والمقطع يبدأ بالكلام عن وحدانية الله وقيوميته، وينتهي بهذا المعنى، وهذا الذي دلنا على البداية والنهاية، وكما تحدثت البداية والنهاية عن الوحدانية والقيومية، فقد تحدثت البداية والنهاية عن عزته- جل جلاله- وحكمته. ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته: إنزال الكتب، وامتحان الخلق بمعانيها ومحاسبتهم عليها، ومعاقبة الكافرين وإثابة المؤمنين. ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته: أن ينصر المؤمنين على الكافرين في الدنيا والآخرة، ويعذب الكافرين في الدنيا والآخرة. ومن مظاهر وحدانيته وقيوميته وعزته وحكمته: تزيين الحياة الدنيا للناس لتقوم هذه الحياة! وليبتلي بذلك خلقه وليمحص أهل التقوى من غيرهم!. (2) الفقرة الأولى ذكرت موقف أهل الإيمان من هديه المنزل، وتوعدت الكافرين، والفقرة الثانية ذكرت موقف الكافرين من هديه وما يستحقونه بسبب ذلك، وذكرت الفقرة الثالثة تزيين الحياة الدنيا، فكأن الفقرة الثالثة فيها تعليل لسبب كفر الكافرين، ومن ثم جاءت الآيات- بعد ذلك- لتنهض بهمة المؤمنين إلى الله. (3) قلنا: إن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، فلنلاحظ الآن ما يلي: في مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ

هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وفي الفقرة الأولى من المقطع الأول جاء كلام عن منزل القرآن، وأدب الاهتداء بالقرآن في اتباع المحكم، والتسليم للمتشابه، والدعاء لله- عزّ وجل- بالهداية. وفي مقدمة سورة البقرة جاء كلام عن الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ... وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وفي الفقرة الثانية- من المقطع الأول من سورة آل عمران- كلام عن الكافرين وما أعد الله لهم من العذاب، واستحقاقهم عذاب الدنيا؛ وأمر للمؤمنين في أنواع من الخطاب يخاطبون بها الكافرين. وفي مقدمة سورة البقرة تأتي فقرة عن المنافقين بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ. والفقرة الثالثة من هذا المقطع هي: زُيِّنَ لِلنَّاسِ .... وقد وصف المتقون في مقدمة سورة البقرة بالاهتداء بالقرآن، وبالإيمان بالغيب، وبإقام الصلاة، وبالإنفاق، وقد جاء في أواخر المقطع ما هو تفصيل لهذه الصفات: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. فالمقطع إذن فصل في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل. (4) قلنا: إن معاني مقدمة سورة البقرة لها امتدادات في سورة البقرة نفسها وهاهنا لنفصل قليلا: بعد المقدمة في سورة البقرة يأتي قوله تعالى في وصف النار: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وكأن هذا المعنى امتداد للحديث عن الكافرين في المقدمة. وهاهنا يقول الله- عزّ وجل- عن الكافرين في آل عمران: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. وبعد المقدمة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. وذلك امتداد للكلام عن المتقين في أول السورة. وهاهنا يأتي تفصيل للإيمان والعمل الصالح والجزاء قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ. وفي سورة البقرة آية البر التي فصلت في وصف المتقين فكأنها امتداد لمقدمتها، فذكرت الصبر والصدق من صفات المتقين، وهاهنا يأتي تفصيل لذلك كله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

فصل في الحروف التي بدئت بها بعض السور القرآنية

خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. ومن السياق نفهم أن من لم تجتمع له مجموعة هذه الخصال لا يستطيع أن يتخلص من أسر شهوات الحياة الدنيا فيضبطها على أمر الله. ونحب قبل أن نبدأ عرض المعاني العامة للمقطع أن نعقد فصلا نتحدث فيه عن بعض أقوال المفسرين في الحروف التي بدئت بها بعض السور استكمالا لما كنا قد ذكرناه من قبل. فصل في الحروف التي بدئت بها بعض السور القرآنية: قلنا من قبل: إن مجموع ما ذكره المفسرون في شأن الحروف، لا يعدو أن يكون من باب تسجيل الملاحظات حولها دون أن يكون تفسيرا لها، ولم يزل المفسرون ولا يزالوا يسجلون ملاحظات. ومن أهم الملاحظات التي سجلت حول هذه البدايات ثلاث ملاحظات: الأولى: أن فيها إشارة إلى الإعجاز. والثانية: وهي امتداد لقضية الإعجاز أنها تشير إلى نسبة ورود الأحرف المبدوءة بها السورة بالنسبة لسور أخرى لم ترد في أوائلها هذه الأحرف. والثالثة: أن هذه الأحرف جزء من فواتح السور التي ندرك من خلالها، ومن خلال معان أخرى مفاتيح الوحدة القرآنية، مما سنراه في هذا التفسير. ونزيد هاهنا فنقول: إن بعضهم اعتبر كل حرف من هذه الأحرف، فيه إشارة إلى كلمات. فالألف مثلا تشير إلى آلاء الله، واللام تشير إلى لفظ الجلالة «الله» وهكذا. وذهب بعضهم إلى أنها أسماء للسور التى وردت فيها، وذهب بعضهم إلى أنها تشير إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل، وأول من حاول أن يبني على هذا الفهم، اليهود في زمن النبوة، إذ ظنوا أن في ذلك إشارة إلى مدة أجل الإسلام، كما سنرى الرواية في

ذلك، وقد بنى بعضهم على هذا الاتجاه واستخرج أمورا، ومن كلام الألوسي: «ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبد السلام: أن عليا رضي الله عنه استخرج وقعة معاوية من (حم عسق) واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره (فتح بيت المقدس) سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ. «وهناك أقوال كثيرة أخرى يذكرها المفسرون: من أنها لإيقاظ السامع أو التالي، أو للإشارة إلى ما في هذا القرآن من جديد غير معتاد. ولبعض الكفرة رأي في هذا الشأن، نسجله ليعرف ويتأمل، وهو أن هذه الأحرف تحدد جرس السورة، فهي بمثابة المفتاح لطريقة الأداء. وما من أحد يدعي أنه أصاب في شأنها مراد الله فيها، ولكن في كل ما قيل ويمكن أن يقال- مما يستطيع أصحابه أن يدللوا عليه- تظهر بعض أسرار هذه الحروف، ويظهر بذلك بعض أسرار الإعجاز. ومن كلام الألوسي فيها: «ومن عجائب هذه المفاتح أنها نصف حروف المعجم على قول، وهي موجودة في تسع وعشرين سورة، عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة». اهـ. وبعد أن عرض ابن كثير للأقوال الكثيرة في هذه الفواتح، رجح أن يكون المراد منها الإشارة إلى الإعجاز والتحدي، ثم ختم كلامه عنها برد كلام من زعم أنها دالة على معرفة المدد، فلننقل كلامه لأن فيه سردا لما نقل عن اليهود في هذا الشأن: قال ابن كثير: «وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن زياد قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فقال: أنت سمعته. قال: نعم فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقالوا: يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك الم* ذلِكَ الْكِتابُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: «نعم». قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره؟ فقال نعم، قال ما ذاك قال المص قال هذا أثقل وأطول. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون (¬1) فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة: هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: ما ذاك؟ قال: الر. قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: «نعم» قال ماذا؟ قال: «المر» قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات أنزلت فيهم هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك- إن كان صحيحا- أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم!!!. أقول: إن حسبنا مجموع هذه الأحرف بحساب الجمل- على بعض اتجاهات أهله- فإن مجموعها يكون (2980) ألفان وتسعمائة وثمانين عاما. وعلى فرض صحة الحديث، فالحديث لا دليل فيه كما قال البيضاوي- معلقا على رواية أبي العالية-: والحديث لا دليل فيه لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجبا من جهلهم .. ¬

_ (¬1) هكذا في ابن كثير ولعلها ستون؛ لأن مجموع ما ذكره إحدى وأربعون ومائة.

المعنى العام للمقطع

أقول: وسنرى كيف أن ابن كثير سينقل نقلا غريبا أيده الواقع عند تفسير (حم عسق) في سورة الشورى مما يجعلنا لا نغلق البحث في هذا الباب. ولننتقل إلى ذكر المعنى العام للمقطع الأول من القسم الأول من سورة آل عمران: المعنى العام للمقطع: - في الآية الثانية بعد الم يخبر الله- عزّ وجل- عن وحدانيته واتصافه بالحياة، والقيومية، فهو قائم بذاته، وغيره لا يقوم إلا به- تعالى- هو لا يفتقر لغيره، وغيره مفتقر إليه، فهو وحده الإله، ومن مقتضى ألوهيته وقيوميته ما ذكره في الآية الثالثة. - يخبر تعالى في الآيتين الثالثة والرابعة أنه أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن هذا الكتاب يصدق الكتب المنزلة قبله من السماء، وكما أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، أنزل التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى عليهما السلام، من قبل أن ينزل هذا القرآن، من أجل هداية الناس؛ وهذا من مقتضى قيوميته أن يهدي عباده ويبين لهم الطريق، وكما أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس من قبل، فقد أنزل هذا القرآن هاديا، فارقا بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما ذكر الله فيه من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، القاطعة، وبينه ووضحه وفسره ليهدي ويرشد وينبه، وإذا كان هذا مقتضى ألوهيته ووحدانيته وقيوميته؛ فقد وجب على الخلق أن يهتدوا ويؤمنوا ويعلموا؛ فمن لم يفعل فقد استحق العذاب. ومن ثم ذيلت الآية بتقرير استحقاق العذاب الشديد يوم القيامة للذين جحدوا بآيات الله، وأنكروها، وردوها- وما ردوها إلا بالباطل- ثم وصف الله- عزّ وجل- ذاته بالعزة، فهو منيع الجناب، عظيم السلطان، ووصف ذاته بالانتقام لمن كذب بآياته، وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام. - وفي الآية الخامسة يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض، لا يخفى عليه شئ من ذلك، وهذا مرتبط بموضوع الألوهية والقيومية، فالإله الحق لا بد أن يكون عليما بكل شئ، وبدون علم لا تكون القيومية. - ويدلل تعالى- في الآية السادسة- على إحاطة علمه، بتصويرنا في أرحام أمهاتنا كما يشاء، من حسن وقبح وصفات وخصائص تحير عقل المتأمل!! فأي علم عظيم

علمه جل جلاله؟!! وكما دل على إحاطة علمه في الآية الخامسة بتصويرنا في الأرحام دلل في الآية السادسة على إحاطة علمه بإنزاله هذا القرآن على ما هو عليه؛ إذ أخبر في الآية السابعة أنه أنزل هذا القرآن وجعل آياته نوعين. النوع الأول: الآيات المحكمات، أي: البينات الواضحات الدلالة التي لا تلتبس على أحد. والنوع الآخر: الآيات التي فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس- أو بعضهم- وذلك امتحان لعباده من أجل أن يردوا ما اشتبه إلى الواضح منه، ويحكموا محكمه في متشابهه. وذلك لأنه أودع في هذا الكتاب من الكمالات، والعلوم ما لا يحيط به إلا هو، فكانت عباراته على ما ذكر. وإذن ففي الآية تدليل على إحاطة علمه. وكما قلنا: فإن إحاطة العلم هي مقتضى الألوهية والقيومية فلنر كيف كان موقف الناس من كتابه؟: أما المنحرفون، الضالون، الزائغون، فهؤلاء يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه، تعمدا منهم، لأنهم يستطيعون أن يحرفوا المتشابه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه إليه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، وإنما يفعلون ذلك من أجل تضليل الناس، ومن أجل حمل القرآن على أهوائهم، فيفسرونه بالهوى لا بالعلم. وأما المهتدون فهم الراسخون في العلم، الذين يردون المتشابه إلى المحكم، ويقرون بأن المحكم والمتشابه من عند الله، والجميع حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس وحي الله بمختلف ولا بمتناقض، ثم ذيل الله- عزّ وجل- الآية بتبيان أن أصحاب العقول السليمة والفهوم المستقيمة هم الذين يفهمون، ويعقلون المعاني على وجهها، ويتدبرون ويقفون عند الحدود، فهؤلاء هم الذين أعطوا الألوهية حقها، وهؤلاء كما أقروا للقرآن- بما فيه من حق- فإنهم كذلك يقولون داعين الله- عزّ وجل- بدعوتين ذكرتهما الآيتان الثامنة والتاسعة في الدعوة الأولى يطلبون من الله أن لا يميل قلوبهم عن الهدى بعد إذ أقامها عليه، فيكونوا كالذين في قلوبهم زيغ يتبعون بسببه المتشابه، كما يطلبون من الله أن يهبهم رحمة تسعهم في دنياهم وأخراهم، مثنين على الله باسمه الوهاب. وإذ طلبوا من الله- عزّ وجل- رحمة في أحوج ما يكون الخلق إلى رحمة الله يوم القيامة، فإنهم في دعوتهم الثانية لم يقولوا سوى: يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم، وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلا بعمله، وما كان

عليه في الدنيا من خير وشر، أي يا ربنا نحن نعلم هذا ونقر به، لذلك استجب ما دعوناك به فى دعوتنا الأولى: أن لا تزغ قلوبنا وأن ترحمنا. فهذا حال الراسخين في العلم أصحاب العقول والأفهام، الذين يعرفون لله ألوهيته ووحدانيته وقيوميته وعزته وانتقامه وإحاطة علمه، هكذا يكون موقفهم من كتابه وهذا حالهم في الخوف منه. إن معرفة الله مرتبطة بمعرفة هديه- المتمثل بكتابه- مع الإيمان به والتسليم له، ومن لم تجتمع له هذه المعاني لا يكون عارفا بالله، إذ كيف يؤمن بالله وألوهيته وقيوميته وعلمه، وهو يتصور أن الله لا يتدخل في شئون خلقه ولا يهديهم، وهو ينكر ما أنزل الله ويكذبه؟!! ولذلك نلاحظ أنه بعد ما ذكر الموقف الصحيح لأهل الإيمان منه- جل جلاله- ومن كتابه، هدد الكافرين في الآيتين العاشرة والحادية عشرة، فأخبر عن الكفار بأنهم وقود النار، وأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم عند الله، فتمنع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، بل يهلكون ويعذبون في الدنيا، ويعذبون يوم القيامة، كما جرى لآل فرعون، ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاءوا به؛ إذ إن من صفات الله أنه شديد العقاب، أي: شديد الأخذ، أليم العذاب، لا يمنع منه أحد، ولا يفوته شئ؛ بل هو الفعال لما يريد، الذي غلب كل شئ؛ لا إله غيره، ولا رب سواه، وإذ بين الله- عزّ وجل- أن الكافرين يستحقون عقوبته في الدنيا والآخرة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم- وهو أمر لنا- أن يقول للكافرين: أن عليهم الغلبة في الدنيا- وهذا بما استحقوا من عقوبة الله لهم في الدنيا- ولهم في الآخرة عذاب جهنم. وفي الآية الثالثة عشرة ذكر الله- عزّ وجل- دليلا على أن الكافرين مغلوبون بما حدث يوم بدر من آيات، كان من آثارها أن غلب المؤمنون- على قلتهم- الكافرين. وفي الآية الرابعة عشرة يخبر تعالى عما زين للناس من الملاذ من النساء والبنين، وبدأ بالنساء؛ لأن الفتنة بهن أشد، ثم ذكر ما زين للناس من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، والأراضي المتخذة للغراس والزراعة، ثم بين أن هذا إنما هو زهرة الحياة الدنيا، وزينتها الفانية الزائلة، وأن الله عنده حسن المرجع والثواب. هذا مضمون الآية الرابعة عشرة؛ فما الصلة بينها وبين المقطع عامة؟. رأينا أن المقطع يدور حول موضوع معين هو وحدانية الله وقيوميته، وأن من آثار ألوهية الله وقيوميته أنه أنزل الكتب. وهذه الآية مرتبطة بهذا المعني: فمن آثار قيومية الله أن زين للناس حب الشهوات؛ حتى تقوم هذه الحياة الدنيا؛ فلولا حب النساء ما كان زواج، ولو لم يكن زواج ما كانت الحياة الدنيا، ولولا حب البنين ما ربى أحد أولاده؛ وبالتالي

تضيع الذرية، ولولا حب الذهب والفضة، والأنعام والحرث، ما كان عمل، ولولا العمل ما قامت الحياة، ولكن هذه الشهوات تحتاج إلى أن توضع لها حدود حتى لا تطغى عن الحد الذي تحتاجه عمارة الدنيا؛ لأنها إذا طغت فلم تخضع لقيود أدت إلى عكس ما خلقت من أجله، ومن ثم أنزل الله كتبه لتقوم هذه الشئون ضمن الحدود السليمة الصحيحة. وللآية صلة أخرى في السياق سنراها. وفي الآيات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة يرفع الله همتنا إلى أن نكون طلاب آخرة، بتبيان ما أعده لأهل طاعته في جناته، كما بين متى نكون أهلا لذلك. يقول تعالى في هذه الآيات: قل يا محمد للناس أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها؟ جنات تخترق بين جوانبها وأرجائها الأنهار، من أنواع الأشربة من العسل، واللبن، والخمر، والماء، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أعدها للمتقين، وجعلها لهم ماكثين فيها أبد الآباد، لا يبغون عنها حولا، ولهم فيها أزواج مطهرة من الدنس، والخبث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ومع هذا فإن لهم أن يحل الله عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا. ومن شأن الله- سبحانه- أنه بصير بعباده، يعطي كلا بحسب ما يستحق من العطاء، وقد بين أن هؤلاء إنما استحقوا (¬1) هذا كله بسبب كونهم من المتقين، ثم وصف هؤلاء المتقين، بأنهم يدعون الله طالبين غفرانه، والعتق من النار، وأنهم متصفون بالصبر، والصدق، والطاعة، والخضوع، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار. وهذه الآيات الثلاث مرتبطة كذلك بموضوع المقطع، فكما أن عمارة الحياة الدنيا تحتاج إلى وحي من الله، فإن دخول الجنة والوصول إلى الآخرة يحتاج إلى وحي يبين للإنسان الطريق، فإذا اتضحت هذه المعاني، عرفنا الصلة بين هذا المقطع والآيات الأولى من سورة البقرة التي تصف المتقين، بأن القرآن هداهم، وأنهم يؤمنون بكل ما أنزل الله، ثم يختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بما بدأه به من إعلان وحدانيته وقيوميته، فيخبر الله- تعالى- في الآية الأخيرة أنه شهد، وكفى به شهيدا، وهو ¬

_ (¬1) يلاحظ أن ابن كثير يستعمل كلمة (استحق) ولا يستعملها من باب أن لكل أحد حقا على الله وواجبا، وإنما من باب أن الله- عزّ وجل- أوجب على نفسه لخلقه، وهو موضوع مرتبط ببعض المصطلحات الكلامية؛ لذلك أشرنا إليه.

المعنى الحرفي للفقرة الاولى

أصدق الشاهدين وأعدلهم، وهو أصدق القائلين، بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، وأنهم فقراء إليه، وهو الغني عما سواه، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته- سبحانه- وهذه خصوصية عظيمة لأولي العلم في هذا المقام، أنهم يشهدون قيامه- تعالى- بالعدل في جميع الأحوال، ثم يؤكد- مرة أخرى- وحدانيته، واصفا ذاته بأنه العزيز الذي لا يرام جنابه، عظمة وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. ويلاحظ تكرار صفة العزة والحكمة في هذا المقطع أكثر من مرة، فإذا ربطنا هذا بموضوع المقطع علمنا أنه لم ينزل ما أنزل- سبحانه- عن ذلة بل عن عزة وحكمة. المعنى الحرفي للفقرة الاولى الم* اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: القيوم: هو القائم بذاته فلا يحتاج إلى موجد، ولا إلى محل، ولا إلى ذات أخرى، والقيوم هو الذي يفتقر إليه غيره حتى يقوم. والمعنى: أنه لا معبود بحق في الوجود إلا هو، المتصف بالحياة التي ليس كمثلها شئ، المتصف بالقيومية، فهو قائم بنفسه، وغيره قائم به مفتقر إليه. فائدة: ورد- في الحديث- أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم* اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. أقول: سنرى نصوصا أخرى وآثارا تتحدث عن اسم الله الأعظم فتذكر غير ما ذكر هنا، وتكلم العلماء في ذلك محاولين الجمع بين النصوص، أو التحقيق، أو الربط بين حال الداعي وهو يدعو باسم بعينه، والذي ينشرح له صدري أن اسم الله الأعظم مركب من مجموع الأسماء التي وردت فيها نصوص نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي هو نزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حقا ثابتا لا شك فيه، ولا ريب ولا شبهة، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: أي مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ: أي وأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى من قبل القرآن هداية للناس- والناس هنا إما قوم موسى وقوم عيسى عليهما السلام، وإما كل الناس من حيث إن ما يقوي الحق، ويؤيده، ويصدقه، ويدل عليه، ليس خاصا بالمكلفين به، بل هو لكل مستفيد منه- وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ: الفرقان هو الفارق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، وهل المراد به كل وحي أنزله الله؟ أو

[سورة آل عمران (3): آية 5]

المراد الزبور لأنه الوحيد من الكتب الذي لم يذكر في الآية؟، أو المراد به القرآن؟ وكرر ذكره بصفة خاصة تفخيما لشأنه، لأنه الفارق بين الحق والباطل بما لا مزيد عليه- أقوال أقواها الأخير- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ: المراد بآيات الله هنا كتبه المنزلة وغيرها. والمعنى: إن الذين جحدوا بها وأنكروها وردوها لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم القيامة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي منيع الجناب، عظيم السلطان، ذُو انْتِقامٍ أي ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد، ينتقم ممن كذب بآياته، وخالف رسله، وعصى أمره. فائدة: قال بعض العلماء: استعملت نَزَّلَ في الكلام عن القرآن، وأَنْزَلَ في الكلام عن التوراة والإنجيل، لأن القرآن نزل منجما، ونزل الكتابان جملة واحدة أقول: الأمر بالنسبة للتوراة يحتاج إلى تحقيق أوسع، فإذا كانت التوراة هي ما جاء في الألواح، فإنها تكون قد أنزلت جملة واحدة، وإلا فالأمر يحتمل مزيدا من البحث، ولنا عودة على هذا الموضوع في (سورة الأعراف) إن شاء الله. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا يخفى عليه شئ في هذا العالم كله والدليل على هذا هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ من الصور المختلفة: ذكورة أو أنوثة، حسنا أو قبحا، لونا أو آخر ... !!. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ العزيز في سلطانه، الحكيم في تدبيره. فائدة: لما كان قطاع كبير من هذه السورة- فيما بعد- له علاقة في مناقشة النصارى، الذين يزعمون أن المسيح ابن الله، فإن بعض العلماء فهم: أن هذه الآية تخدم هذا المراد فيما بعد، إذ فيها تعريض بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر، لأن الله صوره في الرحم، وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلها، وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال؟!. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أي هو الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم القرآن، من هذا القرآن آيات أحكمت عباراتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، فهن واضحات الدلالة على المراد لا التباس فيهن هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله، أي هذه الآيات المحكمات هن أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها ويرجع إليها عند الاشتباه وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي متشابهات، محتملات، تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ

[سورة آل عمران (3): آية 8]

والتركيب، لا من حيث المراد فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق- وهم أهل البدع والأهواء- فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أي فيتعلقون بالمتشابه، الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم، فهم يأخذونه لأنهم يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولماذا يفعلون ذلك؟! بين الله- عزّ وجل- غرضهم الفاسد فقال: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ الفتنة هنا المراد بها: فتنة الناس عن دينهم، وإضلالهم وصدهم عن سبيل الله، والمراد بالتأويل: التفسير المنحرف الموافق للهوى، فهم إنما يتبعون المتشابه من أجل أن يضلوا المسلمين، ومن أجل أن يستشهدوا به على أهوائهم، فيفسروه بما يخالف المحكم وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هناك كلام كثير للعلماء حول الوقف في هذا النص هل هو على لفظ الجلالة، أو هو على كلمة العلم؟ فعلى القول الأول يكون المعنى أن التفسير الحق للمتشابه لا يعلمه إلا الله، وعلى القول الثاني يكون الراسخون في العلم كذلك يعلمون تأويله الحق، والراسخون في العلم هم الثابتون فيه المتمكنون منه، وجمهور المفسرين على القول الأول، وجمهور الأصوليين على القول الثاني، وما اختلفوا في الترجيح إلا لاختلافهم في فهم المحكم والمتشابه- كما سنرى في الفوائد- يَقُولُونَ أي: الراسخون في العلم، ويختلف الإعراب والمعنى والتقدير فيما إذا كان الوقف على لفظ الجلالة أو العلم، فعلى الوقف على لفظ الجلالة: الراسخون لا يعلمون ولكنهم يسلمون فيقولون. وعلى الاتجاه الثاني: الراسخون يعلمون ويقولون آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي: آمنا بالمتشابه- أو الضمير يعود على الكتاب كله- أي: آمنا بالكتاب كله، إذ كله- من المتشابه والمحكم- من عند الله الحكيم، الذي لا يتناقض كلامه وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي: وما يتعظ ويتذكر ويقف عند ما ينبغي الوقوف عنده- من إيمان وعمل- إلا أصحاب العقول، وفي هذا إشارة إلى أن الراسخين في العلم، هم أصحاب العقول، وهو مدح لهم باتقاد الذهن، وحسن التأمل، والقيام بالمقتضى رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي: إن الراسخين في العلم- أولي العقول- يقولون: ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق المنزل بعد إذ هديتنا إليه، بأن جعلتنا نعمل بالمحكم ونسلم للمتشابه وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي: وهب لنا من عندك نعمة

[سورة آل عمران (3): آية 9]

بالتوفيق، والتثبيت، والرعاية، ثم النجاة، والجنة إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أي: إنك الكثير الهبات، وهذا دعاء ثان لأن الثناء على الله دعاء له رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي يا ربنا إنك ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم، وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلا بعمله في يوم لا شك فيه إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي لا تخلف الموعد- وفي قولهم إنك لا تخلف الميعاد ثناء على الله، واعتراف له بالإلهية لأن الإلهية تنافي خلف الوعد. فوائد: 1 - فائدة إنزال المتشابه الابتلاء به، والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولقصور الكثير من الخلق عن كثير من المعاني، ولقصور كثير من العصور عن علوم لم يصلوا فيها إلى يقين؛ كان في هذا القرآن متشابه، ثم ليتعب العلماء قرائحهم في استخراج معانيه، ورده إلى المحكم، وليعلم فضل أهل الفضل، ولترتفع درجات من أراد الله أن يرفع درجاته بالعلم، وليعرف الخلق قصور أفهامهم عن الإحاطة بكتاب الله، وليبقى- دائما- في هذا القرآن ما ترتفع إليه الهمم. 2 - قال عليه السلام- بعد أن تلا آية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ... : «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم» رواه أحمد وفي رواية البخاري ومسلم وأبي داود: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». ويدخل في هؤلاء كل الفرق الضالة- وما أكثرها- قال عليه الصلاة والسلام «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: وما هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» رواه الحاكم. ولذلك فإن علينا أن نعرف عقائد أهل السنة والجماعة. وأن نتمسك بالكتاب والسنة فهما صحيحا، وعملا مستقيما. 3 - قال نافع بن يزيد واصفا سمت الراسخين في العلم قال: يقال: الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف للراسخين في العلم هو: «من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم». ولنا عودة على هذا الموضوع.

4 - هناك خلاف كثير، وكلام كثير حول تفسير المتشابه وأمثلته، وحول كون الراسخين في العلم يعلمونه أو لا يعلمونه، وننقل مجموعة نقول تفيد في عمق الفهم: أ- روى ابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به». وروى أبو يعلى الموصلي عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر- قالها ثلاثا- ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه- جل جلاله-». قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة. في هذين النصين تعريف بالموقف السليم من كتاب الله، فما اتضح لك وضوح الشمس فاعمل به، وما اشتبه عليك فسلم لله فيه. روى الإمام أحمد: «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه». ب- روى مجاهد عن ابن عباس وعائشة وعروة وغيرهم: «التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله» ومن العلماء من قال: التأويل يطلق ويراد في القرآن على معنيين، أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. (سورة يوسف) وقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ (سورة الأعراف) أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فهذا لا يعلمه إلا الله، وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر: وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشئ كقوله نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ (سورة يوسف) أي: بتفسيره، فهذا يعرفه الراسخون في العلم، لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، ويدل على ذلك أنه ما من شئ في كتاب الله إلا وفسره المفسرون أو قالوا فيه، كل على حسب ما أعطاه الله- عزّ وجل- من دقة الفهم وسعة العلم. ج- من أمثلة المتشابه في القرآن: الحروف المقطعة في أوائل السور- قاله مقاتل ابن حيان- ومن أمثلة ذلك بعض آيات الصفات- قاله بعض علماء التوحيد- وللمفسرين اتجاهات كثيرة في تفسير المحكم والمتشابه، وما ذكرناه فيه كاف لإدراك الموقف الحق في هذا الموضوع.

5 - رأينا أن من حال الراسخين في العلم، أنهم يدعون الله ألا يزيغ قلوبهم، وقد كان رسولنا عليه السلام يكثر في دعائه من مثل ذلك. روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». وفي رواية عنها: كان يكثر من دعائه: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قالت: قلت: يا رسول الله وإن القلب ليتقلب! قال: نعم: ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله- عزّ وجل- فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه». وروي نفس المعنى عن عائشة. وأصل الحديث في الصحيحين. وروى النسائي وابن حبان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ في الليل قال: «لا إله إلا أنت، سبحانك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب». هذا لفظ ابن مردويه. 6 - روى عبد الرزاق عن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب؛ فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل وقرأ في الركعة الثالثة: قال: فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. 7 - ولا نجد أبلغ من الناحية العملية في معرفة الآيات المحكمات والآيات المتشابهات من الواقع الذي حدث خلال التاريخ، فما من فرقة ضالة من فرق الأمة الإسلامية إلا وتمسكت بنصوص فهمتها فهما خاطئا، وأولتها تأويلا فاسدا، ومن ثم فإننا نستطيع أن نقول: إن ما تمسكت به هذه الفرق كله من هذا الباب- باب الآيات المتشابهات- ثم إن هناك كثيرا من الدوائر الكافرة أرادت من خلال بعض النصوص أن تثبت اتجاهها الفاسد، في الوقت الذي تحارب الإسلام وتريد تكفير أهله، ولكنها تستر أمرها باعتماد نصوص وإخراجها عن معناها الصحيح وإهمال المحكم!!. فكذلك أمثال هذه النصوص يمكن اعتبارها من المتشابه. 8 - نستطيع الآن من خلال الآيات الثلاث التي بدأت بالكلام عن المتشابه أن نحدد صفات الفرقة الناجية والفرق الضالة: أما الفرقة الناجية فهي تتبع المحكم وتعمل به، وتؤمن بالمتشابه وتسلم لله فيه مع حملها له على المحكم، وفهمها له بما لا يتعارض مع المحكم، مع وجود مواصفات الربانية

المعنى الحرفي للفقرة الثانية

فيها، من إقبال على الله وإخبات له، وعبادة وافتقار له- وهم أهل السنة والجماعة- أما الفرق الضالة فأول مواصفاتها إهمال المحكم واتباع المتشابه. ولننتقل إلى المعنى الحرفي للفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الأول من السورة. المعنى الحرفي للفقرة الثانية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله، ولم ينتفعوا بوحيه المنزل على أنبيائه لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن تدفع عنهم الأولاد والأموال شيئا، إن أراد الله أن يعذبهم في الدنيا أو في الآخرة وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ أي حطبها الذي تسجر به وتوقد كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدأب هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، والأصل أنه آت من الدأب أي الكدح في العمل ثم نقل إلى الشأن والحال، والمعنى: دأب هؤلاء الكافرين في تكذيب الحق كدأب آل فرعون ومن قبلهم، فكما أن آل فرعون لم تغن عنهم أولادهم وأموالهم، فأخذوا في الدنيا وعذبوا في الآخرة فكذلك هؤلاء فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي فجازاهم الله بسبب ذنوبهم فأهلكهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ أي شديد عقابه أليم عذابه. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي قل لكل الكافرين، وسبب النزول وإن كان خاصا- كما سنرى- لكن اللفظ عام سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ أي ستغلبون في الدنيا وتحشرون يوم القيامة إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس المستقر جهنم قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا أي قد كان للكافرين دلالة على أن الله مقر دينه، وناصر رسوله ومظهر كلمته ومعل أمره، ومغلوب أعداؤه، في طائفتين التقتا للقتال يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المؤمنون وَأُخْرى كافِرَةٌ وهم المشركون يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ أي يرى المسلمون المشركين ضعفي عدد المسلمين، رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، ومع ذلك فقد غلب أولياؤه أعداءه وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ كما أيد أهل بدر إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي إن في ذلك لعظة لمن له بصيرة، وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري، بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

فوائد

فوائد: 1 - المشهور أن المشركين كانوا يوم بدر ما بين التسعمائة إلى الألف، وأن المسلمين كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر، فهم ثلاثة أمثال، بينما الآية تقول: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ فما التوفيق بين هذا وهذا؟ وجه ابن جرير ذلك بقوله: «هذا ... كما تقول: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليهما، وتكون محتاجا إلى ثلاثة آلاف، ويمكن أن يكون التوفيق بما ذكره الله- عزّ وجل-: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (سورة الأنفال) فقلل الله المشركين في أعين المسلمين من ثلاثة أضعاف إلى ضعفين!. ويؤيد هذا ما قاله ابن مسعود: «وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا». 2 - ذكر محمد بن إسحاق مما له علاقة بسبب نزول هذه الآية ما يلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا. فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله في ذلك من قولهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ .... ». ولننتقل إلى ذكر المعنى الحرفي للفقرة الثالثة في المقطع: المعنى الحرفي للفقرة الثالثة: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي زين الله للناس حب الأشياء المشتهاة مما سيذكره، وسمى الأشياء المشتهاة بأنها شهوات إشعارا بشدة اشتهائها، وأشعر. بتسميتها شهوات بأن المفروض أن يكون للإنسان منها موقف- والشهوة: توقان النفس إلى الشئ-، ثم بين هذه الأشياء المشتهاة فقال: مِنَ النِّساءِ بدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه عليه السلام قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». وَالْبَنِينَ جمع ابن وهم الأولاد ذكورا وإناثا، وذكر البنين يشعر بأن الذكور هم المشتهون بالطباع أولا: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ

فائدة

وَالْفِضَّةِ القنطار هو المال الكثير، والمقنطرة المنضدة أو المدفونة، وسمي الذهب ذهبا- في أصل اللغة- لسرعة ذهابه بالإنفاق، وسميت الفضة فضة لأنها تتفرق، والفض: التفريق. وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ سميت الخيل خيلا لأنها تختال في مشيتها، والمسومة: المعلمة المطهمة، الحسان أو المرعية. وَالْأَنْعامِ أي الأزواج الثمانية: الإبل والبقر والغنم والماعز. وَالْحَرْثِ أي الأرض المتخذة للغراس والزراعة. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي هذا المذكور هو ما يتمتع به في الحياة الدنيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي حسن المرجع والثواب. فائدة: - زينت هذه الأشياء للإنسان من أجل أن تعمر الحياة الدنيا، فإذا استعملها الإنسان ضمن ما حدده الله- عزّ وجل- يكون قد حقق الحكمة من التزيين، وأرضى الله، وعمرت الحياة، ولم تفسد الأرض، وإذا تجاوز فيها ما حدده الله، فسدت الأرض، وأسخط الله. قال عليه السلام: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله». وقال عليه السلام: «حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة». دل ذلك على أن حب النساء- ضمن ما شرع الله، وبقصد الإعفاف بهن، وكثرة الأولاد منهن مطلوب مرغوب فيه، مندوب إليه. وحب البنين إذا كان للتفاخر فهو مذموم، أما إذا كان لتكثير النسل وتكثير المسلمين فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث: «تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة». وحب المال إن كان للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهو مذموم، وإذا كان للإنفاق في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه الخير والطاعات فهذا محمود ممدوح شرعا. والخيل إن أعدها الإنسان في سبيل الله فهو مأجور، أو أعدها للولادة والاستفادة فهو مستور، وإن أعدها لمحاربة الإسلام فهو مأزور. وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير مال امرئ له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة». السكة: النخل

[سورة آل عمران (3): آية 15]

المصفف، والمأبورة: الملقحة. ذكرنا هذا ليعلم مما قدمناه: أن الحياة الدنيا لم تحرم علينا، إذا ما أخذناها ضمن ما حدده الله، واستعملناها فيما حدده الله، ولم ننس حق الله فيها، ولم ننس آخرته، ولم نطغ. ثم رفع الله- عزّ وجل- همتنا إلى الآخرة بعد أن بين لنا ما زينه لنا من مفردات الحياة الدنيا: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ أي قل يا محمد أأخبركم بخير من الذي تقدم للذين اتقوا عند ربهم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها أنهار العسل واللبن والخمر والماء. خالِدِينَ فِيها أي ماكثين فيها أبد الآبدين، لا يبغون عنها حولا. وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي يعطيهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي عالم بأعمالهم يجازيهم عليها. ثم وصف عباده المتقين، الذين أعد لهم ذلك الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا بك وبكتابك وبرسولك، فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا. أي: بإيماننا بك، وبما أنزلته. فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا في أمرنا بفضلك ورحمتك وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أي: احمنا منه الصَّابِرِينَ على الطاعات وترك المحرمات وعلى المصائب. وَالصَّادِقِينَ قولا بإخبار الحق، وفعلا بإحكام العمل، ونية بإمضاء العزم. وَالْقانِتِينَ. أي الطائعين الخاضعين. وَالْمُنْفِقِينَ. أي: المتصدقين من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات وسد الخلات ومواساة ذوي الحاجات. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي طالبي المغفرة في وقت السحر، إما بصلاتهم لله فيه، أو بقولهم: أستغفر الله فيه. والسحر: الوقت قبيل الفجر. فائدة: - ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من سائل فأعطيه؟. هل من مستغفر فأغفر له؟» وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله، وأوسطه، وآخره، فانتهى

[سورة آل عمران (3): آية 18]

وتره إلى السحر». وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل، ثم يقول: «يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح». وروى ابن جرير عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: «سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت، فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه». وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «كنا نؤمر إذا صلينا في الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة». وقال لقمان لابنه يا بني: «لا يكن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم». دلت الآية ودل هذا كله على فضيلة الاستغفار بالأسحار. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، أي: قال- وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم. وأصدق القائلين-: إنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، وفقراء إليه، وهو الغني عمن سواه. وَالْمَلائِكَةُ شهدوا بوحدانيته بما عاينوا من عظيم قدرته. وَأُولُوا الْعِلْمِ من الأنبياء والعلماء، شهدوا بما شهد الله به، بما عاينوا من آياته وآثاره. قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض، والعمل على السوية فيما بينهم فيما شرعه لهم. وهذا يؤكد ما ذكرناه أن من آثار قيوميته تعالى أن لا يترك عباده دون هداية، ودون وحي، ودون كتب. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ هذا تأكيد لوحدانيته. الْعَزِيزُ الذي لا يغالب ولا يرام جنابه. الْحَكِيمُ الذي لا يعدل عن الحق في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب.» أي ويقول بعد ذكره الآية ذلك. 2 - روى الطبراني، عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل، فمر بهذه الآية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.

كلمة وسيطة بين المقطع الأول والمقطع الثاني وفوائد

ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قالها مرارا. قلت: لقد سمع فيها شيئا! فغدوت إليه، فودعته، ثم قلت: يا أبا محمد: إني سمعتك تردد هذه الآية! قال: أو ما بلغك ما فيها؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني!! قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة! فأقمت سنة، فأقمت على بابه؛ قلت يا أبا محمد: قد مضت السنة! قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله- عزّ وجل-: عبدي عهد إلي، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة». ولننتقل إلى المقطع الثاني من القسم الأول في السورة: كلمة وسيطة بين المقطع الأول والمقطع الثاني وفوائد: 1 - ختم المقطع الأول بقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وجاء بعدها قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. والهمزة في قراءة حفص من (شهد الله أنه) مفتوحة، والهمزة في (إن) من إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ مكسورة وقد ذكر البيضاوي: أن هناك قراءة تكسر همزة (إنه)، وهناك قراءة تفتح همزة (أن). فعلى قراءة أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وعلى قراءة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، فإن الفعل (شهد) يعمل في آية: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فيكون التقدير: شَهِدَ اللَّهُ .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، شَهِدَ اللَّهُ .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. فعلى هاتين القراءتين، فإن الله وملائكته، وأولي العلم، كما يشهدون، أن الله واحد وقائم بالقسط فإنهم يشهدون أن الدين عند الله الإسلام، وهذا يدلنا على استمرارية الكلام في المقطع الثاني. فإذا دلنا على نهاية المقطع الأول، ذكر القيام بالقسط، فإن مما يدلنا على أن المقطع الأول والثاني يشكلان قسما واحدا هو هذه الاستمرارية التي نراها بين أول آية في

المقطع الثاني من القسم الأول

المقطع الثاني، وآخر آية في المقطع الأول. واستطرادا نقول: على قراءة فتح الهمزة في إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، فإن هذه الجملة تعرب بدلا من جملة أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وهي إما بدل كل من كل، إذا فسر التوحيد بالإسلام، أو بدل اشتمال إذا فسر الإسلام بالشريعة. وأما على قراءة (إنه) وكسر همزة (إن) بآن واحد. فإما أن نجعل الفعل (شهد) ينصب على إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ويكون ما قبل ذلك جملة اعتراضية، أو نعتبر (شهد) بمعنى قال في الآية الأولى، وعلم في الآية الثانية، وكل ذلك له تأثيراته في المعني. فلو أننا تابعنا إعراب الآيتين بناء على هذه الأوجه الصحيحة، لرأينا معاني متعددة كلها صحيح. ولم نستطرد هذا الاستطراد لنتعب القارئ، ولكن ليفهم أن علوم اللغة العربية بحيثياتها الدقيقة لا بد منها لفهم القرآن، وأن الذين ينفرون من دقائق قواعد هذه اللغة ضائعون، ويريدون أن يضيعوا هذه الأمة، وأنه من مجموع القراءات تتولد معاني كثيرة، ولولا أننا نريد الاختصار في هذا التفسير ما اقتصرنا على تفسير قراءة حفص كأصل. كل ذلك أردنا أن نقوله من خلال هذا الاستطراد، ومن أجله استطردنا، ولننتقل إلى المقطع الثاني في القسم الأول من سورة آل عمران. المقطع الثاني من القسم الأول يمتد هذا المقطع من الآية (19) إلى نهاية الآية (32) وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 19 الى 20] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 28] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

كلمة في المقطع

[سورة آل عمران (3): الآيات 29 الى 32] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) كلمة في المقطع: يتألف المقطع من ثلاث فقرات: فقرة حول كون الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وأنه دين الله في كل العصور، وأن هذا الإسلام أنزله الله واضحا، وأنه لا اختلاف فيه إلا بسبب البغي، وأن هذا الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هذا شأنه، بل هو معجزات واضحات، وأن من يكفر به فإنه باغ ظالم غير مقبول، وأن الله سيحاسبه. فإذا كان هذا هو الشأن فكل مناقشة في الإسلام ظالمة، ومن ثم فإن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يعلنوا إسلامهم لله أمام أي حجاج وأن يدعوا غيرهم إلى الإسلام؛ ثم يقرر الله- عزّ وجل- أن الكافرين إن أسلموا فقد اهتدوا، وإن أعرضوا فليس على الرسول من إثمهم شئ. إذا أدى الرسالة، والله مطلع عليهم، وعلى أعمالهم وأعمال عباده كلهم وسيجازيهم. هذه معاني الفقرة الأولى بإجمال. ولنتذكر ما ورد في الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وهاهنا يقول عزّ وجل: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. فالفقرة هنا تعلمنا كيف نهتدي بالقرآن، بالتسليم له والإيمان بآياته، وبعدم الاختلاف فيه، وتعلمنا كيف ندعو إلى هذا الإسلام، وكيف نقابل المحاجة فيه. والفقرة الثانية في هذا المقطع هي: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ .... فالفقرة الثانية في هذا المقطع تحدثنا عن أخلاقية الكافرين الذين يكفرون بالآيات، ويقتلون الأنبياء والعلماء، وتحدثنا عن العذاب المعد لهم، وتحدثنا عن نموذج من الناس، وموقفهم الرافض من الإنذار وسبب هذا الموقف. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ .. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ .... وتنتهي الفقرة بآية واعظة لهؤلاء: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ. وهكذا نرى أنه في الفقرة الأولى والثانية في هذا المقطع نوع تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة وعلى نفس الترتيب. فالفقرة الأولى لها صلة بالمتقين، والفقرة الثانية في الكافرين، ولا نلاحظ كلاما عن المنافقين هنا، كما ورد في مقدمة سورة البقرة، لأن النفاق كفر، ولكنا نرى في الفقرة الثالثة قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. فههنا نهي عن السير في طريق النفاق. إن الفقرة الثالثة يتوجه فيها الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة (قل) أربع مرات. قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .... قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ .... قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ....

قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. فبعد التفصيل في أن الدين عند الله الإسلام، وبعد التفصيل في مواقف الكافرين، تأتي هذه الإعلانات الأربعة لتحدد لأهل الإيمان مواقفهم، ولتعلمهم صفحة من هداية الله لهم، في كتابه، يقابلون بها مواقف الكافرين، ويرتقون بها إلى مقامات المتقين. انتهى المقطع الأول بإعلان شهادة الله على أنه قائم بالقسط؛ ليأتي هذا المقطع معلنا أن الله القائم بالقسط لا يقبل دينا إلا الإسلام. فذلك هو العدل الخالص ثم يسير المقطع ليحدثنا عن الكافرين الذين يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط، ثم يسير المقطع ليأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن، وأن يعرف على أمور بدونها لا يكون إسلام. فالمقطع يرتبط مع المقطع السابق الذي يحدثنا عن وحدانية الله، وقيوميته، وعزته، وحكمته، بوشائج كثيرة، فهو استمرار له وتفصيل لما تقتضيه الوحدانية والقيومية والعزة والحكمة، من مظاهر العبودية له- جل جلاله- معرفة وتسليما ومحبة وطاعة، وكما أن المقطع الأول تحدث عن الكتاب، والاهتداء به في فقرته الأولى، ثم تحدث عن الكافرين في فقرته الثانية، ثم ذكر تزيين الحياة الدنيا وشهواتها، وهي القاطعة عن الطريق. فإن هذا المقطع تحدث عن الاهتداء بالقرآن، وذلك بالإسلام لله في فقرته الأولى، وتحدث عن الكافرين في فقرته الثانية، وتحدث في فقرته الثالثة عن معان تزيل الغشاوات عن الأعين، فترفع الهمة نحو السير في الإسلام، فلا شئ يحول دون السير في طريق الله، كحب الجاه، والحرص على الرزق: فتأتي الفقرة الثالثة وفيها: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ .... كما أن في الفقرة تحطيما للدعاوى، وتحديدا للطريق: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .... قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ....

ولقد رأينا في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وواضح أنه بنهاية هذا المقطع، ينتهي القسم الأول من السورة، لأنه يأتي بعد ذلك كلام عن زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، فنحن بذلك الكلام أمام قسم جديد، وكأن القسم الأول؛ مقدمة له بل هو مقدمة للسورة كلها، بدليل ما سنراه من ارتباط أقسام السورة كلها، بهذا القسم وختم السورة بمعان مرتبطة به. وفيما بين قوله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... وقوله تعالى: قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. يأتي قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين أثر عن الحرص على الحياة والرزق، فأعلن الله أن الحياة والرزق بيده، ولأن النفاق شئ قلبي، حذر الله أنه يعلم خفايا الأنفس، وهكذا جاء النهي بين تذكيرين، ومن هنا نعلم الحكمة في وجود هذا النهي في محله. إنه لم يأت مباشرة بعد الفقرة الأولى والثانية اللتين تحدثتا عن الإسلام والكفر، إنه لم يأت بعد ذلك مباشرة، بل جاء متأخرا بعد درس من التعريف على الله، ليأخذ محله في مشاعر المسلمين وقلوبهم وضمائرهم. قلنا من قبل: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معاني هذه المقدمة. فلنلاحظ الآن ما يلي: في مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ومن امتدادات هذا النص في سورة البقرة ما رأيناه من دعوة لبني إسرائيل فيها: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. وقد رفض بنو إسرائيل الدعوة إلا من رحم الله وجاء في سورة البقرة أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا وفي ذلك السياق جاء قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا .... ثم جاءت الآية اللاحقة: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ... كل ذلك جاء في سورة البقرة وهو امتداد لبعض ما جاء

الفقرة الأولى

في مقدمتها: وفي هذا المقطع من سورة آل عمران، يعجب الله من هؤلاء الذين يرفضون هذه الدعوة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. وهاهنا يعلل بأن سر هذا الموقف ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. فههنا تعليل مباشر لسر موقفهم من الدعوة وهو هذا الاعتقاد فبينما فهمنا في سورة البقرة من السياق بشكل غير مباشر أن سر مواقفهم هو اعتقادهم الباطل هذا فإننا هنا نفهمه بشكل مباشر. ولقد رأينا في سورة البقرة أن من أسباب تحريف أهل الكتاب لكلام الله حبهم الدنيا، وأخذهم إياها، ومن ثم نلاحظ في هذا المقطع أنه قد جاء قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .. تطهيرا للنفس البشرية، أن تطلب رزق الله في معصية الله، والكفر به. ولعل في هذا القدر كله كفاية في التعريف بالمقطع ومحله في سياق السورة، ومحله في السياق القرآني العام، ثم في التعريف على تسلسل معانيه، فلنعرض فقراته: الفقرة الأولى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ* فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. المعنى العام: في هذا النص إخبار من الله تعالى، بأن لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام. وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به، والاستسلام لله فيه قولا وعملا واعتقادا. ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول، إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم: سواء فيما بين أهل الكتاب الواحد منهم، أو بين أهل كتاب وكتاب بسبب بغي بعضهم على بعض. فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا. ثم بين الله عزّ وجل أن من جحد ما أنزل الله في كتابه فإن الله سيجازيه ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفة كتابه، وإذ تتقرر حقيقة

المعنى الحرفي

الإسلام وحقيقة الاختلاف فيه من قبل، فإن الله- عزّ وجل- يوجه رسوله أنه في حالة محاجة أهل الكتاب له في الإسلام المنزل عليه، وهو خاتم رسل الله المرسل إلى العالمين الذي ألزم الله كل الخلق باتباعه، فإن عليه أن يعلن أنه هو وأتباعه مسلمون وجوههم لله، مخلصون لله عبادتهم. هذا هو الرد الوحيد عليهم، إعلان الإسلام لله ثم دعوتهم إليه فقد أمر الله رسوله عليه السلام أن يدعو إلى طريقه ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين والأميين من المشركين، ثم بين تعالى أنهم إن أسلموا وتابعوا اهتدوا، وإن أصروا على ما هم عليه فليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم إثم في ذلك، إذ عليه البلاغ وقد قام به، وعلى الله حسابهم، وإليه مرجعهم ومآلهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وهو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة. وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية: وفي هذا النص بيان أن الإسلام هو الاستسلام لله فيما أنزل، وأن الاختلاف فيما ينزل سببه البغي. فكأن النص يأمر المسلمين أن يستسلموا لله في كتابه- ولرسوله في هديه- وألا يحملهم البغي فيما بينهم على الاختلاف فيه، كما يبين الموقف الأكمل من غير المسلمين إذا أصروا على الرفض واللجاج. وهكذا يكمل هذا النص أدب المسلم مع الكتاب: عمل بالمحكم، واستسلام لله في المتشابه، وعدم الاختلاف فيه بغيا. المعنى الحرفي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ: إن الدين المقبول عند الله هو الإسلام في كل زمان، وفي كل مكان. وهو الاستسلام لله فيما بعث به رسله من دين هو الإسلام الذي آخر نسخة منه هو الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وجعله ناسخا وخاتما وكلف به العالمين. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى فيما بينهم، وفيما بين بعضهم بعضا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ الواضح المتضح الذي لا شبهة فيه ولا غموض. بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا بينهم، وطلبا منهم للرئاسة، وحظوظ الدنيا، واستتباع كل فريق ناسا. أي ما كان اختلافهم إلا أثرا عن ظلمهم بسبب هذه الأشياء، وإلا فالحق أوضح من أن يختلف فيه. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ أي بحججه ودلائله، فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع المجازاة. فَإِنْ

فائدة

حَاجُّوكَ أي فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام، أو جادلوك في صحة ما هم عليه، أو جادلوك ليحرفوك عما أنت عليه. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ فقل: أنا وأتباعي أخلصنا أنفسنا وجملتنا لله لم نجعل فيها لغيره شريكا. وهذا يفيد أن ما هو عليه، ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه. فما معنى المحاجة فيه؟! كما يفيد أن الإسلام هو هذا. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم. أَأَسْلَمْتُمْ هذا استفهام يراد به الأمر، أي أسلموا، فقد جاءكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام منكم. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا أي فإن دخلوا في الإسلام فقد أصابوا الرشد، حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى. وَإِنْ تَوَلَّوْا أي وإن رفضوا وأعرضوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ فما عليك إلا أن تبلغ الرسالة، وتنبه على طريق الهدى. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم. فائدة: - من الأحاديث الدالة على عموم بعثته عليه السلام لجميع الخلق، ما رواه الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة- أي أمته أمة الدعوة، وهم جميع الخلق- يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار». وقال عليه السلام: «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة». الفقرة الثانية ونعرضها على مراحل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. المعنى العام: بعد أن بين الله- عزّ وجل- في المجموعة الأولى أن الدين عنده الإسلام وأن على

المعنى الحرفي

جميع الخلق الدخول فيه، وأن على أهله أن يثبتوا عليه. بين هنا ما أعده للرافضين الدخول في هذا الإسلام. الذين يقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق. وأمر رسوله عليه السلام أن يبشر هؤلاء بالعذاب الأليم، وبحبوط العمل في الدنيا والآخرة، وأنهم لا ناصر لهم. وأول ما ينطبق عليهم هذا، اليهود، فهم الذين اجتمعت لهم هذه الخصال على أقبح ما يكون، ويدخل في التهديد كل من كان كذلك. ويفهم من هذه الآيات أن الكفر بآيات الله يرافقه الجرأة على الأنبياء والعلماء ودعاة الحق. المعنى الحرفي إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بحججه ودلائله، وما خلق، وما أنزل من البينات وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ القسط: العدل، والعدل هو حكم الله لا غير فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي مؤلم: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي ضاعت فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. فاستحقوا اللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. ينصرونهم في الدنيا والآخرة من عذاب الله. فوائد: 1 - قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس أثر من آثار الكبر فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر في الحديث الصحيح فقال: «الكبر بطر الحق وغمط الناس». وهؤلاء رفضوا الحق وقتلوا أهله، وهذا منتهى الكبر و «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». 2 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح قال: «قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... الآية ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله عزّ وجل».

المعنى العام

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ* فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. المعنى العام: في هذا النص إنكار على اليهود والنصارى المتمسكين- فيما يزعمون- بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم وفضحهم بذكرهم بالمخالفة والعناد. ثم بين الله تعالى أنه إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار أياما قليلة، فهذا الذي يثبتهم على دينهم الباطل، وإنما هو افتراء افتروه، واختلاق لم ينزل الله به سلطانا، خدعوا به أنفسهم. ثم هددهم الله عزّ وجل، وتوعدهم بعد أن افتروا على الله، وكذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وقتلوا العلماء من قومهم الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر. بأنه سائلهم عن ذلك كله، وحاكم عليهم، ومجازيهم به إذا جمعهم ليوم لا شك في وقوعه، فيه توفى كل نفس كسبها دون أن تظلم شيئا. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي حظا من التوراة. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ أي التوراة. لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. وهذا التولي والإعراض عجيب منهم إذ علموا أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، ولكنهم قوم الإعراض حالهم وديدنهم. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل من دخولها، أربعين يوما، أو سبعة أيام وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي غرهم افتراؤهم على الله. يكذبون على الله، ثم يصدقون كذبهم. فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت يوم يجمعهم الله يوم القيامة وهو اليوم الذي لا شك فيه. وَوُفِّيَتْ

فائدة

كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي وجوزيت كل نفس جزاء ما عملت وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة في سيئاتهم أو نقصان في حسناتهم. فائدة: أنكر الله- عزّ وجل- على من إذا دعي إلى كتاب الله تولى ورفض فههنا إذن تأديب من الله لنا، أن إذا دعينا إلى كتاب الله أن نقبل ونقبل ثم بين الله- عزّ وجل- علة الرفض، وهي التصور الخاطئ لموضوع العقاب، لموضوع اليوم الآخر. إذا أدركنا هذا، أدركنا الصلة بين هذه المجموعة من الآيات، وما قبلها، إذ الجميع مرتبط بالموقف الصحيح من كتاب الله. فإذا أنكر الله عزّ وجل على من يرفض الاحتكام إلى التوراة فكيف بمن يرفض الاحتكام إلى القرآن أعظم كتب الله. الفقرة الثالثة ونعرضها على مراحل: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المعنى العام: يقول تبارك وتعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون معظما لربه وشاكرا ومفوضا أمره إليه ومتوكلا عليه، ومعترفا له بأن الملك كله له يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، فهو المعطي وهو المانع والمتصرف في خلقه بما يشاء، والفعال لما يريد، بيده الخير كله، وهو القادر على كل شئ. ومن مظاهر قدرته إدخال الليل في النهار والنهار في الليل. فترى هذا يزيد، وهذا ينقص على منتهى الدقة والكمال. ومن مظاهر قدرته، رزق من شاء، كما شاء. ثم نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة، وبين جل جلاله أن من يرتكب نهي الله هذا فقد برئ من الله إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه وقلبه. ثم حذرنا الله نقمته في

المعنى الحرفي

مخالفته، وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه. ثم أن إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. المعنى الحرفي: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ. أي: قل يا الله، يا مالك الملك. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. أي: تعطي من تشاء ما قسمت له من الملك وتنزعه ممن تشاء وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بإعطائه الملك والجاه وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بنزع الملك والجاه منه. بِيَدِكَ الْخَيْرُ تؤتيه من تشاء، وتمنعه عمن تشاء إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ولا يقدر على شئ أحد غيرك إلا بإقدارك. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ الإيلاج: إدخال الشئ بالشئ، أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعا وصيفا، وخريفا وشتاء. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ. أي: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والحياة من الأرض، وتميت الأحياء. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. أي: تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه حتى لا يعرف عدده ومقداره. وإن كان معلوما عند الله تعالى. لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذا نهي للمؤمنين، أن يوالوا الكافرين لقرابة أو صداقة، أو منفعة، أو رغبة، أو رهبة. وأفاد قوله: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بأن للمؤمنين في موالاة بعضهم مندوحة عن موالاة الكافرين، فلا يؤثرون عليهم. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شئ، لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قال ابن كثير: أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: «إنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم» وقال البخاري، قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة. وقال النسفي في معنى الاستثناء: «إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان العداوة» وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يحذركم نقمته في مخالفته، وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه، وعادى أولياءه. وَإِلَى

فوائد

اللَّهِ الْمَصِيرُ. أي وإلى الله مصيركم ومرجعكم والعذاب معد لديه. فوائد: 1 - روى الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. 2 - ما الصلة بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها؟ أ- بين الله- عزّ وجل- في الآيات السابقة على هذه الآيات كيف أن أهل الكتاب إذا دعوا إلى كتاب الله تولوا، وأعرضوا، وسبب التولي والإعراض عدم اعترافهم وتسليمهم لله بأنه المعز، المذل، المالك، القادر، المغني، فلو رأوا بقلوبهم لله هذا، وسلموا، لم يمنعهم حسد عن قبول الحق أنى كان. ومن ثم أمرنا نحن أن نقر لله بهذا. وكما أمرنا أن نقر لله بهذا، أمرنا ألا نوالي الكافرين الذين يستكبرون عن اتباع الحق وقبوله. ب- في الآيات السابقة على هذه الآيات، وضعنا الله- عزّ وجل- على طريق الاتباع الكامل، والتسليم الكامل لآيات الله، والمفاصلة الكاملة لأعداء الله، والإخبات لله، وهذا كله يقتضي معرفة كاملة بالله، بأنه مالك الملك، المعطي المانع، المعز المذل، حتى لا يحرفنا ملك، أو رزق، أو عز، أو ذل لنا أو لغيرنا عن الاستقامة على أمر الله، وقد نهينا عن موالاة الكافرين بعد ذلك في هذا السياق، طلبا لجاه، أو ملك، أو عز، أو خوفا من ذل أو فقر. لأن الله عزّ وجل هو الذي يعطي هذا كله. فعلينا أن نستقيم على أمره ونترك له- جل جلاله- أمر تدبير أمورنا. قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.

المعنى العام

المعنى العام: يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات، وجميع الأوقات، وجميع ما في الأرض والسموات، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، وقدرته نافذة في جميع ذلك. وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، لئلا يرتكبوا ما نهى عنه، وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن انظر من انظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر. ثم ذكرنا الله عزّ وجل بيوم القيامة، يوم يحضر للعبد جميع أعماله من خير أو شر فما رأى المكلف من أعماله حسنا سره ذلك، وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغصه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينه وبينه أمد بعيد. ثم أخبرنا تعالى مؤكدا ومهددا، ومتوعدا أنه يخوفنا عقابة وانتقامه فلنحذر. ولئلا ييأس عباده، ويقنطوا من لطفه، فإنه ذكرهم برأفته بعباده ورحمته بخلقه قال الحسن البصرى: من رأفته بهم حذرهم نفسه. وقال غيره رحيم يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم، ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم. المعنى الحرفي: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ .. من ولاية الكفار أو غيرها، مما لا يرضي الله أَوْ تُبْدُوهُ أي أو تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي لم يخف عليه، وهو وعيد بليغ. وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لا يغيب عنه مثقال ذرة فيهما. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ومن ذلك عقوبتكم. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً. أي: يوم القيامة تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم، وأهواله، مسافة بعيدة. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرر الإنذار والتحذير، ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ فهو مع كونه محذورا لكمال قدرته، فإنه مرجو لسعة رحمته، ومن رأفته أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه. فائدة: هاتان الآيتان فيهما تطهير للنفس أن يكون فيها في الظاهر أو الباطن، ما يخالف أمر

المعنى العام

الله فإذا نظرنا إلى هذا المعنى على ضوء الآية الأولى في المقطع، وهي قوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ عرفنا أن هاتين الآيتين تطلبان منا أن تكون ظواهرنا وبواطننا مسلمة لله، ثم هما قد جاءتا بعد النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء، ففيهما تطهير للنفس من أي ولاء قلبي. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. المعنى العام: هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادعى محبة الله- وليس هو على الطريقة المحمدية- فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين الإسلامي في جميع أقواله، وأفعاله. ولذلك بين الله- عزّ وجل- في هذه الآية أن علامة محبة الله اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك كافأه الله عزّ وجل عليه بمحبته له، ومغفرته ذنوبه، ومن شأن الله- عزّ وجل- أن يغفر لمن يستحق المغفرة، ويرحم من يستحق الرحمة. المعنى الحرفي: قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ اهـ. ومحبة العبد لله إيثار طاعته على أي شئ آخر، ومحبة الله لعبد أن يرضى عنه، ويحمد فعله. وقد جعل الله عزّ وجل في هذه الآية علامة محبته اتباع رسوله في دينه، وأقواله، وأفعاله، وأحواله، إلا ما خص منها. فمن ادعى محبة الله ولم يكن مسلما، ومتابعا فهو كذاب، يكذبه كتاب الله. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي فهذه علامة محبة الله، ومغفرته .. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. غفور لمن تابع، رحيم بمن تابع. فائدة: - قال عليه السلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. المعنى العام:

المعنى الحرفي

هذا أمر لكل أحد من خاص وعام أن يطيع الله في كتابه، وأن يطيع رسول الله بمتابعته فمن خالف وأعرض، ورفض ولم يذعن، فإنه كافر، والله لا يحبه، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله، ويتقرب إليه، دل هذا على أن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريقة كفر، وأن متابعته عليه السلام هي الطريق، وأنه لو كان الأنبياء، والمرسلون في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته. المعنى الحرفي: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ بطاعة كتابه، وَالرَّسُولَ بطاعته في حياته وطاعة سنته بعد وفاته وبمتابعته في الأقوال والأفعال والأحوال. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قبول الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي فمن أعرض عن قبول الطاعة فإنه كافر والله لا يحبه. فوائد حول السياق: 1 - إن الصلة ما بين هاتين الآيتين الأخيرتين، والمقطع كله، واضحة. فالله عزّ وجل في بداية المقطع أعلن أن الدين المقبول عنده هو الإسلام، وهاهنا بين أن هذا الإسلام المقبول عنده هو المتابعة لرسوله، وطاعة كتابه، وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما سوى ذلك كفر، وليس بإسلام، وما سوى ذلك غير مقبول عنده. 2 - وما الصلة ما بين هذا المقطع والذي قبله؟. رأينا أن المقطع الأول يدور حول أن من آثار ألوهية الله تعالى وقيوميته، إنزال الكتب ليقوم العدل، ويقف الناس عند الحدود، ويهتدوا. وفي هذا المقطع يطالب الخلق بالإسلام له فيما أنزل، ومتابعة رسوله الذي أرسل، فهذا المقطع استمرار للمقطع الأول. ومما يشهد على الصلة بين المقطعين، ما ذكرناه من قبل. قراءة ابن عباس لبداية المقطع الثاني بفتح همزة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فيكون الربط على هذه القراءة ما بين هذا المقطع والذي قبله على أشده إذ يكون التقدير: (شهد الله أنه لا إله إلا هو .. شهد الله أن الدين عند الله الإسلام). 3 - كنا ذكرنا أن سورة آل عمران إنما هي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وكنا سجلنا ملاحظة، هي: كما أنه في مقدمة سورة البقرة عقبت صفات الكافرين صفات المتقين، فإن في سورة آل عمران في كل من المقطعين اللذين يشكلان القسم الأول من السورة قد عقب الكلام عن الكافرين الكلام عن المتقين.

كلمة في السياق

4 - لقد قلنا: إن هذين المقطعين من آل عمران يفصلان في مقدمة سورة البقرة، ففي هذين المقطعين أوضح الله- عزّ وجل- أن إنزال الكتب أثر عن ألوهيته وقيوميته، وأوضح بعض خصائص هذا القرآن، وكيف ينبغي أن يكون الموقف الصحيح منه، وأوضح أن على الإنسان أن يستسلم لله فيه، وأن يطيع، وأن يتابع، وعرض ما يقابل ذلك، وما يلازمه، وما يترتب عليه، والمواقف المقابلة، والمشاعر المساعدة، والأقوال التي ينبغي أن يقولها أهل الإيمان لغيرهم مما مر معنا. وإذا كان المقطعان السابقان اللذان يشكلان القسم الأول قد فصلا على الأخص في قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وما يقابل ذلك من الكفر، فإن القسم الثاني الذي سيأتي معنا يقدم لنا صفحة من صفحات الإيمان بالغيب المذكور في مقدمة سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وما يقابل ذلك من كفر الكافرين، أو ضلال الضالين، ومناقشة هؤلاء في ضلالهم. وكنا ذكرنا في تفسير مقدمة سورة البقرة أن قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إنما هو تفصيل لبعض ما أجمل في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وهاهنا نجد مصداق ذلك. كلمة في السياق: صحح القسم الأول مفاهيم كثيرة، وأعطى تعليمات كثيرة، ووضع الأمور في نصابها في أمور كثيرة: وعرفنا على الله- جل جلاله، وصحح في هذا أخطاء وقع فيها العقل البشري، ومن أخطر ما وقع به العقل البشري من أخطاء، تصوره أن الله- عزّ وجل- لا يتدخل في شئون خلقه سلبا أو إيجابا، وهي الفكرة التي استقرت على الصيغة التي تعبر عن نفسها بمبدإ فصل الدين عن الدولة. إن معرفتنا بوحدانية الله وقيوميته تنسف هذه الفكرة وأمثالها من الأساس. لقد عرفنا الله أنه أنزل كتبا، وأنه هو الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه امتحن خلقه بأن جعل القرآن محكما ومتشابها، وذلك من مظاهر عزته وحكمته، وأن النجاح في هذا الامتحان يظهر باتباع المحكم، وبالتسليم لله بالمتشابه. وعرفنا القسم أن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وأن من عقيدة المسلم أن يعرف الله أنه مالك الملك، وأنه الرزاق، وأنه العليم، وأن محبته طريقها متابعة محمد صلى الله عليه وسلم وأن على

فصول ونقول

كل إنسان طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وخلال ذلك كان كلام عن الكفر والكافرين، ومواقفهم وأسبابها. وتم القسم بعد أن وضح أمورا كثيرة رأيناها. والآن يأتي قسم جديد، يضع الأمور في مواضعها في قضية المسيح ابن مريم وأمه، ليكون القسم الأول والثاني مقدمتين لفتح حوار شامل مع أهل الكتاب، وذلك مضمون القسم الثالث في السورة لتكون الأقسام الثلاثة في السورة بعد ذلك بمثابة مقدمة كبيرة لتوجيهات مباشرة لأهل الإيمان. إن القسم الأول فى السورة، وهو ما مر معنا كان بمثابة مقدمة للقسم الثاني كما سنرى، والقسم الأول والثاني هما بمثابة المقدمتين للقسم الثالث. والأقسام الثلاثة هي بمثابة التوطئة للقسمين الأخيرين في السورة وكل ذلك سنراه. وقد رأينا كيف أن القسم الأول فصل في مقدمة سورة البقرة وسنرى أن القسم الثاني سيفصل كذلك في مقدمة سورة البقرة. وكل الأقسام في السورة هذا شأنها. فمحور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، وسورة آل عمران تفصل في هذه المقدمة وامتداداتها، وكما أنها تفصل في ذلك فإن لها سياقها الخاص ووحدتها الكاملة. ولنختم الكلام عن القسم الأول من سورة آل عمران بفصول ونقول نكمل بها تفسير القسم. فصول ونقول: نقول: 1 - قال الألوسي عن وجه مناسبة سورة آل عمران لسورة البقرة: «ووجه مناسبتها لتلك السورة، أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة، وأن سورة البقرة، بمنزلة إقامة الحجة، وهذه بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب، من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله، والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ ... بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق

أولاده؛ وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم- والسورة التي هي فيها- جديرة بالتقديم. وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين السورتين، أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، ومما يقوي التناسب والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك، لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون، وختمت هذه بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وافتتحت الأولى بقوله سبحانه الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وختمت آل عمران بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ الآية: يا محمد افتقر ربك، يسأل عباده القرض فنزل: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الآية إلى غير ذلك. اهـ كلام الألوسي. 2 - وفي أسماء سورة آل عمران: قال الألوسي: « ... وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة- الزهراوين- وتسمى الأمان والكنز والمغنية والمجادلة وسورة الاستغفار». 3 - من تقديم صاحب الظلال لتفسير سورة آل عمران: «ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها، تتناثر

نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد ... ». «أول هذه الخطوط بيان معنى «الدين» ومعنى «الإسلام» .. فليس الدين- كما يحدده الله- سبحانه- ويريده ويرضاه- هو اعتقاد في الله فحسب .. إنما هو صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه- سبحانه- صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع: توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية. وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله، فلا يقوم شئ إلا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى. ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو «الإسلام» وهو في هذه الحالة: الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شئون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد .. الإسلام .. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل .. كل في زمانه .. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة، والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء ... فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق .. والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون منهجه في الحياة ... ». اهـ. 4 - عند قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ يقول صاحب الظلال: «هكذا .. ليس من الله في شئ. لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية .. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما في كل شئ تكون فيه الصلات. ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات .. ولكنها تقية اللسان لا

ولاء القلب ولا ولاء العمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما «ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان» .. فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن والكافر- والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا- كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل الكفري أو الآثم في صورة باسم التقية. فما يجوز هذا الخداع على الله»؟. وفي الآية نفسها يقول الألوسي: «والمراد أن لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما، وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض. ومذهبنا- وعليه الجمهور- أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة. ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين بمشرك» فمنسوخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق، أما بدونهما فلا تجوز. وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول- وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز- على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز، وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما، ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى. ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره، وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة

فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة، لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفى» اهـ كلام الألوسي. أقول: هذه الأمور فيها خلاف كثير، ولا بد من التفريق بين الفتوى والورع، ولا بد من التفريق بين حال قوة المسلمين وضعفهم، ولا بد من معرفة أن هناك حدا أعلى طمح إليه الفقهاء، وأن هناك حدا أدنى من أقوال الفقهاء المعتمدين. هو الذي لا يصح الخروج عليه أو النزول عنه، وعلى ضوء ذلك ينبغي أن ننظر إلى ما نقرؤه في كتب الفقه أو في كتب التفسير أو كتب شروح السنة. والذي أراه في أحوالنا المعاصرة: أن الحركة الإسلامية في عصرنا ينبغي أن تكون دقيقة في تربيتها لعناصرها، وواسعة الأفق في موضوع الطروح السياسية، فتربي عناصرها على الوضع الأكمل والأورع وعلى ما هو الأصل في الأحكام، وتتبنى في مواقفها السياسية ما هو الأصلح والأنسب لعصرنا من مجموع أقوال العلماء أهل الفتوى البصيرة، بما يسع أوضاع عصرنا. لقد نص كثيرون ممن تكلموا في الأحكام السلطانية على أنه يجوز أن يتولى أهل الذمة وزارة التنفيذ لا التفويض. ولقد نص فقهاء الحنفية على أنه يجوز بدأ الذمي بالسلام إذا كانت لك إليه حاجة، كما نصوا على جواز القيام للذمي إذا ترتب على ترك القيام له ضرر، وأجازوا مخاطبة الناس بألقابهم الرسمية ما لم يترتب على ذلك إثم إذا كان ترك الخطاب باللقب يترتب عليه ضرر. وهكذا نجد مثل هذه التفريعات التي ألجأت إليها مسيرة التاريخ الإسلامي وأوضاع المسلمين. والذي أقوله: إن حق التربية يقتضي منا أن نربي على العزائم والورع، وحق المعركة يقتضي منا أن نختار من أقوال الأئمة ما تقتضيه ظروف معركتنا المعاصرة. والأمر دقيق وسيأتي في هذا التفسير ما يوضح مثل هذه الشئون وغيرها وأدلة ذلك. 5 - عند قوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال الألوسي:

فصل في المتشابه

وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له: «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه. إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل ... » 6 - عند قوله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... قال الألوسي: «وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال «شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم دينا كان علي فقال: يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: قل قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدى عنك» وفي رواية للطبراني ذكر الآيتين بتمامهما. فصل في المتشابه: لعل القارئ لاحظ أنني مررت على موضوع الآيات المتشابهات مرورا سريعا لا يتفق مع جلالة هذا الموضوع الذي كتب فيه العلماء ولا زالوا يكتبون، فكان حصيلة ما كتبوا فيه عشرات الألوف من الصحائف، حتى لو قلنا إنه لم يحتدم النقاش في موضوع كما احتدم في هذا الموضوع لكنا صادقين فلماذا مررنا عليه مرورا سريعا؟! السر في ذلك هو اعتقادنا أن هذا موضوع لا تصلح فيه الكتابة المختصرة، ولذلك فعلى مريد تتبعه أن يرجع إلى الكتب المطولة التي ألفت فيه ليستطيع أن يستخلص لنفسه ما تطمئن به نفسه، على أننا أشرنا إلى نقطة نتمنى أن يتابعها بعض أهل العلم، هذه النقطة هي أن الواقع التاريخي للمسلمين أصبح بإمكانه أن يقدم لنا ترجيحا للكثير من الأمور التي احتدم فيها النقاش حول المحكم والمتشابه. فهناك فرق دلت النصوص على انحرافها، فمن خلال ما اعتمدته وما أولته يمكن أن يترجح لدينا بعض الأمور في شأن المتشابه والمحكم. وهناك قضايا أخذت طابع البديهية عند جماهير المسلمين بحيث أصبح بالإمكان من

خلالها أن نرجح بعض ما اختلف فيه في موضوع المتشابه والمحكم. على أنه إذا اعتبرنا أن واقع المسلمين الحالي يفرض علينا ألا نتوسع في موضوع الكلام عن المتشابه والمحكم، فإن واقع المسلمين الحالي والمستقبلي، يفرض علينا أن نقول كلمة حول الحدود التي يسع الدولة الإسلامية أن تتدخل فيها في أمور الاختلافات فترجح أو تعاقب. الذي يبدو لي من خلال دروس التاريخ، وبسبب من المآسي التي حدثت لعلماء أجلاء، أن على الحكومة الإسلامية في المستقبل أن تعطي حرية التحقيق العلمي لجميع المسلمين، وأن تعتمد التقنين في القضايا الفقهية وتفرض ما تراه مناسبا من مجموع آراء الأئمة على ضوء الشورى، وألا تعاقب على رأي إسلامي إلا إذا أجمع المعتمدون من أهل المذاهب الأربعة والمعتمدون من أهل الحديث على استحقاق صاحبه للعقوبة. وإنما اشترطت للعقوبة إجماع المعتمدين من أهل الفتوى من المذاهب الأربعة وأهل الحديث بآن واحد، لأنني وجدت أن أهل الحديث يتسرعون لو كان بيدهم سلطة في عقوبة المخالف، وكذلك أهل المذاهب، فمثلا لو أن إنسانا أول حديث النزول الذي ذكرناه أثناء التفسير، لكان مستحقا للعقوبة عند بعض أهل الحديث، مع أن رواية النسائي التي يقول عنها القرطبي بأنه قد صححها أبو محمد عبد الحق تقول «إن الله- عزّ وجل- يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى». إن هذه الرواية تصلح مستندا لأهل التأويل لحديث النزول فلا أقل من أن يرفع عنهم استحقاق العقوبة، وما جرى لابن تيمية لا يخفى. مما لا يصلح أن يتكرر مرة ثانية إنني أعتبر أن الوصول إلى قاعدة يتفق عليها الجميع، في شأن موقف الحكم الإسلامي من موضوع التحقيق العلمي، هو الأهم الآن بالنسبة لسير الحركة الإسلامية. وأن على القائمين على الحركة الإسلامية، أن يحتفظوا لأنفسهم بكثير من قناعاتهم العلمية لصالح معركة المسلمين مع خصومهم، وأن على جميع المسلمين أن يوفقوا بين حق المعركة، وحق الدعوة، وحق العلم، وحق التربية، وهو موضوع دقيق فصلنا فيه في غير هذا المكان. وما ذكرته في هذا الفصل لا يخرج عن كونه اقتراحا، وعلينا أن نصل في شأنه إلى

فصل في الرسوخ في العلم

قاعدة يرضاها الجميع. لقد رأيت ناسا مذهبيين يستحلون دم ابن تيمية، ورأيت ناسا من أهل الحديث يستحلون دم النووي، وسيبقى أمثال هؤلاء موجودين في الأمة وسواء وجدوا أو لم يوجدوا فإنني لا أرى للحكم الإسلامي أن يتورط في دم النووي، أو في دم ابن تيمية، ولا أرى له أن يتورط في عقوبة هذا أو هذا، وليبق باب التحقيق العلمي مفتوحا، وليبق النووي يناقش ابن تيمية والعكس. وضمير الأمة الإسلامية لن يعجزه التمييز مع وجود العلم الشامل الذي يجب أن يكون جزءا من سياسة الدولة. وأكرر أن ما قلته، اقتراح له صلة بقضايا الحكم والسياسة الإسلاميين، وليس له صلة برأي شخصي حول فهم موضوع المحكم والمتشابه. فصل في الرسوخ في العلم: مما مر معنا في سورة آل عمران، عرفنا بعض خصائص الراسخين في العلم من كونهم يعملون بالمحكم، ويحملون عليه المتشابه، أو يسلمون لله تعالى فيه، ولا يعارضون النصوص ببعضها، ومن أنهم أهل لب، ومن أنهم خاشعون لله كثيرو الدعاء له. وسيأتي في آخر سورة آل عمران تعريف لأولي الألباب، الذين اجتمع لهم الذكر والتفكر، والدعاء والعمل، والهجرة حال وجوبها وتحمل ترك البلاد في سبيل الله، وتحمل الإيذاء في سبيل الله، والمشاركة في القتال إذا كان واجبا، والاستعداد للاستشهاد. كل ذلك علامات نتعرف بها على الراسخين في العلم، الذين لكلامهم وزن في موضوع المتشابه والمحكم، ولكن هذه كلها علامات، هي أثر العلم الحقيقي، فإذا اجتمعت مع العلم الحقيقي الكامل الشامل، وجد الراسخ في العلم، وإذا أردنا أن نأخذ تصورا عن العلوم التي يحتاجها الفهم لكتاب الله، فلنقرأ تصور السيوطي للعلوم التي يحتاجها المفسر لنأخذ تصورا مبدئيا عن الرسوخ في العلم، فلننقل كلامه ثم نعلق عليه قال السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن: «ومنهم من قال، يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج إليها المفسر، وهي خمسة عشر علما. أحدها اللغة: لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع. الثاني: النحو: لأن المعنى يختلف باختلاف الإعراب.

الثالث: الصرف: لأن به تعرف الأبنية والصيغ. الرابع: الاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين، اختلف باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح. الخامس والسادس والسابع: المعاني، والبيان، والبديع: لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادة المعنى، وبالثاني: خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث: وجوه تحسين الكلام. الثامن: علم القراءات، لأنه يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض. التاسع: أصول الدين: بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما يجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤول ذلك ويستدل على ما يستحيل، وما يجوز وما يجب. العاشر: أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط. الحادى عشر: أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه. الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ، ليعلم الحكم الملزم من غيره. الثالث عشر: الفقه. الرابع عشر: الأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل. الخامس عشر: علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم». أقول: ما ذكره السيوطي من علوم هي بعض من كل ليصلح إنسان لتفسير كتاب الله فمثلا الثقافة الكونية، والثقافة التاريخية، هما بعض لوازم المفسر المفترض فيه أن يكون راسخا. إن الرسوخ في العلم صفة لا تعطى لأحد إلا بشروط كثيرة جدا، وخاصة في عصرنا الذي حدث خلاله هذا الانفجار العلمي. ومع أن ما ذكره السيوطي هو بعض من كل إلا أننا من خلاله نستطيع أن نستأنس لمعرفة قيمة كلام الرجال الذين تكلموا خلال العصور في الشرح والتفسير لكتاب الله.

فصل في التقية

فإذا اجتمع هذا مع ما ذكرته النصوص فعندئذ يوجد الراسخ في العلم. ولعلنا بذلك نكون قد حددنا سمات من نستطيع أن نقبل كلامه في موضوع المحكم والمتشابه، فإذا ما اجتمع لنا مع ذلك معرفة تاريخية في أنواع من المتشابه، ضلت به الفرق المنشقة عن جسم الأمة الإسلامية، أو يستعمله المنحرفون المعاصرون، فإن ذلك كله يساعد على توضيح قضية المحكم والمتشابه. فصل في التقية: بمناسبة قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً يتحدث عادة عن موضوع «التقية» الذي اشتهر عن الشيعة، والذي يشاركهم في بعض مضامينه أهل السنة، ويخالفونهم في مضامين أخرى كثيرة. وقد ذكرنا أثناء التفسير ما يوضح بعض النقاط. ولزيادة الإيضاح فإننا ننقل بعض كلام الألوسي في هذا المقام: يقول الألوسي: «وفي الآية دليل» على مشروعية التقية، وعرفوها بحفظ النفس. أو العرض. أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم [المبتدع]، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول: فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين، وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله تعالى واسعة، ثم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل. أو قتل الأولاد. أو الآباء. أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق. أو بحبس القوت. أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه. ولو كان التخويف بفوات المنفعة، أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت، والضرب القليل غير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فإنه شهيد

قطعا؛ ومما يدل على أنها رخصة- ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه» وأما القسم الثاني: فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب، لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (سورة البقرة) وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية، ولا يعود على من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة، وعدوه المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق إن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك حرمته بالإفراط، ولكن ليست عبادة وقربى حتى يترتب عليها الثواب، فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية. لا كذلك المهاجر لإصلاح الدين ليترتب عليه الثواب، وليس كل واجب يثاب عليه، لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة. بل كثير من الواجبات لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حالة الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم، والانبساط معهم، وإعطاؤهم لكف أذاهم، وقطع لسانهم، وصيانة العرض منهم، ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع. فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» وأخرج ابن عدي. وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا. قوا بأموالكم

أعراضكم، وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة- أو أخو العشيرة- ثم أذن فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا. وإبراهيم الحرمي بزيادة «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر. ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس. وهم الخوارج والشيعة: أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا، ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة. منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ على فرسه في صلاته كيلا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين؛ وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض، حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة، أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي. وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا عندهم وأسسوا عليه دينهم- وهو الشائع

فصل في أسباب النزول

الآن فيما بينهم- حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام؛ وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك» اهـ. ما أردنا نقله من كلام الألوسي: أقول: إن الألوسي لا يعتبر السجن مع القوت ومع الضرب القليل مجيزا للتقية كما رأينا. والذي نص عليه فقهاء الحنفية أن سجن الظلمة كالإكراه الملجئ أي كالقتل وإتلاف العضو وعلى هذا فكلام الألوسي- فيما يبدو- في سجن تحتمله النفس زمنا ومكانا وآلاما، أما إذا كان السجن أو الاعتقال آلامه كثيرة أو الزمن فيه مديد فإن الرخصة للمبتلى بذلك قائمة. فصل في أسباب النزول: في كلام المفسرين وأصحاب السير، اضطراب كثير في أسباب النزول لأجزاء كثيرة من أوائل سورة آل عمران فبينما نجد في كلام بعضهم ما يشير إلى أن بضعا وثمانين آية من صدر سورة آل عمران نزل بعد مناقشة مع وفد نجران، الذي جاء في السنة التاسعة للهجرة، نجد في كلام بعضهم أن آية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ قد نزلت بعد غزوة بدر كما نجد أن آيات كثيرة يذكر لها سبب نزول خاص كما سنرى. كما نجد أن آية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ .. قد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هرقل والتي كانت سنة سبع للهجرة. كل ذلك يجعلنا نرجح أن رواية ابن إسحاق والزهري من أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزل في وفد نجران غير راجح وهو أحد الاتجاهات التي ذكرها ابن كثير. نعم هناك بضع آيات نزلت بمناسبة مجئ وفد نجران منها آية المباهلة كما سنرى ولكن ليست كل هذه الآيات. إلا إذا قلنا: إن بعض هذه الآيات نزلت من قبل ثم نزلت مع بقية الآيات مرة ثانية لأن معانيها متكاملة وهو اتجاه يحتمل مثله ابن كثير. وهناك رواية يذكرها البيهقي تذكر أن من قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ

اللَّهِ ... إلى نهاية آية المباهلة. نزلت بسبب الحوار مع وفد نجران. وهو اتجاه أميل إليه فيكون بعض صدر سورة آل عمران نزل بسبب وفد نجران وليس كلها. وعلى هذا فإننا نرجح أنه إن كان سبب نزول قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ حوارا قد جرى بين بعض أهل الكتاب ورسولنا عليه الصلاة والسلام، كما يذكر بعضهم، فإن هذا الحوار كان متقدما على الحوار مع وفد نجران بل كان متقدما جدا. فإذا اتضح هذا فإننا سننقل بعض ما ذكره العلماء من أسباب نزول لبعض الآيات الواردة في القسم الذي مضى معنا من السورة وكما سنرى فإن هذه النقول تدل على أسباب نزول متفرقه غير ما ذكره ابن إسحاق والزهري، إلا أن يقال- كما ذكرنا- إن بعض الآيات نزلت مرتين. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هناك اتجاها يقول: إن وفد نجران جاء قبل صلح الحديبية، لكن يعكر على هذا الاتجاه أشياء كثيرة فلم يبق إلا اتجاهان: القول بتعدد النزول، أو القول بأن حديث ابن إسحاق غير محفوظ. وهذه بعض الروايات في أسباب النزول لبعض الآيات التي مرت معنا في القسم الأول: أ- يذكر الطبري رواية عن محمد بن جعفر بن الزبير تقول: إن آية المتشابه نزلت بسبب الحوار مع وفد نجران، إذ احتجوا بقوله تعالى وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ على ما يزعمون من أن عيسى ابن الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وهي جزء من الرواية التي فهمها بعضهم على أنها نزلت في عام الوفود سنة تسع للهجرة، وقد رأينا بعض ما يمكن أن يقال فيها. ب- رأينا أثناء التفسير ما ذكره ابن كثير عن ابن إسحاق عن عاصم من أن قوله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ أنها نزلت بعد بدر إذ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم ما قال وردوا عليه ما ردوا فأنزل الله الآيتين. وبهذه المناسبة نقول: إن النص مع أنه عام، لكن سبب النزول يذكرنا بخصوص معين، هو أن النص موجه لليهود الذين كانوا في المدينة بشكل مباشر وفي ذلك معجزة قرآنية إذ إن الله عزّ وجل صدق وعده فغلبت يهود في الدنيا، فقهرت قينقاع وبنو النضير ويهود خيبر،

وقتلت قريظة فيما بعد، وسيحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. ج- في سبب نزول قوله تعالى قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ... ينقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال: قال عمر بن الخطاب لما نزلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ... الآية. د- في سبب نزول قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ ... قال الألوسي: «وقد أخرج ابن إسحاق وجماعة .. قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو. والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه. قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية. (وفي البحر) زنى رجل من اليهود بامرأة، ولم يكن بعد في ديننا الرجم، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أحكم بكتابكم، فأنكروا الرجم، فجئ بالتوراة، فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله، فأظهرها، فرجما، فغضبت اليهود فنزلت» .. هـ- وفي سبب نزول قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ .... قال الألوسي: روى الواحدي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وعد أمته ملك فارس والروم. قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا، قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق

صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها، أو يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق، والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان، فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم. وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، فكبر المسلمون، ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك، فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقى فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا. فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال! فأنزل الله تعالى وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (سورة الأحزاب) وأنزل هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ الخ. و- وفي سبب نزول قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال الألوسي: قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو. وكهمس بن أبي الحقيق. وقيس بن زيد- والكل من اليهود- يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة

ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم، فأنزل الله هذه الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريا نقيبا، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى لا يَتَّخِذِ الخ. ز- وفي سبب نزول قوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... قال الألوسي: واختلف في سبب نزولها. فقال الحسن وابن جريج: «زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم يحبون الله تعالى. فقالوا يا محمد: إنا نحب ربنا. فأنزل الله تعالى هذه الآية» وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليه بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها، فقال: يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الخ» وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. أنزل هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها». وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «نزلت في نصارى نجران؛ وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى، وتعظيما له، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم» ويروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبي: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. ح- ونختم هذه النقول في أسباب النزول بالرواية التي تذكر أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزلت في وفد نجران. ورأينا كيف يكون التوفيق بينها وبين الروايات الأخرى في حال صحتها.

قال الألوسي: «أخرج ابن إسحاق. وابن جرير. وابن عبد المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران، وكانوا ستين راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب. عبد المسيح. والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو الله تعالى، ويقولون: هو ولد الله تعالى، ويقولون: هو ثالث ثلاثة- تعالى الله- كذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم: هو الله تعالى بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ويحتجون في قولهم بأنه ولد الله تعالى: يقولون: لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وصنع ما لم يصنعه أحد غيره من ولد آدم قبله، ويحتجون في قولهم بأنه ثالث ثلاثة: إن الله تعالى يقول فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا يقولون: فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت، وأمرت، وخلقت، وقضيت، ولكنه هو، وعيسى، ومريم ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما- العاقب، والسيد- كما في رواية الكلبي والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا، وتوحيده إياه بالخلق والأمر لا شريك له فيه، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه الأنداد، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي: ليس معه غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت، وقد مات عيسى عليه السلام في قولهم؛ (القيوم) القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى، وفي رواية جرير عن الربيع قال: «إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن

كلمة أخيرة في القسم الأول

الله تعالى لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. كلمة أخيرة في القسم الأول: نلاحظ بشكل واضح، أن موضوعا جديدا سيأتي معنا في القسم الثاني من السورة، يتحدث عن زكريا، ومريم وعيسى، عليهم السلام، وكنا قلنا من قبل: إن القسم الأول في سورة آل عمران، هو بمثابة المقدمة للقسم الثاني، والقسم الأول والثاني بمثابة المقدمة للقسم الثالث، والأقسام الأولى بمثابة المقدمات للقسمين الأخيرين من السورة: إن القسم الأول من السورة تحدث عن وحدانية الله، وقيوميته، وعزته، وحكمته، ومظاهر ذلك من إنزال الكتب، وإلزام الناس بها، وعدم قبوله- جل جلاله- إلا الإسلام دينا، وكيف أن الإسلام يتمثل بالمتابعة والطاعة. ويأتي الآن القسم الثاني وفيه تصحيح لمفاهيم أهل الكتاب عن عيسى عليه السلام، إذ هتك النصارى بمفاهيمهم المنحرفة عن عيسى عليه السلام، كل مقامات الألوهية ومقتضياتها، فجاء القسم الثاني ليصحح ذلك كله، وليعطينا تصورا عن هذا الموضوع، ينسجم مع المعاني التي قدمها لنا القسم الأول، ليكون القسمان بمثابة مقدمتين لفتح حوار شامل مع أهل الكتاب، ثم ليكون ذلك بمثابة الأساس الذي يبنى عليه القسمان الأخيران فى التوجيهات المباشرة للأمة الإسلامية. فلننتقل إذن إلى القسم الثاني في السورة بعد أن عرفنا محله في سياقها.

القسم الثاني من سورة آل عمران

القسم الثاني من سورة آل عمران يمتد هذا القسم من الآية (33) إلى نهاية الآية (63) وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 41] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)

[سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 54] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)

كلمة في هذا القسم

[سورة آل عمران (3): الآيات 55 الى 58] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 63] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) كلمة في هذا القسم: نلاحظ أن بداية هذا القسم قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ونهايته: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ

تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. والذي دلنا على أنه قسم كامل: المعاني من جهة، والخاتمة التي تشبه خاتمة القسم الأول من جهة أخرى. فخاتمة القسم الأول كما ذكرنا هي: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وهاهنا: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ والقسم هذا يقص علينا قصة زكريا، وقصة مريم، وقصة المسيح عليهم السلام. فيعرض الله علينا في قصة زكريا كيف رزقه الله على الكبر يحيى، وكانت زوجته عاقرا، وذلك كمقدمة للكلام عن خلق عيسى بلا أب. فالقدرة الصالحة لذلك صالحة لهذا، ومن ثم تأتي قصة مريم وحملها بعيسى عليهم السلام جميعا، ثم ما كان من شأن عيسى، ثم إقامة الحجة على أن ما قصه الله- عزّ وجل- علينا في شأنه هو الحق الخالص. وكما قلنا من قبل، فإن القسم الأول، والقسم الثاني يوطئان للقسم الثالث الذي يفتح الحوار الشامل مع أهل الكتاب. تحدث القسم الأول عن مظاهر وحدانية الله، وقيوميته، وعزته وحكمته بإنزاله الكتب، ومنها القرآن، وأنه لا يقبل إلا الإسلام دينا، وإيجابه متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم محمدا وإيجابه طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأتي بعد ذلك هذا القسم، فيتحدث في البداية، عن اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم- ومحمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم- كما يتحدث عن اصطفائه آل عمران، ثم يحدثنا عما تظهر به حكمة الاصطفاء. والاصطفاء أصلا من مظاهر عزته وحكمته- جل جلاله- ومن ثم جاء في أواخر القسم قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالكلام في القسم الثاني استمرار للكلام عن الوحدانية والقيومية والعزة والحكمة، خاصة وقد حدث خلل في شأن التوحيد من خلال نظرة الكثيرين إلى عيسى عليه السلام. كان في القسم الأول حديث مع أهل الكتاب وعنهم. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فمن أهم ما وقع فيه الخلاف بين أهل الكتاب موضوع عيسى عليه الصلاة والسلام، فاليهود كذبوه، والنصارى اختلفوا في شأنه ثم استقر الأمر عندهم على تأليهه. وجاء هذا القسم ليبين هذه الأمور. قلنا إن سورة آل عمران تفصيل لمحورها من سورة البقرة، ومحورها هو مقدمة سورة البقرة. وفي مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وفي هذا القسم نرى قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. فالقسم يقص علينا صفحة من صفحات الغيب الذي يجب أن نؤمن به. فصلة هذا القسم في تفصيل مقدمة سورة البقرة واضحة، ففي مقدمة سورة البقرة كلام عن الكافرين، وما أعد الله لهم من عذاب عظيم. وفي هذا القسم نرى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ .... وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فالقسم يفصل في قضية الإيمان بالغيب، ويفصل في قضية الكفر، وفي كل تفصيل لمقدمة سورة البقرة. قد يقول قائل: إن القرآن كله تفصيل لهاتين القضيتين فلماذا نربط ما ورد فيه من ألفاظ بعينها بمكان بعينه كربطنا هذا القسم بمقدمة سورة البقرة؟ ونقول: نحن الآن نسجل ملاحظات، فإذا اجتمع لنا من الملاحظات ما هو كاف لتأكيد وجهة نظرنا من أول القرآن إلى آخره، فلا لوم علينا. وحيثما رأى أحد أننا تكلفنا في هذه الملاحظات فعليه واجب الرد، وعلينا واجب التراجع. قلنا من قبل: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وفيما هو امتداد لمعاني مقدمة سورة البقرة في سورة البقرة نفسها، ومما جاء في سورة البقرة. وهو امتداد لمعاني مقدمتها- قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ

الآيتان اللتان هما بمثابة"المدخل" إلى القسم الثاني

دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. لاحظ أنه في هذا القسم جاءت هذه الآية: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ* إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ .. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... لاحظ التشابه بين آيتي سورة البقرة، وهذه الآيات فالقسم كله تفصيل لبعض ذلك المقام في سورة البقرة. يتألف القسم من آيتين هما بمثابة المدخل للكلام عن القسم، ثم ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تبدأ بقوله تعالى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ .... الفقرة الثانية تبدأ بقوله تعالى وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ. الفقرة الثالثة تبدأ بقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ. والفقرات الثلاث تقص الحق وهي تصحح. ولنبدأ عرض القسم. الآيتان اللتان هما بمثابة «المدخل» إلى القسم الثاني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. المعنى العام: يخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض. فاصطفى آدم عليه السلام: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شئ. وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة. واصطفى نوحا عليه السلام، وأرسله إلى قومه لما عبدوا الأوثان، وأشركوا بالله، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله ليدعو إليه. واصطفى آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وذرياتهما، ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، واصطفى آل عمران، والمراد بعمران هنا والد مريم بنت عمران أم عيسى، اصطفاهم على الناس أجمعين. وآل عمران وآل إبراهيم ذرية واحدة، متسلسل بعضها من بعض، ولم يصطفها الله عبثا بل اصطفاها بعلمه فيها، وسمعه لأقوالها، وما في أنفسها.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى: أي اختار آدَمَ أبا البشر وَنُوحاً شيخ المرسلين وَآلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل وإسحاق والصالحين من ذريتهما وَآلَ عِمْرانَ أم يحيى، وأم عيسى، ويحيى وعيسى وزكريا عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي إن الآلين آل إبراهيم، وآل عمران ذرية واحدة متسلسلة، بعضها متشعب من بعض نسبا ودينا. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع افتقار الحال والمقال فيصطفي؛ ويعلم من يصلح للاصطفاء. فائدة حول السياق: بعد إذ قرر الله بهاتين الآيتين اصطفاءه لمن ذكر، وأن هذا الاصطفاء قائم على علم، تأتي الآن فقرتان معطوفتان على بعضهما، الأولى مبدوءة ب (إذ) والثانية ب (وإذ)، وفي كل منهما يبين الله- عزّ وجل- ما يشعر بحكمة الاصطفاء، فإذا اصطفى اصطفى بعلم. تفسير الفقرة الأولى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ هي أم مريم، وجدة عيسى، وجدة يحيى رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، المحرر: هو المعتق المفرغ الخالص للعبادة، وخدمة الله بخدمة بيت المقدس هنا، نذرت ألا يكون لأحد يد عليه، ولا يستخدم لغرض خاص، وهذا النوع من النذر كان مشروعا عندهم. والمعنى: إنى أوجبت لك أن يكون ما في بطني خالصا لعبادتك، وخدمة بيتك فَتَقَبَّلْ مِنِّي التقبل: أخذ الشئ على الرضا به، أي فتقبل مني نذري. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: السميع لدعائي، العليم بنيتي فَلَمَّا وَضَعَتْها أي: فلما وضعت النسمة التي في بطنها فتبين لها أنها أنثى قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى قالت: هذا على وجه التحزن والتحسر، قال الله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي: والله أعلم بالشئ الذي وضعت، وما علق به من عزائم الأمور، وأتمت أم مريم قولها بالاعتذار والتحزن وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ قال النسفي: وإنما ذكرت حنة- أي أم مريم- تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى

فوائد

يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ الرجيم: الملعون. أي وإنني أجيرها بك وأولادها من الشيطان الملعون. فوائد: 1 - من هذا السياق نعلم لماذا استحق آل عمران الاصطفاء من الله: حرصهم على الخير، وعلى العبادة، وعلى الخدمة لله فيهم، وفي ذريتهم، وخوفهم من الله والتجائهم إليه أن لا يسيروا في طريق الشيطان، وغير ذلك مما تراه خلال السياق. 2 - في قوله تعالى على لسان أم مريم وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى قاعدة عظيمة: فالأنثى ليست كالذكر في تركيبها الجسمي، ولا في تركيبها النفسي، ومن ثم فلا بد أن تكون وظيفتها الحياتية تختلف عن وظيفة الذكر، ولا بد أن يترتب على ذلك اختلاف في المسئوليات، واختلاف في الحقوق والواجبات، ومن أراد المساواة المطلقة بين الرجال والنساء، فليسو بينهما في التركيب الجسمي والنفسى أولا ثم فليطالب. 3 - لقد أعاذت أم مريم بنتها وذريتها من الشيطان الرجيم، وقد استجاب الله لها ذلك وقد قال عليه السلام في الحديث الصحيح: «ما من مولود إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسه إياه، إلا مريم وابنها». 4 - عند قوله تعالى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ قال ابن كثير: فيه دليل على جواز التسمية بعد الولادة كما هو الظاهر من السياق، لأنه شرع من قبلنا. وقد حكي مقررا وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم» أخرجاه. وكذلك فيها أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه، وسماه عبد الله. وفي صحيح البخاري «أن رجلا قال: يا رسول الله، ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال: سم ابنك عبد الرحمن». وثبت في الصحيح أيضا أنه لما جاءه أبو أسيد بابنه ليحنكه، فذهل عنه، فأمر به أبوه، فرد إلى منزلهم، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر. فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع ويسمى، ويحلق رأسه». فقد رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي، وروي (ويدمى) وهو أثبت وأحفظ،

[سورة آل عمران (3): آية 37]

والله أعلم» أقول: لكن نص الإمام مالك في موطئه على أنه لا يسن أن يدمى الطفل من دم العقيقة وعلى هذا فالسنة في يوم التسمية أوسع من أن تقيد باليوم الأول فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي: فتقبل الله مريم من أمها، ورضي بها في النذر مكان الذكر، وهذا هو القبول الحسن: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً. أي: جعلها شكلا مليحا، ومنظرا بهيجا، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي: جعله كافلا لها، وضامنا لمصالحها. وإنما قدر الله كون زكريا كافلا لها لتقتبس منه علما جما نافعا، وعملا صالحا. وإنما كان زوج أختها كما ورد في الصحيح «فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة»، وقيل زوج خالتها. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. المحراب هو أشرف المجالس لكونه مخصصا للعبادة، فيه يحارب الشيطان. أي كلما دخل عليها زكريا مكان عبادتها، وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً طعاما. كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. قال ابن كثير: وفيه دلالة على كرامات الأولياء وفي السنة لهذا نظائر قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي: من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وفى ذلك دليل على أنه خارق للعادة، فهو من باب الكرامات إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يحصيه العباد لكثرته، أو تفضلا منه بغير محاسبة ومجازاة على عمل، ويحتمل أن يكون هذا جزءا من كلامها، أو هو كلام مستأنف. فلما رأى زكريا حال مريم، وكرامتها على الله، ورأى فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع في الولد الصالح، وإن كان في غير أوانه لكبر سنه، ولكون زوجه عاقرا، ولذلك دعا الله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أي: في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، أو في ذلك الوقت دعا ربه قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي: ولدا صالحا، والذرية تطلق على المفرد والجمع إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ. أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابا أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته، ومجلس مناجاته أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات- وفيها إجابة الدعوات- وقضاء الحاجات، قال ابن عطاء: ما فتح الله على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ كلمة الله تحتمل هنا عيسى، لأن تكونه كان بكلمة: «كن» بلا أب. وتحتمل

[سورة آل عمران (3): آية 40]

كتاب الله. فالنص هنا يفيد إما أن يحيى يكون مؤمنا بعيسى، أو أنه مؤمن بكتاب ربه وكلماته. وَسَيِّداً السيادة: هي التفوق في الشرف، وسببها في الإسلام الحلم والعبادة، والعلم والتقوى، والخلق والدين. وقد اجتمع ليحيى هذا كله. وَحَصُوراً الحصور: هو الذي لا يقرب النساء، إما بحصره نفسه، أي بمنعه لها من الشهوات، أو بخلق الله إياه بلا شهوة. قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان حصورا ليس كما قاله بعضهم: أنه كان هيوبا، أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب، أي لا يأتيها، كأنه حصور عنها، وقيل مانعا نفسه من الشهوات. وقيل ليست له شهوة في النساء. وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، وإما بكفاية من الله- عزّ وجل- كيحيى. ثم هي في حق من قدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه، درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن، وإكسابه لهن، وهدايته إياهن ... وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ هذه بشارة بالنبوة، بعد البشارة بالولادة، وهي أعلى من الأولى، والمعنى: ونبيا ناشئا من الصالحين، لأنه من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين. فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، وهو تعجب من حيث العادة، واستعظام للقدرة. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي: أدركتني السن العالية وأضعفتني وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لم تلد. قالَ أي الملك كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الأفعال العجيبة. أي هكذا أمر الله، عظيم لا يعجزه شئ، ولا يتعاظمه أمر. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها الحبل؛ لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أي: علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس إلا إشارة بيد، أو رأس، أو عين، أو حاجب، مع أنك سوي صحيح. وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة. مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولهذا قال وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ. العشي في اللغة: من حين الزوال إلى الغروب، والمراد بها هنا أوسع من ذلك والله أعلم، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. أمره بالذكر والتسبيح في أيام عجزه عن تكليم الناس، ليخلص المدة

تفسير الفقرة الثانية

لذكر الله. فلا يشغل لسانه بغيره. تفسير الفقرة الثانية: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ هذا معطوف على بداية الفقرة الأولى إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ... وهذا يؤكد أن الفقرة هذه قد جاءت في سياق التبيان لحكمة الله في الاصطفاء؛ بدليل العطف هنا، وذكر الاصطفاء صراحة. وفي الآية إخبار عما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك، أن الله قد اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وَطَهَّرَكِ مما يستقذر من الأفعال والأحوال والأقوال، والأكدار، والهواجس، والوساوس وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بما سيكرمها الله- عزّ وجل- به من رزقها عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. ثم إن الملائكة أمروها بكثرة العبادة، والخشوع والركوع والسجود، والدأب في العمل؛ لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره لها وقضاه، مما فيه محنة لها، ورفعة في الدارين؛ بما أظهره الله فيها من قدرته العظيمة حيث خلق منها ولدا من غير أب يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ القنوت: هو الطاعة في خشوع وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي: كوني منهم بفعل فعلهم. ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من قصة أم مريم، ومريم، وزكريا وزوجته مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي: من أخبار الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي، وذلك دليل على ما ذكرنا أن هذه الفقرات إنما هي صفحات من الغيوب التي يجب الإيمان بها، فهي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. نفهم من ذلك ما أجمل من قبل، فنعلم أن مريم لم تدخل في كفالة زكريا إلا بعد قرعة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. نفهم من ذلك أنه كان هناك نزاع حول كفالة مريم، والأقلام: هي الأقداح التي تمت فيها القرعة. فوائد: 1 - نلاحظ أن هذه الفقرة مترابطة مع ما قبلها بأكثر من رباط، ومن جملة ما نلاحظه، أن الفقرة الأولى أسست لهذه الفقرة، إذ إن هذه الفقرة ستقص علينا قصة الحمل بعيسى من غير أب، فمهدت الفقرة السابقة لذلك بقصها علينا قصة حمل أم

يحيى بيحيى، وهي عاقر، مع ذكرها قصة ولادة مريم، وابتهال أمها، ثم قصة صلاحها وطهارتها، وما أكرمها الله به. وكل ذلك يجعل الاستعداد كاملا لتلقي نبأ الحمل بعيسى من غير أب. فالأولى من الفقرات تقص علينا قصة حمل عاقر، والثانية تقص علينا قصة حمل من غير أب، والفقرة الثالثة تذكرنا بخلق بلا أب ولا أم، وتأتي قصة عيسى في الوسط. 2 - لاحظنا في هذه الفقرة خطاب الملائكة لمريم، ومريم- بنص القرآن- صديقة، فهي ليست نبية، ولا تكون النبوة إلا في الرجال كما سنرى، فدل ذلك على أنه يمكن لغير الأنبياء أن يخاطبوا من قبل الملائكة، أو يكشف لهم شئ من عالم الغيب من باب الكرامات، ويشهد لهذا كثير من النصوص الصحيحة، مما نتعرض له إذا جاءت مناسبته. وفي هذا النص دليل أيما دليل على صحة هذا. ومن أقبل على الله بالسنة، فتح الله عليه إن شاء. وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وحنظلة في الحديث الذى رواه مسلم: «لو تدومون على ما أنتم عليه عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة». 3 - في الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» المعنى: خير نساء بني إسرائيل مريم، وخير نساء هذه الأمة خديجة. وروى الترمذي وصححه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون» وأخرج الجماعة إلا أبا داود، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون». أي: من الأمم السابقة والله أعلم. ولفظ البخاري: «ويكمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». 4 - في قوله تعالى ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نقصه عليك وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي: ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك؛ كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا

[سورة آل عمران (3): آية 45]

في شأن مريم، أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر. في هذا الموضوع مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، إذ حدثنا القرآن عن كثير من الأمور الماضية، مما لا يعرفها العرب إطلاقا، وعلى غاية من الدقة، بما لا يمكن أن يكون لو لم يكن هذا القرآن من عند الله المحيط علما بكل شئ. إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ مبشرة مريم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له: كن فيكون اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا اسمه الذي يعرفه به المؤمنون. وفي قوله ابن مريم إعلام لها بإنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وفي ذلك شرف لها وبشارة. واختلفوا لماذا سمي المسيح؟ فقيل: لأنه إذا مسح ذا عاهة برأ، وقيل: لكثرة سياحته فلا يستوطن مكانا، وقيل: معناه في العبرانية المبارك وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: ذا جاه وقدر في الدنيا بالنبوة والطاعة، وفي الآخرة بعلو الدرجة والشفاعة. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. في حال صغره معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه، فهو يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يكمل فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي: في قوله وعمله، له علم صحيح، وعمل صحيح. فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله قالَتْ مناجية ربها: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تقول متعجبة متهيبة: كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغيا؟؟ فقال لها الملك عن الله- عزّ وجل- في جواب ذلك السؤال قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ، وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ وفي قصة زكريا يَفْعَلُ ما يَشاءُ صرح بلفظ الخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله إِذا قَضى أَمْراً أي إذا قدره فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: فلا يتأخر شئ أراد خلقه. والتعبير بلفظة كن، إخبار عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه، ثم أخبر عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليهما السلام وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يحتمل هنا الكتابة، أو كتب الله أو ما افترضه الله من المكتوبات على الخلق وَالْحِكْمَةَ أي: وضع الأمور في مواضعها على ضوء الحلال والحرام وَالتَّوْراةَ التي

[سورة آل عمران (3): آية 49]

أنزلت على موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ الذي سينزله الله عليه وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل فهو مرسل إليهم خاصة قائلا لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بعلامة خارقة، ودلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة وهي: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وكذلك يفعل، يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله- عزّ وجل- الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي: الذي ولد أعمى، يجعله بصيرا وَالْأَبْرَصَ أي: ويبرئ الأبرص وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كررت الكلمة بإذن الله على لسان عيسى لتعلم عبوديته، ولدفع أي توهم بربوبيته وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أي: وأخبركم بما أكل أحدكم الآن وما ادخر في بيته لغده. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ أي: على صدقي فيما جئتكم به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وأفعاله وآياته وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقررا لها ومثبتا. أي قد جئتكم بآية، وجئتكم مصدقا للتوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى، وفيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، وكرر للتأكيد. فَاتَّقُوا اللَّهَ في تكذيبي وخلافي وَأَطِيعُونِ في أمري. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أي: أنا وأنتم سواء في العبودية لله، والخضوع والاستكانة إليه. وهذا إعلان للعبودية، ونفي للربوبية عن نفسه، بخلاف ما يزعم النصارى. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي: إعلان العبودية لله، وإعطاؤه الربوبية، وحسن عبادته، هذا هو الصراط المستقيم الذي يؤدي بصاحبه إلى النعيم المقيم. جاء هذا كله في معرض البشارة لمريم بعيسى، ثم نقلنا الله- عزّ وجل- إلى موقف قوم عيسى منه، وموقفه بسبب ذلك. فكأنه قال: هذا الذي بشرت به مريم، في شأن ابنها كان، فماذا حدث إذ كان؟ حدث أن قابل اليهود هذا كله بالكفر. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ فلما علم من اليهود كفرا، علما لا شبهة فيه، كعلم ما يدرك بالحواس، أو فلما استشعر منهم التصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ الأنصار جمع نصير وناصر، أي من ينصرني في الدعوة إلى الله؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ الحواري هو صفوة الرجل وخاصته، أي قال له صفوة أصحابه: نحن أعوان دين الله آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: صدقنا بالله ونطلب شهادتك على إسلامنا، وإنما طلبوا

[سورة آل عمران (3): آية 53]

شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم؛ لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم، وعليهم. والملاحظ أنهم أعلنوا الإيمان، وطلبوا الشهادة على الإسلام، فدل على أن الإيمان الكامل، والإسلام الكامل شئ واحد. وبعد أن قالوا هذا لعيسى، قالوا لله مقرين وداعين رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ أي بالإنجيل وما قبله وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي عيسى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية، أو مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى فعرفوا منه أنهم (أي أمة محمد) شهداء الله على الناس، فطلبوا أن يشاركوهم في هذا الشرف. والتفسير الأخير مروي بسند جيد عن ابن عباس. وَمَكَرُوا أي: كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حتى أرادوا قتله وصلبه وَمَكَرَ اللَّهُ أي: جازاهم على مكرهم؛ بأن رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل. ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء، لأنه مذموم عند الخلق، وعلى هذا الخداع والاستهزاء وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي: أقوى المجازين، وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.

فوائد

فوائد: 1 - قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي بمعجزة تناسب أهل زمانه، وتقوم عليهم الحجة بها من خلال اهتماماتهم، وما يبرعون فيه. ومن ثم كانت معجزة عيسى إبراء الأكمه والأبرص ... وإحياء الموتى، لأن علم الطب، والطبيعة كانا مثار اهتمام في البلاد التي تسيطر عليها الدولة الرومانية، فجاءهم بما يسلم به الجميع من أن هذا رسول الله. 2 - في قوله تعالى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ دليل على أن النسخ قد وقع في شريعة عيسى لشئ من شريعة موسى. والنصارى في عصورنا المتأخرة أنكروا النسخ سواء كان نسخ شريعة نبي لنبي آخر، أو النسخ ضمن شريعة النبي الواحد من أجل أن يبطلوا شريعتنا، وقد رد عليهم أبلغ رد من كتبهم، وأقوال علمائهم: رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه (إظهار الحق) إذ أثبت من خلال كتبهم: أن نسخ شريعة نبي لشريعة نبي آخر، قائم، والنسخ ضمن الشريعة الواحدة قائم. فليراجع الكتاب. وبعد ما مر يبين الله- عزّ وجل- كيف فوت على الماكرين بعيسى مكرهم: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ الأكثرون من المفسرين على أن المراد بالوفاة هنا النوم، أي منيمك، ومنهم من قال: إني قابضك إلي. ومنهم من قال: المعنى: إني متوفيك وفاة وعاصمك من أن يقتلك الكفار، وهذه بشارة له بعدم القتل، وسيكون موته بعد نزوله من السماء وَرافِعُكَ إِلَيَّ، أي: إلى سمائي، ومقر ملائكتي؛ بدليل رؤيته من رسولنا عليه الصلاة والسلام يوم المعراج في السماء. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من سوء جوارهم، وخبث صحبتهم؛ برفعي إياك إلى السماء وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ أي: المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فوقهم بالحجة والبيان، وبالسيف في كثير من الأحوال. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ثم بين الله- عزّ وجل- ما هو الحكم الذي سيحكمه فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال، وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق. وَأَمَّا

[سورة آل عمران (3): آية 58]

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي في الدنيا والآخرة. في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ولذلك يعاقبهم في الدنيا والآخرة. وتختم هذه الفقرة بقوله تعالى ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى، ومبدأ ميلاده، وكيفية أمره، واصطفائه وأهله، وما أكرمه الله به من المعجزات التي لا شك فيها ولا شبهة ولا ريب، وذلك كله من الذكر الناطق بالحكمة وهو القرآن. فائدة: في قوله تعالى وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بشارة للمؤمنين إذ نحن المتبعون الحقيقيون لعيسى ولغيره من الأنبياء إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإن أحسنا فنحن فوق العالمين جميعا. وهل في النص إشارة إلى أن الأتباع الصوريين لعيسى سيعلون على الكافرين من غير اتباعه؟ يحتمل بعضهم ذلك. وقد أكرمنا الله خلال العصور بغلبة الكافرين من كل جنس ولون. ولقد أصابنا ما أصابنا في الفترة المتأخرة لإهمالنا ديننا، فإن عدنا عاد الله علينا بالنصر، ونحن موعودون بفتح روما، والمستقبل لهذا الدين، وهذا موضوع سيأتي. الفقرة الثالثة إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. المعنى العام: يبين الله- عزّ وجل- أن خلق عيسى من غير أب في قدرة الله، كخلق آدم من غير أم ولا أب، بل من تراب. فالذي خلق آدم من غير أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى من غير أب بالطريق الأولى أو الأحرى. وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق

المعنى الحرفي

أن ذلك باطل، فدعواه في عيسى أشد بطلانا، وأظهر فسادا. ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى. ثم بين الله- عزّ وجل- أن هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه، ولا صحيح سواه وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم. أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان. أي أن يتلاعن مع من يدعي غير هذا في شأن عيسى، فيدعو كل على الكاذب في شأن عيسى أن تنزل به لعنة الله. ثم أكد الله- عزّ وجل- أن ما قصه علينا في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه، ولا محيد، وأن الله متصف بالوحدانية وأنه العزيز الحكيم. ثم بين أن الذي يتولى عن هذا إلى غيره. هو المفسد، والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شئ. المعنى الحرفي: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ أي: إن شأن عيسى وحاله الغريبة في قدرة الله، كشأن آدم عليه السلام خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي: قدره جسدا من طين ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أي: ثم أراده بشرا فكان. شبه عيسى بآدم مع أن وجود آدم بلا أب وأم أغرب وأكثر خرقا للعادة فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: هذا هو القول الحق من الله أيها السامع، أو أيها الرسول، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي: من الشاكين. والنهي هنا من باب التهييج لزيادة الثبات، لأن الخطاب إن كان لرسول الله، فإنه معصوم عليه السلام من الامتراء، أو أن الخطاب هنا للأمة من خلال شخصه عليه السلام. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ، أي: فمن جادلك من النصارى في شأن عيسى، مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي: من بعد ما جاءك من البينات الموجبة للعلم، فَقُلْ تَعالَوْا أي

[سورة آل عمران (3): آية 62]

احزموا أمركم وهلموا. نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل بأن نقول: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة: اللعنة، وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وقد فسرت المباهلة في الآية: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ. أي: في شأن عيسى منا ومنكم. قال النسفي: وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه، لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، وأفلاذ كبده لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء. لأنهم أعز الأهل، وألصقهم بالقلوب. وقدمهم في الذكر على الأنفس، لينبه على قرب مكانهم، ومنزلتهم. وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يرو عن أحد من موافق أو مخالف، أنهم أجابوا لذلك. إِنَّ هذا أي الذي قص عليك من نبأ عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الذي لا مرية فيه. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ هذا التعبير يفيد الاستغراق في نفي الإلهية عمن سوى الله، وهو رد على النصارى في تثليثهم. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في الانتقام، الْحَكِيمُ في تدبير شئون الأنام، وإنزال الأحكام. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: فإن أعرضوا عن هذا، إلى غيره ولم يقبلوه. فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. هذا وصف لهم بالإفساد في الأرض، وتهديد لهم، ووعيد. وأي إفساد أعظم من نسبة الولد إلى الله!! والدعوة إلى ذلك؟! وأي ذنب أفظع؟ إلا ذنب إنكار وجود الله أصلا. فائدة: ذكر ابن إسحاق أن سورة آل عمران إلى بضع وثمانين منها، نزل بمناسبة مجئ وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقشته في شأن عيسى. وذكر القصة كلها، وفيها عرض المباهلة عليهم، ورفضهم لها، وقبولهم بالجزية، وإرسال أبي عبيدة بن الجراح معهم ليحكم بينهم بناء على طلبهم رجلا أمينا من هذه الأمة. وننقل هنا مجموعة روايات لها علاقة في بعض جوانب هذا الموضوع وقد مر معنا من قبل شئ له صلة بذلك: أ- روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا

كلمة في السياق

نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبيا فلا عناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين. فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أمين هذه الأمة». ب- وروى الحاكم قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب، فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي، وفاطمة، والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي بعثني بالحق لو قالا: لا لأمطر عليهم الوادي نارا. قال جابر: وفيهم نزلت نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ. قال جابر: أَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب وأَبْناءَنا الحسن والحسين، وَنِساءَنا فاطمة». ج- روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس قال: قال أبو جهل- قبحه الله-: إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ عنقه قال: «فقال لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا». كلمة في السياق: مر معنا القسم الثاني بمدخله، وفقراته الثلاث، ومن قبل مر معنا القسم الأول من سورة آل عمران بمقطعيه، وقلنا إن القسم الأول والثاني هما مدخل لفتح حوار شامل مع أهل الكتاب، وذلك مضمون القسم الثالث، وقلنا: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها. والآن نسجل ملاحظة: جاءت آية الكرسي في سورة البقرة بعد آية الإنفاق، وجاءت الآيتان بعد قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وكان للتسلسل على هذه الشاكلة في سورة البقرة حكمته.

فصول ونقول

وهاهنا نلاحظ أن سورة آل عمران بدأت بقوله تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وهي بداية آية الكرسي، وبنت على ما يترتب على أن الله كذلك في قسمها الأول، ثم فصلت في المعاني التي سبقت آيتي الإنفاق والكرسي. فههنا تعرض المعاني عرضا جديدا على غير ترتيب عرضها في سورة البقرة لمقتضيات الحكمة والسياق. وإنما أشرنا هذه الإشارة لنؤكد أن لكل سورة سياقها، وأن لكل سورة محورها في سورة البقرة، وأن السورة كما تفصل في محورها من سورة البقرة، تفصل في امتدادات معاني هذا المحور في تلك السورة. والموضوع سيتكشف لنا شيئا فشيئا من خلال العرض الشامل للقرآن الكريم. وقبل أن ننتقل إلى عرض القسم الثالث من السورة نحب أن نعقد فصولا، وننقل نقولا لها صلة بالقسم الثاني فصول ونقول: فصل مؤجل: كيف حدثت هذه العملية الفظيعة: أن ينتقل أتباع المسيح عليه السلام من التوحيد إلى التثليث؟ موضوع سنفصل فيه إن شاء الله عند قوله تعالى في سورة براءة: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فلنؤجل الكلام فيه. فصل: في رفع عيسى عليه السلام وهو حي: الذي عليه أهل التحقيق، أن عيسى عليه السلام رفعه الله إليه وهو حي. والوفاة المذكورة في قوله تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ المراد بها النوم، أو أنه من باب المقدم والمؤخر والتقدير: إني رافعك إلى ومميتك بعد ذلك أي عند نزولك الأرض مرة ثانية، ففي ذلك بشارة له أنه سيموت موتا ولا يقتل قتلا، لا حالا ولا استقبالا. قال ابن كثير بعد مجموعة نقول: «قال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير توفيه: هو رفعه، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الآية (سورة الأنعام) وقال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها الآية: (سورة الزمر) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: «الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث، وقال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ

فصل في نبوة النساء

إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ إلى قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً والضمير في قوله قبل موته عائد على عيسى عليه السلام أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه حدثنا الربيع بن أنس عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة». أقول: والذي دعا أهل التحقيق للجزم بهذا، هو النصوص المتواترة في نزول المسيح عليه الصلاة والسلام إلى الأرض قبيل قيام الساعة كما سنرى، وقد جرت سنة الله- عزّ وجل- أنه إذا أمات عبدا لا يرجعه إلى الدنيا إلا خرقا لعادة، وقد رد أبو بكر على عمر رضي الله عنهما عند ما ذهب عمر إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود إلى الحياة بعد وفاته، بأن الله- عزّ وجل- لا يجمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتتين، وقد يستأنس بعضهم لذلك بما ذكره إنجيل برنابا- والله أعلم بصحته- على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام لأمه: «صدقيني يا أماه لأني أقول لك بالحق، إني لم أمت قط لأن الله قد حفظني إلى قرب انقضاء العالم». فصل في نبوة النساء: لا خلاف في أن الله- عزّ وجل- لم يرسل رسولا من النساء لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا (سورة يوسف) ولكن هناك خلافا كبيرا في جواز استنباء النساء، فمنهم من ذهب إلى جوازه ووقوعه، واستدل على ذلك بتكليم الملائكة لمريم عليها السلام، وأعطاها صفة النبوة لذلك، ومنهم من منعه ولم يعتبر أن تكليم الملائكة دليل على النبوة، لأن هناك نصوصا مجمعا على أنها في حق غير الأنبياء جرى فيها تكليم من الملائكة للبشر، وقد وصف الله- عزّ وجل- مريم بأنها صديقة وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ (سورة المائدة) والصديقية مقام والنبوة مقام آخر، وهذا الذي رجحناه أثناء عرضنا لتفسير القسم الثاني.

فصل في فضلى النساء بإطلاق

فصل في فضلى النساء بإطلاق: لا خلاف في أن مريم أفضل نساء زمانها لقوله تعالى وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ولكن الخلاف، هل هي فضلى نساء العالمين في سائر العصور؟ بعضهم ذهب إلى ذلك، وبعضهم قال: بل أفضل منها: فاطمة الزهراء رضي الله عنها. ويقول الألوسي بعد كلام طويل: «وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة، ثم أمها، ثم عائشة بل لو قال قائل: إن سائر بنات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا، وعندي بين مريم وفاطمة توقف، نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل، ثم أمها، ثم عائشة- ووافقه في ذلك البلقيني-. فصل في ردود على أفكار خاطئة: - ذهب بعضهم إلى أن قول أم مريم وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى بأن مقصودها: إن الأنثى التي أعطيتني إياها خير لي من الذكر الذي رغبت فيه، وقد رد الألوسي على هؤلاء ردا طويلا فليراجع. - كما رد الألوسي ردا مطولا على من استدل من الشيعة بالنصوص الواردة بشأن المباهلة، على أن ذلك نص في قضية الإمامة والخلافة، أما أنها تدلل على فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك لا شك فيه. نقول: - «بمناسبة قوله تعالى يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ يقول صاحب الظلال: «وهنا تظهر عظمة هذا الدين، ويتبين مصدره عن يقين. فها هو ذا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب- ومنهم النصارى- ما يلقى من التكذيب، والعنت والجدل، والشبهات .. ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على «نساء العالمين» بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق. وهو في مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبررا لعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالدين الجديد!. أي صدق؟ وأية عظمة؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين، وصدق صاحبه الأمين!».

فصل: في مناقشة التطوريين

- من كلام في تفسير الكهل نقله القرطبي: «وإنما الكهل عند أهل اللغة: من جاوز الأربعين وقال بعضهم: يقال له حدث إلى ست، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين، ثم يكتهل في ثلاث وثلاثين». فصل: في مناقشة التطوريين: من قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يتضح لنا أن آدم عليه الصلاة والسلام قد خلقه الله خلقا مباشرا، فهذه الآية تنفي أي احتمال يمكن أن يتمسك به أي متمسك في مسايرة أوهام وظنون الداروينيين وأمثالهم. لقد مرت فترات كانت فيها نظرية داروين وكأنها حقيقة علمية، ولقد انتهى هذا الزمن؛ لأن النظرية قد نقضتها علوم متعددة ودراسات كثيرة، ولعل كتاب أخينا الدكتور حسن زينو المختص في الجيولوجيا والتنقيب، والذي يعتبر من أجود المتتبعين وأقوى المختصين في دراسته، لعل كتابه «التطور والإنسان» قد وضع المسألة في إطارها النهائي، خاصة وقد ذكر في هذا الكتاب كل ما وصل إليه الإنسان في حفرياته وأبحاثه، وكل ما قدمته المستحسات وبرهن على أن ذلك كله لا يقوم به دليل على صحة أمثال هذه النظريات، ومن كلامه في هذا الكتاب: «أما التخيلات والأوهام التي يقول بها بعض من يدرسون الحيوانات والنباتات الحالية، ويقارنون أعضاءها ببعضها ليقولوا إنها نشأت من بعضها البعض فهي ظنون يرفضها العلم». «وبالاختصار فكل من يدعي أن شكلا من الأحياء، نشأ من شكل آخر، ينبغي أن يثبت ذلك بالأدلة المستحسة طبقة فطبقة وشكلا فشكلا، أو في بعض الأحيان النادرة كما في مثال الذباب، بطريقة علم الوراثة بإجراء تجارب موضوعية يقينية. ومن ثم يرفض العلم كل تخرصات الملحدين الذين تدور مقالاتهم كلها حول إثبات أصل الإنسان من أحياء منحطة صغيرة، وهدفهم من ذلك نفي وجود آدم عليه السلام، ومن ثم إنكار الديانات السماوية، وإنكار الخالق عزّ وجل. فالمسألة التي يدور حولها الحوار والنزاع هي في النهاية وفي البداية أيضا مسألة العقيدة والإيمان بالله، بخالق الكون والأحياء فيه. ولهذا لاقت قضية التطور والنشوء مجالا رحبا واسعا تخطى آفاق العلم اليقيني التجريبي إلى متاهات الشكوك والترهات والخرافات التي تزعمها الملحدون من جهة، والكهنوت من جهة أخرى». يقول الدكتور هذا الكلام ويثبته بدقائق وحقائق كثيرة فلا يبقي تكأة يتكئ عليها

فصل: في مسائل فقهية وعملية

الماديون إلا وبرهن أنها تخيلات وظنون. ولنا عودة على هذا الموضوع. فصل: في مسائل فقهية وعملية: 1 - عند قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ... يذكر القرطبي مجموعة مسائل ننقل منها الثالثة والرابعة قال: الثالثة- دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين قال الله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً .. (سورة الرعد) وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا. وأخرج ابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء» وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق، قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم الخليل: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ (سورة الفرقان). وقد ترجم البخاري على هذا «باب طلب الولد». وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين مات ابنه: «وأ عرستم الليلة»؟ قال نعم. قال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما». قال: فحملت. وفي البخاري: قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن. وترجم أيضا «باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة» وساق حديث أنس بن مالك قال قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته». وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين». أخرجه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم». أخرجه أبو داود. والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه، لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته. قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث» فذكر «أو ولد صالح يدعو له». ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.

الرابعة:- فإذا ثبت هذا فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه ويدعو بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (سورة مريم) وقال: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وقال: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته» أخرجه البخاري ومسلم وحسبك. 2 - عند قوله تعالى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. قال القرطبي: «استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة، ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. ورد العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنة. وقال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر: واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردها. وقد ترجم البخاري فى آخر كتاب «الشهادات» (باب القرعة في المشكلات وقول الله- عزّ وجل- «إذ يلقون أقلامهم») وساق حديث النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها مثل قوم استهموا على سفينة» ... الحديث. وسيأتي في «الأنفال» إن شاء الله تعالى، وفي سورة «الزخرف» أيضا بحول الله سبحانه وتعالى، حديث أم العلاء، وأن عثمان بن مظعون طار لهم سهمه في السكنى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين، الحديث. وحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذكر الحديث. وقد اختلفت الرواية عن مالك في ذلك؛ فقال مرة: يقرع للحديث. وقال مرة: يسافر بأوفقهن له في السفر. وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه

فصل في ذكر بعض ما حدث عقيب نزول آية المباهلة

لاستهموا». والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وكيفية القرعة مذكورة في كتب الفقه والخلاف. واحتج أبو حنيفة بأن قال: إن القرعة في شأن زكريا وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز. قال ابن العربي: «وهذا ضعيف، لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التشاح؛ فأما ما يخرجه التراضي [فيه] فباب آخر، ولا يصح لأحد أن يقول: إن القرعة تجري مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدا مع التراضي وإنما تكون فيما يتشاح الناس فيه ويضن به. وصفة القرعة عند الشافعي ومن قال بها: أن تقطع رقاع صغار مستوية، فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم، ثم تجعل في بنادق طين مستوية لا تفاوت فيها، ثم تجفف قليلا، ثم تلقى في ثوب رجل لم يحضر ذلك، ويغطى عليها ثوبه، ثم يدخل يده ويخرج، فإذا أخرج اسم رجل أعطي الجزء الذي أقرع عليه. 3 - هناك اتجاهان في موضوع المباهلة، هل هي جائزة لإظهار الحق أبدا، أو أنها خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والثاني هو الأقوى. قال الألوسي: «ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس ابن سعد أن ابن عباس رضي الله عنه كان بينه وبين آخر شئ فدعاه إلى المباهلة». فصل في ذكر بعض ما حدث عقيب نزول آية المباهلة: يقول الألوسي: أخرج البخاري ومسلم «أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة». وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء، والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى فَقُلْ تَعالَوْا الآية فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى بني قريظة والنضير وبني قينقاع؛ فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر، وألف في رجب ودراهم». وروى أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة، وثلاثا وثلاثين درعا، وثلاثة وثلاثين بعيرا، وأربعا وثلاثين فرسا».

وأخرج في الدلائل أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد- وهو الكبير- والعاقب- وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما، قالا: أسلمنا قال: ما أسلمتها. قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولدا، ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية. فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول: ونزل فَمَنْ حَاجَّكَ الآية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم». فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم. قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لا عنتموه إنه لاستئصالكم، وما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أنا دعوت فأمنوا أنتم، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية». وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو أتموا الملاعنة» وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا». وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا ومعه علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم قال: يا معشر النصارى! إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا تهلكوا». هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفس، الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب، وهو يختص به وبمن يباهله، لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو، وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل رسول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن» اهـ. أقول: نقلنا هذا النقل عن الألوسي مع أننا كنا نقلنا بعض رواياته من قبل لما في ذلك من استيعاب مفيد.

فصل في ذكر بعض أسباب النزول

فصل في ذكر بعض أسباب النزول رأينا أن بعضهم يعتبر أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية نزل بمناسبة الحوار مع وفد نجران، إلا أنه رأينا من يذكر أسباب نزول خاصة لبعض آيات صدر سورة آل عمران، وقلنا في تعليل ذلك: إما أن الرواية التي تذكر سبب نزول واحد لكل هذه الآيات ليست محفوظة، أو أن بعض الآيات نزلت مرتين، نزلت متفرقة ثم نزلت مجتمعة مع أخواتها في صدر سورة آل عمران. ومما ذكره الألوسي في أسباب نزول قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ما يلي: «روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، ونحن على دينهم فنزلت، وقيل: إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله- سبحانه- واتخذوه إلها، نزلت ردا عليهم، وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر، المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها». كلمة أخيرة في الصلة بين أقسام السورة: سنرى أن القسم الثالث من أقسام سورة آل عمران فيه حوار شامل مع أهل الكتاب، وقد كان ذلك بعد هذا القسم الذي وضع الأمور في مواضعها في شأن عيسى عليه السلام، وبعد القسم الأول الذي وضع الأمور في مواضعها بالنسبة للقرآن والإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته، فالأقسام الثلاثة تكمل بعضها لتكون كلها مدخلا للقسمين الأخيرين اللذين يوجهان الأمة المسلمة بشكل مباشر في شأن العلاقة مع أهل الكتاب ومع أهل الكفر. وفي وجه المناسبة بين القسم الأول والقسم الثاني والقسم الثالث وهو القسم الذي سيأتي معنا من سورة آل عمران- يقول الألوسي: «وقال شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- في وجه المناسبة: إنه سبحانه لما بين إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وأن اختلاف أهل الكتابين فيه؛ إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، شرع في تحقيق رسالته، وأنه من أهل بيت النبوة القديمة، فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه، وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان؛

تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما، ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعاءهم الانتماء إلى ملته، ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية، ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم؛ تحقيقا لوجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله- انتهى- وهو وجه وجيه». أقول: بعد أن تقرر في القسم الأول معاني التوحيد والقيومية، والعزة والحكمة، ومظاهر ذلك وآثاره، من إنزال الكتب وإرسال الرسل، ووجوب الإسلام، وبعد أن تقرر في القسم الثاني بيان حقيقة عيسى عليه الصلاة والسلام، يأتي القسم الثالث وفيه حوار شامل مع أهل الكتاب، ليدخلوا في الإسلام وليتحققوا بما دعت إليه السورة في قسميها السابقين.

القسم الثالث من أقسام سورة آل عمران

القسم الثالث من أقسام سورة آل عمران يمتد هذا القسم من الآية (64) إلى الآية (99) وهذا هو [سورة آل عمران (3): الآيات 64 الى 71] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

[سورة آل عمران (3): الآيات 72 الى 74] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 78] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ***

[سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 83] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 88] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)

[سورة آل عمران (3): الآيات 89 الى 99] إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) ***

كلمة في القسم

كلمة في القسم: يبدأ هذا القسم بقوله تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ وينتهي بقوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. نلاحظ أن نداء قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ* قد بدئ به القسم، وختم به القسم. وهذا واحد مما دلنا على بداية القسم ونهايته. كما أن المعاني السابقة على القسم، والمعاني الآتية بعده تحدد بدايته ونهايته. فقد سبق بالقسم الذي يتحدث عن عيسى عليه السلام. وجاء بعده قسم بدايته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... وهو أول نداء بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نراه في سورة آل عمران. قلنا إن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في السورة نفسها، فلنر هذا جليا في هذا القسم: جاء في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ومن امتداد هذا المعنى في سورة البقرة الدعوة التي وجهت لبني إسرائيل، والحوار الذي فتح معهم، والذي بدايته مدخل مقطع بني إسرائيل الذي فيه وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ والذي استمر في مقطع بني إسرائيل، ومقطع إبراهيم، ومقطع القبلة، وانتهى بآية من سورة البقرة. وفي هذا الحوار الطويل مع بني إسرائيل هناك ورد قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهاهنا في هذا القسم من سورة آل عمران نجد قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وفي ذلك الحوار مع بني إسرائيل في سورة البقرة ورد: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وهاهنا نجد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي ذلك الحوار الكبير ورد قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .... وهاهنا يرد قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ

الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وفي معرض الحوار مع بني إسرائيل في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ .. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وهاهنا يرد النص نفسه تقريبا: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. لاحظ صلة هاتين الآيتين بشكل مباشر بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وفي سورة البقرة جاء قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وهاهنا نجد قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. ورأينا في الحوار الطويل مع بني إسرائيل في سورة البقرة إقامة الحجة عليهم بالنسخ، وهاهنا يذكر الله- عزّ وجل- لنا نموذجا على نسخ وقع عندهم: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ .... ورأينا في الحوار الطويل مع بني إسرائيل مناقشتهم لقضية القبلة والتوجه في الصلاة إلى كعبة إبراهيم، وهاهنا يأتي كلام عن البيت، وفرضية حجه. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ وقبل هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وفي سورة البقرة: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. ونلاحظ أن الحوار مع بني إسرائيل في سورة البقرة كان منصبا في جملة مع اليهود، وهاهنا ينصب الحوار في جملته مع النصارى، حتى إنه يذكر في أسباب النزول، أن قسما كبيرا من هذه الآيات إن لم يكن كلها نزل بسبب الحوار مع وفد نجران النصراني. فالقسم تفصيل لمحوره في سورة البقرة، ولامتدادات هذا المحور في سورة البقرة نفسها. لقد جاء في مقدمة سورة البقرة: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.

وقد جاء القسم الأول في سورة آل عمران يفصل تفصيلا أوليا في هذا النص. ثم بعد ذلك جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ونلاحظ أن القسم الثاني من سورة آل عمران فصل في بعض ذلك فأعطانا صفحة من صفحات الإيمان بالغيب. ثم جاء بعد هذا في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ويأتي هذا القسم ليحاور أهل الكتاب من أجل أن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في مقدمة سورة البقرة كلام عما يقابل التقوى والمتقين، وهو الكفر والكافرين إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وقد رأينا في القسمين السابقين كيف يتعاقب الكلام عن الإيمان والكفر، ونلاحظ أنه في هذا القسم قد جاء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وفي مقدمة سورة البقرة يأتي كلام عن المنافقين، وفي معرض الحوار مع أهل الكتاب هنا يأتي ذكر خطة من خطط اليهود: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ وهكذا نجد كيف أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في نفس السورة، ولكن مع ذاتية خاصة للسورة، وسياق خاص بها، وترابط خاص بين معانيها. فمن قبل هذا القسم الذي هو حوار شامل مع أهل الكتاب في شئون كثيرة، جاء القسم الأول والثاني ممهدين لهذا الحوار. القسم الأول: قرر وحدانية الله وقيوميته، وعزته، وحكمته، وأن الدين عنده الإسلام. والقسم الثاني: بين الحق في شأن عيسى عليه السلام، وهو أخطر انحراف وقع فيه أهل الكتاب. ثم يجئ القسم الثالث ليفتح الحوار الشامل مع أهل الكتاب على ضوء التمهيدين السابقين. فقبل أن يقول هذا القسم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ جاءت خاتمة القسم الثاني تقول: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَ

اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. وجاءت خاتمة القسم الأول تقول: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وكما أن الصلة بين القسمين السابقين وهذا القسم واضحة بشكل عام، فالصلة بين الآيات السابقة على هذا القسم وبين بدايته كذلك واضحة، فبعد أن قرر الله- عزّ وجل- الحق في شأن عيسى الذي عبده النصارى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ جاء خطاب لأهل الكتاب بأن يعبدوا الله وحده: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ. لقد جاء القسم الأول دعوة إلى الدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وجاء القسم الثاني مبينا أن محمدا صلى الله عليه وسلم داخل في المصطفين؛ فهو من آل إبراهيم، وأن ما يدعوا إليه في شأن عيسى هو الحق، وجاء القسم الثالث ليدعو أهل الكتاب إلى هذا الحق ويحاورهم فيه وتتسلسل المعاني في هذا القسم على ذاتية خاصة به. فهو يبدأ بالدعوة إلى عبادة الله وحده، ثم في تأنيب أهل الكتاب على دعاواهم أن إبراهيم يهودي، أو نصراني، وتبيان أن أولى الناس بإبراهيم هو محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ثم يبين القسم رغبة أهل الكتاب في إضلال المسلمين، ويؤنب أهل الكتاب على الكفر، وخلط الحق بالباطل، وكتمانهم الحق. ثم يبين القسم بعض خططهم لإضلال المسلمين، وبعض اعتقاداتهم التي تجعل بعضهم يستبيح الخيانة، مع أن القاعدة الكلية المقبولة عند الله تعالى هي الوفاء بالعهود، ثم يقص الله علينا بعضا من أخلاقهم، ومواقفهم ويرد عليهم فيها ثم يدعوهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، ويؤنبهم على أن يتجهوا إلى غير ذلك. ثم يبين أن هؤلاء لا يستحقون الهداية، إذ إنهم كانوا مؤمنين فكفروا، إلا إذا اجتمع للواحد منهم التوبة والإصلاح. ثم يبين الله لهؤلاء الكافرين ما أعده لهم من عذاب إن أصروا على الكفر، وماتوا عليه. ثم يبين لهم، ولنا بعضا مما يدخل في ماهية البر، وأن النسخ قائم في شريعتهم، وذلك لأنهم بحجة عدم جواز النسخ يرفضون الدخول في الإسلام. وإذ كانت قضية القبلة من شبههم، فإن كلاما عن بيت الله الذي بناه إبراهيم عليه السلام يأتي وفيه تبيان لشرف

"الفقرة الأولى"

هذا البيت، وفرضية الله على الناس حجه، فضلا عن استقباله في الصلاة كما قررته سورة البقرة. ثم يختم القسم بنداء لأهل الكتاب، يؤنبهم فيه على الكفر بآيات الله، وبنداء آخر يؤنبهم فيه على صدهم عن سبيل الله، وابتغائهم العوج. ولنبدأ عرض فقرات القسم: «الفقرة الأولى» [سورة آل عمران (3): الآيات 64 الى 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) المعنى العام: في الآية الأولى: أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو دعوة عامة لجميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم إلى كلمة عدل ونصف، يستوي فيها المسلمون وغيرهم، ألا يعبد الجميع لا وثنا ولا صليبا، ولا صنما ولا طاغوتا، ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له وهي دعوة كل الرسل، وأن يفرد الجميع الله بالطاعة، فلا يطيع أحد أحدا في معصية الله، فإن تولوا عن هذه الدعوة وهذا النصف، فقد أمرنا الله تعالى أن نشهدهم على استمرارنا على الإسلام الذي

المعنى الحرفي

شرعه الله لنا. وإذا تذكرنا ما ورد في القسم الأول: أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا إذا تذكرنا ذلك أدركنا صلة الأقسام ببعضها. - في الآية الثانية: ينكر الله تبارك وتعالى على اليهود والنصارى ادعاء كل من الطائفتين أن إبراهيم كان منها. فكيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى. وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعده بزمن طويل. ولهذا ختم الآية بتأنيبهم فقال: أَفَلا تَعْقِلُونَ - وفي الآية الثالثة: إنكار على من يجادل فيما لا علم له به، فإن اليهود تحاجوا في إبراهيم بغير علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم من علم، مما يتعلق بأديانهم التي شرعت إلى حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم. وإذ تكلموا فيما لا يعلمون فقد أنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به، إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها، وجلياتها، لأنه هو الذي يعلم، وغيره لا يعلم. - وفي الآية الرابعة: نفى أن يكون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا، إنه كان متحنفا عن الشرك، قاصدا إلى الإيمان، وفي ذلك تعريض بشركهم الذي منه إبراهيم براء. وفي الآية الخامسة: بين أن أقرب الناس، وأخصهم بإبراهيم هم أتباعه ومحمد صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا: المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم بعدهم لأنهم هم الموحدون المسلمون. المعنى الحرفي: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يدخل في الخطاب اليهود والنصارى، ويدخل غيرهم من باب أولى. تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ أي: مستوية بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: العبادة لله وحده، والطاعة لله وحده، فلا يحلل ولا يحرم إلا هو. ولا إله إلا هو. قال ابن جريج في تفسير قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي عن التوحيد فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: فقد لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا، وتسلموا بأنا مسلمون دونكم فاعلموا ذلك.

[سورة آل عمران (3): آية 65]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي: لم تجادلون في شأنه، فيزعم بعضكم أنه يهودي، ويزعم بعضكم الآخر أنه نصراني وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فمن أين له اليهودية أو النصرانية، وكتابا الديانتين ما أنزلا إلا من بعده بكثير أَفَلا تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيان حماقتكم؛ وقلة عقولكم أنكم جادلتم بالباطل فيما لكم به علم فخالفتم علمكم، مما نطق به التوراة والإنجيل. قال القرطبي: يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل. فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ولا ذكر له في كتابكم قال القرطبي: «يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا». وَاللَّهُ يَعْلَمُ علم ما حاججتم فيه. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي وأنتم جاهلون به. ثم أعلمهم أن إبراهيم برئ مما نسبوه إليه فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين إلا دين الله. مُسْلِماً لله في شأنه كله وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وقد أشركتم أنتم وغيركم، فكيف يكون منكم!!! إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي أخصهم به، وأقربهم منه، وأحقهم بالانتساب إليه لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي أتباعه في زمانه وبعده. وَهذَا النَّبِيُّ أي محمد عليه السلام خص بالذكر لخصوصيته بالفضل. وَالَّذِينَ آمَنُوا من أمة محمد عليه السلام. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أي ناصرهم. فوائد: 1 - أخرج البخاري نص رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عن ابن عباس عن أبي سفيان في قصة حين دخل على قيصر فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن صفته ونعته، وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية. وكان ذلك بعد صلح الحديبية، وقبل الفتح، وكما هو مصرح به في الحديث وهذا نص الرسالة: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا

اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. وهذا يفيد أن آية «قل يا أهل الكتاب تعالوا ... » قد نزلت قبل مجئ وفد نجران في السنة التاسعة: وقد ذكر ابن كثير مجموعة وجوه للتوفيق بين قول ابن إسحاق إن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، نزل بمناسبة مجئ وفد نجران في السنة التاسعة وكون هذه الآية في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل في السنة السابعة ومن هذه الأوجه: «ويحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى هذه الآية، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق إلى بضع وثمانين آية ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان عليه». 2 - يقول صاحب الظلال تعليقا على آية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ: إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله .. يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في الديكتاتوريات سواء .. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين .. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس- في صورة من الصور- ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس- على أي وضع من الأوضاع- وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها، وقيمها وموازينها، وتصوراتها، هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله، ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا. فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله. وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة .. ويصبح حرا. حرا يتلقى التصورات، والنظم، والمناهج، والشرائع، والقوانين، والقيم والموازين، من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله. فهو وكل إنسان آخر على سواء. كلهم يقفون في مستوى واحد ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله. والإسلام- بهذا المعنى- هو الدين عند الله. وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله .. لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. ومن جور العباد إلى عدل الله .. فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله. مهما أول

المؤولون، وضلل المضللون .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ .. 3 - ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ... 4 - روى الترمذي والبزار عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عزّ وجل» ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ .... وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن حوشب قال: حدثني ابن غنم، أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، أدركهم عمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم، فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة، يريدون أن يحيلوا عليك ملكك، ويفسدوا عليك أرضك، ويشتموا ربك، فأرسل إليهم النجاشي، فلما أن أتوه قال: ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان- لعمرو بن العاص. وعمارة بن أبي معيط؟ - يزعمان أنما جئتم لتحيلوا علي ملكي، وتفسدوا علي أرضي، فقال عثمان بن مظعون وجعفر: إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي، فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم: رجل شاب لكم في ذلك عذر، فجمع النجاشي قسيسيه ورهابنته وتراجمته، ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه، هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا: نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه، وما قد سمع منه. ويأمر بالمعروف، ويأمر باليتيم، ويأمر بحسن المجاورة، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده، ولا يعبد معه إله آخر فقرأ عليه- سورة الروم، والعنكبوت، وأصحاب الكهف، ومريم، فلما أن ذكر عيسى في القرآن، أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال: والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه، قال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال يقول: إن عيسى عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين، فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه، فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة- يعني بلسان

كلمة في السياق

الحبشة- اللوم أي لا لوم على حزب إبراهيم، قال عمرو بن العاص: ما حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم، فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية. كلمة في السياق: 1 - سبقت هذه الفقرة فقرة تضمنت تقرير حقيقة عيسى، وتحدي من يكذب ذلك، وجاءت هذه الفقرة لتعلمنا أن ندعو أهل الكتاب إلى التوحيد، وأن نناقشهم في زعمهم أن أبا التوحيد منهم، بل نحن منه وهو منا بدليل أننا على مذهبه. والآن تأتي فقرة أخرى تبين رغبة أهل الكتاب في إضلالنا، وبعض مخططاتهم للإضلال، وبعض وصاياهم لبعضهم والرد عليهم. 2 - تأتي الفقرة الثانية في هذا القسم وفيها تعليل وتمثيل: فقد ذكرت الفقرة الأولى جدال أهل الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وادعاءهم أن إبراهيم عليه السلام منهم، وتأتي هذه الفقرة معللة لجدالهم ودعاواهم، وأن مرادهم من ذلك إضلال أهل الإيمان، وفيها تأنيب لهم على رغبتهم في إضلال المؤمنين، وبعض طرائقهم في ذلك. 3 - بعد مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وسار السياق هناك فقص الله- عزّ وجل- قصة آدم، وقصة بني إسرائيل، وقصة إبراهيم عليه السلام. وهاهنا تأتي دعوة لأهل الكتاب: لإفراد الله بالعبادة والربوبية، وفي هذا السياق تناقش دعاوى أهل الكتاب في إبراهيم عليه السلام. من خلال ما ذكرناه ندرك: كيف أن سورة آل عمران تسير في سياقها الخاص في مسرى واحد ومجرى واحد، تتكامل مراحله فتتعانق البدايات والنهايات ضمن الأقسام والمقاطع والفقرات، ومع ذلك فهي تفصل فى محورها من سورة البقرة، وامتدادات هذا المحور هناك. فإذا كان محورها هو مقدمة سورة البقرة، فإن مقدمة سورة البقرة لها امتداداتها وارتباطها بمعاني بقية سورة البقرة، وهاهنا تأتي سورة آل عمران لتفصل في نقطة من

"الفقرة الثانية"

المقدمة، وتجذب إلى هذه النقطة بعض ما له صلة بها في سورة البقرة ثم تفصل: كان تفصيل القسم الأول في ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وكان تفصيل القسم الثاني في الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وينصب تفصيل القسم الثالث على وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وإذ كان لكل من هذه النصوص في المقدمة ارتباطاته ببقية سورة البقرة، فإن سورة آل عمران تلقي أضواء على هذه الامتدادات والارتباطات، فتجذب المعنى إلى المعنى مفصلة وملقية أضواء على سياق سورة البقرة، وهذا بعض الأمر. «الفقرة الثانية» [سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) المعنى العام: - يخبر تعالى في الآية الأولى: عن رغبة بعض أهل الكتاب في إضلال المسلمين؛ والراغبون ابتداء طائفة من اليهود. ولكنها عامة في أهل الكتاب إلى يوم القيامة. ثم أخبر

تعالى أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم. - وفي الآية الثانية: سؤال موجه لأهل الكتاب عن أسباب كفرهم بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقها، وتحققهم من أحقيتها. - وفي الآية الثالثة: سؤال آخر لهم عن أسباب خلطهم الحق بالباطل، وأسباب كتمانهم الحق الموجود في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم ذلك وتحققهم منه وإذن هم يعرفون أن المسلمين على حق ومع ذلك يرغبون في إضلالهم. - وفي الآية الرابعة: إخبار عن مكيدة أرادوها، ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم ائتمروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم؛ ليقول الجهلة من الناس، إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، فيرتد المسلمون عن دينهم. - وفي الآية الخامسة: أخبر تعالى عن تواصيهم فيما بينهم ألا يطمئنوا وألا يظهروا سرهم وما عندهم إلا لمن تبع دينهم، وألا يظهروا ما بأيديهم إلى المسلمين، فيحتج المسلمون عليهم. وإنما دفعهم إلى هذا شيئان: الرغبة بأن يكون لهم امتياز على المسلمين في العلم، والخوف من أن تقوم الحجة عليهم أمام الله. يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي: يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة، وتركبكم الحجة في الدنيا والآخرة. وقد رد الله عليهم في الآية مرتين: المرة الأولى بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي: هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. والمرة الثانية: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي الأمور كلها تحت تصرفه، وهو المعطي المانع، يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء، فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة التامة والحكمة البالغة.

المعنى الحرفي

- وفي الآية السادسة: بين- عزّ وجل- مشيئته المطلقة في أنه يختص من يشاء برحمته، وأن فضله عظيم لا يحاط به، وفيه تنبيه للمؤمنين على ما خصهم به من الفضل بما لا يحد ولا يوصف، بما شرفنا الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعطاه الشرف على سائر الأنبياء وهدانا به إلى أكمل الشرائع. المعنى الحرفي: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت الآية في حادثة، دعا فيها اليهود حذيفة، وعمارا، ومعاذا إلى اليهودية، والنص عام في اليهود وغيرهم، ويشهد لذلك قيام آلاف المؤسسات التبشيرية للتبشير على الأرض الإسلامية، بغية إضلال المسلمين، لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن الإسلام إلى غيره. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي: وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم. وَما يَشْعُرُونَ بأن وبال الإضلال عليهم. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الموجودة عندكم وفيها بشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي: تعترفون بأنها آيات الله، أو معنى الآية: لم تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنتم تشهدون نعته في الكتابين! أو لم تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون أنها حق: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ من نعت محمد عليه السلام وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن محمدا ودينه حق وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فيما بينهم لبعضهم آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا من المسلمين وَجْهَ النَّهارِ أي أوله وَاكْفُرُوا آخِرَهُ أي اكفروا آخر النهار بالإسلام، أي أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار، واكفروا به آخره لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بأن يقولوا: ما رجعوا- وهم أهل كتاب وعلم- إلا لأمر قد تبين لهم، فيرجعون برجوعكم. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي: لا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم، أي لا تطمئنوا إلا لبعضكم، فتكلموا فيما بينكم فقط بما تعرفون، حتى لا ينتفع أحد بالإسلام، أو تكون للمسلمين حجة من خلال كلامكم. هذه وصيتهم لبعضهم. قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي: من شاء الله هداه فأسلم ثبته على الإسلام ولا يضره كيدكم. ولكن لماذا تفعلون ذلك؟ من تخطيط للإضلال وتواص بالباطل: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي: قلتم هذا

[سورة آل عمران (3): آية 74]

ودبرتموه خشية أن يؤتي الله أحدا مثلما أوتيتم من الكتاب، أو خشية من محاجة المسلمين لكم عند ربكم بإقامة الحجة على كفركم كأنهم لحماقتهم يتصورون أن الحجة لا تقوم عليهم إذا كفروا المسلمين!. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي: الهداية والتوفيق والنبوة وغيرها بيد الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وَاللَّهُ واسِعٌ الرحمة عَلِيمٌ بالمصلحة. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي: يختص بالنبوة، واتباع الإسلام من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ففضله لا يحد. فائدة: نلاحظ أن هذه الآيات قد دلتنا على بعض مظاهر ودوافع التخطيط والتآمر والكيد لأهل الإسلام. وبسبب من القوة المادية الهائلة للكفر في عصرنا الحالي، فقد أخذت هذه الأمور مداها الواسع الآن، فلنتذكر- إذ يأمرنا الله- عزّ وجل- في القسم الرابع اللاحق بعدم طاعة أهل الكتاب- الأسباب- الموجبة لذلك مما قصه الله علينا هنا. كلمة في السياق: في سورة البقرة في مقطع بني إسرائيل ورد قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وورد قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. وورد قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وورد قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. وقلنا هناك: إن مقطع بني إسرائيل آت في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

الفقرة الثالثة

وقلنا هناك: إن هذا القسم كله يدل على الطريق للتحقق بصفات المتقين التي من جملتها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وهاهنا نرى: أن كثيرا مما جاء هناك قد فصل هنا، وهو هنا مشدود بشكل مباشر إلى القسم المبدوء بدعوة أهل الكتاب إلى عبادة الله وحده، وترك الطاعة في معصية الله، مما يخدم قضية التقوى، وقضية الإيمان، مما يتضح لنا به شيئا فشيئا، كيف أن سورة آل عمران، تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات هذه المقدمة في تلك السورة، بحيث تساعدنا على فهم الروابط التي تربط بين آيات سورة البقرة من ناحية، وتساعدنا على فهم كثير من الحقائق التي وردت في تلك السورة، وتفصل لنا بعض ما أجمل في مقدمتها دون أن يخل ذلك بسياقها الخاص، ولا نخال أحدا حتى الآن يتهمنا بأننا نتكلف فيما نقوله، وما سيأتي فى هذا التفسير سيزيد ما اتجهنا إليه في موضوع الوحدة القرآنية وضوحا، فلننتقل إلى الفقرة الثالثة في القسم الثالث. الفقرة الثالثة [سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 78] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

المعنى العام

المعنى العام: في الآية الأولى، يخبر تعالى أن من أهل الكتاب الأمناء، ومنهم الخونة، فالأمين منهم مهما ائتمنته بمال كثير أداه، ومنهم من إن تأمنه بالمال القليل لا يؤده إليك إلا إذا كنت قائما على حقك بالمطالبة والملازمة، والإلحاح لتستخلص حقك، وقادرا على استخلاصه. وسبب خيانة هؤلاء تصورهم أنه ليس عليهم حرج في أكل أموال غير أبناء دينهم؛ إذ يزعمون أن الله أحلها لهم ولو كانت أمانات. وهذا كذب على الله واختلاق، فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها، وإنما هم قوم بهت. - وفي الآية الثانية، بين الله- عزّ وجل- أن دينه وشرعه، الوفاء بالعهود، والتقوى التي منها أداء الأمانة إلى أهلها، وأنه- عزّ وجل- يحب المتقين، ولا تقوى إلا باتباع ما أنزل الله. - وبمناسبة أن دين الله الوفاء بالعهود، وحفظ الأمانة، فإن الآية الثالثة، يبين الله- عزّ وجل- فيها، أن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه، وعن أيمانهم بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، أولئك لا نصيب لهم في الآخرة، ولا حظ لهم منها، ولا يكلمهم الله كلام لطف، ولا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يطهرهم من الذنوب، والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار، ولهم عذاب أليم. - وكما أخبر أن بعض أهل الكتاب خائن، ولا يفي بعهد أو يمين، فإنه يخبر في الآية الرابعة، أن منهم فريقا، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه من كتاب الله، وينسبونه إليه- عزّ وجل- وهو كذب على الله، وهم يعلمون أنهم قد كذبوا، وافتروا في ذلك كله، والآيات تنطبق أول ما تنطبق على اليهود. وهي عامة. المعنى الحرفي: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أي مال كثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ أي بمال قليل كالدينار أو أقل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً على رأسه، ملازما له ذلِكَ أي أن عدم أداء الأمانة سببه بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن تركهم الحقوق بسبب قولهم إنهم لا يتطرق عليهم إثم، وذم، في شأن الذين ليسوا على دينهم، ويفهم من هذا أنهم كانوا يستحلون ظلم

[سورة آل عمران (3): آية 76]

من خالفهم في دينهم وكانوا يقولون: لم يجعل لهم في كتابنا حرمة. ومن قرأ نصوص التلمود، رأى من هذا الكثير. والأميون في النص، يدخل فيهم العرب أولا، وكل من ليس له دين كتابي ثانيا، والنصارى وغيرهم بالنسبة لليهود. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي بادعائهم أن ذلك في كتابهم. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون. أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «كذب أعداء الله ما من شئ كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر». بَلى، هذا إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل فيهم مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى هذه جملة مفسرة للجملة التي سدت بلى مسدها والمعنى، من أوفى بعهد الله واتقاه، أو من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي: فإن الله يحب من أوفى بعهده وترك الغدر، والخيانة. ويدخل في الوفاء، الوفاء بعهود الله، ومنها الوفاء بما عاهد الله عليه أهل الكتاب أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. ويدخل في التقوى، اتقاء المحارم، واتباع طاعة الله، وشريعته التي بعث بها خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أي: إن الذين يستبدلون بما عاهدوا الله عليه، من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم، وبما حلفوا به من قولهم: والله لنؤمنن به، ولننصرنه، متاع الدنيا، من الترأس والارتشاء، ونحو ذلك. أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم فيها. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بما يسرهم. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعين الرحمة. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي: لا يثني عليهم، أو لا يطهرهم من ذنوبهم، بأن يعفو عنهم، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أي لطائفة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ. أي: يفتلونها عن الصحيح إلى المحرف، والمراد باللي هنا التحريف. لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ. أي: لتظنوه من الكتاب. وقد يكون المعنى: يرطنون بألسنتهم بشبه الكتاب، لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب، والمراد بالكتاب هنا التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ. أي: وليس هو من الكتاب. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون.

فوائد

فوائد: 1 - أخرج عبد الرزاق «أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، إنهم إذا أدوا الجزية، لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم». ورواه الثوري كذلك. 2 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله- عزّ وجل- وهو عليه غضبان». قال راوي الحديث: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم. قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ قال: متبرئ من والديه راغب عنهما، ومتبرئ من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم، وتبرأ منهم». وروى البخاري «عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط، ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية. وروى الإمام أحمد والترمذي، بإسناد حسن صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل حلف على سلعة بعد العصر،- يعني كاذبا-، ورجل بايع إماما، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه، لم يف له». وروى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم». قلت يا رسول الله: من هم خسروا وخابوا؟ قال:- وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات- المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان». 3 - مما مر معنا، ندرك أن من أخلاق المسلمين أداء الأمانات إلى أهلها في كل الظروف، والوفاء بالعهد، والصدق في اليمين، ولقد تساهل بعضهم في هذه المعاني بسبب من ظروفنا الصعبة، وبسبب من عموميات فهموها. والذى نقوله:

كلمة في السياق

إن المسلم لا يصدر في كل عمل إلا عن فتوى بصيرة من أهلها، وحالات الضرورة والاضطرار تقدر بقدرها، وما يعتبر أمانة أو غير أمانة، وما يعتبر حقا للمسلم أو غير حق، وما يعتبر إكراها أو غير إكراه، وما هو ملزم من الأيمان وما ليس ملزما بسبب من الإكراه، إلى غير ذلك من أمور، كله تحكمه- كما قلنا- الفتوى البصيرة من أهلها. كلمة في السياق: بدأ هذا القسم بدعوة أهل الكتاب إلى عبادة الله وتوحيده، وترك الطاعة في معصيته، وناقشهم فيما يزعمونه من ولاية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم بين لأهل الإيمان رغبة أهل الكتاب في إضلالهم، وبعض طرائقهم في هذا الإضلال. وفي هذا السياق جاءت الفقرة الثالثة، تبين ما عليه بعض أهل الكتاب من خيانة للأمانة، إلى خيانة في العهود، ونكث للأيمان، وتحريف لكتاب الله- عزّ وجل- وبعد هذه الجولة من الحوار والبيان، يعود السياق في الفقرة الرابعة إلى ما بدأ به القسم من قضية التوحيد والربوبية كما سنرى: لاحظ بداية القسم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ولاحظ أن الفقرة القادمة تبدأ بقوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. .. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. ثم لاحظ صلة ذلك بالقسم الثاني الذي تحدث عن المسيح عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من تحديد بداية القسم الثالث ونهايته، وصحة ما ذهبنا إليه في أن القسم الأول والثاني بمثابة المقدمة للقسم الثالث، وسيأتيك في هذا كله مزيد بيان. ومن استمرارية القسم الثالث من خلال ما رأيناه من صلة بين بدايته والفقرة الرابعة التي ستأتي معنا، ندرك أن ما مر معنا حتى الفقرة الرابعة له صلة بقضايا التوحيد،

الفقرة الرابعة

والطاعة في المعروف، وتثبيت أهل الإيمان، وهي القضايا التي تحدثت عنها الآية الأولى في هذا القسم، والتى ختمت بقوله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ الفقرة الرابعة [سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 83] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) يلاحظ كيف أن هذه الفقرة، تخدم سياق هذا القسم الذي يدعو إلى عدم اتخاذ الناس بعضهم بعضا أربابا، كما تلاحظ الصلة بين التوحيد والإسلام، كما يلاحظ كيف أن الفقرة قررت أن دين النبيين جميعا هو الإسلام، وسنرى أهمية هذه الملاحظات بالنسبة للسياق. المعنى العام: - في الآية الأولى، يبين الله- عزّ وجل- أنه ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب

والحكمة والنبوة، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أو اعبدوني مع الله. فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فهو حتما لا يصلح لغيرهم بطريق الأولى. وإنما يدعو الرسل الناس من أجل أن يكونوا علماء حكماء، حلماء، أتقياء، وذلك مقتضى تعلم الكتاب، وتعليمه. وفي الآية الثانية، يبين الله- عزّ وجل- أنه: كما لا ينبغي للأنبياء والرسل أن يدعوا الناس لعبادتهم، كذلك ما ينبغي لهم أن يأمروا أحدا بعبادة غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، لأنه لو فعل النبي هذا لكان داعيا للكفر، والأنبياء دعاة إلى الإيمان. ومن هاتين الآيتين، نفهم ارتباط هذه الآيات بالسياق، إذ بداية هذا السياق، كما قلنا: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً ... وفي الآية الثالثة، يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، أنه مهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول لله من بعده ليؤمنن به، ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده، ونصرته. فإذا ربطنا هذا بالسياق العام، وتذكرنا الآيتين اللتين جاءتا من قبل وهما قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ثم تذكرنا ما ورد في القسم الثاني في شأن المسيح عليه السلام. ندرك صلة هذا القسم بالقسم الأول وبالقسم الثاني. - وفي الآية الرابعة، يبين الله- عزّ وجل- أنه من تولى من الرسل- وحاشاهم- عن هذا العهد والميثاق- فإنه هو الفاسق. فإذا كان المرسلون هذا شأنهم إن تولوا فما بال غيرهم ممن لا يتبعون الرسول الخاتم. - وفي الآية الخامسة، يبين الله- عزّ وجل- أنه ما كان للرسل إلا أن يكونوا كذلك، لأن مقتضى الإسلام الاستسلام. فإذا كانت السموات والأرض مستسلمة، فما كان لأحد ألا يكون مسلما. والرسل سادة المسلمين، وهم أعرف الناس بالله، وأخوفهم منه، لأنهم عارفون أنهم إليه راجعون.

المعنى الحرفي

وإذا تذكرنا أن المقطع الثاني من القسم الأول مبدوء بقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ندرك كيف أن السياق في سورة آل عمران يمضي على نسق واحد. المعنى الحرفي: ما كانَ لِبَشَرٍ أي ما ينبغي لبشر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ. تحتمل كلمة (الحكم) ثلاثة معان: إما فصل القضاء، وإما الحكمة، وإما السنة المفسرة للكتاب. وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الحسن البصري: لا ينبغي لمؤمن أن يأمر الناس بعبادة غير الله. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ الرباني: منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون، وهو الشديد التمسك بدين الله، وطاعته، فصار المعنى: ولكن يقول- من آتاه الله النبوة للناس-: كونوا متمسكين بدين الله، وطاعته، وهذا يقتضي علما، وفقها، وحلما. ولذلك فسر ابن عباس الربانيين بأنهم: العلماء الحكماء الحلماء. وفسرها الحسن: بأهل العبادة، والتقوى. والجميع تقتضيه النسبة بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. أي: كونوا ربانيين بسبب كونكم معلمين دارسين، دل النص على أن الربانية التي هي: قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والتعليم، وكفى به دليلا على خيبة سعي من أجهد نفسه، وكد روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أي: أمن المعقول أن يدعوكم إلى الكفر، بأن يدعوكم إلى عبادة أحد مع الله، بعد إذ تستجيبون له بالإسلام لله رب العالمين. فوائد: 1 - سبب نزول الآيتين، ما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: «قال أبو رافع القرظي، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني- يقال له الرئيس-: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني. فأنزل الله في ذلك: ما كانَ

[سورة آل عمران (3): آية 81]

لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي. .. إلى قوله ... أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. 2 - فسر الرسول صلى الله عليه وسلم اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله: بأنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم كما سنرى في سورة براءة. فكل من تابع إنسانا أو حزبا في تحريم حلال أو تحليل حرام فقد اتخذه ربا 3 - دل قوله بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أن العلم والتعليم صفتان رئيسيتان من صفات الرباني، فلا بد إذن ليكون الإنسان ربانيا، أن يكون شديد التمسك بدين الله وشرعه، وطاعة ربه، وأن يجتمع له مع ذلك تعليمه الكتاب وتعلمه. ودل قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ أن الشئ الرئيسي الذي يعلمه الربانيون هو الكتاب. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أي أخذ العهد عليهم لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ يحتمل معنيين الأول: لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول لتؤمنن به، ولتنصرنه. والثاني: أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول، ولتنصرنه لأجل أني آتيتكم الكتاب والحكمة، أي لأجل إيتائي إياكم الكتاب والحكمة، عليكم أن تؤمنوا بالرسول وتنصروه. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي الإصر: العهد الثقيل لأنه مما يؤصر، أي يشد ويعقد فصار المعنى: أأقررتم بذلك وقبلتم عهدي الثقيل على ذلك؟ دل ذلك على أن موضوع المتابعة بالحق والخير أمر شاق لا يستطيعه إلا من زكى الله نفسه. قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ على ذلك من إقراركم وتشاهدكم، وهذا توكيد عليهم، وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أي بعد هذا الميثاق فنقض العهد بعد قبوله، وأعرض عن الإيمان بالنبي الجديد. فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون الكفرة. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ أي لو أنهم لم يبايعوا من أرسل الله إليهم من الرسل الذين أخذ العهد عليهم بمتابعتهم، فإنهم في هذه الحالة لا يكونون على دين الله، ولا يكونون مسلمين مع أنه، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة، وَالْأَرْضِ من الإنس والجن وغيرهما. طَوْعاً وَكَرْهاً فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت

فوائد

التسخير والقهر والسلطان العظيم، الذي لا يخالف ولا يمانع وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ. أي: يوم المعاد فيجازي كلا بعمله. فوائد: 1 - قال علي بن أبي طالب وابن عباس: «ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه». 2 - روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن ثابت قال: «جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي يهودي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت: قلت ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، قال: فسري عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين». 3 - روى أبو يعلى والبزار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني». قال ابن كثير: وفي بعض الأحاديث: «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي». كلمة في السياق: 1 - في القسم السابق على هذا القسم، يقرر الله بشرية المسيح عليه السلام، ثم يأتي هذا القسم، فيأمر الله رسوله أن يدعو أهل الكتاب إلى التوحيد، ونبذ ربوبية البشر، وفي حالة توليهم أن نشهد أننا مسلمون، وجاءت بعد ذلك فقرة، تقيم الحجة عليهم من خلال مناقشتهم في دين إبراهيم، وأننا نحن على دينه، وفقرة حول رغبات أهل الكتاب في إضلالنا، وتخطيطهم لذلك وأسبابه، وتواصيهم بالباطل فيما بينهم، والرد عليهم في هذه الاتجاهات التى تنافي التوحيد. ثم تأتي فقرة تبين بعضا من أخلاقهم التي تتنافى مع دين الله، مما يدلل على عدم توحيدهم الله في الألوهية والربوبية، ثم تأتي

الفقرة التي مرت معنا أخيرا لتبين: أن دعوة الرسل إنما هي التوحيد، وهذا ينافي اتخاذهم المسيح ربا. وتبين أن دعوة الرسول السابق، تكملها رسالة الرسول اللاحق، وعلى السابق أن يتابع اللاحق وأن هذا هو الإسلام. 2 - بعد أن عرفنا من السياق ماهية الإسلام، تأتي الفقرة الخامسة آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن إيمانه بالله، وبرسله، وبكل وحي، وأن يعلن إسلامه لله، ثم يمضي السياق كما سنرى، ليبين أن الله- عزّ وجل- لا يقبل إلا الإسلام دينا، فلنتذكر على ضوء ذلك ما مر معنا من قبل: في القسم الأول من سورة آل عمران أن الدين عند الله هو الإسلام. وإذا كان بعض أهل الكتاب يتمسكون بمعان باطلة فى شأن المسيح عليه الصلاة والسلام، تصرفهم عن الدخول في الإسلام فقد جاء القسم الثاني مبينا حقيقة شأن المسيح عليه السلام، ثم جاء القسم الثالث ليفتح حوارا شاملا مع أهل الكتاب ليدخلوا فى الإسلام، ومن ثم قلنا إن القسم الأول، والقسم الثاني جاءا بمثابة مدخلين للقسم الثالث. 3 - قلنا: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتداداتها في السورة، وقد رأينا أنه قد ورد في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ورأينا في سورة البقرة قوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ .... ونلاحظ أن الفقرة الخامسة من القسم الثالث، مبدوءة بقوله تعالى قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ... فإذا رفض بنو إسرائيل الأمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يقيمونه. وهكذا تمضي السورة في سياقها الخاص مفصلة لمحورها في سورة البقرة.

"الفقرة الخامسة"

«الفقرة الخامسة» [سورة آل عمران (3): الآيات 84 الى 91] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) ملاحظة حول السياق: لاحظنا أن سورة آل عمران، تقابل مقدمة سورة البقرة، ولاحظنا أن الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة تصف المتقين، ثم تأتي آيتان في وصف الكافرين. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.

المعنى العام للآيات

ونلاحظ في سورة آل عمران، أنه كثيرا ما يعقب بعض الآيات آيات مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا .. أو إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ .. وفي نهاية هذه الفقرة نلاحظ ورود آيتين مبدوءتين بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا .... وفي القسم الأول من سورة آل عمران الذي يقابل في سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ورد في المقطع الأول منه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وورد في المقطع الثاني منه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ .... ثم لا نجد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا .. ترد إلا فى نهاية هذه الآيات التي ذكرناها، فإنها ترد مرتين فلنتذكر الآن ما يلي: إن هذا القسم الذي بين أيدينا، يقابل في مقدمة سورة البقرة الآية وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإذ تتحدث آيات هذا القسم عن الإيمان فلا عجب أن يرد حديث عما يقابله. المعنى العام للآيات: في الآية الأولى، يأمر الله- عزّ وجل- أفراد هذه الأمة بالأمر لرسولها، أن يؤمنوا بالله وبكل وحي أنزل، وبكل كتاب أنزل، وبكل نبي أرسل. فالمؤمنون من هذه الأمة يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله، لا يفرقون بين أحد منهم وهم في هذا كله مسلمون لله. - وفي الآية الثانية، يبين تعالى أنه لا يقبل إلا الإسلام دينا. هذا الإسلام الذي مظهره ما مر في الآيات السابقة. فمن سلك طريقا سوى ما شرعه الله تعالى فلن يقبل منه، وهو من الذين وقعوا في الخسران يوم القيامة. - وبعد أن أمر الله أفراد هذه الأمة بالإيمان والإسلام، هدد من يرتد منهم بعد إيمانه ومعرفته الحجج والبراهين. إن هؤلاء على مقتضى العدل لا يستحقون هداية الله بعد ما تلبسوا به من العمى. وبين أن جزاء هؤلاء اللعنة من الله والملائكة والناس. وأنهم خالدون في هذه

المعنى الحرفي

اللعنة، وأن العذاب لا يفتر عنهم ساعة واحدة، ثم فتح لهؤلاء باب الأمل على مقتضى الفضل بأنهم إذا تابوا بعد ردتهم وأصلحوا، فإن رحمة الله وغفرانه يصلان إليهم. ذكرت هذه المعاني في الآيات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. وفي الآية السابعة، أكد الله تهديده ووعيده لمن كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا واستمر عليه إلى الممات. أن هؤلاء لن تقبل توبتهم عند الممات. ثم وصفهم بأنهم الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي. وفي الآية الثامنة: عمم الله عزّ وجل مبينا استحقاق العذاب لكل كافر مات على الكفر، وأنه لا ينقذه من عذاب الله شئ، ولو كان قد أنفق ثقل الأرض ذهبا، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا، وليس لأحد منهم نصير ينقذهم من عذاب الله، ولا يجيرهم من أليم عقابه، وسنرى المذاهب في أنواع من الناس ماتوا على الكفر ولم تبلغهم دعوة الله عزّ وجل. المعنى الحرفي: قُلْ آمَنَّا هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان بما سيأتي في الآية، ولذا وحد الضمير في قل، وجمع في آمنا. وهو أمر لكل فرد من أمته. وقد خوطبت الأمة كلها بمثل هذا في سورة البقرة بلفظ الجمع قولوا. بِاللَّهِ بوجوده وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، وربوبيته، وألوهيته. وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا: يعني القرآن والسنة. وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي من الصحف والوحي وَالْأَسْباطِ أي أولاد يعقوب، وذرياتهم من الأنبياء وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل. وَالنَّبِيُّونَ جملة. مِنْ رَبِّهِمْ أي آمنا بما أنزل عليهم من عند ربهم. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى وغيرهم، بل نؤمن بجميعهم. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي ونحن لله موحدون مستسلمون، مخلصون له أنفسنا، لا نجعل له شريكا في عبادتنا وعبوديتنا، فهو إلهنا وربنا. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً أي: ومن يطلب دينا سوى الإسلام، المتمثل بإسلام الوجه لله، وبالتسليم له ولشرعه الذي بعث به رسله. والذي كانت صيغته الأخيرة ما أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ذلك. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم، وأعمالهم. ولعل هذه الآية، أوضح دليل على ما ذهبنا إليه في أن هذا القسم، يفصل في قوله تعالى. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من مقدمة سورة البقرة.

فائدة

فائدة: روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تجئ الأعمال يوم القيامة، فتجئ الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة فيقول: إنك على خير، وتجئ الصدقة. فتقول: يا رب أنا الصدقة فيقول: إنك على خير، ثم يجئ الصيام فيقول: يا رب أنا الصيام فيقول: إنك على خير. ثم تجئ الأعمال، كل ذلك يقول الله تعالى: إنك على خير، ثم يجئ الإسلام فيقول يا رب: أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى: إنك على خير، بك اليوم أمنع وبك أعطي». كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ أي لا يهدي الله. قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أي: ارتدوا بعد دخولهم في الإسلام أو بعد أن كانوا مؤمنين. وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وشهدوا أن محمدا رسول الله حق. وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي: قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به رسول الله من الله ومن ذلك القرآن وسائر المعجزات. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: من شأن الله وجلاله أنه لا يهدي الظالمين المصرين على البقاء على طريق الكفر. أُولئِكَ أي الذين ارتدوا بعد إيمانهم، جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يفتر عنهم. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخرون عن العذاب ساعة واحدة. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد الكفر والارتداد وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكفرهم. رَحِيمٌ بهم. فائدة في سبب النزول: نزلت هذه الآيات في رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد، ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فنزلت فأرسل إليه فأسلم. رواه النسائي والحاكم وابن حبان. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أي ارتدوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بأن أصروا على الكفر، واستمروا عليه وطغوا وبغوا. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أي: إيمانهم عند الموت وهو إيمان اليأس. وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ أي: الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي.

فائدة في سبب النزول

فائدة في سبب النزول: ذكر البزار بإسناد جيد عن ابن عباس أن قوما أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي وماتوا كافرين. فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أي لن يقبل منهم فدية. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي معينين يرفعون عنهم العذاب. فائدة: روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شئ أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خير منزل فيقول: سل وتمن، فيقول ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات، لما يرى من فضل الشهادة. ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شر منزل، فيقول له: أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول: أي رب نعم فيقول: كذبت، وقد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار». كلمة في السياق: 1 - أثناء الكلام عن سياق سورة البقرة، قلنا: إن الحوار مع بني إسرائيل ينتهي بآية البر مرورا بمقطع إبراهيم عليه السلام، ومقطع القبلة، ومقطع الصبر والصلاة والتوحيد، ثم بالمقطع الثاني من القسم الثاني من سورة البقرة، وهو المقطع الذي نهايته آية البر، ونلاحظ هنا أن الفقرة التي ستأتي وهي الفقرة الأخيرة في هذا القسم من سورة آل عمران، والتي سيغلق في نهايتها الحوار مع بني إسرائيل، تبدأ بالكلام عن البر، وتثني بالكلام عما أحله الله لبني إسرائيل، وتثلث بالكلام عن البيت، ثم تنتهي

بآيتين كل منهما مبدوءة بقوله تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ* وهي نفس البداية التي بدئت بها الآية الأولى من هذا القسم. 2 - قلنا أثناء الكلام عن سورة البقرة: إن آية البر لخصت كل ماله علاقة في التقوى مما سبق الحديث عنه، لتكون جسرا للكلام عن معان جديدة في التقوى، ثم جاء بعدها أمور منها الحج، ونلاحظ هنا أن آيات الحج تأتي في الفقرة المبدوءة بالكلام عن البر، وهكذا يدلنا السياق الخاص لسورة آل عمران على الروابط التي تربط بين آيات سورة البقرة. 3 - إنه كامتداد لقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ جاء الحوار في سورة البقرة مع بني إسرائيل، وكان من شبه بني إسرائيل قضية النسخ، وقضية القبلة، ويأتي في هذه الفقرة هنا ما يدل على أن النسخ كان موجودا من قبل، وأن البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام هو الأول. وهكذا نرى كيف أن سورة آل عمران تفصل من خلال سياقها الخاص فى مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معاني هذه المقدمة في سورة البقرة، وبالنسبة للسياق الخاص لسورة آل عمران نقول بين يدي الفقرة السادسة والأخيرة من القسم الثالث: 4 - إنه بعد الأمر بالإيمان، وتهديد من يرتد، وتبيان جزاء من يموت على الكفر تأتي فقرة فيها حض على الإنفاق، وارتباط الإنفاق بالإيمان واضح، وفيها حديث عن الحج وفرضيته، والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فالصلة بينه وبين الإنفاق واضحة، ويأتي بين الكلام عن الإنفاق والكلام عن الحج حديث حول ما أحل الله لبني إسرائيل في الأصل، من قبل أن يحرم يعقوب- عليه السلام- على نفسه ما حرم، وتلك هي شريعة إبراهيم عليه السلام التي جاءت هذه الشريعة موافقة لها مما يؤكد أننا أولى بإبراهيم عليه السلام.

"الفقرة السادسة والأخيرة من القسم الثالث"

«الفقرة السادسة والأخيرة من القسم الثالث» [سورة آل عمران (3): الآيات 92 الى 99] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

المعنى العام

المعنى العام: في الآية الأولى: بيان أن تحصيل حقيقة البر بأن يكون الإنسان برا لا يكون إلا بالإنفاق مما يحبه الإنسان ويؤثره، طعاما أو غيره، ثم بين الله- عزّ وجل- أن أي نفقة ننفقها فإن الله يعلم ذلك ويجازينا عليها. فالربانية وكمال العبودية في تحقق الإنسان بالبر، وهذا لا يكون إلا بالإنفاق مما يحبه الإنسان. وإذا كان مظهرا من مظاهر اتخاذ غير الله ربا تحريم الحلال وتحليل الحرام، فقد ذكر الله في هذا السياق موضوعا متعلقا بالحل والحرمة في أهم قضية يكون فيها التحليل والتحريم، قضية الطعام. فقد بين الله- عزّ وجل- أن الطعام كله كان حلالا لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من لحوم الإبل وألبانها، ثم نزلت التوراة فحرمت ما حرمت. وفي ذلك إشارة إلى موضوع النسخ الذي تنكره اليهود، وهو واقع في شريعتهم وعندهم، ثم تحداهم الله- عزّ وجل- أن يأتوا بالتوراة ليثبتوا خلاف ما يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، ثم بين الله- عزّ وجل- أنه من كذب على الله فإنه هو الظالم، وأي ظلم أكبر من الكذب على الله- عزّ وجل-. وفي الآية الرابعة يأمر الله- عزّ وجل- رسوله أن يقول: صدق الله فيما أخبر به، وفيما شرعه في القرآن، وبناء عليه فاتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق لا شك فيه، ولا مرية. وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها، ولا أبين ولا أوضح. ثم بين أن إبراهيم لم يكن من المشركين. وفي ذكر هذا هنا دليل على ارتباط هذه الآيات في أول القسم حيث ذكر إبراهيم. وإذ ذكر إبراهيم في هذا القسم كثيرا، وذكرت ملته، والحج إلى مكة مرتبط بإبراهيم وملته، يخبر تعالى أن أول بيت وضع لعموم الناس لعبادتهم، ونسكهم، يطوفون به، ويصلون إليه، ويعتكفون عنده، هو الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام، والذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه بأمر من الله، ودعا الناس إلى حجه، وقد جعله الله مباركا وهداية للعالمين. هذا البيت الذي فيه علامات واضحات، لا تلتبس على أحد أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمة وشرفه، من هذه الآيات مقام إبراهيم الذي قام عليه يوم بنى الكعبة، وهو حجر

المعنى الحرفي

عليه آثار قدميه. ومن هذه الآيات أمن الخائف إذا دخله من كل سوء، هذا البيت فرض الله- عزّ وجل- حجه على المستطيع من الناس. ومن يجحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. ثم يختم هذا القسم الذي يمكن أن يكون عنوانه الدعوة إلى ربوبية الله وتوحيده بآيتين كل منهما مبدوءة ب قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ... * كما بدأ القسم كله. وفي الآيتين تعنيف من الله تعالى لمن لم يدخل في الإسلام من أهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله، وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان، باذلين جهدهم وطاقتهم في ذلك، مع علمهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق من الله، ومع ما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين، والسادة المرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين، مما بشروا به، ونوهوا من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم، وخاتم الأنبياء والمرسلين، ورسول رب الأرض والسماء، وقد توعدهم الله على ذلك وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد. فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون. وسيجزيهم على ذلك. المعنى الحرفي: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تبلغوا حقيقة البر، أو لن تكونوا أبرارا أو لن تنالوا بر الله وهو: ثوابه وجنته، حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها. قال الحسن: «كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية» ولا وصول إلى المطلوب إلا بإنفاق المحبوب. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ طيب أو غير طيب، فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد، والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك: كان أبو طلحة أكثر الأنصار في المدينة مالا. وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت

[سورة آل عمران (3): آية 93]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى؛ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت، وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين». فقال أبو طلحة: «أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه». 2 - وفي الصحيحين: أن عمر قال: يا رسول الله، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: «احبس الأصل، وسبل الثمرة» وهذا أصل في الوقف. 3 - وروى البزار: «قال عبد الله- أي ابن عمر- حضرتني هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد أحب إلي شيئا من جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله فلو أني أعود في شئ جعلته لله لنكحتها» يعني تزوجتها. كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي كل المطعومات التي فيها النزاع- فإن من الأطعمة ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم- كانت حلالا لبني إسرائيل. إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ والذي حرم إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، وكانا أحب الطعام إليه. فالمطاعم كلها كانت لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه. فلما نزلت التوراة على موسى، حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها، لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. لأن التوراة ناطقة بهذا. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم، ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه. وفيه دليل على جواز النسخ إذ حرم على بني إسرائيل فيما بعد أشياء أخرى، فلو لم يجز النسخ كما يدعي اليهود، لم يكن هذا. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بزعمه أن ذلك كان محرما في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قامت الحجة القاطعة. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي المكابرون الذين لا ينصفون من

[سورة آل عمران (3): آية 95]

أنفسهم، ولا يلتفتون إلى البينات. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في إخباره، وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل، وأنتم الكاذبون. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. أي: مائلا عن الأديان الباطلة. أي إذ ثبت أن الله صادق فيما أخبر به بهذا القرآن، فاتبعوا ملة إبراهيم التي هي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام، ومن آمن معه حتى تتخلصوا من انحرافاتكم، وتعذيب أنفسكم. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي كونوا موحدين مثله. وهذا دليل على أن هذه الآيات مرتبطة بسياق بداية القسم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. قال: «سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم فعرفتموه لتتابعني على الإسلام» قالوا: فذلك لك، قالوا: أخبرنا عن أربع خلال. أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟، وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم، ومن وليه من الملائكة؟. فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه فقال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟» فقالوا: اللهم نعم. فقال: اللهم اشهد عليهم. وقال: «أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيتهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد عليهم، قال: وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم قال: اللهم اشهد عليهم، قال: وإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه قالوا: فعند ذلك نفارقك، ولو كان وليك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال الله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... الآية.

[سورة آل عمران (3): آية 96]

أقول: إن لي في فهم علو ماء الرجل على ماء المرأة أو العكس اتجاها- الله أعلم بصحته-: هو أن المراد بالعلو هنا الغلبة فإذا كان للحيوان المنوي غلبة على بويضة الأنثى حدث الإذكار، وإذا كانت لبويضة الأنثى غلبة على الحيوان حدث التأنيث والأمر غيب وهذا فهم. 2 - ذكر ابن كثير مناسبتين لذكر آية كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ مع ما قبلها. المناسبة الأولى: كون إسرائيل قد حرم على نفسه أحب الطعام فلذلك مناسبة مع قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ... المناسبة الثانية: أن الآية لها صلة بالنسخ، وهو جزء مما ناقش الله به بني إسرائيل، إذ إن بني إسرائيل ادعوا عدم جواز النسخ، وقد ذكر ابن كثير مجموعة مما حدث فيه النسخ مما هو ثابت في التوراة، وقد أشرنا إلى هذا الموضوع في أكثر من مكان. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي إن أول بيت وضعه الله متعبدا للناس، لَلَّذِي بِبَكَّةَ أي للبيت الذي ببكة، وهو الكعبة، وبكة من أسماء مكة. مُبارَكاً أي: كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات. وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم وبالقيام بحقه يهتدون، وبمزاولة ما أمرهم الله به من شأنه، يرزقهم الله الهداية. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أي: علامات واضحات لا تلتبس على أحد أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه. مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء الكعبة، فظهرت فيه آثار قدميه، فهو آية بمنزلة آيات كثيرة لاشتماله على آيات كثيرة لظهور شأنه، وقوة دلالته على قدرة الله تعالى، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد، فتأثير القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هذه هي الآية الثانية التي تتضمن آيات أي وأمن داخله، وما أكثر من حصل الأمن به، حتى يوم لا يكون أمن كأيام العرب في الجاهلية، وفي ذلك آيات، وهذا الأمن آية كذلك لإبراهيم إذ إنه كان ببركة دعائه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً (سورة إبراهيم). وهناك اتجاه آخر في تفسير قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو أن مقام إبراهيم هو الحرم كله، وفي الحرم آيات أخرى سوى الحجر منها إهلاك جيش أبرهة الذي قصده بسوء. ذكر هذا الاتجاه وضرب هذه الأمثلة كثيرون من المفسرين منهم الألوسي فيكون المعنى «مقام

فوائد

إبراهيم فيه آيات بينات» والله أعلم. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي: وقد استقر لله على الناس فرض الحج إلى بيته مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي: على المستطيع لهذا الحج، أو على المستطيع الوصول إلى هذا البيت، وذلك يكون بقدرة على الزاد والراحلة فاضلتين عن حاجة أهله، ومن تجب عليه نفقته. فصار المعنى إن الله فرض الحج على من ملك الزاد والراحلة الموصلتين إلى هذا البيت. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ: يحتمل شيئين، الأول: ومن جحد فرضية الحج فإن الله غني عنه، وعن غيره. والثاني: ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم، وسعة الرزق، ولم يحج، فإن الله غني عنه وعن العالمين جميعا. فوائد: 1 - أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ... قال: كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. أقول وقد ذكر ابن كثير ضعف الحديث الذي فيه: أن أول من بنى البيت آدم وحواء. 2 - وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد» وأخرجه البخاري ومسلم. دل هذا الحديث على أن المسجد الأقصى كان قبل سليمان بكثير فسليمان جدد بناءه. 3 - أشهر الأقوال أن بكة: هي مكة، وسميت كذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، أو لأن الناس يتباكون فيها أي: يزدحمون. قال قتادة: إن الله بك به الناس جميعا، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها. وذهب بعضهم إلى أن البيت والمسجد وما كان في هذه الدائرة فهو بكة، وما وراء ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة منها مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأم رحم، وأم القرى، وصلاح، والعرش، والقادس، والمقدسة، والناسة، والباسة، والحاطمة، والرأس، وكوثاء، والبلدة، والبنية، والكعبة. 4 - مر معنا في تفسير سورة البقرة، أن الحجر الذي فيه موطئ قدم إبراهيم كان

ملتصقا بجدار البيت، حتى أخره عمر رضي الله تعالى عنه في إمارته إلى ناحية المشرق لمصلحة الطواف، ومن أجل ألا يشوش الطائفون على المصلين عنده بعد الطواف. لأن الله تعالى أمرنا بالصلاة عنده. 5 - من مظاهر الأمن في البيت في الجاهلية ما قاله الحسن البصري وغيره: «كان الرجل يقتل، فيضع في عنقه صوفة فيدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج» ومن مظاهر الأمن في الإسلام حرمة اصطياد صيدها، وتنفيره عن أوكاره وحرمه قطع شجرها، وقلع حشيشها، إلا الإذخر للضرورة إليه. ومن مظاهر ذلك في الإسلام ما قاله النسفي وهو من الحنفية: ومن لزمه القتل في الحل (أي غير الحرم) بقود، أو ردة، أو زنى، فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. قال عمر: لو ظفرت به بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وقال ابن عباس: «من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم. فإذا خرج أخذ بذنبه» وهذا كله فيمن ارتكب جريمة خارج الحرم ثم أوى إليه، وأما من ارتكب جريمة داخل الحرم فالإجماع منعقد على أنه يؤخذ بها، ومن مظاهر أمن البيت في الإسلام ما رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة» وقد مر معنا شئ من هذا في سورة البقرة. 6 - روى الترمذي بسند حسن صحيح والإمام أحمد والنسائي عن عبد الله بن عدي ابن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة بسوق مكة يقول: «إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». 7 - قال ابن كثير وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا هذه آية وجوب الحج عند الجمهور ... وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام، ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. 8 - روى مسلم عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولن تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع».

[سورة آل عمران (3): آية 98]

9 - روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: الشعث التفل، فقام فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: العج (¬1) والثج، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة» وورد تفسير السبيل بأنه الزاد والراحلة في أكثر من حديث، وأكثر من طريق. 10 - روى سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قالت اليهود: فنحن مسلمون، قال الله- عزّ وجل- فأخصمهم فحجهم يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا» فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا. قال تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ اهـ. وبمثل هذا يرد على من ادعى الإسلام، وفاته الإذعان، أو رافق ادعاءه كفر وفجور. 11 - في إسناد صحيح عن عمر قال: «من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا» وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: «قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: «لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظر إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين» وكلام عمر يحمل على من جحد، أو تحمل الجزية على العقوبة التعزيرية، ونفي الإسلام من باب المبالغة في الإنكار. 12 - في قوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ بعد ذكر فريضة الحج تأكيد وتشديد على ترك الحج. فالله غني عن العالمين بمعنى: مستغن عنهم وعن طاعتهم. ذكر هذا بعد قوله وَمَنْ كَفَرَ مكان: ومن لم يحج تغليظا على تاركي الحج. وقال: غني عن العالمين، ولم يقل (عنه) لما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه، وعمم ليدل على الاستغناء الكامل. وفي ذلك زيادة إبراز لعظيم السخط الذي يستحقه من ترك الحج. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله والآيات الظاهرة على يدي رسوله مما يشهد بصدقه. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ أي: والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها أفلا تستحيون، أفلا تخافون، أفلا تحذرون؟! قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الصد: المنع، وسبيل الله: دينه الحق، وطريقه التي أمر بسلوكها: وهو الإسلام، أي لم تمنعون الناس عن ¬

_ (¬1) العج الإكثار من التلبية والثج الإكثار من إراقة الدم أي الذبح.

كلمة فى السياق

الإسلام؟! ومن عرف الجهد الذي بذلته وتبذله في زماننا- الدول والمؤسسات الكافرة للحيلولة دون هذا الإسلام، وانتشاره، وتطبيقه، وانتصار دعاته. عرف مقدار صد أهل الكتاب عن سبيل الله، وأخذ صورة عن الصد الذي أنكره الله عليهم مَنْ آمَنَ أي: لم تصدون عن سبيل الله المؤمنين باستعمالكم كل طرق الصد، مما رأينا نماذجه في هذا القسم. ومما نرى نماذجه في عصرنا من تخطيط، وإغراء، وتعذيب بأيديهم، وأيدي أذنابهم. تَبْغُونَها عِوَجاً أي: تريدونها معوجة، وليس أبلغ في التعريف على إرادتهم من هذا التعبير. ولا يفسر هذا التعبير شئ كما يفسره الواقع في عصرنا، إذ يخطط اليهود والنصارى من أجل حصر الإسلام في إطار الروحانيات، والعبادات، إذا لم يستطيعوا إنهاءه من قلوب أبنائه بالكلية. ويبذلون الغالي والرخيص، من أجل أن يحولوا دون قيام الإسلام كاملا، فهم يريدون سبيل الله معوجة، غير مستقيمة منحرفة، فيها إسلام وفيها جاهلية. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أي: والحال أنكم شهداء على أن محمدا رسول الله، بما تعرفونه في التوراة والإنجيل من صفته، والحال أنكم شهداء على أن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو سبيل الله، فالمفروض أن تؤدوا الشهادة القولية والفعلية لسبيل الله، فكيف تستبدلون هذا بالصد عن سبيل الله، وترغبون بالطرق المعوجة! وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. من الصد عن سبيله لتحقيق رغباتكم الفاسدة وهذا وعيد شديد لهم. وبهذا ينتهي هذا القسم من سورة آل عمران. كلمة فى السياق: قلنا: إن القسم الأول والثاني جاءا تمهيدا للقسم الثالث، فلنلاحظ بعض ما يدل على ذلك: في القسم الأول: جاء قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. وجاء قوله تعالى وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا. وفي هذا القسم جاء أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. وفي القسم الثاني: جاءت قصة عيسى، وفيها إشارة إلى الغلو فيه، وفي هذا القسم

جاء قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ... وجاء قوله تعالى ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ .... وكما أن المعاني تسلسلت في الأقسام الثلاثة، وترابطت. فإن لكل قسم صلاته، وترابطه فيما بينه. وسنرى كيف أن القسمين الأخيرين في سورة آل عمران مبنيان على الأقسام السابقة، حتى لتكاد أن تكون الأقسام الثلاثة الأولى تمهيدا للقسمين الأخيرين. تحدث القسم الأول فيما تحدث فيه عن: إنزال الكتب، والموقف الصحيح من القرآن، وعن كفر الكافرين بالكتاب، وعن مظهر من مظاهر انحراف أهل الكتاب، وعن تزيين شهوات الدنيا، وما أعده الله للمتقين في الآخرة، ومن هم أهل ذلك، ثم أخبرنا الله عزّ وجل أن الدين عنده هو الإسلام، وعلمنا كيف ينبغي أن نقف من غير المسلمين وعرفنا، على ما أعده للكافرين من عذاب، ودلنا على بعض ما يقتضيه أننا مسلمون. وفي القسم الثاني: ذكر الله- عزّ وجل- لنا نماذج على اصطفائه، ودلنا على غلو من غلا في بعض أهل الاصطفاء؛ بإعطاء أهله ما لم يأذن به الله. ثم جاء القسم الثالث: وفيه دعوة لأهل الكتاب إلى محض العبودية لله وتوحيده، وعدم الشرك به، ومناقشة مواقفهم وأقوالهم، وبناء على هذه الأقسام كلها يأتي القسم الرابع، والقسم الخامس، وكل منهما يبدأ بالتحذير من الطاعة للكافرين، الأول يبدأ بالتحذير من طاعة أهل الكتاب، والثاني يبدأ بالتحذير من طاعة الكافرين مطلقا. كنا ذكرنا أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، أي: في العشرين آية الأولى منها، وإذ كانت سورة البقرة في كثير من آياتها تلقي أضواء على مقدمتها، فإن كثيرا من آيات سورة آل عمران تكاد تكون تفصيلا لآيات مشابهة في سورة البقرة. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وهاهنا نحب أن نقدم زيادة بيان: في المقطع الثاني من القسم الثالث من سورة البقرة. نرى آية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. مَنْ ذَا الَّذِي .... ونرى قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ

ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ونرى قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وقوله تعالى: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ونلاحظ أن القسم الأول من سورة آل عمران فيه ملامح من هذا كله: ففيه الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وفيه فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .... وفيه قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ .... وفيه إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وفيه قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. ونلاحظ أنه فى المقطع الأول من القسم الثالث من سورة البقرة قد جاء: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ..... فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. ومن قبل في القسم الأول من سورة البقرة جاء قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. والملاحظ أن القسم الثاني من سورة آل عمران بدأ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ. فالصلة واضحة. وفي القسم الأول من سورة البقرة، جاء المقطع الثالث، مقطع بني إسرائيل ومن بعده مقطع إبراهيم، ثم مقطع القبلة، ثم ...... وفي ذلك معان جاء يفصلها أو يعرضها عرضا جديدا القسم الثالث في سورة آل عمران: فمثلا قوله تعالى في سورة البقرة: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .... وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا ... يفصله في آل عمران: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ .... وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ. وفي البقرة يرد قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ

إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ. ونجد في سورة آل عمران: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ... وفي سورة البقرة نجد قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ .... ونجد في سورة آل عمران وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. وفي سورة البقرة نجد ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ..... وفي سورة آل عمران يرد وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ .... وفي سورة البقرة نجد بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ... ويرد في سورة آل عمران أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً. وفي سورة البقرة نجد وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ. ويرد في سورة آل عمران إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً .... وفي سورة البقرة نجد وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ... قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وفى سورة آل عمران يرد: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وفي سورة البقرة تأتي آية البر وفيها وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ. ويرد في سورة آل عمران قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. فسورة آل عمران لها سياقها الخاص بها. وهذا السياق له ترتيبه الخاص وهي في الوقت نفسه تفصل في محورها من سورة البقرة، وهو مقدمة سورة البقرة. وامتدادات هذه المقدمة. مما له صلة مباشرة بمقدمة سورة البقرة. وسنرى في

القسمين الأخيرين من سورة آل عمران مزيد بيان. فمثلا سنرى في القسم الرابع قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وهي تفصيل لقوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. ولكن هذا التفصيل يسير على نسق لم يعهده أحد من قبل ولا من بعد، ولا يستطيعه أحد من قبل ولا من بعد: إنه كتاب فريد عجيب «لا تنقضي عجائبه». وأخيرا لاحظ ما يلي مر معنا المقطع الأول من القسم الثاني من سورة البقرة، وهو مقطع مبدوء بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ومختوم بآية البر لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ ... ثم جاءت تتمة القسم، وكان من جملة ما فيه الأمر بإتمام الحج. وفي القسم الذي مر معنا من سورة آل عمران نجد فى أواخره آية في البر: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. ثم آية في الطعام: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ .... ثم آيتان هما تتمة لمعاني هذه الآية، ثم كلام عن الكعبة والحج. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً .... فإذا ما اتضح أن هناك صلة بين القسم الذي مر معنا وبين مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها أصبح بالإمكان أن نقول: إن سورة البقرة ذكرت معاني الإسلام بإجمال، وضمن نسق، وترتيب معين. وتأتي بعدها سور سبع، هي تتمة قسم الطوال، لتفصل كل منها في محور من سورة البقرة، وفى امتدادات هذا المحور بشكل تفصيلي، بحيث لا ينتهي قسم الطوال إلا أخذنا التغطية التفصيلية الأولى لمعاني سورة البقرة، على نفس ترتيب ورودها في سورة البقرة، فإذا اتضح لك بدايات هذا الموضوع، وإذا اتضح لك صلة معاني القسم الثالث من سورة آل عمران ببعضها، وإذا اتضح لك صلة ذلك كله بقسمي السورة الأولين، فإننا نعتبر أن باستطاعتنا أن ننطلق نحو القسم الرابع في سورة آل عمران.

القسم الرابع من سورة آل عمران

القسم الرابع من سورة آل عمران يمتد من الآية (100) حتى نهاية الآية (148) وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)

[سورة آل عمران (3): الآيات 109 الى 117] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

[سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 142] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

كلمة في هذا القسم

[سورة آل عمران (3): الآيات 143 الى 148] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) *** كلمة في هذا القسم: يتألف هذا القسم من ثلاثة مقاطع، كل مقطع منه مبدوء بصيغة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* والذي دلنا على بداية القسم ونهايته إنما هي المعاني، فلأول مرة في سياق سورة آل عمران، يأتي نداء مبدوء بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. في بداية هذا القسم وهو نداء في النهي عن طاعة أهل الكتاب. ويستمر القسم حتى يأتي نهي عن طاعة الكافرين عامة، وبذلك يبدأ قسم جديد في السورة هو القسم الأخير. وهذان القسمان الأخيران يبنيان على الأقسام الثلاثة السابقة. كما أن القسم الأخير مبني على القسم السابق عليه من سورة آل عمران لقد مر معنا في القسم الأول مواقف لأهل الكتاب، وعرفنا فيه بعض طبائعهم، من كون فريق منهم يتولون وهم معرضون إذا دعوا لكتاب الله ليحكم بينهم، وهاهنا يبدأ القسم بقوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. لقد عرفنا من القسم الأول كيف أن أهل الكتاب يقتلون الأنبياء، ويقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط، وأنهم يكفرون بآيات الله، وعرفنا من القسم الثاني كيف أن بعضهم كفر بالمسيح عليه السلام، أو غلا فيه، وعرفنا في القسم الثالث كيف أن طائفة منهم تود إضلالنا، وكيف أنهم يخططون لذلك، وكيف أنهم يخونون فيما اؤتمنوا عليه. والآن يأتي هذا القسم محذرا لنا من طاعتهم، مفسرا لنا مواقفهم، مبينا لنا ما ينبغي أن نستعصم به، موجها لنا إلى ما ينبغي أن نسير فيه. رأينا في القسم الأول أن الله أنزل الكتاب، وأن الناس فى شأن الكتاب قسمان: قسم يؤمن بالكتاب كله، فيعمل بالمحكم، ويؤمن بالمتشابه وقسم: يتبع المتشابه معطلا المحكم. ورأينا تفصيلا في صفات المتقين. ونلاحظ هنا مجئ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وفيه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. وفيه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ورأينا في القسم الأول قوله وتعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. ونجد في هذا القسم قوله وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. ورأينا في القسم الأول قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وفي هذا القسم نجد: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ... وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ..... وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .... فالقسم الرابع إذن يبين ما سبقه من معان، ويفصل فيها، ويزيد في

بناء المعاني ما يحتاجه البناء ............ قلنا إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، ومقدمة سورة البقرة تحدثنا عن المتقين، والكافرين، والمنافقين. وهذا القسم تفصيل في ذلك كله: فهذا القسم ينهانا أن نسير في طريق الكفر، ويأمرنا أن نتحقق بكمال التقوى، وأن نعتصم بالقرآن، وألا نفعل ما يخل بهذا الاعتصام، أو يضعفه، بل علينا أن نفعل ما يقويه، ويدلنا على الطريق. ويفصل في العلاقات بين أهل الإيمان وأهل الكفر تفصيلا بعيدا، وكل ذلك له صلة بمقدمة سورة البقرة. وقد ختم الكلام عن المتقين في مقدمة سورة البقرة بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وفي هذا القسم تبيان لجوانب في الهداية والفلاح: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وقلنا إن لمقدمة سورة البقرة امتدادات في سورة البقرة، وأن سورة آل عمران تفصل في المقدمة، وفي المعاني الأشد لصوقا بها، ضمن سياقها الخاص. ونلاحظ أن في سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وهاهنا يرد قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وفي سورة البقرة ورد قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ... وهاهنا يرد قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وهكذا نجد من خلال هذا القسم كيف أن لسورة آل عمران سياقها الخاص، وكيف أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة وفيما هو كالامتداد لمعاني هذه المقدمة على طريقة لم يعرفها بشر وهو عاجز عنها ولا يستطيعها أحد

المقطع الأول

ولنبدأ عرض القسم: المقطع الأول يبدأ هذا القسم بآيتين تشكلان بداية المقطع الأول وهما الفقرة الأولى منه: الفقرة الأولى من المقطع الأول [سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) المعنى العام: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة فريق من أهل الكتاب- وذكر الفريق هنا يدل على أن ليس كل أهل الكتاب يبذلون جهدا لإضلالنا. وبين أنه في حالة طاعة هذا الفريق، فإن الكفر والردة هما اللذان سنصير إليهما. فالهدف الذي يسعى إليه هذا الفريق إذن، هو تكفيرنا وردتنا. ولعل واقع عصرنا هو التفسير الواضح لهذا المعنى، إذ استطاع كثير من أهل الكتاب أن يصلوا إلى أخذ طاعة أبناء المسلمين من خلال أحزاب أو مؤسسات واستطاعت كثير من الدول الكافرة أن تستجلب سمع الكثير من أبناء المسلمين، فكان من آثار ذلك هذه الردة الكبيرة التي نراها. وفي الآية الثانية يعجب الله عزّ وجل من أن نكفر، وقد اجتمع لنا ما لا يعقل معه الكفر وهو هذا الكتاب المعجز وهذا الرسول الذي تضافرت المعجزات والخصائص والبشائر والآثار والثمرات على أنه رسول الله حقا ثم يبين أن الهداية إلى الصراط المستقيم مدارها على الاعتصام بالله، والاعتصام بالله يقتضي اعتصاما بكتابه ورسوله، وهذا الاعتصام هو العمدة في الهداية والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد وحصول المراد. وهاتان الآيتان جسر بين ما قبل وما بعد، فبعد أن نوقش موقف أهل الكتاب يأتي الآن نهي عن طاعتهم. وإذ نحن مأمورون بالإيمان فستذكر مقتضياته.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. أي: إن تعطوا الطاعة طائفة من اليهود أو النصارى. يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ أي: يخرجونكم من الإيمان إلى الكفر، فيجعلونكم مرتدين. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: من أين يتطرق إليكم الكفر. وفي السؤال إنكار وتعجيب. وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ أي: والحال أن آيات الله- وهي القرآن المعجز- تتلى عليكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وَفِيكُمْ رَسُولُهُ أي: وبين ظهركم رسول الله ينبهكم، ويعظكم، ويزيح عنكم شبهكم، وتظهر على يده الآيات. والمعنى قائم بالنسبة لنا ببقاء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته بين أيدينا. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي: يتمسك بدينه أو بكتابه، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار، ومكايدهم، وكل شر. فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فقد أرشد إلى الدين الحق. أو المعنى: ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعا عند الشبه، يحفظ منها. فائدة: دلت الآية الأخيرة على أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته، والقرآن وإعجازه، ينبغي ألا يتأتى معهما كفر، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا: الملائكة قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم. قالوا: فالنبيون. قال: وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم! قالوا: فنحن، قال: وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم، يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها». فنحن معشر المسلمين اليوم فاتتنا رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي فينا القرآن، والسنة، والسيرة، وفي ذلك كفاية للإيمان. كلمة في السياق: بدأت سورة البقرة بالكلام عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، وجاءت سورة آل عمران لتفصل في هذه المقدمة. فعرفتنا كيف نهتدي بكتاب الله، وأعطتنا صفحة من صفحات الإيمان بالغيب،

الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الرابع

وعمقت عندنا الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل من قبله، وحذرتنا مما يقابل ذلك، وكل ذلك في الأقسام الثلاثة الأولى. وجاءت الفقرة الأولى، من المقطع الأول، من القسم الرابع: تنهانا عن طاعة أهل الكتاب؛ لما يترتب على ذلك من الردة مبينة أن الكفر لا ينبغي لنا بعد وجود القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وحضتنا على الاعتصام بالله، وأن في ذلك الهداية إلى الصراط المستقيم، ثم تأتي بعد ذلك فقرة تأمر بالتقوى، والموت علي الإسلام، والاعتصام بحبل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، مبينة أن ذلك هو طريق الفلاح، ثم تسير الفقرة في سياقها. وبهذا تحدد لنا الفقرة طريق الهدى، وعلاماته، وطريق الفلاح، ومقتضياته، فلنتذكر أن الكلام عن المتقين في مقدمة سورة البقرة ختم بقوله تعالى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إنه إذا كانت مقدمة سورة البقرة قد حددت صفات المتقين، والكافرين، والمنافقين، فإن القسمين الأخيرين من سورة آل عمران، يعمقان قضية التقوى، وقضية الكفر، ويحددان طبيعة الصراع بين الكفر والإيمان، ويوضحان ما لا يجوز لأهل الإيمان أن يفعلوه، ويعطيان دروسا حياتية كثيرة كمعالم على الطريق، وكل ذلك نراه في هذه السورة بما ترتبط به السورة بمحورها من سورة البقرة مع أن للسورة سياقها الخاص: فالصلة واضحة بين القسم السابق، وهذا القسم، فبعد أن ينتهي الحوار مع أهل الكتاب، يأتي نهي عن طاعتهم، وتأتي أوامر بالاعتصام بكتاب الله. وفي هذا السياق يأتي بيان عن أن أهل الكتاب لن يضرونا إلا أذى، وفي ذلك تطمين لنا أنه إذا لم نطعهم فلا خوف علينا. وهكذا فإن سياق السورة الخاص متلاحم الروابط. الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الرابع [سورة آل عمران (3): آية 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

[سورة آل عمران (3): الآيات 103 الى 112] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)

المعنى العام

[سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 117] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) المعنى العام: في الآية الأولى: أمر من الله بتحقيق التقوى، ونهي من الله لنا أن نموت على غير الإسلام، وذلك بأن نحافظ علي الإسلام في حالة صحتنا، وسلامتنا، لنموت عليه، لأن الكريم قد أجرى عادته بكرمه، أنه من عاش على شئ بعث عليه. فعياذا بالله من موت على غير الإسلام. وفي الآية الثانية: أمر بالاعتصام بكتاب الله، وعدم التفرق، وأمر بتذكر نعمة الله في الألفة على هذا الدين بعد التفرق، وما أكرم الله- عزّ وجل- به هذه الأمة إذ أنقذها من النار. وفي الآية الثالثة أمر لهذه الأمة أن تنتصب للدعوة إلى الكتاب والسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبذلك تستحق الفلاح. وفي الآية الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة: توجيه لهذه الأمة ألا تكون كالأمم الماضية في افتراقها، واختلافها، من بعد ما جاءها من الحق، وتهديد لهذه الأمة أن تغفل ذلك، مع تبيان المآل عند الله، إذ تبيض وجوه من لزم الحق وأهله، وتسود

وجوه من ترك الحق وأهله، واستحقاق الأولين رحمة الله بفضله، واستحقاق الآخرين عذابه بعدله. ثم بين الله- عزّ وجل- أن هذا المتلو آيات الله حقا، وأن الله لا يظلم أحدا. وأن الله مالك الجميع، والكل عبيد له، وهو الحاكم، والمتصرف في الدنيا والآخرة. وبعد أن يوجه لنا هذه الأوامر والنواهي، يقرر لنا أننا خير أمة أخرجت للناس بتحققنا بثلاثة أوصاف، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله. وفي هذا السياق يحض أهل الكتاب على أن يسلكوا سبيلنا مبينا أن القليل منهم يؤمنون، وأن الكثيرين منهم فاسقون عن أمر الله، لا يدخلون في الإسلام. ثم بين أن هؤلاء الفاسقين عن أمر الله من أهل الكتاب لن يضرونا إلا في حدود الأذية لا أكثر، ووعدنا إن قاتلونا أن ينصرنا عليهم، وأن يهزمهم. هذا إن كنا جنده حقا، ثم بين أنه قد ضرب على أهل الكتاب- والمراد بهم اليهود هنا وعرفنا ذلك من خلال صفاتهم- ضرب عليهم الذلة والمسكنة حيثما كانوا، وأن هذه الذلة لا ترتفع عنهم إلا إذا اجتمعت مشيئتان، مشيئة الله، ومشيئة الناس كما هو واقع الآن، إذ قامت لهم دولة سلطها الله علينا بظلمنا. وتضافرت شعوب العالم كلها على إيجادها وتأييدها، ودعمها. ثم بين علة ضربه الذلة عليهم، وهي الكفر، وقتل الأنبياء، والعصيان، والاعتداء. ولم يسلطهم الله علينا إلا لقتلنا ورثة الأنبياء، ولكفر الكثيرين من أولياء أمورنا، وعصياننا، واعتدائنا. والله- عزّ وجل- ذو العدل المطلق، والفضل العظيم، من استحق عقابا عاقبة إلا أن يشاء شيئا. ثم يذكر الله- عزّ وجل- في مقابل الفسقة من أهل الكتاب، من يؤمن منهم؛ فيقوم بآيات الله آناء الليل، ويؤمن بالله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويسارع في الخيرات، فهؤلاء لا يستوون مع الفاسقين منهم، وهؤلاء من الصالحين الذين يعدهم الله أن يجازيهم على إحسانهم إحسانا، والمراد بهم- قولا واحدا- من دخل في الإسلام. ويختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بالكلام عن الكافرين، وأنهم لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأنهم خالدون في نار جهنم، وأن نفقاتهم لن تقبل منهم. فإذا تذكرنا ما كررناه سابقا من كون الله- عزّ وجل- عقب بوصف الكافرين بعد ذكر المتقين في سورة البقرة، وأن هذا يتكرر في سورة آل عمران، يكون ما ذكر هنا دليلا على صحة ملاحظتنا.

المعنى الحرفي

ففي هذا المقطع توجيه للمؤمنين لما فيه هداهم وخلاصهم، وتحذير لهم مما فيه هلاكهم وعذابهم. ومحل أهل الكتاب في هذا، وكونهم فئتين: فئة تؤمن، وأخرى تستمر على فسوقها، وكفرها، وعدم استواء هاتين في ميزان الله. ثم يختم المقطع الكلام عن الكافرين، فالمقطع توضيح لمقدمة سورة البقرة، وتفصيل لبعض ما فيها من إجمال، وتبيان لما ينبغي أن يلاحظ بسبب أن الناس مسلم وكافر. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أى: اتقوا الله واجب تقواه وما يحق منها وذلك يكون: بالقيام بالواجب، والاجتناب عن المحارم، فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: «أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر» وذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ورد هذا القول ابن عباس وفسرها فقال: لم تنسخ، ولكن حق تقاته، أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أي: لا تكونوا على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، وذلك بأن تحافظوا على الإسلام في حال صحتكم، وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شئ مات عليه، ومن مات على شئ بعث عليه، فعياذا بالله من خلاف ذلك. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أي: تمسكوا بالقرآن كلكم. وَلا تَفَرَّقُوا أي: ولا تتفرقوا؛ بأن يكون منكم فعل ما يكون عنه التفرق، ويزول به حق الاجتماع، أو لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، أو لا تتفرقوا كما كنتم في الجاهلية: يحارب بعضكم بعضا. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً هذا النص نزل في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن وإحن، طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام؛ فدخل فيه من دخل، صاروا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى. وتدخل في ذلك كل حالة شبيهة جمع الله فيها القلوب على الحق بعد إذ كانت متفرقة على الباطل،

[سورة آل عمران (3): آية 104]

فهي نعمة تستوجب ذكرا وشكرا. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الشفا: الحرف والطرف، أي: وكنتم على طرف حفرة من النار؛ بما كنتم عليه من الكفر ليس بينكم وبين النار إلا أن تموتوا، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي: فأنقذكم الله منها بفضله وكرمه، إذ هداكم للإسلام. كَذلِكَ أي: كمثل هذا البيان البليغ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي: يوضحها لكم، ويذكركم بها في قرآنه. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لتهتدوا إلى الصواب، وما ينال به الثواب. أو لتكونوا مهتدين. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ تحتمل معنيين: الأول أن تكون (من) للبيان، أي: ولتكونوا أمة، ويكون هذا أمر لجميع الأمة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والثاني: أن تكون (من) للتبعيض، فيكون الأمر هنا لبعض الأمة أن يكون منها من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وتكون المسألة من باب فروض الكفايات، والأمة هنا الجماعة. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. الدعوة إلى الخير هي الدعوة إلى الكتاب والسنة، والمعروف: ما استحسنه الشرع والعقل الذي لا يناقض الشرع، أو ما وافق الكتاب والسنة، أو هو الطاعة، أو هو المباح والمندوب، والواجب والفرض. والمنكر: ما استقبحه الشرع والعقل الموافق للشرع، أو ما خالف الكتاب والسنة، أو هو المعاصي، أو هو المكروه والحرام. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: هم الأخصاء بالفلاح الكامل. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا تفرقوا في العداوة، واختلفوا في الديانة، فكفر بعضهم بعضا. مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة: وهي كلمة الحق. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ أي: يوم القيامة تبيض وجوه أهل الحق، والجماعة، والسنة وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وجوه أهل الباطل، والفرقة، والبدعة، أو تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، وللمؤمن نوره ولو كان أسود اللون، وللكافر ظلمته ولو كان أبيض. فالسواد والبياض عند الله إنما هما ظلمة الكفر ونور الإيمان فالعبرة لبياض القلب أو ظلمته. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وهذا توبيخ لهم، وتعجيب من حالهم، وما المراد بالإيمان هنا؟ هل المراد به الإيمان في عالم الذر يوم الميثاق إذ قالت الأرواح مقرة لله بالربوبية: بلى؟ فيكون المراد بهذا الخطاب جميع الكفار، أو المراد بالإيمان هنا الإيمان الدنيوي فيكون المراد بهذا أهل النفاق، والمرتدين إذ كفروا بعد الإيمان، أو كفروا باطنا، وأظهروا الإيمان ظاهرا، أو المراد به هنا إيمان أهل الكتاب،

[سورة آل عمران (3): آية 107]

الذين كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فلما بعث كفروا به، أو المراد بالإيمان هنا أصل الفطرة، ثم حدث الكفر، والنص يدخل فيه هذا كله، ويخص من سبق إليه إيمان، ثم كفر بفرقة، أو بدعة، أو عداء لحق. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: بسبب كفركم. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ وهم أهل الإيمان فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي: في نعمته، وجنته، وثوابه هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: ماكثون لا يظعنون عنها، ولا يموتون. تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي: هذه آيات الله، وحججه، وبيناته، نتلوها عليك يا محمد متلبسة بالحق، والعدل من أمر الدنيا والآخرة. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي: لا يريد الله أن يظلم عباده فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الجميع ملك له وعبيد له. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة فيجازي المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي: وجدتم خير أمة أظهرت للناس، ثم بين سبب ذلك وعلته. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في المدح. قال عمر بعد أن قرأ هذه الآية: «من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها». قال ابن كثير: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ (سورة المائدة) ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب، وتأنيبهم، فقال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: لكان الإيمان خيرا لهم مما هم فيه؛ لأنهم إنما يؤثرون دينهم على دين الإسلام حبا بالرئاسة والسلطة لهم أو لأقوامهم، واستتباعا للعوام، أو كبرا وحسدا. ولو آمنوا لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة، مع الفوز بما وعدوا به على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين كما سنرى. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي: قليل منهم من يؤمن بالله: وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة، والفسق، والعصيان. ثم أخبرنا تعالى مبشرا لنا أن النصر والظفر لنا على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، وإن مسنا منهم أذى قال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي: ضررا مقتصرا على أذى: من طعن في الدين، أو تهديد، أو نحو ذلك دون أن يستطيعوا استئصالكم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ

[سورة آل عمران (3): آية 112]

الْأَدْبارَ منهزمين، فلا يثبتون أمامكم. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي: ثم لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم، وهذه أعظم بشارة لنا إن كنا مؤمنين حقا. خاصة في صراعنا مع اليهود، وأما هزائمنا أمامهم، فتدل على أن الذين يقاتلونهم لم يتحققوا بصفات الإيمان، وهذا ظاهر إذ اللواء الذي قاتل تحته العرب فهزموا حتى الآن، إنما هو لواء الكفر، والفسوق، وإلا فالوقائع الماضية للمؤمنين مع أهل الكتاب شاهدة لما ذكرته الآية ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا هذا الكلام خاص باليهود، بدليل ما يأتي من صفاتهم التي هي علم عليهم. والآية تفيد أن اليهود قد ألزموا الذلة أينما وجدوا، وذلك بدفعهم الجزية لكل دولة يعيشون في ظلها، وخوفهم الدائم أينما كانوا. مما يضطرهم لفعل الذليل من الأعمال، نفاقا واتقاء شر. ثم استثنى الله حالة عرفناها في عصرنا إذ قامت لهم دولة في فلسطين. قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي: إلا بإمداد من الله، وإمداد من الناس، إلا بسبب يعطيهم الله إياه، وبسبب من الناس يكون لهم، فترتفع عنهم الذلة بذلك ويكون لهم دولة وسلطان، وهذا ما حدث الآن إذ أمدهم الله، وسخر لهم وسلطهم علينا بظلمنا، وإذ تمالأ العالم كله لصالحهم يمدهم ويحميهم، ويكيد لهم، ويخدمهم، فكان ما نعلمه، ولكنه حدث عارض بدليل ما سيمر معنا في سورة الأعراف، وفي سورة الإسراء. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي: ألزموا بغضب الله بما استوجبوه من ذلك وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي خوف الفقر هنا مع قيام اليسار. فهم لا يرون إلا مساكين متظاهرين بذلك، أو متحققين- وسبب هذا كله- وهو تهديد لنا أن نفعل مثل فعلهم، فنستحق ما استحقوه هم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي: سبب ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وبوئهم بغضب الله، كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي: سبب قتلهم الأنبياء، وكفرهم، هو عصيانهم لله، واعتداؤهم حدوده فالعصيان والاعتداء هما مقدمتا الكفر والجرأة على سفك دم أهل الإيمان. وقد كفر كثيرون من هذه الأمة في عصرنا، حكاما ومحكومين، وقتلوا الدعاة إلى الله، وتجاوزوا حدوده، ووقعوا في معاصيه. أيستغرب بعد ذلك أن يغلبهم اليهود في معاركهم، وما غلب اليهود المسلمين، وإنما غلبوا أمثالهم. وإذ ذكر الله منذ قليل أن من أهل الكتاب من يؤمن، وأكثرهم المستمر على الكفر. فالآن يبين فضل الأولين، بعد أن بين خسران الآخرين قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً أي ليسوا

[سورة آل عمران (3): آية 114]

مستوين من سيذكر منهم مع من ذكر. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من آمن منهم بالإسلام أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: جماعة مستقيمة عادلة. قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبيه. فقائمة هنا بمعنى: مستقيمة. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي: يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم. وآناء الليل: ساعاته. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ المسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به، وهؤلاء يبادرون إليها خشية الفوت. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. أي: وهؤلاء الموصوفون بما وصفوا به من المسلمين، أو من جملة الصالحين، صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا أجره. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي: لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا، وهذه بشارة للمتقين بجزيل الثواب. ثم قال تعالى مخبرا عن الكفرة. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا يرد عنهم بأس الله ولا عذابه. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون فيها أبدا، فما أشد هذا العقاب، وما أعد له، لأنهم لو بقوا أبدا لاستمروا على الكفر أبدا. ثم ضرب مثلا لما ينفقون في هذه الدار، كيف أنه لا ينفعهم عند الله مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا من أموالهم التي يتظاهرون بأنهم ينفقونها بقصد طيب، مع كفرهم، ورغبتهم في الثناء، والذكر الحسن عند الناس، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ الصر: هو البرد الشديد أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ أي: أرض قوم قد آن حصادها، وقطافها وهؤلاء القوم صفتهم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالذنوب والمعاصي فَأَهْلَكَتْهُ أي: فدمرته فصار المعني: مثل إهلاك ما ينفقون عند الله، كمثل إهلاك ريح باردة لثمرة أرض. تدمرها فلا ينتفع أهلها منها بشيء، وكذلك هؤلاء. وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بإهلاك حرثهم وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. هذا إذا أرجعنا الضمير على أصحاب الأرض، وإذا أرجعنا الضمير للمنفقين يكون المعنى: وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم، حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول. فوائد حول المقطع: 1 - بمناسبة قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نذكر

حديثين: أ- أخرج الإمام أحمد عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. .. لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت عمل أهل الدنيا وما فيهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم» ورواه الترمذي وغيره، قال الترمذي حسن صحيح. ب- وروى الإمام أحمد عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزّ وجل» ورواه مسلم. 2 - وفي تفسير الحبل في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا .. نذكر: أ- روى الطبري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض». ب- روى ابن مردويه عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه». وقال الألوسي في تحقيق كلمة (حبل الله): وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي: القرآن روي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود. وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله- عزّ وجل- ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة، وقيل المراد بحبل الله: الطاعة والجماعة، وروى ذلك عن ابن مسعود أيضا. أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال: سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالطاعة، والجماعة، فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به»، وفي رواية عنه: «حبل الله تعالى الجماعة»، وروي ذلك أيضا

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية: «أنه الإخلاص لله تعالى وحده». وعن الحسن: «أنه طاعة الله- عزّ وجل-» وعن ابن زيد «أنه الإسلام». وعن قتادة: أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة» اهـ. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا نذكر الحديث الذي رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» قال ابن كثير: وقد ضمنت لهم العصمة، (أي للمسلمين) - عند اتفاقهم- من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق، والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي». فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن». 5 - وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن هذه الآية وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً .... نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلا من اليهود مر بملإ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلا معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث، وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فجعل يسكنهم ويقول: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، وتلا عليهم هذه الآية. فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا، وتعانقوا، وألقوا السلاح». وذكر النسفي أن هذا سبب نزول الآيتين قبلها إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ .... ولا يبعد أن كل هذه الآيات الأربع نزلت بهذه المناسبة.

6 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ نذكر ثلاثة أحاديث: أ- روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». ب- وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون، ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدكم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». ج- وروى الإمام أحمد والترمذي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده؛ ثم تدعونه فلا يستجيب لكم». 7 - بمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ننقل بعض النصوص والنقول: روى الإمام أحمد عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة- وهي الجماعة- وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به». 8 - وروى الترمذي: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ .... إلى آخر الآية. قلت لأبي أمامة: أنت

سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أسمعه إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاثا، أو أربعا، حتى عد سبعا ما حدثتكموه» ثم قال الترمذي: حديث حسن والذين رأى أبو أمامة رءوسهم هم الخوارج، فهم إحدى الفرق التي تفرقت، واختلفت؛ فاستحقت سواد الوجه يوم القيامة. وبمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ننقل تحقيقا للآلوسي بسبب أن كثيرين لا يفرقون بين أنواع من الاختلافات: يقول الألوسي: «ثم إن هذا الاختلاف المذموم، محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع، ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل: إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها- كالماتريدي، والأشعري- فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع، أو أجمع عليه وليس بالبعيد. واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام «اختلاف أمتي رحمة» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي. إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» وأراد بهم صلى الله عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد، والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه، خلافا لمن وهم. والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة. فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال: «اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لعباد الله تعالى» وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ «كان اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس» وفي المدخل عن عمر بن عبد العزيز قال: «ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة» واعترض الإمام السبكي بأن «اختلاف أمتي رحمة» ليس معروفا عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع، ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس؛ بأن يكون أحد قال: اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم، فظنه حديثا، فجعله من كلام النبوة، وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له، واستدل على بطلانه بالآيات، والأحاديث الصحيحة، الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة

سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف، وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها: في الأصول، ولا شك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن، والثاني: في الآراء، والحروب، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ. وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضا أنه حرام؛ لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث: في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما، والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا، لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل، والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص، وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: «الاختلاف رحمة»، فإن الرخص منها بلا شبهة، وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف، فلا تنافي بين الكلامين، لأن جهة الخيرية تختلف باختلاف وجهة الرحمة، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده، والرحمة في الرخصة فيه وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم، فيكتفى في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما، في وقت ما، في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا، وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير نقول إن الاتفاق مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد- وهو الصحيح- فالحق في نفس الأمر واحد، والناس كلهم مأمورون بطلبه، واتفاقهم عليه مطلوب، والاختلاف حينئذ منهي عنه، وإن عذر المخطئ، وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق. فقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران» وإذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد، وباتباع ما غلب على ظنه؛ فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق، ولا أن يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا: المراد بالاختلاف في

الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في «شعب الإيمان»، لكن كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة، إذ لا خصوصية لأمة بذلك؛ فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع، والحرف، لا هذه الأمة فقط، فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم؛ فهي من رحمة الله تعالى لهم، وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحق الإبقاء على الظاهر المتبادر وتأويل الخبر بما تقدم. هذه خلاصة كلامه أي (السبكي)، ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شئ، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى «كتاب الحجة» لنصر المقدسي، ولم يذكر سنده ولا صحته، لكن ما ورد يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري، والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن شاركهم في الاجتهاد، كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين، الذين ليسوا بمبتدعين، وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم». ا. هـ كلام الألوسي. 9 - وبمناسبة قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ننقل بعض الأحاديث: أ- في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجل». ب- روى الإمام أحمد: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «خير الناس أقراهم، وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم». ح- روى الإمام مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه

كلمة في سياق المقطع الأول من القسم الرابع

أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب» فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا. وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة». وفي حديث حسن «فإن الله وعدني سبعين ألفا، مع كل ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات». وفي حديث حسن رواه أبو القاسم الطبراني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة: لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء». وفي حديث إسناده حسن قال عليه الصلاة السلام: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، لكم منها ثمانون صفا». وفي حديث رواه البخاري ومسلم قال عليه الصلاة السلام: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتينا من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، الناس لنا فيه تبع. غدا لليهود، وللنصارى بعد غد». كلمة في سياق المقطع الأول من القسم الرابع: 1 - يلاحظ أن مقدمة سورة البقرة بدأت بالكلام عن المتقين المهتدين بالكتاب، المؤمنين المصلين المنفقين، ثم ثنت بالكلام عن الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... والملاحظ أن هذا المقطع: بدأ بالنهي عن طاعة أهل الكتاب، التي تجر إلى الكفر، ثم ثنى بالدعوة إلى التقوى الكاملة والاعتصام بالقرآن، والدعوة إليه، ونهى عن التفرق، واستقرت مجموعة منه على قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ. ثم جاءت مجموعة تبين خيرية هذه الأمة، وتأخذ على أهل الكتاب انحرافهم، وتذكر ما عوقبوا به، وإذ تذكر شرارهم، تذكر بخيارهم، وتستقر المجموعة على قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. فهاتان المجموعتان من هذا المقطع تعملان في تعميق قضية التقوى، وكما أن مقدمة

سورة البقرة تحدثت عن الكافرين بعد المتقين، فإن هذا المقطع ينتهي بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. لاحظ أن كل شئ من أخلاق المتقين يفعله الكافرون لا يقبل منهم. 2 - في مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وهذا المقطع بعد أن أمرنا بأن نعتصم بالله، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وبعد أن أمرنا بالاعتصام بالقرآن مبينا أن ذلك هو طريق الهداية، أمرنا بأن ندعو إلى الخير، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، وبين أن في ذلك الفلاح. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وإذن فقد فصلت آيات في هذا المقطع في موضوع الهداية والفلاح، بأن بينت معنى مما يدخل في الاهتداء بالقرآن، ويتوقف عليه الفلاح. ثم إن مجموعة من الآيات بينت أن الخيرية في هذه الأمة مرتبطة بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وبينت أن أهل الكتاب الملتزمين بالإيمان بالله واليوم الآخر، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، لا يستوون مع غيرهم من أهل الكتاب. فالمقطع عمق قضية التقوى، وفصل فيما يدخل فيها. 3 - لعله اتضح بشكل ما، صلة هذا المقطع بمقدمة سورة البقرة من خلال ما مر، فلنر محله في سياق سورة آل عمران: في القسم الأول من سورة آل عمران ذكر- عزّ وجل- أنه أنزل القرآن، وجعله آيات محكمات، وأخر متشابهات. وفي هذا المقطع يأمرنا الله- عزّ وجل- بالاعتصام بكتاب الله، ويحذرنا أن نكون من المتفرقين وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ فالآيات هنا تحذرنا من التفرق، فإذا ربطنا بين هذه الآيات، وآيات القسم الأول التي تعرفنا أن الآيات المتشابهات إنما يتبعها من يريد الفتنة

بين المسلمين، أدركنا نموذجا من التفرق المذموم. فلا بد للمسلمين أن يلحظوا أن اللقاء ينبغي أن يكون على المحكم، وعلى التسليم في شأن المتشابه. وعدم الخوض فيه. وفي القسم الأول ورد قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وهاهنا يذكر الله- عزّ وجل- لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ .. وفي القسم الأول يذكر الله- عزّ وجل- الذين يقتلون الأنبياء، وهاهنا يذكر الله- عزّ وجل- .. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وهكذا نجد صدق ما ذكرناه من كون الأقسام الأولى مهدت لهذا القسم، فبعد الكلام عن عيسى عليه السلام، نوقش أهل الكتاب. وبعد هذا النقاش نهينا عن طاعتهم، وعرفنا أنهم لن يضرونا إلا أذى، وأنهم مهزومون إن قاتلونا. 4 - لنتأمل الآن في تسلسل المعاني ضمن المقطع الذي مر معنا: بدأ المقطع بالنهي عن طاعة أهل الكتاب وبين أن عاقبة ذلك الكفر، ثم عجب من كفر المسلم بعد إيمانه، وخض على الاعتصام بالله، ثم بين أن طريق الاعتصام: تقوى، واعتصام بالقرآن، وعدم تفرق، ودعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ثم فصل في موضوع التفرق وعاقبته، ثم بين أن حكمة اصطفاء هذه الأمة بسبب اجتماع الإيمان بالله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لها، ثم بين أن أهل الكتاب مفتوحة لهم الطريق ليدخلوا فى هذه الأمة، وبين أن أكثرهم لا يدخلون، وبعضهم يدخلون ويفعلون كل ما تستلزمه قضية التقوى. وفي وسط هذه المعاني، يبين- عزّ وجل- لنا أن الكافرين من أهل الكتاب لن يضرونا إلا أذى، وأنهم مغلوبون إن قاتلونا، وصلة ذلك بالنهي عن طاعتهم، والاعتصام بالإسلام لا تخفى. 5 - في بداية هذا المقطع ورد قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وفي وسط هذا المقطع ورد قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ .. ومن رأى واقع ما نحن فيه؛ علم أن في هذه الآية معجزة تدل على أن منزل هذا القرآن هو المحيط علما بكل شئ فثبته ذلك على الإيمان.

المقطع الثاني في القسم الرابع

6 - لقد بدأ هذا القسم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وسار المقطع الأول ليعمق فينا ما ينبغي أن نفعله. ويأتي الآن المقطع الثاني ليبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا ... فالمقطع الثاني في هذا القسم يكمل في تبيان المواقف التي تترتب على كون الناس مؤمنين وكافرين. لقد حذرنا المقطع الأول في هذا القسم من طاعة أهل الكتاب، ومن التفرق في الكتاب. وأمرنا بالاعتصام به، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وحض أهل الكتاب على الإيمان. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. وبين لنا أن أهل الكتاب منهم من يؤمن. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. وأعطانا صفات المؤمنين منهم، وعرفنا على صفات الكافرين، وبين لنا بعض قوانين الصراع مع الكافرين منهم. ثم جاء حديث عن الكافرين، ليكون ذلك مقدمة عن النهي عن اتخاذ بطانة من الكافرين. ولو أنك تأملت مقدمة سورة البقرة لذكرتك هذه المعاني في جملة ما تذكرك بقوله تعالى فيها: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تأمل قوله تعالى هنا: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ .... لتجد أن التفصيل لمقدمة سورة البقرة وفي المقطع واضح، وصلة المقطع بما قبله من السورة واضحة. ولننتقل إلى المقطع الثاني في القسم الرابع. المقطع الثاني في القسم الرابع يمتد هذا المقطع من الآية (118) إلى نهاية آية (129) وهذا هو [سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

[سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

المعنى العام

المعنى العام: رأينا في المقطع السابق تحريم الله علينا طاعة أهل الكتاب، وأمره لنا بالاعتصام بكتابه، وعدم التفرق والاختلاف، وأمره لنا بالدعوة إلى الكتاب والسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وخيرية هذه الأمة بسبب اجتماع الإيمان بالله، مع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لها، ووعد الله لنا أن ينصرنا على أهل الكتاب إذا قاتلناهم، وثناء الله على من يؤمن من أهل الكتاب، ويدخل فيما دخلت به هذه الأمة من عمل. ثم ما أعد الله للكافرين، وفى هذا المقطع ينهانا الله عزّ وجل في الآية الأولى عن اتخاذ بطانة من دوننا من الكافرين أو المنافقين، نطلعهم على أسرارنا، وما نضمره لأعدائنا، وبين الله- عزّ وجل- سبب ذلك لأن هؤلاء لا يقصرون في مخالفتنا وما يضرنا، ويرغبون في كل ما يشق على المسلمين ويعنتهم، وأنهم لا يضمرون لنا إلا البغضاء، حتى إنهم ليظهرون ذلك. ثم بصرنا الله بحالهم أكثر، فمع أننا نحبهم بحكم الخلق، والطبيعة البشرية الصافية. فإنهم لا يحبوننا، ومع أننا نؤمن بالكتاب كله، فهم يتظاهرون مسايرة لنا بالإيمان، ولكن الغيظ منا ومن ديننا يأخذ عليهم قلوبهم. فالموقف السليم أن نزيدهم غيظا، لا أن نتخذهم خاصتنا، ومحل أسرارنا. ثم زادنا الله تعريفا بهم. أنهم لا يفرحون لما يصيبنا من نصر، أو خير، أو عز، وإنما يسوؤهم ذلك، ويفرحون بما يصيبنا من بلاء ومحن. وهم أصحاب كيد للإسلام وأهله، ولكنا إذا تحققنا بالصبر والتقوى فقد وعدنا الله ألا يضرنا كيدهم. ثم شرع الله- عزّ وجل- يذكرنا بوقائع تطبيقية حدثت لهذه الأمة تدل على أن هذه الأمة إن صبرت واتقت فالله يتولى شأنها كله، ولا يضرها كيد الكافرين أو المنافقين. المثال الأول من أحد: إذ كادت عشيرتان من الأنصار أن تتأثرا بمواقف الكافرين، ولكن لتحققهما بالإيمان؛ فإن الله عصمهما من ذلك. ومن ثم يأمر الله المؤمنين بالتوكل عليه؛ لأنهم إن توكلوا عليه أنقذهم من كل كيد، وفتنة، أو تخطيط ماكر. ثم ذكرنا الله- عزّ وجل- بنصرنا يوم بدر مع ضعفنا وقلتنا، وأمرنا بالتقوى شكرا له على ذلك، وهذا هو المثال الثاني وقد بين الله- عزّ وجل- بعض ما فعله لنا يوم بدر؛ ليحقق المثل ما هو مسوق له من نموذج على ما مر أنه في حالة صبرنا وتقوانا لا يضرنا كيد الكافرين أو المنافقين، بل الله بفضله يفعل ما ينقذنا منهم، وينصرنا عليهم، بأن يمدنا بمدد من الملائكة؛ لينصرنا على الكافرين، وليمزقهم، أو يرد كيدهم خائبا.

المعنى الحرفي

وتعقيبا على هذا كله يوجه الله رسوله ويعلمه أن الأمر كله لله، الملك ملكه، والأمر أمره، والتدبير تدبيره، وليس لأحد معه ملك أو أمر أو تدبير. يعذب من شاء، وينصر من شاء، ويغفر لمن شاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء ورحمته وسعت كل شئ. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ بطانة الرجل هم خاصته وأصفياؤه الذين يطلعهم على أدخل أمره. وقوله مِنْ دُونِكُمْ دخل فيه عامة أهل الأديان، وأهل الإلحاد، وأهل النفاق. وكل من دخل في قول من أقوال رسول الله عليه السلام «ليس منا». فصار المعنى: لا تتخذوا خواص لكم، وأصفياء، تطلعونهم على أسراركم، ومخططاتكم من دون أبناء دينكم، وهم المسلمون الصادقون. ودخل في هذا النهي أن نجعل أمثال هؤلاء مستشارين لنا، وأمناء سر. ومخالطين لنا، وأصحاب عشرة. ثم وصف من دوننا بالنسبة لنا لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا الخبال: الفساد، أي: لا يقصرون في فساد دينكم، ولا يقصرون في إفساد أمركم. فهم يسعون في مخالفتنا، وما يضرنا بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي ودوا عنتكم والعنت: شدة الضرر، والمشقة، والحرج، أي: يودون ويرغبون بما يشق عليكم، ويحرجكم. فهؤلاء لا يتمنون إلا أن يضروكم في دينكم ودنياكم، أشد الضرر وأبلغه، ومن كانت هذه خبيئة نفسه فكيف تتخذه خاصة لك، وبطانة، وملازما، ومستشارا، ومستنصحا! قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: إنهم مع ضبطهم أنفسهم ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين، فإن بعض كلامهم يدل على بغضائهم. وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغض لكم أَكْبَرُ مما بدا. لقد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا ذيلت الآية بقوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: قد وضحنا لكم الآيات الدالة على وجوب الإخلاص في الدين، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، وعدم اتخاذهم بطانة؛ من أجل أن تعقلوا هذه الآيات فتفهموا، وتعملوا. ها أَنْتُمْ أُولاءِ المتصفون بما يأتي مما يدل على خطئكم في واقع الأمر تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ أي:

[سورة آل عمران (3): آية 120]

تحبون أصنافا من دونكم، ولا يحبونكم هم. هذا بيان للخطإ حيث نبذل محبتنا لأهل البغضاء فنجعلهم بطانة وهم أعداء. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي: بكل كتاب أنزله الله وبكل وحي، ليس عندكم في شئ منه شك ولا ريب. أما هم فمنافقون. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ الأنامل أطراف الأصابع، ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل، والبنان والإبهام، وعض الأنامل من الغيظ تعبير عن أشد الغيظ وأفظعه، فصار المعنى: وإذا لقوكم أظهروا لكم من الإيمان ما يطمئنكم إليهم، ويحببهم إليكم، وإذا فارقوكم، أو خلا بعضهم إلى بعض أظهروا أشد الغيظ والحنق عليكم. فإذا كان الأمر كذلك، تؤمنون بكتابهم، ويكفرون بكتابكم، ويضمرون لكم من الحقد والغيظ أفظعه، فأنتم أحق بالبغضاء لهم، فما بالكم تحبونهم؟ ففي الآية توبيخ شديد لنا على محبتنا لمن دوننا من أهل الكتاب، فضلا عن غيرهم. فكأننا في هذا الموقف أضعف منهم في حقنا، وهم أصلب منا في باطلهم. ثم علمنا الله الموقف الصحيح منهم فقال: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين، وبغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمه على عباده المؤمنين، ومكمل دينه، ومعل كلمته، ومظهر عباده، فازدادوا غيظا إلى غيظكم حتى تهلكوا به. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد، والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها. وهل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هو من تتمة ما أمر الله رسوله والمؤمنين أن يقولوه لهم؟ أو هو تذييل للآية كلها؟ فإذا كان الأول فيكون معناه: وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم، وهو مضمرات الصدور. فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه. وإذا كان الثاني، يكون معناه: لا تتعجب مما أمرتك به، واعمل به، وكن واثقا مما أعلمتك به من حالهم، ومواقفهم منكم، فإني عليم بذات الصدور. ثم بين الله- عزّ وجل- حالهم منا، بما يزيدنا بصيرة في أمرهم، وبما يقوي عزائمنا في أمرهم فلا نتخذهم بطانة بل أعداء، فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ هذه حالهم الدالة على شدة عداوتهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المسلمين خصب، ونصر، وتأييد، وكثرة، وعزة، ساء غيرهم ذلك. فالمعنى إذن: إن تصبكم غنيمة، ونصرة، ورخاء، وخصب، يحزنهم ذلك، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها أي: وإن

فوائد

تصبكم سنة جدب، أو هزيمة، يفرحوا بذلك إن أصابكم- وهذا منتهى العداء- ثم وجهنا الله- عزّ وجل- إلى ما إن تحققنا به لا يضرنا كيد غيرنا لنا، وهو الصبر والتقوى فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي: وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقة، وما ابتلاكم الله به، وتتقوا الله في اجتناب محارمه، لا يضركم مكرهم وخططهم ضدكم شيئا، بل تكونون في حفظ الله، وذلك لقوله: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فهو المحيط بمكرهم، وكيدهم. فإذا كنتم صابرين متقين أحبط ذلك لكم. وفى نهاية الآية إرشاد من الله تعالى إلى طريق السلامة من شر الأشرار، وكيد الفجار، بالتحقق بالصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائنا، فلا حول ولا قوة لنا إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شئ إلا بتقديره. ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه. فوائد: 1 - نهتنا الآيات أن نتخذ بطانة من دوننا، وبينت لنا سبب ذلك، وشعرنا من خلال الآيات أن المقصود الأول بذلك هم كفرة أهل الكتاب، وإذا كانوا كذلك، فغيرهم أولى أن نحذر. والنهي أعم من هذا كله، فالنهي منصب على عدم جواز اتخاذ بطانة من دوننا، دخل في ذلك الكافرون كلهم من أهل الكتاب، والمشركون والملحدون، ودخل في ذلك المنافقون لأنهم ليسوا منا. قال تعالى الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ والمنافقون يعرفون من أوصافهم في كتاب الله، ومن أقوالهم. ويدخل في ذلك من باب الورع والاحتياط، كل من نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه منا من ذلك «من غشنا فليس منا»، «من رغب عن سنتي فليس مني»، «ومن أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية»، «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»، «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا»، ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه». أمثال هؤلاء ينبغي أن نحتاط، فلا نتخذهم خاصتنا، ولا نفشي لهم أسرارنا، ولا نظهرهم على عوراتنا، ولا نطلعهم على مخططاتنا، ولا نستشيرهم في أمورنا. 2 - في حديث صحيح رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله

[سورة آل عمران (3): آية 121]

من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله». 3 - روى ابن أبي حاتم: «قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة حافظ، كاتب، فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين». قال ابن كثير: «ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب» أقول: من كلام ابن كثير يفهم جواز استعمالهم فيما سوى ذلك. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- النهي عن اتخاذ بطانة من دوننا وأسبابه، ووعد عباده المؤمنين، أن يحبط مكر الكافرين في حالة تقوانا، وصبرنا. يضرب لنا مثلين عن حالتين تولى عباده المؤمنين فيهما: يوم أحد، ويوم بدر، فأحبط كيد أعدائهم بسبب صبرهم وتقواهم. والدليل على أن هاتين القصتين مساقتان كنموذجين على تولي الله المؤمنين، وإحباط كيد أعدائهم في حالة صبرهم وتقواهم، هو ورود ذكر الصبر والتقوى في الآيات السابقة: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. ووروده فيما يأتي: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ المراد بالقتال هنا معركة أحد، والغدو: الخروج صباحا، والمعنى: واذكر يا محمد مثلا على تولي الله المؤمنين، حين خرجت من أهلك بالمدينة تبوئ، أي: تنزل المؤمنين في منازلهم ومواطنهم، ومواقفهم للقتال من الميمنة، والميسرة، والقلب، والجناحين، والساقة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وضمائركم. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما هذا الذي سيقت القصة من أجله، وأمر بالتذكير فيه، إذ حمى الله- عزّ وجل- طائفتين من المؤمنين يوم أحد من أن تتخذا مواقف المنافقين، إذ انسحبوا، فكان في ذلك حفظ لهما، ودعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفشيل لكيد المنافقين. والمعنى: واذكر إذ همت عشيرتان: هم بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، أن تجبنا وتضعفا، وتنسحبا، ولكن الله محبهما وناصرهما، ومتولي أمرهما ولذلك صرفهما عن مشاركة المنافقين بالانسحاب فلم يفعلا. وهذه القصة تعلمنا أن نسلم أمورنا لله، وأن نتوكل عليه، وألا نخالف أمره. ومن ثم

فوائد

ختمت الآية بالأمر بالتوكل فقال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. أمرنا ألا نتوكل إلا عليه، وألا نفوض أمورنا إلا إليه. فوائد: 1 - روى البخاري عن عمر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا الآية قال: نحن الطائفتان بنو حارثة، وبنو سلمة وقال سفيان مرة وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. 2 - المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة. وقد قال الله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ وفي الجمع بين هذا وهذا؟ قال ابن جرير: إن غدوهم ليبوئهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار. 3 - خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بألف من المدينة. وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف، فلما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه في الشوط (مكان في الطريق إلى أحد). رجع عبد الله بن أبي رأس المنافقين بثلث الجيش مغضبا، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه وقوله، هناك كادت الطائفتان أن تتزلزلا، وترجعا مع المنافقين، ولكن الله عصمهم توليا للمؤمنين، وإحباطا لكيد المنافقين. ومن ثم جاءت هاتان الآيتان في معرض البيان أن كيد الكافرين والمنافقين لا يضر المؤمنين إن صبروا واتقوا. ثم ضرب الله مثلا آخر على تولي المؤمنين، وخذلان أعدائهم، وإحباط كيدهم بما حدث يوم بدر. فلنتذكر الصلة بين أجزاء هذا المقطع، وارتباط آخره بأوله، وأن المقطع جاء من أجل أن لا نتخذ بطانة من دوننا، فلا نتخذ بطانة خوفا من كيد الكافرين والمنافقين، لأن الله يحبط كيدهم، وينصرنا عليهم، بصبرنا وتقوانا لا بمخالفتنا أمره. وما حدث يوم بدر نموذج: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أي: ولقد نصركم الله يوم بدر وأنتم أذلة، والأذلة جمع قلة لذليل، واستعمال جمع القلة يفيد أنهم كانوا على ذلتهم وضعف شوكتهم قليلين، ليعلم أن النصر من عند الله، لا بكثرة العدد والعدة، وهذا كما قلنا آت في سياق وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً .. الآية ثم في سياق لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ فمن تذكر يوم بدر أعطاه ذلك درسا أن يستقيم على أمر الله. وأن يخلص وده للمؤمنين وأن يفاصل المشركين، والكافرين، والمنافقين، ولا يخشى إلا ربه والله يتولى شأنه، فيثبط عدوه وينصر جنده، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: فاتقوا

[سورة آل عمران (3): آية 124]

الله بالقيام بما أمر، لعلكم تتحققون بمقام الشكر الذى لا يناله إلا القليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سورة سبأ: 13) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ اختلف المفسرون في هذا الوعد، هل كان يوم بدر، أو يوم أحد، على قولين. الأرجح فيهما والذي يتفق مع السياق أن قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وهو قول الحسن البصري، والشعبي، وغيرهم،. واختاره ابن جرير. أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ روى ابن أبي حاتم عن الشعبي أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إلى قوله ... مُسَوِّمِينَ قال: فبلغت كرزا (¬1) الهزيمة. فلم يمد المشركين، ولم يمد الله المسلمين بالخمسة آلاف» هذا ما قاله الشعبي، والمذكور في سورة الأنفال أن الله وعد المؤمنين أن يمدهم بألف، وقد أمدهم بهم. وهل أمدهم بالثلاثة ثم بالخمسة؟ قولان للمفسرين، لأن التنصيص على الألف في سورة الأنفال لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها لقوله: مُرْدِفِينَ بمعنى: يردفهم غيرهم، ويتبعهم ألوف أخر وعلى كل الأقوال، فقد قاتلت الملائكة يوم بدر، أما عدد من قاتل ففيه خلاف. ومعنى الآية: «ألا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين لنصرتكم». وجئ بالاستفهام الذي يفيد الإنكار وبعده (لن) التي تفيد تأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم، وضعفهم، وكثرة عدوهم، كالآيسين من النصر. ثم إن في قول الله تشجيعا لهم، وإنكارا عليهم حالهم بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ في قوله تعالى (بلى) بعد (ألن). ما يفيد أن الكفاية حاصلة بالثلاثة آلاف، بل لملك واحد كاف لخراب العالم كله، فضلا عن نصرة المؤمنين، ولكنه مزيد التطمين، وزيادة الرعاية. والمعنى: الثلاثة آلاف تكفيكم، ولكم خمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم، أو معلمة خيلهم، لأن السوم: هو العلامة، وذكر نزول الملائكة في حال مجئ المشركين من فورهم مباشرة، للتطمين إلى أنه مهما أسرع الكافرون في المجئ لقتالكم، فإن نزول الملائكة لا يتأخر عن إتيان الكافرين، بل يأتي مباشرة، فاطمئنوا. وقد رأينا من قبل أن الشعبي يرى أن الخمسة آلاف لم تنزل، القول الثاني وهو لأكثر من مفسر منهم الربيع بن أنس قال: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم ¬

_ (¬1) رواية الشعبي أن كرز بن جابر كان يمد المشركين فبلغ ذلك المسلمين فشق عليهم.

[سورة آل عمران (3): آية 126]

صاروا خمسة آلاف. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي: وما جعل الله إنزال الملائكة، وإعلامكم بإنزالهم، إلا بشرى لكم، وتطييبا لقلوبكم، وتطمينا لها، وإلا فإن النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم؛ فإنه ذو العزة التي لا ترام، والحكمة في قدره وأحكامه، وتكليفه، ونصره أو خذلانه، ومن ثم ختمت الآية بقوله تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. أي: لا من عند المقاتلة، ولا من عند الملائكة. ولكن ذلك كان رحمة بعباده، وتقوية لهم، وإشعارهم أنهم ليسوا وحدهم من خلقه في مقابلة أعداء الله، فهو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يعطي النصر لأوليائه، ويبتليهم بجهاد أعدائه، ثم بين الله- عزّ وجل-لماذا شرع الجهاد والجلاد، ولماذا كلف عباده بالقتال، ولماذا وعدهم بالنصر، وأعطاهم إياه فقال: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أي: ليهلك طائفة من الذين كفروا، أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة؛ فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم، فلا ينالون ما أملوا. وحقيقة الكبت: شدة وهن تقع في القلب، ثم بين الله- عزّ وجل- أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له، وأن علينا الطاعة وهو الفعال لما يريد. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بل الأمر كله لله، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ أي: إما أن يتوب عليهم مما هم فيه من الكفر؛ فيهديهم بعد الضلالة، وإما أن يعذبهم في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم. فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ أي: مستحقون للتعذيب لظلمهم. فصار المعنى: إن الله وحده هو مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شئ، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم، ومجاهدتهم. ثم ختم هذا المقطع كله بقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الجميع ملك له، وأهلها عبيد بين يديه، فليكن رغبتك ورهبتك إليه. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي: هو المتصرف فلا معقب لحكمه، يوفق من شاء للإسلام، ويغفر له إن شاء، ويخذل من يشاء فيعذبه لكفره وضلاله، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. إن غفر فذلك فضله، وإن عذب فذلك عدله. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ سبقت رحمته غضبه، فلا يهلك عليه إلا هالك، إلا من يستحق العذاب والخذلان، ولا يظلم ربك أحدا. فوائد: [1 - كلام عن يوم البدر] 1 - كان يوم بدر يوم الجمعة، في السابع عشر من رمضان من سنة اثنتين للهجرة،

2 - وصف علي بن ابي طالب للملائكة يوم بدر

وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودفع فيه الشرك وأهله. هذا مع قلة المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فيهم فارسان وسبعون بعيرا، والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف، في سوابغ الحديد، والبيض، والعدة الكاملة، والخيل المسومة، والحلي الزائد، والجميع عرب، ليس لأحدهم على الآخر ميزة في تدريب مادي، وإنما ليظهر الله في شأنهم سنته الخاصة في نصرة حزبه على قلة الأسباب المادية. فعلينا معشر المسلمين دائما أن نكون حزب الله ليظهر الله بنا سنته في خذلان الكافرين على كثرتهم، وكثرة ما عندهم، ونصر المؤمنين على قلتهم وضعفهم، واستهانة عدوهم بهم. في أثر صحيح ذكره ابن كثير في هذا المقام: أن المسلمين يوم اليرموك استمدوا عمر. فكتب إليهم: إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على من هو أعز نصرا، وأحصن جندا، الله- عزّ وجل- فاستنصروه، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر في يوم بدر، في أقل من عدتكم. فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال الراوي: «فقاتلناهم فهزمناهم أربع فراسخ». [2 - وصف علي بن ابي طالب للملائكة يوم بدر] 2 - قال علي بن أبي طالب رضي عنه: «كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضا في نواصي خيولهم». وقال ابن عباس: «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى بدر، كانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون». [3 - مما ورد في سبب نزول قوله تعالي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ] 3 - في سبب نزول قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أكثر من رواية وقد يتعدد نزول الآية بتعدد المواقف، فتكون تذكيرا بها بانطباقها على الحالة الجديدة. ومما ورد في سبب نزول هذه الآية: أ- روى البخاري عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم، حتى أنزل الله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... الآية .. وفي حديث رواه الإمام أحمد فيه أسماء هؤلاء: الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وفي نهايته: فتيب عليهم كلهم، أي: فهداهم الله للإسلام. ب- وروى الإمام أحمد ومسلم «عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: «كيف يفلح قوم

فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عزّ وجل!» فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وقد ذكر الألوسي جملة الأقوال في أسباب نزول هذه الآية فلننقلها تتميما للفائدة مع ما فيه من تكرار لبعض ما ذكرناه: «وأخرج غير واحد» أن رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد، أصابها عتبة بن أبي وقاص، وشجه في وجهه، فكان سالم مولى أبي حذيفة أو على كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. «وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية» فنزلت هذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الخ .. فتيب عليهم كلهم. وعن الجبائي أنه صلى الله عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى إنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح، وصلى المسلمون وراءه قعودا، فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية، وقال محمد بن إسحاق. والشعبي: لما رأى صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه، وبعمه حمزة، من جدع الأنوف والآذان، وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد؛ فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية. وهذه الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد، المعول عليه منها أنها بسبب المشركين، وعن مقاتل، «أنها نزلت في أهل بئر معونة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أربعين وقيل: سبعين رجلا من قراء أصحابه، وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أشهر من أحد؛ ليعلموا الناس القرآن والعلم، فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل، قبائل من سليم، من عصية، ورعل، وذكوان، فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك» اهـ.

4 - فائدة حول السياق

4 - فائدة حول السياق: قلنا: إن سورة آل عمران هي تفصيل لما أجمل في مقدمة البقرة، والمقطع الذي بين أيدينا، حدد الله- عزّ وجل- فيه حدود العلاقة بين المؤمنين وغيرهم من الكافرين والمنافقين، وبين فيه أنه لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا بطانة لهم من غيرهم من المنافقين والكافرين. مع تبيان السبب، ونفي كل ما من شأنه أن يدعو إلى مخالفة النهي هذا. وخلال ذلك حلل نفسية الكافرين والمنافقين، وحقيقة ما بأنفسهم تجاهنا، وما قد يخطئ به المسلم إذ يتصور أنه باتخاذه بطانة من غير المسلمين يمكن أن يدفع أذى، أو يستجلب منفعة، فنفى هذا كله، مع التربية على العبودية الكاملة. كلمة فيما مر وسيمر من القسم الرابع: مر معنا من القسم الرابع مقطعان، وبقي مقطع واحد، وقد بدأ القسم بالنهي عن طاعة أهل الكتاب، وبين لنا كل ما نحتاجه من أجل ألا نعطي الطاعة لهم، من تذكير لنا بما يثبتنا على الإيمان، إلى تذكير لنا بالاعتصام بالكتاب، إلى أمر لنا بوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، إلى نهينا عن التفرق، إلى تذكيرنا بأن كيد أهل الكتاب لا يضرنا، وأننا منصورون عليهم، إلى غير ذلك من معان تشكل البديل عن المنفعة المتوهمة في ظن من يظن أن طاعة أهل الكتاب فيها مصلحة، كما بين لنا ما ينبغي أن يكون حائلا بيننا وبين طاعة أهل الكتاب. ثم جاء المقطع الثاني لينهانا أن نتخذ بطانة من دوننا كائنا من كانوا، وبين لنا الأسباب التي يحول بيننا وبين أن نتخذهم بطانة، وذكرنا بما يعين على ذلك فهاتان طائفتان مؤمنتان كادتا أن تفشلا بسبب حسن ظنهم بالمنافقين يوم أحد، ثم إن عصمة الله لهما منعتهما من ذلك، ونصرة الله للمؤمنين يوم بدر ينبغي أن تكون على ذكر منا، بحيث تقتلع من قلوبنا ما يمكن أن نحذره حين لا نتخذ بطانة من دون المؤمنين. ثم ذكرنا الله- عزّ وجل- بحكمته التي تجعله يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، وذلك له تأثيراته في قضية النهي عن اتخاذ بطانة من الكافرين. وبعد ذلك كله، يأتي المقطع الثالث والأخير من القسم الرابع؛ ليبني الجماعة المسلمة بعد أن حذرها في المقطعين السابقين من أخطر قضيتين يمكن أن تتساهل فيهما، طاعة أهل الكتاب، واتخاذ بطانة من دون المؤمنين. فيأتي المقطع الثالث ليأمر بترك

المقطع الثالث من القسم الرابع

الربا، ويأمر بالطاعة لله والرسول، والمسارعة إلى رضوان الله- عزّ وجل- وينهى عن الوهن والحزن، إلى غير ذلك مما سنراه، مما يبين لنا أن الطريق هو هذا، لا في اتخاذكم بطانة من دونكم، أو في طاعتكم لأهل الكتاب، والملاحظ أن النهي عن أكل الربا يأتي في ابتداء المقطع اللاحق، فكأن المقاطع الثلاثة تنبه في آياتها الأولى على النقاط التي يتوهم المسلمون أن فيها مصلحة. ومن نظر إلى ما حدث في عصرنا من طاعة الكثيرين- حكاما ومحكومين- لأهل الكتاب، واتخاذهم بطانة من دون المسلمين، ورؤية كل الحكومات على الأرض الإسلامية تقريبا أن الربا مفيد. من رأى هذا كله أدرك بعض الحكمة في مجئ هذه المعاني في هذا القسم. ومن أدرك أن المقطعين السابقين حددا فيما حددا العلاقة بين أهل التقوى وأهل الكفر والنفاق، أدرك صلة ذلك بمقدمة سورة البقرة. المقطع الثالث من القسم الرابع يمتد هذا المقطع من الآية (130) إلى نهاية الآية (148) وهذا هو: الفقرة الأولى [سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)

الفقرة الثانية

[سورة آل عمران (3): الآيات 136 الى 138] أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) الفقرة الثانية [سورة آل عمران (3): الآيات 139 الى 145] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

كلمة في السياق

[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 148] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) كلمة في السياق: في هذا المقطع فقرتان كل منهما مبدوءة بنهي: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا ..... وفي سياق الفقرة الأولى، صدرت مجموعة أوامر تعمق مفهوم التقوى وتحدد صفات أهلها، وختمت بآية تذكرنا بالآية الأولى في سورة البقرة: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وفي الفقرة الثانية نهي عن الوهن والضعف في أي حالة من الأحوال، وتبيان سنة الله في خلقه وعباده، وتبيان بعض ما يتحقق به المؤمنون، وتأتي هذه التعليمات من خلال عرض ما حدث في وقعة أحد، وتختم هذه الفقرة بتبيان الموقف الصحيح للأنبياء وأتباعهم في صراعهم مع الكفر والكافرين. والفقرة الثانية مرتبطة بالفقرة الأولى، من حيث إن المعاني التي بها لا تتحقق، إلا من خلال التحقق بالمعاني التي رفع الله إليها همم المؤمنين في الفقرة الأولى، وسنرى الارتباط ما بين الآية والآية أثناء التفسير الحرفي للآيات. [تفسير الفقرة الأولى] المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً. فهم كثير من الجهال: أن الربا المنهي عنه هو المضعف، وهذا منتهى الجهل، لأن الله في سورة البقرة قال: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ وإنما هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه، وفي النهي عن الربا المضاعف- مع كون المراد كل الربا- إشارة إلى أن الربا من طبيعته التضعيف المؤدي إلى امتصاص دماء الناس، وإن كانت الآية نازلة بما كان

[سورة آل عمران (3): آية 131]

عليه أهل الجاهلية. فكانوا فى الجاهلية يقولون: إذا حل الدين، إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة، وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. مر معنا في أول سورة البقرة أن المفلحين هم المتقون، وهاهنا أمرنا بالتقوى لتحصيل الفلاح. وقد مر معنا في أول سورة البقرة وصف المتقين، وسيأتي بعد قليل وصف لهم، وسنرى هنا أن أول صفة من صفاتهم الإنفاق في السراء والضراء، وقد رأينا في آخر سورة البقرة كيف جاء تحريم الربا بعد سياق الأمر بالإنفاق. وهاهنا يأتي الأمر بترك الربا، وفي سياقه يأتي الحض على الإنفاق؛ لأن المرابي والربا على طرفي نقيض مع المنفق والإنفاق. والأمر بالتقوى في هذا السياق، وتعليق الفلاح عليها أمر يترك أكل الربا بشكل ضمني، وإشارة إلى عدم الفلاح معه. ثم توعد الله بالنار وحذر منها فقال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. كان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن؛ حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، ثم أتبع ذلك بتعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته، وطاعة رسوله فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال النسفي: «وفيه رد على المرجئة في قولهم «لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلا». وعندنا: غير الكافرين من العصاة قد يدخلها، ولكن عاقبة أمره الجنة. وفي ذكره تعالى (لعل وعسى) فى نحو هذه المواضع- وإن قال أهل التفسير إن لعل وعسى من الله للتحقيق- ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضى الله تعالى، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه، ثم ندبنا تعالى إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات. فقال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ كما أعدت النار للكافرين، أعدت الجنة للمتقين، ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يوصل إليهما من طاعة وإخلاص، جمعة وجماعة. قال ابن كثير: وقد قيل إن في قوله عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تنبيها على اتساع طولها ... وقيل بل عرضها كطولها. لأنها قبة تحت العرش، والشئ المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن»، ثم وصف الله أهل الجنة المتقين فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. أي: في الشدة والرخاء، والصحة

[سورة آل عمران (3): آية 135]

والمرض، في حالة اليسر والعسر، وفي جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حالة مسرة ومضرة. وافتتحت الصفات بذكر الإنفاق لأنه أشق شئ على النفس، وأدله على الإخلاص، ولأن الحاجة دائما شديدة إليه في مجاهدة العدو، ومواساة فقراء المسلمين. وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي والممسكين الغيظ عن الإمضاء، والغيظ: توقد حرارة القلب من الغضب، وكظمه أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر، ولا يظهر له أثرا، فالمتقون إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى كتموه فلم يعلموه، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أي: إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه، فى وصفهم بكظم الغيظ بين تعالى أنهم لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله. وفي هذه الصفة أثبت الله لهم أنهم مع كف الشر يعفون عن من ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، إذ إنه من مقامات المحسنين، ومن ثم ختمت هذه الآية بقوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال الثوري: «الإحسان أن تحسن إلى المسئ، فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة» والإحسان أوسع مدلولا، فهو فعل الحسن، والأحسن مع الإخلاص لله. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الفاحشة: هي الكبيرة كالزنا وشرب الخمر. أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة. فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ فتابوا عنها لقبحها نادمين. والمعنى: أنهم إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي: لا أحد يغفر الذنوب إلا الله، وفي قوله تعالى هذا تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث لها، وردع عن اليأس والقنوط، وبيان لسعة رحمته، وقرب مغفرته من التائب، وإشعار بأن الذنوب وإن جلت، فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا أي: ولم يقيموا على قبيح فعلهم، والإصرار: الإقامة، أي تابوا من ذنوبهم، ورجعوا من قريب، ولم يستمروا على المعصية، ويصروا عليها، ولو تكرر منهم الذنب، تابوا منه. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن من تاب؛ تاب الله عليه. في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال الله- عزّ وجل- عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره، فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي،

[سورة آل عمران (3): آية 136]

ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره لي. فقال عزّ وجل: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال: الله عزّ وجل: عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء». أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر. جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي: بأن يتوب عليهم. وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يعطيهم إياها برحمته ماكثين فيها أبدا. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ يعني: المغفرة والجنات. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي قد مضت من قبلكم قوانين مما سنه الله تعالى، تجري على خلقه بإرادته وقدرته، منها ما هو خاص بالمؤمنين، ومنها ما هو خاص بالأنبياء والمرسلين. وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، هذه السنن مذكورة في الكتاب والسنة، فلا يعرفها إلا عالم بالكتاب والسنة، ومن استكشفها وعلمها، استطاع أن يعرف الحاضر، وأن يتحسس المستقبل، ومن سنة الله أن جعل العاقبة للتقوى والمتقين، وأن جعل الدائرة في النهاية تدور على المكذبين والكافرين ولهذا قال: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي نهاية المكذبين للرسل، من الاستئصال، والهلاك، والعذاب، والهزيمة. وهذه الآية مقدمة لما سيقصه الله علينا من سنن أثناء الكلام الطويل عن غزوة أحد، ودروسها، وما رافقها مما تحتاجه الأمة الإسلامية في كل حين. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ أي: هذا القرآن فيه توضيح لكل ما يحتاجه الناس، كما فيه توضيح لسنن الله التي لا تتخلف، أنعم به على الناس جميعا. وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ومع ما حوى من بيان، ففيه الهداية الكاملة، والإرشاد الكامل للقلوب، والأنفس، والأجسام، وفيه ترغيب، وترهيب، وزجر عن المحارم، ولكن هذا الهدى، وهذه الموعظة لا يستفيد منها إلا المتقون، الذين اتقوا الشرك والمعاصي، وأقبلوا على الله بطاعة أوامره. كلمة حول السياق: لاحظنا أن سورة آل عمران إنما هي تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وتفصيل لما تحتاجه إقامتها من معان. وفي مقدمة سورة البقرة وصف للمتقين. وفي الآية الأولى منها قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وفي آخر الوصف قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

فوائد حول الفقرة السابقة

ومن تأمل الفقرة التي مرت معنا، لاحظ أن الآية الأولى منها ختمت بالفلاح، والآية الأخيرة منها ختمت بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وبين ذلك كلام عن الإنفاق وغيره. والآية الأخيرة ذكرتنا بالهداية والموعظة الموجودتين في هذا القرآن، لتستعد الأنفس لتلقي الهداية، والموعظة الموجودتين في الفقرة الثانية من هذا المقطع، والتي هي دروس لأهل الإيمان من خلال تجربة عملية هي ما جرى يوم أحد. فوائد حول الفقرة السابقة: 1 - روى البزار عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أرأيت قوله تعالى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شئ فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزّ وجل». قال ابن كثير وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان. الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش، كما قال الله عزّ وجل: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار. اهـ ويمكن أن نعبر عن المسألة بشكل أبسط، لو افترضنا أن السموات السبع كروية، وبعضها داخل بعض، فالسماء السابعة محيطها أكبر من قطرها، وكون الجنة عليها لا يعني أنه لم يبق مكان للنار، لأن في داخلها عوالم من السموات والأرض، فأي حماقة تلك، حماقة الذي يتصور أن سعة الجنة تقتضي ألا يبقى مكان للنار أو لغيرها. 2 - بمناسبة قوله تعالى وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ نذكر الأحاديث التالية: أ- روى الإمام أحمد: قال رجل: يا رسول الله أوصني قال: «لا تغضب»، قال الرجل ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.

ب- ومن حديث رواه الإمام أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما الصرعة؟ قالوا: الصريع الذي لا تصرعه الرجال، فقال صلى الله عليه وسلم: الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه». ح- روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انظر معسرا أو وضع عنه؛ وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة- ثلاثا-، ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتنة، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا». د- روى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء» ورواه أبو داود والترمذي وقال عنه حسن غريب. هـ- وعن الإمام أحمد عنه عليه السلام: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو قادر عليه- قال بشر (أحد رواة الحديث): أحسبه قال تواضعا- كساه الله حلة الكرامة، ومن توج لله كساه الله تاج الملك». و- روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» اهـ. وأغضب ناس أبا ذر، وكان قائما فجلس، فقيل له: يا أبا ذر: لم جلست؟ ثم اضطجعت؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» والقصة في مسند الإمام أحمد. ز- وقد وردت السنة في الاستعاذة عند الغضب. ح- وفى حديث رواه الحاكم، وقال عنه: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه: «من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه».

ط- وذكر ابن كثير حديثا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس، هلموا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة». 3 - وبمناسبة قوله تعالى: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ نذكر هذه الأحاديث: أ- روى الإمام أحمد وغيره، والحديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يذنب ذنبا، فيتوضأ، ويحسن الوضوء- قال مسعر- فيصلي- وقال سفيان- ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله- عزّ وجل- إلا غفر له». ب- وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال تعالى: «وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ح- روى الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال: «اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله». د- وروى أبو يعلى في مسنده وغيره، والحديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. هـ- وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون». و- وبمناسبة قوله تعالى وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يقول الألوسي: ثم إن في هذه الآيات- على ما ذهب إليه المعظم- دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات: متقين، وتائبين، ومصرين، وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم، ويدخلون الجنة، وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا، لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عند بعض، ودال على المخالفة عند آخرين، وكفى في تحقيقها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء، وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه مفصلا- ويا له من فضيحة- وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين، على

تفسير الفقرة الثانية

أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر؛ وكذلك المغفرة، أما نفي التفضل بهما فلا. ز- وفي أسباب نزول الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً .... يقول الألوسي: وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر الآية. وفي رواية الكلبي «أن رجلين أنصاريا، وثقفيا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فكانا لا يفترقان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وخرج معه الثقفي، وخلف الأنصاري في أهله وحاجته، فكان يتعهد أهل الثقفي، فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه، وقد اغتسلت، وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه، فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها، فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبل ظاهر كفها، ثم ندم واستحيا، فأدبر راجعا فقالت: سبحان الله تعالى، خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصل إلى حاجتك قال: وندم على صنيعه؛ فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه، حتى وافى الثقفي، فأخبرته أهله بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له: قم يا فلان فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك، لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة، فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا إلى قوله سبحانه وتعالى: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «بل للناس عامة». وفي رواية عطاء عن ابن عباس، أن تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية. «وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول». [تفسير الفقرة الثانية] ولننتقل الآن إلى الفقرة الثانية في هذا المقطع، وقد رأينا صلتها بما قبلها، ومحلها في السياق القرآني العام، ومناسبة النزول هي وقعة أحد. وَلا تَهِنُوا أي: ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم أو يصيبكم وَلا

[سورة آل عمران (3): آية 140]

تَحْزَنُوا على ما فاتكم، أو يفوتكم، أو أصابكم، أو يصيبكم في سبيل الله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: والحال أنكم أعلى منهم وأغلب إن صح إيمانكم، وهذه بشارة للمؤمنين بالعلو، والغلبة، والنصر، والظفر، في العاقبة. والآية تفيد أن صحة الإيمان توجب قوة القلب، والثقة بوعد الله، وقلة المبالاة بأعدائه إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ القرح: الجراحة في الأصل فالمعنى: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل وأذى، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك، من قتل وجراح. أو إن نالوا منكم يوم أحد، فقد نلتم منهم قبله يوم بدر. ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال، فأنتم أولى ألا تضعفوا. والنص وإن كان بمناسبة أحد، وبمناسبة معركة، فهو أعم من أن يكون في أحد خاصة، أو في القتال خاصة. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أي: نصرفها، وهذه من سنن الله، يديل المؤمنين تارة، ويديل الكافرين تارة، وإن كانت العاقبة للمؤمنين، ويصرف ما في هذا العالم من نعم ونقم، فيعطي لهؤلاء تارة، وطورا لهؤلاء؛ لضروب من الحكم قد تعلم، وقد لا تعلم، ومن جملة هذه الحكم وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ، ذكر هنا أربع حكم، وذكر قبلها الواو ليفيد أن هناك حكما أخرى. أما قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فقد فسره ابن عباس بمعنى: لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء. وقال النسفي: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم، كما علمهم قبل الوجود، هذه هي الحكمة الأولى لمداولة الأيام بين الناس تبيان المؤمن الذي يثبت على الإيمان في كل الظروف. والحكمة الثانية هي قوله تعالى وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يحتمل معنيين: الأول- وهو المتبادر- ليكرم ناسا منكم بالشهادة حين يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم من أجله، وفي سبيل مرضاته، والثاني ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة. ولولا أن الأيام دول ما ظهر فضل أهل الفضل، الذين يبذلون المهج، أو يستقيمون في كل حال داعين إلى المنهج، وبعد أن ذكر هاتين الحكمتين لجعله الأيام دولا، وقبل أن يذكر الحكمتين الأخيرتين جعل بين ذلك- قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. أي: والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان، المجاهدين الباذلين أرواحهم في سبيله. أشعر ذكر الظالمين في ختام الآية أن من ليس مؤمنا مجاهدا فهو ظالم، فالظلم هنا للنفس يدخل فيه: الكفر، والنفاق، ويدخل فيه القعود عن الجهاد، وعدم

[سورة آل عمران (3): آية 141]

الاستقامة على أمر الله. ثم ذكر الحكمة الثالثة والرابعة، في جعله الأيام دولا: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ التمحيص: هو التطهير والتصفية، والمحق: هو الإهلاك، فصار المعنى: إن جعل الله الدولة على المؤمنين فللتمييز، والاستشهاد، والتمحيص، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم. ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري حيث الدولة على الإسلام والمسلمين، فمن منا الذي يستحق كرامة الله؛ فيثبت على الإيمان، ويبذل مهجته من أجل الإسلام، ويبقى في الصف الإيماني الإسلامي على ما أصابه؛ لتطهر بذلك نفسه، وتزكو وترتفع درجاته، ويعمل لمحق الكافرين، واستئصالهم، وكسر شوكتهم، لتكون الدولة للمسلمين؟ نسأل الله أن نكون من هؤلاء؛ لنكون من الطائفة الظاهرة، التي لا يضرها من خالفها وخذلها إلى يوم القيامة. ثم صحح الله مفهوما خاطئا، وتصورا مغلوطا يقع فيه كثير من الناس، وحتى ممن يظنون أنفسهم في الذروة من المسلمين، هذا التصور: أنه بلا جهاد وصبر يمكن أن يدخلوا الجنة. قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. أم هنا تفيد الإنكار. ففي الآية إذن إنكار على من يظن أن دخول الجنة يكون بلا جهاد وصبر، أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء، أو بتعبير آخر: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما تجاهدوا وتصبروا. ولما في الآية بمعني: لم، إلا أن فيها ضربا من التهييج على الجهاد، والصبر من حيث كونه متوقعا، ومنتظرا من المؤمنين، وفي هذا السياق يأتي معنى جديد مرتبط بما قبله كل الارتباط، فلنذكر شيئا عن السياق: الآيات التي نشرحها الآن جاءت في سياق النهي عن الوهن والحزن في حالة هزيمتنا، وكون الدولة علينا، من خلال ما حدث للمسلمين يوم أحد، وفي هذا السياق بين الله الحكمة في جعله الأيام دولا، وصحح مفهوما خاطئا يمكن أن نقع فيه حول تصور دخول الجنة، وفي هذا السياق تأتي الآن مجموعة من الآيات تصور حال الجماعة الإسلامية كما ينبغى أن تكون في حالة قتل زعمائها، المتمثلين بالأنبياء والرسل وخلفائهم ووراثهم من بعدهم إلى يومنا هذا، وكيف أن هذا القتل لا ينبغي أن يؤثر على الاستمرار والمتابعة. وخلال ذلك ينكر الله- عزّ وجل- على من يرتد بعد قتل رسوله أو موته، وهذا كله يأتي في سياق دروس أحد، فلنر الآيات

[سورة آل عمران (3): آية 143]

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. في هذه الآية مجموعة أمور منها: أن هذا الخطاب ابتداء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد، وقد كان هذا حالهم قبل أحد، أي: قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتتحرقون عليه، وتودون مناجزتهم، ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا، وصابروا. ورؤيتهم الموت: معاينتهم له حين قتل إخوانهم بين أيديهم، وشارفوا أن يقتلوا. وفي الآية نوع من التوبيخ، إذ إن تمنيهم الموت تجاوز الحد المراد، ولم يعط حقه إذ جاء حقه؛ والأصل أن المسلم يتمنى الشهادة؛ لينال كرامة الشهداء، من غير قصد إلى ما يتضمنه قتله من غلبة الكفار، بل لينتصر الإسلام، كمن شرب الدواء من طبيب غير مسلم، فإن قصده حصول الشفاء، ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو لله، وتمني الشهادة شئ، وتمني الموت شئ آخر، وتمني لقاء العدو شئ مختلف عنهما. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما ثبت فى الصحيحين: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» والصحابة قبيل أحد حرصوا على الموت، حتى حملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- نزولا على الشورى، أن يخرج للقتال خارج المدينة، ولم يكن ذلك رأيه صلى الله عليه وسلم، ثم انهزم قسم كبير عنه. والخطاب وإن كان للصحابة ممن رافق الحادثة، فهو درس للمسلمين في كل عصر ومصر، ينبغي أن يحبوا الشهادة، ولكن الحرص على الشهادة ينبغي أن يرافقه قرار نابع من محض المصلحة. ولما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدا! وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه، وشاع بين المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فحصل ضعف ووهن، أعطى الله المسلمين درسا في ذلك: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي: قد مضت من قبله الرسل فسيخلوا كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة، وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه، فيتعلق بوجوده قيامهم بالجهاد، وبأمر الله. فإذا مات ترك ذلك ولذلك أنكر الله- عزّ وجل- على من حصل له ضعف فقال: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي: رجعتم القهقرى، والهمزة تفيد الإنكار أن يجعلوا خلو الرسول سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أن خلو الرسل قبله لم يؤثر على بقاء دينهم متمسكا

[سورة آل عمران (3): آية 145]

به، والانقلاب على الأعقاب مجاز عن الارتداد أو عن الانهزام. وأفادت الآية جواز القتل على الرسل، فما أجهل الذين يرون القتل في سبيل الله علامة على خطأ السير. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أي: ومن يرتدد. فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنما يضر نفسه. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي: الذين لم ينقلبوا، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام في ثباتهم على كل حال، وقيامهم بطاعة الله، وقتالهم عن دينهم، واتباعهم رسوله حيا وميتا. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا أي: كتب الموت كتابا مؤقتا، له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. فصار المعنى: وما جاز لنفس أن تموت إلا بعلم الله، وإرادته، وقدرته، أو بإذنه لملك الموت أن يقبضها إذا انتهت المدة المحددة لها، فلا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله. يفهم من هذا كله أن موت الأنفس لا يكون إلا بمشيئة الله. وفي ذلك تحريض على الجهاد، وتشجيع على لقاء العدو، وإعلام بأن الحذر المؤدي إلى معصية الله لا ينفع، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك. وإذا كان الأمر كذلك فكيف ترتدون على الأعقاب إذا قتل أو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف لا تستمرون على دينه؟. وإذ كان الثبات وعدمه مرتبطين بالإيمان بالآخرة، ختم الله الآية بقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي: من كان عمله للدنيا فقط ناله منها مما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها أي: ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها، وما قسم له في الدنيا ناله .. وفي الآية تعريض مباشر بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، وتحذير لكل مسلم أن تكون الدنيا مؤثرة عنده على الآخرة، فيترك الإسلام قولا أو عملا من أجل دنيا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذين يثبتون على دين الله، قولا وعملا واعتقادا، أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا. ثم بين الله- عزّ وجل- الموقف الصحيح في مثل هذه الظروف من خلال مواقف الأنبياء السابقين وأتباعهم. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الربيون: هم الربانيون، قال الحسن في تفسير الآية: علماء كثير، وقال: علماء صبر، وفسرها ابن كثير فقال: أي أبرار أتقياء. ومآل المعنى كما اختاره ابن جرير: كم من نبي قتل،

[سورة آل عمران (3): آية 147]

وقتل معه ربيون من أصحابه كثير فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: فما فتروا عند قتل نبيهم للذي أصابهم في سبيل الله وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعد قتل نبيهم. وَمَا اسْتَكانُوا أي: وما ضعفوا لعدوهم، ولا ذلوا له، بل استمر من بقي منهم على الجهاد، والعزة، والإسلام، وفي هذا نوع تعريض بما أصاب الصحابة من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستكانة بعضهم حتى أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على الإسلام وجهاد أعدائه. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا الدعاء الآتي الذي فيه إضافة الذنوب إلى أنفسهم، مع كونهم ربانيين، هضما لها، وفيه منتهى الافتقار، والتذلل لله، ليثبتهم على ما يحبه: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي: تجاوزنا حد العبودية وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: في القتال والمواقف وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ بالغلبة، وقدموا الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في موطن الحرب والنصرة على الأعداء؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، لما فيه من الخضوع والاستكانة. وقوله تعالى في الابتداء وَما كانَ قَوْلَهُمْ يوحي أنه لم يكن لهم من دأب وعادة إلا كثرة الذكر بهذا الدعاء، فاستحقوا في مقابل ذلك ما ذكره الله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا أي: أعطاهم النصرة، والظفر، والغنيمة، والعاقبة. وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي: أعطاهم في الآخرة المغفرة والجنة، فجمع لهم خيري الدنيا والآخرة، وقال: ثواب الدنيا بينما قال: وحسن ثواب الآخرة ليدل على فضل ثواب الآخرة، وتقدمه، وكونه المعتد به، ولذلك وصفه بالحسن. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ دلت نهاية الآية على أن من كان كذلك فهم المحسنون، وهم الذين يحبهم الله، فما أجهل من لم يعرف أن مثل هذا من الإحسان. فوائد: 1 - لئن كان بعض الصحابة قد وهنوا يوم أحد، فإن بعضهم قد ضرب أروع أمثال البطولة، ونذكر هنا مثالا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه «دلائل النبوة»: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط بدمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري إن كان محمد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ...

2 - ذكر ابن كثير عن ابن عباس «أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه، ووارثه، فمن أحق به مني». 3 - عند قوله تعالى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا. قال الألوسي: «وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين: إن المقتول ميت بأجله أي: بوقته المقدر له، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت؛ لأن القتل فعل العبد؛ والموت فعل الله سبحانه أي: مفعوله وأثر صفته، وأن للمقتول أجلين: أحدهما القتل، والآخر الموت، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، وذهب أبو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت» اهـ. أقول: مذهب المعتزلة في هذا الشأن نموذج على ترك المحكم إلى المتشابه فالنصوص في هذا الشأن في غاية الوضوح كما نرى فإن تترك لنصوص تحتمل أكثر من معنى فذلك خطأ. 4 - في قراءة ورش وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ وعليها الوقوف، ثم مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وهذا يدل على ما ذهبنا إليه في التفسير أن الذى قتل هو النبي، ومعه طائفة من أصحابه، فاستمر الباقون على أمر الله. وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثنا دينه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين الشاكرين المحسنين. 5 - استشهد أبو بكر بقوله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ... الآية يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الآية خير عزاء، وقصة ذلك كما ذكرها البخاري: أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل- أي يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله وهو مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين: أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها.

كلمة في القسم الرابع

وقال الزهري: «وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس وقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر: أما بعد؛ من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إلى قوله وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض». 6 - قد مر معنا ارتباط هذا المقطع بالسياق القرآني العام، وقد رأينا أن المقطع يفصل في بعض أخلاق المؤمنين والمتقين، ويعلمهم كيف ينبغي أن يكونوا في مواقفهم العامة، وفي صراعهم مع الكافرين. كلمة في القسم الرابع: 1 - يلاحظ أن هذا القسم بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ... لاحظ كلمة يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. ثم لاحظ أن آخر مجموعة فيه هي قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. فما بين بداية القسم ونهايته ارتباط واضح، من خلال الكلام عن الردة بعد الإيمان. فالقسم فيه تثبيت لأهل الإسلام بالبقاء على الإسلام، من خلال ترك ما يؤدي إلى الردة، وفعل ما يثبت على الهداية، وعلى ضوء ذلك علينا أن نفهم المسرى العام لآيات هذا القسم من كون الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق فيه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم اتخاذ بطانة من دون المؤمنين، وترك الربا، وطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والتحقق بصفات المتقين، وترك الوهن والحزن. على أن ذلك كله وغيره مما مر في هذا القسم لا بد منه للثبات على الإسلام. 2 - ولقد مر معنا أثناء عرض مقاطع القسم ما يدل على أن هذا القسم كغيره من أقسام سورة آل عمران، إنما هو تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في سورة البقرة. ولو أردنا أن نذكر هنا ما يدل على ذلك فإننا نخشى أن يمل القارئ

ولذلك فإننا نكتفي بأن نقول: إن سورة البقرة بدأت بمقدمة تتحدث عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، ثم جاء القسم الأول والثاني فيها ليحكما بناء التقوى وأركانها، حتى إذا استقرت التقوى وقامت، جاء القسم الثالث آمرا بالدخول في الإسلام كله، كل ذلك رأيناه أثناء تفسير سورة البقرة. وجاءت بعد ذلك سورة آل عمران؛ لتفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتداداتها ضمن سياقها الخاص، فأرست الأسس النظرية في أقسامها الثلاثة الأولى؛ لتتوجه بعد ذلك لعملية البناء للمجتمع الإسلامي؛ من خلال الحركة والصراع، ومن خلال الدروس اليومية؛ والتوجيه المباشر. وقد رأينا كيف تكرر كثيرا اشتقاق الفلاح والتقوى، ونلاحظ أن الآية الأولى في القسم الخامس تنتهي بقوله تعالى فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ وأن الآية الأخيرة في القسم والسورة تنتهي بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إن القسمين الأخيرين في السورة يوضحان لنا طريق الفلاح، ويجنباننا طريق الخسران الذي هو ضد الفلاح، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة لا تخفى.

القسم الخامس

القسم الخامس يمتد القسم الخامس من الآية (149) إلى نهاية السورة، أي إلى نهاية الآية (200)، يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وينتهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ويتألف من أربعة مقاطع: المقطع الأول: وفيه نهي عن طاعة الكافرين، ووعد من الله بأنه سيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب. وينصرنا عليهم، ثم تعليل لما حدث يوم أحد مما ظاهره يتعارض مع هذا الوعد. وفي هذا المقطع يرد عرض لصور مما حدث يوم أحد. المقطع الثاني: وفيه نهي عن أن يقول المؤمنون عن إخوانهم الذين قتلوا. لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا. وفي المقطع كذلك دروس من غزوة أحد. المقطع الثالث: وفيه تصحيح للتصورات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. المقطع الرابع: وفيه تعليمات وتوجيهات وتربية لأهل الإيمان. وفي هذا القسم، تبرز بشكل واضح طريقة التربية من خلال الواقع، ومن خلال المحاسبة على الخطأ. ففي سياق المعاني التي تشكل مسرى السورة تعرض صور مما حدث يوم أحد، ليأخذ المسلمون دروسها. وسنرى ما في القسم من تسلسل ومعان أثناء عرض مقاطعه، وهاهنا نذكر بما يذكر بصلة هذا القسم ببقية سورة آل عمران، وبمقدمة سورة البقرة. في القسم السابق على هذا القسم نهينا عن طاعة أهل الكتاب، وفى هذا القسم، نهينا عن طاعة الكافرين مطلقا، مع وعد من الله- عزّ وجل- بالنصر على الكافرين، وبهذه المناسبة قد يتساءل متسائل: وماذا حدث يوم أحد؟ وهاهنا يأتي السياق ليحدثنا عن دروس أحد، وهو بذلك يعرض علينا شروط النصر الرباني.

ويأتي المقطع الثاني لينهانا عن خلق من أخلاق الكافرين، ويحررنا من تصوراتهم. ويأتي المقطع الثالث ليصحح تصوراتنا عن كثير من القضايا. ثم يأتي المقطع الرابع ليدفع الهمم إلى كمالات عليا. فالقسم الخامس امتداد للمقطع الرابع، وإذا كان القسم الرابع قد بني على الأقسام الثلاثة السابقة عليه، فإن القسم الخامس قد بني على الأقسام الأربعة السابقة عليه. وإذا كانت مقدمة سورة البقرة قد ذكرت المتقين، والكافرين، والمنافقين، فإن هذا القسم يفصل في أخلاق المتقين، والكافرين، والمنافقين، ويحذر من أخلاق الكافرين، والمنافقين، ويفصل في صفات المتقين، ويحظر على المسلم أن يتابع الكافرين أو يوافقهم في أقوال أو تصرفات، ويحدد العلاقات بين أهل الإيمان، وأهل الكفر. وسنرى بالتفصيل أثناء عرض المقاطع كيف أن القسم فصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها ولنبدأ عرض المقطع الأول في القسم.

المقطع الأول

المقطع الأول يبدأ المقطع الأول بالنهي عن طاعة الكافرين، ويعد المسلمين بالنصر على الكافرين. فهو إذن يحدد العلاقات بين المؤمنين والكافرين، وتبين مقدمة المقطع أن طاعة الكافرين توصل إلى الردة عن الإسلام. فالصلة بين مقدمة المقطع وبين المجموعة السابقة عليه واضحة، إذ المجموعة السابقة تقول: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فالآيات تنبهنا على كل ما يؤدي إلى الردة، وفيها وعد بالنصر، ثم تبين تتمة المقطع شروط النصر من خلال ما حدث يوم أحد، فيوم أحد صدق الله وعده، فنصر المسلمين ولكن ماذا فعل المسلمون؟ لقد ارتكبوا مجموعة أخطاء أدت بهم إلى الفشل، وإذن فالوعد بالنصر على الكافرين مشروط بشروط، ولذلك ختم المقطع بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. يبدأ المقطع بالآية (149) وينتهي بنهاية الآية (155). وهو يتألف من مقدمة وفقرة وهذا هو المقطع:- «المقدمة» [سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 151] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) «الفقرة» [سورة آل عمران (3): آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

كلمة في السياق

[سورة آل عمران (3): الآيات 152 الى 155] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) *** كلمة في السياق: في هذه الآيات حذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الخسران في الدنيا والآخرة، ثم أمرهم بطاعته وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم، والذلة لهم بسبب كفرهم، وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال. ثم ذكر

المعني الحرفي لمقدمة المقطع ومقدمة القسم

الله- عزّ وجل- بعض ما حدث يوم أحد، وبعض دروس معركته. والمناسبة بين هذه الدروس، وبين هذه المقدمة: أن يوم أحد حدث فيه نوع هزيمة للمسلمين. فما أسباب هذه الهزيمة مع قيام وعد الله بنصرة أوليائه؟ يذكر الله- عزّ وجل- أسباب ذلك: الجبن، وعصيان الأوامر، والخلل في نية طلب الآخرة. ومع هذا كله فإن الله ما تخلى عنهم، بل تولاهم، بأن أحاط هذه الهزيمة بكل لطف، وتوج هذا كله بالعفو عما حدث، وعرض خلال هذا حالات، ومواقف للمنافقين، والمؤمنين، وبين أسباب الزلل. وسنرى هذا كله أثناء استعراض المعنى الحرفي للآيات، والصلة فيما بينها، ومحلها من السياق القرآني العام. المعني الحرفي لمقدمة المقطع ومقدمة القسم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا دخل في ذلك كل الكافرين والمنافقين، فبعد أن خصص في آية سابقة طاعة أهل الكتاب، فنهى عنها وحذر منها، يحذر هاهنا المؤمنين من طاعة كل أصناف الكافرين، والنفاق شر أنواع الكفر، ويبين النتيجة يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. أي: يرجعونكم إلى الكفر، إلى الجاهلية، إلى الفسوق، إلى النفاق، إلى الشرك. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. أي: فتخسروا الدنيا والآخرة. فعلى المؤمنين إذن أن يجانبوا الكافرين، والمنافقين، ولا يطيعوهم في شئ حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم. وإذا كان سبب طاعة الكافرين، رغبة في النصرة، أو رغبة في الرعاية، أو رغبة في كسب القلوب، بين الله- عزّ وجل- في الآية: أن نصرته وولايته خير من نصرة وولاية غيره فقال: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ. أي: ناصركم فاستغنوا به عن نصرة غيره، لأنه وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. فلا نصرة مثل نصرته، ولا ناصر مثله، بل هو الناصر الحقيقي لأن غيره قد يريد منفعتك فيضرك، أما هو فهو العالم بكل شئ، فإذا نصرك نصرك .. ومن مظاهر نصره وتوليته، ما بشرهم به بقوله سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وهذا من أعظم مظاهر النصرة، إذ من المعلوم أن الجيوش التي تفقد معنوياتها لا تستطيع أن تقاتل، ولا تستطيع أن تستعمل سلاحها. وقد أعطانا الله ذلك على الكافرين بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً. أى: بسبب شركهم، وما من كافر إلا وهو مشرك نوع شرك، والملحد يشرك بالله هذا الكون كله، إذ يخلع عليه صفات

فوائد

الألوهية. والسلطان في الآية: الحجة، ولا تعني الآية أن للشرك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم، لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة، وإنما المراد نفي الحجة، ونزولها جميعا، ومن الآية نعلم أن هذا الوعد من الله لنا بسبب إيماننا، وكفر غيرنا، فإذا جمعنا وإياهم الكفر- والعياذ بالله- لم يبق وعد. وهاهنا ملاحظة، لطيفة وهي أن هذا الوعد جاء بعد النهي عن طاعة الكافرين، وترتيب الردة على هذه الطاعة، مما يدل على أن هذا الوعد لا يكون لنا إذا أعطينا طاعتنا للكافرين؛ لما يترتب على ذلك من ردة، وانظر واقعنا الحالي إذ ارتد من ارتد منا؛ بسبب إعطائه الطاعة للكافرين، وانظر جرأة اليهود، وغيرهم من الكافرين علينا، وخذلاننا بسبب من ذلك. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- أنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، بين جزاءهم الأخروي فقال: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ. هذا ما ادخره الله للكافرين في الآخرة، من العذاب، والنكال، أن النار مقرهم ومرجعهم، وبئس هذا المقر للظالمين. دل أن الكفر ظلم بل هو أعظم الظلم، وأي ظلم أكبر من ظلم الله الخالق المنعم، ومن ثم استحق الكافر الخلود الأبدي في سجن جهنم. فوائد: 1 - ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». 2 - يقول صاحب الظلال في الآية التي بدأ بها القسم: «يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة. فيها الانقلاب على الأعقاب بعد الكفر. فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار، ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه كافرا- والعياذ بالله- ومحال أن يقف سلبيا بين بين، محافظا على موقفه، ومحتفظا بدينه .. إنه قد يخيل إليه هذا .. يخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح، أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين، وأن يسالمهم ويطيعهم، وهو مع هذا محتفظ بدينه،

كلمة في السياق

وعقيدته، وإيمانه، وكيانه! وهو وهم كبير. فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يتخاذل ويتقهقر، ويرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والطغيان لا بد أن يتخاذل، ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين، والاستماع إليهم، والثقة بهم، يتنازل- في الحقيقة- عن عقيدته، وأن يستمع إلى وسوستهم، وأن يطيع توجيهاتهم .. الهزيمة بادئ ذي بدء. فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية، والارتداد على عقبيه إلى الكفر، ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس .. إن المؤمن يجد في عقيدته، وفي قيادته، غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته. فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب .. حقيقة فطرية وحقيقة واقعية، ينبه الله المؤمنين لها، ويحذرهم إياها، وهو يناديهم باسم الإيمان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. اهـ. كلمة في السياق: لقد جاءت مقدمة القسم الخامس وهي نفسها مقدمة المقطع الأول، وفيها نهي عن طاعة الكافرين، وإعلام بولاية الله لنا، ونصرته إيانا، وفيها وعد بإلقاء الرعب في قلوب أعدائنا، وهي معان مرتبط بعضها ببعض، فكثيرا ما يحدث أن يتوهم المتوهمون أن الكافرين غالبون، وأن في قلوبهم خيرا، وأننا نحتاج إلى نصرتهم وتوليهم، فجاءت الآيات تنهى عن طاعتهم، وتبين أن الله هو المولى وهو الناصر، وأنه سيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فمعاني المقدمة إذن متلاحمة مترابطة، وبعد المقدمة تأتي فقرة تتحدث عما حدث يوم أحد، فما الصلة بين الفقرة وبين ما سبقها؟ في المقدمة وعد بالنصر، وقد حدثت يوم أحد هزيمة فما السبب؟ نلاحظ أن الفقرة تبدأ بقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وإذن فبين الفقرة اللاحقة والآيات السابقة صلة، هذه الصلة يكشفها لنا السياق شيئا فشيئا، ففيها يأتي تعليل لما حدث يوم أحد، مما نستبين منه أن وعد الله لنا بالنصر، والمعونة، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائنا، معلق بشروط فلنر ذلك من خلال السياق. المعنى الحرفي للفقرة: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ الحس: القتل، ووعد الله:

موعوده للمؤمنين بالنصر من مثل قوله تعالى وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ. ومن مثل قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ومعنى الآية. ولقد صدقكم الله وعده بالنصر والغلبة يوم أحد، إذ كان عدوكم ثلاثة آلاف، وأنتم ما بين الستمائة إلى السبعمائة، إذ تقتلون أعداءكم قتلا ذريعا بتسليط الله إياكم عليهم، قال ابن عباس: وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المشركون جولة نحو الجبل (أى هاربين). وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه كما يرويه ابن إسحاق: «والله لقد رأيتني انظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب». فهذا تحقيق قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: حقق لكم ما وعدكم به، وهذا جواب تساؤل. قال النسفي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فنزل (أي هذه الآيات وما بعدها). وقبل أن نبدأ باستعراض الأسباب التي أدت إلى الهزيمة، نحب أن نذكر فكرة سريعة تكون كمقدمة للدروس التي سنأخذها من هذا السياق من خلال عبرة أحد: فى معركة بدر انتصرت القلة على الكثرة، رغم تفوق الكثرة على القلة بالعدة والعتاد، والعبرة التى نأخذها من هذا أن قوانين النصر المادية من تفوق بالعدة والعدد والتدريب والسلاح والقيادة، وفن القتال، وأمثال ذلك، لا تعمل عملها إذا وجد جند الله، ولا يعني هذا أن جند الله يهملون!، لا بل عليهم أن يبذلوا جهدهم في كل شئ، ويدخلوا المعركة متوكلين على الله ليظهر الله فيهم سنته الأخرى؛ إذ وجد جنده، حيث ينصر جنده على تخلف عندهم في عالم الأسباب، مع عدم تقصيرهم في الأخذ بها، ومع عدم اعتمادهم عليها. ولكن هذا متوقف على توفر شروط الجندية الكاملة لله، من قيادة ربانية، وجند رباني، وطاعة في الله، وتقوى خاصة وعامة وغير ذلك مما سنراه. وفي معركة أحد تخلف عن جند الله النصر بعد أن أعطوه في ابتداء الأمر لخلل- كما سنرى- في الانضباط والنيات. فحلت بهم الهزيمة، فدل ذلك على أن وعد الله للمؤمنين بالنصر مشروط بقيام المؤمنين بأوامر الله في كل شئونهم. ومن ثم فقد تركت هاتان المعركتان آثارهما في نفوس المسلمين إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض.

فما من معركة بعد هاتين المعركتين إلا وعبرتاهما ماثلتان: حقق أمر الله فيك، وقاتل العالم، وإذا لم تفعل فليس لك قبل بأحد، لأن العالم في القوانين المادية أقوى منك، فلنتذكر هذا ولنرجع إلى السياق حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي جبنتم وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي: اختلفتم في التنفيذ الكامل لأمر رسولكم، إذ أقام الرماة منكم على الجبل وقال لهم: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأناخوا عسكر المشركين، قال بعض الرماة: قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا، فادخلوا عسكر المشركين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم. وقال بعضهم: لا تخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أمير الرماة عبد الله بن جبير، ومعه نفر دون العشرة، والملاحظ أن الخطاب لجميع المسلمين مع أن الذين تنازعوا هم الرماة فقط، مما يدل على أن الخلل الذي تحدثه مجموعة يسري على الصف كله ومن ثم ينبغي أن يكون الجميع على الغاية في التربية وَعَصَيْتُمْ أي أمر نبيكم بترككم مراكزكم، واشتغالكم بالغنيمة. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الظفر وقهر الكافرين. ثم بين علة العصيان فقال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ الذين يريدون الدنيا: هم الذين تركوا مراكزهم من الرماة، ورغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة. والذين يريدون الآخرة: هم الذين ثبتوا في مراكزهم. فصار المعنى العام في الآية: ولقد حقق الله وعده لكم بالنصر، حتى إذا جبنتم، واختلفتم في تنفيذ الأمر، وعصيتم أمر رسولكم، بسبب خلل نيات بعضكم بأن لم تتمحض للآخرة، منعكم الله نصره. أو المعنى: ولقد حقق الله لكم وعده إلى وقت فشلكم وتنازعكم وعصيانكم، فمنعكم بسبب ذلك نصره. قال: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي: ثم كف معونته عنكم فغلبوكم، وعبر بالصرف على أن الأمر أمره. لِيَبْتَلِيَكُمْ. أي: ليختبركم ويمتحنكم بامتحان صبركم على المصائب وثباتكم عندها، مع علمه- عزّ وجل- ولكن عدله اقتضى أن يجازي العبد على ما يعمله لا على ما يعلمه منه. وإذ كان ما حدث هو التجربة الأولى، والخطيئة الأولى من نوعها، فإنه- عزّ وجل- عامل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بالفضل فقال: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ هذه بشارة من الله لهم، ويدل ذلك على أنهم ندموا وتابوا على ما فرطوا وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بعدم تسليط الكافرين عليهم ليستأصلوهم، وعدم متابعة الكافرين القتال حتى ينهوا أمر المسلمين، وبالعفو وقبول التوبة، وبغير ذلك من أنواع فضله التي لا تحصى، فهو- جل جلاله- متفضل على المؤمنين في جميع الأحوال، سواء أديل

[سورة آل عمران (3): آية 153]

لهم، أو أديل عليهم، غلبوا أو غلبوا، ومن نظر إلى الأمر بعين الحكمة، وبعين مريد الآخرة، علم أن الابتلاء رحمة، كما أن النصرة رحمة، ثم بين الله- عزّ وجل- كيف تم الصرف الذي ذكره بقوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ فقال إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ هذا تصوير حالهم في الهزيمة بمنتهى الاختصار، وبأبلغ تصوير. فما أعظم إعجاز هذا القرآن، ولنر ما حوى هذا الوصف: معنى تصعدون: أي تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض، والإصعاد: الذهاب في صعيد الأرض والإبعاد فيه. وبعضهم فسر الإصعاد: بصعود بعضهم إلى جبل أحد فرارا، والواقع يدل على الأول. قال السدي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة. ومعنى قوله وَلا تَلْوُونَ أي: ولا تلتفتون على أحد، وهو تعبير عن مدى انهزامهم وخوفهم من عدوهم. وقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي: في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي المتأخرة، وهذا يفيد أنهم خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وأنه عليه السلام لم يفر، بل كان- وهو في هذه الحالة- يدعوهم إلى ترك الفرار، وإلى الرجعة والعودة والكرة، كما ورد في السيرة أنه عليه السلام كان يناديهم «إلي عباد الله، إلي عباد الله». فصار المعنى العام: ولقد صرفكم الله عنهم بعد نصره لكم عليهم، فأصبحتم بعد النصر ممعنين في الهرب منهم في كل صعيد من الأرض، لدرجة أن الواحد منكم لم يعد يلتفت على أحد قريب أو بعيد، حبيب أو عظيم، وخلفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وهو يدعوكم ولا تستجيبون، إلا من ثبت معه وهم قليل. هذا حالكم بعد النصر، وكل ذلك إنما كان بسبب الخطأ الذي ارتكب: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي: فجازاكم بالهزيمة وتوابعها، وهذا هو الغم العظيم، بسبب غم وقعتم فيه، وأذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفتكم أمره. ويمكن أن يكون المعنى فجازاكم الله بغم بعد غم، وغم متصل بغم، من الجرح، والقتل، وظفر المشركين، وفوت الغنيمة، والنصر. وأعظم غم أصابهم سوى هذا كله، ما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا كله بسبب الصرف الذي سببه الجبن، والاختلاف، والعصيان، بسبب عدم خلوص نية بعضهم، إذ لم تتمحض للآخرة، فهذه العلة الكبرى قال ابن مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثم بين الله-

[سورة آل عمران (3): آية 154]

عزّ وجل- حكمته البالغة فيما حدث وهو: تمرين المسلمين وتدريبهم على تحمل المصائب، وعدم الجزع لها، وعدم المبالاة بالفائت، فقال: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ. جرعكم الغموم لئلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع. وقال ابن كثير: أي: على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم وَلا ما أَصابَكُمْ أي ولا على مصيبة من المضار من مثل ما حدث لكم هنا من الجراح والقتل. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي: عالم بعملكم لا يخفى عليه شئ من أعمالكم. وهذا ترغيب في الطاعة، وترهيب عن المعصية. وإذ تخلف عن المسلمين نصر الله بسبب ما وقعوا فيه، فإن رحمة الله بالمؤمنين، وتوليه لهم، موجودة، فهم عباده، ولئن منعهم أو سلط عليهم، فلتأديبهم. ومن مظاهر توليه ورحمته ما ذكره الله- عزّ وجل- بعد ما مر. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً. أي: ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. والمعنى أنزل عليكم نعاسا ذا أمنة. ويبدو من السياق أن هذا قد كان بعد المعركة وقبل النفير الذي أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني كما سنرى. ولكن بعض الروايات التي سننقلها في قسم الفوائد، تذكر أن النعاس أصاب المسلمين ليلة المعركة، ويمكن أن يكون النعاس قد أصابهم مرتين، مرة ليلة المعركة ليواجهوا المعركة مستريحين، ومرة بعد المعركة لينسوا آثارها. والذي يدل على أن المراد بالنعاس هنا ما أصابهم بعد المعركة مجئ كلمة (ثم) التي تفيد الترتيب دون التعقيب، وقول المنافقين الآتي: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فكلامهم هذا إنما كان بعد ما حدث للمسلمين من قتل في المعركة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي: هذا النعاس يغشى قسما من المسلمين: وهم أهل الإيمان، واليقين، والثبات، والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله- عزّ وجل- سينصر رسوله، وينجز له مأموله. وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم المنافقون لا يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها، لا هم الدين، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هم الجماعة المسلمة، فهؤلاء لا يغشاهم النعاس من القلق، والجزع، والخوف. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به، فهم يظنون ألا ينصر رسوله وجنده. ظنوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة. ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي: الظن المختص بالملة الجاهلية، أو ظن أهل الجاهلية، أي: لا يظن مثل ذلك الظن، إلا أهل الشرك الجاهلون بالله تعالى:

يَقُولُونَ أي: أهل النفاق والريب في تلك الحال. هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي: هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط، يعنون النصر والغلبة، والسلطان والسيطرة والعز، والجاه، والمنافع. فقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي: قل إن الغلبة، والنصر، والسلطان، كله لله؛ يعطيه من شاء، ويمنعه من شاء. وقد وعد أولياءه أن تكون لهم العاقبة. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ خوفا ورهبة كما قال تعالى في المنافقين. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ (الحشر: 13) ثم بين هذا الذي يخفونه في أنفسهم، ويبدونه لبعضهم. يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان الأمر كما قال محمد صلى الله عليه وسلم. إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وأن أولياءه هم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل منا من قتل في هذه المعركة. روى ابن إسحاق عن الزبير رضي الله عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا هاهنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا لقول معتب، ورواه ابن أبي حاتم. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي: هذا قدر قدره الله- عزّ وجل- وحكم حتم لا محيد عنه، ولا مناص منه. فمن علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة، كما كتب ذلك فى اللوح المحفوظ لم يكن بد من قتله. فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بيوتهم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، أي إلى أمكنة مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون. والمعنى: أن الله كتب في اللوح المحفوظ قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- نموذجا من كلام المنافقين، وبين دخيلة أنفسهم، بين بعد هذا أن من جملة الحكم فيما حدث يوم أحد للمسلمين اختبار ما في الصدور، وتمحيص ما في القلوب، وهو أعلم فقال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي فعل ذلك ليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان، وذكر الواو في ابتداء بيان الحكمتين يشعر بأن مع هاتين الحكمتين حكما أخرى. فالمعنى إذن فعل ذلك لمصالح جمة، وللابتلاء والتمحيص الذي هو التمييز. نفهم من ذلك أنه يستخرج ما

[سورة آل عمران (3): آية 155]

في الصدور، ويعرف ما في القلوب على الحقيقة في لحظات المحن، فهي محك الإيمان. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفياتها وما يختلج فيها من السرائر والضمائر. ثم بين الله- عزّ وجل- علة ما حدث، وهو المعاصي التي كان يواقعها من يواقعها منهم. مما يدل على أن الطاعة قبل المعركة والتوبة قبل المعركة، عاملان من عوامل الثبات فيها فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي: إن الذين انهزموا منكم- دل ذلك على أن محمدا والصفوة لم ينهزموا- يوم التقى جمع المسلمين بجمع المشركين يوم أحد. إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي: إنما دعاهم الشيطان إلى الزلة، وحملهم عليها ببعض ذنوبهم السالفة، وهل المراد بذلك ذنب من عصى يوم المعركة بتركه مركزه في القتال، أو المراد ذنوب قبل ذلك، قولان للمفسرين: قال بعض السلف: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها» والإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب، والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب، ثم بشرهم الله- عزّ وجل- بالعفو فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي ولقد تجاوز عنهم عما كان منهم من الفرار فهو يغفر الذنوب، حليم لا يعاجل بالعقوبة، حليم بخلقه، ويتجاوز عنهم. كلمة حول السياق: رأينا أن سورة آل عمران فيها تفصيل لما أجمل في مقدمة سورة البقرة، وتحديد للعلاقة بين أهل الإيمان والتقوى، وبين غيرهم. وفي هذا المقطع حدد الله- عزّ وجل أنه لا يصح أن يعطي أهل الإيمان الطاعة لأهل الكفر، ووعد فيه أهل الإيمان بالنصر، ومن خلال ما حصل يوم أحد علم أن الوعد مشروط، وبين المقطع من خلال ما حدث يوم أحد، كيف يستقبل أهل الإيمان؛ وأهل النفاق ما يمتحن الله به عباده. فالمقطع إذن أعطانا تفصيلات عن حال أهل الإيمان في المحن، وحال أهل النفاق فيها، وأعطى أهل الإيمان دروسا فيما ينبغي أن يكونوا عليه، وأدبهم على ألا يعطوا الطاعة لأهل الكفر، وهدم المقطع كل سبب يمكن أن يتوهمه مسلم لإعطاء هذه الطاعة. فوائد: لقد حدثت هزيمة يوم أحد، ومنع المسلمون النصر والغلبة، ولكن الصفحات التي

سجلوها يوم أحد تعتبر أروع صفحات في تاريخ البطولات الإسلامية على الإطلاق، وفي السيرة والسنة بيان ذلك. وننقل هنا بعض النقول في الحدود التي تلقي أضواء على المقطع الذي ذكرناه. 1 - روى البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ- يوم أحد- وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله بن جبير: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا، فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضى الله عنه- نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يحزنك. قال أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. وروى الإمام أحمد عن البراء قوله: فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين. 2 - ثبت في الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طلحة بن عبيد الله وسعد وفي الصحيحين عن سعد قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما من قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، واثنين من قريش، فلما أرهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة- أو وهو رفيقي في الجنة-؟. فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضا فقال: من

يردهم عنا وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنصفنا أصحابنا» وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه، وأراه قال: حمية، فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أعرفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكما صاحبكما، يريد طلحة. وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا به بضع وسبعون، أو أقل، أو أكثر، من طعنة، ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه. 3 - أخرج البخاري عن أنس بن مالك «أن عمه يعني أنس بن النضر- غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم. لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أجد. فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامته أو ببنانه وبه بضع وثمانون، من طعنة، وضربة، ورمية سهم. 4 - وما دامت السورة تعطينا دروس أحد، فقد يكون من المناسب أن نذكر هذه الرواية: روى ابن إسحاق. وجماعة عن ابن شهاب. ومحمد بن يحيى. والحصين بن عبد الرحمن. وغيرهم، وكل قد حدث بعض الحديث: «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره،

مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم، وأبناؤهم، وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا، ففعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بحدها وحديدها، وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة، وخرج آخرون بنساء أيضا، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت بقرا تنحر، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر: اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم؛ فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا، فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، ثم خرج عليهم، وتلاوم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليك وسلم فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل، فخرج صلى الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح إن يصبروا، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله تعالى أن

تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله، فقال صلى الله عليه وسلم- وكان يحب الفأل لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف تسل اليوم، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه، وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأي صدرا خارجا قال: تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، وكانوا خمسين رجلا وقال: انضح الخيل عنا بالنبل، ولا يأتونا من خلفنا، إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فرس قد جنبوها، ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة- ثلاث من الهجرة- وكان ما كان». 5 - بمناسبة قوله تعالى وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ يقول صاحب الظلال: والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير .. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب .. وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير!. وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية. ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة، والشجاعة، والتجرد، والخلاص من الشح، والحرص .. ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية- أن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط!

كلمة في سياق المقطع

ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة!. والله- سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرة، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض. فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشف عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها. كلمة في سياق المقطع: من امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورة البقرة قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وفي آخر مجموعة من القسم السابق في سورة آل عمران جاء قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .... ثم جاء المقطع الأول من القسم الخامس وفيه كلام عما يؤدي إلى الردة، ورأينا صلة ذلك بما قبله مباشرة، ثم جاء فيه كلام عما حدث يوم أحد. وهي نموذج على الزلزال الذي يصيب المسلمين، وكيفية مواجهته، فالمقطع الأول من هذا القسم مرتبط بالمقطع السابق عليه، وفي الجميع تفصيلات لمقدمة سورة البقرة، وامتداداتها في السورة نفسها. وكما أنه في هذا المقطع أخذت دروس من أحد، فإن دروسا أخرى ستؤخذ في مقاطع لاحقة، وكل ذلك بما ينسجم مع سياق السورة الخاص بها، وبما يعطينا تفصيلات لمقدمة سورة البقرة في تعميق المعاني الإيمانية وتوضيح القضايا الكفرية، وتحديد العلاقة بين أهل الإيمان، وأهل الكفر وتمييز أهل الإيمان عن أهل الكفر والنفاق. المقطع الثاني من القسم الخامس المقطع الاول في هذا القسم بين لنا عاقبة طاعة الكافرين، وذكرنا بولاية الله لنا، وأنه خير الشاهدين، ووعدنا بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين بسبب كفرهم. ثم

جاءت فقرة تعطينا دروسا فيما ينبغي أن نكون عليه، ليعطينا الله نصره، وذلك من خلال ما حدث يوم أحد. ويأتي هذا المقطع لينهانا عن أن نعتقد فيمن مات منا ما يعتقده الكافرون من أن الأجل يتقدم أو يتأخر. إن هذا هو المعنى الرئيسي في المقطع، بدليل أن البداية والنهاية في المقطع صبت على هذا الموضوع. يمتد المقطع من الآية (156) إلى نهاية الآية (168) وهذا هو: المقطع الثاني [سورة آل عمران (3): الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 159 الى 161] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)

كلمة في المقطع

[سورة آل عمران (3): الآيات 162 الى 163] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 164 الى 168] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) كلمة في المقطع: بدأ المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا .. وانتهى بقوله تعالى عن المنافقين: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

ولنبدأ عرض المقطع

فالبداية والنهاية في موضوع واحد. وفي وسط المقطع ذكرنا الله- عزّ وجل بمنتين علينا: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وفي منة الله- عزّ وجل- علينا بذلك في وسط الكلام الذي ينهانا عن مواطأة الكافرين والمنافقين في قضية الموت، ما هو كالبيان لنعم يذكرنا الله- عزّ وجل- بها، لا ينبغي معها أن نواطئ الكافرين والمنافقين في اعتقادهم في شأن الموت. وفي هذه الأجواء، أجواء القتل في سبيل الله، وأجواء أقوال الكافرين والمنافقين في من قتلوا في سبيل الله، مما يترك آثاره في قلوب المسلمين يأتي قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإلى ماذا يشير هذا؟ إن هذا يشير إلى أن القائد عليه أن يكون لينا، وأن يعفوا ويستغفر ويشاور، فليس دخول معركة يترتب عليه ما يترتب أمرا سهلا، خاصة وأن الكافرين والمنافقين سيثيرون زوابع. فلا بد أن يكون الصف الإيماني على غاية من الوعي والتلاحم، وذلك لن يتم إلا إذا كان على رأس الأمر قائد هذه صفاته. وفي هذا السياق يذكرنا الله بالتوكل عليه، وأن النصر والخذلان منه، وفي هذا السياق يعمق الثقة بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم مما يوحي بأن القائد لا ينبغي له الغلول، ولا ينبغي أن يكون محل شك، فعلى القادة أن يلاحظوا ذلك. ولنبدأ عرض المقطع: في هذا المقطع نهى الله عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم، عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، ثم بين الله- عزّ وجل- أنه خلق هذا الاعتقاد الفاسد في قلوبهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم، ثم رد عليهم اعتقادهم الفاسد، بأنه تعالى بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يموت أحد ولا يحيا إلا بمشيئته وقدره، ولا يزداد في عمر أحد ولا ينقص منه شئ إلا بقضائه وقدره. ثم بين أن علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شئ، ثم بين أن القتل في سبيله والموت في سبيله خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني؛ لأن القتل أو الموت في سبيله وسيلة إلى نيل رحمته وعفوه ورضوانه، ثم

أخبر تعالى أن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله- عزّ وجل- فيجزيه بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفي هذه المعاني رد على تصور الكافرين الفاسد. وفي نهاية المقطع عود إلى هذه المعاني. وبين نهاية المقطع وهذه البداية معان سنرى الصلة بينها وبين ما قبلها وما بعدها، فبعد المعاني التي ذكرناها، من الله- عزّ وجل- على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بما ألان قلب رسوله لهم، فأطاب لفظه لهم. ثم بين الحكمة في ذلك، بأنه لو كان عليه السلام سيئ الكلام، قاسي القلب، لانفضوا عنه وتركوه، ولكن الله جمعهم عليه، وألان جانبه لهم تأليفا لقلوبهم. وفي ذلك رحمة من الله بالجميع. ثم أمر رسوله أن يعفو عنهم، وأن يشاورهم، وأن يستغفر لهم تطييبا للقلوب، وزيادة حرص على خيرهم. ثم أمره إذا شاور وعزم، أن يتوكل على الله ويمضي، فالله يحب المتوكلين. ثم بين لهم أن النصر والخذلان من الله، ثم أمرهم بالتوكل بعد ما بين لهم من قبل أنه يحب أهله. ثم بين عصمة رسوله من الخيانة في أمر الدنيا والدين، وهدد الخائنين بعقابه وجزائه. ثم بين عدم استواء من يتبع رضوان الله مع من يسخط الله. ثم بين أن أهل الخير وأهل الشر درجات، وأن كلا موفى عمله. ثم بين أن له على المؤمنين منة أخرى ببعثته رسولا للمؤمنين من جنسهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، ويعلمهم ويربيهم بعد أن كانوا في جهالة وضلالة، ثم يعود السياق إلى البداية التي لها علاقة في غزوة أحد، ودروسها وتصحيح التصورات حول الموت والقتل. فما الصلة بين ما ذكر في وسط هذا المقطع، وبين طرفيه؟ إن منة الله على عباده ببعثة رسوله، وبخصائصه، وعصمته، وأمر الله له صلى الله عليه وسلم بالمشاورة كل ذلك مرتبط بما ينبغي أن يرافق ما يحدث للمسلمين بالرضا سواء كان قتلا أو غيره، كما ينبغي أن يرافقه شعور بالنعمة لا يبقى معه أي بقية للتصورات الكفرية في أي شأن، كما ينبغي أن يرافقه شعور بتولي الله للمؤمنين في كل حين، كيف وقد من عليهم بكل هذا. وإذا اتضح شئ من الصلة بين وسط المقطع وطرفيه، فلنذكر المعاني العامة الواردة في طرفه الأخير: بين للمسلمين في نهاية المقطع سبب ما وقع بهم من قتل، مع تذكيرهم بنعمته عليهم يوم بدر، وأن علة ذلك هم. ثم بين أن ما أصابهم كان بمشيئة الله؛ تأديبا وتمحيصا للمؤمنين؛ وتمييزا للصف الإيماني من الصف المنافق، الذي تخلى عن القتال في أشد اللحظات بحجة أنه لا قتال، يقولون هذا وهم يكتمون خلافه، ويقولون عمن قتل: لو أطاعنا ما قتل، فرد الله عليهم أن يردوا عن أنفسهم الموت إن كانوا صادقين.

المعنى الحرفي

والملاحظ أن منطق المنافقين الذي ختم به المقطع، هو نفس منطق الكافرين الذي بدئ به المقطع، ومن ثم نعرف وحدة المقطع. وإذا نظرنا إلى المقطع من خلال السياق، وكنا متذكرين صلة هذا المقطع بمقدمة سورة البقرة، عرفنا أن هذا المقطع يصفي المؤمنين، من أن تكون عندهم تصورات الكافرين، أو المنافقين، في قضية القتل، أو الموت، مع تبيان التصورات الصحيحة، مع تبيان مجموعة النعم التي ينبغي أن يقوم بشكرها المؤمنون، مع تبيان كثير من الأخلاق والتصورات الإيمانية، مع معان أخر، وكلها مرتبطة بقضية الإيمان، وكل ذلك مرتبط بشكل ما بمقدمة سورة البقرة. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي: لا تتشبهوا بالكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه ما يأتي وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي: عن إخوانهم في النسب، أو في المذهب والمسلك إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافروا للتجارة أو نحوها أَوْ كانُوا غُزًّى أي: أو كانوا في الغزو فأصابهم موت أو قتل لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا أي: لو كانوا عندنا في البلد ما ماتوا في سفر، وما قتلوا في غزو والمعنى: لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: قالوا ذلك واعتقدوه، وأراده الله؛ ليكون ذلك حسرة في قلوبهم، والحسرة: هي الندامة على فوت المحبوب. أما أنتم فصونوا منها قلوبكم بالاعتقاد الصحيح بقضاء الله وقدره. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ هذا رد لقولهم الفاسد: من أن القتال أو السفر يقطع الآجال أو يقربها، فالأمر بيده- سبحانه- فقد يحيي المسافر والمقاتل ويميت المقيم والقاعد، لا يزاد في عمر أحد، ولا ينقص منه شئ، ولا يحيا أحد، ولا يموت إلا بمشيئته وحده- جل جلاله- وقضائه وقدره. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم. دل ختم الآية بهذا، على أن القول من العمل، فما أعقل من استشعر رؤية الله لأعماله، وأقواله، وأحواله، وعرف مجازاة الله له على ذلك كله. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ أي: لنيل أهل الإيمان مغفرة الله ورحمته في حال قتلهم أو موتهم خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ خير مما يجمع أهل

[سورة آل عمران (3): آية 158]

الدنيا من حطامها الفاني. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ أي: المصير والمرجع إلى الله، في حال موتكم أو قتلكم، فلتعملوا، ولتحسنوا، وكلوا أمركم في الحياة وغيرها إلى الله. كذب الكافرين أولا في زعمهم أن السفر أو الغزو يقصران الآجال، ونهى المسلمين عن اعتقاد ذلك وقوله؛ لأنه، سبب التقاعد عن الجهاد، ثم بين لهم أنه إن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله، فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله، خير مما يجمعونه من الدنيا، فإن الدنيا زاد المعاد للعاقلين. فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد. فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: فبرحمة من الله كان لينك للمؤمنين، ومعنى الرحمة: ربطه على جأشه، وتوفيقه للرفق، والتلطف بهم. دل على أن لينه لهم ما كان ليكون إلا برحمة من الله تعالى، وامتنان الله على المؤمنين بهذا في السياق يدل على أن كل مبررات مطاوعة الكافرين، ومسايرتهم، لا يجوز وجودها، بل يجب انتفاؤها لوجود الكمال في القائد وسلوكه، وتعامله، ولوجود الكمال في الدعوة كما سيمر. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الفظ: هو الجافي الغليظ الكلام، وغليظ القلب: قاسيه، والانفضاض: التفرق أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشأن معه لو كان كذلك لتفرق عنه الناس، وهو المفروض على الناس اتباعه، فما بال غيره. فليتق الله أحد أعطاه الله قيادة، أو إمامة للمسلمين ألا يرفق. بهم ثم أمر الله رسوله فَاعْفُ عَنْهُمْ بدوام إحسانك للمسيئ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الله فيما يختص بحقه إتماما للشفقة عليهم، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي: في كل ما يختص من أمورهم من حرب لسلم لغير ذلك، مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييبا لنفوسهم، وترويحا لقلوبهم، ورفعا لأقدارهم، وتوعية لهم على قضاياهم، وتسييرا لهم من حيث يقتنعون أنه المصلحة، واستخراجا لطاقات عقولهم فيما هو خير لمجموعهم. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. أي: فإذا قطعت الرأي على شئ بعد الشورى، فتوكل على الله في إمضائه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. أي: المعتمدين عليه والمفوضين أمورهم إليه، يأخذون بالأسباب، ويقومون بحق الله، وتنفيذ أمره باستنفاد الوسع، وبذل الطاقة، ولا يعتمدون إلا على الله. فوائد حول الآية: 1 - قال الحسن البصري في هذه الآية: «هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به»

ونضيف: وعلى وراثه أن يتخلقوا به، وعلى قيادات المسلمين أن يكونوا كذلك. 2 - يقول صاحب الظلال في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. «وبهذا النص الجازم: «وشاورهم في الأمر» .. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم- أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه .. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة. تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها- فهي من الإسلام. لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين. وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب- وهو حدث ضخم وخلل مخيف- كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن- في ظاهرها- أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ إنها كانت مخالفة «للسوابق» في الدفاع عن المدينة- كما قال عبد الله بن أبي- وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلا في المدينة، وأقاموا الخندق، ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج. فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها، فقد تأولها قتيلا من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعا حصينة .. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى .. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية. ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف؛ وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربي بالشورى؛ وأن

تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ- مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة- لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ .. والخسائر لا تهم، إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء، والعثرات، والخسائر، في حياة الأمة ليس فيه شئ من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي- مثلا- لتوفير العثرات والخبطات. أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشئون- كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب- ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة- لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون، لكان وجود محمد صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى- كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى- وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة. ولكن وجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق. لأن الله- سبحانه- يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة .. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة؛ المدركة لتبعات الرأي والعمل، والواعية لنتائج الرأي والعمل .. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، وفي هذا الوقت بالذات: فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة،

ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب .. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق!. على أن الصورة الحقيقة للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ .. إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة. فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ .. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء .. وكما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه في أخطر الشئون وأكبرها .. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه- فأمضى الأمر في الخروج، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته- وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات .. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه صلى الله عليه وسلم على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى .. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع؛ لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي. مع التوكل على الله والاستسلام لقدره. وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد، والتأرجح، ومعاودة تقليب الرأي من جديد. فهذا مآله الشلل والسلبية، والتأرجح الذي لا ينتهي .. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على الله، يحبه الله» اهـ. 3 - ذكر ابن كثير أمثلة كثيرة عن استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كاستشارته لهم يوم بدر، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، وحالات أخرى ثم قال: فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب، ونحوها. وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجبا عليه أم من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين. ونقول: إن الأصل في الأمر أن يكون للوجوب، إلا إذا وجد صارف، ولا صارف هنا، خاصة وأن قوله تعالى في

كلمة حول محل هذه الآية في السياق

سورة الشورى عن المؤمنين وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ مذكور بين الصلاة والزكاة، وهما فريضتان، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بالنسبة لغيره. وإذا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو خلفاؤه، أو أمراء المسلمين، فهل النزول على رأي الأكثرية واجب أم لا؟ وهذه مسألة عصرنا التي طرحها بعضهم تحت عنوان: هل الشورى ملزمة أم معلمة، فيما لا نص فيه مما يدخل في دائرة الاجتهاد الحياتي؟ والذي أراه في هذه القضية أن الشورى إذا أعطيت لأهلها، فإن رأي أكثريتهم في هذه الحالة ملزم. ويشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد لأبي بكر وعمر «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»، وما رواه ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال: «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم» ولم يعرف قط أن خليفة راشدا طرح مسألة على الشورى ثم ترك رأي الأكثرية إلا في قضية اتضح له فيها نص، كما فعل أبو بكر في موضوع الردة، ويشهد لما ذهبت إليه قول الحنفية: ويجب طاعة الأمير إلا إذا رأى الأكثر أنه ضرر فيتبع. والأمير الذي يعطل الشورى أو لا يعطيها لأهلها، أو لا ينزل على رأي أكثرية أهلها أمير لا يقود إلا إلى الدمار. على أن للأمير أن يطرح أمرا ما على دائرة أوسع أو أعلى حال الاختلاف إذا كان بالإمكان ذلك. 4 - قال النسفي: «في الحديث: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم». ومعنى شاورت فلانا: أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي. وشرت الدابة: استخرجت شريها، وشرت العسل: أخذته من مأخذه، وفيه دلالة جواز الاجتهاد، وبيان أن القياس حجة» اهـ. وإذن فأدب المسلم الاستشارة، وأدب القائد الاستشارة، وأدب الخليفة الاستشارة، ومن ثم قال عليه السلام مؤدبا من يستشار «المستشار مؤتمن» وهو حديث حسن رواه أبو داود وغيره وقال: «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه» رواه ابن ماجه. كلمة حول محل هذه الآية في السياق: هذا المقطع كله في سياق قصة أحد، ودروسها، وفي سياق عدم متابعة الكافرين في الحسرة على من يقتل أو يموت؛ تصورا منهم أن القتال أو غيره يقرب أجلا. وقد

[سورة آل عمران (3): آية 160]

جاءت هذه الآية في هذا السياق، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما وصفته الآية وقد اتخذ قراره بعد مشاورة، ثم أقدم متوكلا على الله، فكيف يحق لمسلم أن يتحسر على نتيجة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصف الله- عزّ وجل-، وقد شاورهم يوم أحد، ونزل على رأي أكثريتهم، ثم أمضى الشورى وكان ما كان، فلا مجال بعد ذلك لحسرة على شهيد، وإنما هي أثر عن تصور كفري للموت والحياة. وإذ يكون وراثه من بعده على قدمه، فأي قرار اتخذوه بعد الشورى ونفذ، فإنه لا ينبغي أن يكون تحسر على ما يكون من بعد، بل تسليم لله، فهو الولي في الأمر كله. وبعد الأمر بالشورى، وبعد الأمر بعدم الحسرة على ما يكون من نتائج تأتي آية تقرر قاعدة، وتأمر أمرا. أما القاعدة فهي قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي: فلا أحد يغلبكم، ولو تواطأ العالم عليكم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي: يحجب عنكم نصره فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه أي من بعد ترك معونته. وأما الأمر فهو قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض؛ لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يقتضي ذلك. القاعدة دلت على أن الأمر كله لله، والأمر بني على ما تقتضيه القاعدة، ومجئ هذه الآية بعد الآية السابقة أن النصر والخذلان من عند الله، ومجئ هذه الآية في سياق المقطع يشير إلى أن المسلم عليه أن يعرف أن نتائج الأعمال بيد الله، فمهما كان من أمر فالأمر أمره، وعليه فينبغي أن يتصف بالتوكل في كل حال، حال النصر أو الخذلان، حال القتل، أو حال السلامة، ثم يعود السياق بعد هذه الآية إلى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنزيهه عن الخيانة بعد أن وصفه في ما قبل الآية السابقة بما وصفه به. فقال: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الغلول: هو الأخذ خفية، والمعنى أن النبوة تنافي الغلول، والغلول خيانة، وكذلك فسرها ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد، فقالوا في تفسيرها: ما ينبغي لنبي أن يخون، قال ابن كثير: وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه، من جميع وجوه الخيانة، في أداء الأمانة، وتقسيم الغنيمة، وغير ذلك. وقال محمد بن إسحاق في تفسيره: «بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغ أمته»، والنبي معصوم عن ذلك كله.

[سورة آل عمران (3): آية 162]

وسبب النزول يحدد المعنى الأول، إذ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي يخون، وروى مثله غيره. والصلة بين هذه الآية ومقطعها من أكثر من وجه. فالمقطع يبين ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق المؤمنين بعد المعركة في مواقفهم مما يحدث لإخوانهم من قتل. وهذه الآية تبين أمانة المؤمنين بعد المعركة في الغنيمة بأمانة سيدهم وقدوتهم. وهناك صلة أخرى وذلك أن الذي دعا الرماة إلى النزول عن الجبل ومخالفة الأمر؛ الغنائم، ولا مبرر لذلك إذ ما دام حقهم سيصل إليهم بمنتهى الدقة، فلا مبرر للهلع لتصور أن يفوت بعضهم شئ. ولعل لهذا المدرك اللطيف،، فسرها حبر هذه الأمة ابن عباس فقال: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضا، ويمكن أن تكون الصلة بنوع من العطف بعيد لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا، ولا تَغْلُوا* لأن الغلول لا يصح أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: ومن يأخذ شيئا غلولا يأت بالشئ الذي غله بعينه، حاملا له كما ورد في كثير من الأحاديث، أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي: ثم تعطى كل نفس جزاءها وافيا دون أن تنقص شيئا، فكل يعطى جزاءه على قدر كسبه، والله ذو فضل. ودخل في هذا التهديد الشديد كل كاسب من الغال وغيره، والتهديد في حق الغال أشد، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيرا أو شرا مجزي فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص مع عظم ما اكتسب. وبعد أن نهى الله عن أخلاق للكافرين، ووصف أخلاق المؤمنين من خلال وصف أخلاق سيدهم، بين أن هؤلاء وهؤلاء لا يستوون، ليرفع همم أهل الإيمان إلى ما ينبغي. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ باتباع ما يوصل إلى هذا الرضوان كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي: كمن استحق غضب الله وألزم به، فلا محيد له عنه، وهم المنافقون والكفار. وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي: منزله. وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: وبئس المرجع والمآل جهنم. هُمْ أي: أهل الخير وأهل الشر. دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: منازل، يعني هم متفاوتون في منازلهم، درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، أو هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات، أو هم ذوو درجات بحسب تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين، أو بحسب تفاوت الثواب والعقاب. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي:

[سورة آل عمران (3): آية 164]

عالم بأعمالهم وسيوفيهم إياها، لا يظلمهم خيرا، ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كل عامل بعمله. وكما من الله على المؤمنين برحمة رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ولينه لهم، يمن عليهم هنا برسالته، وأعظم المن في ذلك على العرب؛ ومجئ هذه الآية في هذا السياق، تذكير بالنعمة في مقامها، إذ المقام مقام إبعاد عن أخلاق الكافرين، وتصوراتهم، وأقوالهم التي يعني السير فيها كفرانا لنعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عامة والعرب خاصة؛ بدليل ما بعده، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالبعثة إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله، ومجالسته، والانتفاع به، ولكن ما المراد بالجنس التي فسرنا بها كلمة الأنفس؟ هل المراد بها الجنس البشري، أو المراد بها الجنس العربي؟ فيكون المعنى: من جنسهم عربيا مثلهم أو المراد بقوله مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من ولد إسماعيل لما أن أشرف العرب من ولده. والمنة على الوجه الأول، أي: بكون الرسول من البشر من حيث إمكان الاقتداء به، وسهولة مخاطبته، ومراجعته، والتعرف على حاله. والمنة على الوجه الثاني: أي: في كونه عربيا بالنسبة للعرب، زيادة على ما مر من حيث كون اللسان واحدا فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه. والمنة على الوجه الثالث: زيادة على ما مر من حيث كونه من أشرف العرب، فيسهل ذلك على الأنفس المتابعة، والمنة لله على خلقه عامة ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى العرب أشد، وعلى بني إسماعيل وقريش أبلغ. فما أفظع كفر من يكفر من قريش، أو من العرب، أو من المؤمنين بعد كمال المنة، فيتابع الكافرين في أقوالهم، أو أفعالهم، أو أحوالهم، أو تصوراتهم، ثم عدد الله مظاهر النعمة بالرسالة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن بعد أن كانوا في جاهلية لم يطرق أسماعهم شئ من الوحي، وهذا على القول بأن المراد إظهار المنة بالرسالة على العرب. وعلى القول بأن المراد جنس البشر يبقى المراد هو القرآن. والمنة بآياته من حيث كونها تذكيرا لهم بالله من خلال قرآنه المعجز وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم بالإيمان والإسلام والإحسان، والتربية بالقول والعمل، والقدوة، والحال من كل دنس، وخبث، اعتقادي، أو أخلاقي، أو سلوكي، أو غير ذلك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي القرآن والسنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لفي عمى وجهالة وغي ظاهر جلي بين لا شبهة فيه. وهذا يرجح أن الخطاب والآية يراد به العرب خاصة، لأن من بقايا أهل الكتاب من كان قبل بعثته عليه الصلاة السلام على علم، وعلى هدى، ولكن الخطاب وإن أريد به العرب خاصة هنا، فإنه يدخل فيه غيرهم ممن هو مثل حالهم. ولعل

الحكمة في قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هو تعميم التوجيه لكل من أصبح من هذه الأمة؛ إذ من أصبح من هذه الأمة كان له شرف النسبة إلى الرسول العربي، وشرف النسبة إلى جيل هذه الأمة الأول وهو عربي عامة. وعلى كل الأحوال فالمنة ظاهرة على العرب ببعثة هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وبمناسبة هذه الآية يقول صاحب الظلال: كان الإسلام بخصائصه هذه هو «بطاقة الشخصية» التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة. وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم؛ وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا- كما كانوا- لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟ يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويغرقون به أسواقها، ويغطون به ما عندها من إنتاج؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار!. يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية. وتشقى بها جميعا غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟ لا شئ إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شئ إلا هذا المنهج الفريد. لا شئ إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها، وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء، والحيرة والقلق والإفلاس! إنها- وحدها- بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية فأحنت لها هامتها. والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ. إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة. هي التي تقدم أكبر منهج. وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة. والعرب يملكون هذه الرسالة- وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم

[سورة آل عمران (3): آية 165]

شركاء- فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟! لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول، وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان .. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان؟!.» ثم يعود السياق بعد هذه الآية إلى المعنى الذي بدأ به المقطع وهو أحد دروس يوم أحد، والمرتبط بما أصاب المؤمنين فيه، والذي يناقش قولة الكافرين ويردها. لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ... وكما قلنا، لقد اعترض ما بين بداية المقطع ونهايته بالآيات التي رأيناها، والتي بدأت بالتذكير بنعمة، وختمت بالتذكير بنعمة. وكلتا النعمتين في موضوع الرسالة والرسول، ليتخلص المؤمنون من هذا التصور الكاذب الفاسد في فهم ما حدث، وما يحدث من أمثاله للمسلمين في معاركهم. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد من قتل سبعين منكم قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها. أي: يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. قُلْتُمْ أَنَّى هذا. أي: من أين جرى علينا هذا. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. أي: أنتم السبب، أي: ما أصابكم كان بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا من مكانكم، فعصيتم يعني بذلك- الرماة- إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ولا معقب لحكمه. يقدر على النصر وعلى منعه، وقد منعكم نصره في أحد، وأعطاكم إياه في بدر. منعكموه الآن عدلا، وأعطاكموه قبل فضلا، والاستفهام في قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ .. في الآية يراد به التقرير والتقريع كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا. وإذا تذكرنا بداية المقطع لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ .. علمنا أن المقصود الرئيسي في المقطع هو تصحيح التصورات للجماعة المسلمة في موضوع القتال، وآثاره السلبية من خلال وقعة أحد. وبعد الآية السابقة، تأتي آية تؤكد الحكمة التي مرت من قبل وتبينها ليتوصل منها إلى كلام المنافقين، الذين لا يدركون حكم الله فيما يفعل، والذين يشبه كلامهم كلام الكافرين الذي ابتدأ به المقطع، ليرده وليبين أن الكفر والنفاق شئ واحد وليسجل خلال ذلك الموقف الشائن للمنافقين قبل المعركة إذ انفصلوا عن المؤمنين، فقال مبينا هذا كله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي: جمعكم وجمع المشركين في أحد، والذي أصابكم فيه هو فراركم بين يدي عدوكم، وقتل جماعة منكم، وجرح

آخرين فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي: فبعلمه وقضائه وقدره، فسلموا لله في ذلك، لأن أفعاله كلها حكمة. ثم بين بعض الحكمة في ما حدث، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا. أي: وما أصابكم فكائن بإذن الله، وكائن ليتميز المؤمنون من المنافقين، وليظهر إيمان هؤلاء، ونفاق هؤلاء، إيمان المؤمنين بصبرهم وثباتهم على الإيمان، وعدم تزلزلهم، ونفاق المنافقين بمواقفهم وأقوالهم: وَقِيلَ لَهُمْ ... أي: للمنافقين تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: جاهدوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، أَوِ ادْفَعُوا أي: قاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة! وفسر آخرون الدفع في هذا المقام: بتكثير السواد. أي: أو ادفعوا العد وبتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا! لأن كثرة السواد مما تروع العدو. قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي: لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لا تبعناكم. وقولهم هذا يحتمل معنيين: إما أنهم يريدون أنه لا قتال أصلا، ويحتمل أنهم أرادوا أن هذا النوع من القتال ليس قتالا، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة. قال النسفي: يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء النفس إلى التهلكة. والمعنى الأول هو الذي يشير إليه كلام أهل السير، وذلك أن المنافقين وقحون لا يبالون أن يقولوا الكلمة التي تنقضها كل الوقائع. روى محمد بن إسحاق في سيرته بسنده عمن ذكر: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة، انحاز عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، فقال: أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق، وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ قال النسفي: يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك، وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم، واقتربوا من الكفر. أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان. لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية للمشركين.

[سورة آل عمران (3): آية 168]

وقال ابن كثير: استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أي: يظهرون خلاف ما يضمرون، والله يعلم أسرارهم. وهذه طبيعة المنافق يتظاهر بشيء ويبطن شيئا، يقول القول ولا يعتقد صحته، ومن ذلك كلامهم السابق؛ فإنهم يعرفون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين؛ بسبب ما أصاب أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، فالقتال كائن لا محالة، ومع ذلك ادعوا أنه لا قتال، ثم وصفهم الله بأنهم الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي: لأجل إخوانهم، أي: عن إخوانهم- في الصورة- ممن قتل يوم أحد وَقَعَدُوا أي: قالوا وقد قعدوا عن القتال لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا أي: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود، ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل. ويبدو- والله أعلم- أنهم يريدون بإخوانهم هنا من قتل من الأنصار. قال تعالى: ردا عليهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. أو المعنى: إن كنتم صادقين بأن الحذر ينفع من القدر، ويدفع الموت، فادفعوه عن أنفسكم، ولن تستطيعوا. أو المعنى: قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع الموت سبيلا وهو القعود عن القتال، فجدوا إلى دفع الموت سبيلا. والملاحظ أن كلامهم هذا يشبه كلام الكافرين الذي نهى الله عنه في أول المقطع بقوله: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا وهذا يشعر أن المنافقين كافرون. وفيه تعرية للمنافقين، وتدليل عليهم من كلامهم. ومن ثم ندرك كيف أن سورة آل عمران تفصيل لمقدمة سورة البقرة. لقد تحدثت مقدمة سورة البقرة عن المتقين المؤمنين، وعن الكافرين، وعن المنافقين، وهذا المقطع زادنا بيانا في أخلاق الكافرين، وصفاتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وزادنا بيانا في أخلاق المنافقين، وكلامهم، ومواقفهم، وصفى تصورات أهل الإيمان، وعرفهم على مزيد من نعمه عليهم؛ بما من عليهم من رسوله عليه الصلاة والسلام وعرفهم على كثير مما ينبغي أن يفعلوه ويتأدبوا به. وصلة المقطع بما قبله مباشرة واضحة، فالكلام فيه استمرار للكلام عن دروس

فوائد

أحد، وصلة ذلك كله بابتداء القسم لا تخفى. بدأ القسم بالنهي عن طاعة الكافرين، والطاعة قد تكون بالاقتداء، وقد تكون بتنفيذ الأمر. والمقطع قد نبهنا على نماذج من الطاعة لا يجوز أن تكون سواء في ذلك هذا النوع، أو هذا النوع، وفي كثير من الأحيان قد يبدو للناظر أن طاعة الكافرين فيها مصلحة، والكافرون يدعون أن طاعتهم فيها مصلحة لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا فالمقطع إذن بصرنا بمثل هذا. وارتباط ذلك ببداية القسم واضحة، وفي مقدمة القسم قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وقد مرت معنا في هذا المقطع بعض مظاهر تولي الله لنا، وفي مقدمة القسم قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وجاءت بعد ذلك دروس غزوة أحد لنعرف شروط الوعد، وكان المقطع الذي مر معنا استمرارا لذلك. ولعله بذلك اتضح لنا أن لكل مقطع في القسم وحدته، ولكل قسم في السورة وحدته، وأن لكل سورة محورها، ولكل مجموعة سور ترتيبها، ولكل قسم من أقسام القرآن ترتيبه ووحدته، وكل ذلك سنراه شيئا فشيئا. وكما صحح لنا هذا المقطع مفاهيم، ونبهنا على محاذير، فإن المقطع اللاحق سيصحح، وينبه، ويعرفنا على أمهات من التصورات الخاطئة لا ينبغي أن نقع فيها. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ نذكر بعض الأحاديث حول الغلول، ونلاحظ أن بعضها جعل من الغلول هدايا العمال أي الموظفين عند الدولة، وكذلك الاعتداء على مال الأمة: أ- روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض، أو في الدار فيقطع أحدهما من خط صاحبه ذراعا، فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة». ب- وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليس له دابة ليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال». أقول: وذلك إذا أخذه من غير إذن.

ج- روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فرجع فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه. ثم قال: اللهم هل بلغت- ثلاثا-». د- روى الترمذي عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني، فإنه غلول. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ. هـ- روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة قال: فقام رجل من الأنصار أسود، قال مجاهد: هو سعد بن عبادة كأني انظر إليه، فقال يا رسول الله: اقبل مني عملك، قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقول ذلك الآن: من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه، وما نهي عنه انتهى» رواه مسلم. و- روى عبد الله بن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من ظهر البعير من المغنم ثم يقول: «ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط، وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله، القريب والبعيد، في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم». ز- روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا، فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا إني رأيته في النار في بردة غلها- أو عباءة- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فناد في الناس أنه لا

يدخل الجنة إلا المؤمنون، قال: فخرجت فناديت: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» ورواه مسلم. ح- روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم، فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد الغداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة، فقال: «أسمعت بلالا ينادي ثلاثا؟ قال: نعم. قال: فما منعك أن تجئ؟ فاعتذر إليه! فقال: كلا أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك». - وفي عقوبة الغال، للفقهاء أقوال: منهم من قال يحرق ما غل ويضرب. ومنهم من قال: يعزر تعزير مثله، ومنهم من قال: يباع الغلول ويتصدق بثمنه. 2 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تبيان الحكمة الكلية مما أصاب المسلمين يوم أحد: قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بأخذكم الفداء اهـ. وهو نظر دقيق في الربط الكلي بين أفعال الله، ملاحظا الحكمة القريبة، والحكمة البعيدة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: لعل متهما يتهمنا أننا نتكلف للربط بين الآيات، وللصلة بين سور القرآن، ولعل فيما سنذكره هنا وبعد قليل ما يزيل شبهته. لقد قلنا: إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها في سورة البقرة، بل نقول: إن سورة آل عمران تحدد لنا امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورة البقرة، وتأمل فيما يلي: جاء في سورة البقرة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. لاحظ أن المقطع الذي مر معنا ينتهي بآيات هي مقدمة للمقطع اللاحق، وأن نهاية المقطع السابق، وبداية المقطع اللاحق، فيها حديث عن منة الله علينا بالرسول، وفيها حديث عن المصائب في القتال، وفيها حديث عما لا ينبغي قوله عن القتلى في سبيل الله، وفيها حديث عن حياة الشهداء. فإذا ما تأملت هذه الآيات لم تشك أنها تفصيل لما ذكر في سورة البقرة، وهذه هي الآيات: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ* وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ* الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .... إنه لمن الواضح أن هناك ارتباطا بين هذه المعاني وبين ما ذكرناه في سورة البقرة. فهل لذلك قاعدة أم لا؟ إن الذين يظنون أن هذا القرآن لا ترابط بين آياته في السورة الواحدة، أو لا ترابط بين سوره، محجوجون عن واقع هذا القرآن.

المقطعان الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران

ونحن نتعمد في هذا التفسير ألا نذكر شيئا حتى يأتي محله، حتى لا يكون للإنكار علينا سبيل إن شاء الله. وكثير من الأمور ستتضح كلما سرنا في هذا التفسير. وإنما ذكرنا هنا ما ذكرناه لتأكيد على أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها في سورة البقرة نفسها. وإن مما يحدد امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في سورتها، سورة آل عمران، وإنما نؤكد على هذا لأننا سنرى أن سورا كثيرة ستفصل في آيات من سورة البقرة، بينما سنجد آيات في سورة البقرة لا تفصلها سور، وما ذلك إلا لمثل هذا الذي ذكرناه. هذه الكلية التي نذكرها هنا، والتي ستأتي الأدلة عليها كثيرا كلما سرنا في هذا التفسير تجعلنا نؤكد: أن ما أجمل في مقدمة سورة البقرة، قد فصل بعضه في سورة آل عمران، وستأتي سور أخرى تفصل بعضه الآخر، كما أن هناك سورا، ستفصل في آيات أخرى من سورة البقرة على نسق وترتيب خاصين. كل ذلك نقوله لنلفت النظر إلى أن المسلم لا ينبغي أن يخرج من سورة آل عمران، إلا وقد خرج بمزيد من وضوح الرؤية في قضية التقوى والكفر والنفاق. لقد عرفنا في مقدمة سورة البقرة، أن الكافرين لا يؤثر فيهم الإنذار. وعرفنا- مثلا- من المقطع الذي مر معنا، أن الكافرين يربطون بين الموت وعالم الأسباب فقط، وعرفنا في مقدمة سورة البقرة بعضا من أقوال المنافقين ومواقفهم، وهاهنا عرفنا بعضها الآخر من أنهم لا يشاركون في قتال، ومن كونهم مثبطين عنه، داعين للقعود، إلى غير ذلك. وعرفنا من مقدمة سورة البقرة، أن الإيمان يستلزم صلاة، وإنفاقا، واتباع كتاب، ومن سورة آل عمران عرفنا، أن الإيمان يستلزم عدم طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم اتخاذ بطانة من غير المؤمنين. ولننتقل إلى المقطع الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران، وسنبدأ الكلام عن المقطعين معا لشئ له صلة بما مر معنا آنفا: المقطعان الثالث والرابع من القسم الخامس من سورة آل عمران يمتد المقطع الثالث من الآية (169) إلى نهاية الآية (189)، ويمتد المقطع الرابع حتى نهاية السورة، وهو خاتمة السورة.

والمقطع الثالث يصحح مفاهيم وتصورات، ولذلك فإن كل فقرة من فقراته تبدأ إما بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ أو وَلا يَحْسَبَنَّ والمقطع الرابع يوجد في سياقه الرئيسي تقريران: تقرير في حق أهل الإيمان، وتقرير في حق من آمن من أهل الكتاب. وتنتهي السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. رأينا في هذا القسم صلة المقطع الثاني بالأول، والمقطع الثالث امتداد للأول، فالآيات الأولى منه امتداد لما قبلها مباشرة، والمقطع كله امتداد للمقطع السابق عليه، فقد سبق مباشرة بقوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ... وجاء المقطع الثالث مبدوءا بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ... ثم إن المقطع الثاني بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا .... وهذا المقطع يبدأ بنفس المضمون، ويستمر بتصحيح تصورات يتبناها الكافرون أو يقولون بها. ويأتي المقطع الرابع ليعرض علينا صفحة من حال أهل الإيمان، سواء سبق لهم أن كانوا مؤمنين بكتاب أو لا، وتنتهي السورة بالأمر بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى. وكل ذلك قد جاء في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ* بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ* سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ. فالمقاطع كلها تخدم فكرة عدم الطاعة للكافرين، وتؤكد ولاية الله للمؤمنين، وتعمق الصفات والخصائص التي ينبغي أن يكون عليها أهل الإيمان، ليستأهلوا وعد الله، ومن ذلك الصبر والمصابرة والمرابطة. إن المقطع الثالث من حيث إنه تصحيح للتصورات التي يطرحها أهل الكفر، فإن صلته بمقدمة سورة البقرة- التي هي حديث عن المتقين والكافرين والمنافقين- لا

تخفى. وإن المقطع الرابع- الذي يتحدث عن حال المؤمنين عامة، وحال المؤمنين من أهل الكتاب خاصة لا تخفى صلته بمقدمة سورة البقرة. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. على أنه يمكن أن يقول قائل: إن أي آية في القرآن يمكن أن يقال إن لها صلة بمقدمة سورة البقرة بشكل من الأشكال، وهذا صحيح لأن القرآن كله موضوع واحد. ولكنا نقول: إنه زيادة على هذه الوحدة الموضوعية، فهناك سور ألصق بموضوع بعينه، وسنرى كيف أن سورتي الأنفال وبراءة ألصق بموضوع القتال، وقل ذلك في كل سورة. فمن هذه الحيثية نقول: إن لكل سورة محورها من سورة البقرة، ومحور سورة آل عمران، هو مقدمة سورة البقرة وامتدادات معاني هذه المقدمة في السورة. ونظن أنه في النموذج التالي سيكتشف المنصف صدق ما نقول: جاء في سورة البقرة قصة آدم عليه السلام، ثم مقطع بني إسرائيل، ثم قصة إبراهيم عليه السلام، ثم مقطع القبلة؛ ومن خلال الحوار مع بني إسرائيل وغيرهم، عرفنا وضع الكافرين ومواقفهم وقد انتهى مقطع القبلة في سورة البقرة بقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ. ثم جاء أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهي عن القول بأن الشهداء أموات، وإخبار بأن الابتلاءات، وأن علينا أن نعترف لله بالمالكية إذا ابتلينا وذلك في مقطع الصبر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وفي هذا السياق جاء كلام عن كتمان ما أنزل الله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى. ثم في هذا السياق جاء قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ هذا كله جاء على تسلسل في مقطعين من سورة البقرة. وفي سورة آل عمران نجد تفصيلا لهذا كله. فلقد رأينا أن المقطع الثاني جاء في آخره قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ.

المقطع الثالث

والمقطع الثالث يبدأ بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ... وفي المقطع الثالث يرد قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ. ويختم المقطع الثالث بإعلان المالكية لله وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ويبدأ المقطع الرابع بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ... فهو يعرفنا على العقلاء الذين يرون آيات الله، وينتهي المقطع بالأمر بالصبر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا ... ألا ترى أن المعاني التي وردت في ذلك الحيز من سورة البقرة، جاء هذا الحيز من هذه السورة ليفصل فيها ضمن ترتيب جديد وفي سياق جديد! أليس في ذلك ما يلفت النظر ويطالب بالبحث عن الناظم الذي يفسر هذه الشئون!. إن تفسيرنا نحن لهذا هو ما قلناه: إن سورة آل عمران، محورها مقدمة سورة البقرة وامتدادات معاني هذه المقدمة. فسورة آل عمران هي التفصيل الأول لذلك. وستأتي سور أخرى تفصل تفصيلا ثانيا وثالثا ورابعا في مقدمة سورة البقرة وهذا مظهر من مظاهر كون القرآن كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. (سورة هود) المقطع الثالث يتألف هذا المقطع من أربع فقرات متشابهة البدايات، كل منها مبدوء بفعل مشتق من الحسبان، ويجمع الفقرات جامع وهو أنها تصحح تصورا يمكن- لولا البيان- أن يتسلل إلى أصناف من الناس. فلنقبل على تفسير فقرات المقطع الثالث، وهو مقطع تصحيح التصورات في فقراته الأربع بشكل مباشر، فقد أطلنا التعلقيات. الفقرة الأولى من المقطع الثالث [سورة آل عمران (3): آية 169] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

المعنى العام

[سورة آل عمران (3): الآيات 170 الى 177] فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) المعنى العام: يخبر تعالى في هذه الفقرة عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية، مرزوقة في دار القرار، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، وأنهم يسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم، على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، وإنما كان سرورهم بما عاينوه من وفاء الموعود، وجزيل الثواب، ومعرفتهم أن الله لا يضيع أجر المؤمنين المتأخرين عنهم ممن لهم مواقف المؤمنين الصادقين. وقد ضرب الله مثلا لهذا النموذج الصادق المؤمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استجابوا له في

كلمة حول السياق

اليوم التالي لأحد، إذ استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحاق العدو فنفروا على ما بهم من جراح وضعف، مستجيبين لله ورسوله، إذ بلغهم جمع المشركين لهم، بغية أن يستأصلوهم، فلم يكن منهم إلا أن قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فأكرمهم الله بأن كف أيدي الناس عنهم. ثم بين الله- عزّ وجل- أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه، بأن يوهمهم بأسهم، وحذرنا الله أن نطيع الشيطان، وأمرنا أن نخافه وحده، ثم نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحزن على من يسارع في الكفر؛ محقرا له كيدهم، مبينا أنهم هم الخاسرون، ثم ختم هذه الفقرة بتبيان أن الذين يبيعون الإيمان بالكفر لا يضرون الله بل يضرون أنفسهم باستحقاقهم عذاب الله. أعطتنا هذه الفقرة التصور الصحيح عن وضع الشهداء، وبينت لنا خلقا من أخلاق الإيمان، من حيث متابعة أهله للجهاد في كل الظروف، ومن حيث استعصاء أهله على الحرب النفسية، ثم بينت لنا قاعدة: وهي أن الشيطان يحاول تخويفنا من أعداء الله، وحذرتنا من الوقوع في شباكه، ثم جاء نهي، وقاعدة لها علاقة بالمنافقين والمرتدين. كلمة حول السياق: يلاحظ أن في هذه الفقرة نهيين موجهين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما للأمة كلها. النهي الأول: نهي عن تصور أن الشهداء أموات، والنهي الثاني: نهي عن الحزن على من كفر بعد إيمان، والصلة بين هذا وبداية المقطع السابق عليه واضحة، إذ في بداية المقطع السابق نهي عن أن نكون كالذين كفروا في تصوراتهم حول موضوع الموت والقتل، وهو موضوع يكفر بسببه من يكفر بعد إيمان، ومن ثم كان النهي الأخير له علاقة بهذا الموضوع. والفقرة كما هي مرتبطة بقسمها في سياقه الخاص، فهي مرتبطة بالسياق القرآني العام إذ هي توضيح لقضايا إيمانية وكفرية ونفاقية، وهو السياق العام لسورة آل عمران المرتبطة بمقدمة سورة البقرة وامتداداتها. المعنى الحرفي: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الخطاب مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لكل أحد بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. أي: بل هم أحياء عند ربهم، مقربون عنده، ذوو زلفى، يرزقون مثل ما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون. وذكر الرزق بعد ذكر الحياة تأكيد لكونهم أحياء، ووصف لحالهم التي هم

[سورة آل عمران (3): آية 170]

عليها من التنعم برزق الله. وشرط هذه الحال: أن يكون القتل في سبيل الله، أي: من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا كما قال عليه السلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». ثم وصف الله- عزّ وجل- حالهم في حياتهم ورزقهم: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من توفيقه لهم للشهادة، وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين، معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ. أي: ويستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم. بل بقوا خلفهم يتابعون جهادهم. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أي: لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم. فهم فرحون لأنفسهم، فرحون لإخوانهم الذين من ورائهم، وإنما استبشروا لإخوانهم بتبشير الله لهم. وفي ذكر الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء. فكأنها قالت للباقين: إن إخوانكم الذين سبقوكم وجدوا خيرا، فلم يحزنوا على فائت ورأوا ما سرهم فالحقوهم يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. أي: يسرون بثلاثة أمور: بما أنعم الله عليهم، وبما تفضل الله عليهم من زيادة الكرامة، وبسرورهم بإعطاء الله المؤمنين أجورهم كاملة موفرة. هذا حال من قتل يوم أحد. ويأتي الآن وصف من بقي: فإذا نقلنا الآيات إلى العموم المعتاد، إذ القاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، نعرف أن ما ذكر لكل شهيد، وأن ما يأتي هو حال المؤمنين في كل زمان. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم النماذج العليا في هذا الباب. ولنذكر سبب النزول مقدمة لتفسير الآيات اللاحقة ليعين ذلك على الفهم. لما أصاب المشركون ما أصابوا يوم أحد، كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لم يستأصلوا المسلمين. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم، ويريهم أن بهم قوة وجلدا، ولم يأذن لأحد إلا لمن حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله لما سنذكره، فنهض المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان؛ طاعة لله- عزّ وجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، وكان انتداب المسلمين للخروج يوم الأحد لست عشرة ليلة من شوال. فكانت استجابتهم الرائعة بعد كل ما أصابهم هو الموقف الأروع الذي

[سورة آل عمران (3): آية 172]

سجله الله لهم. ومجموع ما له علاقة بهذا هو الذي يذكر في السيرة تحت عنوان غزوة حمراء الأسد. فلنذكر الآيات مع ذكر النص المباشر قبلها. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ. أي: من بعد ما أصابهم الجراح، فالقرح: هو الجرح. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ في الآخرة. وقوله تعالى (منهم): للتبيين لا للتبعيض، لأن كل من استجابوا لله والرسول محسنون متقون رضي الله عنهم. هذه صفة أولى من صفات الإيمان، الاستجابة لداعي الجهاد في كل الظروف والأحوال. ثم تأتي الصفة الثانية. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: هم ركب من عبد القيس، كلفهم أبو سفيان أن يقولوا للمسلمين في حمراء الأسد، أنهم قد أجمعوا المسير إلى المسلمين لاستئصالهم، ووعدهم أن يجعل لهم في مقابل ذلك شيئا عينه لهم، وهذا ما سجلته الآية. إِنَّ النَّاسَ أي: أبا سفيان ومن معه، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. أي: فخافوهم. فَزادَهُمْ إِيماناً. أي: فزادهم هذا القول بصيرة ويقينا. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. أي: يكفينا أن الله ولينا وحده فنتكل عليه، ونعم الموكل هو. هذه صفة ثانية من صفات أهل الإيمان؛ أنهم إذا ادلهمت الأمور عليهم ازدادوا توكلا على الله، وإيمانا به. والله عند حسن ظن عباده به، فكان من أمر المشركين يومها، أن قذف الله في قلوبهم الرعب، وفروا بعد أن كانوا يفكرون في الهجوم، واستئصال المسلمين كما سنرى في قسم الفوائد، وكفى الله المؤمنين شرهم، وسجل ربنا ذلك؛ ليمن به على المسلمين مريا إياهم أنه عند حسن ظن عباده به. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أما النعمة: فهي السلامة، وأما الفضل: فهو فرار الكافرين، وعودة الهيبة للمؤمنين، ورجوع الروح المعنوية للمسلمين وغير ذلك. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ. أي: لم يلقوا ما يسوءهم من كيد العدو. وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ باستجابتهم لله والرسول، وجرأتهم، وخروجهم، وحسن توكلهم، واستعصائهم على ما يسمى في اصطلاحنا الحديث الحرب النفسية. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على عباده وأوليائه في الدنيا وفي الآخرة. والآن يأتي دور أخذ الدروس مما حدث. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. أي: إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وشدة، فلننتبه إلى هذا التفسير، وهو الوجه الوحيد الذي ذكره ابن كثير؛ إذ قدر

[سورة آل عمران (3): آية 176]

محذوفا بعد قوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ ففسرها بقوله (يخوفكم). وفسرها النسفي بأن الشيطان يخوف من يواليه من المنافقين. ومن ثم فإن الخوف يلازم النفاق؛ ثم نهى الله عباده المؤمنين أن يخافوا أولياء الشيطان قال تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. أي: إن كنتم مؤمنين حقا فلا تخافوا أولياء الشيطان، بل خافوا الله وحده؛ لأن مقتضى الإيمان أن يؤثر العبد خوف الله؛ فيطيعه ولا يعصيه ومن خاف الله خافه كل شئ، وسخر له كل شئ؛ ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمان الناس، وكان يحزنه كفر من كفر فضلا عن كفر من آمن، قال الله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هذا النهي فيه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى هذا الموضوع بعين الحكمة لا بعين الرحمة. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. أي: إنهم بمسارعتهم للكفر لن يضروا دين الله ولا أولياءه؛ وهذه بشارة عظيمة للمؤمنين؛ فإذا صبروا واتقوا، فإن من يسارع إلى الكفر لن يضر إلا نفسه، وما وبال ذلك عائد إلا عليه، وقد بين الله- عزّ وجل- كيف أن وبال ذلك لا يعود إلا عليه بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. أي: يريد الله بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة، فالحظ: هو النصيب. ومع حرمانهم من ثواب الله وجنته فإن لهم عذابا عظيما؛ وأي ضرر يضر به الإنسان نفسه أبلغ من هذا الضرر! أن يحرمها جنة الله، وأن يدخلها ناره. ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ. أي: استبدلوا هذا بهذا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. أي: لن يضروه أي ضرر، ولكن يضرون أنفسهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عقوبة لهم. وهل الآيتان الأخيرتان في المنافقين، أو في الكافرين كفرا أصليا، أو الأولى في الكافرين، والثانية في المنافقين، أو العكس، أو الأولى في المرتدين، والثانية في الكفار كلهم؟ كل ذلك تحتمله الآيتان. وبهذا نكون قد انتهينا من استعراض المعنى الحرفي للفقرة الأولى من المقطع الثالث. فلننقل بعض الفوائد التي تتعلق بها، وتساعد على فهمها. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب

مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عزّ وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» وهذا أثبت ما ورد في سبب نزول هذه الآية وما بعدها مباشرة. 2 - روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: «إنا سألنا عبد الله عن هذه الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شئ نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسامنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» أقول: وفي كون أرواحهم في جوف طير خضر كرامة لهم فهذه الطيور في حقهم كالمركوب بالنسبة للإنسان. 3 - وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية» قال ابن كثير في التعليق على هذا الحديث: وكأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة ... وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن، فإن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» قوله يعلق: أي يأكل. وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يجمعنا على الإيمان».

4 - روى محمد بن إسحاق عن رجل من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال: «شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، رجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي- أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون» اهـ. ففي مثل هذين نزل قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ .... 5 - بعد ما حدث في أحد، أصبح المسلمون في وضع حرج من عدة وجوه: سقوط الهيبة العسكرية، احتمال كرة المشركين على المدينة، احتمال جرأة الأعراب والمنافقين واليهود عليهم، هبوط الروح المعنوية عندهم، فكان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد لاحقا بالمشركين، وبقاؤه فيها ثلاثة أيام، وبلوغ هذا لأبي سفيان، وإلقاء الله الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا إلى مكة بما يشبه الفرار، غسلا لكل آثار أحد. 6 - أخرج البخاري عن ابن عباس قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل» اهـ. وقال عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه «فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في حديث. 7 - فسر الفضل في قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ بما مر، وهناك من فسر الفضل بربح تجاري أصابه المسلمون عقب رجوعهم من حمراء الأسد، ومنهم من حمل هذه الآية على غزوة بدر الصغرى إذ إن أبا سفيان واعد المسلمين بدرا من العام القادم يوم أحد، وحاول أن يرهب المسلمين بالإشاعات لعلهم لا يخرجون إلى بدر، فقال المسلمون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وخرجوا إلى بدر، وتخلف المشركون، وابتاع المسلمون من سوقها، وكانت سوقا تجاريا، وربحوا فحمل بعضهم الآية على هذا. والآية يدخل فيها مثل هذا، أما أن يقال: بأن هذا سبب النزول، فإن السياق لا يدل عليه، بل يدل على ما ذكرناه أثناء التفسير.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: رأينا أن الفقرة فيها نهيان موجهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحسبن»، «ولا يحزنك» وهما نهيان لكل الأمة. ومن هذا ندرك أن السياق الرئيسي في الفقرة هو التصحيح والتوجيه، تصحيح التصورات في شأن الشهداء، وتوجيه النظر إلى الحكمة في شأن المرتدين، وفي سياق النهي عن حسبان الشهيد ميتا عرضت علينا أخلاقية المؤمنين الذين يستأهلون البشارة، وعرض أيضا المرشحون للشهادة من خلال النموذج الكامل للإيمان. فالمؤمنون الذين يستأهلون البشارة، والمرشحون للشهادة، هم الذين يستجيبون لداعي الجهاد في كل الظروف، وهم الذين لا تؤثر فيهم الحرب النفسية؛ لعمق توكلهم على الله- عزّ وجل- والذين لا يستجيبون لوساوس الشيطان في التخويف من أوليائه هؤلاء هم المؤمنون حقا. فالفقرة إذن، عمقت مفهوم الإيمان عندنا، وأعطته مضمونا زائدا على ما مر، كما صححت تصورا في شأن الكفر والكافرين، وفي شأن المنافقين الذين يسارعون إلى الكفر، فالفقرة تتكامل معانيها، فتشكل وحدة فيما بين آياتها. وصلتها بالآية التي قبلها واضحة، فما قبلها هو: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ ... الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا. فجاءت هذه الفقرة بعد ذلك مباشرة تبشر بما للشهداء، وتطالب بألا نحزن على الذين يسارعون في الكفر من هؤلاء المنافقين. ثم إن هذه الفقرة تأتي في سياق القسم الخامس من سورة آل عمران، والذي فيه وعد من الله للمؤمنين بالرعاية والنصر، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين. ومن ثم فهي تربي على المعاني التي ينال بها أهل الإيمان وعد الله بذلك، وتقدم نموذجا على فعل الله لأوليائه في أشد حالات الضيق إذ انتصروا بالرعب، كما تأتي هذه الفقرة بعد مقطع ينهى عن مشابهة الكافرين في بعض أقوالهم، فتكمل هذه الفقرة موضوع ما لا ينبغي أن تتوافق فيه تصورات أهل الإيمان مع أهل الكفر. والفقرة مع هذا كله، تفصل في محور سورة آل عمران من سورة البقرة، ففي أول سورة البقرة ورد قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.

الفقرة الثانية في المقطع الثالث

وفي هذه الفقرة يأتي تفصيل لأثر الإيمان، وهو الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال، والتوكل على الله في كل الظروف. وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وكما جاء كلام في مقدمة سورة البقرة عن الكافرين والمنافقين بعد الكلام عن المتقين، فإن هذه الفقرة تنتهي بكلام عن الذين كفروا بعد إيمان: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وبعد هذه الفقرة تأتي فقرة في المقطع الثالث، تكمل معاني الفقرة الأولي في دفع توهمات الكافرين، وتصحيح تصورات المؤمنين. الفقرة الثانية في المقطع الثالث [سورة آل عمران (3): الآيات 178 الى 179] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) لاحظنا أن الفقرة السابقة بدأت بقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ وهذه بدأت ب وَلا يَحْسَبَنَّ وهناك قراءة ولا تحسبن دل ذلك على أننا في بداية فقرة ضمن المقطع الذي يصحح التصورات الإيمانية ويصفيها، ويميز التصورات الكفرية

المعنى العام

ويصفها، ويوجه المؤمنين إلى كمالهم في التصور. فبعد المقطع السابق الذي صحح التصور حول الموت والقتل، وأنه لا يكون إلا بأجل، جاءت الفقرة الأولى من هذا المقطع تصحح التصور حول مآل الشهداء في سبيل الله. ثم تأتي هذه الفقرة فتصحح تصورات المؤمنين حول الإملاء للكافرين، وامتحان المؤمنين، وكل ذلك يعرض من خلال أخذ الدروس مما حدث يوم أحد، وما بعده، وما قبله. فمن خلال الحياة العملية نأخذ تفصيلات في قضية الإيمان والكفر، وفي سنن الله- عزّ وجل- في أهل الإيمان وأهل الكفر، وفي سنن الله في الصراع الذي يجري بين أهل الإيمان وأهل الكفر. والخطاب في هذه القراءة وإن كان للكافرين إلا أنه تصحيح لتصور المؤمنين، لأن الكافرين لا يستفيدون من الخطاب، ولنلاحظ أن قراءة حمزة بالتاء. المعنى العام: ينهى الله عزّ وجل- الكافرين أن يتصوروا أن إمهالهم والإملاء لهم، خير لهم، بل هو شر لهم، لأنهم بهذا الإملاء يزدادون إثما، فيستحقون العذاب الأكثر، وإذ بين الله- عزّ وجل- أن الإملاء ليس علامة على إرادة الخير بصاحبه، يبين في الآية الثانية أن الامتحان لا بد منه لأهل الإيمان، ليظهر فيه الولي، ويفضح فيه العدو، وليعرف به المؤمن الصابر، من المنافق الفاجر، والأمر كله لله؛ فهو الذي يعلم الغيب كله، ومن ثم يعلم ما فيه الصلاح، وما فيه الفساد، وما هو خير للمؤمنين. فثقوا به، وتوكلوا عليه، وسلموا أموركم إليه. وإذا أطلع على شئ من الغيب، فإنما يطلع رسله، وإذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، فذلك أحرى وأدعى للتوكل ورؤية الحكمة. ثم بشرهم أنهم في حالة إيمانهم وتقواهم سيعطيهم أجرا عظيما. ففي هاتين الآيتين إذن تصحيح لمفهوم الإملاء، والابتلاء، وتبيان للحكمة في ذلك وواجب العبد المؤمن هو الإيمان والتقوى. فهذان فرضا العمر، وهاتان الآيتان واردتان في سياق الكلام عن غزوة أحد ودروسها، لذلك قال مجاهد في قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ... قال: ميز بينهم يوم أحد. وقال ابن كثير في شرح التمييز في الآية: يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين؛ فظهر به إيمانهم وصبرهم، وجلدهم، وثباتهم، وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستار المنافقين، فظهرت مخالفتهم، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن كما قلنا فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فالآية في كل امتحان. ومن ثم قال

المعنى الحرفي

قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة. المعنى الحرفي: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. أي: لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم خير لهم. والإملاء لهم: إمهالهم وإطالة عمرهم، والتوسعة عليهم، وعدم التضييق عليهم. ثم بين لماذا ليس الإملاء خيرا لهم فقال: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. أي: ليزدادوا خطايا فيزدادوا عذابا. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي: مذل. فالإملاء الذي يعقبه عذاب وإذلال، ليس خيرا لصاحبه، بل هو استدراج له. وكما يملي للكافرين، فإنه يمتحن المؤمنين ولذلك قال: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ. أي: ما كان الله ليترك المؤمنين على ما هم فيه من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين. حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. أي: حتى يعزل المنافق عن المخلص. والخطاب في قوله تعالى: عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ للمخلصين منهم. فكأن المعنى: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط مع غيرهم، حتى يميز المخلص منكم عن غيره، وذلك بواسطة المحنة. قال ابن كثير في تفسير ما مر: أي لا بد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيه وليه، ويفضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصابر، من المنافق الفاجر، ولذلك قال تعالى بعد هذا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي: جرت سنة الله أن لا يطلع عامة خلقه على الغيوب، وإذ كان الإيمان والنفاق غيبا، فقد جرت سنة الله أن يتم التمييز بين المؤمن والمنافق لأهل الإيمان بما يفعله من الأسباب الكاشفة عن ذلك، وذلك بواسطة الابتلاءات، والامتحانات. ويشعر قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ بمعنى زائد على ما ذكرنا، وهو أن الله يعلم الغيب وحده، وهو يحب عباده المؤمنين، فثقوا به، وتوكلوا عليه في المحنة، فإن مآلها بالنسبة لكم خير، والله أعلم. وبعد أن بين الله، أنه وحده يعلم الغيب، وأنه لا يطلع عباده على غيبه قال: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. أي: ولكن الله يصطفي من رسله من يشاء، وهي هنا تعني: ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه، ويخبره بشيء من الغيب ومن ذلك: إيمان ناس ونفاق آخرين، فهو يعلم ذلك من جهة إخبار الله له لا من جهة نفسه. وقد فهمنا هذا من مجئ قوله «ولكن» بعد قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ. وذكر معرفة الله الغيب، وعدم معرفتنا، وذكر اجتباء الله الرسول واطلاعه على شئ من الغيب، يفيد المطالبة لنا بزيادة التوكل على الله. ومن ثم

فوائد

صدر الأمر بعد هذا بقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. أي: آمنوا بهما حق الإيمان، الإيمان الذي يرافقه الإخلاص، والثقة، والطاعة، والعمل، والاطمئنان عند الامتحان والثبات فيه. ثم وعدهم على الإيمان والتقوى أجره العظيم فقال: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. أي: إن تؤمنوا بالله ورسله، وتتقوا النفاق، وما يؤدي إلى عقوبة الله، فلكم أجر عظيم في الآخرة. فوائد: 1 - ذهب المعتزلة إلى وجوب الصلاح والإصلاح على الله، كما ذهبوا إلى نفي إرادة المعاصي عن الله. وفي قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً حجة لنا عليهم في أنه لا يجب على الله شئ وجوبا عقليا، بل وجوبا شرعيا بإيجابه على نفسه، وأنه لا يكون في هذا الكون شئ إلا بإرادته. 2 - وذهب الباطنية إلى أن إمامهم يعلم الغيب، وفي قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ رد عليهم. كلمة في السياق: تحدثت الفقرة عن الإملاء والابتلاء، وكلاهما مما يخطئ فيه الناس، فكثيرا ما يظن الظانون أن الإملاء علامة الكرامة، وأن الابتلاء علامة الإهانة، فجاءت الفقرة تصحح هذين المفهومين، فالصلة بين معانيها قائمة. والصلة مع ما قبلها مباشرة قائمة: فما قبلها هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فالله- عزّ وجل- توعد الكافرين في هذه الآية بالعذاب الأليم، وكثيرا ما يرى الناس أن كافرا يتنعم في هذه الحياة الدنيا، ومسلما يضطهد، فجاءت الفقرة اللاحقة تبين أن الإملاء، والابتلاء، ليسا علامة على الكرامة والإهانة، بل النار والجنة هما العلامة، فلا يخلو كافر من شقاء، ولا يحرم مؤمن من سعادة في الدنيا، والعاقبة للمتقين. والصلة بين هذه الفقرة والفقرة التي قبلها واضحة من خلال حرف العطف، كما أن الصلة بين الفقرة وبداية القسم الخامس قائمة، فالله- عزّ وجل- وعد المؤمنين في

الفقرة الثالثة في المقطع الثالث

بداية القسم بالنصر والرعاية، وجاءت هذه الفقرة لتبين أن الابتلاء نفسه في حق المؤمن رعاية ونصرة. ولنتحدث عن صلة ما يمر معنا بسورة البقرة: أقول: إن قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ أقول: إن هذه المجموعة وثيقة الصلة بمقدمة سورة البقرة التي فيها: الذين يُقِيمُونَ الصَّلاةَ والتي فيها أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وإذن فهذه المجموعة من امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة في السورة، فلنلاحظ الآن ما يلي: بدأت المجموعة بالأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، ثم جاء قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ وجاءت الفقرة الأولى في هذا المقطع الثالث في تفصيل هذا: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً .... وبعد تلك الآية من سورة البقرة جاء قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ. والملاحظ أن هذه الفقرة التي مرت معنا كان فيها حديث عن حكمة الابتلاء والإملاء والآن تأتي فقرة تتحدث عن البخل والبخلاء، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ واضحة، أليس في ذلك نوع دليل على أن محور سورة آل عمران هو مقدمة سورة البقرة، وأنها تفصل فيما هو كالامتداد لهذه المقدمة في سورة البقرة! وكل ذلك دون أن يكون على حساب السياق الخاص لسورة آل عمران. إن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وهي في كل مرحلة تشد لنا معنى من امتدادات المقدمة وتفصل في الجميع. الفقرة الثالثة في المقطع الثالث [سورة آل عمران (3): آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

المعنى العام

[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 187] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) المعنى العام: نهى الله- عزّ وجل- في هذه الفقرة أن يظن البخيل أن جمع المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل ماله يوم القيامة، إذ يعذب به. ثم يخبر تعالى أنه وارث السموات والأرض، وأنه خبير بالأعمال والنيات، وهذا يقتضي أن ننفق مما أعطانا، وكما أمر، وبمحض الإخلاص لنلقى جزاء ذلك. ثم رد الله- عزّ

المعنى الحرفي للآيات

وجل- شبهة أثارها المتكبرون- وهي دعواهم إذ أمرنا ربنا بالإنفاق- أنه فقير، وهم الأغنياء، وهذا معناه في زعمهم احتياجه لهم، فهددهم الله على مقالتهم وعلى قتلهم الأنبياء من قبل. ومن هنا نفهم أن قائلي هذا الكلام هم اليهود، وبين أن جزاءهم على ذلك عذاب جهنم بسبب أفعالهم، لا بظلم من الله لأن ربنا ليس بظلام لخلقه، ثم بين أن من أخلاق هؤلاء، وأقوالهم دعواهم أن الله لم يأذن لهم أن يؤمنوا برسول إلا إذا قدم قربانا أكلته نار من السماء، فرد عليهم هذه الدعوى، وبين لهم أنهم كاذبون فيما يطلبون، فإن رسلا آخرين جاءوا بمعجزات، وبقربان أكلته النار فقتلوهم، فهذا دليل على أن كلامهم هذا من باب التعنت لا من باب الإنصاف، ثم عزى الله رسوله بأنه إن كذبه هؤلاء، فإن غيره من الرسل قد كذبوا مع مجيئهم بالمعجزات والوحي، ثم وعظ الله الناس وعظا عاما بالموت، وذكرهم بالنار والجنة، وأن الفوز هو في الزحزحة عن النار، ودخول الجنة، وأن هذه الدنيا فانية، والتذكير بهذا في سياق النهي عن البخل واضح الدلالة. ثم ذكر الله- عزّ وجل- المؤمنين بأن من سنته أن يبتليهم في الأموال والأنفس، وذكرهم بأن أهل الكتاب والمشركين سيؤذونهم كثيرا، وندبهم إلى الصبر والتقوى، وأثنى على من يتحقق بهذا. ثم إن الفقرة تتجه للتذكير بما أخذ من عهود على أهل الكتاب على ألسنة أنبيائهم أن يبينوا كتاب الله ولا يكتموه، ومن ذلك ما ورد فيه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكون الناس على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه. فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا. المعنى الحرفي للآيات: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ وفي قراءة: ولا تحسبن، وهذا يؤكد الصلة بين الفقرات التي تؤلف هذا المقطع. والمعنى: لا يظنن البخلاء بحقوق الله التي جعلها فيما رزقهم، أن بخلهم خير لهم. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ. أي: بل بخلهم شر لهم، لأن أموالهم ستزول عنهم، ويبقى

[سورة آل عمران (3): آية 181]

عليهم وبال البخل، والشرية لهم في الآخرة متحققة، وقد يكون بخلهم شرا عليهم في الدنيا كذلك بما يصيبهم بسبب هذا البخل من كراهية، وثورات عليهم، وعقوبات دنيوية وربانية. سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا تفسير للشر الذي يصيبهم بسبب بخلهم في الآخرة. ومعناه أن الله سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقا في أعناقهم يوم القيامة، كما شرحته السنة. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: وله ما فيهما مما يتوارثه أهلها من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يغيب عنه ظاهر العمل ولا باطنه، فاعملوا خيرا، وأخلصوا نياتكم وضمائركم لله فيه، لتنقذوا أنفسكم من عذابه، وتنالوا رضوانه. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قال ذلك اليهود عليهم اللعنة عتوا على الله في تحريفهم لمراد الله من أوامره، ومعنى سماع الله له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعد له كفاء من العقاب. سَنَكْتُبُ ما قالُوا هذا تهديد ووعيد لهم، ومعناه: سنحفظه عليهم، ونحاسبهم عليه، أو سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف؛ لنجزيهم عليه. وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. أي: سنكتب قولهم هذا، وقتلهم الأنبياء، فجعل قتلهم الأنبياء قرينا لهذا القول إيذانا بأنهما في العظم أخوان، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على هذا القول، فهؤلاء جرآء على رسله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولذلك قال: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. أي: ونقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب النار، قال الضحاك: يقول لهم ذلك خزنة جهنم، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ. أي: ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر، والمعاصي، والجرأة على الله ورسله. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يكون بها، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. أي: إن الله لا يظلم عباده، فلا يعاقبهم بغير جرم. ويقال لهم هذا تقريعا وتوبيخا، وتحقيرا وتصغيرا، ثم بين الله عتو هؤلاء وجرأتهم وكذبهم: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. أي: إنهم ادعوا أن الله أمرهم بالتوراة، بألا يؤمنوا برسول، فيصدقوه، ويتابعوه، إلا إذا قرب قربانا لله، فتنزل نار من السماء فتأكله، والقربان: ما يتقرب به إلى الله. والمعنى: افعل هذا يا محمد نصدقك!! وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم، قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ. أي: بالحجج، والبراهين، والمعجزات، سوى القربان،

[سورة آل عمران (3): آية 184]

وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي: بالقربان الذي أكلته النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ. أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمعاندة والقتل، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أي: في دعواكم أنكم تتبعون الحق، وتنقادون للرسل إن فعلوا ما طلبتم. فإذا كان هذا فعلكم بمن هو منكم، فكيف يكون فعلكم بمن ليس منكم إن قدرتم عليه، ولا شك أن كلامهم محض افتراء وتعنت، فالمعجزة معجزة أيا كانت، والله- عزّ وجل- هو الذي يختار المعجزة التي تشهد على صدق رسله، وعلى الخلق أن يؤمنوا. ثم قال تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. أي: فإن كذبك اليهود فلا يهولنك ذلك، فقد فعلت أقوام برسلها وأنبيائها كذلك مع كونهم جاؤُ بِالْبَيِّناتِ. أي: بالمعجزات الظاهرات وَالزُّبُرِ. أي: الكتب المتلقاة من السماء وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ. أي: الواضح الجلي المضئ. والملاحظ أن الزبر، والكتاب، بمعنى واحد، فما الفارق بينهما؟. قال النسفي: قيل هما واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: ما من نفس إلا وستموت، وستعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة، فإن الدنيا ليست بدار جزاء. قال النسفي رابطا بين هذه الآية وما قبلها: والمعنى: لا يحزنك تكذيبهم إياك، فمرجع الخلق إلي فأجازيهم على التكذيب، وأجازيك على الصبر. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ. أي: أبعد، إذ الزحزحة: الإبعاد وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. أي: ظفر بالخير. فمن جنب النار ونجا منها، وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. أي: صغير شأنها، حقير أمرها، دنيئة فانية، قليلة زائلة. شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام، ويغرر حتى يشتريه، ثم يتبين له فساده، ورداءته، والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير: إن هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. أي: لتختبرن في الأموال والأنفس، أما في الأموال فبما يقع بها من آفات، أو بما يصادر منها في سبيل الله، أو بما ينفق منها في سبيل الله، وأما في الأنفس، فبالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب. قال ابن كثير: أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شئ من ماله، أو نفسه، أو ولده، أو أهله، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. أي: اليهود

[سورة آل عمران (3): آية 187]

والنصارى، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. أي: كل الكافرين سوى اليهود والنصارى، والملحدون مشركون، إذ أعطوا الكون صفات الله من الخلق والإرادة والإحياء والإماتة، وجعلوا أنفسهم آلهتهم، أَذىً كَثِيراً كالطعن في الدين، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن ونحو ذلك. وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا مخالفة أمر الله فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. أي: فإن الصبر والتقوى من عزائم الأمور، أي: مما يجب العزم عليه من الأمور. خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد، والصبر عليها. حتى إذا كانت لقوها وهم مستعدون، لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. أي: اذكر ذلك، ثم بين ماهية الميثاق لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ هذا هو الميثاق، بيان الكتاب، وعدم كتمانه. ومن الصيغة نفهم تأكيد إيجاب بيان الكتاب، واجتناب كتمانه، وكما أخذ عليهم الميثاق أخذ علينا. قال عليه السلام: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ. أي: فنبذوا الميثاق ولم يراعوه، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر، مثل في الطرح وترك الاعتداد. قال النسفي: وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، أو لجر منفعة، أو دفع أذية، أو لبخل في العلم. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. أي: اشتروا بهذا الكتمان عرضا يسيرا، والدنيا كلها عرض يسير. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ. أي: فبئس الصفقة صفقتهم إذ باعوا العظيم بما لا يساوي شيئا. فوائد: 1 - روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك»، ثم تلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... إلى آخر الآية. وروى ابن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه، فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا خرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى

كلمة في السياق

يطوقه». 2 - قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً (سورة البقرة) قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك فسأل القرض، فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. 3 - ذكر ابن كثير عن ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه، ولا يرون شخصه فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». 4 - أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لموضع سوط أحدكم في الجنة، خير من الدنيا وما فيها» قال: ثم تلا هذه الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وفي الحديث «والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع إليه» وقال قتادة في قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال هي متاع متروكة أو شكت- والله الذي لا إله إلا هو- أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله». 5 - قال ابن كثير في التعليق على قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً فكل من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله. كلمة في السياق: سيأتي بعد الآية الأخيرة من الفقرة السابقة قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وقد رأينا أن مجئ كلمة (الحسبان) في هذا السياق علامة على ابتداء فقرة، مما يشير إلى أن آية الكتمان الواردة في الفقرة التي مرت معنا هي نهاية هذه الفقرة.

والملاحظ أن الفقرة التي مرت معنا، وهي الفقرة الثالثة في مقطعها قد ذكرت ثلاث معان رئيسية: البخل، والابتلاء الذي يقتضي الصبر، ومنه الصبر على إيذاء أهل الكتاب، والمعنى الثالث كتمان أهل الكتاب. وقد رأينا أن المقطع الثالث الذي نفسره يفصل في مقطع الصبر من سورة البقرة، الذي فيه ذكر الابتلاء والصبر عليه، والذي فيه ذكر الكتمان. فلو أنك تأملت الفقرة التي بين أيدينا، لرأيتها تفصل في حيزها الأول في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ من مقدمة سورة البقرة، وتفصل في حيزها الثاني في الابتلاء والكتمان من مقطع الصبر في سورة البقرة. وهذا يؤكد أن سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها، وبشكل يربط ويدل على صلة المعاني الواردة في سورة البقرة، بما له صلة بالمقدمة بشكل مباشر، ولو أنك نظرت إلى الكتمان، لرأيت أن له صلة بقوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولو أنك نظرت إلى الصبر على إيذاء أهل الكتاب، والصبر على الابتلاء، لرأيت له صلة بالإيمان بالغيب. فصلة الفقرة إذن في تفصيل مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها موجودة، ألا ترى مثلا أن قوله تعالى في الفقرة الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ ... فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ألا ترى أن لهذا صلة مباشرة بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. إنك كيف تأملت تجد روابط بمقدمة سورة البقرة، والمعاني الأكثر لصوقا بها من سورة البقرة. إن سورة آل عمران تشد المعنى المرتبط بمقدمة سورة البقرة إلى جزء في هذه المقدمة، ثم تفصل فيه، ثم تشد جزءا آخر، ثم تفصل فيه، وهكذا ضمن سياقها الخاص بها. فمثلا في سورة البقرة جاءت آية الكرسي ضمن سياقها وهي مبدوءة بقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ولذلك صلة بمقدمة سورة البقرة، سواء من حيث الإيمان بالغيب، أو إنزال الكتاب. وجاءت سورة آل عمران لتشد هذا المعنى إلى المقدمة فتفصل في ذلك، وبذلك بدأت السورة كما رأينا. ولئن قصر تعبيرنا في موطن من هذا التفسير عن التدليل، فإن في مجموع ما سنذكره في هذا التفسير لدليلا- إن شاء الله- على صحة اتجاهنا. هناك ارتباط بين الصبر والتقوى، لذلك رأينا من قبل في سورة آل عمران:

وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ورأينا في هذه الفقرة: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وهذا يؤكد الارتباط المباشر بين مقدمة سورة البقرة ومجموعة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ .. رأينا أن الصلة بين فقرات هذه المقطع واضحة، من حيث إن المقطع كله يصحح مفاهيم، وهو مرتبط بالمقطع السابق عليه، كذلك بهذا القاسم المشترك، وأما الصلة بين الفقرة التي مرت معنا، وبين بداية القسم الذي نهى عن طاعة أهل الكفر، ووعد المؤمنين بالرعاية والنصرة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، فمن حيث إنه أرانا مواقف للكافرين كل منها تقتضي ألا نطيعهم، ومن حيث إنه وطن أنفسنا على الكثير مما سنواجهه، فحمل الدعوة والاستقامة عليها، وكسب النصر في الله ليس سهلا، ولعل الصلة بين معاني الفقرة لا تخفى على المدقق، فأهل الكتاب بخلوا، والسبب هو الدنيا، وآذوا المسلمين، وكان المفروض أن يؤمنوا بما آمن به المسلمون لأن هذا مقتضى الميثاق المأخوذ عليهم بالبيان. والصلات في الفقرة أوسع وأعمق وأبعد. هناك ناس يبخلون، فما السر في بخلهم: إن السر في بخلهم اعتقاد فاسد ونسيان للموت، فهم يعتقدون أن الله هو المكلف برزق الفقراء، وذلك أثر عن عدم الإيمان بالرسل، فالبخل في أرضيته الواسعة يعود إلى مثل هذا، لذلك استطردت الفقرة إلى هذه الشئون. ثم إن من أسباب البخل نسيان الموت، ونسيان الحساب والجنة والنار، لذلك جاء في السياق كلام عن ذلك. وبسبب من هذا فالبخلاء يشكلون كتلة اقتصادية تستند إلى أرضية اعتقادية، وهم كتلة في مقابل الكتلة الإيمانية، والصراع بين الكتلتين سيترتب عليه ابتلاء وإيذاء لأهل الإيمان، ومن ثم جاء كلام عن ذلك. وكأصل لعلة البخل، وكأصل لتكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام، يأتي موضوع كتمان الكتاب من أهل الكتاب، ولذلك تختم الفقرة بهذا المعنى، ولكن آية الكتمان هنا تأتي بعد الآية التي تذكر الابتلاء والإيذاء، فكأنها في الوقت نفسه تقول: أيها المؤمنون احذروا أن يمنعكم الابتلاء والإيذاء من أن تظهروا حكم الله وتبينوه. وهكذا تجد أكثر من وشيجة تربط بين آيات الفقرة. ولنتذكر الآن شيئا، كنا في مقطع الصبر من سورة البقرة ذكرنا الحكمة في مجئ آية

الفقرة الرابعة من المقطع الثالث

الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، قبل ذكر الابتلاء، ومجئ آية الكتمان في ذلك السياق يشير إلى أن البيان سيرافقه ابتلاء، والابتلاء يحتاج إلى استعانة بالصبر والصلاة، والملاحظ أن آية (الصفا) في ذلك المقطع فصلت بين آية الكتمان وآيات الصبر، أما هاهنا فإن آية الكتمان جاءت بعد آية الصبر مباشرة. ولعلنا الآن نستطيع أن نقول كلمة أكثر وضوحا في السياق القرآني العام: لقد سارت سورة البقرة على تسلسلها الذي رأيناه، فكانت مقدمة، وأقساما ثلاثة، وخاتمة. وكان هناك كثير من المعاني التي وردت في الأقسام الثلاثة، والخاتمة تفصل في معان موجودة في مقدمة سورة البقرة، فجاءت سورة آل عمران لتفصل في مقدمة سورة البقرة، ولتشد المعاني المرتبطة بهذه المقدمة من سورة البقرة نفسها، لتربطها بالمقدمة، ولتفصل في ذلك كله على نمط لا يعرفه الإنسان، ولا يخطر على بال إنسان، ولا يستطيعه إنسان، والأمر بالنسبة للقرآن كله أوسع، وسيتضح الأمر معنا شيئا فشيئا، ولننتقل إلى الفقرة الرابعة في المقطع الثالث. الفقرة الرابعة من المقطع الثالث وهي آيتان: [سورة آل عمران (3): الآيات 188 الى 189] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) سبقت هاتين الآيتين، آية تحدثت عن نبذ أهل الكتاب لكتاب الله وراء ظهورهم، وشرائهم به ثمنا قليلا، ثم جاءت هاتان الآيتان، فكأنهما تقولان: إن هناك ناسا يكتمون، ويريدون أن يحمدوا على أنهم يجهرون بالحق، فهؤلاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظن أنهم بمنجاة من عذاب الله، والنهي لرسوله صلى الله عليه وسلم نهي لأمته، ثم بين الله عزّ وجل أنه مالك كل شئ، والقادر على كل شئ فلا يعجزه شئ. ولنذكر سبب نزول الآية الأولى، والفهوم غير المرادة منها، وتصحيح الصحابة

لها، ونعرض مع ذلك المعنى الحرفي لها ولما بعدها. روى الإمام أحمد أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ .. إلى قوله تعالى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وهذه الآية: لا تَحْسَبَنَّ ... وقال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه. فالآية إذن أول ما يدخل فيها- إذا نظرنا إلى معناها من خلال السياق- هذا الذي ذكره ابن عباس. ومن ثم لاحظنا أن ابن عباس ربط بين هذه الآية وما قبلها، وعلى هذا فمعنى الآية: لا تظنن الذين يفرحون بما أتوه من كتمان الحق الذي أنزله الله، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من إظهار الحق، لا تحسب أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم. على أنه إذا فهمنا الآية هذا الفهم من خلال سياقها، فإننا يمكن أن نفهمها فهما آخر من خلال نصها. وقد روى البخاري وغيره سببا لنزول الآية غير ما ذكرنا، ومنه نفهم أن الآية تفهم من خلال نصها مما يدخل فيها غير الحالة الأولى. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو، اعتذروا، وأحبوا أن يحمدوا على ما لم يفعلوا فنزلت: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ .. الآية. وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد: إنما ذاك أن ناسا من المنافقين يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نصر من الله وفتح، حلفوا لهم ليرضوهم، ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. وعلى هذا يصبح معنى الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوه من تخلف عن أمر الله، وأمر رسوله، ويحبون مع هذا أن يحمدوا بأنهم من أهل الإيمان والجهاد، وهم لم يفعلوا ما يدل على ذلك، فلا تحسب أن هؤلاء بمنجاة من العذاب.

[سورة آل عمران (3): آية 189]

وسبب ذلك أن المسلم إذا تخلف عن الجهاد حزن، كما سيمر معنا في سورة براءة، وإذا جاهد رغب أن يكون جهاده خالصا لوجه الله تعالى، فهو يخجل من إظهار العمل، وهؤلاء عكس ذلك، فهم في الطرف المقابل من أهل الإيمان في أخلاقهم. وعلى هذا الاتجاه فما الصلة بين هذه الآية وما قبلها؟ الصلة- والله أعلم- أن الجهاد طريق إظهار الحق. وهؤلاء لا يشاركون فيه، ويحبون أن يحمدوا بأنهم من أهله، وإذا نظرنا إلى لفظ الآية ونصها، فإننا نرى فيها وعيدا لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب. ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه، وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي: لا تحسبنهم فائزين، أي لا تحسبنهم بمنجاة من عذاب الله. وبعد هذا نقول: إن نقطة الخطأ في الفهم هي: أن يفهم فاهم أن مجرد فرحه بفعله يستحق به عذاب الله، وذلك أن الفرح إذا كان بفضل الله، فذلك شئ مشروع، وإنما تدخل في الآية ثلاث حالات (والله أعلم): الحالة الأولى: أن يكتم إنسان ما أنزل الله، ويحب أن يحمد على أنه من المجاهرين به. والحالة الثانية: أن يتخلف إنسان عن طاعة الله، وهو فرح بهذا التخلف، ويحب أن يحمد على أنه من القائمين بأمر الله. والحالة الثالثة: أن يفرح الإنسان بعمله فرح إعجاب- إذ العجب يحبط العمل- ويحب أن يتظاهر بغير ما هو له، وأن يحمد به، وقد قال ابن كثير في شرح الآية: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة» وفي الصحيحين أيضا «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور .. ». ونذكر بما قلناه من قبل بهذه المناسبة كيف أن هذا القرآن لا تنتهي عجائبه ومعانيه. فمن خلال السياق الجزئي نفهم شيئا، ومن خلال السياق العام نفهم شيئا، ومن خلال المعنى الحرفي نفهم شيئا، ولا يتناقض هذا مع هذا، بل يكمله ويتممه. ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي: هو المالك لكل شئ، وهو القادر على كل شئ، ومجئ هذه الآية في السياق مرتبط بما قبله من ناحية أن الذين يكتمون، إنما يشترون بكتمانهم ثمنا قليلا. فذكرهم الله بأنه هو مالك كل شئ، وبيده العطاء. ومن ناحية أن الذين يفرحون بما أتوا يستحقون العذاب. وقدرة الله محيطة بهم تنالهم لتعذبهم. إن التذكير بمالكية الله للأشياء كلها، وقدرته على الأشياء كلها، وتذكر ذلك، هو المصفي لكل أمراض النفوس.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: بهذه الفقرة تم المقطع الثالث، من القسم الخامس، من سورة آل عمران، والفقرة الأخيرة منه مرتبطة بالفقرات كلها، بجامع أنها تصحح مفاهيم وتصورات، ثم هي تعقيب على الأصناف السابقة التي تبخل، وتكتم، وتشتري ثمنا قليلا، وتحب أن تمدح بما لا تفعل، ناسية أن الله مالك كل شئ. فالفقرة متصلة بما قبلها مباشرة، وهي تؤدي للسياق العام ما يكمله، وبها تكتمل عندنا مجموعة معان كلها تخدم في توضيح، وتفصيل مقدمة هذا القسم، الذي بدأ في النهي عن طاعة الكافرين، ووعدنا الله به الرعاية والنصرة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين. ولننتقل إلى المقطع الرابع والأخير في القسم الخامس. وهو خاتمة السورة كلها. المقطع الرابع من القسم الخامس يمتد هذا المقطع من الآية (190) إلى نهاية الآية (200) أي إلى نهاية السورة. وهذا هو: [سورة آل عمران (3): الآيات 190 الى 194] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

كلمة في هذا المقطع

[سورة آل عمران (3): آية 195] فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) *** [سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 198] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) *** [سورة آل عمران (3): آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) *** [سورة آل عمران (3): آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) كلمة في هذا المقطع: هذا المقطع هو خاتمة السورة، وهو خاتمة القسم الذي بدأ بالنهي عن طاعة الكافرين، والتأكيد على تولي الله للمؤمنين بالرعاية والنصرة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، ولذلك فإنه يذكرنا بأخلاق المؤمنين، ودعواتهم ومواقفهم، ثم ينهانا عن أن نغتر بتقلب الكافرين في البلاد. ثم يبين لنا أن نوعا من أهل الكتاب يسلمون فيؤمنون إيمانا صادقا

المعاني العامة في المقطع

فلهم أجرهم عند ربهم، ثم يأمرنا بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى، وفي ذلك كله ما يعمق عندنا الإيمان الذي لا نطيع به كافرا، والذي ننال به وعود الله لنا، وإذ كان هذا المقطع هو خاتمة السورة، فإنه يربط بين بداية السورة، وخاتمتها. ففي بداية السورة وصف الله- عزّ وجل- أولي الألباب بقوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ويأتي في هذا المقطع تعريف لأولي الألباب. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ... فهؤلاء هم الذين يؤمنون بالكتاب حق الإيمان، فيؤمنون به كله، عاملين بمحكمه، مسلمين لمتشابهه، وهم القائمون بأمر الله حقا. وكما ذكر المقطع الأول في السورة الكافرين وأهل الكتاب، فهذا المقطع يذكر الكافرين، ويثني على من آمن من أهل الكتاب. فالسورة يرتبط أولاها بأخراها، كما ترتبط كل أقسامها برباط جامع. وكون المقطع تفصيلا لمقدمة سورة البقرة فهذا واضح. فمقدمة سورة البقرة تذكر أن القرآن هدى للمتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهذا المقطع يذكر: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وتختم السورة بكلمة الفلاح: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وكما أن سورة البقرة سبقت خاتمتها بآية تذكر بمالكية الله، فإن خاتمة سورة آل عمران كذلك. وكما أن خاتمة سورة البقرة ختمت بتعليم وتقرير لقضايا إيمانية ودعوات، فإن سورة آل عمران كذلك. المعاني العامة في المقطع: جاءت الآيات الأولى في المقطع تبين: من هم أولو الألباب، فقد بين الله- عزّ وجل- أن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات، ولكن هذه الآيات لا تتكشف إلا لأهل اللب. ثم بين أن أهل اللب هم

المعنى الحرفي للمقطع

الذين اجتمع لهم الفكر والذكر. وأنهم يعطون الله- كأثر عن فكرهم وذكرهم- ما يليق بجلاله، فيدعون الله بمجموعة دعوات تجمع قضايا الإيمان والخير كلها. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه استجاب لهم دعواتهم بسبب ما قدموه من عمل، وهجرة، وصبر، وقتال، مما يدل على أن من هذه أخلاقهم هم أولو الألباب، وهم وحدهم الذين يتذكرون، وأن جزاءهم جنات الله بما فيها. ثم صدر النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينظر نظر إكبار إلى ما فيه الكافرون من نعمة، وغبطة وسرور، فالدنيا كلها لا تساوي شيئا بجانب الآخرة، وأن ما هم فيه أمام ما أعد الله لهم من عذاب جهنم لا يساوي شيئا. ثم أعاد الله البشارة بالجنات لأهل التقوى بعد النهي عن الاغترار بتقلب الذين كفروا في البلاد. ثم بين الله- عزّ وجل- أن هناك طائفة من أهل الكتاب يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم مطيعون لله، خاضعون، متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي: لا يكتمون ما بأيديهم من بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته، ونعته، ومبعثه، وصفة أمته، هؤلاء أجرهم محفوظ عند الله، ثم ختمت السورة بنداء لأهل الإيمان بالصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى؛ من أجل فلاحهم. فدل ذلك على أنه ليكون الإنسان من المفلحين، لا بد له من اجتماع هذه الأربعة. المعنى الحرفي للمقطع: إذ أعطانا الله صورة ناس فيما مر، لا يقومون بحق الله في كتابه، فإنه الآن يعطينا صورة من يقوم بحق كتابه من خلال مجموعة آيات تصف أولي الألباب الذين هم وحدهم- كما نصت سورة آل عمران في أولها- الذين يتذكرون إذا ذكروا. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. وهذه الآيات- إلى نهاية السورة- لها شأن خاص، وقد وردت فيها آثار خاصة كما سنرى. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: في حدوثهما وتقديرهما وما في خلقهما من الحكمة. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: تعاقبهما، وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا، فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا. لَآياتٍ أي: لأدلة واضحة على صانع حكيم قادر حي لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: لأصحاب العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها. وفي كتابنا «الله جل

[سورة آل عمران (3): آية 191]

جلاله» شرحنا كيف أن ظواهر هذا الكون تدل أصحاب العقول- بما لا يقبل شكا- على الله، وذلك أن كل قوانين العقل والعلم تشهد على أن لهذا الكون بداية، فهو حادث، وحدوثه يدل على محدثه، ومحدثه أزلي قديم، وإلا لاحتاج إلى محدث آخر، إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته .. ثم وصف الله أولي الألباب أي: الذين خلصت عقولهم عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: الذين اجتمع لهم دوام الذكر، وعبادة الفكر في ملكوت السموات والأرض. وفسر الذكر في الآية بالصلاة، كما ثبت في الصحيحين عن عمران ابن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» كما فسر بالذكر الدائم في جميع الأحوال، بالسرائر والضمائر والألسنة. والتفسير الأول: هو تفسير للذكر بالذكر المفروض، والتفسير الثاني: هو تفسير للذكر بالذكر المسنون، فقد وصفت عائشة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» والتفكير في خلق السموات والأرض يدخل فيه التفكير في الظواهر الدالة على عظمة الخالق، وقدرته، وعلمه، وحكمته، واختياره، ورحمته، وكبرياء سلطانه، بما يستجيش في النفس، وعلى اللسان ما يأتي: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. هذا الذي يستجيشه تفكيرهم أن يقولوا: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا بغير حكمة، بل خلقته لحكمة عظيمة، لتكون أدلة للمكلفين على معرفتك. خلقته بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. سُبْحانَكَ أي: تنزيها لك عن العبث وخلق الباطل. فَقِنا عَذابَ النَّارِ جزاء ما عرفناك ونزهناك، أي: يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص، والعيب، والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: يوم القيامة لا مجير منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، ولا شفعاء لهم ولا أعوان. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أي: داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي: يقول: آمنوا بربكم فآمنا، أي: فاستجبنا له واتبعناه. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي: استر كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي: وامح عنا خطايانا

[سورة آل عمران (3): آية 194]

من الصغائر. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي: وألحقنا بالصالحين. والأبرار جمع بر: وهو المتمسك بالكتاب والسنة. فصار معنى الآية: ربنا بإيماننا، واتباعنا نبيك، اغفر الذنب كله، واجعلنا من المعدودين في جملة الأبرار، بأن تختم لنا كما ختمت لهم. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنة رسلك، والموعود هو الثواب أو النصر على الأعداء، أو كلاهما. وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد، إذ الوعد غير مبين لمن هو، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك، أو المراد إظهار العبودية والافتقار، والضراعة والخضوع. وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: لا تذلنا يوم القيامة على رءوس الخلائق. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك. فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي: إن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره، استجاب لهم. ثم فسر هذه الإجابة والاستجابة فقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى والمعنى: أنه لا يضيع عمل عامل لديه، ذكرا كان أو أنثى، بل يوفي كل عامل عمله بالقسط. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر. والجميع في ثوابي سواء، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين. وإذا كان الأمر كذلك، فعمل العامل ذكرا كان أو أنثى واصل جزاؤه لصاحبه. وهذه الجملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عبادة العاملين، ثم فصل عمل العامل منهم على سبيل التعظيم لهذا النوع من العمل. فَالَّذِينَ هاجَرُوا من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة إلى دار السنة، ومن دار الجور إلى دار العدل، مفارقين الأحباب، والخلان، والإخوان، والجيران، والأوطان، فارين إلى الله بدينهم، إلى حيث يأمنون هم وذرياتهم عليه. قال النسفي: والهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ التي ولدوا فيها ونشئوا، أي ضايقهم أعداء الله بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي: وأوذوا بالشتم والضرب، ونهب المال في سبيل دين الله. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا أي: وجاهدوا أعداء الله بأيديهم واستشهدوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: هؤلاء الذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة لأغفرن لهم ذنوبهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن، وعسل، وخمر، وماء غير آسن، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر

[سورة آل عمران (3): آية 196]

على قلب بشر، ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: إثابة من عند الله يختص به، ولا يقدر عليه غيره، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي: عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا. بينت هذه الآيات من هم أولو الألباب على الحقيقة، وما هو جزاؤهم. والصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة، من حيث إن هؤلاء هم الذين يعطون كتاب الله حقه على عكس أولئك. وبهذا انتهت الفقرة الأولى من هذا المقطع فلنر فقرة أخرى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتا له- إذ هو غير مغتر- وهو خطاب لكل فرد في أمته، أي: لا يغرنك ما هم فيه من النعمة، والغبطة، والسرور، والمتعة، واللذة، والسلطان، فيحرفك عن الحق الذي أنزله الله إليك، وما أكثر من يغتر بسلطان الكافرين، وعزتهم، وسيطرتهم على كثير من بلاد العالم، فيحرفه ذلك عن الحق. مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: تقلبهم في البلاد متاع قليل، قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، قليل في نفسه لانقضائه، وكل زائل قليل. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي: وساءت جهنم مهادا مهدوه لأنفسهم. ثم بين أن المتاع الحقيقي لأهل التقوى فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي: لا بقاء لتمتع الكافرين، لكن ذلك للذين اتقوا، ثم بين هذا المتاع الحقيقي لأهل التقوى فقال. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهذا هو المتاع الحقيقي الذي لا انقضاء له، وفي هذا دعوة للمؤمنين لكي يثبتوا على التقوى في كل الظروف، ولو كانت الغلبة، والعز، والجاه، والسلطان لأهل الكفر. ثم بين أن ما أعطاه للمتقين من المتاع الحقيقي إنما هو رزق، وعطاء، وضيافة من عنده فقال: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ضيافة، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ أي: وما عند الله من الخير الكثير الدائم، خير للأبرار، مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل. فليثبت أهل البر على برهم، وليثبت أهل الإيمان والتقوى والحق على كتاب الله وشرعه. ثم ذكر صنفا من أهل الكتاب هم غير من مر من الكاتمين والكافرين: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي: من القرآن وَما

[سورة آل عمران (3): آية 200]

أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة، والإنجيل، والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ أي: مطيعين خاضعين متذللين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: لا يكتمون ما يعلمون من مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، والتبشير ببعثته، ورسالته، كما يفعل من منعه الكبر من الأحبار، والرهبان، والمتكبرين، وهؤلاء الذين وصفهم الله هم خيرة أهل الكتاب، وصفوتهم، إذ جمع الله لهم الإيمان التفصيلي بما أنزل، ولذلك وعدهم هنا فقال: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: أولئك لهم الأجر المختص بهم عند ربهم وهو ما وعدهم الله به في قوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ (سورة القصص) إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ حسابه سريع لنفوذ علمه في كل شئ. ثم ختم السورة بهذه الآية الجامعة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: اصبروا على الدين وتكاليفه، وصابروا أعداء الله في الجهاد، أي: غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل صبرا منهم وَرابِطُوا أي: أقيموا في الثغور مترصدين لقتال أعداء الله، أو رابطوا في المساجد مستعدين لحرب الشيطان وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بوراثة الجنة، ونيل رضوان الله. والفلاح: البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، وإنما قال: لَعَلَّكُمْ لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال. ولنعد ذكر التشابه بين قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وبين قوله تعالى هنا في آخر آل عمران: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ*. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ولنلاحظ ذكر الإيمان بما أنزل علينا، وما أنزل من قبل، وذكر الفلاح لندرك ما كررناه من أن سورة آل عمران تفصيل لمحورها من سورة البقرة، وهي مقدمتها وماله علاقة مباشرة بهذه المقدمة من بقية سورة البقرة، ولكن على نسق جديد. وإذ انتهينا من هذا المقطع نحب أن نذكر أن فيه تصحيحا لمفاهيم، فهو من هذه الناحية استمرار لما قبله، ولأنه ختام القسم الثاني كله، وختام السورة فقد أدى أكثر من هدف.

فوائد

فوائد: 1 - روى ابن مردويه «أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون هلكت! قال: لم؟ قال: نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا وتدخل الجنة. فقال: بلى يا رسول الله، فعاش حميدا، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب». دل هذا على أنه ليس كل محبة للحمد تدخل في الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ... 2 - روى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه عن عطاء قال: «دخلت أنا، وعبد الله بن عمر، وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها، فسلمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟. قال: فقلنا: هذا عبد الله ابن عمر، وعبيد بن عمير، قالت: يا عبيد بن عمير ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غبا تزدد حبا، قالت، إنا لنحب زيارتك وغشيانك، قال عبد الله بن عمر: ... أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبكت، ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي، حتى لصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة: ائذني لي أتعبد لربي، قالت: إني لأحب قربك، وأحب هواك، قالت: فقام إلى قربة في البيت، فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه. قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حجره. قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ووضع يده تحت خده، قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر، ثم قال: الصلاة يا رسول الله، فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله: تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: يا بلال: أفلا أكون عبدا شكورا!!، وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ ... إلى قوله سبحانك فَقِنا عَذابَ النَّارِ ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها».

3 - وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... إلى آخر السورة (أي سورة آل عمران) ثم قال: «اللهم اجعل فى قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يدي نورا، ومن خلفي نورا، ومن تحتي نورا، وأعظم لي نورا يوم القيامة» قال ابن كثير: وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح. 4 - قالت أم سلمة يا رسول الله: لا نسمع الله ذكر النساء فى الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى .. رواه سعيد بن منصور وغيره. 5 - ثبت في الصحيحين أن رجلا قال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: نعم ثم قال: كيف قلت:؟ فأعاد عليه ما قال، فقال نعم إلا الذي قاله لي جبريل آنفا أي الدين. 6 - كان شداد بن أوس يقول: «أيها الناس لا تتهموا الله في قضائه فإنه لا يبغي على مؤمن، فإذا أنزل بأحدكم شيئا مما يحب فليحمد الله، وإذا أنزل به شيئا مما يكره فليصبر وليحتسب فإن الله عنده حسن الثواب». 7 - قال عبد الله بن عمر «إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا، كذلك لولدك عليك حق. 8 - قال أبو الدرداء: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ويقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. 9 - ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، فذكر منهم رجلا من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بي».

10 - قال الحسن البصري في تفسير قوله تعالى: اصْبِرُوا وَصابِرُوا أمروا أن يصبروا على دينهم الذى ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء، ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم. وأما المرابطة: فهي المداومة في مكان العبادة، لأنها رباط ضد الشيطان، وكذلك المرابطة على الثغور حماية لأهل الإسلام ضد أعداء الله. والمسلم إما أن يكون في مثل هذا، أو في مثل هذا. في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» رواه مسلم. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري قال عليه السلام «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها». وروى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» والمرابطة هاهنا، مرابطة الغزو في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين، وقد وردت فيه آثار كثيرة غير ما مر ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطا في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر». ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عثمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» وفي رواية ابن ماجه «من رابط ليلة في سبيل الله، كانت كألف ليلة قيامها وصيامها» وقال عليه السلام لرجل حرسهم ليلة حنين، «هل نزلت الليلة؟ قال: لا إلا مصليا أو قاضي حاجة، فقال له: أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها» رواه النسائي وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن غريب: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية

كلمة في القسم الخامس

الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» وروى البخاري في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع». كلمة في القسم الخامس التربية من خلال التنبيه على الخطأ سمة من سمات القرآن، ومن سمات التربية النبوية، فليس هناك خطأ يسكت عنه، ولكن لإصلاح الخطأ أسلوبه، فخطأ الجماعة، وخطأ الأفراد، كل ذلك كان يعالج بالأساليب المناسبة. ولقد كان جيل الصحابة، أعظم جيل رباني عرفه هذا العالم، إذ لم يكن الخطأ الجماعي يتكرر مرتين، ومن ثم نجد في القرآن دروس الحياة اليومية، فقد سجل القرآن كثيرا من وقائع الأحداث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والحادثة التي تسجل تؤخذ دروسها ضمن سياق السورة ومضمونها، وضمن السياق القرآني العام. نقول هذا بمناسبة الكلام عن غزوة بدر، أو غزوة أحد، أو غزوة حمراء الأسد التي تعرضت لها سورة آل عمران. لقد تعرضت السورة لصور من هذه الغزوات، وأعطت دروسها، ولكن ضمن السياق الخاص لسورة آل عمران، والسياق القرآني العام. فمثلا بدأ القسم الخامس بثلاث آيات فيها وعود من الله- عزّ وجل: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وفي هذا السياق تأتي صور من أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ .... فالآيات تأتي توكيدا لصدق موعود الله، ولكنها تبين من خلال سياقها أن هذه الوعود مشروطة بشروط نفهمها من خلال السياق، وذلك من رحمة الله- عزّ وجل- إذ أعطى الوعد صريحا، وعرفنا على الشروط ضمنا، فلنضع في حسابنا هذه النقطة ونحن نحاول فهم السياق. ونلاحظ بشكل عام أن القسم الخامس بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. وانتهى بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بدأ

كلمة أخيرة في سورة آل عمران

بتبيان ما فيه الخسارة، وانتهى بتبيان ما فيه الفلاح، ودلنا فيما بين ذلك على ما يوضح قضية الخسران، وعلى ما به يتوصل إلى الفلاح. وقضية الفلاح والخسارة، واضحتان في مقدمة سورة البقرة، فالصلة بين القسم ومقدمة سورة البقرة واضحة. مما حدث يوم أحد أن تكشفت نقاط الضعف عند المؤمنين، وخفايا ما في قلوب المنافقين، سواء في ذلك ما حدث قبل المعركة أو بعدها، ومن خلال الواقع هذا المحس حرر الله- عزّ وجل- المسلمين من أخلاق الكافرين والمنافقين، ورفعهم إلى ما ينبغي لهم من كمالات إيمانية، مذكرا لهم بالنعم، مذكرا لهم بالرعاية، مذكرا لهم بسننه، كاشفا لهم عن خفايا قلوب الكافرين والمنافقين، من خلال ما يلمسونه، منبها لهم على ما سيواجهونه، معلما إياهم كيف يتعاملون مع آياته، وما يفعلون للوصول إلى جناته، محتقرين ما عليه الكافرون، عارفين لأهل الفضل فضلهم، وكل ذلك في سياق النهي عن طاعة الكافرين، ووجوب الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى، أي: في بداية المقطع وخاتمته. وصلة ذلك كله بمحور سورة آل عمران من البقرة لا تخفى، فمقدمة سورة البقرة وصفت المتقين والكافرين والمنافقين، وهاهنا يأتي مزيد تفصيل وبيان من خلال الواقع والحدث، تعمق قضية المفاصلة بين المسلمين والكافرين والمنافقين، وتميز الصف الإسلامي. كلمة أخيرة في سورة آل عمران: مر معنا الحديث «اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة». وعرفنا عن سورة البقرة، وسنعرف عنها ما ندرك به مصداق قوله عليه الصلاة والسلام فيها «إن كادت لتستحصي الدين كله». فكل المعاني القرآنية تنبثق عن معان أجملت فيها، وسورة آل عمران تفصل في الأصل الذي تتفرع عنه الأشياء. فإذا كانت مقدمة سورة البقرة فصلت في التقوى والكفر والنفاق، فإن سورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة. ومعرفة قضية الكفر والنفاق والتقوى هي التي عنها تتفرع كل الأمور الأخرى. ومقدمة الشئ تشير إلى مضمونه، ومن ثم فإن المعاني التي جاءت في سورة البقرة كلها مرتبطة بالمقدمة بشكل ما، فمثلا جاءت آيات الإنفاق في أواخر السورة وهي تفصيل لقوله تعالى في المقدمة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وجاء قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ

مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ في خاتمة السورة، وهي تفصيل لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ في المقدمة. وجاء حوار طويل مع أهل الكتاب، وذلك مرتبط بقوله تعالى في مقدمة البقرة. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ولقد جاءت سورة آل عمران تفصل في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها الأكثر لصوقا بمضمونها المباشر. فكان محلها بالنسبة لسورة البقرة أنها وإياها الزهراوان المضيئتان للإنسان الطريق، فمن لم يعرف سورة البقرة وآل عمران فإنه يفوته علم كثير، وفهم غزير. - لقد اقتضى السياق الخاص لسورة البقرة أن يكون ترتيب معانيها على ما هو عليه، ولكن المقدمة تحتاج معانيها إلى بيان، وتفصيل خاص، ومن ثم جاءت سورة آل عمران لتشد المعاني المبثوثة في سورة البقرة، مما يحتاجه تفصيل مقدمتها إلى معاني المقدمة وتكون سورة آل عمران هي التفصيل والعرض لذلك كله. - اقتضت حكمة الله أن يجعل الكلام عن حياة الله وقيوميته بين آيات الإنفاق في سورة البقرة. وجاء الكلام عن الاهتداء بالقرآن لحكمة في مقدمة سورة البقرة. وجاءت سورة آل عمران لتبين أن مقتضى اتصاف الله- عزّ وجل- بالقيومية، أن ينزل الكتاب. وهكذا فصلت المعاني المرتبطة بمقدمة سورة البقرة، وربطت ببعضها، وأعطيت مداها في سورة آل عمران ضمن سياق خاص فمثلا: - قرر النسخ في سورة البقرة ولم يأتنا مثال عليه، وجاء عليه مثال في سورة آل عمران. - بعد أن ذكر الله عزّ وجل آياته في الكون إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ... في سورة البقرة قال إن في ذلك لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وفي سورة آل عمران جاء التفصيل فيمن هم أصحاب العقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ .... - وفي الكلام عن بني إسرائيل في سورة البقرة عرفنا أن أهل الكتاب نسبوا لله

الولد، وجاءت سورة آل عمران لتحدثنا عن تفصيلات قصة عيسى عليه السلام، وهكذا قل في أمور كثيرة رأيناها أثناء عرض السورة. - في قضية الاهتداء بالكتاب فصلت سورة آل عمران، فعرفنا أن الاهتداء الكامل بالكتاب هو لأولي الألباب، وعرفنا من هم أولو الألباب في السورة، وعرفنا أن الاهتداء بالكتاب يدخل فيه التسليم للمتشابه، والعمل بالمحكم. وفي قضية الإيمان بالغيب عرفنا أن كل ما أخبرنا الله- عزّ وجل- عنه من أمور الماضين يدخل في الإيمان بالغيب. وفي قضية الإيمان بالكتاب كله، هذا الكتاب الذي أنزل علينا، والكتاب الذي أنزل من قبل عرفنا تفصيل ذلك: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وفي قضية الإيمان بالآخرة زادنا الله تفصيلا في سورة آل عمران، وفي موضوع الكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين زادتنا سورة آل عمران تفصيلا. وفي أن هذا كله دين الله، وأن دين الله هو الإسلام، وأن الله لا يقبل غيره، فصلت السورة. وفي طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المسلمين وغيرهم، فصلت السورة، وفيما تتحقق به التقوى، ويتم به الفلاح فصلت السورة، وكل ذلك له صلة بمقدمة سورة البقرة. ولئن فصلت سورة آل عمران في مقدمة سورة البقرة، وامتدادات معانيها، فإن سورة النساء ستفصل في الآيات الأولى من المقطع الأول الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة. وكما أنه بعد مقدمة سورة البقرة يأتي نداء لكل الناس. يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فإن سورة النساء تبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ... فلننتقل إلى سورة النساء.

سورة النساء

سورة النساء وهي السورة الرابعة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة قسم الطوال وآياتها مائة وست وسبعون وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة النساء

كلمة في سورة النساء: يقول صاحب الظلال: «هذه السورة مدنية، وهي أطول سور القرآن. بعد سورة البقرة، وترتيبها في النزول بعد الممتحنة، التي تقول الروايات: إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة. ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول- كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول- ليس قطعيا. كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد. فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة؛ ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها. والسورة الواحدة- على هذا- كانت تظل «مفتوحة» فترة من الزمان تطول أو تقصر. وقد تمتد عدة سنوات. وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن. وكذلك الشأن في هذه السورة. فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك. ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة. والمنتظر- على كل حال- أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية، إلى ما بعد السنة الثامنة، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة. ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ؛ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا .. فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة (أو في السنة الرابعة على رواية) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: «خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا .. » إلخ وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور. وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب.

وعلى النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة» اهـ. ويقول الألوسي عن وجه مناسبة مجيء سورة النساء بعد آل عمران: (ووجه مناسبتها لآل عمران أمور، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف وقوم يسمونه بالتسبيغ، وذلك كقول ليلى الأخيلية: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة … تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها … غلام إذا هز القناة رواها رواها فأرواها بشرب سجالها … دماء رجال حيث نال حشاها ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة، وفي هذه السورة ذكر ذيلها، وهو قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه- إن شاء الله تعالى- مرويا عن البخاري، ومسلم، وغيرهما. ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الخ .. وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الآية. وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب في التأخير، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك) اهـ. أقول: ما قاله الألوسي عن صلة آل عمران بسورة النساء نموذج لأقوال المفسرين حول الصلات بين السور، من محاولة ربط بين نهاية السور السابقة وبداية السور اللاحقة أو محاولة بحث عن وحدة موضوعية بين مواضيع السور عامة، والشئ الذي نحاول التدليل عليه في هذا التفسير هو أن الصلة بين السور تنتظمها قواعد أخرى وفيها أسرار أدق، وسيتضح هذا من خلال هذا التفسير، وقد لا ينتهي القارئ من قراءة ما ذكرناه حول السبع الطوال إلا ويتيقن ذلك وسيزداد يقينا كلما سار في هذا التفسير إن شاء الله. لقد رأينا أن الآيات الأولى في سورة البقرة بدأت ب الم وانتهت بقوله تعالى وَأُولئِكَ

هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وأن سورة آل عمران بدأت بقوله تعالى: الم وانتهت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ونلاحظ أنه بعد مقدمة سورة البقرة جاء المقطع الأول من القسم الأول فيها، وقد بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وانتهى بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ونلاحظ أن سورة النساء بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ .. وانتهت بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وسنرى أنه كما أن سورة آل عمران فصلت في الآيات الأولى من سورة البقرة وما يتبعها من مقدمة سورة البقرة وما هو الألصق بمقدمة سورة البقرة، فإن سورة النساء تفصل في الآيات الأولى من المقطع الذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة وتفصل في امتدادات هذا المحور من سورة البقرة. إنه بعد مقدمة سورة البقرة، يأتي المقطع الأول، من القسم الأول من سورة البقرة، وقد أسميناه: مقطع الطريقين. وسنرى أنه ستفصل فيه سورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام، وستأتي سورة الأعراف لتفصل بعد ذلك في مقطع قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، وهذا شئ سنراه إن شاء الله تعالى. وسنجد- بإذن الله- أن سورتي المائدة والأنعام تفصلان في الآيات الأربع الأخيرة من مقطع الطريقين. فالمائدة تفصل في الآيتين الأوليين منها، والأنعام تفصل في الآيتين الأخيرتين منها. أما سورة النساء فهي تفصل فيما قبل ذلك من المقطع، مع أنها تضع الأساس لتفصيل السورتين بعدها، فهي تفصل في محور رئيسي له ارتباطاته المباشرة بآيات وله امتداداته في سورة البقرة، إن محورها الرئيسي من مقطع الطريقين هو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. إن سورة النساء تفصل في هذا المحور كما سنرى إن شاء الله. فهي توضح ما يدخل في التقوى، وتوضح الطريق إليها، وتوضح قضية الإيمان والعمل الصالح، وتوضح قضية الموقف من القرآن، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإنها مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ. ونجد في أحد مقاطعها: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. ونجد في أحد مقاطعها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. إنها تفصل في هذا المحور. ولكنه تفصيل على غير ما اعتاده البشر، وما ألفوه، إنه تفصيل معجز وهي كما تفصل في هذا المحور، تفصل في امتدادات معانيه في سورة البقرة، وتفصل في ارتباطاته. فالوصية المفروضة على المتقين في سورة البقرة، تأتي هاهنا تفصيلاتها. والقتال المفروض على المتقين في سورة البقرة تأتي هاهنا تفصيلات في شأنه. والسورة- وهي تفصل في محورها من البقرة، وامتدادات معانيه- لها سياقها الخاص، وروحها الخاصة. وسورة النساء نزلت في المدينة كما ذكر العوفي عن ابن عباس. وهي إذ كانت تفصيلا للطريق إلى التقوى، وتوضيحا لماهية التقوى، وما يدخل فيها. فإنها تأتي بعد سورة آل عمران التي وضعت الأساس للتلقي. وهما جاءا بعد سورة البقرة التي وضعت الأساس للفهم والعمل، تتألف السورة من ثلاثة عشر مقطعا. لكل مقطع منها وحدته. ويربط بين المقطع السابق واللاحق روابط، ويربط بين مقاطع السورة كلها روابط متعددة، والسورة بمجموعها تشكل كلا متكاملا، وهي بمجموعها تأخذ

المقطع الأول من سورة النساء

مكانها بين السورة السابقة واللاحقة وتأخذ مكانها بين قسمها ضمن سياق قرآني عام كل آية فيه مشدودة إلى أصل جامع. ولا نحب أن نطيل كثيرا هنا لرغبتنا في التفصيل إذا جاء مقامه فلنبدأ عرض المقطع الأول: المقطع الأول من سورة النساء وهو من الآية (1) إلى نهاية الآية (18) حيث يجيء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)

[سورة النساء (4): آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) *** [سورة النساء (4): الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) *** [سورة النساء (4): الآيات 11 الى 14] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

*** [سورة النساء (4): الآيات 15 الى 17] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): آية 18] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) كلمة في المقطع: طالبنا المقطع بالتقوى. ثم طالبنا بما هو من مقتضياتها. ومن ذلك: إعطاء اليتامى أموالهم، وترك زواج اليتيمات إذا خشي ظلمهن، وأن الزواج مقيد في حدود الأربع في حالة العدل، والواحدة إذا كان التعدد يؤدي إلى ظلم، ووجوب إعطاء المرأة حقها، وحكم مال اليتيم إذا بلغ غير رشيد، ووجوب إعطائه ماله إذا بلغ رشيدا، ومتى يحل للوصي أن يأكل من مال اليتيم، وما حدود ذلك؟ وأعطانا المقطع. قاعدة في قضية الإرث، وحذرنا من الاعتداء على مال اليتيم، ثم فصل في موضوع الإرث، وبين ما ينبغي فعله مع الزناة، وما يجب عليهم أن يفعلوه. فالمقطع يفصل في ما يدخل في التقوى. ولذلك نلاحظ أنه بعد الأمر بالتقوى تأتي هذه الأوامر، والنواهي، والتفصيلات. فكأن مقتضى التقوى ذلك. وصلة ذلك بمحور السورة من البقرة لا تخفى. فالمحور يدعو إلى العبادة، كطريق للتقوى. وهذا المقطع يفصل لنا ماذا يدخل في التقوى من أمور ينبغي أن تراعى. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. المعنى العام: يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه، وهي أثر عبادته وحده، لا شريك له، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام. وخلق منها زوجها حواء عليها السلام. خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه، وهو نائم. فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه وذرأ من آدم وحواء. رجالا كثيرا

المعنى الحرفي

ونساء. ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم. وألوانهم ولغاتهم. ثم كرر الله- عزّ وجل- الأمر بتقواه وهو الذي يسأل الناس بعضهم بعضا به وبأرحامهم، أو أنه كرر الأمر بتقواه ليجمع معها الأمر باتقاء قطيعة الرحم. وختم الله الآية بتبيان أنه تعالى مراقب لجميع أحوالنا، وأعمالنا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا النَّاسُ. أي: يا بني آدم. اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. أي: فرعكم من أصل واحد. وهو نفس آدم أبيكم. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها. أي: حواء خلقها من ضلع من أضلاعه، وأنشأ آدم من تراب، وخلق منه زوجته، ثم شعب الناس منهما. وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. أي: نشر من آدم وحواء رجالا كثيرا، ونساء كثيرات. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. أي: واتقوا الله الذي تتساءلون به، وتتساءلون بأرحامكم. كقول القائل: أسألك بالله، وبالرحم. ويمكن أن يفهم الأمر فهما آخر، وهو: واتقوا الله، واتقوا الأرحام. والمعنى: واتقوا الله الذي تتعاقدون به، وتتعاهدون، وتتساءلون به، لطاعتكم إياه. واتقوا الأرحام أن تقطعوها. ولكن بروها، وصلوها. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. أي: إن الله مراقب لجميع أحوالكم، وأعمالكم. وفي الرقيب معنى الحفظ والعلم. وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. فوائد: 1 - قال الألوسي عند قوله تعالى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. «والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد، وهو أبو البشر. وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال: لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم! بلى، والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك

الآدميين، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج- ونقل عن محمد بن علي الباقر- أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر، وذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره، وفي كتاب الخصائص ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث روي فيه عن الصادق أنه قال: «إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين، ما يرى عالم منهم أن لله- عزّ وجل- عالما غيرهم، وإني للحجة عليهم»، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فمما لا يراه أهل السنة والجماعة، نعم إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين، كالملائكة، والجن، وكثير من الحيوانات، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى، لا بخلق أمثاله، وهو حادث نوعا وشخصا، خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان، وذهب الكثيرون إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة، وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، ورووا أخبارا كثيرة في ذلك، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن، وأما أنه متى كان فمما لا يعلمه إلا الله تعالى، والأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها» اهـ. أقول: يحتاج هذا الكلام إلى كتاب كامل لمناقشته فليقرأه القارئ على حذر، وإنما نقلته لسبب واحد هو: أنه قبل نظريات التطور الحديثة وجد في مقالات الإسلاميين ما يشير إلى أن جنسنا البشري الحالي مسبوق بمثله، أو شبيهه، مع الجزم بأننا من أبينا آدم، ومع الجزم بأن آدم خلق خلقا مباشرا، ولم يوجد أثرا عن تطور، ومع الجزم بأنه إن كانت هناك مخلوقات شبه الإنسان الحالي قبل آدمنا عليه السلام، فإنها لا صلة لها بإنساننا الحالي من حيث التوالد أو الوجود، ومع الجزم بأنه لا توجد نصوص صحيحة أو قطعية في هذا الموضوع ولذلك فنحن نسجلها لاحتمال أن يستفيد منها الباحثون عن المستحسات لقوله تعالى قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (سورة العنكبوت) 2 - في الحديث الصحيح: «إن المرأة خلقت من ضلع. وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه. فإن ذهبت تقيمه، كسرته. وإن استمتعت بها، استمتعت بها وفيها عوج». في الحديث أمر بالرفق بالمرأة. وفيه دليل على كيفية خلق أمنا حواء من أبينا آدم عليهما السلام. قال ابن عباس: (خلقت المرأة من الرجل. فجعلت نهمتها في الرجل. وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض. فاحبسوا نساءكم).

كلمة في السياق

رواه ابن أبي حاتم. وهذا الأثر عن ابن عباس يؤكد أن هناك فهما وحيدا لآية وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها هو الذي تدل عليه النصوص والآثار، وقد رد الألوسي على بعض المتحذلقين في هذا المقام فقال: «والقول بأنه: أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه: إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي، لا على سبيل التوالد- كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك- ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة، لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه- كما أنه قادر على خلق آدم من التراب- هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب» اهـ. 3 - وبمناسبة ذكر الأرحام في قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ يقول الألوسي: وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة». والأخبار في هذا الباب كثيرة، والمراد بالرحم: الأرقاب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد، ويطلق على الأقارب من جهة النساء، وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا. كلمة في السياق: قلنا إن محور سورة النساء من البقرة الآيات الخمس الأولى من مقطع الطريقين فلنلاحظ: أن الآية الأولى من المحور هي يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وأن الآية الأولى في سورة النساء بدأت ب يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ألا ترى التشابه كاملا بين البدايتين، مع زيادة تفصيل في سورة النساء في حيثية من الحيثيات، حتى الألفاظ تكاد تكون متشابهة يا أَيُّهَا النَّاسُ،

المعنى العام

خَلَقَكُمْ، اتَّقُوا ..... تَتَّقُونَ.* .. وهكذا نرى أنه من الآية الأولى قد تحدد إلى حد كبير محور سورة النساء من سورة البقرة، وهو موضوع سنتعرض له كثيرا. بدأت السورة بالأمر بالتقوى، والتذكير بأننا مخلوقون من نفس واحدة ابتداء، سواء في ذلك رجالنا ونساؤنا، ثم كررت الآية الأولى الأمر بتقوى الله، وأمرت باتقاء الأرحام، وذكرت برقابة الله علينا، وسنرى أنه بعد هذه الآية تأتي أوامر بإيتاء اليتامى أموالهم وإيتاء النساء مهورهن. ألا ترى أن الصلة واضحة بين الآية الأولى وما جاء بعدها مباشرة، أليس التذكير بوحدة الأصل يثير العطف والرحمة والشفقة، ويهيج على أداء الحقوق، أليس التذكير برقابة الله يبعث على الرحمة بالضعيف، واليتيم والمرأة في العادة ضعيفان. وهكذا تبدأ السورة سياقها الخاص مع تفصيلها لمحورها من سورة البقرة، ومن خلال تفصيلها لمحورها نعرف من الآيات الأولى في سورة النساء أن مما يدخل في حقيقة التقوى: القيام بصلة الأرحام، والقيام بحق اليتيم، والحذر من ظلمه أو غبنه إذ لا تظهر تقوى الله، كما تظهر في معاملة الضعيف بالعدل. حيث لا يخشى الإنسان بشرا، ولنمض في تفسير المقطع الأول. وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً* وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا* وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. المعنى العام: يأمر تعالى في هذه الآيات، أن تدفع أموال اليتامى إليهم- إذا بلغوا الحلم- كاملة موفرة. ونهى أن يستبدل الإنسان الحلال بالحرام. كما نهى أن تؤكل أموال اليتامى بضمها، وخلطها إلى أموال الأوصياء ثم أكلها. فإن هذا ذنب كبير، يتنافى مع التقوى. ثم نهى عن حالة من حالات ظلم اليتامى. وهي حالة ما إذا كانت تحت حجر أحدنا يتيمة، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها في حالة تزوجها فإن الله- عزّ وجل- نهاه عن تزوجها في هذه الحالة. وندبه إلى العدول إلى ما سواها من النساء، فإنهن

المعنى الحرفي

كثيرات. ولم يضيق الله عليه في ذلك. بل وسع عليه أن يتزوج حتى الأربع من النساء. وذلك من أجل أن لا يقع ظلم. ثم أمر أن تعطى المرأة مهرها، فريضة واجبة على الرجل. فإن طابت هي له- بعد تسميته- عنه، أو عن شئ منه فليأكله حلالا، طيبا له. وعلى هذا فإننا نفهم من السياق أن من قضايا التقوى الرئيسية، عدم ظلم اليتامى، وخاصة إذا كن نساء. والاقتصار في الزواج على أربع، وإعطاء المرأة مهرها، وعدم الاعتداء عليه. فإعطاء الحق لليتيم والمرأة من أول مظاهر التقوى. ومن ثم صدرت سورة النساء بهذا الموضوع. المعنى الحرفي: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ. اليتم في اللغة: الانفراد. وفي الشريعة: من مات أبوه، فانفرد عنه. وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار. لبقاء معنى الانفراد عن الآباء. إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال. فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم. قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد الحلم». يعني إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. ومعنى النص: آتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ. وسماهم يتامى مع أنه لا يتم بعد حلم، لقرب عهدهم بالصغر. وفيه إشارة إلى أنه لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، إن أنس منهم الرشد. وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار بحكم الاستمرار، وذلك بمجرد البلوغ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. أي: ولا تستبدلوا الحرام- وهو مال اليتامى- بالحلال: وهو مالكم، أو تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. وقال سفيان الثوري عن أبي صالح في تفسيرها: (لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك). وقال السدي: (كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة. ويقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف ويقول: درهم بدرهم). وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. أي: لا تخلطوها فتأكلوها جميعا، أو تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم، قلة مبالاة بما لا يحل لكم وتسوية بينه وبين الحلال. إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً. أي: إن أكلها كان ذنبا عظيما. فالحوب: هو الإثم. والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم، وخطأ كبير

[سورة النساء (4): آية 3]

فاجتنبوه. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى. أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في الإناث اليتامى، لأن كلمة اليتامى جمع ليتيم ويتيمة. والمراد بها هنا النساء. فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. أي: فانكحوا ما حل لكم من النساء ثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا. فصار معنى ما مر من الآية. أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها. فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثيرات. ولم يضيق الله عليه. فانكحوا ما شئتم من النساء سواهن، إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي: فإن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد. أو إن خفتم تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن فالزموا، أو اختاروا أن تقتصروا على واحدة، أو على الجواري. أي فليقتصر من خاف الجور على واحدة، أو على الجواري السراري. فإنه لا يجب قسم بينهن، بل يستحب. فمن فعل، فحسن. ومن لا، فلا حرج. وسوى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. أي: اختيار الواحدة أو التسري أقرب من ألا تميلوا ولا تجوروا، يقال: عال الحاكم في حكمه، إذا جار. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. الصدقات: المهور. والنحلة: العطية. وفسرها كثيرون بالفريضة، والواجب. والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء. لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم كما يفعل كثير من الأعراب في عصرنا من أخذ المهر، أو بعضه. والمعنى: أعطوا النساء مهورهن طيبة بذلك أنفسكم. والأمر هنا للوجوب. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً. فإن طاب الزوجات للأزواج عن شئ من الصداق. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. أي: فكلوا ما وهبنه لكم أكلا هنيئا لا إثم فيه، أو هنيئا في الدنيا لا يطالبكم به أحد. مريئا- أي سائغا- لا تنغيص فيه ولا تبعة. والتعبير يفيد المبالغة في الإباحة، وإزالة التبعة. والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصدقات. وتجافت عنه نفوسهن طيبات، لا بسبب منكم تضطروهن به إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم، فعندئذ فكلوه سائغا، لا تنغيص فيه. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ. ولم يقل، فإن وهبن لكم. إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب، طيبة نفسها بذلك.

فوائد

فوائد: 1 - قال الفقهاء: يحرم الزواج بأكثر من واحدة، إذا تأكد من نفسه الجور. فإن ظن من نفسه ولم يتأكد، كره له كراهة تحريمية، أن يتزوج بأكثر من واحدة. وأما الزواج من واحدة، فسنة عند اعتدال الشهوة. فإن تاقت نفسه إلى الجماع، فواجب. فإن خشي على نفسه الزنا أو اللواط إن لم يتزوج، أصبح الزواج فريضة. 2 - معنى قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. أي: ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. كقول القائل: اقتسموا هذا الألف: درهمين درهمين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. فكان الخطاب بذلك ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له. وجيء بالواو؛ لتدل على تجويز الجمع حتى الأربع. ولو جئ ب (أو) في هذا المقام، لما فهم هذا الفهم. وقصر الجمع على الأربع مفهوم من هذه الآية، لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال الشافعي: «وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن رسول الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة» وهذا الذي قاله الشافعي، مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة، أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع، إلى تسع. وقال بعضهم: بلا حصر. وهو مذهب مرذول، فاسد، منقوض بنص القرآن، وصحيح السنة، وإجماع الأمة. وأما ما ذكره أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن، بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. فذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وما ورد في السنة يفيد وجوب الاقتصار على أربع، من ذلك ما رواه أبو داود، وغيره بإسناد حسن أن عميرة الأسدي قال: أسلمت، وعندي ثمان نسوة. فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهن أربعا». وقد حدث مثل هذا لأكثر من واحد كان عنده أكثر من أربع، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم باختيار الأربع وتطليق ما زاد على ذلك، قال ابن كثير بعد ما ذكر أكثر من حديث في هذا الباب: «دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال. فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى». 3 - مما فسرت به كلمة النحلة في الآية: الديانة. وعلى هذا يكون المعنى: وآتوا النساء مهورهن ديانة. ولكن ما ذكرناه هناك أقوى والنتيجة واحدة.

4 - وفسر الشافعي قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا: بمعنى ألا تكثر عيالكم، فتفتقروا فتضطروا إلى ترك الورع. لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم. وفي كثرة العيال ما يصعب معه المحافظة على حدود الورع، وكسب الحلال. قال ابن كثير: وليس ما مر كلامه، ولكنه ذكر هذا التفسير وعلق عليه بقوله: ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر!. فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا، والصحيح قول الجمهور ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. أي: ألا تجوروا. 5 - روى البخاري عن عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى .. قالت: «يا ابن أختي: تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن». 6 - وفي حكمة إباحة تعدد الزوجات في الشريعة يقول صاحب الظلال: «إن الإسلام نظام للإنسان. نظام واقعي إيجابي. يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال. إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقعه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة في غير إنكار لفطرته أو تنكر؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف!. إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التظرف المائع؛ ولا على «المثالية» الفارغة؛ ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء. وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل يتوخى دائما أن ينشئ واقعا يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع. فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات ... فماذا نرى؟

نرى .. أولا .. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة- تاريخية وحاضرة- تبدو فيها زيادة النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج .. والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يعرف تاريخيا أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد. وهو يدور دائما في حدودها. فكيف يعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة. هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟! إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري!. ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء. وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: 1 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج ... ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها- أو حياتهن- لا تعرف الرجال! 2 - أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجا شرعيا نظيفا. ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال. فيعرفن الرجل خدينا أو خليلا في الحرام والظلام! 3 - أن يتزوج الرجال الصالحون- كلهم أو بعضهم- أكثر من واحدة. وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام! الاحتمال الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال. ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب. فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون، المتحذلقون، المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان. وألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية .. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والأنس بالعشير ... والرجل يجد العمل ويجد الكسب؛ ولكن هذا لا يكفيه؛ فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة

كالرجل- في هذا- فهما من نفس واحدة! والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف؛ وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف؛ وضد كرامة المرأة الإنسانية. والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله، ويتطاولون على شريعته، لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول. بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير. والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام. يختاره رخصة مقيدة. لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين، ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء. يختاره متمشيا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو- بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة. ولكن في يسر ولين وواقعية. ثم نرى ... ثانيا .. في المجتمعات الإنسانية. قديما وحديثا. وبالأمس واليوم والغد إلى آخر الزمان. واقعا في حياة الناس، لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله. نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها. فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة. وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما، امتدادات الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار. فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال. ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع- الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال- هذه الرخصة- لا على سبيل الإلزام الفردي، ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري، ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء .. وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائما في التشريع الإلهي. لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية، لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له، ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة، ولا تنظر من جميع الزوايا، ولا تراعي جميع الاحتمالات. ومن الحالات الواقعية- المرتبطة بالحقيقة السالفة- ما نراه أحيانا من رغبة الزوج في

أداء الوظيفة الفطرية، مع رغبة الزوجة عنها- لعائق من السن أو من المرض- مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال- فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟ نواجهها بهز الكتفين؛ وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار؟! أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟ إن هز الكتفين- كما قلنا- لا يحل مشكلة. والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية، ومشكلاتها الحقيقية. وعندئذ نجد أنفسنا- مرة أخرى- أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: 1 - أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان! ونقول له: عيب يا رجل! إن هذا لا يليق، ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها! 2 - أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء! 3 - أن نبيح لهذا الرجل التعدد- وفق ضرورات الحال- ونتوقى طلاق الزوجة الأولى ... الاحتمال الأول ضد الفطرة، وفوق الطاقة، وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي، وثمرته القريبة- إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان- هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت، ومعاناة جحيم هذه الحياة .. وهذا ما يكرهه الإسلام، الذي يجعل من البيت سكنا، ومن الزوجة أنسا ولباسا. والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي، وضد منهجه في ترقية الحياة البشرة، ورفعها وتطهيرها وتزكيتها، كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان. والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية، ويلبي منهج الإسلام الخلقي، ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية، ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما، وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية. وشئ كهذا يقع في حالة عقم الزوجة، مع رغبة الزوج الفطرية في النسل. حيث

ولنعد إلى السياق

يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما: 1 - أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل. 2 - أو أن يتزوج بأخرى، ويبقى على عشرته مع الزوجة الأولى. وقد يهذر قوم من المتحذلقين- ومن المتحذلقات- بإيثار الطريق الأول. ولكن تسعا وتسعين زوجة- على الأقل- من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى ما يشير على الزوج بهذا الطريق! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور- فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغبا في الزواج- وكثيرا ما تجد الزوجة العاقر أنسا واسترواحا في الأطفال الصغار، تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها، فيملئون عليها الدار حركة وبهجة أيا كان ابتئاسها لحرمانها الخاص. وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية، التي لا تصغي للحذلقة، ولا تستجيب للهذر، ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم ... وجدنا مظاهر الحكمة العلوية، في سن هذه الرخصة مقيدة بذلك القيد: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ- مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً. فالرخصة تلبي واقع الفطرة، وواقع الحياة؛ وتحمي المجتمع من الجنوح- تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة- إلى الانحلال أو الملال. والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى، والاختلال، ويحمي الزوجة من الجور والظلم ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل. ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة» اهـ. ولنعد إلى السياق: فبعد أن أمرنا الله- عزّ وجل- أن نؤتي اليتامى أموالهم وحقوقهم تأتي آية تنهانا أن نؤتي اليتامى أموالهم إذا كانوا سفهاء فكما أنه من التقوى أن ندفع لليتيم حقه كاملا، فإن من التقوى ألا نسلمه ماله إذا كان سفيها. أي: غير رشيد في أمر المال. قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.

المعنى الحرفي

المعنى العام: نهى الله- عزّ وجل- عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها للناس قياما، أي: تقوم بها معايشهم، من التجارات وغيرها، مع الأمر بالإحسان إلى من تحت الحجر بالإنفاق في الكساء والأرزاق وبالكلام الطيب وتحسين الأخلاق. المعنى الحرفي: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ: الخطاب للأولياء. وأضاف الأموال إليهم، لأنهم يلونها، ويمسكونها. أو الخطاب للأمة، وإضافة الأموال إليها مع أن المال ملك للسفيه للإشعار بأن سوء تصرف الفرد في ماله، أو حسن تصرفه فيه، ينعكس أثره على الجميع. ومن ثم كان مال الأفراد مالا للأمة، وهي مسئولة عن حسن تصرف كل فرد فيها بما يملك. والسفيه هنا: هو غير الرشيد في أمر المال. ويدخل فيه المبذر الذي ينفق ماله فيما لا ينبغي. ويدخل فيه العاجز عن تثميره، والتصرف فيه، وإصلاحه. ومن السياق مما قبل هذه الآية، وما بعدها، نفهم أن السفيه هنا، هو اليتيم الذي يبلغ غير رشيد في أمر المال. ولكن يدخل معه غيره ممن هو على مثل شأنه. ومن هنا أخذ الفقهاء مبدأ الحجر، والحجر تارة يكون للصغر، فإن الصغير يكون مسلوب العبارة. وتارة يكون للجنون. وتارة يكون لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين. وتارة يكون للإفلاس. وهو ما إذا أحاطت الديون برجل، وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه. الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. أي: قواما لأبدانكم، ومعاشا لأهلكم وأولادكم. فالمال به قيام الحياة البشرية. وإذا كان المال له مثل هذه الأهمية في الحياة البشرية، فينبغي عدم التفريط فيه. ولو بتسليم المال إلى غير صاحبه إذا كان صاحبه ليس رشيدا في أمر التصرف فيه. قال ابن كثير في تفسير قِياماً. (أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها). وَارْزُقُوهُمْ فِيها. أي: وارزقوا السفهاء في هذه الأموال، بأن تتجروا فيها وتشغلوها. فيكون لهم رزق من ذلك. قال النسفي: (واجعلوها مكانا لرزقهم، بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق، فما أعظم هذا القرآن، إذ بهذا التعبير القصير أمرنا بالإنفاق عليهم، وأمرنا بتثمير مالهم لهم وَاكْسُوهُمْ الأمر بالكساء هنا دل على أن الأمر السابق فيه تضمن الإطعام والإنفاق. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً. أي: وعدوهم عدة جميلة، كالقول لهم:

فوائد

إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وهذا يفيد أنه لا ينبغي أن يرافق الحجر قسوة من الولي، لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة، قد تبلغ حد العداء والجريمة. والمعروف هو كل ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل، والمنكر ما أنكرته لقبحه. فوائد: 1 - رأينا أكثر من مرة في هذا التفسير كيف أن معاني هذا القرآن لا تنتهي بسبب أن بعض معانيه تؤخذ من السياق الجزئي، وبعضها من السياق العام، وبعضها من النص الحرفي، ويتولد عن كل من هذه معان يعضد بعضها بعضا، بالشكل الذي لا يحيط به إلا منزله وهو الله تعالى. ويتفاوت الناس في الفهم، وهذه الآية تصلح شاهدا على هذا كله. فمن السياق فهمنا أن المراد بالسفيه اليتيم. ومن السياق فهمنا أن الخطاب هنا للولي. ومن النص يدخل في النهي كثير، ومن ثم قال ابن عباس وابن مسعود وكثير في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ هم النساء والصبيان. قال أبو هريرة: هم الخدم- أي العبيد- وفسرها أبو موسى: بإعطاء المال لسفيه، أي هبة أو صدقة. واختلاف الأقوال مرجعها إلى دقة الملحظ ومأخذه، والجميع داخل في الآية، وإن كان المراد الرئيسي هو ما ذكرناه أثناء الشرح الحرفي. ولكن غيره يدخل فيه فلننتبه إليه، كان ابن عباس يقول أخذا من الآية: «لا تعمد إلى مالك وما خولك الله، وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك، أو بنتك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومئونتهم ورزقهم». 2 - بمناسبة قوله تعالى أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قال النسفي «وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان- وكان له بضاعة يقلبها- لولاها لتمندل بي بنو العباس» ونقول: هذه الآية بينت لنا أهمية المال في الحياة البشرية، ولذلك نلاحظ الآن عالميا، أن ميزان التقدم الذي ارتضاه العالم لنفسه، هو مقدار التقدم الاقتصادي، ومقدار دخل الفرد الواحد من مجموع الأمة، ولئن كان في ذلك نوع غلو، إلا أن الآية بينت لنا الأهمية الكبرى للمال في شئون الحياة البشرية. ومن ثم فإن الدولة المسلمة ينبغي أن

المعنى العام

تكون حريصة على أن يكون دخل كل فرد في الأمة مرتفعا، وأن تحرص على أن يكون تصرف كل فرد في الأمة في ماله تصرفا صحيحا، من خلال القضاء، والتربية، والتوعية، والمؤسسات، والتنظيم. وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. المعنى العام: يأمر تعالى باختبار الأيتام قبل البلوغ، فإذا بلغوا مصلحين لدينهم وأموالهم، انفك الحجر عنهم، فتسلم إليهم أموالهم التي تحت يد أوليائهم، ونهى الله- عزّ وجل- هؤلاء الأولياء أن يأكلوا أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية، بالإسراف فيها، والمبادرة بإنفاقها قبل بلوغهم. ثم أذن الله لولي اليتيم إن كان محتاجا، أن يأكل بقدر حاجته. ثم أمر تعالى، أنه في حالة البلوغ، وإيناس الرشد، ودفع الأموال إلى أصحابها: أمر بالإشهاد عليهم، لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه. وختم الله- عزّ وجل- الآية بالتذكير بالله خير الشهداء والرقباء والمحاسبين ليتذكر الأولياء في حال نظرهم للأيتام. وحال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مبخوسة مزور حسابها، أو مدلس أمرها؟ الله عالم بذلك كله. المعنى الحرفي: وَابْتَلُوا الْيَتامى. أي: واختبروهم، أي اختبروا عقولهم، وزنوا أحوالهم، ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ. وقال النسفي: فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجئ منه. وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة. حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ. أي: الحلم، لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد. قال الجمهور من العلماء: البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن ينزل في منامه الماء الدافق الذي يكون منه الولد، والعبرة في هذه الحالة للنزول في المنام أو في غيره. وتارة يكون بالسن وهو خمس عشرة سنة قمرية. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً. أي: فإن تبينتم منهم هداية في التصرفات، وصلاحا في المعاملات. وتنكير الرشد يفيد: أن المراد رشد مخصوص، وهو الرشد في التصرف

فوائد

والتجارة. أو يفيد التقليل، أي: طرفا من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فالمراد بالرشد على هذا الاتجاه- وهو اتجاه الحنفية- مجرد القدرة على التصرف الرشيد في شأن المال، وليس غير ذلك. وقال سعيد بن جبير في تفسير الرشد: صلاحا في دينهم، وحفظا لأموالهم، فوسع دائرة الرشد. فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ. أي: فسلموا إليهم أموالهم التي تحت أيديكم. والأمر للأوصياء والأولياء. ويفهم من الآية: أن الابتلاء يكون قبل البلوغ، فإذا كان البلوغ، وأونس الرشد فلا يتأخر عن دفع الأموال إليهم. فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت الرشد منهم، وهذا يقتضي تدريب اليتيم على الرشد قبل البلوغ. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. أي: ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم، فتفرطوا في إنفاقها، وتقولوا: ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. أي: إن الوصي: إما أن يكون غنيا أو فقيرا، فالغني يستعف عن أكل مال اليتيم، أي يحذر من أكل مال اليتيم. واستعف أبلغ من عف؛ كأنه طالب زيادة العفة. والفقير يأكل قوتا مقدرا محتاطا في أكله. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. الشهداء على أنهم تسلموها وقبضوها دفعا للتجاحد، وتفاديا على توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. أي: وكفى بالله محاسبا. فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب. فعليكم بالإصلاح، وإياكم والإفساد بالاعتداء أو الإسراف. فوائد: 1 - في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم». 2 - في سنن أبي دواد عن علي قال: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: «عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني؛ فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الكبير والصغير» وعن عائشة- رضي الله عنها- وغيرها من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة. عن الصبي حتى يحتلم- أو يستكمل خمس عشرة سنة- وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق». مما مر يفهم أن

البلوغ يكون: إما بالسن، أو الاحتلام. قال ابن كثير: «واختلفوا في نبات الشعر الخشن حول الفرج، وهي الشعرة، هل يدل على بلوغ أو لا؟ على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين وبين صبيان أهل الذمة، فلا يكون بلوغا على القول الثالث في حق أبناء المسلمين، ويكون بلوغا في حق أهل الذمة. قال ابن كثير: والصحيح أنها بلوغ في الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال المعالجة فيه بعيد». وقد روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فأمر من ينظر من أنبت فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت فخلى سبيلي .. » وأخرجه أهل السنن الأربعة. 3 - روى الإمام أحمد: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «ليس لي مال ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر، ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك، أو قال: أو تفدي مالك بماله». شك أحد الرواة، وروى ابن ماجه وأبو داود في سننه أن رجلا قال: يا رسول الله: فيم أضرب يتيمي؟ قال: «مما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا». قال فقهاء الشافعية: ولي اليتيم الفقير له أن يأكل من أقل الأمرين: أجرة مثله، أو قدر حاجته. واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما، لا. لأنه أكل بأجرة عمله، وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، لأن الآية والأحاديث أباحت الأكل من غير بدل، كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. قال عمر بسند صحيح عنه: إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت» والأقوى الاتجاه الأول: أي لا يرد ومذهب عمر زيادة في الاحتياط. وما مقدار ما يأكل منه؟ قال النسفي عن إبراهيم: ما سد جوعه، ووارى العورة. 4 - إن قياس عمر أمر نفسه على وصي اليتيم في مال الأمة أصل عظيم من أصول الاجتهاد السياسي في الإسلام. فالدولة المسلمة، والإمام المسلم تصرفاته مقيدة بما يقيد به وصي اليتيم؛ فما كان فيه مصلحة اليتيم نفذ، وما لم تكن له فيه مصلحة لم ينفذ. وعلى هذا فكل التصرفات والعقود والمعاهدات الدولية التي تجريها الحكومات تلزم الأمة بمقدار ما فيها من مصلحة للأمة، وكل تصرف أو عهد، أو عقد أجرته، أو تجريه حكومة ليس فيه مصلحة، فإنه لاغ حكما.

المعنى العام

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً، وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً* إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً*. المعنى العام: كان المشركون العرب في الجاهلية يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا. وهذا شبيه ببعض أنظمة العالم المعاصر، إذ تعطي الابن الأكبر حق الإرث فقط. فأنزل الله هذه الآيات مبينا في الآية الأولى منها أن الرجال والنساء سواء في استحقاق الوراثة، ما داموا سواء في سبب الاستحقاق، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بسبب الذكورة والأنوثة أو بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو أولاد، مما ستبينه الآيتان التاليتان لهذه الآيات. ثم حض الله الورثة أن يرضخوا للأقارب واليتامى والمساكين ممن لا يرثون إذا حضروا قسمة الميراث. وهل هذا الرضخ واجب أو مندوب، أو أن هذا كان فى أول الإسلام ثم نسخ؟ أقوال سنراها. وإذا فهمنا الآية في حدود أنه: إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شئ منه، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم بائسون لا شئ يعطونه؛ فأمر الله تعالى وهو الرءوف الرحيم أن يرضخ لهم شئ يكون برا بهم، وصدقة عليهم وإحسانا إليهم، وجبرا لكسرهم على حساب ما تطيب به أنفس الورثة. إذا فهمنا الآية في هذه الحدود، لا نكون قد فهمنا شيئا ينكره أحد، أو يختلف في جواز تطبيقه أحد، ثم ذكر الله بحالة يخشاها الإنسان، وهي حالة ما إذا كان له ذرية ضعاف وأصابه الموت، فكما يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة، فلينظر لورثة الآخرين. دخل في ذلك ما إذا حضر أحدا الموت فسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فعلى من سمعه أن يسدده. ودخل في ذلك من ولي أيتام إنسان ما، فعليه أن يفعل لهم ما يحب أن يفعل بأولاده. كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم. ثم أعلم الله- عزّ وجل- أن من أكل أموال اليتامى ظلما، فإنما يأكل في بطنه نارا

المعنى الحرفي

تتأجج فيها يوم القيامة. ولعلنا نلاحظ أن هذه الآيات الأربع مرتبطة بما قبلها، من حيث إن لها علاقة باليتامى، ونلاحظ كذلك أنها مرتبطة بما بعدها من آيات المواريث، إذ قررت استحقاق الرجال والنساء في الميراث، وندبت الورثة إلى التصدق، وحذرت من ظلم اليتامى، وندبت إلى معاملة أبناء الميت مثلما يحب الناس أن تعامل أبناؤهم من بعدهم. فالمقطع كله مرتبط بعضه ببعض، وكله يحدد التصرف الصحيح في قضايا حياتية، ليحقق الإنسان في نفسه التقوى كما أرادها الله، وأحبها، وشرعها لنا في كتابه. ومن هذا المقطع ندرك كيف أن قضية التقوى أكبر وأوسع مدلولا مما يظنها كثير من الناس. المعنى الحرفي: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. أي: لكل من الرجال والنساء حظه من الميراث، والمراد بهم المتوارثون دون غيرهم بحسب ما فرض الله لكل منهم، والنصيب: الحظ والقدر مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ. أي: من قليل المتروك وكثيره. نَصِيباً مَفْرُوضاً. أي: نصيبا مقطوعا لا بد لهم من أن يحوزوه. وقد بين الله- عزّ وجل- هذا النصيب المفروض بآيات المواريث الآتية بعد ثلاث آيات من هذه الآية، والمبدوءة ب يُوصِيكُمُ .. ، وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. أي: قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ من الأجانب. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ. أي: فأعطوهم مما ترك الوالدان والأقربون. قال النسفي: وهو أمر ندب، وهو باق لم ينسخ. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً القول المعروف هنا: هو الاعتذار الجميل والعدة الحسنة، أو العطاء الذي لا يرافقه استكثار أو من، أو الدعاء مع العطاء، كقولهم: خذوا بارك الله عليكم، أو ما فيه تطييب خاطر، أو ما تعورف عليه من القول الطيب في مثل هذه الأحوال، أو هذا كله. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ المراد بهم الأوصياء، أمروا أن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى، فيشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه، حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. فصار المعنى: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا- وذلك عند احتضارهم- خافوا عليهم الضياع بعدهم، لذهاب كافلهم، فليتذكروا ذلك،

[سورة النساء (4): آية 10]

وليتصرفوا مع من هم تحت رعايتهم على ضوئه. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في هذا الشأن، وليخافوا انتقامه. وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. أي: قولا مسددا يليق بالمقام، والقول السديد من الأوصياء، أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بيا بني، ويا ولدي، فالآية إذن أدبت الأولياء والأوصياء أن يعاملوا من تحت رعايتهم معاملتهم لأولادهم. ثم عاد المقطع إلى موضوع أكل أموال اليتامى، مهددا بعد هذه الاستجاشة لعواطف الرحمة الإنسانية فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. أي: يأكلونها ظالمين إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ. أي: ملأها ناراً لأنهم أكلوا ما يجر إلى النار بأكلهم الحقوق، فاستحقت بطونهم التعذيب من لحظة بعثهم يوم القيامة. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. أي: وسيدخلون نارا يعذبون فيها؛ وأبهمت النار هنا لتعظيم ما سيعذبون به، ولبيان عظيم جرمهم فيما أتوه. فوائد: 1 - في آية وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى .. ثلاثة أقوال، القول الأول فيها: أنها محكمة وهي على ظاهرها، وأنها للندب، ندبت إلى ذلك الورثة تطييبا لخواطر غير الورثة من القرابات، وخواطر الفقراء واليتامى، وذهب إلى ذلك خلق كثير. والقول الثاني: أنها محكمة ولكن هي في الوصية، فكأن الآية تندب الميت إلى أن يوصي لهذه الطبقات، فإذا مات وزع ما أوصى الميت على أصحابه ممن ذكرهم الله، ويندب للميت أن يقدمهم على غيرهم. والقول الثالث: أن الآية منسوخة نسختها آيات المواريث بعدها. ولا شك أن الواجب في التركة هو ما ذكرته آيات المواريث والوصية. فمن أراد أن يفهم الأمر في الآية على الوجوب فلا شك أنه ليس أمامه إلا أن يقول بالنسخ، وأن تكون الآية في الوصية ففيه صرف للآية عن ظاهرها. وما يتفق مع السياق قبل وبعد: هو أن نحمل الأمر في الآية على الندب، وهذا لا يعارض ما بعده، مع ملاحظة أن الإنفاق في هذه الحالة مقيد برضى الورثة جميعا، وأن يكون الورثة ممن يملكون حق التبرع. أما إذا كان الورثة صغارا، فلا يحق لأحد أن يتبرع عنهم، أو إذا كان في الورثة صغار، فللكبار أن ينفقوا من أنصبائهم لا من نصيب الصغار. ونحب هنا أن نذكر أن كلا من الأقوال الثلاثة في فهم الآية منسوب لابن عباس مع وجود غيره معه فيه.

كلمة في السياق

2 - روى ابن مردويه في سبب نزول قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ .. عن جابر قال: أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما، وليس لهما شئ فأنزل الله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ. 3 - في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله: وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات». وروى ابن مردويه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا، قيل يا رسول الله: من هم؟ قال: ألم تر أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. كلمة في السياق: 1 - في السياق الخاص للسورة نلاحظ أن هذا المقطع حتى الآية الأخيرة التي مرت معنا قد ركز على حق المرأة، وحق اليتيم. وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم». أي: أوصيكم باجتناب مالهما. نفهم من كون هذا المعنى قد تقدم في سورة النساء على غيره أن له أهمية في قضية التقوى، فلا تظهر تقوى الإنسان بشيء، ظهورها في موقفه من حق اليتيم، وماله، ومعاملته، وفي موقفه من حقوق المرأة بالمعروف. 2 - رأينا في سورة آل عمران، أن سورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة، وامتداد معانيها من سورة البقرة، على نسق جديد، وتسلسل جديد، وترتيب جديد. ونقول الآن: إن سورة النساء تفصل في الآيات الخمس المبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وما في معناها من سورة البقرة، وما هو متعلق بها من سورة البقرة. وتفصل ذلك ضمن ترتيب ونسق جديدين يتناسبان مع الموضوع الخاص بسورة النساء، كما كان ترتيب سورة آل عمران متناسبا مع موضوعها الخاص. ولا يفهمن فاهم من التفصيل

معناه الضيق، بل فلنفهمها بمعناها الواسع. ولنضرب الآن مثالين على هذا التفصيل بمعناه الواسع، وهما مثالان على الصلة أيضا بين سورة النساء وما هو بمعناها في سورة البقرة مما له ارتباط بآيات المحور. 1 - مر معنا في سورة البقرة عن ابن عباس قوله: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. الآية (وهي من سورة النساء): انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. إن آية النساء سبقت آية البقرة، وآية البقرة أخرجت من أكل أموال اليتامى، تلك الحالة التي تقتضيها العشرة والمصلحة، ولكن آية النساء تبقى تفصيلا في هذا الموضوع، تراعي فيه قضية الخلطة. فليتذكر دائما المخالط ألا تكون الخلطة إلا لصالح اليتيم، وفي حدود رفع الحرج، وألا تصل المسألة إلى حد أكل مال اليتيم، فإن الجزاء فظيع. فآية النساء من هذا الباب تفصيل لهذا الموضوع في قضية التقوى. ب- في قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ. قال ابن عباس مفسرا لها: هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة. قال ابن كثير: «وهكذا قال مجاهد وغير واحد» فلنتذكر ما ورد في سورة البقرة. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ألا نجد هنا في سورة النساء تفصيلا لقضية وردت في البقرة لها علاقة بقضية التقوى، لكنها ترد هنا ضمن السياق الخاص لسورة النساء، وهناك ضمن السياق الخاص في سورة البقرة. فإذا اتضح هذا فإننا نرجح القول الذي نقلناه في سورة البقرة، وهو أن قوله تعالى في البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ تفسره الآية القادمة: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .. فهذا تفسير الوصية الواردة في البقرة.

المعنى العام

فهذا القرآن لا تنقضي عجائبه، أنزله المحيط علما بكل شئ. من هذين المثالين ندرك كيف أن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وفي امتداد معاني هذا المحور من سورة البقرة نفسها. ولعل ما مر معنا هنا يصلح أن يكون مقدمة لما وصلنا إليه من آيات في هذا المقطع: آيات المواريث التي هي بيان للنصيب المفروض المذكور في قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ... يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ* تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ. المعنى العام: الآيتان الأوليان من هذه المجموعة، وآخر آية في هذه السورة، هن آيات علم الفرائض أي: علم المواريث، وهذا العلم كله مستنبط من هذه الآيات الثلاث. ومن الأحاديث الواردة في ذلك، مما هو كالتفسير لذلك. وهذا من أعظم مظاهر إعجاز هذا القرآن، أن تجد علم الميراث كله في هذه الآيات، بمثل هذه الدقة، وهذا العدل في التوزيع، وفي مثل هذا الشمول، وبمثل هذا الإيجاز، وبمثل هذه الطريقة من العرض المعجز البالغ الروعة الذي لا ينزل- وهو النص التشريعي- عن المستوى البياني

والبلاغي لأي نص قرآني آخر. إن إنسانا لا يعرف الله في كتابه من مثل هذا محروم محروم. في الآية الأولى: أمر الله- عزّ وجل- بالعدل في الأولاد بين الذكور والإناث في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مئونة النفقة والكلفة، ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. فإذا كان الأولاد إناثا فقط، فإن كن ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان من تركة الميت، وإن كن ثنتين فكذلك، وإن كانت واحدة فلها النصف. وللأبوين إن كان للميت أولاد لكل منهما السدس، فإن كان الأبوان هما الوارثين الوحيدين، فللأم الثلث، والثلثان للأب. فإن كان للميت إخوة، حجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس، دون أن يكون لهم شئ مع وجود الوالد، وللوالد الباقي؛ وهذا كله بعد أن تدفع الديون التي على الميت عنه؛ وهذا كله بعد دفع الوصية إن كانت في حدود الثلث. ثم بين الله- عزّ وجل- في نهاية الآية الأولى حكمة هذه الفريضة للآباء والأبناء، إذ الملاحظ أن الآية الأولى كانت في ميراث الآباء والأبناء بشكل رئيسي، إن الحكمة في هذا التشريع هي: أن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي، أو الأخروي، أو هما، من كل من أبيه أو ابنه. وقد يكون أحدهما أرجى نفعا، ولكن النفع متوقع ومرجو من هذا، كما هو متوقع ومرجو من الآخر، فلهذا فرض الله لهذا وهذا، وجعل لكل نصيبه بما يناسب حاله. ثم بين الله- عزّ وجل- أن ما ورد في هذه الآية من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، هو فرض من الله حكم به وقضاه، والله عليم حكيم؛ يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه. وفي الآية الثانية: بين الله حصة الأزواج والزوجات، فبين أن للرجال نصف ما ترك أزواجهم إذا متن عن غير ولد، فإن متن عن ولد فللزوج الربع من بعد الوصية والدين، وللزوجات الربع في حالة عدم الولد. فإذا وجد الولد فللزوجة إن كانت واحدة، أو للزوجات إن تعددن الثمن من بعد الوصية أو الدين. فإن مات رجل أو امرأة وليس له أو لها والد ولا ولد، وكان له أولها أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك رجالا أو نساء أو مختلطين فكلهم شركاء في الثلث. وكل

المعنى الحرفي

ذلك بعد الوصية أو الدين. هذه هي وصية الله لنا في شأن الميراث، وهو المحيط علما بكل شئ فهو الأعلم بما ينبغي، وهو ذو الحلم الذي يشرع لعباده التشريع الأرفق بهم. ثم بين الله- عزّ وجل- في الآية الثالثة والرابعة: أن هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت، واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها، ولا تجاوزوها. ثم وعد من وقف عند حدوده بجناته، وأوعد من عصى الله ورسوله، وتعدى حدود الله بناره وإهانته، لكونه غير حكم الله، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله، وحكم به؛ ولهذا يجازى صاحبه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم، فليسمع من يريدون أن يبدلوا أحكام الله، ويغيروا شريعته، فليسمع أصحاب الدعوات الكافرة على أرضنا ممن يريدون أن يبدلوا شرع الله بأهوائهم. إن الآيتين الأولى والثانية، وآخر آية في سورة النساء، هما جماع علم المواريث في القرآن. ومن قرأ كتب هذا العلم أدرك كيف أن هذه الآيات أحاطت بالمسائل كلها، من خلال ما سيق له النص بشكل رئيسي، ومن خلال ما يفهم بشكل آخر من أشكال الفهم للنصوص، ومن خلال الشرح النبوي لهذه الآيات، وسيتضح لنا شئ من هذا في نهاية الكلام عن هذه الآيات الأربع. ونكتفي هنا أن نسجل أننا فهمنا بشكل واضح من النص: حصة البنات إذا انفردن، وحصة الأب والأم إذا انفردا بالإرث، وحصة الأب والأم في حالة فقدان الولد، ووجود الإخوة، وحصة الزوج والزوجة وجد ولد أو لم يوجد، وحصة الإخوة في حالة فقدان الوالد والولد. ولن ننتهي من الكلام عن الآيات إلا وقد وضح لنا هذا العلم إن شاء الله تعالى. المعنى الحرفي: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. أي: يعهد إليكم ربكم، ويأمركم في شأن ميراث أولادكم. وهذا إجمال تفصيله ما بعده. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. أي: للذكر منهم حظ الأنثيين، والمراد حال الاجتماع، أي: إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له

سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله إذا انفرد والبنتان تأخذان الثلثين. والدليل على ذلك هو ذكر حكم البنات حال الانفراد مباشرة بعد هذا. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ. أي: فإن كانت الأولاد نساء خلصا يعني: بنات ليس معهن ابن، وكن نساء زائدات على اثنتين، فلهن ثلثا ما ترك الميت. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. أي: وإن كانت المولودة منفردة فلها نصف ما ترك الميت. وحتى الآن ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن، وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد، فما حكمهما؟ ألحق ابن عباس البنتين بالبنت فقال: لهما النصف؛ وخالفه في ذلك الأمة كلها فجعلوا لهما الثلثين وهو الذي عليه الفتوى. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة من سورة النساء؛ فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين، فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ما ذكرنا. قال النسفي: «ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث، كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها». وقال النسفي: «وفي الآية دلالة على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى، لأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة، فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل» وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى. والمعنى: إن كان للميت أولاد، أو أولاد أولاد، فلأبيه السدس، ولأمه السدس. ثم إن كان للميت بنت واحدة، فلها النصف في هذه الحالة، وللأم السدس، وللأب السدس. وما تبقى يرثه الأب تعصيبا، إذ الحديث الشريف يقول: «ألحقوا الفروض بأهلها وما تبقى فلأولى رجل ذكر» وأولى رجل ذكر في حالة عدم وجود الابن، أو ابن الابن هو الأب. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. أي: إذا انفرد الأبوان في الميراث، فللأم الثلث، وأخذ الأب الباقي تعصيبا، أي يأخذ الثلثين. ولكن لنفرض أنه كان معهما زوج أو زوجة، فالزوج في هذه الحالة يأخذ النصف، والزوجة الربع، فماذا تأخذ الأم بعد ذلك؟ الذي عليه الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء، أنها تأخذ ثلث الباقي، لأن الأب أقوى من الأم في الإرث، فلو أعطيناها ثلث

[سورة النساء (4): آية 12]

التركة في هذه الحالة، لكانت في حالة وجود الزوج تأخذ ضعفي ما يأخذه الأب، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، وهذا يناقض البداءة، ثم ذكرت الآية حالة ثالثة للأبوين، وهي اجتماعهما مع الإخوة. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. أي: إن كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا سواء كانوا من أب أو كانوا من أم، أو كانوا لأب وأم، فإنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، دون أن يأخذوا هم شيئا، ويأخذ الأب في هذه الحال الباقي. أما الأخ الواحد فإنه لا يحجبها عن الثلث، وكان أهل العلم يرون أن حكمة حجب الأم إلى السدس في حالة وجود الإخوة فيزاد في حصته وينقص من حصتها لأن مئونة الأب أكثر بوجود الإخوة. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ. أي: قسمة الأنصباء التي تقدمت إنما تكون من بعد وصية أو دين. وأجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية، والحكمة في تقديمها في التلاوة أن إخراجها مما يشق على الورثة، وأن أداءها مظنة التفريط، بخلاف الدين، فقدمت على الدين ليسارعوا إلى إخراجها معه. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. أي: فرض الله الفرائض على ما هو عنده لحكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. والتفاوت بالسهام بتفاوت المنافع، وأنتم لا تدرون تفاوتها، فتولى الله ذلك فضلا منه، ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ. أي: هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، فرض من الله حكم به وقضاه. وإنما ختمت الآية بهذا لكي لا يفهم فاهم من قوله تعالى: يُوصِيكُمُ أن الأمر وصية غير لازمة، بل هي فريضة لازمة. ولنتذكر مرة أخرى الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة البقرة كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. ولنلاحظ كلمة فريضة هنا بعد قوله تعالى آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً علمه محيط، وحكمته بالغة. وقد قسم الفرائض على ما قسمها، وذلك من آثار علمه وحكمته، فما أجهل من رفض، وما أحمق من عاند، وما أكثر المرتدين في عصرنا جهلا وجاهلية. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ. أي: زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ابن أو بنت فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ والدين مقدم على الوصية، وبعده

[سورة النساء (4): الآيات 13 إلى 14]

الوصية، ثم الميراث. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء. وحكم أولاد البنين وإن سفلوا، حكم أولاد الصلب. وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان والثلاث والأربع، يشتركن فيه. ولاحظنا أن ميراث الرجل جعل ضعف ميراث الزوجة انسجاما مع الأصل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ الكلالة: من لم يخلف ولدا ولا والدا، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وما فسرنا به الكلالة هو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف، بل حكى الإجماع عليه غير واحد. ومعنى النص: إن كان الميت يورث وهو كلالة: لا والد له ولا ولد، أي: إن كان رجلا مورثا وهو كلالة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ. أي: من أم، إذ لو لم يكونوا من أم هنا، لكان الإرث بالتعصيب في حالة وجود الذكور. فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ لأنهم يستحقون بقرابة الأم، وهي لا ترث أكثر من الثلث. ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى، قضى عمر أن ميراث الإخوة من الأم بينهم للذكر مثل حظ الأنثى. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ كررت ذكر الوصية والدين لذكر الكلالة. غَيْرَ مُضَارٍّ. أي: يوصي بها وهو غير مضار لورثته، بأن يوصي بزيادة على الثلث، أو يوصي لوارث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي ما مر مما بدئ بقوله تعالى يُوصِيكُمُ وصية من الله، فحافظوا عليها، والتزموا بها، وأقيموها وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ عليم بمن جار، أو عدل، أو حرف، أو بدل. عليم إذا شرع وحكم وقدر، حليم على الجائر لا يعاجله بالعقوبة، فلا يغتر من جار أو جنف، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. أي: هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه، وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله سماها حدودا، لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها، فذكرها هنا أمر بعدم تعديها وتجاوزها. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في حدوده، فلم يزد ولم ينقص بحيلة أو وسيلة، أو يتعد أو يتجاوز عملا أو حالا أو قولا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي حدها في باب المواريث وغيرها، يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ لهوانه عند الله باستهانته بحدوده، وكفره، واستحلاله ما حرم الله، وما أشده تهديدا ووعيدا في هذا

فوائد

المقام، تعرف حكمته في هذا العصر، إذ تسمع الدعوات الفاجرة من ناس آباؤهم مسلمون، أو يحملون أسماء إسلامية، يدعون إلى نسف شريعة الله في باب المواريث وغيرها. فوائد: 1 - في الصحيحين وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: «عادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي، فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .. وفي مسند الإمام أحمد عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك». أقول: من المعلوم أن العرب في الجاهلية لم يكونوا يورثون النساء شيئا. 2 - في قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .. إشعار لنا منه سبحانه أنه أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم وغيرهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، فشرعه جل جلاله رحمة كله. 3 - روى البخاري عن ابن عباس قال: «كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع». 4 - روى ابن أبي حاتم، وابن جرير قولا لابن عباس- وهو جزء من كلام طويل، يصف حال الناس يوم نزلت آيات المواريث- قال واصفا أهل الجاهلية: «لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر». 5 - ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وقد مر معنا في سورة البقرة أن الوصية تجوز في حدود ثلث التركة بعد الدين، وإذا كان الورثة لا تجوز لهم الوصية زيادة عما فرضه الله لهم،

فما حكم لو أقر الميت قبل وفاته لأحد الورثة بشيء عليه؟ هل يصح الإقرار أو لا يصح؟ قولان للعلماء. فمن ذهب إلى عدم صحته قال: لا يصح لأنه مظنة التهمة. واختار الشافعي في الجديد أنه يصح. ثم إن كان الإقرار صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر جرى فيه الخلاف من حيث الإلزام للورثة، لا من حيث الجواز، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة، ونقصان بعضهم، فهو حرام بالإجماع بنص الآية، وهي قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وبنص الحديث «الإضرار في الوصية من الكبائر» وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة. قال: ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله تعالى .. عَذابٌ مُهِينٌ. 6 - في كتب علم الفرائض يبحثون عادة موضوع الحقوق التي تتعلق بالتركة، ويحددونها بأنها أربعة، يقدم بعضها على بعض: تكفينه وتجهيزه، ثم قضاء ديونه، ثم تنفيذ وصاياه من ثلث ما تبقى، ثم قسمة الباقي بين ورثته حسب الكتاب والسنة. ثم يبحثون مراتب الورثة، وكيف أنه يبدأ بأصحاب الفرائض، وهم الذين لهم سهام مقدرة في كتاب الله أو سنة رسوله، أو الإجماع. ثم بالعصبات من جهة النسب. والعصبة: كل من يأخذ ما أبقته الفرائض، وعند الانفراد يحرز جميع المال. ثم بالعصبة من جهة السبب: وهو مولى العتاقة، ثم عصبة المولى، ثم الرد على ذوي الفروض النسبية بقدر حقوقهم، ثم ذوي الأرحام. ثم مولى الموالاة، ثم المقر له بالنسب على الغير، ثم الموصى له بجميع المال، ثم بيت المال، على خلاف في بعض الشئون. ثم يذكرون موانع الإرث وهي أربعة: الرق، والقتل، واختلاف الدين، واختلاف الدارين: دار الحرب، ودار الإسلام، سواء اختلفت حقيقة أو حكما. ثم يبحثون موضوع الفروض ومستحقيها، وعدد مستحقيها من الرجال والنساء، ومجموعهم اثنا عشر، أربع من الرجال، وثمانية من النساء: الأب، والجد، والأخ لأم، والأخت لأم، والزوج، والزوجة، وبنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب، والأم، والجدة، ويبحثون عادة أحوال كل من هؤلاء، ثم يبحثون موضوع العصبات، وأقسامها، وأصنافها، وأيها يقدم على غيره، وأيها يحجب غيره، وحال كل من العصبات. ثم يذكرون باب حجب النقصان، وحجب الحرمان، من

ولنعد إلى السياق

يحجب، ومن لا يحجب. ثم بحث العول، وهي قضية خلافية، وتكون في حالة ضيق المخرج عن فرض فماذا يفعل في هذه الحالة؟ ثم يبحثون موضوع الرد، ومن يرد عليه، ومن لا يرد في حالة فضل المخرج عن فرض ذوي الفروض ولا مستحق له من العصبة يرد عليه؟ ثم يبحثون موضوع المناسخة: وهي حالة ما إذا صار بعض الأنصباء ميراثا قبل القسمة ماذا يفعل به؟ ثم يبحثون موضوع توريث ذوي الأرحام وتفصيلات ذلك وترتيبه. ثم يبحثون موضوع الخنثى، والحمل، والمفقود، والمرتد، والأسير، والغرقى، والحرقى، والعدمى. ويبحثون موضوع المسائل، وكيفية حلها، وكثيرا من الأمور الأخرى. نقول هذا ليعلم أن العودة في المواضيع الموسعة إلى كتبها التي اختصت بها شيء لا بد منه. وبهذه المناسبة نكرر قضية مرت معنا: وهي أن القرآن لم يتحدث عن الموضوع الواحد في المكان الواحد. وكتب السنة تروي ما ورد من الحديث في الموضوع الواحد، ولا تعرج إلا نادرا عما ورد في القرآن فيه، وإذا عرجت فإنها لا تستقصي، لأنه ليس من اختصاصها، فلا بد إذا بشكل عفوي أن تنشأ العلوم الإسلامية، وتؤلف الكتب التي تتحدث عن الموضوع الواحد في الكتاب والسنة والإجماع، وما يدخل في هذا الموضوع عن طريق القياس. ولا بد أن تختلف الأفهام، ومن ثم نشأ علم أصول الفقه، الذي يضبط الاجتهاد، وطرقه، ووسائله، ويحدد أصوله، كما نشأ علم الفقه، وغيره من العلوم الإسلامية، فما أجهل من يحارب دراسة الفقه، أو التوحيد، أو غير ذلك من العلوم الإسلامية في كتبها، أو يستغرب وجود مدارسها، وما أحمق من يفعل ذلك بحجة أنه لا تصح دراسة غير الكتاب والسنة، فمن قال إن دراسة الكتاب والسنة تناقض دراسة كتب الاختصاص؟! إن الذي يستحق اللوم هو من يهمل دراسة الكتاب والسنة بحجة دراسة غيرهما أما من يجمع فلا لوم عليه. وأما حكمة كون القرآن لم يذكر الموضوع الواحد في المكان الواحد، فقد ذكرنا بعضها من قبل، وسنذكر بعضها في نهاية هذا المقطع. ولنعد إلى السياق: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً* إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ

المعنى العام

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. المعنى العام: الآية الأولى في عقوبة المرأة إذا ثبت زناها قبل أن ينزل الحكم النهائي في سورة النور، فالحكم هنا مرحلي، وقد ذكرت الآية ما يشعر بذلك، وأما حكمة ذكر الآية مع نسخ حكمها فلذلك حكم سنذكرها. والآية الثانية في عقوبة الرجلين يعملان عمل قوم لوط، أمرنا الله- عزّ وجل- بتعزيرهما حتى إذا تابا وأصلحا كففنا عنهما. ويمكن أن تفهم الآيتان على أن الأولى في عقوبة المرأة إذا زنت، والثانية فى عقوبة الرجال إذا زنوا، وتكون الآيتان منسوختين بالحكم النهائي في عقوبة الزنا المذكورة في سورة النور. وإذ ذكرت الآية الثانية توبة الزاني أو اللائط، فقد تحدثت الآيتان الأخيرتان عن موضوع التوبة فبين الله- عزّ وجل- أنه يقبل التوبة ممن عمل الذنب بجهالة- والعاصي جاهل حتى ينزع عن الذنب- إذا تاب قبل الغرغرة أي: قبل وصول الروح إلى الحلقوم عند الموت، فمن تاب تاب الله عليه. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه لا يقبل توبة من تاب بعد الغرغرة. وأن من مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فدية. وأن هؤلاء قد أعد الله لهم عذابا شديدا مقيما. المعنى الحرفي: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الفاحشة هنا هي الزنا، وأطلق هذا الاسم عليه لزيادة الزنا في القبح على كثير من القبائح، واللاتي جمع التي فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ. أي: فاطلبوا شهادة أربعة من المؤمنين يشهدون عليهن، فَإِنْ شَهِدُوا أي: عليهن بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ. أي: احبسوهن في البيوت حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ. أي: حتى تأخذهن ملائكة الموت، أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أو يجعل الله لهن طريقا غير هذه. فالسبيل إذن هنا هو الحكم البديل الناسخ، وقد كان. قال ابن عباس: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور، فنسخها بالجلد، أو الرجم. وفي الحديث الصحيح: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه، وكرب لذلك،

[سورة النساء (4): آية 16]

وتغير وجهه، فأنزل الله- عزّ وجل- عليه ذات يوم، فلما سري عنه قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» والفقهاء مختلفون في موضوع الجمع بين الرجم والجلد، وبين الجلد والنفي، فمنهم من يعتبر الجمع منسوخا، ومنهم من يعتبر ما زاد على الرجم في الثيب والجلد في البكر من باب السياسة الشرعية، ومنهم من يأخذه على ظاهره، وهو موضوع يأتي في سورة النور. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ للمفسرين أقوال في المراد بهؤلاء، فمنهم من قال: هذا في الذكور الزناة قبل النسخ، ومنهم من قال: هذا في الزانية والزاني جميعا، لكن الزانية تعاقب زيادة على ذلك بالحبس، ومنهم من قال: هذا في اللواطين. فَآذُوهُما. أي: بالشتم والتعيير والضرب. فَإِنْ تابا عن فعلهما وَأَصْلَحا بإحسان العمل، دل ذلك على أن من علامة الصدق في التوبة إصلاح العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما. أي: فاقطعوا التوبيخ والمذمة ولا تعنفوهما، ولا تعيروهما بعد ذلك، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وكذلك لا يجوز التعيير بعد إقامة الحد، وقد ثبت في الصحيحين «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها». إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً. أي: يقبل توبة التائب ويرحمه. إِنَّمَا التَّوْبَةُ. أي: إنما قبول التوبة عَلَى اللَّهِ كلمة «على» هنا لا تفيد الوجوب على الله، إذ لا يجب على الله شئ، ولكنه لتأكيد الوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك. لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ. أي: الذنب بِجَهالَةٍ ليس المراد بالجهالة هنا الجهل الذي يقابل العلم، وإنما الجهل الذي يقابل العقل، وقيل جهله: اختياره اللذات الفانية على الباقية. وقيل ليس المراد جهالته بأن ارتكب ذنبا، بل المراد جهالته بكنه عقوبته. روى عبد الرزاق عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. وقال مجاهد: «كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها» وإذن فهناك حالة يستوي فيها العلم والجهل، حالة ما إذا فعل الإنسان الفعل كأثر عن غلبة نفس، أو شهوة أو نزوة، أو طيش أو حماقة .. فالمراد بالجهالة هنا، ترك العلم. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. أي: ثم يتوبون من زمان قريب، وهو ما قبل حضرة الموت؛ يدل على ذلك قوله في الآية اللاحقة: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ فدل على أن وقت الموت هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة؛ قال الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب، وفي الحديث الحسن قال عليه الصلاة والسلام «إن الله

[سورة النساء (4): آية 18]

يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» فدل على أن كل ما كان قبل الموت فهو قريب. (ومن) في قوله تعالى مِنْ قَرِيبٍ للتبعيض، فصار المعنى: أي: يتوبون بعض زمان قريب، كأنه سمى ما بين وجود المعصية، وبين حضرة الموت زمانا قريبا فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هذه عدة من الله تعالى لمن تاب، فإنه يفي له، وإعلام بأن الغفران كائن. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليما بعزمهم على التوبة، حكيما بفتح باب التوبة، وجعله الندم توبة. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. أي لا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت، ومعاينة ملك الموت، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة؛ لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار، وقبول التوبة ثواب، ولا وعد به إلا لمختار؛ وبعد أن ذكر ابن كثير أحاديث تؤيد هذا قال: فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله- عزّ وجل- وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة، وقال: وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح عن الحلق، وضاق به الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم (جمع غلصمة: وهي اللحم بين الرأس والعنق) فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص». وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. أي: وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار أُولئِكَ دخل في ذلك الذين ماتوا ولم يتوبوا، والذين ماتوا وهم كفار أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أي: هيأنا وحضرنا لهم عذابا مؤلما. ولسعيد بن جبير فهم في هاتين الآيتين: فقوله تعالى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ .. جعلها في المؤمنين. وقوله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ .. قالَ إِنِّي تُبْتُ جعلها في المنافقين، وقوله تعالى وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ .. جعلها في الكافرين. فوائد: 1 - آية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ منسوخة كما رأينا بما نزل في الموضوع في سورة النور، وآية وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ .. إن فسرت بأن المراد منها الزاني والزانية فهي منسوخة، وإن فسرت بأن المراد منها الفاعل والمفعول به فهي غير منسوخة، وتكون دليلا ظاهرا لأبي حنيفة في أنه يعزر في اللواطة، ولا يحد حد الزنى، وقد يصل التعزير عنده إلى القتل. وهذه المسألة ترجع عنده إلى رأي الإمام، فإن شاء عزر بما هو الأشد حتى القتل، وإن شاء عزر بما دون ذلك وعليه يحمل ما ورد في تعدد العقوبات الواردة في شأن الفاعل والمفعول فيه؛ ومن ذلك ما رواه أصحاب السنن عن

كلمة في السياق

ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به». 2 - يقول صاحب الظلال تعليقا على قوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ: «وفي النص دقة واحتياط بالغان. فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد: «من نسائكم» - أي المسلمات- ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل: «من رجالكم» - أي المسلمين- فحسب بهذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل. ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه. إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات- حين يقعن في الخطيئة- رجالا غير مسلمين. بل لا بد من أربعة رجال مسلمين مِنْكُمْ من هذا المجتمع المسلم. يعيشون فيه، ويخضعون لشريعته، ويتبعون قيادته، ويهمهم أمره، ويعرفون ما فيه ومن فيه. ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة، وغير موثوق بأمانته وتقواه، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته، ولا على إجراء العدالة فيه. وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم، وأصبح هو الجلد أو الرجم» اهـ. 3 - رأينا أن آية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ... قد وقع على بعض أحكامها نسخ، فهي من الآيات التي تضرب كمثال على نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، وحكمة نسخ الحكم مع بقاء التلاوة تثبيت وجود النسخ، وابتلاء الخلق بذلك، ثم إن نسخ حكم من أحكام الآية لا يعني نسخ كل شئ فيها، فهي في مكانها وفي سياقها، وفي معانيها تؤدي معاني كثيرة. 4 - روى الإمام أحمد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عزّ وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». وروى الإمام أحمد أن أبا ذر حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة عبده، أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة». كلمة في السياق: 1 - نلاحظ في السياق القرآني أن الموضوع الواحد قد يتكرر في القرآن مرات

ومرات، وأن الموضوع الواحد قد يوجد جزء منه في مكان، وجزء منه في مكان آخر، والحكمة في ذلك أن الموضوع يتكرر بحسب احتياجات تعميقه في النفس البشرية، وأن الموضوع يتجزأ بحسب احتياج السياق الوارد فيه للجزء الوارد منه، ويتجزأ ليذكره الإنسان أكثر من مرة. فالقرآن كتاب تربية وتزكية وإعجاز، كما هو كتاب علم وحكمة، كما هو كتاب تشريع وتوجيه للبشر في كل شئ، وكتاب هذا شأنه تساق المواضيع فيه لا ككتب التشريع المجرد، ولا ككتب العلم المجرد، ولا ككتب الحكمة المجردة، ولا ككتب المعجزات المجردة، فهو على ما هو عليه يؤدي مجموعة أمور ويحقق مجموعة قضايا بآن واحد، وبسبب من كونه كذلك فإن ملايين المواضيع تنبثق عنه بما يغطي احتياجات الزمان والمكان. 2 - رأينا محل سورة النساء ضمن السياق القرآني العام، والمقطع الذي مر معنا هو المقطع الأول في هذه السورة، وهو مقطع إذا نظرنا إليه على ضوء محل سورة النساء في السياق القرآني العام كما رأيناه من قبل، فإننا نفهم أن هذا المقطع قد ربى الإنسان على التقوى لله في مجموعة أمور: معرفة الله، وصلة الأرحام، وحفظ أموال اليتامى، وعدم الاعتداء عليها، وعدم أكل أموالهم ظلما وإعطائهم إياها كاملة، وإعطاء المرأة حقها المالي، وتوزيع تركة الميت على حسب ما أوصى الله، ووأد الفاحشة بعقوبة فاعليها، والحض على التوبة. وكل ذلك معان داخلة في المفهوم القرآني للتقوى، وهو مفهوم أوسع من مفهوم التقوى في موازين العامة من الناس، ونقصد بالعامة: كل من لم يتفقه في دين الله حق التفقه. فإذا تأكدت هذه المعاني من التقوى في المقطع الأول، ينتقل السياق إلى المقطع الثاني ليبين لنا معاني جديدة في قضية التقوى. ونحب أن نذكر هنا- ولو كررنا-: إن سورة النساء تفصل في محورها، من سورة البقرة. ومحورها يبدأ بالدعوة إلى العبادة كطريق للتقوي. وهنا نضيف، إن مقاطع سورة النساء التي تبدأ في الغالب بقوله تعالي: يا أَيُّهَا. إنما هي تفصيل للعبادة والتقوى بمعناهما الواسعين. فطاعة أمر الله وترك نهيه، عبادة، والتزام شرعه تقوى. فما من مقطع في سورة النساء إلا وهو تعميق لمفهوم العبادة، كطريق للتقوى، أو هو تعميق لمفهوم التقوى نفسه، وما ينبثق عنها، أو هو تبيان لما يدخل في التقوى من أجزاء. 3 - هناك قاسم مشترك يجمع بين المقطع الأول والثاني، وهو الكلام عما يسمى الآن بالأحوال الشخصية، من زواج، وإرث، وانحراف جنسي، وظلم للأيتام، إلى

المقطع الثاني من سورة النساء

غير ذلك من قضايا مرت معنا، أو ستمر، وكل ذلك مرتبط بالآية التي صدرت بها السورة: فالآية ذكرت الرجال والنساء، وذكرت الأرحام، وجاء المقطع الأول والثاني فى ذلك. ويأتي المقطع الثالث وفيه حديث عن أكل أموال الناس بالباطل، وقتل الأنفس، والتمرد وصلة ذلك بالآية الأولى كذلك لا تخفى، وفي المقطع الثالث يأتي أمر بعبادة الله وحده، ويأتي أمر بالإحسان، ويأتي تحذير من الاختيال والفخر والبخل، وصلة ذلك بالحياة الاجتماعية واضحة، ومجئ الأمر بالعبادة في هذا السياق يشير إلى دور العبادة في إقامة ما سبقه وما سيلحقه من أحكام. ثم يأتي مقطع يبدأ بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر؛ ولذلك صلة بالعبادة وفي ذلك المقطع يوضح الله- عزّ وجل- لنا مجموعة من مواقف أهل الكتاب ويستقر المقطع على قوله تعالي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ولذلك صلة بكل ما سبق، ثم يأتي مقطع يأمر بالطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، ومقطعان في موضوع القتال، ومقطع في موضوع الحكم بالقرآن، وينتهي ذلك المقطع بقوله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ فكأن المقاطع الثلاثة تتحدث عما تقوم به أداء الأمانات، وعما يقوم به العدل، ثم تستمر السورة في سياقها. من مثل هذا يتضح لنا كيف أن للسورة سياقها الخاص كما سنرى تفصيلا، كما أنها مرتبطة بمحورها من سورة البقرة، وبروابط هذا المحور، وبامتداداته، كما سنرى كذلك تفصيلا، فليكن ما مر معنا هنا بمثابة المقدمة لسياق المقاطع اللاحقة. المقطع الثاني من سورة النساء ويمتد من الآية (19) إلى نهاية الآية (28). وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 19 الى 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

[سورة النساء (4): الآيات 20 الى 24] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 25 الى 28] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) كلمة في المقطع: جاء هذا المقطع بعد الآيات التي تحدثت عما ينبغي أن يعاقب به فاعلو الفاحشة. فهو يكمل ذكر الأشياء التي لا ينبغي أن تكون في الحياة الاجتماعية. كما يذكر المحرمات من النساء. وفي سياقه يذكر العلاقة الزوجية والزواج، والبديل عن زواج الحرائر. وصلة هذا المقطع بالمقطع السابق واضحة، فكلا المقطعين يتحدث عن الأسرة، وما يسمى الآن بالأحوال الشخصية. وكل ذلك جاء في سياق التذكير بأن أصل الإنسان من ذكر وأنثى. وأن الله- عزّ وجل- هو الخالق. والمقطع يضيف إلى بناء التقوى، مجموعة أمور. فليس من التقوى أن تكون المرأة كالمتاع يورث. ولا من التقوى أن يضغط الرجل على المرأة من أجل أن يأكل شيئا من مهرها وهو يريد أن يطلقها. ولا من التقوى، الزواج بزوجات الآباء. ولا من التقوى الزواج بمحرم. وسنعرض المقطع على فقرات. فلنبدأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ

المعنى العام

فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً* وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً* وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا. المعنى العام: كانت المرأة فى الجاهلية، تورث كما يورث المتاع، فكانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها. وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من نفسها ومن أهلها. فأنزل الله تحريم ذلك في الآية الأولى من هذا المقطع، فنهى فيه عن إرثهن وما كانوا يرتبون عليه، كما نهى عن مضارتهن بالعشرة وقهرهن حال كراهيتهن، من أجل أن يتخلين عن حقوقهن ليخلصن أنفسهن. ولم يسمح بذلك إلا في حالة واحدة: في حالة الزنا، فقد سمح فيه أن يضاجرها ليسترجع صداقها ويخالعها. وهذا إذا لم يرد أن يلجأ إلى اللعان، فإذا لا عن طلقت منه، وسقط حقه في المهر. ثم أمر بالإحسان بعشرتهن بطيب القول، وحسن الفعل، وتحسين الهيئة. ثم بين أنه حتى لو كان الرجل يكره امرأته فإنه يندب له أن يصبر ويمسك، إذ عسى أن يكون في الصبر على إمساكهن مع الكراهة خير كثير في الدنيا والآخرة. كأن يرزق منها ولد، ويكون في ذلك الولد خير كثير. وفي الحديث الصحيح: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر». وفي الآية الثانية بين الله- عزّ وجل- أن الزوج إذا أراد أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئا، ولو كان قنطارا من المال. إذ كيف يؤخذ من الصداق بعد ما حدث من الجماع، وكان العقد والعهد. فهذا يقتضي إن كان طلاق ألا يكون استرجاع صداق. ثم نهى الله- عزّ وجل- عن نكاح زوجات الآباء، تكرمة لهم، وإعظاما واحتراما أن توطأ من ولده من بعده. حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها. وهذا أمر مجمع عليه. وقد بشعه الله غاية التبشيع. فوصفه بأنه فاحشة، وأن الله يمقت عليه. وأنه بئس طريقا لمن سلكه من الناس. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. أي لا يحل لكم أن

[سورة النساء (4): آية 20]

تأخذوا النساء على سبيل الإرث، كما تحاز المواريث، وهن كارهات لذلك، أو مكرهات. والتقييد بالكره، لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله تعالى: (في سورة الإسراء) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ العضل هنا: الحبس والتضييق. أي: لا تحبسوهن، وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم بأموالهن، ويختلعن ببعض ما دفعتم لهن من المهر. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: الفاحشة تطلق على الزنا. وقد فسرها بعضهم بذلك. وعلى هذا فإن المعنى إلا أن يزنين. فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع. وبعضهم فسر الفاحشة في الآية بالذنب المتعلق بهذه الشئون، وهو هنا النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء. فيكون المعنى: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهنّ فقد عذرتم في طلب الخلع. والفاحشة المبينة، هي الواضحة. وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. في البيتوتة، والنفقة، والإجمال في القول، والملاطفة، والمداعبة وبسط الوجه، والتودد، والمؤانسة. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ. لقبحهن، أو سوء خلقهن، أو لانصراف قلوبكم عنهن، فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. أي: ويجعل الله في ذلك الشئ، أو في الكره ثوابا جزيلا، أو ولدا صالحا. والمعنى: فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها. فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك. فإن فارقتم ففارقوا لا من حيث الكره، ولكن من حيث ما هو الأصلح. وإذن فالمعنى: فإن كرهتموهن، فاصبروا عليهن مع الكراهية، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا قد لا تجدونه فيما تحبونه. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ أي: وإن أردتم تطليق امرأة وتزوج أخرى. وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً. أي: وأعطيتم إحدى الزوجات مالا عظيما. فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي: لا تأخذوا أي شئ من هذا المال الكثير الذي أعطيتموهن إياه مهرا. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً: الإثم المبين: الذنب الواضح، والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو برئ منه، لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير، والمعني: أتأخذونه باهتين وآثمين. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ. إنكار للأخذ بعد حدوث ما يأتي. وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. الإفضاء: هو الخلوة في الأصل وما يكون فيها من جماع. والميثاق الغليظ: هو العهد الوثيق. والمعنى: كيف تأخذون من المهر بعد أن خلا بعضكم إلى بعض، وبعد عقد الزواج وما يحتويه ضمنا من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وغير ذلك، ثم تطلقوهن،

[سورة النساء (4): آية 22]

فكيف تأخذون من مهورهن شيئا. وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ. أي: لا تطئوا ما وطئ آباؤكم من النساء. إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. أي: لكن ما قد سلف، فإنكم لا تؤاخدون به. إِنَّهُ. هذا العقد على نساء الآباء كانَ فاحِشَةً. أي: بالغة في القبح. وَمَقْتاً. أي: بغضا عند الله، وعند المؤمنين. وَساءَ سَبِيلًا. أي: وبئس الطريق طريقا ذلك. فوائد: 1 - في أسباب نزول الآية الأولى عبارات كثيرة للمفسرين ننقل بعضها: أ- قال ابن عباس. «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها. وإن شاءوا لم يزوجوها. فهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ... » رواه البخاري وغيره. وفي الآية نفسها قال ابن عباس. (وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها. فأحكم الله تعالى عن ذلك). أي نهى عنه. رواه أبو داود. وفي الآية نفسها قال ابن عباس. (كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها). وقال زيد بن أسلم في سبب نزول الآية: «كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية، ورث امرأته من يرث ماله. وكان يعضلها حتى يرثها أو يزوجها من أراد، وكان أهل تهامة يسئ الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد، حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك» رواه ابن أبي حاتم. ب- وقال عطاء: إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة حبسها أهلها على الصبي يكون فيهم، فأنزل الله لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. ج- وقال مجاهد: (كان الرجل إذا توفي، كان ابنه أحق بامرأته. ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء: أخاه، أو ابن أخيه). د- وقال عكرمة: (نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس. توفي عنها أبو

قيس بن الأسلت. فجنح عليها ابنه. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح، فأنزل الله هذه الآية). 2 - وفي قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. اختار ابن جرير أن ذلك الزنا، والعصيان، والنشوز، وبذاء اللسان، وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها، أو بعضه، ويفارقها. قال ابن كثير: (وهذا جيد). 3 - بمناسبة قوله تعالى وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. قال ابن كثير: (وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة ويضحك نساءه، حتى كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم. ثم سابقته بعد ما حملت اللحم، فسبقني. فقال صلى الله عليه وسلم «هذه بتلك». ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤنسهم بذلك صلى الله عليه وسلم). 4 - قال عبد الله بن المبارك في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً. (في الجاهلية. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ. في الإسلام). وهذه لفتة كريمة من ابن المبارك فإرث النساء انتهى. ولكن العضل لا زال محتملا. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً. قال ابن كثير: (وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل. وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما روى الإمام أحمد ... عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: (ألا لا تغالوا في صداق النساء. فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم. ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه. وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة). والأثر حسن صحيح كما قال الترمذي ...

وكلام سيدنا عمر هنا لا اعتراض عليه. فهو ندب إلى تخفيف المهور. ولكن روايات أخرى تذكر أنه عزم على الناس ألا يزيدوا على أربعمائة درهم. وأراد أن يمنع الزيادة بقوة السلطان. وعندئذ اعترضته امرأة من قريش. فقالت: يا أمير المؤمنين. نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟. قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟. قال: وأي ذلك؟. فقالت: أما سمعت الله يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ... الآية. قال: اللهم غفرا. كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع، فركب المنبر فقال: يا أيها الناس. كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: فمن طابت نفسه فليفعل» إسناده قوي. 6 - وبمناسبة قوله تعالى وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قال ابن كثير: وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: «واستوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله». 7 - وفي سبب نزول وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ .... ذكر ابن كثير رواية أخرى لحادثة مرت من قريب قال: أخرج ابن أبي حاتم: لما توفي أبو قيس- يعني ابن الأسلت- وكان من صالحي الأنصار- فخطب ابنه قيس امرأته فقالت: إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا قيس توفي فقال خيرا. ثم قالت: إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه وإنما كنت أعده ولدا فما ترى فقال لها: «ارجعي إلى بيتك» قال: فنزلت وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ... الآية. 8 - ذكر ابن كثير حكمة لتحريم زوجة الأب على الابن فقال: فإن في الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة، لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم علي حب النفوس (صلوات الله وسلامه عليه). أقول: ولئن كانت هذه حكمة فهناك حكم أخرى، فالرجل سيد زوجته، وأمه سيدته، فما أبشع أن يحل أمه محل تابعته، وزوجة أبيه أم له، والمسألة ذات وجوه أكثر تعقيدا، وأبعد عن أن يتكلم بها، يحس ذلك ذو الذوق المرهف. ثم قال ابن كثير: فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال، كما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة وفي رواية عمر «أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه

المعنى العام

من بعده أن يقتله ويأخذ ماله». 9 - قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية فعن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنها تحرم أيضا بذلك. أقول: وعند الحنفية لو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها الداخل بشهوة فإنها تحرم على ابنه وتحرم عليه بنتها. 10 - أخذ الحنفية من قوله تعالى وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ... أن الخلوة الصحيحة توجب المهر ولو لم يكن جماع لأن الإفضاء في الأصل: الخلوة. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. المعنى العام: لما ذكر في أول السورة نكاح ما حل من النساء، وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهن نساء الآباء، ذكر هنا المحرمات الباقيات، وهن سبع من النسب، وسبع من السبب، وبدأ بالنسب، فهاتان الآيتان هما آيتا تحريم المحارم، وما يتبعه من الرضاع، والمحارم بالصهر، وبعد أن عدد الله المحارم، بين أن ما عدا من ذكرن هن لنا حلال، إذا حصّلناهنّ بأموالنا من زوجات أربع، أو ما شئنا من السراري بالطريق الشرعي، لاعن طريق سفاح، وأنه كما نستمتع بهن فعلينا أن ندفع لهن مهورهن، في مقابل ذلك، إلا إذا وضعت هي لك منه شيئا؛ فهو لك سائغ، وختم الآية الأخيرة بالتذكير بعلمه وحكمته؛ فهو إن حرم حرم بعلم، ووضع كل شئ محله، يفهم من ذلك أن ما حرمه علينا ففي تحريمه محض الحكمة، وتحريمه أثر العلم.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ هؤلاء المحرمات السبع من النسب. 1 - الأمهات، والجدة من قبل الأم أو الأب في حكم الأم. 2 - البنات، وبنات الابن، وبنات البنت ملحقات بهن. 3 - الأخوات، سواء كن أخوات لأب وأم، أو أخوات لأب، أو أخوات لأم. 4 - العمات: وهن أخوات الأب من أمه أو من أبيه، أو من أبيه وأمه. 5 - الخالات وهن أخوات الأم، سواء كن أخواتها لأمها، أو لأبيها، أو لأبيها وأمها. 6 - بنات الأخ سواء كان أخا لأم، أو أخا لأب أو أخا لأب وأم. 7 - بنات الأخت سواء كانت أختا لأب، أو لأم، أو لأب وأم وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... هؤلاء المحرمات بسبب وهن سبع: 1، 2 وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. أنزل الله الرضاعة منزلة النسب؛ فسمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختا، فكما تحرم عليك أمك التي ولدتك أو أختك؛ تحرم عليك أمك التي أرضعتك، وبناتها، وبنات أبيك من الرضاعة قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» وعلى هذا فزوج المرضعة أب للرضيع، وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد لزوج المرضعة ولو من غير مرضعته قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته وأختها خالته وكل من ولد لها من هذا الزوج، فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم في الحكم. 3 - وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ... سواء دخل بمن عقد عليها أو لم يدخل فإن أمها تحرم عليه فبمجرد العقد على البنات تحرم أمهاتهن. 4 - وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ. القاعدة: أن الدخول بالأمهات يحرم بناتهن، أما مجرد العقد على الأمهات بلا دخول بهن فإنه لا يحرم بناتهن، والربائب جمع ربيبة، والربيبة والربيب: هما ولد المرأة من غير زوجها، سميا بذلك لأن زوج الأم يربيهما كما يربي ولده في

الغالب، ثم توسع في ذلك، فسميا به وإن لم يربهما. وذكر الحجر في الآية على غلبة الحال دون الشرط، وفائدة ذكره التعليل للتحريم، أي: إنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم لهن، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. والربيبة إنما تحرم إذا دخل الرجل بأمها، فإذا لم يدخل بأمها فلا إثم عليه أن يتزوجها. والدخول بالأمهات كناية عن الجماع. واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول. وهل يحق له أن يتزوجها إذا لم يدخل بأمها مع بقاء العقد على أمها؟. بديهي أنه لا يجوز له ذلك. لأنه لو فعل، يكون قد جمع بين المرأة وابنتها، وهو لا يجوز. وإذن يجوز له أن يتزوج بنت زوجته التي لم يدخل بها بعد طلاق أمها أو بعد موتها. وهل يحل له أن يتزوج بنتها بعد طلاق أمها مباشرة؟ الجواب نعم لأنه إذا طلقها ولم يدخل بها كان الطلاق بائنا ولا عدة عليها. 5 - وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. الحلائل: جمع حليلة. وهي الزوجة. لأن كل واحد منهما يحل للآخر. أو يحل فراش الآخر، من الحل، أو الحلول. والمعنى: أن أزواج أبنائكم الذين من أصلابكم، محرمات عليكم. وذكر أبناء الأصلاب، لإخراج أزواج من كانوا يتبنونهم. وقد زوح الله رسوله صلى الله عليه وسلم زينب حين فارقها زيد. وقال الله تعالى (فى سورة الأحزاب) مبينا حكمة هذا التزويج. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ. وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع. لدخول ذلك في السنة. والحكم الحرمة سواء دخل بها الابن أو لم يدخل، فإنها تحرم على أبيه. 6 - وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. أي: وحرم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح. ولكن ما مضى مغفور. قال ابن كثير في تفسيرها. (وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج). وكذا في ملك اليمين بأن يطأ الأختين المملوكتين له إلا ما كان منكم في جاهليتكم، فقد عفونا عنه، وغفرنا له. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل. لأنه استثني ما سلف .... وقد أجمع العلماء من الصحابة، والتابعين، والأئمة قديما، وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان خير، فيمسك إحداهما، ويطلق الأخرى لا محالة. وبمناسبة عفو الله عما سلف من الجمع بين الأختين، فقد ختم الله هذه الآية بقوله. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. غفر لكم ما مضى مما لم يسبق إليكم فيه بلاغ. ورحمكم بهذا الشرع الذي لم يحرم إلا ما في تحريمه رحمة بكم، وحكمة بالغة، تستفيدون بها في

[سورة النساء (4): آية 24]

دنياكم، وأخراكم. ومن رحمته بكم أن حرم عليكم ما حرم من المحرمات؛ لما في التحريم من مصالح لأنفسكم، ولمحارمكم. 7 - وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. المحصنات من النساء: أي ذوات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج، ثم استثنى من ذلك ذوات الأزواج إذا ملكناهن بالسبي وأزواجهن في دار الحرب. قال النسفي: (والمعنى: وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي: اللائي لهن أزواج، إلا ما ملكتموهن بسبيهن فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستيلاء) وبعد أن ذكر الله المحارم من النسب أو السبب قال تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. أي: فريضة الله عليكم أي: كتب الله عليكم فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه، وما فرضه. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ. أي: وأحل لكم ما سوى المحرمات المذكورة مما عدا من ذكرن من المحارم، فهن حلال لكم. أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ. أي: يبين لكم ما يحل وما يحرم لأن تبتغوا بأموالكم ما أحل الله لكم من الزوجات إلى الأربع، أو السراري. وذكر الأموال في هذا المقام، دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر، وأنه يجب المهر وإن لم يسم، وأن غير المال لا يصلح مهرا، وأن القليل لا يصلح مهرا إذ الحبة لا تعد مالا عادة. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. الإحصان: هو العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والمسافح: الزاني من السفح: وهو صب المني في غير محله الصحيح وهو الفرج الحلال، أي: ابتغاؤكم بأموالكم ينبغي أن يكون في حال كونكم محصنين، لا مسافحين، لئلا تضيعوا أموالكم فيما لا يحل. فتخسروا دينكم ودنياكم. ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. أي: فما نكحتموه منهن فآتوهن مهورهن مقابله. إذ المهر ثواب البضع. فَرِيضَةً. أي: فرض ذلك فريضة. أي: فرض إيتاء المهور في مقابل النكاح فريضة. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. أي: ولا إثم عليكم فيما تراضيتم به فيما تحط هي عنه من المهر، أو تهب له من كله، أو فيما يزيدها هو على ما تم الشروط عليه، أو فيما يتراضيان به من مقام أو فراق بعد أن تتم الفريضة وتستقر. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً: عليما بما خلق عليما بما شرع لخلقه، حكيما فيما خلق، وشرع، وفرض. ومن ذلك ما شرعه من عقد النكاح الذي به تحفظ الأنساب، ويبقى النسل، وتسعد المرأة والرجل.

فوائد

فوائد: 1 - رأينا أن من جملة المحرمات، البنات. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزانى عليه بعموم قوله تعالى وَبَناتُكُمْ فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة، وما لك، وأحمد بن حنبل. وقد حكي عن الشافعي شئ في إباحتها، لأنها ليست بنتا شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في الآية، والله أعلم. 2 - قال بعض الفقهاء: كل ما يحرم من النسب يحرم من الرضاعة، إلا أربع صور. وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع، والتحقيق أنه لا يستثنى شئ من ذلك لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يرد على القاعدة المأخوذة من نصوص الأحاديث شئ. 3 - اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة: فمنهم من قال: القطرة الواحدة في سن الرضاع تحرم، ومنهم من قال: لا تحرم أقل من خمس رضعات. 4 - في الصحيحين: أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان. وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان. قال: «أو تحبين ذلك؟». قالت نعم. لست بك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي. قال: «فإن ذلك لا يحل لي». قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: «بنت أم سلمة»؟ قالت: نعم. قال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي. إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن، ولا أخواتكن». وفي رواية للبخاري: «إني لو لم أتزوج أم سلمة، ما حلت لي». جعل في هذا الحديث مناط التحريم، مجرد تزوجه أم سلمة. وهذا أصل للقاعدة، أن الدخول في الأمهات يحرم البنات، وأن العقد على البنات يحرم الأمهات. وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وجمهور السلف، والخلف. 5 - قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها بملك اليمين. لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ. وملك اليمين عندهم، تبع للنكاح، إلا ما روي عن عمر وابن عباس. وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى، ولا من تبعهم.

6 - رأينا أن الدخول بالأمهات، يحرم البنات. وقد قال الحنفية: إن الخلوة الصحيحة دخول وبها تحرم البنت. ولكن ابن جرير قال: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها، ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة، ما يدل على أن معنى ذلك (أي الدخول) هو الوصول إليها بالجماع. 7 - عن إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني. اتخذت إحداهما سرية، فولدت لي أولادا. ثم رغبت في الأخرى. فما أصنع؟. فقال علي: تعتق التي كنت تطأ، ثم تطأ الأخرى. قلت: فإن ناسا يقولون: بل تزوجها ثم تطأ الأخرى. فقال علي: أرأيت إن طلقها زوجها، أو مات عنها. أليس ترجع إليك؟. لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله- عزّ وجل- من الحرائر إلا العدد. ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر هذا الأثر مبينا قيمته: هذا الحديث رحلة رجل لو لم يصب من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة غيره، لما خابت رحلته. قال ابن كثير: وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ... إلى آخر الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، وكذلك يجب أن يكون نظرا وقياسا الجمع بين الأختين، وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. 8 - روى الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبيا من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكر هنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم. فنزلت هذه الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللنا فروجهن). 9 - حمل بعضهم قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً. على أنه في نكاح المتعة. والنص لا يفهم ذلك كما رأينا. وسواء كانت في نكاح المتعة أو لم تكن، فحرمة نكاح المتعة مقررة في السنة وثابتة فيها، فالمسألة تدور بين كون الآية منسوخة بالسنة إذا فهمناها على أنها في المتعة. أو أنها غير منسوخة إذا فهمناها على أنها في غير المتعة. والعمدة في تحريم المتعة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم

الحمر الأهلية يوم خيبر). وفي صحيح مسلم عن سبرة بن معبد الجهني أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس: إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا». 10 - ذكر صاحب الظلال تعليقا على الآيات التي حرمت علينا ما حرمت من النساء فقال: «هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية، ولم يذكر النص علة للتحريم- لا عامة ولا خاصة- فكل ما يذكر من علل، إنما هو استنباط ورأي وتقدير .. فقد تكون هناك علة عامة. وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم. وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم. وعلى سبيل المثال يقال: إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية، ويضعفها مع امتداد الزمن. لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية، على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة، تضاف استعداداتها الممتازة، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها. أو يقال: إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت. وكذلك نظائرهن من الرضاعة. وأمهات النساء، وبنات الزوجات- الربائب في الحجور- يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف، واحترام وتوقير، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال- مع رواسب هذا الانفصال- فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام. أو يقال: إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور، والأخت مع الأخت، وأم الزوجة، وزوجة الأب .. لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها. فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها، والبنت والأخت كذلك، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها، أو أختها التي تتصل بها، أو أمها، وهي أمها! وكذلك الأب الذي يشعر أن ابنه قد يخلفه على زوجته. والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له؛ لأنه سبقه على زوجته: ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب. أو يقال: إن علاقة الزواج جعلت لتوسيع نطاق الأسرة، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة. ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب والأقربين، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة، ومن ثم

المعنى العام

حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة. وأيا ما كانت العلة، فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة، ولا بد فيه مصلحة. وسواء علمنا أو جهلنا، فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئا، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ، مع الرضى والقبول. فالإيمان لا يتحقق في القلب، ما لم يحتكم إلى شريعة الله ثم لا يجد في صدره حرجا منها ويسلم بها تسليما» اهـ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. المعنى العام: بعد أن بين الله- عزّ وجل- ما أحل وما حرم من النساء، بين أنه في حالة عجز الإنسان عن نكاح الحرائر العفائف المؤمنات. فإن الله قد أباح له أن يتزوج من الإماء اللاتي يملكهن المؤمنون. والله- عزّ وجل- وحده هو الذي يعلم حقائق الأمور وسرائرها، ومن ذلك حقيقة الإيمان، غير أن لنا الظاهر، فمن كانت مؤمنة في الظاهر حل لنا نكاحها، ولكن نكاح الأمة ينبغي أن يتم بإذن سيدها ومالكها. ثم أمر تعالى بدفع مهورهن إلى أسيادهن، وألا يبخس منه شئ استهانة بهن. ثم بين أن الأمة التي تنكح ينبغي أن تكون عفيفة عن الزنى، لا معلنة به ولا مسرة به، لا زانية لكل الناس، ولا لأصحاب، أو صاحب معين. ثم بين أنه في حالة زناها بعد زواجها، فعليها نصف ما على المحصنات من الحد وهو: خمسون جلدة ولا ترجم. ولا يعني هذا أنه لا عذاب عليها إذا لم تكن متزوجة، بل عليها كما سنرى. والمهم أن نعرف أن حد الرجم لا يطبق عليها. وهذه الإباحة للزواج من الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا،

وشق عليه الصبر عن الجماع، وعنت بسبب ذلك كله، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة، وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا، فهو خير له، لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء. ومن هذه الآية الكريمة، استدل جمهور العلماء: على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر، ولا بد من خوف العنت حتى يجوز نكاح الإماء؛ لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد، ولما في ذلك من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن. ولأبي حنيفة رأي في هذا الموضوع خلاصته: أن من لم يكن متزوجا بحرة، جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية. سواء كان واجدا لطول حرة، أم لا، وسواء خاف العنت، أم لا. وسنرى ذلك إن شاء الله. ثم بين الله- عزّ وجل- في الآيات الأخيرة، أن له إرادة، وللكفار والفساق إرادة. فإرادته تعالى أن يبين لنا الحلال والحرام، وأن يدلنا على الطرائق الحميدة لمن قبلنا من الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء، وأن يطهرنا من ذنوبنا بتوبته علينا. وهو العليم الحكيم، يظهر علمه وحكمته في شرعه وقدره وأقواله وأفعاله. وأما إرادة الكفار، والفساق، ممن يتبعون الشهوات، فهي أن ننحرف انحرافا كبيرا عن الصراط المستقيم. وما نراه في عصرنا من تواطؤ الكافرين والفساق على إضلال أهل الإيمان تجسيد عملي لما ذكرته الآية. ثم بين الله- عزّ وجل- أن إرادته بنا ليست لإرهاقنا وعنتنا. بل أراد بنا فيما بين وشرع وهدى، التخفيف علينا في شرائعه، وأوامره، ونواهيه. وذلك لأن الله الذي خلق الإنسان، وعلم ضعفه، وتهالكه أمام الشهوات، أنزل له شريعة تناسب هذا الضعف في نفسه وعزمه وهمته، فكانت شريعة يسر، وشريعة تخفيف. وقد جاءت الآيات الثلاث الأخيرة، عقب التخفيف علينا، بإباحة تزوج الإماء. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المجتمع الإسلامي النظيف، يحتاج إلى وجود إماء، كعامل مساعد على نظافته من الزنا والفاحشة. نقول هذا غير آبهين لأي صوت كافر، يريد أن يأخذ على الإسلام إباحته الرق. في الوقت الذي يمتهنون فيه الإنسان كما لم يمتهن الحمار في يوم من الأيام.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. أي: ومن لم يجد منكم سعة، وقدرة، وزيادة أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ. أي: أن يتزوج الحرائر المسلمات، أو الحرائر العفيفات المسلمات فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. أي: فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات. وقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ. أي: من فتيات المسلمين. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة، فلينكح أمة. وقال النسفي- وهو من أئمة الحنفية-: ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا (أي عند الحنفية). والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقا مع التقييد به وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ. أي: هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، والإيمان- وهو مغيب- هو أعلم به، وفيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان، لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف، فلكم- أيها الناس- الظاهر من الأمور، فخذوا به. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. أي: فكلكم بنو آدم، وفيه تحذير من التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب. وفيه إشارة إلى عدم الاستنكاف من نكاح الإماء عند ضرورته. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ. أي: فتزوجوا الإماء بإذن سادتهن. قال الحنفية: وهو حجة لنا، في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن. لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم، وأنه ليس للعبد أو الأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى. وقال ابن كثير: فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. أي: وأدوا إليهن مهورهن من غير مطل ولا إضرار. وملاك مهورهن مواليهن. فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي. قال ابن كثير: أي وادفعوا مهورهن بالمعروف، أي: عن طيب نفس منكم، ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات. مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ: الإحصان: العفة. والمسافحة: هي الزانية علانية. والمتخذة خدينا: هن الزواني سرا. والأخدان: الأخلاء في السر. نهى الله عن تزوج وتزويج الأمة إذا كانت زانية سرا أو علنا، ولم تكن عفيفة ما دامت كذلك. فَإِذا أُحْصِنَّ. أي: بالتزويج. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ. أي: بزنا. فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ

[سورة النساء (4): آية 26]

الْعَذابِ. أي فعليهن نصف ما على الحرائر من الحد. يعني خمسين جلدة. فقوله: نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ. يدل على أن المراد بالعذاب هنا الجلد لا الرجم؛ لأن الرجم لا يتنصف، وأن المحصنات هنا: الحرائر اللاتي لم يزوجن، ودل على أن الإماء لا يرجمن في الزنا ولو تزوجن. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. أي: نكاح الإماء رخصة لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة، وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر. فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. أي: وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم، لأن فيه إرقاق الولد. ولأنها (أي الأمة) خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة، وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: غفور يستر المحظور، رحيم يرفع عنكم ما فيه مشقة عليكم. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. أي: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفضل أعمالكم، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. أي: وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء، والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ. أي: ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: عليم بمصالح عباده، حكيم فيما شرع لهم. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. هذا تأكيد لما سبق. كرره لذكر ما يقابله. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ. من الكفرة والفجرة. أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. أي: أن تميلوا عن القصد إلى الجور، وعن الحق إلى الباطل. والميل: الانحراف. ولا انحراف أعظم من موافقة أهل الباطل والفجور، ومساعدتهم على اتباع الشهوات. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه ومن ذلك ما أباحه لكم من إحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. أي: أمام الشهوات، لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات، ومن ثم خفف الله عليه بما يناسب ضعفه، وهو في سياقه يفيد ضعفه في أمر النساء، ومن ثم وسع عليه في شأنهن، قال وكيع في ذلك: يذهب عقله عندهن. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. يبحث المفسرون موضوع: هل تجلد الأمة إذا زنت قبل

كلمة في السياق

الإحصان خمسين جلدة نصف حد الحرة البكر؟. الجمهور قالوا: الأمة تجلد خمسين جلدة سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة إذا زنت. وذهب قوم- منهم ابن عباس- أن الأمة إذا زنت، ولم تحصن فلا حد عليها وتضرب تأديبا، ويشهد للأولين ما رواه الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: (يا أيها الناس، أقيموا الحد على إمائكم من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها. فإذا هي حديثة عهد بنفاس. فخشيت إن جلدتها أن أقتلها. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «احسنت، اتركها حتى تتماثل»). وهل يجمع بين الجلد والنفي؟. أقوال. والخلاف فيه أثر عن الخلاف في الأصل في جمع الجلد، والنفي على الحرة البكر إذا زنت. كلمة في السياق: لاحظنا أن هذا المقطع انصب على موضوع الحل والحرمة في قضايا نسائية: إرث المرأة، حسن العشرة، حرمة العضل، حرمة نكاح زوجة الأب، المحارم من النساء، ما أحل الله بعد المحارم، حل زواج الأمة في حالة تعذر طول الحرة. ولو أننا تذكرنا أن سورة النساء تفصل في قوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وما هو ألصق بها من معاني سورة البقرة. وتذكرنا أن العضل قد ورد في سورة البقرة، أثناء الكلام عن موضوع الطلاق والوفاء والخطبة؛ فإننا نجد أن هذا المقطع من سورة النساء هو تفصيل لامتدادات محور هذه السورة في سورة البقرة. وعلى هذا الأساس نفهم أن من التقوى في الإسلام عدم العضل للمرأة، وحسن العشرة لها، واجتناب نكاح المحارم، وإيتاء الزوجة حقوقها. وتحليل ما أحل الله، وتحريم ما حرم. وقبول بيان الله، وهداه في كل شأن من شئون الحياة. إن هذا المقطع من سورة النساء، يشبه المقطع الذي تم فيه الكلام عن كثير من الأحوال الشخصية للإنسان في سورة البقرة، وكل ذلك مكانه في التقوى الاهتداء بكتاب الله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولنتذكر أن سورة النساء تفصل في الآية المشابهة لبدايتها في سورة البقرة. والمعاني المرتبطة بها في سورة البقرة نفسها، فإذا تذكرنا هذا فلنذكر أن في سورة البقرة قوله

تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .... وأننا قلنا هناك: إن هذه الآية تصحح مفهوما، وتوسع مفهوما، وتدخل في التقوى ما هو منها. والآن يأتي مقطع جديد في سورة النساء يعمق مفهوم التقوى، ويدخل فيها ما هو منها. ويهذب الإنسان مما يناقضها. وهو مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .... وبعد هذا الكلام العام عن صلة المقطع بمحوره من سورة البقرة وامتدادات هذا المحور فلنقف وقفات متأنية حول السياق: 1 - لو تأملنا الآية الأولى من مقطع الطريقين: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لوجدنا أنها تقرر أن الله- عزّ وجل- هو الذي خلقنا، وخلق من قبلنا؛ وبناء عليه فإنها تطالبنا بالعبادة؛ من أجل أن نتحقق بحقيقة تقواه، ونلاحظ أن سورة النساء تفرع على هذه الأصول، فهي تطالبنا بالتقوى وتذكرنا بأن الله- عزّ وجل- خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وبناء على أن الأمر كذلك فما هي الأحكام التي تحكم هؤلاء الرجال والنساء؟ وهكذا وجدنا المقطع الأول والثاني يفصل في مثل هذه الشئون. 2 - وسنلاحظ أن المقطع الثالث في مجموعة من مجموعاته هو استمرار لمثل ما مر معنا في المقطع الأول والثاني ولكنا سنري أن مجموعة أخرى من مجموعاته ستبدأ بقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وتأمل محور السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إن الدمج بين الأمر بالعبادة وترك الشرك، والأمر بالإحسان لأنواع من البشر، مرتبط أي ارتباط بالمحور، وبعد آيتي المحور اللتين ذكرناهما يأتي قوله تعالي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا .. وسنرى أن المقطع الرابع سيكون فيه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. ثم إن آية المحور الرابعة تختم بقوله تعالى:

المقطع الثالث من سورة النساء

فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ والآية الخامسة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .... وسنرى أنه في نهاية المقطع الرابع سيأتي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. ألا ترى كيف أن هذه المقاطع تفصل في محورها من سورة البقرة بشكل واضح. 3 - ونحب دائما أن نذكر أن ارتباط أي سورة بمحورها لم يكن على حساب سياقها الخاص، فالصلات بين الآيات في المقطع، وبين بدايات المقاطع اللاحقة، ونهايات المقاطع السابقة، كل ذلك على أكمله وأتمه، ونحن في الغالب أثناء الشرح الإجمالي، أو الحرفي، أو في التقديم للمقطع، نشير إلى دقائق في هذه الشئون نرجو ألا تغيب عن ذهن القارئ وهو يستجمع ما نقوله في موضوع السياق. المقطع الثالث من سورة النساء يمتد هذا المقطع من الآية (29) إلى نهاية الآية (42) وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 29 الى 32] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)

[سورة النساء (4): الآيات 33 الى 39] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) ***

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 40 الى 42] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) كلمة في المقطع: أثناء الكلام عن سورة آل عمران قلنا: إن سورة آل عمران، تفصل في محورها من سورة البقرة وهو المقدمة، وفي امتدادات معاني هذه المقدمة في السورة. ورأينا نماذج ذلك. ولقد رأينا في المقطعين، الأول والثاني من سورة النساء، كيف أن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وفي امتدادات هذا المحور في سورة البقرة. ومن ثم، فكثير من القضايا التي جاءت في سورة البقرة، والتي هي ذات صلة بالعبادة والتقوى. تأتي هاهنا تفصيلات، أو توضيحات في شأنها. وقد أدخل هذا المقطع في قضية العبادة، والتقوى، والإيمان، والعمل الصالح. ألا نأكل أموال بعضنا بالباطل. وألا نقتل أنفسنا، وألا يتمنى النساء ما أعطيه الرجال، والإحسان إلى أصناف من الناس، وتحريم الاختيال والفخر والبخل. كما عرض المقطع في سياقه لأمور أخرى. ولو أردنا أن نبرهن على ما ذهبنا إليه، من أن سورة النساء تفصيل لمحورها من سورة البقرة، ولامتدادات هذا المحور. فإننا نقول: إن محور سورة النساء من سورة البقرة هو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ..... هُمْ فِيها خالِدُونَ. وفي سورة البقرة نجد من امتدادات المحور: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. وفي سورة البقرة نجد من امتدادات المحور: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. ومن امتدادات المحور: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.

المعنى العام

ونلاحظ هنا أن هذا المقطع قد وجد فيه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ .... وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إن من تأمل مثل هذا، لا يستغرب ما ذهبنا إليه في موضوع المحور، وامتدادات معانيه. وأن سورة النساء تفصيل لذلك كله. ولنبدأ بعرض الفقرة الأولى في المقطع. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً* إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً* وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً* وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً. المعنى العام: ينهى الله تبارك وتعالى عباده في الآية الأولى عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل. أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كالنهب، والسرقة، والغصب، والغش، والربا، والقمار، وما جرى مجرى ذلك، ويدخل في ذلك سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في صورة الحكم الشرعي، فإنه مما لا يخفى على الله نية صاحبها في أنه يريد أن يحتال، ثم بين الله- عزّ وجل- طريق الحل في التعامل، وهو طريق التبادل القائم على الرضا ضمن ما أباحه الله وشرعه، ثم نهانا- جل جلاله- أن نقتل أنفسنا، بقتل بعضنا بعضا. أو بقتل الواحد منا نفسه، ثم بين أنه شرع لنا هذا كله رحمة بنا. وفي الآية الثانية، بين الله- عزّ وجل- أن من يتعاطى ذلك منا من أكل مال بباطل، أو قتل نفس مؤمنة، معتديا في فعله، ظالما في تعاطيه، عالما بتحريمه، متجاسرا على

المعنى الحرفي

انتهاكه؛ فإن الله سيصليه نارا، وأن إصلاءه هذه النار ليس صعبا على الله. وفي هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد. فليحذر منه كل عاقل لبيب. وفى الآية الثالثة، قعد الله- عزّ وجل- قاعدة وهي: أننا إذا اجتنبنا الكبائر؛ غفر الله لنا الصغائر؛ وأدخلنا باجتناب الكبائر جنته، وقد فهم من ذلك من فهم- كما سنرى إن شاء الله- أن ما ذكر فى المحرمات فيما مضى من سورة النساء قبل هذه القاعدة كبائر يجب اجتنابها. وفي الآية الرابعة نهى الله الرجال أن يتمنوا ما خص به النساء، ونهى النساء أن يتمنين ما خص به الرجال، ومن ذلك: ما خص به النساء في الإرث، وما خص به الرجال في الإرث، وأن كلا من الرجال والنساء، مجزي على عمله ونيته بما يستحقه، وأمر الله الجميع رجالا، ونساء أن يسألوه من فضله. فإنه كريم وهاب. وختم الله الآية، بالإعلام أنه بكل شئ عليم. وهي في هذا المقام تفيد أنه إن خص الرجال بشيء فبعلم، وإن خص النساء فبعلم، وإن أعطى فبعلم، وإن جازى فبعلم، وإن سئل فإنه يعلم؛ وبعلم يعطي. وبمناسبة الكلام عن عدم أكل أموال الناس بالباطل، وعدم تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، وعدم تمني النساء ما للرجال، والعكس، تأتي القاعدة: أن لكل من الرجال، والنساء جعل الله ورثة، يرثون ما تركه الوالدان والأقربون، مما هو مقرر في وصية الإرث، ويذكر الله هنا صورة تسمى عند فقهاء الحنفية ومن وافقهم- والتي يعتبرها غيرهم منسوخة- بعقد مولى الموالاة: وهو الرجل من غير العرب إذا أسلم وليس له وارث معروف، فيتعاقد مع عربي أن يرثه العربي المسلم إذا لم يكن وارث أحق، ويعقل عنه العربي إذا جنى أي جناية تستوجب العقل، فهؤلاء الذين عقدوا هذا العقد يورثون من مواليهم إذا لم تكن قرابة أولى كما رأينا، فههنا وعلى هذا الفهم للآية يأمر الله- عزّ وجل- في هذا السياق أن يعطى هؤلاء نصيبهم من التركة، ويذكرنا الله- عزّ وجل- بأنه الشهيد على كل شئ. ويفيد هذا المعنى في هذا السياق: أن الله شاهد على عقودكم ففوا بها. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. أي: لا تأكلوا أموالكم

[سورة النساء (4): آية 30]

بينكم بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. أي: إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض منكم، ومظهر التراضي: العقد. وهل التعاطي يدل على التراضي؟ قولان للفقهاء. أجازه الحنفية، ومنعه الشافعية، وفرق بعضهم في جوازه بين الخسيس والنفيس، وخصت التجارة بالذكر، لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها، قال النسفي- من الحنفية-: والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي، وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا، وعلى نفي خيار المجلس؛ لأن فيها إباحة الأكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. ذكر النسفي في تفسير هذا النهي خمسة معان كلها محرم. الأول: ولا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، الثاني، أي: لا يقتلن أحدكم نفسه. أي: لا ينتحر. الثالث، أي: لا تقتلوا أنفسكم بظلم بعضكم بعضا في موضوع الأموال فظالم غيره كمهلك نفسه. الرابع: لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها. الخامس، أي: لا ترتكبوا ما يوجب القتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولرحمته نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم، وبقاء أبدانكم، ومن مظاهر رحمته بكم أيتها الأمة المسلمة: أن الله أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم؛ ليكون ذلك توبة لهم، وتمحيصا لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة. بل نهاكم عنها. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. أي: القتل. عُدْواناً وَظُلْماً. أي: لا خطأ، ولا قصاصا. فصار المعنى: ومن يقدم على قتل الأنفس المؤمنة، لا خطأ، ولا قصاصا. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً. أي: فسوف ندخله نارا مخصوصة، شديدة العذاب. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. أي: وكان إصلاؤه النار على الله سهلا. قال النسفي: وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. أي: إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً. أي: مدخلا حسنا. أي الجنة. قال النسفي: «وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر، وعلى أن الكبائر غير مغفورة، باطل؛ لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء، إن شاء عذب عليهما، وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى

[سورة النساء (4): آية 32]

وقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات يطلق عليهما» وقد فهم ابن مسعود من السياق أن الكبائر هي ما ذكرت في سورة النساء سابقة لهذه الآية. وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. هذا نهي من الله- عزّ وجل- أن يتمنى الرجال ما فضل به النساء، أو أن تتمنى النساء ما فضل به الرجال، ونهي من الله أن يتمنى الناس ما فضل الله به بعضهم على بعض. وقد جاء هذا في سياق النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، والنهي عن قتل الأنفس. فإذا عرفنا أن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، وتمني ما فضل الله به الرجال على النساء هو مرض العصر، وأساس الكثير من مذاهبه، وعنه تصدر بعض المذاهب الضالة، إذا عرفنا ذلك أدركنا بعض مظاهر الإعجاز في هذا القرآن. والصلة بين هذه الآية وسياقها واضحة، فصلتها بما قبلها من حيث إن أخذ مال الغير بالباطل، وقتل النفس بغير حق، له صلة بتمني مال الغير وجاهه، فنهاهم الله عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، من الجاه، والمال؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله، صادرة عن حكمة، وتدبير، وعلم بأحوال العباد، وبما ينبغي لكل من بسط له في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له، ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد: أن يتمنى كون ذلك الشئ له ويزول عن صاحبه، والغبطة: أن يتمنى مثل ما لغيره، وهو مرخص فيه والأول منهي عنه، وهذا كله مقيد بما إذا كان كل إنسان قائما بحق الله في ماله وعمله، أما إذا لم يقم بحق الله تعالى فالأمر عندئذ له أحكامه، وعلى الدولة، والإمام أن يتدخلا لإقامة أمر الله في موضوع الأموال وغيرها. وأما صلة هذه الآية بما بعدها فمن حيث إن الله سيذكر بعد آية قوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فكانت هذه الآية مقدمة لتلك، ومخالفة النهي الموجود في هذه الآية هو رأس الأسباب التي أوصلت كثيرا من نساء المسلمين، وبناتهم إلى الردة، والفجور، والفسوق. وبداية هذا الاتجاه كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم نزلت هذه الآية تعالج هذا الأمر كما سنرى في الفوائد إن شاء الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. أي: كل له جزاء عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، أي لكل من الرجال والنساء كسبه الذي سيجزيه الله عليه فيما كلفه الله به، فعلام يتمنى أحد ما فضل به الآخر ما دام نجاح كل واحد في امتحانه عليه مدار جزائه ومكافأته، فليهتم الرجال بما كلفوا به، ولتهتم النساء بما كلفن به، وليهتم الجميع بما كلفوا به، وعوضا عن أن يتمنى أحد ما لأحد قال

[سورة النساء (4): آية 33]

تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. أي: بدلا من أن تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، سلوا الله يعطكم، فإنه واسع الفضل. قال ابن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. تفضيله بعلم، وعطاؤه بعلم، وإذا سئل يعلم، فلا تعترضوا على الله في فعل أو حكم. وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ. الموالي: هم الوراث، يلون المال ويحرزونه. وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ. يحتمل في هذا المقام إما: ولكل أحد، وإما: ولكل مال. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. فصار المعنى: لكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا وراثا يرثونه ويحوزونه، هذا على تقدير أن المحذوف بعد: (ولكل) كلمة: مال، وعلى القول بأن المقدر بعد (ولكل) كلمة: أحد يكون المعنى: ولكل أحد جعلنا له وراثا يرثون مما ترك الوالدان والأقربون. وعلى هذا نكون قد قدرنا فعلا قبل (مما ترك). استخرجناه من معنى قوله تعالى: مَوالِيَ. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. أي: والذين عاقدتهم أيديكم أي: عقدت عهودهم أيمانكم فأعطوهم نصيبهم من الميراث. وفي الآية إشارة إلى عقد الموالاة، وهو مشروع عند الحنفية، ويرث صاحبه الميت بعد أصحاب الفروض، والعصبة، وذوي الأرحام، وتفسيره: إذا أسلم رجل أو امرأة ولا وارث له، وليس بعربي، ولا معتق، وأراد فإنه يقول لعربي مسلم: واليتك على أن تعقلني إذا جنيت، وترث مني إذا مت، ويقول الآخر: قبلت. انعقد ذلك، ويرث العربي من مولاه إذا لم يكن هناك أحق منه من صاحب فرض، أو عصبة، أو رحم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً. فهو عالم الغيب والشهادة، ويفيد هنا أنه شهيد على عقودكم ففوا بها، وقوموا بالتزاماتها، وهو أبلغ وعد ووعيد، فإذا كان الله شهيدا على عقودنا فإنه يأجر على الوفاء، ويعاقب على الغدر والنكث. فوائد: 1 - يعتبر فقهاء الشافعية أن من تمام التراضي بالبيع، إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا». وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا». وهذا مذهب أحمد. وفهم الحنفية من الحديث، أن المراد منه تفرق الأقوال، لا الأجساد. 2 - وقال الفقهاء: إن من تمام التراضي في عقد البيع، مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام إذا وجد في العقد. وما زاد على الثلاثة أيام، فيه خلاف فمنهم

من أجاز الشروط، ولو إلى سنة. 3 - روى الإمام أحمد، وغيره عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال: (احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك. فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب». قال: قلت يا رسول الله: إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله عزّ وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. فتيممت، ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا) 4 - قال صلى الله عليه وسلم: من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا». والحديث في الصحيحين. وفي هذا المعنى ما رواه الجماعة: «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة». وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح، فأخذ سكينا، نحر بها يده. فما رقأ الدم حتى مات. قال الله- عزّ وجل: عبدي بادرني بنفسه. حرمت عليه الجنة». 5 - روى البزار عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا- عزّ وجل- ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال: أن تجاوز لنا عما دون الكبائر، يقول الله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. 6 - روى البخاري عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «والذي نفسي بيده». ثلاث مرات. ثم أكب، فأكب، كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشرى. فكان أحب إلينا من حمر النعم. فقال: «ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له: ادخل بسلام». وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله: وما هن؟. قال: «الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

وقد اختلف الناس كثيرا في تفسير الكبائر، وعدها، وحدها، وكونها ذكرت في الحديث السابق سبعا لا يفيد الحصر، لأن لفظ الكبيرة قد ورد في أحاديث أخرى. وورد فيها غير السبع، فذكرت شهادة الزور على أنها من أكبر الكبائر، وذكر من الكبائر، اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله- عزّ وجل- والأمن من مكر الله، وذكر التعرب بعد الهجرة. وذكر عمر رضي الله عنه في إحدى رسائله، أن من الكبائر، الجمع بين الصلاتين، والنهبة، وذكر في بعض الأحاديث، أن من أكبر الكبائر استطالة الرجل في عرض رجل مسلم بغير حق. ومن الكبائر السبتان بالسبة. وذكر في بعض الأحاديث، أن من الكبائر عقوق الوالدين، واليمين الغموس. وقد ألفت كتب في الكبائر، وحدها، وعدها. فلتراجع. ومما يدل على أن الكبائر كثيرة، وهي أكثر مما ذكر في الحديث الأول: أنه لا يشك أحد في أن الزنا، والسرقة كبيرتان. ولم تدخلا في الحديث. ولذلك قال ابن عباس: (هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع). وقال مرة: (هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع. غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار) وإنا نسأل الله توبته، وإنا لنرجوا شفاعة رسولنا صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». رواه عبد الرزاق. وفي الصحيح شاهد لمعناه. وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة: «أترونها للمؤمنين المتقين؟. لا. ولكنها للخاطئين المتلوثين». 7 - عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث؟. فنزلت الآية. أي قوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ .... وقال السدي في الآية: قال الرجال إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء: إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء. فإنا لا نستطيع أن نقاتل. ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأبى الله ذلك. ولكن قال لهم: سلوني من فضلي ... وقال ابن عباس في الآية: ولا يتمنى الرجل، فيقول: ليت لو أن لي مال فلان، وأهله. فنهى الله عن ذلك. ولكن يسأل الله من فضله. 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله. فإن الله يحب أن يسأل، وإن أفضل العبادة،

المعنى العام

انتظار الفرج». ورواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله. فإن الله يحب أن يسأل. وإن أحب عباد الله إلى الله الذي يحب الفرج». 9 - يرى بعضهم أن عقد مولى الموالاة المذكور في قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قد نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.* وبقي النصر، والرفادة، والنصيحة. ونقول: إن الذين أثبتوا الإرث بعقد الموالاة لا ينفون أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض. ولكن يقولون: إذا لم يكن ورثة أصحاب فروض، أو عصبات، أو أرحام، فإن مولى الموالاة يرث. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً* وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً. المعنى العام: يبين الله- عزّ وجل- في هذه الآيات أن الرجل هو القيم على المرأة، فهو رئيسها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت، وذلك لفضل الرجل على المرأة بالخصائص، ومن ثم كانت النبوة في الرجال، وكذلك الخلافة، وكذلك القضاء. ثم لكون الرجل هو المكلف بالمهر، والنفقة عليها؛ فالرجل في الجملة أفضل من المرأة، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيما عليها، فالصالحات من النساء يعطين الطاعة لأزواجهن، ويحفظن أزواجهن في غيبتهم بما يوفقهن الله- عزّ وجل- لذلك. وإذ أعطى الله- عزّ وجل- حق الطاعة للرجل على المرأة، بين أن المرأة التي تترفع على زوجها، وتترك أمره، وتعرض عنه تستحق الوعظ، والتخويف من الله، ثم الهجر داخل البيت: إما بأن لا ينام معها، وهو معرض عنها، بأن يدير لها ظهره، ولا يكلمها، ولا يجامعها. وذلك عليها شديد. ثم إن لم ترجع إلى الطاعة، فقد أذن له أن يضربها ضربا غير مبرح. فإذا أطاعت زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها، ولا هجرانها. فإن الله العلي

المعنى الحرفي

الكبير وليهن، وهو منتقم ممن ظلمهن، وبغى عليهن. وبعد أن بين علاج حالة ما إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ذكر حالة ما إذا كان النفور من الزوجين وعلاجه، فإذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم. فإن تفاقم أمرهما، وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل ليجتمعا، فينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق- على خلاف بين الفقهاء في كونه للحكمين- أو التوفيق على إجماع. وندب الشارع إلى التوفيق. والله عزّ وجل عليم بالنيات، والإرادات، خبير بالظلم من صاحبه. المعنى الحرفي: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. أي: الرجال يقومون على النساء آمرين، ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قواما لذلك. بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. أي: هذه القوامة والسيطرة بسبب تفضيل الله بعضهم، وهم الرجال، على بعض، وهم النساء، بالعقل، والحزم، والرأي، والقوة، ونوع العواطف المؤهلة للقوامة، والغزو، وكمال الصوم، والصلاة، والنبوة، والخلافة، والإمامة، والأذان، والخطبة، والجماعة، والجمعة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وتضعيف الميراث، والتعصيب فيه، وملك النكاح، والطلاق. وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى، والعمائم. إن الخصائص والصفات التي فضل الله بها الرجل على المرأة كأثر عن اختلاف الجسم والوظيفة، والتي ترتب عليها اختلاف في الأحكام هي سبب القوامة الأول. والسبب الثاني وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. أي: وبسبب أن المهر والنفقة عليهم، وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم. فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ. أي: فالصالحات من النساء، مطيعات لأزواجهن، قائمات بما عليهن لهم. حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ. أي: حافظات لواجب الغيب. أي: حافظات لغيبة أزواجهن. أي: إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة، من الفروج، والبيوت، والأموال. ويدخل في ذلك حفظهن لأسرار أزواجهن في غيبتهم. بِما حَفِظَ اللَّهُ. أي:

[سورة النساء (4): آية 35]

حفظهن للغيب، بسبب حفظ الله إياهن، وعصمتهن وتوفيقهن لحفظ الغيب، حيث صيرهن كذلك. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ. أي: واللاتي تخافون عصيانهن، وترفعهن عن طاعة الأزواج. فَعِظُوهُنَّ. هذا أول الدواء. أي: فخوفوهن عقوبة الله تعالى. والعظة، كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطبائع النافرة. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ. هذا ثاني الدواء، وهو الهجر في المضجع، أي المرقد. أي: لا تدخلوهن تحت اللحف، وهو كناية عن الجماع، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع، إذ لم يأمر الله تعالى بهجرانهن عن المضاجع، بل قال: في المضاجع. فالهجر إذن يبقى داخل البيت، وفي الفراش. وَاضْرِبُوهُنَّ. هذا ثالث الدواء. أمر بالضرب، وقيدت السنة هذا الضرب بأن يكون غير مبرح، أي غير مؤثر. أي: ضربا رفيقا، لا يكسر فيها عضوا ولا يترك أثرا. أمر بوعظهن، ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجح فيهن الوعظ والهجران. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. أي: فإن أعطين الطاعة، فلا تطلبوا لهن سبيلا لتتعرضوا لهن بالأذى. أي: فإن أطعنكم فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً: تذكير الله إيانا بصفتي العلو والعظمة في هذا المقام يفيد: أيها المؤمنون إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرة الله عليكم أعظم من قدرتكم عليهن، فاجتنبوا ظلمهن. أو: أيها المؤمنون إنكم تعصون الله على علو شأنه، وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون، فيتوب عليكم. فعليكم بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما. الخطاب لولاة المسلمين، وقضاتهم. والشقاق: العداوة والخلاف، والضمير للزوجين، ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء. فصار المعنى: وإن خفتم أيها الولاة، والقضاة شقاقا بين زوجين فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. أي: فابعثوا من أهله رجلا يصلح للحكومة والإصلاح بينهما، وابعثوا من أهلها رجلا كذلك. وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، ونفوس الزوجين أسكن إليهم، فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة. وما هي حدود صلاحية الحكمين؟ هل التوفيق فقط، أو التوفيق والتفريق. وإذا كان لهما التفريق، فما حدوده؟ قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين، إذا اختلف قولهما، فلا عبرة بقول الآخر. وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع، وإن لم

فوائد

يوكلهما الزوجان، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة؟ ثم حكى عن الجمهور، أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل. قال إبراهيم النخعي: إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة، أو بطلقتين، أو ثلاث، فعلا. وهو رواية عن مالك. ومذهب الحنفية: أن لهما الجمع لا التفريق. وسبب الاختلاف يعود إلى أن الحكمين، هل هما منصوبان من جهة الحاكم، فيحكمان، وإن لم يرض الزوجان. أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟. على قولين. والجمهور على الأول. وهو الجديد من مذهب الشافعي. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. الضمير في يريدا، للحكمين. وقيل للزوجين. والضمير في بينهما، للزوجين، وقيل للحكمين. والمعنى على الأول: إن قصد الحكمان إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة، بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق. وإذا اعتبرنا الضميرين للحكمين، يكون المعنى: إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين، يوفق الله بينهما، فيتفقان على الكلمة الواحدة، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد، وإن اعتبرنا الضميرين للزوجين، كان المعنى: إن يريدا إصلاح ما بينهما، وطلبا الخير، وأن يزول عنهما الشقاق، يلق الله بينهما الألفة، ويبدلهما بالشقاق الوفاق، وبالبغضاء، المودة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً عليما بإرادة الحكمين، خبيرا بالظالم من الزوجين. فوائد: 1 - إن تجار السياسة في كثير من بلدان العالم يتاجرون في الأغلب في قضيتين: القضية الأولى: قضية الأموال. والقضية الثانية: قضية النساء. فباسم إعادة توزيع الملكية، أو إلغائها. وباسم حرية المرأة ومساواتها: يضلون ويضلون، مستغلين الجهل، أو الفسوق، أو عقدة النقص، أو مستثيرين الحقد. وفي هذا المقطع وضع للأمور في نصابها الصحيح. المال مال الله، لا يؤكل إلا بطريق مشروع. والرجال قوامون على النساء. ولا يصح للرجال أن يتمنوا ما أنعم الله به على بعضهم. ولا يصح للنساء أن يتمنين ما للرجال. 2 - روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». وبعض أصحاب النظر القاصر، يستشكلون هذا خاصة في عصرنا الذي وصل فيه إلى رئاسة كثير من الدول، نساء. وكان لهن وزنهن. والجواب: أن العبرة

عادة في مثل هذه الظروف، لكل النتائج التي تترتب على تصرفات المرأة الحاكمة. ليس على المدى القريب. بل على المدى القريب والبعيد. 3 - قال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص. فأنزل الله عزّ وجل. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية. فرجعت بغير قصاص. رواه ابن جريج، وابن أبي حاتم، وابن جرير. وروى ابن جرير عن علي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له. فقالت: يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها، فأثر في وجهها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس له ذلك». فأنزل الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. أي: في الأدب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرادت أمرا، وأراد الله غيره». 4 - روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء امرأة، إذا نظرت إليها، سرتك. وإذا أمرتها، أطاعتك. وإذا غبت عنها، حفظتك في نفسها، ومالك». قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى آخرها. وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها». وروى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح». وفي رواية البخاري: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت عليه، لعنتها الملائكة حتى تصبح». 5 - في السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله: ما حق امرأة أحدنا عليه؟. قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح.

ولهن رزقهن، وكسوتهن بالمعروف». وقال ابن عباس: يهجرها في المضجع. فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح. ولا تكسر لها عظما. فإن أقبلت، وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية». (أي في الخلع). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مرة): «لا تضربوا إماء الله. فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن. فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن، ليس أولئك بخياركم». وروى الإمام أحمد عن الأشعث بن قيس قال: ضفت عمر رضي الله عنه، فتناول امرأته، فضربها. فقال: يا أشعب! احفظ عني ثلاثا، حفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل الرجل فيما ضرب امرأته. ولا تنم إلا على وتر، ونسي الثالثة. 6 - في تفسير قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله- عزّ وجل- أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل، ورجلا مثله من أهل المرأة. فينظران أيهما المسئ فإن كان الرجل هو المسئ، حجبوا عنه امرأته، وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض، ولا يرث الكاره، الراضي» رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. 7 - روى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين. قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا، جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا، ففرقا. فهذا مذهب سيدنا عثمان رضي الله عنه. وروى عبد الرزاق عن عبيدة قال: شهدت عليا جاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فئام من الناس. فأخرج هؤلاء حكما، وهؤلاء حكما. فقال علي للحكمين: أتدريان ما عليكما؟. إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي. وقال الزوج: أما الفرقة، فلا. فقال علي: كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله- عزّ وجل-

المعنى العام

لك وعليك، فهذا مذهب علي رضي الله عنه. وقد رأينا أن كون الحكمين لهما حق التفريق أو لا؟ قولان للعلماء. وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. بعد أن وضع الله الأمور مواضعها في قضايا المال، والنفس، والمرأة. أمر بعبادته، والإحسان إلى خلقه، والإنفاق في سبيله مبينا علة البخل. المعنى العام: يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده، لا شريك له. فإنه هو الخالق الرازق المنعم، المتفضل على خلقه، فهو المستحق أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته. ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين. فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود. وكثيرا ما يقرن الله سبحانه بين عبادته، والإحسان إلى الوالدين. ثم عطف على الإحسان إليهما، الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، ثم عطف على ذلك الإحسان إلى اليتامى، وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم. فأمر الله بالإحسان إليهم، والحنو عليهم، ثم عطف على الإحسان إلى ما سبق، الإحسان إلى المساكين، وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفاياتهم. فأمر الله سبحانه بمساعدتهم، بما تتم به كفايتهم، وتزول ضرورتهم. ثم أمر بالإحسان إلى الجار ذي القربى، والجار القريب، والصاحب في العمل، والصاحب في البيت، والصاحب في السفر، ثم أمر بالإحسان إلى ابن السبيل. وهو الضيف، أو الذي يمر عليك في سفر. ثم بين الله- عزّ وجل- بعد أن أمر بعبادته، والإحسان إلى خلقه، أنه تعالى لا يحب من كان مختالا في نفسه، متكبرا فخورا على

المعنى الحرفي

الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض، يفخر على الناس بما أعطاهم، ويفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك. والسياق يدل على أن من لا يعبد الله، ولا يحسن إلى خلقه، لا بد أن يكون فيه اختيال، وفخر. ولذلك وصف الذين يختالون، ويفخرون بأنهم يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل. وأنهم يجحدون نعمة الله عليهم، ولا يظهرونها، لا في العطاء، ولا في البذل. ثم هدد الله الكافرين بالعذاب الأليم. مما يدل على أن الأخلاق المذكورة من اختيال، وفخر، وبخل، وكتمان لفضل الله، إنما هي أخلاق الكافرين، لا أخلاق المؤمنين. ثم وصف الله الكافرين بخلق من أخلاقهم، وهو أنهم إذا أنفقوا، فإنما يريدون بإعطائهم، السمعة، وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله. وأنهم لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر. وإنما حملهم على صنيعهم القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سول لهم، وأملى لهم، وقارنهم فحسن لهم القبائح. ومن كان الشيطان صاحبه، فساء صاحبا. ثم خاطبهم الله تعالى بأنه: أي شئ يضرهم لو آمنوا بالله، وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص؛ رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها. ثم ذكر الله- عزّ وجل- بعلمه. وهو في هذا السياق يفيد: أنه عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه، ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه. وبمن يستحق الخذلان، والطرد عن جنابه الأعظم، الذي من طرد عن بابه فقد خاب، وخسر في الدنيا والآخرة عياذا بالله من ذلك. المعنى الحرفي: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «أتدري ما حق الله على العباد؟. قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم». فالأمر الأول، والواجب الأول، هو معرفة الله، وتوحيده، وطاعته، وعدم الشرك به- في شأن ألوهيته، وفي شأن ربوبيته- بشرا، أو حجرا، أو كونا، أو طبيعة، أو مجتمعا، أو غير ذلك. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. أي: وأحسنوا بهما

[سورة النساء (4): آية 37]

إحسانا بالقول والفعل، والإنفاق عليهما عند الاحتياج. وَبِذِي الْقُرْبى. أي: وأحسنوا بكل من كان بينكم وبينه قربى من أخ، أو عم، أو غيرهما وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ. أي: وأحسنوا باليتامى والمساكين. وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى. أي: وأحسنوا بالجار الذي قرب جواره، أو بالجار القريب النسيب. وَالْجارِ الْجُنُبِ. أي: وأحسنوا بالجار الجنب وهو: إما الذي جواره بعيد، أو هو الجار الأجنبي. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ. أي: وأحسنوا بالصاحب بالجنب، ويدخل في ذلك الزوجة، والذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، أو شريكا في تعلم علم أو غيره، أو قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد. وَابْنِ السَّبِيلِ. الغريب، أو الضيف. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. أي: وأحسنوا بالعبيد والإماء. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا. أي: متكبرا، يأنف عن قرابته، وجيرانه، فلا يلتفت إليهم. فَخُوراً. أي: يعدد مناقبه كبرا. فإن عدها اعترافا، كان شكورا. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. أي: الذين يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم، فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء. وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أي: ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. أي: وهيأنا للكافرين عذابا يهانون به في الآخرة. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ. أي: للفخار، وليقال: ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله. وهم المنافقون، أو الكافرون، بدليل. وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً. أي: صاحبا، ومرافقا. فَساءَ قَرِيناً. حيث حملهم على البخل، والرياء، وكل شر. ويمكن أن يفهم منه الوعيد بأن الشيطان يقرن بهم في النار. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. أي: وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد بالاستفهام، الذم، والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومصلحة في ذلك. وهذا كما يقال للعاق: ما ضرك لو كنت بارا، وقد علم أنه لا مضرة في البر. ولكنه ذم وتوبيخ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. هذا وعيد لهم بأنهم إن لم يؤمنوا، ولم ينفقوا، بأن الله مطلع عليهم، وعالم بهم. فوائد: 1 - قال النسفي: قيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود،

والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. وقال: قيل: البخل أن يأكل بنفسه، ولا يؤكل غيره. والشح: ألا يأكل ولا يؤكل. والسخاء: أن يأكل، ويؤكل. والجود: أن يؤكل، ولا يأكل. 2 - فسر نوف البكالي: الجار الجنب بأنه اليهودي والنصراني. نفهم من ذلك، أن الجار، ولو لم يكن مسلما، فقد أمرنا بالإحسان إليه. وفي الحديث الذي رواه البزار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقا. فأما الجار الذي له حق واحد، فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم، له حق الإسلام، وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم ذو رحم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم». 3 - مما ورد من أحاديث في الوصية بالجار: أ- في الصحيحين: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». ب- وروى الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله، خيرهم لجاره». ج- وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لا يشبع الرجل دون جاره». د- وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟. قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تزاني حليلة جارك». هـ- روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟. قال: «إلى أقربهما منك بابا». 4 - كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض الموت: «الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم». فجعل يرددها، حتى ما يفيض بها لسانه. وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك، فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك، فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك، فهو لك صدقة». ورواه النسائي، وإسناده صحيح.

المعنى العام

ومما ورد في الإحسان إلى الخادم، والمملوك، والأهل قوله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عما يملك قوتهم». وفي مسلم أيضا: «للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق». وفي الصحيحين: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي حره، وعلاجه». وفي الصحيحين: «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم». 5 - في الحديث: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة». 6 - عن أبي تميمة عن رجل من بني الهجيم قال: «قلت يا رسول الله: أوصني. قال: إياك وإسبال الإزار من المخيلة. وإن الله لا يحب المخيلة». 7 - في الحديث: «إن الله إذا أنعم نعمة على عبد، أحب أن يظهر أثرها عليه». 8 - وبمناسبة الإنفاق رياء، نذكر بالحديث المعروف الذي يذكر الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار. وهم العالم، والغازي، والمنفق، المراءون بأعمالهم. يقول صاحب المال: ما تركت من شئ تحب أن ينفق فيه، إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت. إنما أردت أن يقال: جواد. فقد قيل. أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا. وهو الذي أردت بفعلك. وكذلك يقال للغازي، وللعالم. نسأل الله الإخلاص في القول، والعمل. ثم يختم هذا المقطع بهذه الآيات: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. المعنى العام: يقول تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل، ولا مثقال

المعنى الحرفي

ذرة. بل يوفيها له، ويضاعفها له إن كانت حسنة ويعطي الجنة. ثم بين تعالى هول يوم القيامة، وشدة أمره وشأنه حين يأتي الأنبياء شهداء على أقوامهم، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا على قومه وأمته. يومئذ يود الذين كفروا لو انشقت الأرض وبلعتهم، مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم منه من الخزي، والفضيحة، والتوبيخ، يومئذ يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا وبهذه المعاني يختم هذا المقطع الذي بين قضايا رئيسية في موضوع التقوى، من عدم أكل الأموال بالباطل، وعدم قتل الأنفس، ووجوب اجتناب الكبائر، وعدم تمني ما للآخرين، وألزم بقوامية الرجال على النساء، وبين حدود معالجة المنشوز. كما أمر بالعبادة، والتوحيد، وترك الاختيال والفخر والبخل. وبعد ذلك تأتي هذه المعانى المرغبة، المرهبة. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. المعنى الحرفي: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ: قال النسفي: (وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكون ذرة). وهذا معنى عظيم، فالهباءة على هذا القول مؤلفة من ذرات كثيرة. وعلى هذا فإن النسفي يفسر الذرة في الصغر بما نفسرها به الآن من كونها أصغر وحدة مستقلة في المادة. فالله- عزّ وجل- لا ينقص عمل أحد مثقال هذه الذرة من خير، أو شر. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. أي: وإن تكن مثقال الذرة حسنة، يضاعف ثوابها. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. أي: ويعطي صاحبها من عنده ثوابا عظيما، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره؟ مع أنه سمى متاع الدنيا قليلا. وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة، مع أن له حسنات كثيرة. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ. أي فكيف يصنع هؤلاء الكافرون إذا جئنا من كل أمة بشهيد، يشهد عليهم بما فعلوه، وهو نبيهم. وَجِئْنا بِكَ يا محمد. عَلى هؤُلاءِ. أي: على أمتك شَهِيداً. أي: شاهدا على من آمن بالإيمان، وعلى من كفر بالكفر، وعلى من نافق بالنفاق. روى البخاري عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي.

[سورة النساء (4): آية 42]

فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟. قال: نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. فقال: حسبك الآن. فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان». يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله. وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ. أي: لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، أو حين تصير البهائم ترابا يودون حالها. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. أي: ولا يقدرون على كتمانه، لأن جوارحهم تشهد عليهم. فوائد: 1 - في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه: «فيقول الله عزّ وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار. وفي لفظ: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار. فيخرجون خلقا كثيرا. ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ .... 2 - روى أبو داود الطيالسي: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة». 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. يروي ابن كثير حديثا بأسانيد متعددة عن أبي هريرة وفيه: «إن الله ليضاعف الحسنة ألفي حسنة». 4 - روى عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: (جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن. قال: ما هو؟ أشك في القرآن؟. قال: ليس هو بالشك ولكن اختلاف، قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع الله يقول: ثُمَ

تحقيق وتعليق

لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. وقال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. فقد كتموا؟. فقال ابن عباس: أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. فإنهم لما رأوا يوم القيامة، أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؛ رجاء أن يغفر لهم فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون. فعند ذلك يود الذين كفروا، وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا). تحقيق وتعليق 1 - يقول الألوسي مبينا وجهتي النظر في قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. هم موالي الموالاة. أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك؛ فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه، إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود أي بمعنى القسم اهـ. 2 - ويقول صاحب الظلال عند قوله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. إن الأسرة- كما قلنا- هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية. الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق. والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون، في التصور الإسلامي.

وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنا، والأرخص سعرا، كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية، وما إليها .. لا يوكل أمرها- عادة- إلا لأكفاء المرشحين لها، ممن تخصصوا في هذا الفرع علميا، ودربوا عليه عمليا، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة ... إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنا والأرخص سعرا ... فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون .. العنصر الإنساني .. والمنهج الرباني يراعي هذا. ويراعي به الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة. والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة .. والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله- سبحانه- لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة! وقد خلق الله الناس ذكرا وأنثى .. زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون .. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل، وتضع، وترضع، وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل .. وهي وظائف ضخمة أولا، وخطيرة ثانيا. وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى: فكان عدلا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني- الرجل- توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة؛ ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل .. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد. وكان عدلا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه. وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك. وكان هذا فعلا .. ولا يظلم ربك أحدا .. ومن ثم زودت المرأة- فيما زودت به من الخصائص- بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال، والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة- بغير وعي

ولا سابق تفكير- لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها- حتى في الفرد الواحد- لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فورا وفيما يشبه أن يكون قسرا. ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج؛ ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك، لتكون الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى. مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شئ. وهذه الخصائص ليست سطحية. بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة .. بل يقول كبار العلماء المختصين: إنها غائرة في تكوين كل خلية. لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكل خصائصه الأساسية! وكذلك زود الرجل- فيما زود به من الخصائص- بالخشونة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة، واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة. لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائما لحماية الزوج والأطفال. إلى تدبير المعاش .. إلى سائر تكاليفه في الحياة .. لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر، والبطء في الاستجابة بوجه عام! .. وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها .. وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة، وأفضل في ممارستها .. كما أن تكاليفه بالإنفاق- وهو فرع من توزيع الاختصاصات- يجعله بدوره أولى بالقوامة، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة، والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها .. وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي. قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد. ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات. ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية، وتكليف كل شطر- في هذا التوزيع- بالجانب الميسر له، والذي هو معان عليه من الفطرة. وأفضليته في مكانها .. في الاستعداد للقوامة والدربة عليها والنهوض بها بأسبابها .. لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة- كسائر المؤسسات الأقل شأنا والأرخص سعرا- ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها معان عليها، مكلف تكاليفها. وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها .. ومن الظلم أن يحمل تكاليفها إلى جانب

أعبائه الأخرى .. وإذا هو هيئ بالاستعدادات الكامنة، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى .. وظيفة الأمومة .. لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها. وفي مقدمتها سرعة الانفعال، وقرب الاستجابة. فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي، وآثارها في السلوك والاستجابة! إنها مسائل خطيرة .. أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر .. وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء .. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة، هددت البشرية تهديدا خطيرا فى وجودها ذاته؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز. ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها .. ولعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد، ومن تدهور وانهيار، ومن تهديد بالدمار والبوار، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة. أو اختلطت معالمها. أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة! ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة. وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة؛ عند ما تعيش مع رجل لا يزاول مهام القوامة؛ وتنقصه صفاتها اللازمة؛ فيكل إليها هي القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى الخابطات في الظلام. ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال- الذين ينشئون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب. إما لأنه ضعيف الشخصية، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر. وإما لأنه مفقود: لوفاته- أو لعدم وجود أب شرعي! - قلما ينشئون أسوياء. وقل ألا ينحرفون إلى شذوذ ما في تكوينهم العصبي، والنفسي، وفي سلوكهم العلمي والخلقي .. فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها! ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا- في سياق الظلال- عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها، وضرورتها وفطريتها كذلك .. ولكن ينبغي أن نقول: إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت، ولا في المجتمع الإنساني، وإلغاء وضعها «المدني» - كما بينا ذلك من قبل- وإنما هي وظيفة- داخل كيان الأسرة

كلمة في السياق

لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها. ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها. فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوك مع زوجه وعياله. كلمة في السياق: بهذا المقطع يكون قد مر معنا ثلاثة مقاطع من سورة النساء، اتضحت لنا فيها معان كثيرة، مرتبطة بالعبادة والتقوى، وتحددت فيها أمور. وفي المقطع الثالث تحددت قضايا، هي من الأهمية بمكان كبير، ومن ثم فإن فهم هذا المقطع يترتب عليه شئ كثير في عصرنا. خاصة وأن فتنة العصر تكمن في القضيتين الرئيسيتين: اشتراكية الأموال، ومساواة الرجال بالنساء. والمقطع يقيم المؤمنين حيث ينبغي أن يقيموا في هاتين القضيتين، وغيرهما. ولعلنا لاحظنا في هذا المقطع تشابها بين معان فيه، ومعان موجودة في سورة البقرة. ولكنها هنا أكثر تفصيلا كقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .... وكقوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. وكقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... وكل ذلك في سورة البقرة. مما يؤكد ما قلناه من أن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... ، وامتدادات هذا المحور في سورة البقرة نفسها. ولنقف هنا وقفة متأنية: جاء قوله تعالى فى سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بعد مقدمة سورة البقرة التي وصفت المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وأنهم ينفقون مما رزقهم الله- عزّ وجل-. ومن قوله تعالى اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ نفهم أن العبادة هي الطريق لتعميق الإيمان، وإقامة الصلاة، واستخراج الإنفاق، وتحقيق الالتزام بالقرآن. وقد جاء في المقطع الذي مر معنا أمر بالعبادة وانتهت الآية التي أمرت بالعبادة بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فالسياق إذن يحرر من البخل، وقد جاءت آية الأمر بالعبادة هنا بعد تبيان أن الصالحات قانتات، فهي تدل على طريق الصلاح، وجاءت هذه الآية بعد أوامر

المقطع الرابع

ونواه- هي من التقوى- فهي تدل على طريق التقوى وكل ذلك صلته بمحور السورة من البقرة واضح لمن تأمل. أمرت آية العبادة بالعبادة، وترك الشرك، وأمرت بالإحسان وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى ... ومحور سورة النساء من البقرة جاء فيه أمر بالعبادة، ونهي عن الشرك، وجاء به ما يستثير الإحسان: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنه سيتأكد لدينا شيئا فشيئا كيف أن سورة النساء تفصل في محورها من البقرة، وفي ارتباطات هذا المحور، وفي امتداداته من سورة البقرة بما لا يبقى معه شك. وبعد المقطع الثالث، يأتي المقطع الرابع، ويبدأ بالنهي عن الصلاة في حالة السكر، ويبيح التيمم للصلاة في بعض الحالات، ثم تأتي مجموعة فيه توضح الرؤية في أمر أهل الكتاب، ثم تأتي مجموعة تتحدث عن الكافرين والمؤمنين، ثم تأمر بأداء الأمانة، والحكم بالعدل، فلنتأمل صلة ذلك ببعضه وبالمحور: لقد جاء في المحور أمر بالعبادة لتحقيق التقوى التي أحد أجزائها: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فللعبادة صلة بقضية الإيمان، ومن التقوى الصلاة، وهي كذلك عبادة فإن يأتي الآن مقطع ينهى عما ينافي الصلاة، ثم يوضح لنا الرؤية في شأن من لا يؤمنون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما هي دوافعهم في ذلك؟ كل ذلك لا تخفى صلاته مع المحور، ولهذا الموضوع تتمة نراها أثناء استعراض المقطع الرابع. المقطع الرابع ويمتد من الآية (43) إلى نهاية الآية (58). وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 43 الى 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

[سورة النساء (4): آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) *** [سورة النساء (4): الآيات 44 الى 53] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 54 الى 55] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) *** [سورة النساء (4): الآيات 56 الى 58] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) كلمة في المقطع: جاء هذا المقطع بعد أمر بالعبادة، وتذكير بمشهد من مشاهد يوم القيامة، والصلاة جزء من العبادة، والعبادة بمجموعها تعمق الرؤية الإيمانية، ومن ثم جاءت في المقطع توجيهات تعمق الرؤية في شأن أهل الكتاب، وجحودهم، وضلالهم، وحسدهم، وكفرهم، ثم جاءت آيتان تنذر الكافرين، وتبشر المؤمنين، وإذ تعمقت الرؤية واستجيشت النفس بالتبشير والإنذار يأتي الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل. وهكذا يضيف السياق إلى ماهية التقوى قضيتين رئيسيتين هما: أداء الأمانة إلى أهلها، والحكم بالعدل.

سبب نزول تحريم قربان الصلاة والإنسان سكران

إن مجئ النهي عن الصلاة في حالة السكر، وتعليل ذلك بقوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. يشير إلى أن العبادة التي تحقق المراد منها هي العبادة الخاشعة، ومجئ إباحة التيمم في بعض الحالات في هذا السياق يشير إلى أن العبادة في الإسلام مقرونة باليسر، ومجئ الدروس في شأن أهل الكتاب في هذا السياق يشير إلى أن من لا عبادة له لا يستطيع أن يرى حقيقة أهل الكتاب، فالرؤية الإيمانية الكاملة مرتبطة: بالعبادة، وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل مرتبط: بالعبادة، والإيمان، وبالعمل الصالح، وبالرؤية الإيمانية، وكل ذلك يقدمه لنا المقطع فلنبدأ عرض المقطع على مراحل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً. فى الآية قضيتان: 1 - قربان الصلاة والإنسان سكران. 2 - التيمم، ولكل سبب نزول. سبب نزول تحريم قربان الصلاة والإنسان سكران: من المعلوم أن المرحلة الثالثة في تحريم الخمر، هي المنصوص عليها في هذه السورة وأما المرحلة الرابعة، فهي المنصوص عليها في سورة المائدة. وسنذكر هناك- إن شاء الله- بعض الأحاديث في هذا الموضوع، أما هنا فنكتفي بما له صلة بموضوع الآية: روى ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال: (نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير، ففزر بها أنف سعد، فكان سعد مفزور الأنف، وذلك قبل تحريم الخمر، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ... والحديث بطوله عند مسلم. وروى الترمذي، وابن أبي حاتم- وهو حديث حسن صحيح- عن علي بن أبي طالب قال: (صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلانا. قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون.

سبب نزول مشروعية التيمم

فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ... وقد روي هذا الأثر روايات متعددة. وفي سنن أبي داود الحديث الذي فيه دعاء عمر: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» .. فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة، ينادي أن لا يقربن الصلاة سكران). والمهم أن نعرف أن هذه الآية نزلت والاستعداد النفسي لقبول حكمها كان قائما بعد مجموعة حوادث، كلها مقنع بضرورة هذا الحكم. سبب نزول مشروعية التيمم: قال ابن كثير: (وإنما ذكرنا ذلك هاهنا، لأن هذه الآية التي في النساء، متقدمة النزول على آية المائدة: وبيانه: أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر. والخمر إنما حرم بعد (أحد) بيسير، في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير. وأما المائدة، فإنها من آخر ما نزل، ولا سيما صدرها فناسب أن يذكر السبب هنا. وبالله الثقة). - روى البخاري عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء. وليس معهم ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي. ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا. فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته). وروى ابن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب. وخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار، فرحلها. ثم رضفت أحجارا، فأسخنت بها ماء، واغتسلت. ثم

المعنى العام

لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال: يا أسلع ما لي أرى رحلتك تغيرت. قلت يا رسول الله، لم أرحلها. رحلها رجل من الأنصار. قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة، فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها. ورضفت احجارا، فأسخنت بها ماء، فاغتسلت به فأنزل الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً قال ابن كثير: وقد روي من وجه آخر عنه .. أقول قد يتعدد النزول لتأكيد شمول النص لأكثر من حادثة، وقد لا يكون الأسلع قد عرف الآية من قبل فظنها في حادثته. المعنى العام: ينهى الله تبارك وتعالى عباده عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محالها- التي هي المساجد- للجنب إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب، من غير مكث، وفي حال الضرورة، والحكمة في تحريم قربان الصلاة، والإنسان سكران، هو علم الإنسان بما يقول. فإن المخمور فاقد التدبر والخشوع، يخلط في قراءته، ولا يعقلها. فالآية نهت عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها. وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة، المباعدة للصلاة ولمحلها، إلا إذا كان عابر طريق في حالة الضرورة، كما ذكرنا، حتى يغتسل الإنسان من جنابته. ثم رخص في التيمم، كبديل عن الغسل في حالات: حالة السفر إذا فقد الماء. وحالة المرض الذي يضر معه استعمال الماء. ثم بين كيفية التيمم وأداته. ثم ذيل الآية بالتذكير بعفوه وغفرانه، وتذييل الآية بالعفو والمغفرة، يفيد أن من عفوه وغفرانه، أن شرع لكم التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء. توسعة عليكم، ورخصة لكم. وذلك أن هذه الآية الكريمة، فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة، من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضا، أو عادما للماء، فإن الله- عزّ وجل- قد أرخص في التيمم، والحالة هذه، رحمة بعباده، ورأفة بهم، وتوسعة عليهم. فإذا كان محور سورة النساء في العبادة، والتقوى، ومن التقوى الصلاة. فهذه الآية إذن، تفصيل لبعض قضايا التقوى، بتفصيل بعض ما يدخل فيها.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. أي: لا تصلوا وأنتم في حالة سكر. حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. أي: لتعلموا ما تقرءون. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا. أي: ولا تصلوا جنبا. أي: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حال الجنابة، إلا أن تكونوا مسافرين، عادمين الماء، متيممين. هذا ما ذهب إليه الحنفية في فهم الآية: لا تقربوا الصلاة سكارى، لا تقربوا الصلاة جنبا حتى تغتسلوا، إلا في حالة السفر، فاقربوها متيممين لفقدان الماء. ومذهب الشافعية في فهم الآية على الشكل التالي: لا تقربوا الصلاة. أي: لا تقربوا مواضعها. وهي المساجد، وأنتم سكارى. ولا تقربوا المساجد جنبا، إلا عابري سبيل. أي: مجتازين فيها. فيجوز عندهم للجنب العبور في المسجد عند الحاجة. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ: طويل، أو قصير. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ. والغائط: هو المكان المطمئن من الأرض كنى بذكره عن التغوط وقضاء الحاجة، وهو الحدث الأصغر. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ. أي: أو جامعتموهن على أصح أقوال المفسرين في هذا المقام، كما رجحه ابن كثير. فَلَمْ تَجِدُوا ماءً. أي: فلم تقدروا على استعماله، لعدمه أو بعده، أو فقد آلة الوصول إليه، أو لمانع من حية أو سبع، أو عدو. ذكره النسفي. فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. فسر الزجاج الصعيد، بوجه الأرض، ترابا كان، أو غيره. وإن كان صخرا لا تراب عليه. لو ضرب المتيمم يده، ومسح، لكان ذلك طهوره. وهذا مذهب الحنفية. وسترى أن هذه القضية، خلافية. والطيب في الآية: الطاهر على رأي الحنيفة. فصار المعنى: أن المريض، والمسافر، والمحدث، وأهل الجنابة، لهم التيمم إذا عدموا الماء حقيقة أو حكما فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. أي: امسحوا وجوهكم وأيديكم، بأيديكم التي ضربتم بها الصعيد الطيب بنية التيمم، وهل المراد بالأيدي هنا، الأكف فقط، أو الأيدي إلى المرافق؟ قولان سنراهما إن شاء الله. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا. بالترخيص، والتيسير. غَفُوراً. عن الخطأ، والتقصير.

فوائد

فوائد: 1 - الجزء الأول من الآية، وهو ما له علاقة بإباحة السكر إلا في الصلاة منسوخ بالتحريم القطعي للخمر، الذي ورد في سورة المائدة. فما الحكمة في بقاء النص، مع نسخ حكمه؟. لو تأملنا بدقة هذا الموضوع، لرأينا أن التحريم المقيد، لم ينسخ. بل بقي مع زيادة. فتحريم قربان الصلاة، والإنسان سكران، لا زال قائما. ولكن ما يفهم من حل الخمر فيما عدا ذلك، هو الذي نسخ. هذه واحدة. ثم إننا نفهم من الآية مجموعة أمور، كلها غير منسوخ فلئن بقي النص، فلوجوده إذن حكم كثيرة. عدا عن الحكمة الكبيرة، وهي إثبات الواقع التاريخي، التدريجي، لعملية تحريم الخمر. مما يمكن أن نفهم منها طريقة التربية الإسلامية للأمة المسلمة في نشأتها. وما يمكن أن نستفيد من ذلك من عبر في، تطوير أوضاعها في غير ما استقرت عليه الأحكام. 2 - مما نفهمه من النص، ومن سبب النزول، ما ذكره الحنفية، قالوا: وفيه دليل على أن ردة السكران، ليست بردة. لأن قراءة سورة الكافرون بطرح اللاءات كفر. ولم يحكم بكفره، حتى خاطبهم باسم الإيمان. أي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا .... ومما فهمه بعضهم من الآية وجوب الخشوع في الصلاة من قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. فدل ذلك على أن عقل الإنسان لما يقول في صلاته، مقصود في الشريعة. وأخذ الفقهاء تعريف السكران من النص فعرفوه: بأنه الذي لا يدري ما يقول. ومن الآية نفهم أن للصلاة مهمة خاصة، لذلك يراعى فيها، ما لا يراعى في غيرها. 3 - هذه الآية كانت التوطئة الكبرى للتحريم النهائي للخمر. ففيها تعريض بالنهي عن السكر بالكلية. لكونهم مأمورين بالصلاة في الأوقات الخمسة، من الليل والنهار. فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، إلا إذا جانب الخمر في أكثر أوقاته. 4 - دلت الآية على أن معرفة المصلي ما يقول، مراد رئيسي في الصلاة. ويؤكد هذا، الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم، وهو يصلي، فلينصرف، ولينم، حتى يعلم ما يقول». رواه البخاري، والنسائي. وفي ألفاظ الحديث: «فلعله يذهب يستغفر، فيسب نفسه».

ومن ثم، فعلينا أن نبذل جهدا لتحصيل علم الخشوع، وحاله. وهو أول علم يرفع من الأرض، كما في حديث حسن. 5 - رأينا أن في قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، تفسيرين: التفسير الذي فسر ذلك بالسفر ووجه الاستثناء على أنه استثناء من جواز قربان الصلاة في حالة الجنابة. وهو اتجاه الحنفية. وبناء عليه، فلا يجوز لجنب أن يدخل المسجد ولو مارا. والتفسير الثاني: وهو الذي فسر الاستثناء على أنه استثناء من جواز قربان محال الصلاة، وهي المساجد. وبالتالي فإن عبور المسجد للجنب عند الحاجة على هذا المذهب جائز. قال ابن كثير: (ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ويجوز المرور، وكذا الحائض، والنفساء أيضا في معناه إلا أن بعضهم قال يحرم مرورهما، لاحتمال التلويث، ومنهم من قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور، جاز لها المرور). وذكر ابن كثير أدلة الطرفين، ولكل دليله. وأما المكث في المسجد للجنب فإن أبا حنيفة، ومالكا، والشافعي يحرمون على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل، أو يتيمم إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقه، وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد لما روى هو، وسعيد بن منصور في سننه، بسند صحيح: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. 6 - وفي حد المرض الذي يبيح التيمم، قال ابن كثير: (أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو، أو شينه، أو تطويل البرء). ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض، لعموم الآية. 7 - وفي تفسير الصعيد في الآية، أقوال قال ابن كثير: (والصعيد، قيل هو: كل ما صعد على وجه الأرض. فيدخل فيه التراب، والرمل، والشجر، والحجر، والنبات. وهو قول مالك. وقيل: ما كان من جنس التراب. كالرمل والزرنيخ، والنورة. وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل: هو التراب فقط. وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأصحابهما). ثم ذكر أدلة القول الأخير. 8 - وعند قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قال ابن كثير: التيمم بدل عن الوضوء في التطهير، لا أنه بدل منه فى جميع أعضائه بل يكفي مسح الوجه واليدين بالإجماع. ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال: أحدها- وهو مذهب الشافعي في الجديد- أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين

كلمة في السياق

بضربتين، لأن لفظ اليدين، يصدق إطلاقه على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. قالوا: وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى، لجامع الطهورية). ثم ذكر أدلة الطرفين. والأمر فيه سعة. وفي سورة المائدة عند آية الوضوء زيادة بيان. وبعد أن ذكرت هنا في هذا المقطع هذه الآية عن الصلاة، ومحلها من التقوى والعبادة ما نعلم، تأتي هنا مجموعة آيات تتكرر فيها أَلَمْ تَرَ. توضح الرؤية للمتقين. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً* مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا* يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا* إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. كلمة في السياق: في محور سورة النساء من البقرة أمر بالعبادة ونهي عن الشرك، والهدف هو الوصول إلى التقوى، ولا عبادة ولا توحيد ولا تقوى إلا إذا وضحت رؤيتنا لمواقف أهل الكتاب وهذه المجموعة توضح الرؤية لذلك يرد فيها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ* ثلاث مرات وفي سياقها يأتي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.

المعنى العام

المعنى العام يخبر تعالى في هذه المجموعة من الآيات عن اليهود- عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم. يشترون به ثمنا قليلا من حطام الدنيا. ويودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى، والعلم النافع. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه الأعلم منا بأعدائنا. ثم ذكرنا أنه كفى به وليا لمن لجأ إليه، ونصيرا لمن استنصره، ثم بين لنا بعض طبائع اليهود في كونهم يتأولون كتاب الله على غير تأويله. ويفسرونه بغير مراد الله- عزّ وجل- منه قصدا وافتراء. ومن صفاتهم، أنهم يعلنون السمع، والعصيان، بدلا من إعلان السمع والطاعة. وهذا أبلغ في الكفر، والعناد. أن يتولى الإنسان عن كتاب الله بعد ما عقله. ومن صفاتهم، أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. أي: اسمع ما نقول، لا سمعت. استهزاء منهم، واستهتارا. فما أحقره من خلق. ومن صفاتهم أنهم يقولون القول ويريدون غيره، إيهاما للسامع، كقولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَراعِنا التي ظاهرها طلب الإقبال والرعاية. وهم يريدون السب بإرادتهم الرعونة، أو بإرادتهم كلمة عبرانية معناها سب. ثم بين الله- عزّ وجل- أنهم لو أعلنوا السمع والطاعة، وطلبوا السمع والإنظار، لكان خيرا لهم، وأقوم. ولكن قلوبهم مطرودة عن الخير، مبعدة عنه، فلا يدخلها من الإيمان شئ نافع لهم، بسبب الكفر المستقر في قلوبهم. ثم نادى الله أهل الكتاب، آمرا بالإيمان بما نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم، الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات. ومهددا لهم إن لم يفعلوا أن يطمس وجوههم. فلا يبقي لهم سمعا، ولا بصرا. ولا أنفا. ومع ذلك يردها إلى ناحية الأدبار. أو يفعل بهم كما فعل بالذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة وخنازير. ثم هدد الله- عزّ وجل- أنه إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف، ولا يمانع. ثم بين الله- عزّ وجل- الأصل العظيم الذي يعامل به عباده. وهو أنه من لقيه وهو مشرك به لا يغفر له. أما ما دون ذلك من الذنوب، فإنه يغفرها إن شاء. أو يعذب عليها إن شاء. ثم بين أن الشرك بالله إنما هو افتراء يأثم به صاحبه إثما عظيما. ثم يعود السياق إلى لفت نظر أهل الإيمان إلى حالة أخرى من حالات أهل الكتاب ينبغي أن تكون واضحة عند أهل الإيمان. هذه الحالة الثانية هي مدح أهل الكتاب لأنفسهم ودعاواهم، كقولهم نحن أبناء الله

وأحباؤه. ثم يبين الله- عزّ وجل- أن الشأن ليس أن تزكي نفسك ولكن أن يزكيك الله، فالمرجع إليه، لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها، وأنه لا يظلم أحدا من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل (وهو ما يكون في شق النواة). ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرى افتراءهم على الله الكذب في تزكيتهم أنفسهم، ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم لن يدخلوا النار إلا أياما معدودات، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية يؤكد أن هدف المجموعة هو توضيح الرؤية ثم بين الله- عزّ وجل- أنه كفى بصنيعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا. وبعد أن وضح الله للمؤمنين الرؤية في هاتين القضيتين، وضح لهم الرؤية في قضية ثالثة عند أهل الكتاب، وهي إيمانهم بالسحر والشيطان إيمان المطيع المستعمل، وأنهم يفضلون الكفار وعباد الأصنام على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم، ثم بين أن هؤلاء يستحقون لعنة الله- وقد لعنهم- وأن الذي يلعنه الله فإن أحدا ما لا يستطيع نصره. ثم أنكر الله- عزّ وجل- عليهم حالهم من أنهم لو كان لهم نصيب من الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس- ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم- شيئا ولا ما يملأ النقير: وهو النقطة التي في النواة. ثم أنكر الله- عزّ وجل- حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه من النبوة العظيمة. وكيف منعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب، وليس من بني إسرائيل، ولكنها طبيعتهم، فقد جعل الله في أسباط بني إسرائيل- الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوة، وأنزل عليهم الكتب، وحكم النبيون فيهم بالسنن، وهي الحكمة، وجعل منهم الملوك ومع هذا فمنهم من آمن به، أي: بهذا الإيتاء، وهذا الإنعام، ومنهم من صد عنه، أي: كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهم منهم، ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟. ثم تهددهم الله بقوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله. ونظرة إلى هذه المجموعة ترينا أنها توضح الرؤيا للمتقين بطبائع أهل الكتاب، ومواقفهم، كيلا نغتر بهم. ونظرة إلى واقع أهل الكتاب الحالي ترينا أن خصائصهم السيئة هذه مستمرة، مستقرة، سواء في ذلك اشتراؤهم الضلالة، وإرادتهم ضلالنا، ودعاواهم، وتزكيتهم لأنفسهم، وتزيينهم الكفر لأهله، وتفضيله على هذا الإسلام سواء كان مجوسية، أو بوذية، أو هندوسية، وحرصهم على الخير لأنفسهم. وحسدهم لمن أوتي شيئا من الفضل غيرهم، حتى إنهم ليسرقون كثيرا من النظريات

المعنى الحرفي

التي كتبها الإسلاميون، ويرفضون أن ينسبوها إلى أصحابها. المعنى الحرفي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ النصيب هنا: الحظ، والكتاب: هو التوراة لأن الكلام فيما يبدو منصب على اليهود، والرؤية هنا رؤية القلب يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ. أي: يستبدلونها بالهدى، والضلالة هي البقاء على ما هم عليه بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي: ويودون أن تضلوا سبيل الحق كما ضلوه، يودون أن تكفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ. أي: والله أعلم منكم بعداوة هؤلاء، فاحذروهم، ولا تستنصحوهم في أموركم. وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً أي: كفى به وليا في الدفع، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، أو لا تبالوا بهم، فإن الله ينصركم عليهم، ويكفيكم مكرهم. مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... هذا دليل على أن الآيات تنصب على نوع من أهل الكتاب وهم (اليهود) كما أن هذه تحدد المذكورين سابقا بلفظ الأعداء، وبالذين أوتوا نصيبا من الكتاب يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. أي: يميلونه عنها ويزيلونه، لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها، وأزالوه عنها. فمعنى عن مواضعه. أي: عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه، ومن ذلك صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا. أي: يقولون سمعنا قولك، وعصينا أمرك، ويحتمل أنهم أسروا به. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. أي: واسمع قولنا وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين: وجه يحتمل الذم، ووجه يحتمل المدح، وهم يريدون الذم، أما احتماله الذم فلأن معناه على هذا: اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئا، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم لا سمعت دعوة مستجابة، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا، وأما احتماله المدح فبمعنى: اسمع غير مسمع مكروها، من قولك أسمع فلان فلانا إذا سبه. وَراعِنا يحتمل: راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا، ويمكن أن يكونوا يريدون فيها الرعونة، فكانوا سخرية بالدين وهزءا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والاحترام.

[سورة النساء (4): آية 47]

ولماذا يفعلون ذلك؟ بين الله سبب فعلهم لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ اللي: هو الفتل والتحريف، أي: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا موضع انظرنا، وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروها، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. والطعن في الدين من أمثال قولهم: لو كان نبيا حقا لأخبر بما نعتقد فيه، فلينتبه المؤمنون إلى طرق اليهود، وأمثالهم في تحريف الكلم وفتله. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. بدل قولهم: سمعنا وعصينا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا. أي وقالوا: واسمع دون أن يلحقوا بها غير مسمع، وانظرنا بدل قولهم راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ. أي: لكان قولهم ذاك خيرا لهم عند الله، وأعدل وأسد وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ. أي: ولكن طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يحتمل معنيين: إما أن قليلين منهم فقط هم الذين يؤمنون، وإما إن إيمانهم قليل، ضعيف، لا يعبأ به، وهو إيمانهم بخالقهم مع كفرهم بما هو من مقتضيات الإيمان. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا: أي: آمنوا بالقرآن. مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. من التوراة أي: آمنوا بالقرآن المصدق للتوراة. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الطمس: محو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، والرد على الأدبار يحتمل أكثر من معنى، فإما أن يكون معناها: فنجعلها على هيئة أدبارها، وهي الأقفاء مطموسة مثلها، أو أن نطمس وجوها فنعكس الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدام. ويمكن أن تفهم الوجوه على أن المراد بها رءوس الناس، ووجهاؤهم، فيكون المعنى آمنوا من قبل أن نغير أحوال وجهائكم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ. أي: أو نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت. وبعض العلماء قال: إن هذا الوعيد كان معلقا بألا يؤمنوا كلهم، وقد آمن بعضهم، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. أي: وكان المأمور به من الله وهو: العذاب في حالة أمر الله به كائنا لا محالة. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. أي: لمن مات على الشرك، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. أي: ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ولو كان من الكبائر، ولو لم يكن توبة، هذا مذهب أهل السنة، وسنرى في الأحاديث ما يؤيده. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أي: ومن يشرك بالله فقد كذب كذبا عظيما، استحق به عذابا أليما. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله

[سورة النساء (4): آية 50]

وأحباؤه، وأمثال ذلك، وهذا الوعيد يدخل فيه كل من زكى نفسه، فأثنى عليها، ووصفها بزكاء العمل، وزيادة الطاعة والتقوى. بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ هذا إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها، لا تزكية غيره، لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أي: قدر فتيل، وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ، أو هو ما يكون في شق النواة. والضمير في وَلا يُظْلَمُونَ يعود إما على الذين يزكون أنفسهم، أو على من يزكيه الله فيكون المعنى على القول الأول: الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم عقوبة عادلة دون ظلم، والمعنى على القول الثاني: إن من زكاه الله يثيبه على زكاء نفسه، ولا ينقصه شيئا من ثوابه. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. أي: في زعمهم أنهم عند الله أزكياء. وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أي وكفى بزعمهم هذا إثما واضحا من بين سائر آثامهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ. أي: اليهود الذين أعطوا حظا من الكتاب. يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ. أي: بما عبد من دون الله وَالطَّاغُوتِ. أي: الشيطان أو كل من تجاوز حدود الله. وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أي: يقولون للكافرين أنتم أهدى طريقا من محمد وأصحابه. روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا، وعن محمد؟ فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير، وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ .... أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. أي: هؤلاء الذين أبعدهم الله من رحمته. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أي: فلن تجد له ناصرا يعتد بنصره. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. النقير هو النقرة في ظهر النواة، وهو مثل في القلة كالفتيل. والاستفهام في الآية يفيد الإنكار. والمعنى: أي لو كان لهم نصيب من الملك، أي من ملك أهل الدنيا، أو من ملك الله، فإذا لا يؤتون أحدا مقدار نقير لفرط بخلهم. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أي: بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ما آتاهم الله من القرآن، والنصر، والغلبة، وازدياد العز والتقدم كل يوم. وصفهم الله فى الآية السابقة بالبخل، وفي هذه الآية بالحسد، وهما

[سورة النساء (4): آية 55]

من شر الخصال، يمنعون مالهم، ويتمنون ما لغيرهم، وفي الآية دليل على فساد الحسد واستقباحه فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ. أي: التوراة. وَالْحِكْمَةَ. أي: الموعظة والفقه. وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام. وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما آتى أسلافه. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ. أي: فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم، ومنهم من أنكره، ومنع الناس من الإيمان به، مع علمه بصحته! وهذا إلزام لهم بأنهم عاقون متمردون، فليس مستغربا كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من فسر النص بقوله: فمنهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومنهم من كفر به، وصد عن دينه. والتفسير الأول هو الأكثر انسجاما مع السياق. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. أي: وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم، ومخالفتهم كتب الله ورسله. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً .. يروي المفسرون أن هذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار، ومما يروونه في ذلك عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال: كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فبعثه إليه ينظر أهو هو، قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... الآية. فبادرت الماء، فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت»، والمعروف أن كعبا أسلم في خلافة عمر فلعل هذه الحادثة في غير كعب، وهناك رواية أخرى تذكر إسلام كعب بسبب سماعه الآية في حمص وهو في طريقه إلى بيت المقدس. 2 - روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله، قال الله- عزّ وجل- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، وقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وأما الديوان الذي لا يعبأ به شيئا، فظلم العبد نفسه بينه وبين الله من صوم يوم تركه، أو صلاة، فإن الله لا يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة».

المعنى العام

3 - وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس مما يشير إلى أن المدح تعتوره أحكام متعددة على حسب الأحوال والأشخاص، فمما ورد في ذم التمادح والتزكية، ما ورد في صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب». وفي الصحيحين عن أبي بكرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل فقال: ويحك قطعت عنق صاحبك، ثم قال: إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح». وقال ابن مسعود: «إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شئ، يلقى الرجل ليس يملك له ضرا ولا نفعا فيقول له: إنك والله كيت وكيت، فلعله أن يرجع، ولم يحظ من حاجته بشيء وقد أسخط الله، ثم قرأ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ... الآية. 4 - روى الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط فى الأرض، والجبت قال الحسن: الشيطان، وقال الإمام مالك في تفسير الجبت: هو كل ما يعبد من دون الله- عزّ وجل- أقول: كانوا يزجرون الطير ليبنوا على خطوط سيرها هل يقدمون على عمل أو لا، وكانوا يخطون بالرمل ليستخرجوا الغيب، فكل ذلك مع التطير من الجبت. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً. المعنى العام: بعد أن ذكر الله- عزّ وجل- فى الآيات السابقة كفر أهل الكتاب، وأنه لا يغفر شرك من أشرك به، يبين في آيتين من هذه الآيات الثلاث التي هي خاتمة هذا المقطع جزاء الكافرين والمؤمنين، ثم يصدر للمؤمنين أمرين، لا يكون المؤمن تقيا إلا بهما.

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته، وصد عن رسله، بأنه سيدخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، وأنه كلما احترقت جلودهم، بدلوا جلودا غيرها، حتى إنه ليتبدل في الساعة مائة مرة كما روي عن عمر، وفي رواية مائة وعشرين مرة، وكلا الروايتين عن عمر يرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعظم أهل النار في النار، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد» ثم ختم الله- عزّ وجل- الآية الأولى بوصف ذاته بالعزة والحكمة، وهما يفيدان في هذا المقام غلبة الله بالانتقام، وأنه لا يمتنع عليه شئ مما يريده بالمجرمين، وعقوبته لهم هي الحكمة عينها. وإذ بين عقوبة الكافرين، بين فيما بعد جزاء المؤمنين، فأخبر عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها، وأرجائها، حيث شاءوا، وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون، ولا يبغون عنها حولا، ولهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والأذى، والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، ويدخلهم ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا، وقد روى ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها- شجرة الخلد». وقال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. (سورة الرحمن) ثم أمر الله- عزّ وجل- المؤمنين أمرين- كلاهما ضروري في قضية التقوى: الأمر الأول: فى أداء الأمانات إلى أهلها، وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله- عزّ وجل- على عباده من الصلاة، والزكاة، والصيام، والكفارات، والنذور، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك، مما يأتمنون به من غير اطلاع وبينة على ذلك. فأمر الله- عزّ وجل- بأدائها. ومن ذلك قيام كل إنسان برعاية مسئولياته حتى قال ابن عباس: يدخل فيه وعظ السلطان النساء، يعني يوم العيد. والأمر الثاني: أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، ولا عدل إلا بإقامة حكم الله، وكل تصور للعدل غير ذلك، إنما هو انحراف وجهل وجور، ثم أثنى الله- عزّ وجل- على ما يأمرنا به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة. ثم ختم الله الآية والمقطع بتذكيرنا بأنه سميع لأقوالنا بصير بأفعالنا.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً. أي: سوف ندخلهم نارا. كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ. أي: كلما أحرقت. بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قال النسفي: أي: أعدنا تلك الجلود غير محترقة. فالتبديل والتغير لتغاير الهيئتين، لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق، وعن الفضل: يجعل النضيج غير نضيج. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. أي: ليدوم لهم ذوقه. وقد ذكر علماء التشريح أن الأعصاب التي تذوق الألم هي في الجلود، فما أعظم إعجاز هذا القرآن. وكيف لا يكون الأمر كذلك ومنزله خالق كل شئ، والعالم بكل شئ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً. أي: غالبا في انتقامه، حَكِيماً. في ما يفعله بالمجرمين. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. أي اجتمع لهم الإيمان مع العمل الصالح، سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ. أي: من الأنجاس والحيض والنفاس وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. أي: ظلا طويلا فينانا لا جوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجسجا لا حر فيه ولا برد، وليس إلا ظل الجنة كذلك. اجتمع لهم الخلود مع لذة النظر ولذة المتعة، ولذة المحيط دون منغصات، نسأل الله الجنة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى، ودخل في ذلك الأمانات العادية التي يأتمن الناس بعضهم بعضا عليها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي: وإذا قضيتم بين الناس أن تقضوا بالسوية والإنصاف، بلا هوى ولا جور، بالقضاء بحكم الله. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. أي: إن الله نعم شيئا يعظكم به، أو إن الله نعم الشئ الذي يعظكم به، أي نعما يعظكم به ذلك، وهو المأمور به، من أداء الأمانات، والعدل في الحكم. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً سميعا لأقوالكم، بصيرا بأعمالكم. وسبب نزول هذه الآية الأخيرة ما رواه ابن جرير عن ابن جريج قال: نزلت في عثمان بن طلحة، قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل في البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ... الآية. فدعا عثمان إليه. فدفع إليه المفتاح. قال: «وقال عمر ابن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ .... فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك». وقد عرض ابن كثير مجموعة

فوائد

الروايات وقصة ذلك، ثم عقب على ذلك فقال: «وهذا من المشهورات» أن هذه الآية نزلت في ذلك. وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا فحكمها عام. ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر والفاجر، أي: هي أمر لكل أحد. وقال أكثر من مفسر، منهم زيد بن أسلم: إن هذه الآية إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد وأهل السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة السلام: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء». وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: «إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة، وإن كان قد قتل في سبيل الله فيقال: أد أمانتك، فيقول: فأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟! فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقة، قال فتنزل عن عاتقه فيهوي على إثرها أبد الآبدين، قال زاذان: فأتيت البراء فحدثته فقال: صدق أخي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... قال أبي بن كعب: من الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها. 2 - قال محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب «إن هذه الآية: أي وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس» قال ابن كثير وفي الحديث: «إن الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه». وفي الأثر «عدل يوم كعبادة أربعين سنة». 3 - روى أبو داود وابن حبان في صحيحه وغيرهما عن أبي يونس مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها .. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً ويضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه ويقول: وهكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ويضع إصبعيه .. ». 4 - رأينا أن كلمة (الأمانات) في الآية عامة وفي ذلك يقول الألوسي: «وأيا ما فالخطاب يعم كل أحد- كما أن الأمانات، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول- تعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، سواء كانت فعلية، أو قولية، أو اعتقاديه. وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب. وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس، وأبي، وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأبي

جعفر، وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم، وإليه ذهب الأكثرون، وعن زيد بن أسلم وأختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية، وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا، وفي تصدير الكلام- بإن- الدالة على التحقيق، وإظهار الاسم الجليل، وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة، وتأكيد وجوب الامتثال، والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له». وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة». وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر. الرحم توصل برة كانت أو فاجرة. والأمانة تؤدى إلى البر والفاجر. والعهد يوفى به للبر والفاجر»، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». والأخبار في ذلك كثيرة. 5 - وفي آخر آية في المقطع أي في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ ... يقول صاحب الظلال: «هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين «الناس» بالعدل، على منهج الله وتعليمه. والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى .. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها «الإنسان» .. أمانة الهداية، والمعرفة، والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به. والاهتداء إليه، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد، ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا .. وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات. ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر بالله أن تؤدى: ومن هذه

الأمانات: أمانة الشهادة لهذا الدين .. الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون .. والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته- بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية- فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك. وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان- وهي إحدى الأمانات- ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض، منهجا للجماعة المؤمنة؛ ومنهجا للبشرية جميعا .. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيله، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر وهو كبرى الأمانات، بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة. ومن ثم ف «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس .. أداء لإحدى الأمانات. ومن هذه الأمانات- الداخلة في ثنايا ما سبق- أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأجيال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها .. وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال .. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى؛ ويجملها النص هذا الإجمال. فأما الحكم بالعدل بين «الناس» فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا «بين الناس» جميعا. لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلا مع أهل الكتاب، دون سائر الناس .. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه «إنسانا». فهذه الصفة- صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني. وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا: مؤمنين وكفارا، أصدقاء وأعداء، سودا وبيضا، عربا وعجما .. والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل- متى حكمت في أمرهم- هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط في هذه الصورة- إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية .. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة؛ فلم تذق له طعما قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا. لأنهم «ناس» لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه «الناس». وذلك هو أساس الحكم في الإسلام، كما أن الأمانة- بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في

المجتمع الإسلامي. والتعقيب على الأمراء بأداء الأمانات إلى أهلها؛ والحكم بين الناس بالعدل، هو التذكير بأنه من وعظ الله- سبحانه- ونعم ما يعظ الله به ويوجه: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه. فالأصل في تركيب الجملة: إنه نعم ما يعظكم الله به .. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله «اسم إن» ويجعل نعم ما «نعما» ومتعلقاتها، في مكان «خبر إن» بعد حذف الخبر .. ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله- سبحانه- وهذا الذي يعظهم به .. ثم إنها لم تكن «عظة» إنما كانت «أمرا» .. ولكن التعبير يسميه عظة. لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة والحياة! ثم يجئ التعقيب الأخير في الآية؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً .. والتناسق بين المأمور به من التكاليف؛ وهو أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس؛ وبين كون الله سبحانه «سميعا بصيرا» مناسبة واضحة ولطيفة معا .. فالله يسمع ويبصر، قضايا العدل، وقضايا الأمانة. والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير، وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر، وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر. وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور. وبعد: فالأمانة والعدل .. ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما في كل مجال في الحياة، وفي كل نشاط للحياة؟. أيترك مدلول الأمانة والعدل ووسائل تطبيقهما وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم أو أهواؤهم؟ إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان .. هذا حق .. ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات؛ متأثرا بشتى المؤثرات .. ليس هناك ما يسمى «العقل البشري» كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك، وعقل فلان وعلان، وعقول هذه المجموعة من البشر، في مكان ما وفي زمان ما .. وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى، تميل بها من هنا، وتميل بها من هناك .. ولا بد من ميزان ثابت، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها. ومدى الشطط والغلو، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان .. والميزان الثابت، الذي لا يميل مع

فصل: في مناقشة كلامية

الهوى، ولا يتأثر بشتى المؤثرات ... ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين .. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها فتختل جميع القيم .. ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم. والله يضع هذا الميزان للبشر، للأمانة والعدل، ولسائر القيم، وسائر الأحكام، وسائر أوجه النشاط، في كل حقل من حقول الحياة. فصل: في مناقشة كلامية مما حدث فيه نقاش كثير بين علماء الكلام، موضوع هل الذرات المادية التي خالطت جسد الإنسان هي عينها التي تلتحق بجسده ولها يكون العقاب والعذاب، أو ليس هذا ضروريا؟ ويستتبع هذا النقاش: هل الجلود التي يبدلها الله أهل النار هي الجلود نفسها يعيدها الله غير نضيجة؟ والقول الذي عليه جماهير المتكلمين هو: أن الذرات نفسها هي التي تنال العقاب والجزاء، وأن ذلك كائن بقدرة الله- عزّ وجل- والألوسي يرى الرأي الآخر ومن أجل أن تتضح آفاق النقاش ننقل كلامه في تفسير قوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. يقول: «أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا مغايرا للمحترق صورة، وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الاحتراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب، وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وتألمه وتلذذه غير معقول، لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة؛ فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة كالسيف الذى قتل به، ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح، والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها؛ دون إعادة السيف وإحراقه؛ لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت، وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام، بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة، وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني

يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر، أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح، وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط. ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا، ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم- معاذ الله تعالى- ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وما في شرح البخاري للسفيري- من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت أمرت وأنت سولت، ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارا لكن لا أصل إليها. فقال له الضرير: أركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما- لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به. ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة. فقد أخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، عن ابن عمر قال: «قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك. قال: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبي شيبة. وغيره عن الحسن قال: «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما أنضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا».

كلمة في السياق

لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله. والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود- مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه- أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن» اهـ كلام الألوسي. أقول: وأنا أرجح القول الذي ذهب إليه النسفي وغيره وأثبتناه في صلب التفسير. وسنفصل في هذا الموضوع- إن شاء الله- عند قوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ (سورة ق). كلمة في السياق: ابتدأ هذا المقطع بتحريم الصلاة في حالة السكر مبينا الحكمة في ذلك، ثم بصرنا بمواقف أهل الكتاب منا وحالهم، ثم بين جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين، ثم أمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل. فلنر صلة هذا المقطع بمحور السورة من البقرة: قلنا إن محور سورة النساء هو الآيات الخمس بعد مقدمة سورة البقرة، ونلاحظ أن في الآيات الخمس قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وفي هذا المقطع ذكر للصلاة وهي عبادة. وفي الآيات الخمس من البقرة قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي هذا المقطع نجد قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وفي الآيات الخمس من البقرة قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ونجد في المقطع قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ.

وفي الآيات الخمس من البقرة نجد قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. ونجد في هذا المقطع قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. وإذا كانت آيات المحور تأمر بالعبادة كطريق للتقوى، فإن من التقوى أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، وقد ختمت آيات المقطع بهذين الأمرين فالصلة بين محور السورة من البقرة وبين المقطع على أتمها وأكملها، وقد رأينا من قبل بعض معالم السياق الخاص للمقطع وصلته بسياق سورة النساء. قلنا إن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وارتباطات هذا المحور وامتداداته، ومن المعاني الشديدة الصلة في سورة البقرة بمحور سورة النساء: قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ .... وقوله تعالى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. وقوله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. والملاحظ أن هذه المعاني وغيرها شدت إلى محور سورة البقرة، وفصلت فيها سورة النساء في مقاطعها الأربعة التي مرت معنا والتي انتهت بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ والملاحظ أن كل ما مر معنا قبل هذه الآية يدخل في موضوع الأمانات بمعناها العام وكثير

المقطع الخامس

مما مر معنا يدخل في قضايا العدل، والملاحظ أن المقاطع التالية لها صلة بهذه الآية: فالطاعة لله، والرسول صلى الله عليه وسلم، ولأولي الأمر، هي مظهر الأمانة الأول، والاحتكام لله والرسول هو واجب الحاكم الأول وهو من الأمانة، والطاعة هي الأساس الذي عليه يقوم القتال وهي من الأمانة، والقتال به تقوم الحياة الإسلامية وهو من الأمانة. وبعد الكلام عن الطاعة والقتال يأتي مقطع يبدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وينتهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ فهذا المقطع له علاقة بالعدل فالمقاطع اللاحقة لها علاقة بالأمانة وبالعدل وذلك مرتبط بموضوع الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. ومن هنا ندرك بعض صلة المقاطع التالية ببعضها وصلتها بما قبلها، والأمر أوسع من ذلك كما سنرى فلننتقل إلى المقطع الخامس: المقطع الخامس ويمتد من الآية (59) إلى نهاية الآية (70) وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 59 الى 61] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

كلمة في هذا المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 70] فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) كلمة في هذا المقطع واضح أن هذا المقطع موضوعه الرئيسي طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم أي طاعة الكتاب والسنة، والاهتداء بهما، وهو ركن من أركان التقوى كما نعلم. لقد رأينا في مقدمة سورة البقرة أن أول ما وصف به المتقون هو أن القرآن هداهم

الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ورأينا أن المقطع الأول في سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وقلنا هناك إن المقطع الأول الآتي بعد مقدمة سورة البقرة يدلنا على الطريق لنكون من المتقين، والطريق هو العبادة، وإذا كانت سورة النساء تفصيلا لقضيتي العبادة والتقوى، وإذا كان من التقوى الاهتداء بالكتاب، فإن المقطع الذي بين أيدينا يفصل في هذا الموضوع. وإذ جاءت سورة النساء تفصيلا لقضية التقوى والعبادة، وما يدخل فيهما فإننا نرى أن هذا المقطع يذكرنا بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وكيف أنه لا إيمان بالقرآن ولا إيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إيمان بالله إلا بالطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم. لاحظ الصلة بين قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وبين قوله تعالى في هذا المقطع: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ إن ادعاء التقوى دون سلوك طريقها دعوى زائفة. إن سورة النساء التي تفصل في المحور- الذي دعا الناس إلى السير في الطريق الذي يوصل إلى التقوى- تفصل لنا في الطريق، وتوضح لنا ماهية التقوى، فالمقطع واضح الصلة بسياق السورة واضح الصلة بمحورها. ومن خلال قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ندرك أن هناك صلة بين المقطع وبين الآية السابقة عليه وهي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فصيغة العدل الوحيدة هي هذا الدين في مصدرية الرئيسين الكتاب والسنة، وفي مصادره الفرعية الملتزمة بالكتاب والسنة والمنبثقة عنهما. إنه من خلال أدنى نظرة إلى المقطع ندرك أن المقطع وحدة متكاملة موضوعها (الطاعة) فالآية الأولى فيه: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ

المعنى العام للمقطع

والآيتان الأخيرتان فيه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ ... ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ فالمقطع يبدأ بالأمر بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر من المسلمين في طاعة الله، وأن على كل المسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة حال التنازع، وفي المقطع حديث عمن يدعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت، وإذا دعي إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى الكتاب والسنة أعرض فهؤلاء هم المنافقون. والمقطع يبين لنا أن الله- عزّ وجل- ما أرسل رسولا إلا ليطاع، فهؤلاء الذين يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحققوا ما يقتضيه إرسال الرسل لهم، وقد بين المقطع أنه لا إيمان إلا بتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في النزاع والتسليم لحكمه، وأن على المؤمن أن يطيع الله، ولو كان في ذلك ترك الأوطان، وقتل الأنفس، وأن عاقبة الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم حميدة، ثم ذكرنا المقطع بأن الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم تجعل صاحبها مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا يذكرنا بصلة المقطع بالمحور، وصلة المحور بمقدمة سورة البقرة، وصلة مقدمة سورة البقرة بسورة الفاتحة صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. المعنى العام للمقطع: يأمر عزّ وجل بطاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بطاعة كتابه، والأخذ بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما يأمر بطاعة أولي الأمر فيما يأمرون من طاعة الله، لا في معصيته. وأولو الأمر في الأصل: العلماء والأمراء. ثم أمر تعالى أن يرد كل تنازع يقع بين الناس في أصول الدين، أو فروعه، أو في أي أمر إلى الكتاب والسنة. ثم بين أن علامة الإيمان بالله واليوم الآخر هو رد الخصومات إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاحتكام إليهما في كل شئ مما شجر فيه خلاف، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر، ثم بين أن التحاكم إلى كتاب الله، وسنة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع هو الخير والأحسن عاقبة ومآلا، والأحسن جزاء. ثم يلفت الله نظر رسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين المتقين إلى من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعدلون عنهما، ويتحاكمون إلى ما سواهما من

الباطل، مع أن الله- عزّ وجل- أمرهم أن يكفروا بالطاغوت، وهو الباطل هنا، وهو كل ما خالف الكتاب والسنة، وما يفعلون ذلك إلا طاعة للشيطان الذي يريد إضلالهم الضلال البعيد. ثم أكمل الله- عزّ وجل- وصف حالهم بأنهم عند ما يدعون إلى كتاب الله وإلى رسول الله، لا يكون منهم إلا الإعراض الشديد. ثم قال الله مهددا مبينا أن هؤلاء المنافقين ستنزل بهم مصائب بسبب مواقفهم، وعندئذ يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم حالفين كذبا وزورا. وقد سيق هذا المعنى بعبارة مضمونها، فكيف إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، فاحتاجوا إليك فجاءوك يعتذرون إليك، ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة، وذلك دأب المنافقين يسيرون تحت لواء الكافرين. ثم يدعون أنهم فعلوا ذلك بقصد الإحسان والتوفيق. ولا تعبير يستطيع أن يحل محل اعتذار المنافقين بإرادتهم الإحسان والتوفيق في سيرهم مع الكافرين، أو في الرضوخ لحكمهم. كتعبيرهم ذلك في التغطية على فعلتهم. ثم بين الله- عزّ وجل- لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك. فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف بعلمه فيهم، فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، فلا تعنفهم على ما في قلوبهم، وانههم بوعظك عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم. وبهذا اكتملت هذه الصورة للمنافقين. وهي صورة لمن يرفض الاحتكام للكتاب والسنة، ويحتكم في شأنه إلى غيرهما، وما ينبغي أن يكون الموقف منهم. فدل على أن الاهتداء بكتاب الله، وقبول الاحتكام له، والخضوع لحكمه هو الذي يحدد تقوى الإنسان أو نفاقه. ثم بين الله- عزّ وجل- أن ما أمر به من طاعته وطاعة رسوله هو الأصل الدائم عنده، فما أرسل رسولا إلا من أجل أن يطاع، ولا يطيع الرسل إلا من وفقه الله، ثم أرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك، تاب الله عليهم ورحمهم، وغفر لهم. ثم أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا إيمان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرا وباطنا، فكما تجب الطاعة الظاهرة، يجب الانقياد الباطني لحكمه بالتسليم الكلي من غير

المعنى الحرفي

مخالفة ولا مدافعة، ولا منازعة. ثم بين تعالى أن الخير كله في طاعة الله مهما كان في الطاعة من مشقة على النفس، حتى لو كان الأمر فيه قتل الأنفس، وترك الديار، والهجرة منها. ففعل الأمر كائنا ما كان هو الخير، وهو الذي يزيد من ثبات المؤمن على إيمانه، والله عزّ وجل يأجر أصحاب ذلك على ذلك الجنة والهداية في أمر الدنيا والآخرة. ثم بشر الله- عزّ وجل- مطيعي الله ورسوله الذين يعملون بما أمر الله ورسوله، ويتركون ما نهى الله عنه ورسوله، بشر الله- عزّ وجل- من كان كذلك بأنه يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقا للأنبياء ومن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم، وما أحسن هؤلاء من رفقة، ما أحسن معيتهم، وما أحسن صحبتهم، وما أحسن مرافقتهم، وما أحسن عشرتهم. ثم ختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع بتبيان أن الفضل فضله إذا وفق إنسانا لطاعته أو أعطاه فذلك من آثار رحمته إذ هو سبحانه الذي أهل هؤلاء لذلك، وما أهلهم وتفضل عليهم إلا لعلمه بهم، فهو العليم بمن يستحق الهداية والتوفيق. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بطاعة كتابه، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بطاعة شخصه في حياته، وطاعة سنته بعد وفاته. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. أي: من المسلمين. أما غير المسلم فلا ولاية له على المسلم ولا طاعة. وأولو الأمر هم الأمراء المسلمون. هذا الذي يفهم من سبب النزول. وقال ابن عباس: هم أهل الفقه والدين، ولا تعارض، لأن الأصل أن يكون الأمراء علماء فقهاء. أخرج الدارمي عن تميم الداري أن عمر قال «لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة فمن سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قوم على غير فقه كان هلاكا له ولهم»، فإن لم يكونوا كذلك فعليهم أن يرجعوا في شئون ولايتهم إلى العلماء، ومن ثم فالعلماء فوقهم، ولكن يبقى لهم حق الطاعة على العلماء فيما سوى ذلك إن كانوا ولاة عدل وعدولا. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ. أي: فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شئ من أمور الدين، أو اختلفتم فيما بينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. أي: فارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. إذ إن الإيمان مقتضاه الطاعة، ومن مقتضى الطاعة الرجوع إلى الكتاب والسنة في حالة النزاع ذلِكَ خَيْرٌ. أي: الرد إلى الكتاب والسنة خير في العاجل وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وأحسن في الآجل أي وأحسن عاقبة.

فوائد

فوائد: 1 - قال النسفي: دلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة، إذا وافقوا الحق، فإن خالفوه فلا طاعة لهم. وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا، وجد عليهم في شئ، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، قالوا: بلى، قال فاجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها. قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف». وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». 2 - وبمناسبة ذكر ولاة الأمر نقول: إن ولي الأمر عندنا في الأصل هو الخليفة الذي تنبثق إمرته عن شورى المسلمين، ومهمته إقامة الكتاب والسنة، والأمر له في الطريقة التي يختارها لتعيين الولاة والمساعدين. إن شاء أن يجعلها شورى، أو يعين تعيينا، ويجب على المسلمين طاعته وطاعة عماله في المعروف. روى مسلم عن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا وأطيعوا». 3 - ليس هناك أهم في الإسلام من ثلاث قضايا، القضيتان الأولى والثانية: التقوى والعبادة وهما متلازمتان. القضية الثالثة: الطاعة. لذلك كانت الأوامر الرئيسية التي وجهها الرسل لأقوامهم هي: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* (الشعراء) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (نوح) ولذلك كان من أهم الفقه في دين الله فقه العبادة والتقوى والطاعة، كيف نعبد الله عزّ وجل؟ وبماذا نعبده؟ وما هو مضمون التقوى؟ وكيف نتحقق به؟ ولمن نعطي طاعتنا؟ لله والرسول صلى الله عليه وسلم فذلك واضح، وطاعة أولي الأمر في حال الاستقامة والسلامة واضحة، وذلك إذا كان هناك خلافة راشدة بل وحتى خلافة ظالمة لكنها تعترف لله بالحاكمية وتقيم كتاب الله على ضعف أو ظلم. ولكن حيث لا خلافة راشدة ولا ظالمة فلمن تعطى الطاعة؟ عند ما يكون النظام كافرا فلمن تعطى الطاعة؟ هناك الطاعة لسلطان القانون والنظام فهذه مفروضة على المسلم كرها وهذه ليست محل بحثنا، وإنما محل بحثنا لمن يعطي المسلم طاعته الاختيارية؟ فعند ما يكون في

نظام كفري فإنه لا تدخل طاعته في قوله تعالى: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ولكن سلطان القانون يطالبه فهو مضطر للطاعة الإجبارية، والذي نستطيع أن نفتي به هو أن الطاعة الاختيارية في هذه الحالة تكون للعلماء الربانيين فهم وراث النبوة. وعلى مثل هذا نستطيع أن نحمل حملا مباشرا كلام ابن عباس في تفسير: أولي الأمر بأنهم العلماء الفقهاء ويشهد لما ذكرناه بعض روايات حديث حذيفة «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني» فهذا الحديث أصل عظيم في الفتوى فيما يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بعض روايات أبي داود لهذا الحديث ما يلي: «قلت يا رسول الله ثم ماذا؟ قال: إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة»، وفى رواية أخرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرر أمرا ثلاث مرات، في كل مرحلة تمر، هذا الأمر هو: «تعلم كتاب الله واتبع ما فيه»، وفي هذا إشارة إلى التلمذة على الربانيين قال تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فتعلم كتاب الله يقتضي أخذا عن الربانيين فكأن الحديث يشير إلى ما ذكرناه: أن الطاعة الاختيارية في حالة فقدان الخلافة إنما تكون لوراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكما قلنا فليس كلامنا في الطاعة المفروضة بسلطان النظام والقانون، وفي حديث حذيفة ما يدل على أن التلمذة على الربانيين هي الأساس حتى في حالة وجود الخلافة الظالمة، فما بعد الخلافة الراشدة الأصل أن تعطى الطاعة الإجبارية للخلافة وأن تعطى الطاعة الاختيارية لوراث الأنبياء. 4 - وفي سبب نزول الآية يروي ابن جرير، وابن مردويه وغيرهما ما يلي: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون. فلما بلغوا قريبا منهم، عرسوا، وأتاهم ذو العيينتين، فأخبرهم، فأصبحوا وقد هربوا، غير رجل أمر أهله. فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه، فقال: يا أبا اليقظان: إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك فأقم، فأقام فلما أصبحوا أغار خالد، فلم يجد أحدا غير الرجل، فأخذه، وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل، فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا، وارتفعا إلى النبي

[سورة النساء (4): آية 60]

صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد: لا تسب عمارا، فإنه من سب عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله، ومن يلعن عمارا يلعنه الله» فغضب عمار، فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله- عزّ وجل- قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .... ومن هذا النص نفهم أن الآية في طاعة الأمراء، وأن طاعتهم واجبة، وأن عدم التقدم عليهم في أمر واجب. وقد استثنى فقهاء الحنفية حالة، وهي ما إذا أمر الأمير بأمر رأى الأكثرية فيه ضررا، فيتبع رأي الأكثرية في هذه الحالة، ذكره ابن عابدين في أول كتاب الجهاد. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ. أي: يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. من الوحي والقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على رسل الله عليهم الصلاة والسلام يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ. أي: إلى ما خالف الكتاب والسنة من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. وقيل الطاغوت هنا: الشيطان ممثلا بجنده وأتباعه. وقيل الطاغوت: هو من جاوز الحد في طغيانه، وعتوه، ومحاربته للإسلام. وكل ذلك صحيح. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. أي: وقد أمروا أن يكفروا بالطاغوت والشيطان الداعي إليه، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. عن الحق، والمراد بقوله: ضلالا بعيدا: أي مستمرا إلى الموت. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ. أي: للمنافقين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ. أي: إلى كتاب الله وَإِلَى الرَّسُولِ إلى شخصه في حياته وإلى سنته بعد مماته للتحاكم، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. أي: يعرضون عنك أشد أنواع الإعراض. فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ. أي فكيف تكون حالهم، وكيف يصنعون إذا نزلت بهم المصائب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. أي: بسبب ما فعلوه من التحاكم إلى غير الله ورسوله وأمثال ذلك. ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا. أي: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً بين الخصوم، فلم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك، وهذا شأن المنافق يظن أنه محسن في نفاقه وأنه يجمع بين وجهات النظر وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار. أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: فأعرض عن قبول الاعتذار، وَعِظْهُمْ. أي وعظ بالزجر والإنكار، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا

فائدة

بَلِيغاً أي: قولا يبلغ منهم، ويؤثر فيهم: والبلاغة: أن يبلغ الإنسان بلسانه كنه ما يريد، ويمكن أن يراد بالإعراض، الإعراض عن العقاب والعتاب. وبالوعظ التذكير، وبالإبلاغ إيصال الحقائق إلى أنفسهم بأبلغ أسلوب. فائدة: مما ورد في أسباب نزول هذه الآيات، أنها نزلت في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وروى الطبراني في سبب نزولها عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين، فأنزل الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ... الآيات، وقيل غير ذلك. قال ابن كثير: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ. أي: وما أرسلنا رسولا قط إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. أي: إلا ليطاع بتوفيق الله في طاعته وتيسيره، أو بسبب إذن الله في طاعته، إذ إنه أمر المبعوث إليهم أن يطيعوه، لأنه مؤد عن الله، فطاعته لله. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت. جاؤُكَ تائبين من النفاق، معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق. فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من النفاق والشقاق. وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. أي: بالشفاعة لهم، والدعاء لهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً. أي: لعلموه توابا عليهم إن تابوا رحيما بهم. والمعنى: ولو وقع مجيئهم للرسول في وقت ظلمهم مع استغفارهم، ثم استغفر الرسول لهم، لوجدوا الله توابا رحيما، ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيما لشأنه صلى الله عليه وسلم، وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول صلى الله عليه وسلم من الله بمكان. فائدة: لم يفرق بعض الإسلاميين بين دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطابه بعد وفاته. ولا بد في الحقيقة أن نفرق بين دعائه- والدعاء لا يجوز إلا لله- وبين مخاطبته أن يدعو الله للمخاطب. وقد روى ابن كثير عند هذه الآية هذه الحادثة قال: «وقد ذكر جماعة

[سورة النساء (4): آية 65]

منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه (الشامل) الحكاية المشهورة عن العتبي. قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... الآية، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت في القاع أعظمه … فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي، فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: «يا عتبي الحق الأعرابي، فبشره أن الله قد غفر له». وشاهدنا أن ابن كثير ذكر هذه الحادثة دون تعليق مما يدل على أنه يعتبر أن الآية حكمها لا زال باقيا في جواز مخاطبة رسول الله ليستغفر الله لطالب ذلك. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. أي: فو ربك لا يؤمنون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ. أي: فيما وقع بينهم من اختلاف واختلاط. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ. أي: لا يجدون ضيقا أو شكا، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين. فكما فرض الله علينا الرضوخ لحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حرم علينا أن تضيق صدورنا بحكمه وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أي: وينقادوا لقضائك انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم، والمعنى: لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك. فائدة في سبب النزول: روى البخاري عن عروة قال: «خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... الآية» وروى الحافظ أبو إسحاق بن عبد الرحمن في تفسيره عن حمزة: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه فما تريد؟ قال: أن تذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه، فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي، فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول

[سورة النساء (4): آية 66]

الله صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله، وخرج والسيف في يده قد سله، فضرب رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ... الآية. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. أي: ولو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، بأن يقتل بعضهم بعضا أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ. أي: هاجروا ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ممن خلصوا لله، وذلك لصعوبة الأمر، وندرة المخلصين. دلت على أن الخروج من الديار يعدل القتل. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والانقياد لحكمه، وتنفيذ أمره، مهما كان. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في الدارين، وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. أي: وأكثر تثبيتا لإيمانهم، وأبعد عن الاضطراب فيه. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. أي: ثوابا كثيرا لا ينقطع، وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. أي: لثبتناهم على الدين الحق، وهدينا قلوبهم إليه، وفيه. فائدة: قال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شماس، ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت: والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا، فأنزل الله هذه الآية. وبعد أن نزلت الآية قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو فعل ربنا لفعلنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي». وقال عليه الصلاة والسلام: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم». وقال: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» قال ذلك عن ابن رواحة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ثم بينهم وعددهم، مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ الصديق: هو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه في المراقبة، وَالشُّهَداءِ. أي: الذين استشهدوا في سبيل الله وَالصَّالِحِينَ. قال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلهم في الصالحين). أي: من صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. أي: وما أحسن أولئك رفيقا. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ. أي: إن ما أعطي المطيعون من الأجر العظيم، ومرافقة المنعم عليهم إنما هو فضل من الله تفضل الله

فوائد

به عليهم. وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً. أي: ليس أعلم منه بعباده، وبمن هو أهل الفضل. دلت الآية على أن ما يفعل الله بعباده، وما يوفقهم إليه، إنما هو فضله، وهو حجة على المعتزلة في نفي خلق الأفعال. فوائد: 1 - روى البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة» وكان في شكواه التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. فعلمت أنه خير» قال ابن كثير: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «اللهم الرفيق الأعلى» ثلاثا ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم. 2 - روى الطبراني بإسناد لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة، رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ ... الآية. 3 - وفي صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: «كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود». 4 - ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: «المرء مع من أحب» قال أنس فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث. وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن الله يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم». 5 - وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى هذه الآية في حديث رواه ابن جرير: «إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياض، فيذكرون ما أنعم الله عليهم، ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات، فيسعون عليهم بما يشتهون،

كلمة في السياق

وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون». 6 - روى الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». 7 - روى الإمام أحمد عن عمر بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا- ونصب إصبعيه- ما لم يعق والديه». 8 - وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله». 9 - وروى الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء». كلمة في السياق: بين- عزّ وجل- في هذا المقطع معنى عظيما من معاني عبادته وتقواه، هذا المعنى هو الطاعة المطلقة له- عزّ وجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأولي الأمر من المسلمين في طاعة الله ورسوله. وبين معاني ما يدخل في هذه الطاعة، مما بدونه لا تكون تقوى ولا عبادة لله، بل ولا إيمان أصلا، فلا تقوى ولا عبادة إذا لم يكن أصل الإيمان موجودا. فهذا المقطع إذن سائر على النسق الخاص في هذه السورة، والذي محوره الآيات الخمس من سورة البقرة، والملاحظ أن المقطع الأول والثاني في السورة كانا في توضيح معان من التقوى لها علاقة بالضعيفين: المرأة واليتيم. والمقطع الثالث بين معان في التقوى لها علاقة بالأموال والأنفس، ووضع كل في محله، والإحسان إلى خلق الله. والمقطع الرابع بين معاني من العبادة والتقوى في الصلاة والمواقف من أهل الكتاب، والأمانة والعدل. وهذا المقطع يبين معان في أصل العبادة والتقوى وهو

فصل: في طاعة أولي الأمر

الإيمان ومحل الطاعة الكاملة فيه ومواضعها، وما ينافيها، وما يدخل فيها. ومجئ هذا المقطع الذي يمكن تسميته بمقطع الطاعة في سياق السورة التي تربي على العبادة والتوحيد والتقوى والإيمان والعمل الصالح واضح السبب، ثم مجئ هذا المقطع بين آية الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل وبين مقطع الأمر بالنفير العام واضح السبب كذلك. إن الانضباط والطاعة في الفن العسكري يعتبران أساس الوجود العسكري أصلا فإن يسبق الكلام عن القتال كلام عن الطاعة فذلك واضح السبب، وأن يأتي مقطع الطاعة لله والرسول بعد الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل، فذلك لأنه لا أمانة إلا بطاعة الله ورسوله، ولا عدل إلا بطاعة الله ورسوله، ولذلك ورد اشتقاق الحكم أكثر من مرة في المقطع: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ولعل ما ذكرناه فيه كفاية لمعرفة محل المقطع في السياق الخاص للسورة ومحله بالنسبة للسياق القرآني العام، ومع ذلك نقول لزيادة الإيضاح: إنه في آيات المحور ورد قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا* وفي المقطع بشارة لأهل الإيمان مع توضيح في شأن هؤلاء الذين يستحقون البشارة، وفي محور السورة أمر بالعبادة للوصول إلى التقوى التي تنافي الكفر والنفاق، والمقطع يدلنا على أخلاق للكافرين والمنافقين وكل ذلك له صلة بمحور سورة النساء من البقرة وارتباطاته وامتداداته. ولنختم الكلام عن هذا المقطع بفصل ونقل: فصل: في طاعة أولي الأمر لا شك أن طاعة أولي الأمر فيما هو واجب، واجبة .. وأن طاعة أولي الأمر في المعصية حرام، ولكن كثيرا من قضايا الواجب والمعصية يخضع للفتوى البصيرة من أهلها، فهناك حالات الضرورة والاضطرار، وحالات الإكراه، والحالات الاستثنائية، وتأثير ذلك على أصل الحكم الشرعي، وصلة ذلك بالفتوى، وهناك حالات يعطيها أمر أولي الأمر الشرعيين صفة استثنائية، فقد تكون قضية لا تجوز في بعض الأحوال، فإذا أمر بها الأمير أصبحت جائزة، كأمر الأمير أحد المسلمين أن يموه عن نفسه لتحقيق خدعة، أو لتحقيق مصلحة تخدم المعركة، وإذن فنحن إذا تحدثنا عن الطاعة والمعصية فعلى ضوء الفتوى البصيرة التي تلاحظ الزمان والمكان والأشخاص والأوضاع الاستثنائية على ضوء الكتاب والسنة. على ضوء ذلك كله يقال: لا طاعة في المعصية إنما الطاعة في المعروف فحيثما كانت

نقل

معصية فالطاعة حرام، وحيثما كان واجبا فالطاعة واجبة. والطاعة في المعصية حرام ولكن الحكم على المطيع في المعصية يختلف باختلاف أنواع المعاصي، ويختلف باختلاف أحوال الآمر والمأمور، ويتدخل في الحكم عوامل متعددة لا بد أن تراعى، فهناك حالات تغتفر في حالات الإكراه، وهناك حالات لا تغتفر، وهناك حالات ينفذ الإنسان فيها أمرا لا يجوز ومع ذلك يعتبر في عبادة، كالصورة التي ذكرها الفقهاء: لو أن أميرا فرض ضريبة ظالمة على ناس ويمكن أن يوزعها عادل فيوزع الظلم بعدل أو يوزعها ظالم فيزيد الظلم ظلما قال الفقهاء: الذي يوزع الظلم بعدل هو كالمجاهد في سبيل الله. هذا كله لا بد أن يتفطن له، ونحن ندرس أمر الطاعة في ظروفنا وأوضاعنا. ومن الآية نعرف: أنه في حالة أي خلاف على أي أمر فالحكم هو الكتاب والسنة بين كل الناس وفي كل قضية. بقي أن نتساءل ما هو حكم طاعة أولي الأمر في المباح؟ نقول: لا بد من التفريق بين المباح الأصلي الذي تقتضي مصلحة للمسلمين بتقييده كأن يقيد السير بقانون فلا شك في هذه الحالة أن طاعة أولي الأمر من المسلمين واجبة فيه، وبين التحكم في تحريم الحلال فذلك لا يجوز لأحد، وقد عرض الألوسي لهذه المسألة في تفسيره وذكر وجهات النظر فيها فقال: «وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى. ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى، وقيل: تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره، وقال بعض محققي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم، وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط، بخلاف ما فيه ذلك يجب باطنا أيضا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الآمر. فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط، أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل؟ وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أولا، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا». نقل قدم صاحب الظلال للآيات التي بدأت بتوضيح مواقف أهل الكتاب بمقدمة هي

لذلك المقطع وللمقاطع اللاحقة وقد رأينا أن ننقل بعضها هنا لتكون مقدمة مباشرة للمقطع السادس الذي يأمر بالنفير العام، يقول صاحب الظلال: «لقد كان القرآن فيها (أي في السور الثلاث البقرة وآل عمران والنساء) يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة .. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشئ فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصورا للوجود جديدا، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشئ فيها قيما جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة .. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج .. اليهود والمنافقين والمشركين .. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم، بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء .. ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله- بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي- بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا- ماديا- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك .. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد. وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية .. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: امبراطوريتي كسرى وقيصر .. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث .. ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا

فحسب، ولكنه كان اكتساحا عقيديا، ثقافيا، حضاريا كذلك، يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي- من غير إكراه- عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها .. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر قديما! لقد كان تفوقا «إنسانيا» كاملا. تفوقا في كل خصائص «الإنسانية» ومقوماتها. كان ميلادا آخر للإنسان. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد .. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والآشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات. وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ إن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر «اللغة العربية». فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض وقبل الإسلام، ومن ثم سميتها «اللغة الإسلامية» فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي «الإسلام» قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها- لا بلغاتها الأصلية- ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين- اللغة الإسلامية- وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة، ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة عربية- غير اللغة الأم- لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات .. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانيا؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها. ومن لغاتها القديمة أيضا! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي، والخلقي والاجتماعي الذي أنشأه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة

المقطع السادس

والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد الله- لغة الإسلام- بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش- جيوش الإسلام- بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة. المقطع السادس ويمتد من الآية (71) إلى نهاية الآية (93). وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 71 الى 76] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

[سورة النساء (4): الآيات 77 الى 84] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)

[سورة النساء (4): الآيات 85 الى 91] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) كلمة في المقطع: قلنا أثناء الكلام عن آيات القتال الأولى وما قبلها في سورة البقرة: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ. إن مجئ هذه الآيات في سياق الكلام عن التقوى والطرق التي توصل إليها يصحح مفاهيم خاطئة عن التقوى، فالكثيرون من الناس يفهمون أن التقي هو المسالم أبدا، وهو الذي لا يرد الاعتداء، وهذا تصور مغلوط عن التقوى. وكذلك فإن كثيرين لا يعتبرون أن الوصول إلى الشئ من بابه هو من التقوى، وهذا شئ مغلوط بينته تلك الآيات، وكثيرون لا يعتبرون أن حريتهم في التصرف بأموالهم مقيدة بقيود الشرع، وذلك تصور مغلوط صححته الآيات هناك. وإذا كان المحور الرئيسي لسورة النساء هو التقوى، وتبيان ماهيتها، والدلالة على طريقها، فهي تأمر، ومن خلال الأمر تصحح مفاهيم، ومن المفاهيم الضائعة في قضية التقوى، موضوع الطاعة والحركة الجهادية، إن كثيرين من الناس لا يعرفون لمن يعطون طاعتهم، ولا يعرفون كيف ينبغي أن يتحركوا الحركة الجهادية، والمقاطع التي بين أيدينا من سورة النساء حددت الطاعة، وأطلقت الطاقة. ففي المقطع الخامس تحددت الطاعة، وفي المقطع السادس وما بعده مباشرة تحريك للطاقة في الطريق الذي لا يصح أن

تتوقف الحركة فيه، وهو طريق الجهاد الذي لا يعرف الكثيرون كيف يقيمون أمر الله- عزّ وجل- فيه. يأتي هذا المقطع ليبين معان من العبادة والتقوى، مرتبطة بموضوع القتال، ففيه الأمر بالنفير العام، وفيه كلام عن المتقاعسين، وفيه حض على القتال، وبيان لأسبابه، وبيان لنوعية قتال المؤمنين، ولطبيعة قتال الكافرين، ثم عودة لتبيان طبيعة المتقاعسين، ومعالجة لها. وإذ كانت الطاعة ركن القتال، فإنه يأتي كلام عن الطاعة، وإذ كانت الشائعات جزءا من المعركة، فإن المقطع يحدد موقف المسلم من الشائعة، ويأتي ذلك في سياق الأمر بتدبر القرآن، ثم يأتي أمر بالقتال، ولو نكص الناس جميعا. وفي هذا السياق يأتي كلام عن التحية والشفاعة والتوحيد، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم يقابل بالأحسن، وأن تلافي آثار القتال يحتاج إلى شفاعة، وأن التوحيد يقتضي توكلا، وكل ذلك له صلة بالقتال من وجه. ثم يأتي كلام عن المنافقين ومتى يجوز قتالهم؟ ومتى لا يجوز؟ وفي هذا السياق يأتي تبيان تحريم قتل المؤمن عمدا، وماذا يجب أن يفعل من قتل مؤمنا خطأ؟ فالمقطع يوضح لنا محل القتال في التقوى، وما هي مواقف المتقين حيث ينبغي القتال، وفي المقطع تأكيد لكلمة الإيمان إذ الإيمان الحق هو الذي ينبثق عنه القتال الحق. رأينا أن سورة البقرة تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، ثم جاء المقطع الأول في القسم الأول يحدثنا عن الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق، ورأينا في سورة البقرة أمرا بقتال الذين يقاتلوننا، وقلنا هناك إن الكلام عن القتال جاء يصحح مفهوما عن التقوى والمتقين، وهاهنا نلاحظ أن التقاعس عن القتال نوع نفاق، وأن محاولة الوقوف على الحياد بين أهل الإيمان والكفر نفاق، وأن على أهل الإيمان أن يتصرفوا ضمن حدود معينة مع المنافقين. فالمقطع يفصل في الطريق للتقوى، وفي ماهية التقوى في أمور متعددة. ولعلنا نتذكر أن الأمر بقتال من يقاتلنا في سياق القسم الثاني من أقسام سورة البقرة، هو القسم نفسه الذي فيه حديث عن القصاص. وهذا المقطع يختتم بالكلام عن القتل العمد والقتل الخطأ. إن سورة النساء تفصل في التقوى، والطريق إليها، وامتدادات ذلك في سورة

المعنى العام للمقطع

البقرة، ولذلك مظاهره الكثيرة التي من أبرزها ابتداء كثير من مقاطع سورة النساء بصيغة «يا أيها» التي هي الصيغة الآتية بعد مقدمة سورة البقرة. المعنى العام للمقطع: رأينا في سورة البقرة عند قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... أن هذه الآيات آتية في سياق توضيح أن القتال في سبيل الله جزء من التقوى، لا كما يظن الجاهلون أن القتال يتنافى مع التقوى. وهذا المقطع والذي يليه توضيح لكون القتال جزءا من عبادة الله ومن تقواه. ولنر المعاني العامة التي تضمنها هذا المقطع. يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد، وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله، سرية بعد سرية، نفيرا عاما ينفر به الجميع. ثم بين تعالى أن ممن يخالطون المؤمنين، ويتظاهرون بالإيمان، ناسا يتخلفون عن القتال في سبيل الله، فيتباطئون عنه، ويبطئون غيرهم، وينظرون إلى القتال من خلال المصلحة المادية لهم ولغيرهم، فإذا رأوا المسلمين أصيبوا فرحوا، وإن رأوهم غلبوا وغنموا تمنوا أن يكونوا معهم ليصيبوا من الغنائم. ومن فساد تصورهم أنهم يعتبرون عدم خروجهم للقتال حال غلبة الكافرين على المسلمين أن ذلك من فضل الله عليهم، جهلا منهم بالله وسننه في عباده، وجهلا منهم بمعاني الإسلام والإيمان والقرآن. وإذ بين الله فساد تصور هؤلاء لموضوع الجهاد وحكمته، وما يحيط به من قتل في سبيل الله، أصدر أمره تعالى للمؤمنين بالقتال، وأمرهم أن يكون قتالهم في سبيله خالصا، وبين أن كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب، فله عند الله ثواب عظيم، وأجر جزيل. وقد جاء هذا الأمر كتصحيح لذلك التصور الموجود عند المنافقين عن القتال. ثم بين الله- عزّ وجل- الحكمة في القتال مصححا المفاهيم المعوجة فيه، محرضا للمؤمنين على القتال، منكرا عليهم تركه، ومن أولى من الله- عزّ وجل- أن يقاتل في سبيله، ومن أولى من المسلمين المستضعفين المغلوبين على أمرهم، المضطهدين في دينهم، الراغبين إلى الله أن ينقذهم من طغيان من هم تحت سلطانه من المردة والظالمين، من أولى من هؤلاء أن يقاتل من أجلهم؟؟ وإذ تقرر بهذا الأمر القتال، وضرورته، بين تعالى بعد ذلك الفارق بين قتال المؤمنين، وقتال الكافرين، فالمؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان ومقاصده. ثم هيج الله تعالى المؤمنين على قتال أعدائه أولياء الشيطان، مبينا أن الشيطان وحزبه

ومكرهم، كل ذلك ضعيف أمام قدرة الله، ضعيف إذا وجد الجهاد. فليعلم ذلك المؤمنون. أن كيد الشيطان ضعيف إذا قام المسلمون بأمر الله في الجهاد في سبيله. أما إذا لم يفعلوا فيا خسارتهم في الدنيا والآخرة، إن ذلك من النفاق كما ورد في الحديث «من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق». ثم يلفت الحق- عزّ وجل- نظر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى تصور خاطئ عند بعض الناس تصور من يظن أن الإسلام صلاة وزكاة، ثم لا قتال، تصور الذين هم مستعدون لطاعة الله في قضايا العبادة، لا في قضايا بذل الدم في سبيل الله، وذلك من خلال عرض حال بعض المؤمنين بعد أن كتب عليهم القتال، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين في ابتداء الإسلام بالصلاة، والإنفاق في سبيل الله مواساة للفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين إلى حين، وكانت هذه مرحلة لها أسبابها، حتى إذا أذن الله بالجهاد والقتال، وأمر به، إذا فريق من هؤلاء المؤمنين يجزع ويخاف من مواجهة الناس بالقتال، ويتمنون على الله أن يؤخر عنهم فريضة القتال؛ لما فيها من سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء، والتي من أجلها يتمنون تأخير فريضة القتال، فبين أن متاع الدنيا قليل لا يساوي شيئا، وأن الآخرة لأهل التقوي، خير من هذه الدنيا، وأن الله يوفي أهل التقوى جزاء أعمالهم كاملا، فليرغبوا في الآخرة، وليجاهدوا. ثم زادهم بصيرة وبيانا ليرغبوا في الجهاد، عند ما بين لهم أنهم صائرون إلى الموت لا محالة، وأن الموت لا ينجو منه أحد، وأن كل أحد صائر إلى الموت في الأجل المحدد، لا ينجيه من ذلك شئ سواء جاهد أو لم يجاهد، حتى ولو كان في الحصون المنيعة العالية الرفيعة، ثم سفه الله- عزّ وجل- تصورا آخر عند بعض من يدعون الإسلام، ويتظاهرون أنهم من أهله، ولا يعقلون ولا يعلمون. هذا التصور، هو أنه إذا كان خصب، ورزق، وثمار، وزروع، وأولاد، ورخاء، يعتبرون ذلك من عند الله، وإن كان قحط، وجدب، ونقص في الثمار والزروع والأولاد، يعتبرون ذلك من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبب اتباعه والاقتداء بدينه. وإذا كان نصر وغلبة يعتقدون أن ذلك من الله، وإذا كان إصابة من قتل أو هزيمة يعتقدون أن ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه من بعده من أمته على طريقته في أمر الجهاد وغيره. فصحح الله هذا المفهوم الصادر عن قلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم، مبينا أن الحسنة والسيئة من عند الله، وأن الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البر والفاجر، والمؤمن والكافر،

وهو ولي المؤمنين، يمتحنهم تارة ويديل عليهم، ويمتحنهم تارة بنصرهم، والفعل فعله. وبعد أن صحح الله هذا التصور الكفري لهذا الموضوع المرتبط ارتباطا كاملا بموضوع الجهاد. إذ الجهاد قد يرافقه نصر، وقد يرافقه غير ذلك، وعلى المؤمنين في الحالين التسليم لله لا إلقاء اللوم على قيادتهم. بعد أن بين الله ذلك لفت النظر- في الوقت نفسه- إلى أنه وإن كان كل شئ فعله- إن أصاب بالسيئة من قحط أو هزيمة فذلك عدله، وإن أصاب بالحسنة فذلك فضله، لكنه إن أصاب الإنسان بسيئة فما ذلك إلا بذنب، وإن أصاب المجموع فقد يكون بذنب بعضهم، والله هو الذي قدر. وإذا كان الأمر كذلك فقد أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبلغ شرائعه، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه. وهو شهيد على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى عباده بالبلاغ، والعمل، وكل شئ. وإذ كان الأمر كذلك فعلى الناس أن يجتهدوا ألا يذنبوا، وإذا أذنبوا، فلا يلومون إلا أنفسهم، مع معرفة أن الفعل فعل الله، وأن ذلك استحقاقهم، وأن عليهم أن يسلموا. ثم بين تعالى أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة لله، وهذا أكبر رد عليهم في دعواهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب المصائب! إذ سبب المصائب المعاصي لا الطاعات، فكيف تكون طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم سببا للمصائب، وطاعته طاعة لله! وقد رأينا أن طاعة الأمراء في ذات الله طاعة لله، ورسوله، ثم عزى الله رسوله ومن على قدمه بأنه من تولى عن الطاعة، وأعرض عنها، فالله هو الحفيظ عليه، وهو الذي يتولى أمره، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عليه من ذلك شئ، وإذ بين أن الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب الحسنات والخيرات والنصر، بين حالة من حالات المنافقين وسفهها، ودل رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يفعله معهم مقابلة لها، هذه الحالة هي أن المنافقين يتظاهرون بالطاعة، والموافقة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا خرجوا من عنده وتواروا عنه، أسروا فى أنفسهم، واتفقوا فيما بينهم على غير ذلك. وعزى الله رسوله، وهددهم بأنه يعلم بما يضمرونه، وما يخفونه، وما يتفقون عليه فيما بينهم من العصيان، وسيجزيهم على ذلك. ثم أمره أن يقابل ذلك بالإعراض عنهم، والتوكل على الله، فهما سلاحا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن على قدمه أمام عدم انضباط بعض المتظاهرين أنهم من الصف وفيه. وسبب مجئ هذه المعاني في سياق الأمر بالقتال، وفي سياق نفي أن تكون المصائب بسبب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته، واضح، فلا قتال بلا طاعة وانضباط، ولا نصر إلا بطاعة وانضباط. ثم أنكر الله- عزّ وجل- حالهم مبينا أن سبب هذا الحال هو عدم تدبر

القرآن، وفهمه، وفقهه، والإيمان به، مع أن الدليل على أنه من عند الله، قائم به، من حيث إن كل كتاب بشري لا بد أن يظهر فيه شئ من الاضطراب، والتضاد والتناقض، إما مع نفسه، وإما مع الحقيقة. وهذا الكتاب سالم من الاختلاف في معانيه وأسلوبه، وغير ذلك، وكفى ذلك دليلا على أنه من عند الله، ومن الآية وسياقها نعلم أنه لا طاعة، ولا انضباط، ولا إيمان، إلا بتدبر لهذا القرآن. وفي عصرنا نعرف أهمية الحرب النفسية، وأهمية حرب الإشاعات، وتأثيرها على نفسية الأمة، ونفسية المقاتل، وفي هذا السياق، سياق الأمر بالقتال الجزئي، أو بالقتال الشامل، بالقتال على طريقة حرب العصابات، أو بالقتال على طريقة الحرب النظامية، ينكر الله- عزّ وجل- على من يبادر بنشر خبر قبل أن يتحقق، أو قبل أن يعرف محتواه ودلالاته، ويطالب المؤمنين أن يردوا أمثال هذه القضايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى قياداتهم المؤهلة لمعرفة الأمور وحقائقها، من أجل أن يعرفوا دلالات ماله علاقة بهذه القضايا. والأمر بهذا- في الحقيقة- أمر بالثقة، وأمر بالتروي، وأمر بالتقيد بالسياسة الرسمية للدولة المسلمة، وعقب هذا التنبيه، بين الله فضله على هذه الأمة، والذي من مظاهره حفظهم من اتباع الشيطان، وفي ذلك بشارة وإشارة: بشارة بحفظ أهل الإيمان، وإشارة إلى أن السير وراء الشائعات، ونشرها، وعدم إرجاعها إلى المختصين بها اتباع للشيطان. رأينا في هذا المقطع أنه ابتدأ بتوجيه الأمر إلى المؤمنين أن ينفروا للقتال سرايا أو جيوشا، ثم صدر أمر بالقتال لمن يشتري الدنيا بالآخرة. والآن يصدر الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ولو منفردا، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم هنا، أمر لكل فرد من أمته، أنه لو نكلت الأمة كلها عن القتال، فعليه أن يقاتل هو، وأن يحرض المؤمنين على القتال، وبذلك يكون قد أسقط عن نفسه فريضة القتال، إذ بذلك يكون قد بذل جهده. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه بذلك ينكف بأس الذين كفروا عن المؤمنين، مع أن الله قادر عليهم، وهو معذبهم، ومنكل بهم، ولكن شاء- عزّ وجل- أن يبتلي الناس بعضهم ببعض، فكلف المؤمنين بقتالهم. دل ذلك على أنه لا ينكف بأس الذين كفروا إلا بقتال. وفي هذا السياق يذكر الله- عزّ وجل- ثلاث آيات، آية في الحض على الشفاعات في الخير، والنهي عن الشفاعات في الشر، والتذكير برقابة الله، وحفظه، ومحاسبته لخلقه، والآية الثانية في رد السلام على من سلم بأحسن منه، أو بمثله، مع التذكير بمحاسبة الله عباده. والآية الثالثة في التذكير بالوحدانية، وباليوم الآخر ومجيئه، وأنه

لا شك فيه، وكيف يكون شك وأصدق الصادقين الله هو الذي حدثنا عنه!!! فما صلة هذه المعاني بالسياق؟ إن الصلة بين هذه المواضيع والقتال واضحة، فالقتال يترتب عليه أسر للمسلمين، أو سجن لهم، أو اضطهاد لهم، وفي هذه الحالات قد يشفع ناس بالخير، وقد يحرض ناس على المسلمين- المبتلين- بشر، ومن ثم جاءت الآية في هذا السياق للندب إلى الشفاعة بخير. وفي عملية القتال، قد تظهر بادرة أخلاقية عند الكافرين فعلينا أن نقابلها بمثلها، أو أحسن منها، أو قد تظهر رغبة في السلام من أعداء الله، فعلينا أن نقابل هذه المبادرة بمثلها، مع ملاحظة شروط السلام كما هي في الإسلام، لا كما هي في اصطلاحات العالم كما سنرى ذلك، والتذكير بالله واليوم الآخر في هذا السياق واضح الصلة، فلا قتال في سبيل الله إذا لم يرافق ذلك إيمان بالله واليوم الآخر. وبعد الآيات الثلاث يعود السياق إلى الموضوع الرئيسي. فالقتال يقتضي صفا موحدا، وموقفا موحدا، ومن ثم تأتي الآيات في السياق تنكر على المؤمنين انقسامهم في أمر المنافقين إلى قسمين: قسم يريد قتلهم، وقسم يرى مسالمتهم بعد أن أظهر الله ضلالهم، من خلال مواقفهم، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول صلى الله عليه وسلم. واتباعهم الباطل، ورغبتهم في تكفير المسلمين. فكيف يصح أن يكون منهم موقف لين؟ وإذا كان سبب الموقف اللين هو الرغبة في هدايتهم، فهذا في غير محله بعد أن تبين أن الله يريد إضلالهم، وإذ تتحدد هذه المعاني، فلا مجال بعد ذلك لأن ينقسم المسلمون في أمرهم قسمين، بل ينبغي أن يكون الموقف واحدا، وهو ترك توليهم، ثم قتلهم حيث كانوا- وهذا متوقف على شرط، وعدم اتخاذ ولي منهم أو نصير. ثم استثنى الله- عزّ وجل- من الأمر بالقتل والقتال، ناسا لجئوا وتحيزوا إلى قوم بيننا وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة، فعندئذ يأخذون حكمهم، كما استثنى ناسا رغبوا في مهادنة المسلمين، وقلوبهم لا ترغب في قتال المسلمين، ولا في قتال قومهم مع المسلمين، فدخلوا مع المسلمين في عهد أن يكونوا على الحياد، وقبل المسلمون منهم ذلك، فإن الله- عزّ وجل- أجاز لنا عدم قتلهم وقتالهم، وذلك من لطفه تعالى بنا، إذ أعطانا بهذا فرصة كيلا يقاتلنا الناس جميعا، أو نضطر لقتال الناس جميعا. ومن ثم أمرنا الله ألا نقاتل هؤلاء ما داموا مسالمين، ملتزمين بما التزموا به. وهذه الآيات والتي بعدها مباشرة قد لا تفهم فهما جيدا إلا بعد استعراض المعنى الحرفي. وذلك أن الكلام عن المنافقين مختلط بالكلام عن الكافرين في موضوع الأمر بالقتل والقتال، وما يستثنى من ذلك، وما لا يستثنى. وتطبيقات ذلك على عصرنا، كل ذلك نرجو أن يتضح أثناء

المعنى الحرفي

التفسير الحرفي، والفوائد التي نلحقها به. ولنعد إلى السياق، فبعد أن استثنى الله ناسا من الأمر بالقتل والقتال، يذكر الله ناسا يأمر بقتلهم وقتالهم، يشبهون المستثنين في الصورة ويختلفون عنهم في الحقيقة والنية، هؤلاء الذين يأمر الله بقتلهم وقتالهم قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار بالباطن، ومتى وضعوا في أدنى وضع من الفتنة عن الإسلام، دخلوا فى الكفر والشرك وانهمكوا به، وأظهروا إخلاصهم له، بل أصبحوا في صف الكفر إيذاء وقتالا للمسلمين، هؤلاء أمر الله في شأنهم إذا لم يعتزلوا قتال المسلمين، ويعلنوا الإسلام، ويكفوا أيديهم عن إيذاء المسلمين، أن يقتلوا، ولأن هذا الموضوع قد يتحرج منه بعض الناس ختم الله الآية بقوله وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي: بينا واضحا. وبعد أن أمر الله هذه الأمة بالقتل والقتال حذر هذه الأمة أن تستجرها جرأتها على قتل أعدائها إلى أن تتجرأ على أن يقتل بعضها بعضا، وكان التحذير شديدا، فقد بين الله- عزّ وجل- في الآيات الأخيرة من هذا المقطع، أنه ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، وإذ كان هذا النهي جازما، والمؤمن في الأصل لا يخالفه، بين تعالى أنه تتصور حالة واحدة من الحالات، يمكن أن يقتل مؤمن مؤمنا، وهي حالة الخطأ. ثم بين أنه في حالة تلبس المؤمن بالقتل الخطأ فماذا يفعل؟ يختلف الحكم بين ما إذا كان هذا المؤمن المقتول خطا من قوم كافرين، بيننا وبينهم ميثاق، أو كان من قوم كافرين ليس بيننا وبينهم ميثاق، فإن كان مؤمنا من قوم بيننا وبينهم ميثاق، فعلى القاتل الدية والكفارة، وإلا فالكفارة دون دية، والكفارة إما عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، تلك توبة القاتل خطا. أما الذي يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه الخلود في نار جهنم، واستحقاق غضب الله، ولعنته وعذابه الأليم الشديد، ثم يأتي مقطع جديد مرتبط بالمقطع السابق بشكل عام، وبدايته مرتبطة بما قبلها مباشرة وسنرى ذلك. المعنى الحرفي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر والحذر واحد، والحذر التحرز، وأخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه، ويعصم بها روحه، والمعنى: كونوا دائما حذرين، متحرزين، متيقظين من عدوكم وعلى عدوكم. فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً الثبات: واحدها ثبة، وهي الجماعة،

[سورة النساء (4): آية 72]

وكلمة جميعا هنا حال، والمراد مجتمعين، فالأمر الثاني بالنفير العام، والنفر: الخروج للعدو. والمعني: فاخرجوا إلى قتال العدو، جماعات متفرقة سرية بعد سرية، وجماعة بعد جماعة، عصابة بعد عصابة أو اخرجوا مجتمعين، فهو أمر بالقتال، إما بالخروج المجزأ، وإما بالنفير العام، حسب مقتضيات الأحوال. ويدخل في الأمر بالقتال ثُباتٍ القتال على طريقة حرب العصابات، حتى إن ابن كثير فسر ثبات فقال: أي عصبا. ففي الآية أمران، أمر بالحذر، وأمر بالقتال، والأمر بالقتال على حسب مقتضيات الأحوال. والمهم ألا يترك المسلمون القتال في سبيل الله على قدر ما يلزم، وبحسب ما يمكن. وسنرى في هذا المقطع أن بأس الكافرين لا ينكف عنا إلا بالقتال، ولو بقتال فردي، فما أكثر غفلة المسلمين حين تركوا القتال حتى تغلب الكافرون على أرضهم، وسيطر المرتدون على بلادهم، فذلوا ببلادهم لعدوهم، وطمع بهم كل طامع. وإذا لم يعودوا إلى دينهم بإحياء فريضة القتال على قدر المستطاع، فلن تكون كلمة الله هي العليا لا في أقطارهم، ولا في العالم، وهذا الذي ورد في الحديث «إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم جهادكم، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». فكأن ميزان الرجوع إلى الإسلام هو الجهاد وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، أي: وإن منكم أيها المسلمين لمن أقسم جازما ليتثاقلن، وليتخلفن عن الجهاد، وقد عرفنا القسم من وجود اللام في قوله تعالى: لَيُبَطِّئَنَّ، وقوله تعالى مِنْكُمْ. أي: من المسلمين، أي في الظاهر دون الباطن وهم المنافقون، ويحتمل أن يكون من المسلمين أنفسهم، ولكن ممن اختلت تصوراتهم، وكثر جهلهم، وفسد تقديرهم للأمور، ونظروا للأمور كلها من خلال مصلحتهم الذاتية، ومنفعتهم الخاصة. ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول- قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويثبط الناس عن الخروج فيه، وهذا قول ابن جريج، وابن جرير، وقد يفعل هذا الذي يفعله المنافقون كثير من بسطاء المسلمين ممن لا يصدرون في أحكامهم عن شرع، أو فتوى، وإنما يصدرون أحكامهم بناء على ما يتصورونه مصلحة لأنفسهم، أو لناس من المسلمين، وهم بهذا يقتلون أنفسهم، ويقتلون المسلمين، وهم وإن لم يكونوا منافقين نفاق عقيدة، فإن عملهم هذا يستحقون به دخول النار، لجرأتهم على تعطيل فريضة الله، وعلى الفتوى بغير علم. والذي قلناه في كون من لا يتصف بنفاق العقيدة قد يقف نفس الموقف، بناء على أن كثيرين من الناس

[سورة النساء (4): آية 73]

قد يصابون بأمراض المنافقين أو الكافرين ويتخلقون بأخلاقهم، وإن لم يكن ثمة كفر أو نفاق، ولكنه الفسوق والمرض والانحراف فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل أو هزيمة أو كارثة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. أي: قال هذا المبطئ قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع المسلمين الذين شهدوا القتال حاضرا، فيصيبني مثل ما أصابهم، يعد عدم حضوره مع المسلمين وقعة القتال، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ. أي: من فتح أو نصر أو غنيمة لَيَقُولَنَّ. أي: هذا المبطئ متلهفا على ما فاته من الغنيمة، لا طلبا للمثوبة كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. أي: كأنه لم يتقدم له معكم مودة، لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. قال ابن كثير في تفسيرها: كأنه ليس من أهل دينكم. يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. أي: يا ليتني كنت معهم فآخذ من الغنيمة حظا وافرا، فهذا أكبر قصده وغاية مراده، أن يضرب له بسهم مما ينال المسلمون من خير. هذا هو منطق هؤلاء، وتصورهم، ينظرون إلى الأمور من خلال مصلحتهم ومنفعتهم لا من خلال أداء ما أوجب الله عليهم، ويقيسون الأمور بمقياس الربح والخسارة الدنيويين لا بمقياس طاعة الله، ومعرفتهم بالله قاصرة، إذ يتصورون أن تخلفهم عن الواجب مع نجاتهم من المصائب دليل رضى الله. وإذا أصاب المسلمين مصيبة وهم يقومون بواجبهم يعتبرون ذلك علامة خطأ ابتداء وانتهاء ناسين أن المسلمين الذين يصابون، على فرض أنهم أصيبوا نتيجة خطأ، فإن إصابتهم تكفر عنهم سيئاتهم، وفي قيامهم بالواجب أسقطوا فرض الله عنهم، وهؤلاء المثبطون والمتباطئون لم يفعلوا هذا وهذا. وإذ بين الله- عزّ وجل- حقيقة هذه النوعية من الناس الذي موقفها ترك القتال، والتثبيط عنه، يصدر الله- عزّ وجل- أمره التالي: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ يحتمل النص معنيين على حسب ما تفسر به كلمة الشراء، لأنها من كلمات الأضداد في اللغة العربية، تطلق على البيع والشراء بآن واحد، ويحدد ذلك السياق. فعلى أن المعنى المراد بها البيع يكون المعنى: فليقاتل المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة، ويستبدلونها بها. فليقاتل هؤلاء في سبيل الله فلئن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال، فليقاتل الثابتون المخلصون. وأما معنى النص على أن المراد الشراء فيكون: فليقاتل هؤلاء

[سورة النساء (4): آية 75]

المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة. فعلى هذا فإن النص يكون وعظا لمن ذكروا في الآية السابقة من أجل أن يغيروا ما بهم من النفاق، ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله، ويجاهدون في سبيل الله حق جهاده، فذلك هو الدواء لنفاقهم، والأول أقوى. ثم يبين الله- عزّ وجل- ما أعد لمن قاتل في سبيله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. أي: كل من قاتل في سبيل الله، سواء قتل أو غلب، فله عند الله مثوبة عظيمة، وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين: «وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة». قال النسفي: وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافرا، أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: وأي شئ لكم تاركين القتال، وقد ظهرت دواعيه، وهذا الاستفهام فيه معنى التنبيه على الاستبطاء إن قاتلنا، والإنكار إن لم نقاتل. ثم قال: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ. إذا اعتبرنا أن الواو في قوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ للعطف، يكون المعنى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، وفي خلاص الْمُسْتَضْعَفِينَ .... وإذا اعتبرناها للاستئناف كان المعنى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين من المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه، ولكل عصر مستضعفوه، وما أكثر المستضعفين في عصرنا، وما أقل قتالنا. والمستضعفون ساعة نزول الآية هم الذين أسلموا بمكة، وصدهم المشركون عن الهجرة، فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين، يلقون من المشركين الأذى الشديد، وذكر الولدان تسجيل لإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم، وفي عصرنا يفتن صغار المسلمين عن دينهم في مدارسهم، وفي غير ذلك بألوف الوسائل، فهل يعقل المسلمون، ويقاتلون لإسقاط الأنظمة الكافرة بالطرق التي تمكنهم منها وسائل عصرنا؟. ثم وصف الله حال هؤلاء المستضعفين الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها القرية الظالم أهلها يوم نزول الآية هي مكة، والوصف يصدق على كل حالة مشابهة. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على أعدائنا، فهم يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه، أقول: إذا توجه مثل هذا الخطاب وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ من أجل المستضعفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم ما هم؟ في القيام بأمر الله، فماذا يقال لجيلنا الذي

[سورة النساء (4): آية 76]

ترك القتال فذل المسلمون في كل مكان. فهل من قتال لإنقاذ المستضعفين من جديد ثم ذكر الله- عزّ وجل- الفارق بين قتال المؤمنين وقتال الكافرين فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. أي: المؤمنون يقاتلون طاعة لله تعالى، وفي الطريق التي شرعها، والكافرون يقاتلون طاعة للشيطان، وفي طريقه المعوجة التي يضل بها. وكل قتال غير قتال المسلمين هذا شأنه، وهذا ترغيب للمؤمنين في القتال، لأنه ما دام في سبيل الله فالله وليهم وناصرهم. ثم هيج الله المؤمنين على قتال أعدائه فقال فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. أي: أنصاره وهم الكفار بأصنافهم ومنهم المرتدون. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ. أي: وساوسه، والكيد: هو السعي في فساد الحال، على جهة الاحتيال. كانَ ضَعِيفاً لأنه غرور لا يؤول إلى محصول، ولأن كيده في مقابلة نصر الله ضعيف .. وفي هذا تجريء للمسلمين على القتال، إذ ما دام الشيطان هو ولي الكافرين، وهذا شأن كيده، وما دام الله هو ولي المؤمنين، وتعالى شأنه، فكيف لا يجرؤ المؤمنون على الكافرين. وفي كل زمان يوجد من يخشى القتال، حتى من المؤمنين، وفي جيلنا يوجد من يتصور أن الإسلام مجرد صلاة وزكاة، أما أن يكون الإسلام قتالا فلا، وفي جيلنا يوجد من يتصور أن التقوى في الصلاة والزكاة، وكلها تصورات فاسدة، يطهر الله عباده المسلمين المتقين منها بالآيات التالية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ كان ذلك في ابتداء الإسلام إذ كان المسلمون مأمورين بالصلاة ومواساة المحتاج منهم، والعفو والصفح وترك القتال، وكانوا وهم في مكة يتمنون أن يؤذن لهم بالقتال. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ. أي: فرض عليهم وأمروا به، وذلك بعد إذ كانوا في المدينة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. أي: يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه، لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفورا عن المخاطرة بالأرواح، وخوفا من الموت. كانوا يودون القتال، فلما أمروا به جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: هذه خشية طبع، لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقادا، فالمرء مجبول على كراهة ما فيه خوف هلاكه غالبا. دلت الآية على أن هناك ناسا خشية الله عندهم لا يعدلها شئ بدليل تشبيه خشية هؤلاء من الناس بخشية من يخشى الله. ومن المعلوم أن المشبه به أقوى من المشبه، فالآية تعني أن هذا الفريق الذي خشي الناس إذ أمر بالقتال قد خشي الناس مثل أهل خشية الله، أي

[سورة النساء (4): آية 78]

مشبهين لأهل خشية الله. أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. أي: أو أشد خشية من أهل خشية الله. وأو في الآية للتخيير، أي إن قلت خشيتهم الناس كخشية الله، فأنت مصيب، وإن قلت إنها أشد فأنت مصيب، لأنه حصل مثلها وزيادة. ولا يعني هذا أن خشية الله عند أهلها ليست على كمالها حتى يكون عليها مزيد، بل إن خشية الله عند أهلها يرافقها معرفة بجمال الله وفضله، ولذلك فإن الخشية يرافقها عادة رجاء، أما هؤلاء فإن خشيتهم من الناس أعمت قلوبهم حتى لم يبق معها محل لغيرها، ولذلك زادت على خشية الله. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ. سألوا عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم، لا اعتراضا لحكمه بدليل أنهم أجيبوا على سؤالهم بما يأتي. وبدليل أنهم اقترحوا أن يؤخر فرضه عليهم إلى مدة أخرى. لقد طلبوا التأجيل ولو إلى أمد قريب، رغبة في الحياة، وتجنبا لسفك الدماء، ويتم الأولاد وتئيم النساء. وهي حالة مرضية، عالجها الله تعالى، بلفت النظر إلى حقيقة الحياة الدنيا، وإلى حقيقة الموت. قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى. أي: متاع الدنيا قليل زائل. ومتاع الآخرة دائم، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل. فكيف بالقليل الزائل. وقيد كون الآخرة خيرا للمتقين لأنهم هم الذين في حقهم الآخرة خير من الدنيا أما الكافرون، فإن الآخرة شر لهم من الأولى. وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. هذا النص في سياقه يعني: أنكم لا تنقصون أدنى شئ من أجوركم على مشاق القتل، فلا ترغبوا عنه. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. أي: أنتم صائرون إلى الموت. والموت واصل إليكم. والحذر لا ينجي من القدر. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. أي: الموت يصل إليكم، ولو كنتم في حصون أو قصور حصينة، منيعة، عالية، رفيعة. وبهاتين القضيتين، تعالج كراهية القتال، وحب الحياة: معرفة حقيقة الدنيا بالنسبة للآخرة. ومعرفة أن الموت لا يتقدم، ولا يتأخر. ثم ذكر الله- عزّ وجل- مرضا آخر، وقع فيه هؤلاء الطالبون لتأخير فريضة القتال وهو مرض يصيب الكثيرين خاصة في حالات الصراع مع أهل الكفر عند ما يصاب أهل الإيمان، وكل من المرضين يمكن أن يصاب به المسلمون في كل زمان ومكان. وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ. أي: نعمة من خصب ورخاء. يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وهي كذلك. ولا اعتراض على هذا. ولكن الاعتراض على ما بعده. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ. أي: بلية من قحط

[سورة النساء (4): آية 79]

وشدة. يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي: أضافوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الآية، وفي كل عصر يمكن أن ينسبها أمثالهم إلى وراثه صلى الله عليه وسلم والمعنى أن هؤلاء يعتبرون ما هم فيه من خير من الله، وهذا صحيح. وما يصيبهم من شدة، يعتبرون ذلك شؤما سببه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. أي: كل ذلك من عند الله. فهو يبسط الأرزاق، ويقبضها. وكل شئ فعله. ثم أنكر الله- عزّ وجل- عليهم اعتقادهم هذا بقوله: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. أي: لا يكادون يفهمون حديثا، فيعلمون أن الله هو الباسط، القابض. وكل ذلك صادر عن حكمه. ثم بين الله- عزّ وجل- تفصيل هذا الموضوع، بما يجمع ما بين معرفة الواقع: أن كل شئ صادر عن الله وبفعله، وأن لنزول المصائب التي ينزلها بعباده أسبابا مع أن الكل فعله. ولكن فعله لا يكون إلا مقرونا بالحكمة. فقال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ. أي: من نعمة، وإحسان فَمِنَ اللَّهِ. تفضلا منه، وامتنانا. إذ لا أحد له عليه شئ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ. أي: من بلية ومصيبة، فَمِنْ نَفْسِكَ. أي: فمن عندك أي: فبما كسبت يداك أيها الإنسان. ومن هنا عرفنا خطأ أولئك. فبدلا من أن يرجعوا إلى الله رجوعا عاما، عن معاصيهم، ليرفع الله عنهم بأسه، أرجعوا سبب المصائب إلى وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم وهو الرحمة. ولذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا: فأنت رحمة، وأنت معصوم، وأنت مبلغ، وعليهم أن يتركوا ما هم عليه مما يخالف رسالتك، لينالوا بر الله، وفضله، لا أن يعصوك، ثم يحملوك مسئولية ما ينزل عليهم. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. أي: على أنه أرسلك وهو شهيد أيضا، بينك، وبينهم. وعالم بما يكلفهم إياه. وبما يردون عليك من الحق؛ كفرا، وعنادا. وما أقل الفاهمين عن الله. وما أكثر المتقولين على الله. ولعلنا لا نحتاج إلى أي إيضاح إضافي حول ارتباط هذا المعنى الأخير بسياق مقطع القتال هذا. إذ من يقود المسلمين في صراعهم، وقتالهم، كثيرا ما ينسب إليه الذين في قلوبهم مرض مسئولية ما يصيبهم. وقد لا يكون هو السبب، وقد يكون أحيانا. ونحن نتكلم عن من يقود المسلمين قيادة راشدة، كوارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا السياق- سياق القتال- يأتي الآن حديث عن الطاعة. ونحن نعلم أن كل من كتب في فن الحرب، من كافر، أو مسلم يجمع على أن أي جيش في العالم، لا يستطيع أن يربح معركة، ولا تستطيع أمة أن تربح في أي مجال من مجالات الحياة، إلا

[سورة النساء (4): آية 80]

بانضباط، وطاعة. ونحن المسلمين مكلفون بالطاعة بشرط أن تكون الطاعة مبصرة، ولأهلها. ومن ثم تأتي الآيات الثلاث القادمة مقررة ومعالجة ومبينة. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ... : وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله، ومن أدرك هذه الحقيقة، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم منتهى الطاعة، وكان في غاية الانضباط، وهذا ما كان، وهذا مظهر من مظاهر المعجزة التي خلقها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم في أمة العرب، وقد أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الطاعة التي تعني طاعة الله في النهاية، طاعة الأمراء كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني، فقد عصى الله. ومن أطاع الأمير، فقد أطاعني. ومن عصى الأمير وهناك- رواية يقول: ومن عصى أميري- فقد عصاني». والملاحظ في هذا الحديث على إحدى رواياته، أنه أطلق لفظ الأمير. والمراد به الأمير المسلم، المؤمر بالحق والسائر بالحق والقائم بالحق، وأول من يدخل في ذلك، أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمراء الخلافة الراشدة. وَمَنْ تَوَلَّى. أي: ومن أعرض عن الطاعة: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. أي: فما أرسلناك عليهم تحفظ أعمالهم؛ وتحاسبهم عليها وتعاقبهم. بل أمر ذلك إلى الله، وفي ذلك تهديد لمن أعرض عن الطاعة. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين من كونهم يظهرون الموافقة والطاعة. ويبيتون الخلاف، والعصيان. وَيَقُولُونَ طاعَةٌ. أي: ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء: أمرنا وشأننا طاعة. فَإِذا بَرَزُوا. أي: خرجوا. مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ. بيت: بمعنى: زور وسوى من البيتوتة، لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل. والمعنى: زور طائفة منهم في أنفسهم خلاف ما قلت وما أمرت به، أو خلاف ما قالت، وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ. أي: والله يثبت ما بيتوه في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: فتول عنهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم، فإن الله يكفيك مضرتهم، وينتقم لك منهم، ويتولى أمرهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا كافيا لمن توكل عليه. أمره في مقابل عملهم أن يجمع بين التوكل عليه، والإعراض عنهم، ثم بين علة مرضهم، وهو عدم التدبر لكتاب الله. وهذا يعني أنه بقدر ما تربى الأمة على التدبر لكتاب الله، ينمو الانضباط الصحيح، والطاعة المبصرة. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. أي: أفلا يتأملون معانيه ومبانيه. والتدبر: التأمل والنظر في أدبار الأمر

فائدة

وما يؤول إليه في عاقبته. ثم استعمل في كل تأمل. والتفكر: تصرف القلب بالنظر في الدلائل ثم قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعم الكفرة لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. أي: لوجدوا فيه تناقضا كبيرا في معانيه، بينما نجد معانيه يكمل بعضها بعضا في التوحيد، والتحليل والتحريم، والتربية والإخبار. أو المعنى: لوجدوا فيه تفاوتا من حيث البلاغة، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، أو لوجدوا فيه تفاوتا كثيرا من حيث المعاني، فكان بعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، أو هذا كله. وفي كتابنا- الرسول صلى الله عليه وسلم- في بحث المعجزة القرآنية ذكرنا شيئا عن هذا، فليراجع. فائدة: استدل علماؤنا بهذه الآية فردوا على بعض الطوائف التي تقول: إن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام، واستدلوا بها على صحة القياس. أما هي في سياقها فإنها تشير إلى مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن الذي يقطع شك الشاكين، ويزيل تردد المترددين في أمر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا من قبل أن تدبر القرآن هو الطريق لتربية الأمة الإسلامية على الطاعة والانضباط. ثم ذكر الله- عزّ وجل- قضية أخرى مهمة في موضوع الحرب والقتال، لها علاقة بحرب الإشاعات، والحرب النفسية، تحدث عنها، ووضع علاجها. فالله- عزّ وجل- يريد من هذه الأمة أن تكون لديها مناعة ضد الحرب النفسية وضد حرب الإشاعات وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. الإذاعة: الإفشاء والنشر، والأمن: السلامة والسلم، والخوف: الخلل، أو الخطر، أو الهزيمة، أو الإصابة. والمراد أن هناك ناسا إذا بلغهم الخبر عن سرايا المسلمين وجيوشهم، كانوا يشيعونه ويذيعونه، فيترتب على ذلك خلل في المجتمع الإسلامي، ولذلك فقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على التثبت، ففي الصحيحين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال» أي الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر، وفي الصحيح: «من حدث بحديث، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»، وفي سنن أبي داود «بئس مطية الرجل زعموا». وهاهنا في الآية، بعد أن أنكر الله- عزّ وجل- على من يروج الإشاعات في المجتمع

الإسلامي، بين الطريق العملي، والموقف الصحيح من هذه الإشاعات، فقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ. أي: ولو ردوا الخبر أو الإشاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكبار أصحابه البصراء في الأمور في زمانه، أو لو ردوه إلى خلفائه، وأمراء المسلمين من بعده لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. أي: لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستخرجون تدبيره، وما ينبغي فعله ممن عندهم قدرة على ذلك بفطنتهم، وتجاربهم، ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. دلت الآية على أن هناك أناسا عندهم قدرة على الاستنباط للحلول والأحكام لما يجد أو يحدث، أو يقع. وقد فسرنا الآية بما مر، وهو أحد اتجاهين في تفسيرها، فعلى هذا الاتجاه الذي ذكرناه، هي في الإشاعات التي تصل إلى المجتمع الإسلامي بشكل من الأشكال، مما يخدم مصلحة العدو، وعلاج ذلك هو ترك أمر معالجة هذه الإشاعات إلى أمراء المسلمين، وإهمال الإشاعة، وعدم التحدث عنها، وفي ذلك إماتتها. وفي قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إشارة إلى أن إبلاغ الإشاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أولي الأمر لا مانع منه، ولكن إشاعة الأمر وتداوله هو الخطأ. وهناك اتجاه آخر في تفسير الآية وهو كذلك قضية ينبغي أن تلاحقها الجماعة المسلمة، هذا الاتجاه هو: أن بعضهم كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر، فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعة الخبر الفاسد بالشر، ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم، وفوضوه إليهم، وكانوا كأن لم يسمعوا، لأعطوا الذين يدبرون الأمور ويديرونها، ويخططون لها، فرصة الإدارة الصالحة، فيعرفون ما يأتون وما يذرون. وهذا اتجاه في التفسير ينبغي أن يلاحظ تطبيقه. والنبط: هو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، واستنباطه استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يفعل. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- هذه القضية المهمة في شأن القتال، ذكر أن الاستعداد النفسي عند الإنسان يوصله لاتباع الشيطان في هذه القضايا وغيرها، لولا أن الله قضت حكمته أن يتدارك المسلمين بفضله، ويتولاهم، وفي ذلك إشارة إلى أن نشر الإشاعات من الشيطان، وفي ذلك إشارة إلى ضرورة الشعور بفضل الله ورحمته، والتوكل عليه، لأنه مولى المؤمنين، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتزكيته لكم وَرَحْمَتُهُ بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنزال كتابه، وحفظه لكم، لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يوسوس إِلَّا قَلِيلًا. أي: إلا قليلا منكم، وهم من صفت فطرتهم، بما فطرهم الله عليه من كمال عقل. وقال ابن

[سورة النساء (4): آية 84]

عباس في تفسيرها: لاتبعتم الشيطان كلكم، لأن القليل في اللغة يطلق على العدم. فائدة: في الحديث المتفق عليه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد، فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه أطلقت نساءك؟ فقال: لا. فقلت: الله أكبر. وذكر الحديث بطوله. وعن مسلم: فقلت أطلقتهن؟ فقال: لا. فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ... فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. نفهم من هذا أن الاستنباط، ورد الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر ليس خاصا في قضايا القتال التي فهمناها من خلال السياق. وإذا لاحظنا أن أولي الأمر في المقطع السابق فسرت بالعلماء على أحد أوجه التفسير ندرك وجاهة من يدخل في هذه الآية قضية الاجتهاد الذي هو استنباط الأحكام لما يجد، وقضية المجتهدين الذين أهلتهم ملكاتهم وعلمهم وتقواهم لاستنباط الأحكام. وبعد أن أمر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع أمرا عاما للمؤمنين جميعا أن يقاتلوا على طريقة حرب العصابات، أو على طريقة الحرب النظامية، أو على حسب مقتضيات الجهاد، وعاب على المتباطئين والمثبطين، وعالج مرض الراغبين في تأخير القتال، وربى المسلمين على الطاعة والصمت، والكتمان، يصدر الآن أمرا لكل فرد على حدة من خلال الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل، وأن يحرض المسلمين على القتال، مبينا أن بأس الكافرين لا ينكف إلا بذلك، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ. أي: لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود. والمعنى: وإن أفردوك وتركوك وحدك، فقاتل. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ. أي: حضهم على القتال ورغبهم فيه، وشجعهم عليه عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: عسى الله بتحريضك على القتال، وقتالك، أن يكف بطش الذين كفروا وشدتهم، وعسى كلمة مطمعة، غير أن إطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الكافرين وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي: وأشد تعذيبا، يفهم من ذلك: أن بأس الكافرين شديد، وتنكيلهم بالمؤمنين شديد، ولكن بأس الله وتنكيله أشد. وقد دلت الآية أن بأس الكافرين الشديد، وتنكيلهم الشديد بالمؤمنين،

فوائد

لا ينكفان إلا بقتال، وتحريض على القتال بالخطب والمحاضرات وبالنشرات والرسائل، والكتب، ليرتفع عن المؤمنين بأس الكافرين وتنكيلهم. فوائد: 1 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال: سألت البراء ابن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؟ قال: قد قال الله لنبيه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ رواه الإمام أحمد بنفس المعنى مع زيادة، وإنما ذكرنا هذه الفائدة ليعلم أن الصحابة فهموا أن هذا الأمر للأمة كلها لا لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. 2 - من أمثلة تحريضه عليه الصلاة والسلام للمؤمنين على القتال، قوله عليه الصلاة والسلام يوم بدر: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ومن ذلك ما رواه البخاري في التحريض على الجهاد المندوب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها» - هذا حيث لا تكون الهجرة واجبة- قالوا: يا رسول الله: أفلا نبشر الناس بذلك فقال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة. وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة». أقول: هذا في الجهاد المندوب، أما إذا كان الجهاد فرضا فجزاء تاركه النار إلا أن يشاء الله- عزّ وجل- والآن تأتي ثلاث آيات في مقطع القتال هذا، لا علاقة لها في الظاهر بموضوع القتال، ثم تأتي آيات لها علاقة بالقتال، فما الحكمة في مجئ هذه الآيات ضمن هذا السياق؟ كنا ذكرنا أكثر من مرة أن من مظاهر حكمة الله في القرآن، ومن مظاهر الإعجاز، أنك تفهم من النص شيئا، ومن سياقه القريب شيئا، ومن سياقه العام شيئا، وأن هذا كله يكمل بعضه بعضا، وهذا يسبب توالدا في المعاني القرآنية فلا تتناهى، فالآيات الثلاث هنا مرتبطة بمعاني القتال كما سنرى، وهي تعطي معاني مقصودة بذاتها مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً الشفاعة الحسنة هي: ما كانت في دفع شر، أو جلب نفع مع جوازها شرعا يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها. أي: من ثوابها، والمعنى: أن من يسعى في أمر فيترتب

[سورة النساء (4): آية 86]

عليه خير كان له نصيب من ذلك الخير، وقد ثبت في الصحيح عنه (عليه الصلاة السلام) أنه قال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء». قال مجاهد ابن حبير: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً. الشفاعة السيئة: ما كانت في جلب ضر، أو دفع نفع، أو كانت غير جائزة شرعا. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها. أي: يكن عليه نصيب من إثمها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً. أي: مقتدرا من أقات على الشئ: اقتدر عليه، أو حفيظا من القوت، لأنه يمسك النفس، والحفيظ: شهيد وحسيب. فما محل هذه الآية في السياق؟ قال النسفي: قال ابن عباس- أي في هذه الآية- ما لها مفسر غيري. معناه: من أمر بالتوحيد وقاتل أهل الكفر «أي: فقد شفع شفاعة حسنة». وإنما نقلنا كلام ابن عباس هذا ليعلم أن من المفسرين من فهم هذه الآية على ضوء السياق. وعلى هذا فإن ابن عباس يفهم أن الشفاعة الحسنة هي القتال في سبيل الله، وذلك لأنها وحدها تنقذ المستضعفين وأمثالهم. وأن الشفاعة السيئة هي القتال في سبيل الشيطان؛ لما يترتب عليه من ظلم لأهل الإيمان. ويمكن أن نفهم الصلة بين هذه الآية وما قبلها من حيث إن القتال يترتب عليه أسر، أو سجن، أو مصائب لأهل الإيمان، أو لأهليهم، فجاءت الآية تحض من يستطيع الشفاعة أن يشفع. وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. أي: إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة. وفسرت التحية بالسلام لأنها هي التحية في ديننا في الدنيا وفي الآخرة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً. أي: يحاسب على كل شئ من التحية وغيرها. والآن، ما الصلة بين هذه الآية وسياقها؟ يقول صاحب الظلال: لعل المراد منها أن يشار إلى قاعدة الإسلام الأساسية: السلام .. فالإسلام دين السلام وهو لا يقاتل إلا لإقرار السلام في الأرض بمعناه الواسع الشامل، السلام الناشئ عن استقامة الفطرة على منهج الله». ومما يمكن أن يقال عن الصلة: الإسلام أمرنا أن نعامل بعضنا البعض بمكارم الأخلاق، ومن ذلك إفشاء السلام لما يترتب على ذلك من محبة. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم». ووجود المحبة داخل المجتمع الإسلامي شرط أساسي لإمكانية القتال، ومن مظاهر الصلة بين هذه

فوائد

الآية والسياق أن في الآية إشارة نأخذها من السياق وهي: أنه إذا ظهرت بادرة أخلاقية من عدونا فينبغي أن نقابلها بمثلها، أو بأحسن منها، والله أعلم. فوائد: 1 - يستثنى من عموم الآية في الرد بالمثل أو بالأحسن غير المسلم. ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه». وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليكم» نفهم من هذا أن ابتداء غير المسلم بالسلام في الأصل لا يجوز، أما الرد فيجب ولكن ب (وعليكم) فقط. قال ابن عباس: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا، ذلك بأن الله يقول: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها. واستثنى الحنفية من حالة عدم الجواز في البداءة لغير المسلم في السلام، حالة ما إذا كان للمسلم حاجة، فيصح له البداءة بالسلام للذمي، (راجع الهدية العلائية ص 260). أقول: يبدو أن الأوزاعي يعتبر أن الأوامر بمنع الابتداء بالسلام للذمي والتضييق عليه في الطريق أوامر يومية يقتضيها ظرف معين، ولذلك يجيز الابتداء بالسلام للذمي. 2 - روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك، فقال الرجل: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما، أكثر مما رددت علي، فقال: إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فرددناها عليك». قال ابن كثير: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النسفي: ويقال: لكل شئ منتهى، ومنتهى السلام، وبركاته. وروي من طرق في أكثر من كتاب من كتب الحديث «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «السلام عليكم يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس فقال: عشر، ثم جاء آخر فقال:

[سورة النساء (4): آية 87]

السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله، فرد عليه ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه ثم جلس، فقال: ثلاثون» رواه أبو داود والترمذي وغيره. 3 - قال صاحب الهدية العلائية من الحنفية: «ويكره السلام على الفاسق لو معلنا وإلا لا يكره، كما يكره على عاجز على الرد حقيقة كآكل، أو شرعا كمصل، وقارئ، وذاكر، وخطيب، ومن يصغي إليهم، ومكرر فقه، ومن يفصل الأحكام بين الناس حالة الدعوى، وحالة مذاكرة العلم الشرعي، ومؤذن ومقيم، ومدرس، ومن جلس للصلاة والتسبيح، ومن يلبي، والأجنبيات الفتيات، وعلى من يلعب لعبا غير مباح، ومن يغتاب الناس، أو يطير الحمام، والشيخ الممازح، والكذاب، واللاغي، ومن يسب الناس، أو ينظر وجوه الأجنبيات، ما لم نعرف توبتهم، ومن يتمتع مع أهله، ومكشوف عورة، ومن هو في حال قضاء البول، أو التغوط أو ناعس، أو نائم، أو في الحمام، فلا يجب الرد في كل محل لا يشرع فيه السلام، إلا في الفاسق فينبغي وجوب الرد عليه ولا يجب رد سلام الطفل أو السكران، أو المجنون، ولا في قوله «سلام عليكم» «بسكون الميم في سلام». وقوله سلام الله عليكم دعاء لا تحية ... يكره إعطاء سائل المسجد إذا تخطى رقاب الناس، أو مر بين يدي المصلين لأنه إعانة على أذى الناس وإلا لا يكره ... وإن سلم ثانيا في مجلس واحد لا يجب رد الثاني، وقال الحنفية: وينوي بالسلام تجديد عهد الإسلام وأن لا ينال المؤمن بأذى في عرضه وماله. وتتمة أحكام السلام نعرضها في كتابنا- الأساس في السنة وفقهها- ولنرجع إلى السياق: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فله الألوهية وحده. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ هذا قسم منه سبحانه أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله، وأن هذا الجمع لا ريب فيه، ولا شك. وسمي يوم القيامة بذلك، لقيام الناس فيه من قبورهم، أو لقيام الناس للحساب وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً هذا استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أصدق منه في إخباره، ووعده، ووعيده، لاستحالة الكذب عليه، لأن الكذب: إخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه، وهو محال في حقه تعالى، وقد جاء هذا النفي بعد الإخبار عن وحدانيته، وبعد القسم على جمعه الناس يوم القيامة، فليلاحظ، فيا ويح من فاته التوحيد، وفاته الإيمان باليوم الآخر.

[سورة النساء (4): آية 88]

ومجئ هذه الآية في وسط المقطع الذي موضوعه القتال يذكرنا بالغاية من القتال ويحضنا ويهيجنا عليه. فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. أي: فما لكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا ظاهرا، وتفرقتم فيهم فرقتين، وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم. هذا قول النسفي. وروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، فرجع ناس، خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين. فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة». وأخرجاه في الصحيحين. فالحكم فيهم القتل والمرجع في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن شاء قتل، وإلا ترك إذا وجد مصلحة؛ معاملة لهم بظواهرهم. وإذ كان كذلك فما كان ينبغي، ولا ينبغي أن يفترق المسلمون في الموقف. ومن هذا النص، نفهم أن مواقف المسلمين ينبغي أن تكون واحدة. وكيف لا تكون، والكتاب والسنة موجودان، والشورى مقررة، والقيادة على ضوء ذلك كله تتخذ القرار الملزم. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أركس هنا بمعنى: أوقع، ورد، وأهلك، وأضل. أي: والله ردهم إلى حكم الكفار بسبب كسبهم السيئ الظاهري والباطني. فعاقبهم الله على ذلك، بردهم إلى الكفر. ومن ثم كان حكمهم جواز القتل. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ. أي: أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين من جعله الله ضالا، فأركسه، وحكم بكفره، وأجاز قتله. وذلك باللين معهم ومسايرتهم. أو المعنى: أتريدون أن تسموهم مهتدين، وقد أظهر الله ضلالهم. فيكون النص إنكارا على وصف المنافقين بالمهتدين والمؤمنين بعد إذ تبين أمرهم. وعلى المعنى الأول: فالنص إنكار على من يريد أن يلين مع المنافقين بعد إذ تبين له نفاقهم الكامل. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. أي: ومن شاء الله إضلاله، بسبب عمله، فلا طريق له إلى الهدى، ولا مخلص له إليه، ويمكن أن يفهم النص فهما آخر. وهو: أن من شاء الله إضلاله، فلن تجد له طريقا ما. بل هو خابط في كل طريق، وعلى غير هدى، فليس له سبيل واضح. ويكون هذا علامة على المنافق، فمن علاماته، تقلبه، وتناقضه. فهو اليوم على غير ما هو عليه بالأمس، وما يقوله الآن غير ما يقوله وما سيقوله. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا. أي: ود هؤلاء المنافقون، لو تكفرون، كفرا مثل كفرهم. فهم يودون الضلالة للمسلمين، ليستووا هم، وإياهم فيها. دل هذا على ما ذكرناه سابقا، أن الفئة

التي لم تر القتل هي الخاطئة المعاتبة في هذه الآيات. فَتَكُونُونَ سَواءً. أي: ودوا كفركم لتكونوا أنتم وهم مستوين في الكفر. فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أي: فلا توالوهم حتى يؤمنوا، لأن الهجرة في ابتداء الإسلام كانت هي الإعلان العملي عن الإسلام. لأنها دخول إلى دار الإسلام وموالاة عملية لأهله. فكأن الله- عزّ وجل- نهانا أن نتخذ منهم أولياء، إلا بعد إعطائهم الولاء الكامل للإسلام، وأهله، وداره قولا، وعملا، والقضية التي تلفت النظر هنا، هي ذكر عدم التولي حتى تكون الهجرة، مع أن السياق في المنافقين، وهم يخالطون المسلمين في المدينة. والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن ذكر الهجرة في هذا المقام، أفاد شيئين، الأول: أن غير المهاجر ولو ادعى الإسلام، فإنه ما دام مكثرا لسواد الكافرين، عاملا في ظلهم، منفذا لأوامرهم، فهو منافق، ما لم يكن مستضعفا، مستكرها، وهذا حيث وجبت الهجرة وكانت مستطاعة. والثاني: أن من خالط المسلمين، وعاش في دارهم، فحكمه حكم من لم يهاجر، إذ إنه لم يعط لازم الهجرة، من الولاء والطاعة لأهل الإسلام وداره وقيادته، ولم يعاد أعداء الله ويقطع عنهم الولاء. فَإِنْ تَوَلَّوْا. أي: فإن أعرضوا عن الإيمان. وقال ابن عباس: أي: تركوا الهجرة. وقال السدي: أي: أظهروا كفرهم. والمعاني الثلاثة، متكاملة في محلها. في النص والسياق، فالمنافق هو الموالي لأهل الكفر في دارهم، أو في دارنا، المعرض عن إعطاء الولاء لله ورسوله والمؤمنين. فهذا جزاؤه القتل. فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. فههنا أمر، ونهي، في حق هؤلاء المنافقين، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، ونهي عن اتخاذهم أولياء، ونصراء. فليفهم هذا الحكم من لم يفهم حتى الآن، أن من أعطى ولاءه للكافرين، والمنافقين، جزاؤه القتل، والإعراض، والرفض. أما أن يتخذ وليا، ونصيرا، وصديقا، وبطانة، ومستودع سر، وأحيانا قائدا فكيف يكون ذلك إلا من جاهل أحمق، أخرق، أو منافق ضال خداع. وإذن فحكم المنافقين في الأصل في وجوب قتلهم حيث كانوا، كحكم المشركين في وجوب قتلهم حيث كانوا ورفض ولايتهم ونصرتهم؛ لأنها كاذبة خادعة، لا تنبع عن صدق وإيمان. وإنما قلنا بوجوب قتل المنافقين في الأصل من حيث إنه كافر مرتد فيجب قتله ولكن لأن المنافق في دار الإسلام له وضعه الخاص فلا يقتل إلا إذا أظهر نفاقه أو أمر الإمام بقتله ببينة. ويحتمل قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. أي: لا تعطوهم نصرتكم، ولا تقبلوا منهم نصرة. وبهذه الآية والتي

[سورة النساء (4): آية 90]

قبلها، بين الله- عزّ وجل- الحكم الأصلي في المنافقين، وهو القتل، وعدم إعطائهم النصرة، وعدم قبولها منهم حتى يكونوا مؤمنين حقا، علما وعملا. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- الحكم الأصلي في المنافقين، ذكر صورا تدخل تحت هذا الحكم. وصورا مستثناة من هذا الحكم. فذكر من يستثنى من هذا الحكم في الآية اللاحقة وذكر من يدخل تحت هذا الحكم في الآية التي تليها. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. هذه أول الصور المستثناة من حكم القتل. صورة من لجأ وتميز إلى قوم بينهم وبينكم مهادنة، أو عقد. فإن حكمهم، كحكمهم. كما حدث يوم الحديبية. إذ كان من جملة بنود الصلح، أن من أحب أن يدخل في صلح قريش، وعهدهم دخل ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخل. فيكون المعنى بعد فهم هذه الصورة المستثناة: فاقتلوهم، إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق. أي: إلا الذين ينتهون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يتصلون بهم. وهناك مثال يذكره النسفي من السيرة على هذا: أن هلال بن عويمر الأسلمي، وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى مكة، على ألا يعينه، ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال، والتجأ إليه، فله من الجوار مثل الذي لهلال.» والصورة الثانية من الصور المستثناة من الأمر بالقتل: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ. الحصر: الضيق، والانقباض. والمعنى: واقتلوهم إلا من كان ممسكا عن قتالكم، أو قتال قومه، بسبب ضيق نفسه عن هذا، وهذا. فهؤلاء قوم آخرون، مستثنون من الأمر بالقتال. وهم الذين تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين. ولا يستريحوا أن يقاتلوا قومهم معكم. بل هم لا لكم ولا عليكم، وضرب ابن كثير مثالا لهؤلاء فقال: وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين. فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس، ونحوه. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل العباس، وأمر بأسره. وهناك مثال آخر ينطبق على هذه الحالة. وقد ذكره ابن كثير كنموذج للحالة الأولى. ونراه لهذه الحالة. وهذا هو المثال: أخرج ابن أبي حاتم أن سراقة بن مالك المدلجي قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر، وأحد. وأسلم من حولهم. قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي، بني مدلج. فأتيته، فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: صه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دعوه. ما تريد؟». قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في

[سورة النساء (4): آية 91]

الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: «اذهب معه، فافعل ما يريد». فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أسلمت قريش، أسلموا معهم ... ». ونحب أن نشير هنا إلى أن هاتين الصورتين المستثنيتين هنا، إنما تتصوران في المنافقين الموجودين خارج دار الإسلام، أو خارج دولته، والله أعلم. ولنلاحظ أن من لم يربط مصيره بمواقف المسلمين فإن النص يعامله كمنافق. ثم بين الله- عزّ وجل- المنة، والحكمة في هذا الحكم، وفي وجود هذا الصنف من الناس، فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ. أي: من لطف الله بكم أن كفهم عنكم، وإلا فلو شاء الله لقوى قلوبهم، وأزال عنها الحصر، فقاتلوكم. ثم أكد الله- عزّ وجل- استثناء الأمر بقتالهم بقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ. أي: فإن لم يتعرضوا لكم بقتال. وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ. أي: وأعطوكم السلام والمسالمة. فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. أي: طريقا إلى القتال. أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. في هذه الآية ذكر الله- عزّ وجل- حالتين، استثناهما من الأمر بالقتال. وتأتي الآن آية فيها صورة داخلة في الأمر بالقتال. هي من حيث الظاهر، تشبه الصورة الأخيرة الواردة في الآية السابقة. ولكنها تختلف عنها في الحقيقة. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ. هؤلاء في الظاهر كما قلنا، يشبهون المذكورين في الآية السابقة. ولكنهم في الواقع غيرهم. فإن هؤلاء قوم منافقون، يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم، وأموالهم، وذراريهم. ويصانعون الكفار في الباطن. فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم. وهم في الباطن مع الكافرين. فالأولون إذن، مخلصون في موقفهم المحايد. أما هؤلاء، فهم في الحقيقة مع الكافرين، ويتظاهرون أمام المؤمنين بغير ذلك، بدليل تتمة الآية: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها. أي: إذا ردهم قومهم إلى الافتتان عن الإسلام، بإظهار الشرك، والكفر، يفعلون، وينهمكون، ويزيدون على ذلك أن يصانعوا قومهم، فيؤذوا المسلمين، ويقاتلوهم، ويقتلوهم، قال النسفي: أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شرا فيها من كل عدو. هؤلاء أمر الله- عزّ وجل- المسلمين أن يوقفوهم عند حدهم فقال: فَإِنْ لَمْ

[سورة النساء (4): آية 92]

يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. أي: حيث وجدتموهم فتمكنتم منهم، وظفرتم بهم فاقتلوهم. ألزمهم بثلاثة أشياء مجتمعة، فإن أدوها كان بها، وإلا فقد أمر بقتلهم. 1 - اعتزال قتال المسلمين 2 - إعطاء الإسلام الكامل، فالسلم هنا الإسلام، والإلقاء يفيد الإعطاء الكامل، وذلك أن هؤلاء أعلنوا الإسلام فهم مطالبون به، وإلا فهم مرتدون حكمهم حكم المرتد. 3 - كف الأيدي عن إيذاء المسلمين. فإذا لم يعطوا هذه الأشياء الثلاثة، فقد أمر الله- عزّ وجل- بقتلهم وقتالهم. وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة واضحة، إن قاتلتموهم وقتلتموهم، أو تسليطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم. والسلطان المبين، إنما كان بسبب انكشاف حالهم في الكفر والغدر والإضرار بالمسلمين. قال مجاهد في سبب نزول هذه الآية «إنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا، وهاهنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا». والسبب وإن كان خاصا، فالعبرة لعموم اللفظ، وبهذه الآية يكون السياق قد وضح حيثيات في القتل والقتال، قتال الكافرين والمنافقين. وإذ كان الأمر بالقتل والقتال هنا بمثل هذا الوضوح سواء في حق الكافرين أو المنافقين، وإذ كان أمر المنافقين ووضعهم دقيقا، فقد بدأ السياق يحذر بشدة من قتل المؤمنين، ويذكر كفارة القتل الخطأ إن حدث. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً. أي: ليس المؤمن كالكافر الذي تقدمت إباحة دمه، فلا يصح للمؤمن ولا يليق بحاله، ولا يستقيم أن يقتل مؤمنا إلا على وجه الخطأ. والمعنى: من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمي كافرا فيصيب مسلما، أو يرمي شخصا على أنه كافر، فإذا هو مسلم. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة؛ والحكمة في ذلك أنه لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكما. أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.

[سورة النساء (4): آية 93]

الواجب الثاني هو الدية لأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم؛ ومعنى التحرير: الإعتاق، والمراد بالرقبة هنا النسمة المسترقة. ومعنى قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي: ودية مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث. قال النسفي: لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شئ، فيقضى منها الدين، وتنفذ الوصية، وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال وقد ورث رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا. أي: إن هذه الدية واجبة لورثة القتيل إلا أن يتصدقوا بالدية، فالدية واجبة في كل حال، إلا في حال التصدق بها من الورثة. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ. أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار وَهُوَ مُؤْمِنٌ. أي: والمقتول مؤمن فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. هذه هي الكفارة في هذه الحالة، وصورتها: لو أسلم إنسان في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، فقتله مسلم خطأ، تجب الكفارة بقتله، للعصمة المؤثمة وهي الإسلام، ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار لم توجد. قال ابن كثير في تفسيرها: أي إذا كان القتيل مؤمنا، ولكن أولياءه من الكفار أهل الحرب فلا دية له، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. أي: فإن كان أولياء القتيل أهل ذمة أو هدنة، فلهم دية قتيلهم المؤمن كاملة، ويجب على القاتل أيضا تحرير رقبة مؤمنة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. أي: رقبة يعتقها إما لفقره وعجزه عن التملك. أو لعدم وجود الأرقاء كما في عصرنا. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ. أي: فعليه بدل العتق صيام شهرين متتابعين، أي لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس، استأنف. واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا؟ على قولين. هذا كلام ابن كثير. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. أي: هذه توبة القاتل خطأ، إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين. واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار؟ على قولين، أحدهما: نعم وإنما لم ينص عليه هنا لأن المقام مقام تهديد وتخويف وتحذير. والمعنى: شرعه الله ذلك توبة لكم، رحمة منه وقبولا وهو العليم إذ يأمر، الحكيم إذ يقدر ويشرع. وبعد أن بين الله انتفاء القتل العمد عن المؤمن، وبين حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد حال وقوعه فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. أي قاصدا قتله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ أي: انتقم منه وطرده من رحمته. وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً

فوائد

عَظِيماً لارتكابه أمرا عظيما، وخطبا جسيما. فوائد: 1 - ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة». قال ابن كثير: ثم إذا وقع شئ من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإن ذلك إلى الإمام أو نائبه- أقول ولكن هل يأثم من قتل أمثال هؤلاء إثم القاتل؟ حتما لا، وإنما الإثم في تقدمه على الإمام حتى لا يترتب على ذلك مفسدة- أما من حيث إنه قتل مستحقا للقتل فهو مأجور إن فعل ذلك بنية صالحة. 2 - وفي سبب نزول آية القتل الخطأ قال مجاهد وغير واحد: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وهي أسماء بنت مخرمة. (وذلك أنه قتل رجلا يعذبه مع أخيه على الإسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي) - فبسبب من تعذيب ذلك الرجل لعياش وأخيه- أضمر له عياش السوء، فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه، فحمل عليه فقتله، فأنزل الله هذه الآية. 3 - وفي كفارة القتل الخطأ هل تجزئ أي رقبة صغيرة أو كبيرة، رجل أو امرأة؟. الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا، رجلا أو امرأة. 4 - وأما مقدار الدية فقد قال ابن مسعود: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة. هذا لفظ النسائي. وعند الحنفية يجزئ عن الدية عشرة آلاف درهم فضة، وتختلف قيمتها باختلاف سعر الفضة نزولا أو ارتفاعا. وفي يوم جمع هذا الكتاب كان ذلك يعدل حوالي ستة عشر ألفا من الريالات السعودية. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله. قال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة. قال ابن كثير: وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها» قال ابن

كثير: وهذا ما يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا لشبهة العمد. وفي صحيح البخاري عن الزهيري عن سالم عن أبيه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره؛ فقلت والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين» وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم، حتى ميلغة الكلب. وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال، قال النسفي من الحنفية: إن دية الذمي كدية المسلم وهو قولنا. وقد مر معنا في هذه الفائدة أكثر من اصطلاح: العاقلة، شبه العمد، فأما العاقلة: فهي عشيرة الرجل وقبيلته التي يتناصر هو وإياها، وأما شبه العمد: فهو كالعمد إلا أن الأداة فيه ليست قاتلة في الأصل. فمن قتل عامدا بسيف مثلا أو بمسدس فذلك قاتل عمد، وأما من قتل بمثل عصا أو بحجر مما لا يقتل في الأصل فهذا شبه عمد. 5 - في قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ في آية القتل الخطأ مظهرا من مظاهر الإعجاز القرآني العظيم إذ فيه ما يشير إلى دقة اللفظ القرآني بحيث يسع الزمان والمكان، وبحيث يسع تشريعه الزمان والمكان، فقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ. يدخل فيه حالة عدم الاستطاعة، ويدخل فيه عدم الوجود. وفي عصرنا حيث لا يوجد رقاب ورقيق، يدرك الإنسان سعة هذه الشريعة إذ وضعت بديلا مراعاة لمثل هذه الحالة، ومثل هذا الإعجاز في النص وفي التشريع، لا يمكن أن يكون لولا أن هذا القرآن من عند الله رب العالمين. 6 - وفي موضوع القتل العمد، وتفسير الخلود في النار- الذي هدد به صاحبه- قضايا كثيرة، ضل بها من ضل، وخلاصة الحق في هذا الموضوع، أن من قتل مؤمنا قاصدا لأنه مؤمن، أو قتل مؤمنا مستحلا قتله بلا شبهة معتبرة شرعا، فهو كافر، وجزاؤه الخلود الأبدي في النار. أما من قتل مؤمنا عمدا غير مستحل، فهو مؤمن ويستحق المقام الطويل في جهنم إلا أن يعفو الله. وقد قال العلماء: إن في القتل ثلاثة حقوق: حق الله، وحق القتيل، وحق أوليائه. فحق أوليائه الدية أو القصاص، وحق الله يسقط بالتوبة إن قبلها الله، ويبقى حق القتيل يوم القيامة، فإن شاء الله أن يرضي

القتيل أرضاه عن قاتله، وإن شاء عذب القاتل بحق القتيل، وإذا أدخله الله في النار فذلك إليه- سبحانه- ولكن لا يخلد فيها أبدا، كالكافرين لقوله عليه الصلاة والسلام: «يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان» والخلود في اللغة يطلق على المكث الطويل. وفي آية القتل العمد، يدور كلام كثير، وما قلناه مدار كلام أهل الحق. وفي النقل الصحيح عن ابن عباس في هذه الآية قال: «هي آخر نزولا وما نسخها شئ» فليحذر الإنسان أن يقع في دماء المؤمنين. 7 - ومما ورد في القتل العمد: أ- في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» وفي الحديث الذي رواه أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام: «لا يزال المؤمن معنقا (أي مسرعا في سيره) صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بلح» - أي انقطع من الإعياء والوهن-» وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم». وفي الحديث الآخر «لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار» وفي الحديث الآخر «من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله». ب- روى الإمام أحمد عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» وسبب عدم قبول توبة القاتل من حيث إن القتل حق القتيل، وحقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة بالإجماع. فلا بد من ردها إليهم، فإذا تعذر ذلك، فلا بد من المطالبة يوم القيامة. قال ابن كثير: لكن لا يلزم من وقوع المطالبة، وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة، ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك. ج- روى النسائي وغيره عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجئ المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة، آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، قال: ويجئ آخر متعلقا بقاتله فيقول: رب سل هذا فيم قتلني؟ قال: فيقول قتلته لتكون العزة لفلان، قال: فإنها ليست له، بؤ بإثمه، قال فيهوي فى النار سبعين خريفا».

كلمة في السياق

8 - كان ابن عباس يرى أن قاتل العمد لا تقبل توبته، وفي هذا نظر. كيف وقد ثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذى قتل مائة نفس، ثم سأل عالما هل لي من توبة؟ فقال: من يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة، وإذا كان هذا في بني إسرائيل، فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت علينا، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. 9 - ولقاتل العمد أحكام في الدنيا، وأحكام في الآخرة، فأما في الدنيا، فتسليط أولياء المقتول عليه، وهم مخيرون بين أن يقتلوا أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام؟ فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون: نعم يجب عليه، وقال الإمام أحمد وأصحابه وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر، فلا كفارة فيه. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة بحديث رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا: إن صاحبا لنا أوجب، قال: فليعتق رقبة، يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار». كلمة في السياق: إذا كانت سورة النساء في سياقها العام توضيحا لقضية التقوى فإن هذا المقطع بين أن مما يدخل في التقوى القتال ومقتضياته من طاعة، وانضباط وإرادة، وأن مما يدخل في التقوى قتال المنافقين وقتلهم بشروطه، وأن مما يتنافى مع التقوى قتل المؤمن عمدا، وأن مما يدخل في التقوى الكفارة والدية في حالة القتل الخطأ، وأن مما يدخل في التقوى الشفاعة الخيرة ورد السلام، والتوحيد الخالص، والتصديق الكامل. وقد صحح الله- عزّ وجل- بهذا المقطع مفاهيم كثيرة خاطئة عن التقوى، يمكن أن يقع فيها المؤمنون سواء في مواقفهم من قتال الكافرين، أو في مواقفهم من قتال المنافقين. ولنا عودة على السياق فيما بعد إن شاء الله. المقطع السابع ويمتد من الآية (94) إلى الآية (104) وهذا هو:

[سورة النساء (4): الآيات 94 الى 100] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 101 الى 104] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) كلمة في المقطع: هذا المقطع استمرار للمقطع السابق، فبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- عاقبة القتل العمد، أمرنا فى هذا المقطع أن نتبين إذا قاتلنا، وألا نقتل من يقول لا إله إلا الله، حتى ولو قالها أثناء القتال. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه لا يستوي عنده من يقاتل مع من لا يقاتل. ثم بين تعالى وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. إلا للعاجز عن ذلك، ووعد المهاجر السعة، ومراغمة أعداء الله. وفي هذا السياق ذكر قصر الصلاة للمهاجر، وذكر صلاة الخوف، وذكرنا بوجوب إقامة الصلاة كاملة في الأمن. وختمت آيات القتال بالتذكير بوجوب متابعة القتال في كل الظروف ما دامت الحرب قائمة.

المعنى العام

ولنتذكر الآن- ولنا عودة على الموضوع- أن صلاة الخوف قد ذكرت في سورة البقرة في سياق الكلام عن شئون المرأة وطلاقها، ووفاة زوجها عنها. والملاحظ أن المقطع اللاحق لهذا المقطع يأتي فيه كلام عن المرأة والطلاق، وهذا يذكرنا بالقاعدة التي اعتمدناها أن لكل سورة محورها من سورة البقرة، وأن السورة تفصل فى هذا المحور، وفي امتداداته في نفس سورة البقرة. وهذا الذي اتجهنا إليه سنرى ما يؤكده في هذا التفسير شيئا فشيئا، ولا زلنا نعتبر أن ما نذكره هو بمثابة شواهد يتكامل معها الدليل شيئا فشيئا. المعنى العام: يأمر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع عباده المؤمنين إذا قاتلوا في سبيله أن يتبينوا، إذا قاتلوا أو قتلوا، وينهاهم إذا أعلن لهم أحد إسلامه أن يرفضوا إعلانه رغبة منهم في تحصيل عرض من الدنيا بقتله ليأخذوا ماله، ووعدهم الله- عزّ وجل- مغانم كثيرة يؤتيهم إياها من فضله. ثم ذكرهم بأنهم كانوا في يوم من الأيام يسرون إيمانهم، فإذا وجدوا إنسانا يسر إيمانه بين قومه، حتى إذا جاءوا هم أظهره لهم، فكيف يقتلونه، ثم جدد لهم الأمر بالتبين والتثبت إذا قاتلوا أو قتلوا، ثم هددهم بأنه يعلم الظواهر والخوافي فلا يخالفوا. ثم بين الله- عزّ وجل- أن المجاهدين لا يستوون عنده مع القاعدين إلا إذا كان قعودهم أثرا عن ضرر كمرض، أو عرج، أو عمى، وأنه- عزّ وجل- فضل المجاهدين على القاعدين، ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنات العاليات ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات، إحسانا منه وتكريما. وبعد أن أمر الله- عزّ وجل- بالتبين في الجهاد مراعاة لحال من يكتم الإيمان بسبب من الأسباب، ومن جملة ذلك إقامته بين الكفار، فقد بين الله- عزّ وجل- حكم الإقامة بين الكفار ليرفع همم أهل الإيمان إلى الهجرة. ومن ثم فقد بين الله- عزّ وجل- أن من أقام بين ظهراني الكفار، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، ومرتكب للحرام بإجماع المسلمين، وبنص ما ذكر في هذا السياق من كون أمثال هؤلاء عند ما تتوفاهم الملائكة تعنفهم سائلة إياهم لم مكثتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ فيعتذرون بعدم قدرتهم على الخروج أو الذهاب في الأرض، فترد عليهم الملائكة حجتهم أن أرض الله واسعة،

وكان باستطاعتهم الهجرة، وبناء على تقصيرهم هذا فإن الله قد حكم عليهم بالعذاب في نار جهنم، ثم أخرج الله- عزّ وجل- من هؤلاء المستضعفين حقيقة، كالنساء والأولاد. فهؤلاء لا يقدرون أن يتخلصوا من أيدي الكافرين، ولو قدروا ما عرفوا أن يسلكوا طرق الهجرة، فهؤلاء عسى الله أن يتجاوز عنهم بتركهم الهجرة، إذ هو عفو لمن يستحق المغفرة والعفو، ومشيئته مع هذا مطلقة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ثم حض الله- عزّ وجل- على الهجرة، ورغب فيها، وحرض إليها مبينا أن المؤمن حيثما ذهب وجد مندوحة وملجأ يتحصن فيه، ويراغم به أعداء الله، ورزقا واسعا، ووعد من يخرج من منزله بنية الهجرة فيموت في أثناء الطريق، أن يعطيه ثواب من هاجر، وذلك من كمال مغفرته ورحمته. فإذا وصل السياق في هذا المقطع إلى نهاية هذه المعاني ينتقل السياق إلى بيان قضايا متعلقة بالصلاة أثناء الهجرة والحرب، وكالعادة في شأن آيات القرآن إذا نظر إليها من خلال السياق، تعطي معاني، وإذا نظر إلى كل كلمة منها في محلها فإنها تفيد معاني تكمل تلك، وذلك من إعجاز هذا القرآن. وقبل أن نستعرض ما ورد من معان حول الصلاة في هذا السياق نذكر بما ذكر قبله: أمر الله المسلمين بالتبين إذا قاتلوا أو قتلوا في سبيل الله، حتى لا يقتلوا مؤمنا، ولكي لا يوقفهم التبين عن الجهاد بين الله فضيلة الجهاد ليجمع المسلمون بين الجهاد والتبين؛ حتى لا يعطلوا الجهاد بحجة التبين، ولما كان التبين لصالح المسلمين المقيمين بين ظهراني الكافرين، فقد حذر هؤلاء من المقام بين ظهراني الكافرين، وأمرهم بالهجرة إلى دار الإسلام، وأوجبها عليهم، وهي قضية ستتضح معنا أثناء التفسير الحرفي وفوائده، وبمناسبة الجهاد والهجرة، فقد ذكر أحكاما في الصلاة، منها ما هو مرتبط بالهجرة والسفر، ومنها ما هو مرتبط بالجهاد واحتمالاته. فبين الله- عزّ وجل- أن المسافر المهاجر له أن يقصر الصلاة مراعاة لوضعه إذ يحتمل أن يلحق به الكافرون، ويفتنوه عن دينه، إذ عداوة الكافرين شديدة واضحة. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه في حالة اللقاء مع الأعداء، فإن للمسلمين أن يصلوا صلاة الخوف التي يجتمع فيها إقامة العبادة والحذر واليقظة بآن واحد، بأن يجتمع مع الصلاة مراقبة العدو والاستعداد بالسلاح، وسنرى تفصيل ذلك في التفسير الحرفي وفوائده. ثم يأمر الله- عزّ وجل- بكثرة الذكر بعد صلاة الخوف، والذكر وإن كان مشروعا

المعنى الحرفي

مرغبا فيه بعد كل صلاة، لكنه بعد صلاة الخوف آكد، ولما وقع فيها من التخفيف ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب، وغير ذلك مما لا يوجد في غيرها، ولأن حال المحارب يقتضي يقظة وانتباها، وحالا طيبا مع الله. ثم أرشدنا الله- عزّ وجل- في حالة انتهاء وضع الخوف، وحصول الطمأنينة، إلى وجوب إتمام الصلاة وإقامتها بحدودها، وخشوعها، وركوعها، وسجودها، وجميع شئونها، مبينا تعالى أن الصلاة فرض مفروض، ومؤقت بوقت محدد. ومن هنا نفهم أن الصلاة يطالب بها المسلم في كل حال، ولا يسعه التخلف عن أدائها بحال، لا في سلم ولا في حرب، ولا في خوف، ولا في أمن. وإذا اضطر إلى تأخيرها في بعض الحالات التي نص عليها الفقهاء فعليه قضاؤها ثم يختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع الذي يعتبر امتدادا لما قبله والذي ينصب هو والذي قبله على موضوع القتال، بأن لا يضعفوا في طلب عدوهم، بل عليهم أن يجدوا فيهم، ويقاتلوهم في كل حال، حتى في حالة الإصابة والجراح، مبينا أنه كما تصيبنا الجراح تصيبهم، وكما نألم يألمون، فنحن وإياهم سواء فيما يصيبنا من جراح وآلام، ولكنا نزيد عليهم بأننا نرجو من الله نصرا ومثوبة وتأييدا ما لا يرجون، كما وعدنا ذلك في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فنحن أولى بمتابعة القتال منهم، والصبر عليه، والرغبة فيه. وإذ يطالبنا الله- عزّ وجل- بذلك، فما ذلك إلا من آثار علمه وحكمته، بأن هذا هو الطريق، الجهاد الدائم المستمر المتتابع في كل الظروف والأحوال. وقد كان خالد لا ينام ولا ينيم. هذه هي المعاني العامة في هذا المقطع، وسنرى تفصيلاتها فيما يلي، فهل اتضح من هذا كله أنه لا تقوى إلا بجهاد وقتال. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا. أي: إذا سرتم في طريق غزو وقتال في سبيل الله، فتبينوا، أي: اطلبوا بيان الأمر وثباته ووضوحه في حال قتلكم وقتالكم. أو إذا قاتلتم فتبينوا حال من تقتلونه وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً. السلام هنا: هو الإسلام بدليل آخر النص لَسْتَ مُؤْمِناً وقيل هو الاستسلام، وقيل هو التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاذ، فهو الذي يدعوكم إلى

فوائد

ترك التثبت، وقلة البحث عن حال من تقتلونه. والعرض: المال سمي به لسرعة فنائه. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. أي: إنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة؛ فحقنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم، فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان. فافعلوا بمن يدخل في الإسلام كما فعل بكم، واقبلوا منهم ما قبل منكم. ويحتمل إنكم كنتم أيها المسلمون في ابتداء الأمر تخفون إسلامكم بين قومكم، كما يخفي هذا الذي أظهر لكم الإسلام- أثناء القتال- إسلامه بين قومه، فيظهره لكم إذا جئتم، فمن الله عليكم أنتم بأن أصبحتم تجهرون بالإسلام، ولكن لا تنسوا حالكم الأول، وارحموا أمثالكم. ويحتمل أن يكون المعنى: إنكم أيها المسلمون كنتم قبل إسلامكم تقاتلون وتقتلون من أجل الدنيا، فمن الله عليكم بالإسلام، فأصبحتم تقاتلون في سبيل الله، فلا تكفروا نعمة الله. فَتَبَيَّنُوا كرر الأمر بالتبين تأكيدا عليهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً قال سعيد بن جبير: «وهذا تهديد ووعيد». التهديد بعلم الله بما يخفى وما يظهر هنا يفيد النهي عن التهافت في القتل، والأمر بأن يكونوا محترزين، محتاطين في ذلك. فوائد: 1 - في سبب نزول هذه الآية، آثار كثيرة كلها يرفد بعضها، وكلها يفسر بعض وجوهها والعبرة كما نكرر دائما لعموم اللفظ، ومما ورد في سبب نزولها: أ- روى الإمام أحمد والترمذي، وقال عنه حسن صحيح عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم- بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- يرعى غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ... الآية إلى آخرها. ب- وقد ذكر ابن كثير قصة رجل اسمه ضرار، هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عماية الليل، وكان قد قال لهم: إنه مسلم، فلم يقبلوا منه، فقتلوه، فقال أبوه: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ألف دينار ودية أخرى، وسيرني فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ...

ج- وقد روى الإمام أحمد قصة محلم بن جثامة، ورواها ابن جرير بسياق أتم منه هذا هو: «عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر ابن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم» ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا .... د- روى البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد تعليقا على حادثة، ويروي الحادثة كلها البزار، وهذه روايته عن ابن عباس قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد ابن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله! والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال: «ادعوا لي المقداد، فقال: يا مقداد أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله؟! فكيف لك بلا إله إلا الله غدا». قال: فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد «كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل». هـ- وذكر النسفي: أن مرداس بن نهيك أسلم، ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى منفرج من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجدا شديدا وقال: «قتلتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة». 2 - من هذه الآية نفهم أن الفارق الرئيسي بين قتال المسلمين، وقتال غيرهم. أن غير المسلمين يقاتلون من أجل الدنيا متمثلة باحتلال أرض، أو بسوق اقتصادي، أو من

[سورة النساء (4): آية 95]

أجل مواد خام، أو من أجل استغلال ما، أو من أجل ربح مباشر أو غير مباشر، أما المسلمون فلا يقاتلون إلا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وفي سبيل الله، وما يعطيهم الله- عزّ وجل- بسبب ذلك من الدنيا فهو منة منه وفضل، ولكنه ليس غاية ولا هدفا. وهذا الذي لا يصل إلى إدراك كنهه ولا إلى فهمه من لا يعرف آفاق الربانية في النفس البشرية. 3 - إن قضية التبين ينبغي أن تأخذ مداها في أي لحظة أو تخطيط أو تنفيذ. فإذا كان لا بد من قتال، فلنتذكر دائما أنه لا بد من تبين. لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ. أي: عن الجهاد مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. الضرر: المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ نفى التساوي بين المجاهد والقاعد بغير عذر وإن كان معلوما؛ توبيخا للقاعد عن الجهاد، وتحريكا له عليه، ثم لبيان عدم الاستواء بين المجاهدين والقاعدين لعذر قال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً. أي فضلهم تفضلة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. أي: وكل فريق من القاعدين لعذر والمجاهدين وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة، وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين لعذر درجة، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ (بغير عذر) أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ هذا وما بعده بيان للأجر العظيم وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً إذ يقبل العذر رَحِيماً إذ يوفر الأجر. قال النسفي: وحاصله أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بعذر درجة، وعلى القاعدين بغير عذر- في حالة كون الجهاد فرض كفاية وفي حالة إذن الإمام لهم في المقام- درجات، لأن الجهاد في حال السعة فرض كفاية. فوائد: 1 - هذه الآية محمولة على كون الجهاد فرض كفاية، وقد قام من يكفي من المسلمين به، فعندئذ لا يأثم القاعدون، ويؤجر المجاهدون هذا الأجر العظيم، أما إذا كان الجهاد فرض عين، أو لم يقم من المسلمين ما يكفي عند ما يكون الجهاد فرض كفاية، فإن القاعدين يأثمون إثما عظيما؛ يستحقون به دخول النار. أما متى يكون الجهاد فرض عين، ومتى يكون فرض كفاية؟ فهذا له تفصيلاته الكثيرة وباختصار نذكر بعض

الصور: يكون الجهاد فرض عين إذا أعلن الإمام النفير العام، أو إذا هوجمت بلد أو منطقة فقد افترض القتال على المستطيع رجلا أو امرأة، وإذا هوجمت منطقة، فكفى أهلها للدفاع عنها، فالجهاد فرض عين عليهم فقط، وإلا فتنتقل فرضية العين إلى من حولهم، ثم إلى من حولهم. وهكذا حتى يعم الفرض الأمة الإسلامية كلها. ومن حالات النفير التي يجب على المسلمين فيها الجهاد، حالة ما إذا استنفرهم الإمام الحق، لقتال الخارجين عليه بغير الحق، ومن الحالات التي يفترض على المسلمين فيها القتال فرضا عينيا، حالة ما إذا سيطر المرتدون أو الكافرون على قطر من أقطارهم؛ فقد افترض على أهل هذا القطر فرضا عينيا، أن يقاتلوا وعلى المسلمين أن يمدوهم. ويفترض على المسلمين القتال فرض كفاية، في حالة ما إذا كانوا آمنين، فعليهم أن يقاتلوا أي جهة من جهات دار الحرب، وهذا الذي هو فرض كفاية إذا قام به بعضهم سقط عن البعض الآخر، ولا يسقط هذا إلا في حالات الضعف الذي هو مظنة استئصال المسلمين لو هاجموا بشرط نية الإعداد، وتلافي حالة الضعف والوضع الدولي في عصرنا في غاية التعقيد فلا بد أن يلاحظ ذلك. 2 - وفي صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم. حبسهم العذر» فهذا مثال على لحوق أصحاب الأعذار للمجاهدين في الأجر، ولكن تبقى درجة لمن مارس الجهاد عمليا. 3 - وفي تفسير الدرجة والدرجات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين: «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رمى بسهم فله أجره درجة، فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام». 4 - وفي سبب النزول وما أحاط به يروي البخاري عن ابن عباس أن الآية نزلت بمناسبة غزوة بدر. قال ابن عباس لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجون إلى بدر، وقد روى البخاري وغيره تساؤل عبد الله بن أم مكتوم- وهو أعمى- عن حال أمثاله ممن لا يستطيعون الجهاد فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وهذه رواية الإمام أحمد في هذا الموضوع قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، قال: فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة،

[سورة النساء (4): آية 97]

قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال: اكتب يا زيد، فأخذت كتفا، فقال: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ. .. إلى قوله أَجْراً عَظِيماً فكتبت ذاك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى- فقام حين سمع فضيلة المجاهدين وقال: يا رسول الله! كيف بمن لا يستطيع الجهاد، ومن هو أعمى وأشباه ذلك؟ قال زيد: فو الله ما مضى كلامه- أو ما هو إلا أن قضى كلامه حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه فقال: اقرأ فقرأت عليه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ .... فقال النبي صلى الله عليه وسلم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قال زيد: فألحقتها، فو الله كأني انظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف». 5 - والملاحظ أن هذه الآية جاءت بعد الأمر بالتبين، فكأنه بعد الأمر بالتبين قد يتباطأ ناس عن الجهاد خوفا من عدم التبين، فجاءت هذه الآية لترفع الهمم إلى الجهاد. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ توفاهم. أي: تتوفاهم، والتوفي: قبض الروح. والمراد بالملائكة: ملك الموت وأعوانه. وظلمهم أنفسهم بمخالطة الكافرين، وتركهم الهجرة المفروضة، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ. أي: قال الملائكة للمتوفين: في أي شئ كنتم في أمر دينكم، ومعناه التوبيخ لأنهم لم يكونوا في شئ من الدين لتركهم الهجرة، ومخالتطهم للكافرين، وما يقتضيه ذلك من طاعة ورضوخ ومجاملة وترك عمل. قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. أي: كنا عاجزين عن الهجرة، ومجبرين على المكث في الأرض التي نحن فيها. قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها. أي: قال الملائكة هؤلاء موبخين لهم: إنكم كنتم قادرين على الهجرة أي: على الخروج إلى بلد ما لا تمنعون فيها من إظهار دينكم. فالإنسان لا يعدم حيلة إن صمم على شئ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. أي: مقرهم فيها وساءت ما يصيرون إليه قال النسفي: والآية تدل على أن من لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب، وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره حقت المهاجرة. أهـ. وقد ذكر ابن كثير الإجماع على ذلك. أما إذا تمكن من إقامة دينه، فهل تجب عليه الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن دار الظلم إلى دار العدل؟ ومن دار البدعة إلى دار السنة؟ قولان للعلماء. قال الحنفية: يجب، وقال الشافعية: يندب له البقاء.

[سورة النساء (4): آية 98]

ولنعد إلى السياق لنرى أن الله قد استثنى من أهل الوعيد: المستضعفين حقيقة لا دعوى فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج والهجرة إما لفقرهم وإما لعجزهم وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. أي: ولا معرفة لهم بالمسالك. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ هذا وعد من الله لهم أن يعفو عنهم، فعسى وإن كانت في الأصل للإطماع إلا أن ما أطمعت فيه من الله واجب الوقوع لأن الكريم إذا أطمع أنجز وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً أكدت نهاية هذه الآية عفوه، وأثبتت أن عدم الهجرة ذنب وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً المراغم: هو المهاجر، والطريق الذي يراغم بسلوكه الإنسان قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم: الذل والهوان، يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك، والسعة يدخل فيها السعة في الرزق، أو في إظهار الدين، أو في الصدر لتبدل الخوف بالأمن. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. أي: إلى حيث أمر الله ورسوله ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ. أي: قبل بلوغه مهاجره فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. أي: فقد حصل له الأجر بوعد الله، وذكر الوقوع تأكيد للوعد، وإلا فلا شئ يجب على الله لأحد من خلقه، وإنما هو جل جلاله يوجب على نفسه ما شاء وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر بالعمل، ويرحم بالنية، وقد قالوا: كل هجرة لطلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة، أو قناعة، أو زهدا وابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله. فوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... الآية يروي البخاري عن ابن عباس: أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ... ويكمل ابن أبي حاتم رواية هذا المعنى، أن المسلمين لما أصيب هؤلاء قالوا: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ... الآية فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية التي مضمونها أنه لا عذر لهم. قال فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم التقية. فنزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ....

ولنعد إلى السياق

2 - روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». 3 - روى ابن أبي حاتم: لما أسر العباس وعقيل ونوفل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «افد نفسك وابن أخيك» فقال يا رسول الله: ألم نصل إلى قبلتك، ونشهد شهادتك. قال يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم. ثم تلا عليه هذه الآية: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً ... وفي الصحيح: أن ابن عباس كان يقول: «كنت وأمي من المستضعفين من النساء والولدان». وروى ابن جرير عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر: «اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام، وعياش ابن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا». 4 - روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ثم قال: وأين المجاهدون في سبيل الله؟ فخر عن دابته فمات، فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله» قال الراوي: يعني بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنة» 5 - قال ابن عباس خرج حمزة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ .... 6 - روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله قال: من انتدب خارجا في سبيلي، غازيا ابتغاء وجهي، وتصديق وعدي، وإيمانا برسلي، فهو في ضمان على الله، إما أن يتوفاه بالجيش، فيدخله الجنة، وإما أن يرجع في ضمان الله، وإن طالب عبدا فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر أو غنيمة ونال من فضل الله، فمات أو قتل، أو وقصته فرسه، أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فهو شهيد». ولنعد إلى السياق: بعد أن فرض الله التبين لصالح المسلمين المقيمين بين ظهراني الكافرين، وحض على

فوائد

الجهاد كيلا يتقاعس المسلمون عن الجهاد بحجة التبين، هدد المسلمين المقيمين بين ظهراني الكافرين إن لم يهاجروا، وبهذه المناسبة يذكر حكم الصلاة في السفر. وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. سافرتم فيها، فالضرب في الأرض: هو السفر. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ .... أي: ليس عليكم حرج في أن تقصروا من أعداد ركعات الصلاة الرباعية، فتصلوها ركعتين. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: إن خشيتم أن يقصدكم الكفار بقتل أو جرح أو أخذ. والخوف شرط جواز القصر عند الخوارج؛ لظاهر هذا النص، وعند أهل السنة ليس بشرط. روى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت له: قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ ... وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته». إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وصدق الله فما من عداوة أوضح من عداوة الكافر للمؤمن، وذكر العداوة هنا أمر بالتحرز. فوائد: 1 - روى البخاري عن أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا». وروى الإمام أحمد عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» والكلام عن صلاة المسافر مفصل في كتب الفقه. 2 - من قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فهم الشافعي أن القصر رخصة في السفر، والإكمال عزيمة، لأن لا جناح، يستعمل في موضع التخفيف والرخصة، لا في موضع العزيمة. وقال الحنفية: القصر عزيمة غير رخصة، ويكره الإكمال كراهة تحريم؛ لما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان بإسناد صحيح عن عمر قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم». وأما الآية فقد قال النسفي في توجيهها: فكأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر، ويطمئنوا إليه، اهـ.

[سورة النساء (4): آية 102]

3 - تعليق قصر الصلاة هنا على الخوف يشبه قوله تعالى في سورة النور: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فكما أنه لا يفهم من التعليق بإرادة الإحصان جواز البغاء عند عدم إرادته فكذلك هنا، ومحل التوسع في فهم مثل هذه النصوص وغيرها كتب أصول الفقه. 4 - هناك اتجاه آخر في فهم الآية، هذا الاتجاه يقول: إن الآيات على ظاهرها وليس المراد بها صلاة السفر والمسافر، وإنما المراد بها بيان جواز قصر الصلاة والصلاة بالقدر المستطاع في حالة كون المسلم خائفا في قتال، أو وهو مطارد من قبل الكافرين، أو وهو يحتمل المطاردة، فإنه في هذه الحالة كلها يقصر، وقد اختلف في حدود هذا القصر، قال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة .. وقال جبير عن الضحاك: ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه. وعلى هذا الاتجاه تكون الآية اللاحقة زيادة بيان للآية السابقة في تبيان حالة أخرى من حالات الصلاة في الخوف. ولنعد إلى السياق: فقد رأينا أنه بمناسبة الكلام عن الهجرة ذكرت صلاة السفر، ولكن هذا الورود كان ضمن سياق القتال. وعلى هذا فإن الآية التالية تبين لنا صورة من صور الصلاة في القتال. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ. أي: وإذا كنت يا محمد في أصحابك، فأردت أن تقيم الصلاة بهم. قال أبو يوسف: هذا النص خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صلاة خوف بعده صلى الله عليه وسلم وقال غيره: الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عصر، فكان الخطاب له متناولا لكل إمام، ودليله فعل الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم فالخطاب في الآية، وإن كان له صلى الله عليه وسلم، فهو يشمل كل أمير للمسلمين إلى يوم القيامة. فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ. أي: فاجعلهم طائفتين. فلتقم إحداهما معك، فصل بها، وتقوم طائفة تجاه العدو. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ. أي: وليأخذ الجميع أسلحتهم. والمصلون يأخذون من السلاح، ما لا يشغلهم عن الصلاة فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ. قال الحنفية وكثيرون غيرهم في تفسيرها. أي: إذا قيدوا ركعتهم بسجدتين، فلترجع هذه الطائفة، لتقف بإزاء العدو حتى إذا انتهت الطائفة الثانية من صلاتها، تكمل الطائفة الأولى صلاتها في محلها، أو في مكان الصلاة الأول. وقال

[سورة النساء (4): آية 103]

مالك: تنتهي صلاة الطائفة الأولى بصلاتهم ركعة. لأن صلاة الخوف ركعة عنده. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. أي: ولتحضر الطائفة الواقفة بإزاء العدو فليصلوا معك الركعة الثانية. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم. وعند مالك تنتهي بذلك صلاة الطائفتين. وعند غيره، تكمل كل من الطائفتين ما فاتها. الطائفة الثانية أولا. ثم الطائفة الأولى. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ. أي: وليأخذوا ما يتحرزون به من العدو من انتباه، وآلة كالدرع ونحوه. وَأَسْلِحَتَهُمْ جمع سلاح. وهو ما يقاتل به. وأخذ السلاح شرط عند الشافعي، وعند الحنفية مستحب، وذكر الركعتين أثناء الشرح على اعتبار أن الغالب في صلاة الخوف أن تكون في سفر. ولصلاة الخوف كيفيات كثيرة. تسع العصور والأحوال. سنرى- إن شاء الله- إشارة لها في باب الفوائد. وتفصيل ذلك في كتاب (الأساس في السنة وفقهها). وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً. هذا البيان للحكمة من مشروعية صلاة الخوف. والمعنى: أن الكافرين يتمنون أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم. فيشدوا عليكم شدة واحدة. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ. رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر، أو يضعفهم من مرض. وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. أي: مذلا، وإخباره تعالى في هذا المقام بأنه يهين الكافرين من أجل أن تقوى قلوب المسلمين، وليعلموا أن قدرة الله غالبة، وأن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبة الكافرين عليهم، وإنما هو تعبد من الله تعالى. فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ. أي: فإذا فرغتم منها. فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ. أي: فداموا على ذكر الله في جميع الأحوال. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. أي: فإذا سكنتم بزوال الخوف، فأتموها بطائفة واحدة، أو فإذا أقمتم فأتموا ولا تقصروا. أو: إذا اطمأننتم بالصحة فأتموا القيام، والركوع، والسجود. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. أي: مكتوبا محدودا بأوقات معلومة. أو فرضية مؤقتة بوقت. فوائد: 1 - لصلاة الخوف صور كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون

في غير اتجاهها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة تكون ثلاثية، كالمغرب، وتارة تكون ثنائية كالصبح، وهناك صلاة السفر. والصلاة تارة يمكن أن تصلى جماعة، وتارة يلتحم الحرب، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، رجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا- والحالة هذه- ويضربون الضرب المتتابع في متن الصلاة، ومن العلماء من قال يصلون، والحالة هذه، ركعة واحدة. وقال إسحاق بن راهويه. أما عند المسايفة، فيجزيك ركعة واحدة، تومئ بها إيماء. فإن لم تقدر، فسجدة واحدة، لأنها ذكر لله. وقال آخرون: يكفي تكبيرة واحدة. حتى قال الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي: فإن لم يقدر على التكبيرة، فلا يتركها في نفسه يعني بالنية. ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال، ولعذر المسير إليه. وقال الأوزاعي: إن تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه. فإن لم يقدروا، صلوا ركعة، وسجدتين. فإن لم يقدروا، فلا يجزيهم التكبير. ويؤخرونها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك، حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة. فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها، ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا، قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب. ولم ينقل أنه أنكر عليهم، ولا أحد من الصحابة، من هذا كله ندرك أن في هذا الموضوع سعة. وهذه السعة تقتضيها طبيعة عصرنا أكثر من أي عصر مضى. وفي كتب الفقه تفصيلات مثل هذه الشئون. 2 - روى الإمام أحمد عن أبي عياش الزرقي قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعفان فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد. وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر. فقالوا: لقد كنا على حال، لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة، هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ .... قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح. قال: فصفنا خلفه صفين. قال: ثم ركع، فركعنا جميعا. ثم رفع، فرفعنا جميعا. ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم. ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم. فلما

[سورة النساء (4): آية 104]

جلسوا جلس الآخرون. ثم سلم عليهم، ثم انصرف. قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم .. » والحديث صحيح. وهذه إحدى صور صلاة الخوف، وصورها كثيرة. ومن صورها، ما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه. فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء. فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولهم ركعة». ثم يختتم الله هذا السياق في موضوع القتال بهذه الآية: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي: ولا تضعفوا، ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال، والتعرض به لهم. ثم ألزمهم الحجة بفعل ذلك بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ. أي: ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم. بل هو مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم! مع أنكم أجدر منهم بالصبر!؛ لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان. ومن الثواب العظيم في الآخرة. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. عليما بما تجدونه من آلام. حكيما فيما أمركم به، ويدبر لكم من أموركم. كلمة في السياق: إذا كانت سورة النساء تدور حول ماهية التقوى. فإن هذا المقطع قد بين أن التبين في القتال، والهجرة إلى دار الإسلام، والصلاة في القتال، وذكر الله في كل حال، والصبر على القتال، والاستمرار فيه. كل ذلك داخل في العبادة، والتقوى. ولنا عودة فيما بعد على السياق إن شاء الله. المقطع الثامن اعتدنا فيما مضى من سورة النساء أن تكون المقاطع مبدوءة ب (يا أيها): يا أَيُّهَا النَّاسُ*، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*، ولكنا في هذا المقطع نجد أن صيغة (يا أيها) تأتي في نهايته، فالمعاني في هذا المقطع تتسلسل حتى نجد في نهايته آية مبدوءة ب

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفيها إشعار بالمعنى الرئيسي الذي ينتظم معاني المقطع. وهو أسلوب سنرى نماذجه في القرآن أكثر من مرة، وفيه مظهر من مظاهر التنويع في الأسلوب. إن المقطع الثامن يعرض لنا معاني من مظاهر العدل، ثم يختم المقطع بآية هي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ .... يمتد المقطع من الآية (105) إلى الآية (135) وهذا هو: [سورة النساء (4): الآيات 105 الى 113] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

[سورة النساء (4): الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) *** [سورة النساء (4): الآيات 116 الى 124] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

[سورة النساء (4): الآيات 125 الى 126] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) *** [سورة النساء (4): الآيات 127 الى 132] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 133 الى 135] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) كلمة في المقطع: بدأ المقطع بتبيان الحكمة من إنزال الكتاب بالحق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من أجل أن يحكم به، وفي ذلك أبلغ رد على من يهمل قضايا الحكم بما أنزل الله، ومن هذه المقدمة ينطلق السياق إلى التوجيه إلى أنه لا ينبغي أن يجادل أحد عن الخائنين، وهذا أول مظهر من مظاهر العدل، ليصل السياق إلى عدم مواطأة الشيطان وطاعته في دعوته، وذلك مظهر من مظاهر العدل، ليصل السياق إلى التعامل العادل مع المرأة، وذلك مظهر من مظاهر العدل. ويختم بالأمر بالقيام بالعدل والشهادة بالعدل، مع كل الناس. قلنا: إن محور سورة النساء من سورة البقرة هو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. لاحظ صلة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا من سورة البقرة بقوله

المعنى العام للمقطع

تعالى هنا: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وصلة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً في سورة البقرة بقوله تعالى هنا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وصلة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ من سورة البقرة بقوله تعالى هنا: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً. وصلة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ من سورة البقرة بقوله تعالى هنا: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ. وصلة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ في سورة البقرة بقوله هنا: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. إن الصلة واضحة، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن محور سورة النساء من سورة البقرة هو الآيات (21 - 22 - 23 - 24 - 25) ولنا عودة على السياق. المعنى العام للمقطع: بين الله- عزّ وجل- في هذا المقطع أنه أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم بالحق، فهو يتضمن الحق في خبره وطلبه، من أجل أن يحكم رسوله على ضوئه في كل أمر من أمور الناس، وهذا هو الحق الخالص، ومع الأمر بالحق نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يكون بجانب الخائنين مجادلا عنهم ومدافعا، وهو نهي للأمة كلها، وإذن فهناك صيغة للحق وحيدة هي ما أنزله الله في كتابه، وما سواها باطل وأهلها خونة، والدفاع عن أهل الباطل حرام، كترك الحق في الحكم. وإذا عرفنا أن هذه بداية المقطع، وأن نهايته الأمر بإقامة العدل والقسط، عرفنا مضمون هذا المقطع، وعرفنا أن كل ما يحتويه داخل

ضمن توضيح قضايا من الحق والعدل، كجزء من مفهوم التقوى التي هي محور السورة الرئيسي. وبعد الأمر بالحق والنهي عن الدفاع عن أهل الباطل في الآية الأولى من هذا المقطع، يصدر الأمر بالاستغفار؛ لدقة قضية الحق؛ ولدقة الموقف من أهل الباطل، ولكن الله واسع المغفرة والرحمة، يغفر ويرحم لمن يجهد في إقامة الحق، ويحرر نفسه من الوقوف بجانب أهل الباطل. ثم يؤكد الله- عزّ وجل- نهيه عن الدفاع عمن يعمل الباطل ويخون نفسه بفعله الإثم، وذلك لأن الله لا يحب من كانت صفته الخيانة والإثم، فكيف يدافع المؤمن عمن يبغضه الله. فههنا إذن قضيتان متلازمتان، الحكم بالحق، وترك الدفاع عن أهل الباطل، والله- عزّ وجل- ينفر من الدفاع عن أهل الباطل بتبيان صفاتهم المنفرة، ومن ذلك استخفاؤهم من الناس، وإخفاؤهم قبائحهم عنهم؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها فلا يستخفون منه؛ لأنهم منافقون، إيمانهم بالله مضطرب وغير صحيح. فيبيتون الباطل والظلم، ومن هذا شأنهم فكيف يدافع المؤمن عنهم، والله هو المحيط بأعمالهم، وهو محاربهم ومعاديهم. وإذا افترض أحد أن هؤلاء الخائنين قد استفادوا من مجادلة المؤمنين عنهم، فمن يستطيع الجدال عنهم يوم القيامة، أو من يتوكل لهم يومئذ- يوم القيامة- في ترويج دعواهم؟ فإذا كان الأمر كذلك، والله محيط هذه الإحاطة، فلا يدافعن مسلم عن خائن. وفي عصرنا هذا- عصر القانون والمحاماة- تظهر أهمية هذا التوجيه، إذ يقرر أن صيغة الحق هي كتاب الله، وأن الدفاع عمن يختانون أنفسهم لا يجوز. ثم يستمر السياق بعد أن وضح النهي عن الدفاع عن الخائنين، يستمر مقررا ثلاث حقائق رئيسية، الأولى: أن المذنب المسئ إذ استغفر يغفر الله له. والثانية: أن كل إنسان مسئول عن نفسه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن إثم الآثم لا يتعداه. والثالثة: أن الذي يرتكب الخطيئة، أو الإثم، ثم يرمي به الأبرياء، فقد اجتمع عليه ذنبان، ذنب البهتان، وإثمه الأصلي. وإذ تتقرر هذه الحقائق الثلاث المرتبطة بموضوع عدم الدفاع عن الخائنين، يبين الله- عزّ وجل- أن بقاء الإنسان على الحق، وعدم تبنيه للدفاع عن الخائنين، لا يكون إلا بتوفيق من الله، خاصة مع وجود الراغبين في الإضلال، الذين لا يضلون إلا أنفسهم ولا يضرون غيرها. ثم يذكر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه بإنزال الكتاب عليه، وتعليمه الحكمة، وتعليمه ما كان يجهله، وهذا يدل على عظم ما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الفضل العظيم، الذي من مقتضيات

شكره، الوقوف على الحق، وترك الدفاع عن الباطل وأهله. والصلة واضحة بين بداية المجموعة المطالبة بالحكم بالقرآن، والنهي عن الجدال عن الخائنين، وبين نهايتها المتحدثة عن نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن. وفي إطار السورة، وفي سياق هذا المقطع الذي يبين صورا من العدل والحق، في إطار العبادة والتقوى، يحدد الله- عزّ وجل- إطار الخير في أحاديث الناس بعضهم مع بعض، وهو مظهر من مظاهر العبادة والتقوى عظيم. فبين أن الحديث الخير هو ما كان أمرا بصدقة، أو أمرا بمعروف: وهو الحق والعدل، أو كان إصلاحا بين الناس. ثم بين الله أن من يفعل ذلك، مبتغيا وجه الله، مخلصا لله فيه، فإن له أجره العظيم عند الله. دل ذلك على أن توجيه الكلام في هذه الدائرة، من أعظم أنواع العبادة، ومن ألصق آثار التقوى. ثم يقرر الله- عزّ وجل- حقيقة مرتبطة بقضية الحق والعدل، هذه القضية هي أن ما شرعه الله حق، وما أجمعت عليه الأمة الإسلامية حق، ومخالفة هذا الحق يستحق به صاحبه العذاب الأليم، وارتباط هذه القضية بموضوع السياق الخاص والعام، والجزئي، والكلي واضح. إن من سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سلك غير الطريق الذي اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا، فإنه قد تضمنت لهم العصمة- في اجتماعهم من الخطأ؛ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم، فمن سلك طريق الشقاق لهذا، أو لهذا، يجازيه الله على ذلك باستدراجه في الدنيا، ويجعل النار مصيره في الآخرة. لأن من خرج عن الهدى، لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة؛ لمخالفته الحق الذي لا يزيغ عنه إلا هالك. ولما كان رأس الانحراف عن الحق سببه الشرك واتباع الشيطان، فقد جاءت الآيات اللاحقة تبين هذه القضية مقررة: أن الذنب الذي لا يغفره الله هو الشرك، وأن ما دونه يمكن أن يغفره وأن الذي يشرك بالله، قد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة. ثم بين الله- عزّ وجل- حال هؤلاء المشركين، محقرا إياه، وأنهم ما يعبدون إلا إناثا كالأحجار، ومظاهر من هذا الكون والطبيعة، وأنهم ما يعبدون في شركهم إلا الشيطان المتمرد على الله، إذ هو الذي يأمرهم بذلك، ويحسنه ويزينه لهم، وهو الملعون المطرود، المبعد من رحمة الله، وعن جواره، وهو الذي أخذ على عاتقه أن يضل قسما معينا، مقدرا معلوما من الناس، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، يضلهم عن الحق، ويزين لهم ترك التوبة ويعدهم الأماني، ويأمرهم

بالتسويف والتأخير، ويغرهم من أنفسهم، ويزين لهم تحريم ما أحل الله، وتغيير خلق الله بارتكاب ما حرم، كالوشم والنمص وخصي الإنسان، وغير ذلك. ثم بين الله- عزّ وجل- أن من يتخذ الشيطان وليا مطاعا معبودا، فإنه قد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها. ثم بين الله- عزّ وجل- طريق الشيطان في الإضلال، وهو أن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك. ولذلك بين الله- عزّ وجل- أن وعد الشيطان أولياءه إنما هو هباء، ثم بين الله- عزّ وجل- جزاء المستحسنين لإغواء الشيطان ووعوده ومناه، وأن هذا الجزاء هو جهنم، فهي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة، وأنه ليس لهم عنها مندوحة، ولا مصرف، ولا خلاص ولا مناص. فالشرك إذن يسبب الانحراف عن الحق، وأن الشرك في حقيقته عبادة للشيطان وطاعة له في دعوته، ومجئ هذه المعاني في سياق الأمر بالحق والعدل واضح. إذ لا عدل ولا حق مع الشرك واتباع الشيطان. وإذ ذكر حال الأشقياء في الآخرة، قفى بحال المؤمنين الذين صدقت قلوبهم، وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات بأن جزاءهم الخلود الأبدي في جنات تجرى من تحتها الأنهار، ذلك وعد الله لهم، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، إذ هو أصدق الصادقين، فلا أحد أصدق منه قولا وخبرا ووعدا. ومجئ هذه الآية في سياق الدعوة إلى الحق والعدل واضح، إذ بدون الإيمان، والعمل الصالح، والثقة بوعد الله في الآخرة، لا يستطيع إنسان أن يثبت على الحق والعدل، وإذ كان كل أهل دين يدعون أنهم أهل الحق، وأن الجنة لهم دون غيرهم، وحتى بعض المسلمين يعيشون على الأماني، فيتصورون أن الجنة لهم بلا عمل، قرر الله- عزّ وجل- أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان، فليست النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله سبحانه، واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، وأن القاعدة عند الله أن من يعمل سوءا يجازيه به. ولا يستطيع أحد أن يحول بين الله وبين مجازاته، فينصره أو يدفع عنه. ولما ذكر الله الجزاء على السيئات، وأنه سيأخذ مستحقها من العبد، إما في الدنيا وهو الأجود له، نسأل الله العافية- وإما في الآخرة والعياذ بالله من ذلك، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده، ذكورهم وإناثهم بشرط الإيمان، وأنه

سيدخلهم الجنة، ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو: النقرة، التي في ظهر نواة التمر. ثم بين الله- عزّ وجل- أنه لا أحسن دينا ممن اجتمع له إخلاص العمل لربه فعمل إيمانا واحتسابا، متبعا في العمل لما شرعه الله، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق. وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أن يكون العمل خالصا وصوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة، فيصح ظاهر العبد بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص. فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمتى فقد الإخلاص كان منافقا، وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومن جمعهما كان من المؤمنين الذين لا أحسن دينا منهم، فهم مخلصون محسنون، وهم متبعون لملة إبراهيم، المائل عن كل شرك إلى التوحيد الخالص، ومن ثم اتخذه الله خليلا، ثم بين الله- عزّ وجل- أن ما في السموات والأرض ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقدرته؛ وعدله وحكمته، ولطفه ورحمته. وأن علمه نافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو المحيط بكل شئ، وتقرير هذه المعاني في سياق الأمر بالحق والعدل، وفي السياق الذي يربي على العبادة والتقوى، والإيمان، والعمل الصالح، لا يغيب عن الحاذق الفهم، فليس الحق دعوى، وإنما هو عمل، وليس ميزان الله بخس، ولكنه ميزان عدل، وميزان دقيق، وليس شأن الله قليلا، حتى يهمل أمره أو يعصى أو يطاع غيره في غير طاعته، فالعبودية لله ميزانها الإسلام له، والإحسان في عبادته، واتباع رسله، إذ هو مالك كل شئ، والمحيط بكل شئ، ومن كان كذلك كان حريا أن يسلم له، وأن يحسن في عبادته، وأن يتبع رسله، وذلك من الحق والعدل. فالحق والعدل في اتباع كتاب الله، وكذلك في عدم الدفاع عن المبطلين. وكما يكونان في ذلك. يكونان في المناجاة بالخير والإصلاح. وكما يكونان في هذا كله يكونان في ترك الشرك وطاعة الشيطان، وكذلك في الإسلام لله، والإحسان في عبادته، واتباع رسله، وذلك كله عبادة وتقوى. فالمقطع يوضح جوانب من الحق والعدل، يفطن الناس لبعضها، ولا يفطنون لبعضها الآخر. وكل ذلك في إطار السياق الكلي لمحور سورة النساء الذي يعمق قضية العبادة

والتقوى. ثم يكمل المقطع شرح جوانب من الحق والعدل في موضوع يتامى النساء، والمستضعفين، واليتامى عامة، فيفتي بما هو حق وعدل، وذلك أن الرجل قد يكون في حجره يتيمة، هو وليها ووارثها، لا يرغب أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في مالها إذا ماتت، أيفوت عليه ما يطمع فيه، فيعرضها. فبين الله- عزّ وجل- حكمه العادل، والحق في مثل هذا، إما أن تتزوجها ولها مهرها كاملا أسوة بأمثالها من النساء، وإما أن تزوجها إن جاءها طالب كفأ ورضيت، وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، فأنزل الله حكمه العادل بوجوب التوريث حسب الاستحقاق، ثم أمر الله- عزّ وجل- بإعطاء اليتامى العدل مذكرا بعلمه بمن فعل خيرا؛ تهييجا على فعل الخيرات وامتثال الأوامر. ومجئ هذه المعاني في سياق الدعوة إلى الحق والعدل لا يحتاج إلى بيان. ثم بين الله- عزّ وجل- قضايا من الحق والعدل في الشئون الزوجية، فأخبر مشرعا لأحوال من أحوال الزوجين، تارة في حال نفور الرجل من المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها، وفي كل حالة من هذه الحالات علمنا الله الموقف العدل والحق. فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها، أو بعضه من نفقة أو كسوة، أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، إذ الصلح خير من الفراق. وإن كانت النفوس عادة شحيحة. ثم ندب الله- عزّ وجل- الأزواج إلى الإحسان والتقوى، واعدا إياهم بالخير الكثير، إن تجشموا مشقة الصبر على ما يكرهون منهن، فإذا فعلوا ذلك وصبروا عليه فالله يعلمه، وسيجزي عليه خير الجزاء. والحالة الثانية حالة الوفاق في حال كون الرجل له أكثر من زوجة. فقد بين الله- عزّ وجل- أن المساواة المطلقة والعدل المطلق بين الزوجات من كل الوجوه غير مستطاع للإنسان، ولذلك لم يكلف الإنسان به، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، ولكنه فرض العدل في المبيت والمطعم والملبس، ونهى عن المبالغة في الميل إلى واحدة؛ حتى تصبح الأخرى كالمعلقة، ووعد جل جلاله أنه في حالة الإصلاح في الأمور، والقسم بالعدل، في الحدود التي يملكها الإنسان، وفي حالة التقوى، فإن الله سيغفر ما كان من تفريط عند عدم وجود العدل المطلق، وأما الحالة الثالثة حالة الفراق، فقد وعد الله كلا من الزوجين أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها، ويغنيها عنه، بأن يعوضه الله بمن هي أو ما هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن أو ما هو خير لها منه، ثم ذكر الله-

عزّ وجل- بأنه واسع الفضل، عظيم المنة، حكيم في جميع أفعاله وأقداره وشرعه، فليطمئن كل من الزوجين إذا فارق الآخر إلى فضل الله، وليتوكل كل من الزوجين على الله. ثم أخبر الله- عزّ وجل- أنه مالك السموات والأرض، وأنه الحاكم فيهما، وأنه وصانا بما وصى به من قبلنا من تقواه، وعبادته وحده لا شريك له، وأنه في حالة كفرنا- والعياذ بالله- فإنه لا يضره ذلك، وكيف وهو مالك السموات والأرض، وهو الغني عن عباده، وهو المحمود في جميع ما يقدره ويشرعه. وإذن فما دام الله مالك السموات والأرض وهو الغني عن خلقه، المحمود في فعله وشرعه، فمن حقه أن يتقى، وأن يشكر فلا يكفر. ثم ذكر تعالى مرة ثانية بأنه مالك السموات والأرض، وأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شئ، وتذكيره بهذا مقدمة لتذكيره بأنه هو القادر على إذهابنا وتبديلنا بغيرنا إن عصيناه، إذ هو القادر على كل شئ، وإذا كان الأمر كذلك، فقد ذكر الله- عزّ وجل- من ليس له همة إلا في الدنيا أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سأله السائل من هذه وهذه أعطاه، فلتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قسم السعادة والشقاوة بين الناس، في الدنيا والآخرة، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذه، وممن يستحق هذه، فهو السميع البصير. وما محل هذه المعاني في السياق الخاص في مقطعها الذي هو أمر بالحق والعدل، وتوضيح لما يدخل في مفهوم الحق والعدل؟ الذي يبدو: أن الصلة بين هذه الآيات وبين مقطعها، من حيث إن الله مالك السموات والأرض، هو صاحب الحق في توجيه الإنسان إلى الحق، ويجب أن يتقى، ويجب أن ترتفع همة الإنسان للسير في الحق الذي شرعه لنيل رضوانه وجنته. إلا أننا نحب أن ننبه إلى أن الآيات ينبغي أن تفهم على ضوء سياقها الخاص، وارتباط سورتها بالسياق القرآني العام. وعلى هذا فلنتذكر أن ما ذكره الله في هذا المقطع وفي كل مقطع مرتبط بمجمل السورة في السياق القرآني العام، وسورة النساء محورها الأمر بالعبادة والتقوى. فإذا تذكرنا هذا، وتذكرنا الآيات التي هي محل كلامنا، والتي فيها الوصية بالتقوى وطلب الآخرة. أدركنا صلة هذه الآيات وصلة مقطعها القرآني العام. والآن يستقر سياق المقطع بنداء المؤمنين أن يكونوا قوامين بالعدل، فلا يعدلوا عنه

المعنى الحرفي

يمينا ولا شمالا، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين، متساعدين، متعاضدين، متناصرين فيه، وأن يؤدوا الشهادة ابتغاء وجه الله فتكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان، وأمر أن تؤدى شهادة الحق ولو عاد ضررها على صاحبها. فإذا سئلت عن أمر فقل الحق فيه، ولو عادت مضرته عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه، وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم؛ فإن الحق حاكم على كل أحد، وإن كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فأد فيه شهادة الحق، لا ترع غنيا لغناه، ولا تشفق على فقير لفقره، فالله يتولى الجميع، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما. ثم نهى أن يحملنا الهوى والعصبية وبغض الناس عن ترك العدل في أي أمر وشأن، ثم أمر بلزوم العدل على أي حال، فإن العدل هو الأقرب للتقوى، التي هي الهدف، ثم هدد من يحرف الشهادة ويغيرها، ويتعمد الكذب، بعلم الله فيه. وبهذا ينتهي المقطع، وإذا تذكر الإنسان ذكر الحق في بداية المقطع، وذكر العدل في نهايته، وكثرة ورود التقوى في المقطع، أدرك كيف أن هذا يمثل تجديدا في الأسلوب بالنسبة لما مر معنا من بدايات المقاطع ونهاياتها إذ ينتهي المقطع بما يتضمن موضوع المقطع كله، ليبدأ مقطع جديد على الطريقة الأولى مبدوء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. المعنى الحرفي: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. أي: محقا فهو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه وما شرع لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. أي: بما عرفك وأوحى به إليك. وقال أبو منصور الماتريدي في تفسيرها: بما ألهمك في أصوله المنزلة، وبهذه الآية استدل من جوز الاجتهاد في حقه عليه الصلاة والسلام وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. أي: ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما، أي ولا تجادل عن الخائنين، وكل معصية خيانة، وكل عاص خائن في معصيته، فلا يجادلن مسلم عن عاص في معصيته وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي: من أي خاطر يخالف ما مر. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. غفورا لما يهم به العبد ما لم ينفذه، رحيما بالمسلم إذ لم يكلفه ما لا يطيق. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ. أي:

[سورة النساء (4): آية 108]

يخونونها بالمعصية. جعلت معصية العصاة خيانة لأنفسهم، لأن الضرر راجع إليهم، والنهي ينصب على المخاصمة عن هؤلاء والدفاع عنهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً الخوان هو: المفرط في الخيانة، والأثيم: المفرط في الإثم، فإذا كان الله لا يحب الخونة والآثمين، فكيف يدافع المسلم عنهم؟!!. ثم زادنا الله- عزّ وجل- بيانا لحال هؤلاء العصاة ليقطع دابر أي تفكير في القلوب المؤمنة في الدفاع عنهم. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ .... أي: يستترون من الناس حياء منهم، وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ. أي: ولا يستحيون من الله وهو عالم بهم، مطلع عليهم، ولا يخفى عليه خاف من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم أنه معهم لا سترة ولا غيبة. إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ. أي: إذ يدبرون ما لا يرضي الله من الكلام، وسمي التدبير تبييتا: لأنه يكون عادة في الليل، وللنهار التنفيذ. وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً علمه محيط، وإرادته محيطة، ولا يكون شئ إلا به، فكيف لا يستحيون منه وهم يعصونه ويدبرون في معصيته. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. أي: هبوا أنكم خاصمتم عن هؤلاء الخائنين العصاة في الحياة الدنيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه. أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا. أي: من يكون حافظا ومحاميا عنهم من بأس الله وعذابه؟ اللهم لا أحد. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً السوء هنا: الذنب دون الشرك أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. بالشرك، ويحتمل أن يكون المراد بالسوء القبيح الذي يتعدى ضرره إلى الغير، والظلم للنفس: ما يختص ضرره بفاعله. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي: يسأل الله مغفرته يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً له رَحِيماً به. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً. أي: ذنبا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ لأن وباله عليه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن أذنب حَكِيماً ومن حكمته أنه لا يعاقب بالذنب إلا صاحبه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً يحتمل أن يراد بالخطيئة هنا الصغيرة، وبالإثم الكبيرة، ويحتمل أن يكون المراد بالخطيئة هنا الذنب بينه وبين ربه، وبالإثم الذنب في مظالم العباد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً. أي: ثم يتهم بهذا الذنب أو الخطيئة غير فاعله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. البهتان: الكذب العظيم، إذ البهتان كذب يبهت من قيل عليه ما لا علم له به، والإثم المبين هو الذنب الظاهر، وقد اجتمعت الصفتان فيمن يفعل ما ذكرته الآية وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ أي:

فوائد

ولولا عصمة الله وحفظه ولطفه لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ. أي: من الناس أَنْ يُضِلُّوكَ. أي: عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل وجعلك تدافع عن العصاة. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بمحاولتهم، وهمهم وتبييتهم لأن وبال ذلك عليهم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمحفوظ بحفظ الله، وكذلك من كان على قدمه، مع فارق العصمة فهو عليه الصلاة والسلام معصوم، ومن على قدمه تحتمل في حقه الزلة. وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ إن وقفت عند حدود الله، وعملت بما ظهر لك، ولم يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ. أي: القرآن وَالْحِكْمَةَ. أي: السنة. وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. أي: من أمور الدين والشرائع. وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. أي: فيما علمك وأنعم عليك، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خطاب لأمته، فهذا الفضل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثته عنه أمته. فوائد: 1 - شرحنا هذه الآيات بما يقتضيه عمومها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولكن سبب النزول يساعد على فهم النص، لأنه يكون مثالا على ما يمكن أن يدخل في النص مع بقاء عموم اللفظ على حاله، وقبل أن نذكر أسباب نزول هذه الآيات في فائدة لاحقة، نحب هنا أن ننبه على أن مما يدخل تحت عموم هذه الآيات بطريق الأولى في عصرنا صنعة المحاماة التي هي في كثير من أحوالها دفاع عن العصاة والخائنين، ومما يدخل تحت هذا العموم، الدفاع عن أي مذنب وعاص، وخائن لله ورسوله وجماعة المسلمين في أمر ما. 2 - قوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها». 3 - وفي سبب نزول الآيات السابقة، وآيتين بعدها، يروي الترمذي وابن جرير عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: «كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق، بشر، وبشير، ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول

الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله لبعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث، أو كما قال الرجل. وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قالوا: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير. وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك، ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك، فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبحنا أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسسنا في الدار، وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. قال: وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار- والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجلا منا له صلاح وإسلام- فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك أيها الرجل، فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها. فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم سآمر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسيد بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة ابن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة وثبت، قال قتادة: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة» قال فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتاني رفاعة فقال: يا ابن أخي، ما صنعت، فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً يعني بني أبيرق. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ. أي: مما قلت لقتادة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... إلى قوله

رَحِيماً. أي: لو استغفروا الله لغفر لهم. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ... إلى قوله إِثْماً مُبِيناً قوله للبيد وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ... إلى قوله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عمي أو عشي- الشك من أبي عميس- في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هي في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمته في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير». 4 - روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: «كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله فيه بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يذنب ذنبا، ثم يتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له، وقرأ هاتين الآيتين وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ... الآية. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... ». 5 - جاءت امرأة إلى عبد لله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها، قال عبد الله بن مغفل: لها النار، فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين «من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما» قال: فمسحت عينيها ثم مضت. 6 - هناك رواية تذكر أن ابن أبيرق عند ما بلغه أنه اتهم بسرقة الدرع عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، وعلى هذه الرواية يكون البريء يهوديا، وعلى أساس هذه الرواية يعلق صاحب الظلال على مجموعة الآيات التي نزلت بسبب

الحادثة بقوله: «هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا، ولا تعرف لها البشرية شبيها .. وتشهد- وحدها- بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله، لأن البشر- مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا- بأنفسهم- إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله ... هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية- إلا في ظل هذا المنهج- ولا تملك الصعود إليه أبدا إلا في ظل هذا المنهج كذلك. إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبا منها، ومن فعلها في الصف المسلم .. في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب، ويؤلبون المشركين، ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق، ويطلقون الإشاعات، ويضللون العقول، ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج .. والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس، ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطرا حقيقيا على تماسك الصف المسلم وتناسقه. في هذا الوقت الحرج، والخطر، الشديد الخطورة .. كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلا يهوديا اتهم ظلما بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة. والأنصار يومئذ هم عدة الرسول صلى الله عليه وسلم وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة ... !. أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة، التي لا يبلغها البشر وحدهم. بل لا يعرفها البشر وحدهم. إلا أن يقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟! ... إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة برئ، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام- وإن كانت تبرئة برئ أمرا هائلا ثقيل الوزن في ميزان الله- إنما كانت أكبر من ذلك.

كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيا كانت الملابسات والأحوال. وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية- في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس- وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات!. ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس- على هذا النحو العنيف المكشوف ... كان هناك أكثر من سبب لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج!. كان هناك سبب واضح عريض ... أن هذا المتهم «يهودي» من «يهود» يهود التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله. يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة (ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة!) يهود التي لا تعرف حقا ولا عدلا ولا نصفة، ولا تقيم اعتبارا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق!. وكان هناك سبب آخر، وهو أن الأمر في الأنصار. الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن. بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي، يبعد شبح الشقاق!. وكان هنا لك سبب ثالث، هو عدم إعطاء اليهود سهما جديدا يوجهونه إلى الأنصار، وهو أن بعضهم يسرق بعضا، ثم يتهمون اليهود! وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير!. ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله. كان أكبر من الاعتبارات الصغيرة. الصغيرة في حساب الإسلام. كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية. وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى

يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يمحص كيانها تمحيصا شديدا؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل- لتحكم بين الناس- مجردا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئا كبيرا لا يقدرون على تجاهله. واختار الله- سبحانه- هذا الحادث بذاته، في ميقاته .. مع يهودي .. من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة، التي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين! وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعدوات تحيط بهم من كل جانب، ووراء كل هذه العداوات يهود. اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه- سبحانه- للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم!. ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة، ولا للكياسة، ولا للسياسة، ولا للمهارة، في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء. ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرة! ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها!. هنا كان الأمر جدا خالصا، لا يحتمل الدهان ولا التمويه! وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله. وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره. وأمر العدل بين الناس. العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس- بل لا يعرفه الناس- إلا بوحي من الله، وعون من الله. وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة- في جميع الأمم على مدار الزمان- فيراها هنالك .. هنالك في السفوح. ويرى من تلك القمة السامقة في السفوح الهابطة صخورا متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة .. إلى آخر الأسماء والعنوانات .. فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها .. الدود .. !!. وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة- وحدها- صاعدة من السفح إلى القمة. تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج

كلمة في السياق

الفريد. أما العفن الذي يسمونه «العدالة» في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء، في مثل هذا الجو النظيف الكريم. كلمة في السياق: بدأ المقطع بتبيان مراد من مرادات الله في إنزال الكتاب- وهو الحكم- بالحق بين الناس، ثم ثنى بالنهي عن الدفاع عن الخائنين، واستمر المقطع يوضح حيثيات هذا المعنى حتى الآية التي تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليه، والتذكير بفضل الله- الذي منه إنزال الكتاب والحكمة- مرتبط بموضوعي الحكم بالحق، وعدم الدفاع عن الخائنين. فلا يليق بأحد بعد إنزال الكتاب والحكمة أن يحكم إلا بالحق، كما لا يليق به أن يدافع عن أهل الباطل. وفي الآية الأخيرة تذكير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليه، بإنزال الكتاب والحكمة، وبالعصمة التي خصه بها. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ التناجي: كلام الناس فيما بينهم وقد نفى الله الخيرية عنه إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. أي: إلا نجوى من أمر بصدقة، ففي نجواهم الخير، والصدقة تشمل الزكاة وصدقة التطوع، وإلا نجوى من أمر بمعروف، والمعروف: شريعة الله ودينه. ومن المعروف القرض وإغاثة الملهوف وكل جميل. وإلا من أمر بإصلاح ذات البين وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. أي: المذكورات ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ. أي: طلبا لمرضاة الله، وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو ترأسا فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. أي: ثوابا جزيلا كثيرا واسعا وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى. أي: ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل، وظهور الرشد وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. أي: ويتبع غير ما عليه المؤمنون من الدين، وهذا دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع غير سبيل المؤمنين، وبين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباع الإجماع واجبا كموالاة الرسول صلى الله عليه وسلم. نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى. أي: في الدنيا نجعله واليا لما تولى من الضلال، وندعه وما اختاره في الدنيا. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ. أي: في الآخرة، وَساءَتْ مَصِيراً. وأي منقلب ومأوى ومستقر شر من النار؟!

فوائد

فوائد: 1 - روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله- عزّ وجل- أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر». 2 - روى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة- وهي من المهاجرات- أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا، أو يقول خيرا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شئ مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها». 3 - وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين، قال: وفساد ذات البين هي الحالقة». رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. أي: عن الصواب، إذ ضل عن الهدى، وعطل قوانين العقل، وأفسد تصوراته، فانحرف سلوكه، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة. إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً والإناث جمع أنثى: وهي اللات والعزى ومنات، ولم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه، يسمونه أنثى بني فلان. وحتى ملحدو عصرنا يخلعون على الطبيعة كل صفات الإله، وخصائصه فمعبودهم أنثى، وحتى الوجوديون الذين يعبدون أنفسهم يبقون في إطار عبادة الإناث. ومن عبد الملائكة من العرب كان يعتبر الملائكة أنهم بنات الله. وبعضهم فسر الأنثى بأنه الذي لا روح له، من حجر أو خشب يابس. فالمشركون لا يعبدون إلا أمواتا لا حياة فيها. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً. أي: وما يعبدون في الحقيقة إلا الشيطان الخارج عن الطاعة، العاري عن الخير وهو المريد. لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام، فأطاعوه، فجعلت طاعتهم له عبادة، وكيف يعبدون الشيطان وقد جمع الله عليه صفتين: لعنة الله، وأخذه على نفسه أن يضل بني آدم. قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ. أي: طرده، وأبعده عن رحمته، وأخرجه من جواره. وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. أي: نصيبا معينا مقدرا معلوما، مقطوعا واجبا لي. قال قتادة: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ. أي: بأن يدعوهم إلى الضلالة والتزين والوسوسة. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ. أي: يلقي في قلوبهم الأماني

[سورة النساء (4): آية 120]

الباطلة، من طول الأعمار وبلوغ الآمال، ودخول الجنة بلا عمل، وتحقيق الأهداف بلا أخذ بالأسباب. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ. البتك: القطع. والتبتيك: للتكثير والتكرير. والمعنى ولأحملنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام، كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. قال قتادة والسدي وغيرهما في تفسير التبتيك: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة، وسيمر تفسيرها في سورة المائدة. وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ من مثل فقء عين الحامي، وإعفائه عن الركوب، والخصاء، وهو مباح في البهائم محظور في بني آدم. والوشم، والنمص، والتنمص، والتفليج للحسن، وتغيير الشيب بالسواد، والتحريم والتحليل، والتخنث، وتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال. وأهم من ذلك تبديل فطرة الله التي هي دين الإسلام بصرف الناس عنها. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: مجيبا إلى ما دعاه إليه. فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً. أي: واضحا، وأي خسارة أعظم من خسارة الهدى في الدنيا، وخسارة الآخرة بدخول النار. يَعِدُهُمْ. أي: يوسوس إليهم أن لا جنة ولا نار، ولا بعث، ولا حساب. وَيُمَنِّيهِمْ. أي: يجعلهم يتمنون ما لا ينالون. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أي: يريهم الأمر على خلاف ما هو، وهذا هو الغرور، رؤية الإنسان نفسه على خلاف ما هو. أُولئِكَ. أي: أولياء الشيطان المستجيبون له، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً. أي: معدلا ومفرا، أو مندوحة، أو مصرفا، أو خلاصا، أو مناصا. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- حال أولياء الشيطان، ذكر حال السعداء، والأتقياء، وما لهم من الكرامة التامة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فخالفوا الشيطان، فلم يتبعوه بالكفر أو بعمل السوء سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. أي: بلا زوال ولا انتقاص وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا. أي: هذا وعد من الله، ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا. أي: لا أحد أصدق منه. وفائدة هذه التوكيدات مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».

فوائد

فوائد: 1 - في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله- عزّ وجل- يعني قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. 2 - إن أعظم تبديل لخلق الله يؤاخذ الله عليه هو تبديل الفطرة. في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء». وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله- عزّ وجل-: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم». كلمة في السياق: رأينا أن هذا المقطع يوضح جوانب من الحق والعدل في إطار العبادة والتقوى والإيمان والعمل الصالح: وفي المجموعة الأولى رأينا أن الدفاع عن الخائنين محرم. وفي المجموعة الثانية رأينا المناجاة الخيرة، وفي المجموعة الثالثة رأينا فظاعة الشرك، وكونه من الشيطان، ورأينا معالم مظلمة من دروس الشيطان ومدرسته. وكل ذلك بيان عن الحق والعدل أو ما يتنافى معهما. ولننتقل إلى مجموعة رابعة في هذا المقطع: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ. أي: ليس الأمر على شهواتكم وأمنياتكم. وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. أي: وليس الأمر على شهوات اليهود والنصارى وأمنياتهم في ادعائهم بنوة الله، وأنهم أحبابه، وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودات وغير ذلك. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ منهم من فسر السوء هنا بالمعصية أيا كانت، ومنهم من فسرها بالمعصية التي لا تغفر وهي الشرك، مستدلا بتتمة الآية بعدها في وصف حال المؤمنين. وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً هذا وعيد للكفار، أو هو وعيد لكل من فعل ذنبا على الخلاف السابق في تفسير السوء. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ

[سورة النساء (4): آية 125]

الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ تقييد العمل بالإيمان دليل لأهل السنة والجماعة على أن العمل ليس من الإيمان، بل علامة عليه، وكمال فيه. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً. أي: قدر نقير، والنقير: هو النقرة في ظهر النواة. والضمير في وَلا يُظْلَمُونَ يعود لعمال السوء، وعمال الصالحات جميعا، وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلا على ذكره عند الآخر. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. أي: أخلص نفسه لله، وجعلها سالمة له لا يعرف لها ربا ولا معبودا سواه وَهُوَ مُحْسِنٌ. أي: يعمل الحسنات مع المراقبة لله وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً الحنيف: هو المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. والجواب: أنه لا أحد أحسن دينا ممن اجتمع له الإسلام والإحسان، والاتباع لملة إبراهيم. كيف لا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. الخليل في الأصل اللغوي هو الخال، وهو الذي يخالك، أي يوافقك في خلالك، أو يداخلك منزلك، أو يسد خللك والخلة هنا صفاء مودة ويفهم منها الاختصاص بتخلل الأسرار. وقد اصطفى الله- عزّ وجل- إبراهيم لمقام الخلة عنده. وفائدة ذكر هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ذكر هذا بعد ما سبقه إشارة إلى أن اتخاذ الله إبراهيم خليلا إنما كان لاحتياج الخليل إليه؛ مكافأة له على عبوديته، لا لاحتياجه تعالى إليه، لأنه منزه عن ذلك، فهو مالك كل شئ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي: عالما. قال ابن كثير في تفسيرها: أي علمه الفذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة مما تراءى للناظرين، وما توارى. فوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ قال ابن عباس: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ الآية. وخير بين الأديان فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ. قلت فأظهر

فصل: في المصائب تصيب الإنسان

الله في هذه الآية المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان. 2 - روى الإمام أحمد عن أبي بكر قال: «يا رسول الله! كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء، قال: بلى، قال: فهو مما تجزون به» وفي رواية «إنما هي المصيبات في الدنيا» وفي رواية: «المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء»، وفي رواية عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية «هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها» وفي رواية قال: «يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة، حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير» وفي رواية: «إن المؤمن يؤجر في كل شئ حتى في القبض عند الموت». وفي رواية عنها «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه». وروى سعيد بن منصور أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سددوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها». وفي الصحيحين» عنه عليه الصلاة والسلام «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته». وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قيل يا رسول الله من يعمل سوءا يجز به؟ قال: نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا، فهلك من غلب واحدته عشراته». 3 - ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» وروى الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري عن ابن عباس قال: «أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم» قال ابن كثير، وكذا روي عن أنس ابن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف». فصل: في المصائب تصيب الإنسان: رأينا في المجموعة السابقة قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فهذه الآية

[سورة النساء (4): آية 127]

والنصوص التي ذكرناها بمناسبتها تفيد أن صاحب الذنب مجازى به فإن كان مسلما ففي الدنيا، ويحتمل أن يؤخر إلى الآخرة إذا لم يرد الله له السلامة في الآخرة، وإن كان كافرا فعذابه في الآخرة، وقد يعجل الله له العقوبة في الدنيا زيادة على الآخرة، والله- عزّ وجل- يقول في سورة الشورى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال البيضاوي: «والآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر، منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه» أقول: كلام البيضاوي في التخصيص يظهر في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم معصومون عن الذنب، فالمصيبة في حقهم رفع درجات، أما في غير الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن الإنسان لا يخلو من ذنب، وقد يكون ذنبه في تقصيره في حقوق الإسلام، أو في حقوق الغير قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فالأمة بمجموعها قد تصاب بسبب قصور بعضها؛ لأن هناك مسئولية مشتركة بشكل ما بين بني الإنسان، أو بين المسلمين بعضهم مع بعض، فالأصل في المصيبة أن تكون بسبب ذنب، وهي في حق المسلم رحمة من الله- عزّ وجل- به، وهي في حق الكافر سخط من الله وعقوبة عاجلة، وهاهنا قد يلتبس الأمر على كثير من الناس، وأهل البصيرة يعرفون ويميزون، ويدركون الحكمة ويسلمون لله فعله، وإذا أراد عبد السلامة فليقم بحق الله قياما كاملا في أمر نفسه وغيره، وعندئذ يكون الابتلاء في حقه رفع درجات. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ الإفتاء: تبيين المبهم، والاستفتاء: السؤال عن حكم الله فيما هو مبهم والمعنى: ويسألونك الإفتاء في النساء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ أي: الله وكتابه القرآن يفتيكم فيهن، وقوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ. معناه: والمتلو عليكم في القرآن في حق اليتامى يفتيكم فيهن، وهو إشارة إلى قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ... نفهم من هذا أن تلك الآية في أول سورة النساء تفتيكم فيما تسألون عنه، والله يفتيكم فيما يأتي فيما يحتاج إلى تبيان. ويتامى النساء اللاتي ذكرهن الله من قبل وصفهن هنا اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها، فأشركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها (أي عن أن ينكحها)، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية رواه البخاري

فائدة

ومسلم. فمعنى اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن في الآية: أي لا تعطونهن ما فرض لهن من الميراث، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي: في أن تنكحوهن لجمالهن، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أي: اليتامى. كانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوامين بالأمور دون الأطفال والنساء. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ القسط: العدل في الميراث والمال. والخطاب للأئمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم به. فائدة: هذه الآية من غوامض الآيات، وتحتاج إلى دقة فهم، ومزيد علم، فلينتبه القارئ للكلام عنها. في أول السورة: مر قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ... ثم قال: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً .. ثم ذكر بعد ذلك أحكام اليتامى، فهذا كله مما تلي علينا وله صلة بأحكام يتامى النساء عامة، وخلاصته أن اليتيمة إن شاء وليها أن يتزوجها تزوجها بمهر مثلها، وإن رغب عنها فعليه أن يزوجها إذا جاء طلابها. وحكمها في ما سوى ذلك حكم اليتامى عامة، وقد أمر الله بالقيام بالقسط لليتامى، مفصلا أحكام ذلك في أول سورة النساء، فمن ثم علمنا أن ما ورد في أول سورة النساء يوضحه ما في هذه الآية، إذ فيها تفصيل لصفات من كان الحديث عنهن في أول السورة. ففي أول سورة النساء، حكم يتيمات النساء واليتامى عامة. وفي هذه الآية استفتاء عن أمور النساء عامة وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ فبين الله- عزّ وجل- أنه سيبين ما له علاقة بذلك، وأن ما تلاه في أول سورة النساء من أحكام اليتيمات واليتامى عامة مبين لبعض أمورهن. فما تلي من قبل، وما سينزله من بعد، كل ذلك جواب للاستفتاء في شأن النساء. نفهم من ذلك أنه ما من قضية من قضايا النساء إلا وقد أفتى الله بها فيما مر ويمر. ومن ثم تأتي الآيات الثلاث التالية توضح بعض أحكام النساء؛ تنفيذا لوعد الله في الإفتاء في شأن النساء. إذن: فالآية تعرض أن الناس يستفتون في شأن النساء، والآية تبين أن ما أنزله الله، وما ينزله فيه بيان لكل ما له علاقة بهذا الشأن. وقد لخص الله ما أنزل في شأنهن ومن

[سورة النساء (4): آية 128]

هن اللواتي بين أحكامهن في أول السورة، فهل اتضحت هذه الآية وصلة ما بعدها بها، وما محل ذلك كله في سياقها؟ الآيات الثلاث التالية: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً النشوز: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته، وأن يؤذيها بسب أو ضرب. والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها بسبب كبر سن أو دمامة، أو سوء في خلق أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك. والمعنى أنه إذا توقعت امرأة ما من زوجها نشوزا أو إعراضا لما لاح لها من مخايله وأماراته، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً. أي: فلا إثم عليهما أن يتصالحا، وذلك بأن تطيب له نفسا عن القسمة، أو عن بعضها، أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. أي: من الفرقة والنشوز، أو من الخصومة في كل شئ. أو المعنى كما أن الخصومة شر من الشرور، فإن الصلح خير من الخيور. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. أي: جعل الشح حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، ولا تنفك عنه. يعني أنها مطبوعة عليه. والمراد هنا أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها أو بشيء لها. والرجل لا يكاد يسمح بأن يقسم لها أو بشيء إذا رغب عنها، فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته ومصلحته ومنفعته. ثم رفع الله الهمة إلى الإحسان والتقوى، وفي ذلك حث على مخالفة الطبع، ومتابعة الشرع فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. أي: وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن، وأحببتم غيرهن، وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة، وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة، فإن الله عليم بإحسانكم وتقواكم وسيثيبكم عليه. فوائد: 1 - في سنن سعيد بن منصور عن عروة قال: «أنزل الله في سودة أم المؤمنين رضي الله عنها وأشباهها وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً وذلك أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة قد أسنت، ففرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم» وروى الشافعي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة، وكان يقسم لثمان. 2 - روى ابن أبي حاتم. جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قول الله- عزّ

[سورة النساء (4): آية 129]

وجل- وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. 3 - عند قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يروي ابن كثير الحديث الذي رواه أبو داود: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق». وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ تمام العدل أن يسوي بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال، والمكالمة والمفاكهة والجماع وغيرها، وهذا كله غير مستطاع للإنسان مهما كان حريصا في تحري ذلك، ولذلك فرض الله العدل في النفقة والكسوة والمبيت، ولم يفرض فيما سوى ذلك. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (يعني القلب) فمثل هذا عفا الله عن العدل فيه. وأما ما فرض الله فيه العدل فواجب فقد روى الإمام أحمد وأهل السنن عنه صلى الله عليه وسلم «ومن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط». فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ المعلقة: هي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة. والمعنى: فلا تجوروا كل الجور على المرغوب عنها فتتركوها كالمعلقة. أي إذا لم يكن العدل المطلق ممكنا، فراعوا ألا تفرطوا في حق المرغوب عنها، لدرجة أن تجعلوها كالمعلقة، بحرمانها قسمها وذلك حرام إلا برضاها، أو بعدم الإقبال عليها في قسمتها وذلك ضار بها. وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. أي: وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض. أو المعنى: وإن تصلحوا بينهن وتتقوا الجور فيهن يغفر لكم ميل قلوبكم، ويرحمكم فلا يعاقبكم. وَإِنْ يَتَفَرَّقا. أي: إن لم يصطلح الزوجان على شئ، وتفرقا بالخلع، أو بتطليقه إياها، وإيفائه مهرها ونفقة عدتها. يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. أي: يغن الله كل واحد منهما من غناه، أي يرزقه إن شاء زوجا خيرا من زوجته، وعيشا أهنأ من عيشه. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً واسعا في عطائه، إذ الواسع هو الغني المقتدر، حكيما إذ أذن في الطلاق والتسريح.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: هذه هي المجموعة الخامسة في هذا المقطع وتبدأ من قوله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ... ومحل هذه المجموعة في السياق من حيث إن هذا المقطع بين الله- عزّ وجل- فيه أنه أنزل كتابه ليحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بين الناس بالحق. ومن جوانب العدل والحق ما له علاقة بقضايا النساء. ومن ثم جاء الاستفتاء، وكانت الفتوى، ففي المجموعة بيان للحق والعدل في هذا الشأن ضمن محور التقوى الذي هو محور سورة النساء. ومن ثم تكرر ذكر التقوى في هذه الآيات. ثم تأتي المجموعة السادسة في هذا المقطع لتذكر بالتقوى، التي هي محور هذه السورة وتذكر بالله- عزّ وجل- وباليوم الآخر. وهذه هي المجموعة السادسة، وبعدها تأتي آية الختام في هذا المقطع. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بعد أن ختم الله- عزّ وجل- الآية السابقة بالتذكير باسمين من أسمائه، بين غناه وقدرته بذكر أن له ما في السموات وما في الأرض خلقا ورزقا وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فهذه هي الوصية الدائمة لنا، وللأمم قبلنا أن نتقي الله، كيف لا ونحن عبيده، فالمعنى: أن هذه وصية قديمة ما زال يوصي الله بها، ولستم مخصوصين بها، لأنه بالتقوى وحدها يسعد الإنسان عند الله. وكما أمر من قبلنا بالتقوى، وأمرنا بها، فقد قال لنا ولهم: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً. أي: غنيا عن خلقه، وعن عبادتهم مستحقا لأن يحمد؛ لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد. كيف وهو مالك السموات والأرض وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وإذا كان ذلك فلا تتكلوا على غيره واتخذوه وحده وكيلا لكم في شئونكم كلها، وتكرير قوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لما هو موجب تقواه والتوكل عليه، لأن الخلق لما كانوا كلهم له، وهو خالقهم ومالكهم، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصي؛ متوكلا عليه لا على غيره. وقوله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا ... وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا في هذا السياق دليل على أن رأس الأمر التوحيد والتوكل. ثم خوف الله- عزّ وجل- عباده فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ. أي: إن يشأ يعذبكم عذاب استئصال أيها الناس ويوجد إنسا آخرين مكانكم، أو خلقا آخرين غير الإنس. وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً. أي: بليغ القدرة مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا في عمله،

[سورة النساء (4): آية 135]

وحاله، وقلبه، واعتقاده وسلوكه وجهاده فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وإذا كان الأمر كذلك فما للإنسان يطلب إحداهما دون الأخرى، والتي يطلبها أخسها. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً سميعا للأقوال، بصيرا بالأفعال، وهو وعد ووعيد. وإذ استقرت معاني مالكيته وقدرته وثوابه في الدنيا والآخرة، يصدر الله أمره بالعدل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ. أي: كونوا مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا. شُهَداءَ لِلَّهِ. أي: مقيمين شهادتكم لوجه الله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. أي: ولو كانت الشهادة على أنفسكم أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. أي: ولو كانت الشهادة على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. أي: إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يمنعنكم غناه عن الشهادة عليه طلبا لرضاه، أو كان المشهود عليه فقيرا فلا يمنعكم فقره من الشهادة عليه ترحما عليه، لأن الله أولى بالأغنياء والفقراء بالرعاية للجميع والرحمة للجميع. أما أنتم فواجبكم إقامة شهادة الحق. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا. أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية والبغض أو الحب عن العدول عن الحق إلى الباطل، أو من أن تتركوا العدل إلى الجور. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً اللي: الحرف، والإعراض: الترك والمنع. والمعنى: وإن تلووا عن شهادة الحق، أو حكومة العدل، بتحريف الشهادة والحكم، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم بمنعكم الشهادة وتركها، وعدم أدائها، فإن الله خبير بعملكم فيجازيكم عليه. قال عليه الصلاة والسلام: «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها». فائدة: شهادة الإنسان على نفسه هي الإقرار على نفسه، لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق، والدعوى والشهادة والإقرار تشترك جميعها في الإخبار عن حق لأحد على أحد. غير أن الدعوى: إخبار عن حق لنفسه على الغير، والإقرار: إخبار عن حق للغير على نفسه، والشهادة: إخبار عن حق للغير على الغير، والشهادة فرض .. كلمة في سياق المقطع: بدأ المقطع بذكر الحق، وانتهى بذكر العدل وإقامة الشهادة. وبين الحكم بالحق الذي هو

كلمة في سياق المقاطع الأربعة الأخيرة

القرآن، وذكر العدل تلازم، إذ لا عدل ولا حق إلا ما وافق حكم الله. وفيما بين الحق والعدل وإقامة الشهادة تلازم، إذ يضيع الحق والعدل بلا شهود عدول، وبلا أمة تحمل الحق والعدل. وفيما بين البداية والنهاية ذكرت قضايا من الحق والعدل في شئون الحياة، وفي شئون النساء، وفي شئون العقيدة، وكل ذلك بما يتناسب مع ما تدور حوله السورة من محور العبادة والتقوى، والإيمان والعمل الصالح. كلمة في سياق المقاطع الأربعة الأخيرة: جاءت المقاطع الأربعة بعد آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً. ولو أنك تأملت المقاطع الأربعة الأولى من السورة؛ لرأيت أنها ركزت على قضايا هي أقرب إلى قضية الأمانة: الإرث، وأداء أموال اليتامى إليهم، وعدم أكل أموال الناس بالباطل، إلى الصلاة وهي أمانة في عنق الإنسان. ولو أنك تأملت المقاطع الأربعة التالية لما سبق لرأيت أنها ركزت على قضايا هي أقرب إلى قضية الحكم، فكأن الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ... كانت جسرا بين ما قبلها وما بعدها، هذا مع ملاحظة أن المقاطع الأربعة الأولى فيها ما له علاقة بالحكم، وأن المقاطع الأربعة التالية فيها ما له علاقة بالأمانة. لقد جاءت المقاطع الأربعة الأخيرة بعد آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وجاء المقطع الأخير ليبدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ولينتهي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ. أي: بالعدل، فالمقطع الرابع- إذن- واضح الصلة بآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وعلى هذا فإننا نفهم أن المقاطع الأربعة لها صلة بالحكم بالعدل. إن الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر، وإن الجهاد الدائم هما الطريقان الوحيدان لإقامة الحكم بالعدل. إنه ما لم يكن المسلمون صفا واحدا، ذا قيادة واحدة، مطاعة بالحق، وما لم يكن هذا الصف على استعداد دائم للجهاد، وعلى تعبئة جزئية أو كلية، فإن العدل لن يقوم، وإن الحكم الإسلامي العادل لن يقوم.

كلمة في ارتباط سياق المقاطع بمحور السورة

كلمة في ارتباط سياق المقاطع بمحور السورة: بعد مقدمة سورة البقرة التي تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، جاءت آيات خمس تأمر بعبادة الله كطريق إلى التقوى، وتنهى عن الشرك، وتحرر من الريب، وتنذر الكافرين، وتبشر المؤمنين الصالحين، فرسمت بذلك الطريق للوصول إلى التحقيق بالتقوى، ومن التقوى الاهتداء بالقرآن، والإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق في سبيل الله، وقد جاءت المقاطع الأربعة الأخيرة تعمق في موضوع التقوى، فبينت أن من التقوى طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة أولي الأمر من المسلمين، ومن التقوى القتال في سبيل الله، ومن التقوى الحكم بكتاب الله وعدم الجدال عن الخائنين، ومن الملاحظ أنه قد ورد في أواخر المقاطع الأربعة قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وكان في المقطع حديث عن الإيمان والعمل الصالح وبشارة لأهلهما وكان فيه إنذار للكافرين وفضح للمنافقين. قلنا من قبل: إن سورة النساء تفصل في محورها من سورة البقرة وهي الآيات الخمس وفي امتدادات هذا المحور في السورة: ومن امتدادات هذا المحور في السورة قضايا القتال، وقضايا المرأة، وقضايا الصلاة، وقضايا الشهادة، وقد رأينا تفصيلات كثيرة لذلك في سورة النساء. ومن أبرز مظاهر هذه الصلة: أن صلاة الخوف في سورة البقرة جاءت في ثنايا الكلام عن قضايا النكاح والطلاق، والملاحظ أن صلاة الخوف في سورة النساء قد جاء بعد مقطعها المقطع الذي فيه الاستفتاء عن النساء، وفيه ذكر لمواضيع الوفاق والفراق. وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل: بأن لكل سورة من القرآن محورها في سورة البقرة، وأن السورة تفصل في هذا المحور وفي امتدادات معانيه الأشد لصوقا به؛ فهي تجذب المعاني الأشد لصوقا في المحور إلى المحور، ثم تفصل وتوضح وتكمل وتؤصل وتفرع وتذكر، وكل ذلك على ترتيب خاص، ومن خلال سياق خاص للسورة الواحدة. فأنت ترى كيف أن سورة النساء تتألف من مقاطع، وكل مقطع له وحدته، وللسورة كلها سياقها الخاص الجامع، وكل ذلك مرتبط بالمحور. فالسورة تبدأ بالأمر بتقوى الله الذي خلق النساء والرجال، وتبدأ بالأمر باتقاء الأرحام، ثم تسير في تبيان أحكام لها صلة بالأسرة، ولها صلة بالنساء والرجال،

كلمة قصيرة بين يدي المقطعين التاسع والعاشر

وتأمر بالعبادة التي هي طريق للتقوى، فإذا تحدثت عن دائرة الأسرة تنتقل إلى دائرة أوسع، ثم تعود إلى دائرة الأسرة، وكل ذلك مرتبط بالآية الأولى من السورة. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. كلمة قصيرة بين يدي المقطعين التاسع والعاشر: أثناء الكلام عن سورة البقرة قلنا عن آية البر لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا ... إنها لخصت ما مر وفصلت فيه فقد فصلت من مقدمة سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لقد فصلت ذلك بقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وختمت آية البر بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. والملاحظ أن المقطعين التاسع والعاشر في سورة النساء يبدءان بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فههنا في هذين المقطعين من سورة النساء يأتي تفصيل لما يدخل في ماهية التقوى وماهية النفاق والكفر. فهما تفصيل للمحور من سورة البقرة وارتباطاته وامتداداته إنهما تفصيل لجزء مما يدخل تحت قوله تعالى من المحور: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* فلكي تتقي عليك أن تؤمن وعليك أن تتحرر من النفاق ومن الكفر نجد فيهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا .... بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وسنرى بعد العرض للمقطعين سياقهما الخاص وارتباطهما بالمحور بشكل أكثر تفصيلا. المقطعان التاسع والعاشر يمتد هذان المقطعان من الآية (136) حتى نهاية الآية (162). وكل من المقطعين مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. والمقطعان يكملان بعضهما البعض. فهما في موضوع واحد؛ ولذلك فإن خاتمة المقطع الثاني لها صلة ببداية المقطع الأول: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. ولذلك، فسنعرض المقطعين عرضا واحدا: [سورة النساء (4): الآيات 136 الى 140] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)

[سورة النساء (4): الآيات 141 الى 143] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) *** [سورة النساء (4): الآيات 144 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) *** [سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) *** [سورة النساء (4): آية 150] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150)

[سورة النساء (4): الآيات 151 الى 152] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) *** [سورة النساء (4): الآيات 153 الى 159] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

كلمة في المقطعين

[سورة النساء (4): الآيات 160 الى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) كلمة في المقطعين: بعد مقدمة سورة البقرة، دعا الله الناس جميعا ليسيروا في الطريق المؤدي إلى أن يكونوا من المتقين. وذلك بالسير في طريق العبادة والتوحيد. وتحداهم بهذا القرآن. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات، بالجنة. وإذ كان الإيمان بالغيب، والإيمان بالقرآن، والكتب السابقة، ركنا من أركان التقوى. فههنا في سورة النساء التي تفصل في الطريق إلى التقوى وفي ماهيتها، يأتي الأمر بتجديد الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. ويأتي الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير المنافقين بالعذاب. هناك في سورة البقرة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وفي السورة التي تفصل في ذلك المحور، تأتي التتمة: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وفي هذا السياق يحذرنا الله- عزّ وجل- من سلوك طريق النفاق. وإذا كان أهل الكتاب مكلفين بالإيمان بالقرآن، ليكونوا من المتقين، فإنه في هذا السياق يقص الله علينا من أنبائهم، ومواقفهم ليستقر السياق على نفر منهم. لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ .... لاحظ التشابه بين هذه الصفات، وبين صفات المتقين في سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ إن السورة التي تفصل في الطريق إلى التقوى، تصف التقوى،

المعنى العام للمقطعين

وما يدخل فيها وما يخرج منها. كما تفصل في طريقها الذي هو العبادة، والتوحيد، والإيمان، والعمل الصالح. المعنى العام للمقطعين: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في شرائع الإيمان، وشعبه، وأركانه، ودعائمه، من باب تكميل الكامل، وتقريره، وتثبيته، والاستمرار عليه. ثم بين تعالى أن الذي يكفر بركن من أركان الإيمان، فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد. ثم أخبر تعالى عمن دخل في الإيمان، ثم رجع عنه ثم عاد فيه، ثم رجع، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات. فإنه لا توبة له بعد موت، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا، ولا مخرجا، ولا طريقا إلى الهدى. وبعد أن ذكر أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر بنوعيهم، من كان ابتداء كافرا، ومن كفر بعد إيمان، عقب بوصف المنافقين. ويذكرنا هذا بمقدمة سورة البقرة إذ تتكلم عن المتقين، ثم الكافرين، ثم المنافقين، فسورة النساء وهي التي تفصل في ماهية التقوى، ترسم الطريق ليكون الإنسان من أهل التقوى متطهرا من الكفر والنفاق. بدأ الكلام هنا عن المنافقين، بالأمر بأن يبشرهم رسوله والمؤمنون بالعذاب الأليم. ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. بمعنى أنهم معهم في الحقيقة. يوالونهم، ويسرون إليهم بالمودة. ثم بين تعالى سبب موالاتهم للكافرين: طلبهم بهذه الموالاة العزة، والجاه في الدنيا. ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها له وحده، لا شريك له، ولمن جعلها له من أجل أن يهيج القلوب فتطلب العزة من جنابه وحده؛ فتقبل على العبودية له. فينتظم أصحابها في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. ثم حرم الله الجلوس في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ بها فيه. وبين أننا إذا ارتكبنا النهي بعد أن وصل إلينا، ورضينا بالجلوس مع الكافرين والمنافقين في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ بها وينتقص منها، وأقررناهم على ذلك، فقد شاركناهم في الذي هم فيه، ومن شارك الكافرين في كفرهم، فقد استحق أن يشركه الله معهم في نار جهنم أبدا. ويجمع بينهم في دار العقوبة، والنكال، والقيود، والأغلال، وشراب الحميم، والغسلين. نفهم من ذلك أن مجالسة الكافرين مع إعلانهم الكفر، واستهزائهم بدين الله مع الإقرار، نفاق. ثم زاد الله المؤمنين بصيرة بالمنافقين، فوصفهم بعد أن وصفهم بمجالسة الكافرين على الحال التي مرت بنا، بأنهم يتربصون

بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى: أنهم ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفرة عليهم، وذهاب ملتهم. ولكنهم لنفاقهم، إن رأوا نصرا، وتأييدا للمسلمين، يتوددون إليهم بالتظاهر بأنهم معهم. وإن كان للكافرين إدالة على المؤمنين، كما قد يقع في بعض الأحيان، يقولون للكافرين: لقد ساعدناكم في الباطن. وما ألونا المؤمنين خبالا، وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم. يصانعون المؤمنين إن كانت لهم غلبة. ويصانعون الكافرين إن كانت لهم غلبة، ليحظوا عند الجميع، ويأمنوا الجميع. وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة يقينهم. ثم هددهم الله- عزّ وجل- بأن لا يغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليهم ظاهرا في الحياة الدنيا؛ لما لله في ذلك من الحكمة. فيوم القيامة لا تنفع الظواهر. ويوم القيامة تظهر العزة كلها للمؤمنين. ولا يكون للكافرين على المؤمنين أدنى طريق. فلا يغتر من يغتر بما قد يكون للكافرين من غلبة على المؤمنين في الحياة الدنيا. ثم زادنا الله بصيرة في شأن المنافقين، وأنهم من جهلهم بالله، وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم كما راج على الناس- حتى جرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم يوم القيامة. وأن أمرهم يروج عند الله. ولكن أنى يروج خداعهم على الله، وكيف يمر. فالله الحكم العدل، البصير، الخبير، يستدرجهم حتى في الدنيا- في طغيانهم، وضلالهم. ويخذلهم عن الحق، والوصول إليه فكذلك يوم القيامة هم مجزيون على كفرهم. ثم بين الله- عزّ وجل- صفة أخرى من صفات المنافقين. وكيف أنهم إذا عملوا أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، كان عملهم محاطا بالكسل. فإذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها، ولا خشية في شأنها ولا يعقلون معناها. ومن ثم يقومون إليها كسالى. وهذه صفة ظاهرهم في أدائها، وأما صفة بواطنهم الفاسدة، فهي أنهم لا إخلاص لهم فيها. وإنما يؤدونها مراءاة للناس، ومصانعة لهم. ثم هم في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون. ثم زادنا الله بصيرة في شأن المنافقين، فوصفهم بالحيرة، والتردد بين الإيمان، والكفر، والمؤمنين، والكافرين. فلا هم مع المؤمنين ظاهرا، وباطنا. ولا هم مع الكافرين ظاهرا، وباطنا. بل ظواهرهم مع المؤمنين، وخاصة عند ما تكون الغلبة للمؤمنين. وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك. فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك. وذلك علامة من أراد الله إضلاله: أن لا تجد له طريقا واضحا. وبعد أن اتضحت

حال المنافقين، وأن أساس نفاقهم هو موالاة الكافرين، نهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أي: نهى عن مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. ثم حذر أنه إن فعلنا ذلك، فإننا نكون قد جعلنا الحجة قائمة علينا في استحقاقنا عقوبة الله. ثم بين الله- عزّ وجل- ما أعده من عقوبة للمنافقين، جزاء على كفرهم الغليظ. وهو استحقاقهم العذاب في أسفل النار، في توابيت من نار، مغلقة عليهم، مقفلة. وأنهم لا ناصر لهم من الله ينقذهم مما هم فيه. ويخرجهم من أليم العذاب. ثم أخبر تعالى أنه من تاب منهم في الدنيا، تاب الله عليه، وقبل ندمه إذا أخلص في توبته، وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، وبدل الرياء بالإخلاص. فعندئذ يكونون في زمرة المؤمنين. ينالهم ما ينالهم من الأجر العظيم. ثم أخبر تعالى عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم، وأنه منزه- تعالى- أن يعذب من أصلح العمل وآمن. إذ إنه تعالى يشكر من شكر له. ومن آمن علم ذلك منه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء. في هذا السياق الذي علمنا فيه الله- عزّ وجل- أنه منزه عن مقابلة الشكر والإيمان بالعذاب، وأنه يعذب من يستحق العذاب، أدبنا على ألا ندعوا على أحد إلا إذا ظلمنا، وألا نتكلم على أحد إلا إذا ظلمنا. وندبنا إلى العفو حتى في مثل هذا؛ لأن من صفاته هو، العفو مع كمال القدرة. ثم بين لنا أنه إن عاقب، لا يعاقب إلا بعد استحقاق العذاب. فليحذر أحد عقوبته العادلة، إن كفر أو نافق. ثم يعود السياق إلى الكلام عن الكفر- الذي ينقض الإيمان- وعن أهله. إذ المقطع كله في قضية الإيمان، وما ينقضها من كفر، أو نفاق. فتوعد الله الكافرين به- تعالى- وبرسله. وخاصة الذين يفرقون بين الله ورسله في الإيمان. فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض بمحض التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك، بل بمجرد الهوى والعصبية، كحال اليهود. إذ كفروا بعيسى، وكحالهم وحال النصارى إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء. فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى الأرض. فمن رد نبوة واحد منهم، فقد رد نبوة الكل. لذلك وصف الله- عزّ وجل- أمثال هؤلاء بأن كفرهم محقق لا شك فيه، وأنهم كما استهانوا بمن كفروا به، إما لعدم نظرهم

فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه، وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه. وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته. فإنهم في مقابل هذه الاستهانة، يعاقبهم الله بالعذاب المهين في الآخرة. أما المؤمنون الذين آمنوا بالله، وبكل الرسل، فقد أعد الله لهم الجزاء الجزيل، والثواب الجليل، والعطاء الجميل على ما آمنوا بالله ورسله، ووعدهم المغفرة، والرحمة. ولنلاحظ في هذا المقطع كيف أنه بدأ بالدعوة إلى تحقيق الإيمان وبين الكفر وجزاءه. وهدد المنافقين، وبين صفاتهم ثم بدأ يناقش نوعا من الكافرين. وهم الذين يكفرون ببعض الرسل دون بعض. وأول من ينطبق عليهم هذا الوصف هم اليهود والنصارى. ومن ثم يبدأ المقطع يناقش هؤلاء، ويسفه ما هم عليه كما سنرى إن شاء الله- والمهم هنا أن نلاحظ كيف أن هذين المقطعين اللذين هما في حكم المقطع الواحد، منصبان على قضية الإيمان التي محلها في التقوى ما عرفناه في أول سورة البقرة. فلنتذكر أن محور النساء هو تبيان ماهية التقوى. لكي يكون إدراكنا للسياق الجزئي، والعام، صحيحا. ولنرجع إلى استعراض المعاني العامة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا مكتوبا من السماء مباشرة. وإنما سألوه هذا على سبيل التعنت والكفر، لا رغبة بالآية من أجل الإيمان، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآياته ظاهرة واضحة. فبين الله لرسوله أن سؤالهم هذا من باب التعنت، لا من باب طلب الدليل. وأن هذه طبيعتهم المتوارثة. فها هم مع كل ما رأوا من الآيات مع موسى عليه السلام، طالبوه أن يريهم الله جهرة، فعوقبوا. وعبدوا العجل بعد كل البينات، فعوقبوا، وعفي عنهم. وأخذت عليهم مواثيق غليظة في أوضاع معجزة. فنقضوا المواثيق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء، ووصفوا أنفسهم بقسوة القلب وتغليفه، فرارا من الموعظة والطاعة. وادعوا أنهم قتلوا المسيح ابن مريم. ورموا أمه الطاهرة بالزنا. هذه هي طبيعتهم الظالمة. فهل يستغرب موقفهم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الطبيعة، وبسبب من ظلمهم هذا، وبسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب أكلهم الربا، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل، شدد الله عليهم في الحياة الدنيا، وسيعاقب الكافرين منهم في الآخرة عقابا أليما. وحتى لا يظن ظان أنهم ليس فيهم إلا من هذا شأنه، استثنى الله من هذه الأوصاف، الراسخين في العلم منهم،

المعنى الحرفي

والمؤمنين بكل وحي أنزله الله، والمقيمين الصلاة، والمؤتين الزكاة، والمؤمنين بالله، واليوم الآخر. فهؤلاء سيؤتيهم الله أجرا عظيما. إن السياق في هذه المجموعة الأخيرة انصب باتجاهه الرئيسي، على هذه المعاني. ولكنه خلال ذلك، تحدث عن أشياء كثيرة. عن رفع المسيح إلى السماء. وعن نزوله قبيل يوم القيامة. وعن أشياء أخرى. وكما بدأ السياق بالأمر بالإيمان للمؤمنين. فقد ختم بوصف طائفة من أهل الكتاب متحققة بأركان التقوى. ولنتذكر مقدمة سورة البقرة، التي حددت صفات المتقين، والكافرين، والمنافقين. لنرى كيف أن هذا المقطع بيان وتفصيل لمحل الإيمان في التقوى، وما ينافيه. ففي أول سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فلنقارن هذا بآخر آية في هذا المقطع: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ولنتذكر الآية الأولى في هذا المقطع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ... لنرى بوضوح كيف أن سورة النساء شرح لقضية التقوى وتفصيل لها. وإذا كان الإيمان هو الركن الرئيسي في التقوى. فقد انصب الكلام في المقطعين عليه. وستتضح الأمور لنا أكثر أثناء الشرح الحرفي لهذين المقطعين. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. أي: محمد وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ أي: القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ. أي: جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، أي كل الكتب، والخطاب للمسلمين. والمعنى اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه، وجددوه. قال ابن كثير: وقال في القرآن: نزل لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم. وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. أي: ومن يكفر بشيء من ذلك. فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي: فقد

[سورة النساء (4): آية 137]

خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد، لأن الكفر بأي ركن أو بأي مما يدخل في كل ركن من أركان الإيمان كفر بالكل. والملاحظ أنه قد ذكرت خمسة أركان من أركان الإيمان هنا، لأن الركن السادس- وهو الإيمان بالقدر- جزء من مضمون الإيمان بالله، لأن الإيمان بالقدر إيمان بعلم الله الأزلي، وإرادته الأزلية، وإبراز ما أراده بقدرته، وكون ذلك مسجلا في اللوح المحفوظ وكل ذلك يدخل في الإيمان بالله. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم المنافقون آمنوا في الظاهر، وكفروا بالسر مرة أخرى، وازدياد الكفر منهم، ثباتهم عليه إلى الموت، أو أنهم آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، على حسب الأحوال من ظهور للإسلام وأهله، أو ظهور على الإسلام والمسلمين. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بسبب كفرهم الذي لا يغفره الله. وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. أي: طريقا إلى النجاة، أو إلى الجنة بسبب كفرهم مرة بعد مرة. وقد استدل الإمام علي بهذه الآية وكون الكفر بعد الإيمان ذكر مرة بعد مرة ثلاث مرات: أن المرتد يستتاب ثلاثا. وذكر المنافقين بعد هذه الآيات يشعر بأن هذه حال من أحوال المنافقين. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ. أي: أخبرهم، ووضعت (بشر) مكان أخبر تهكما بهم على طرائق العرب في الخطاب بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أي: مؤلما. ثم وصف الله المنافقين مبينا حالهم بتوسع، كما فعل في مقدمة سورة البقرة؛ لخفاء حال المنافقين، ولكثرة خطرهم وعظمه. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قلوبهم معهم، وعواطفهم معهم، ويعطونهم نصرتهم، ويستنصرون بهم، ويعطونهم طاعتهم ومودتهم. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ. أي: إن المنافقين يوالون الكفرة طلبا منهم للمنعة والنصرة والجاه، وظهور هذه المعاني في عصرنا بارز جدا ويعطيها تفسيرها العملي، ففي عصرنا نجد من مظاهر الولاء، انتساب أبناء المسلمين للأحزاب الكافرة، وإعطاء قيادتها الكافرة الولاء والطاعة والنصرة بغية تحصيل شئ من جاه الدنيا ومتاعها. ولذلك بين الله- عزّ وجل- أن العزة له وحده ليقطع دابر مثل هذه الأفكار. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعطي منها من يشاء، ويمنعها من يشاء. فلا يطلبن المؤمن العزة إلا من الله. وأي قيمة لعزة في الدنيا تعقبها ذلة أبدية في الآخرة، ولأن المجالسة مظهر من مظاهر الولاء، وطلب العزة، ولكون هذا مرتبطا بقضية النفاق، جاءت الآية وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ. أي: في القرآن، وهو إشارة إلى ما ورد في سورة الأنعام، مما سيأتي معنا أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى

[سورة النساء (4): آية 141]

يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. أي: حتى يشرعوا في كلام غير الكفر والاستهزاء بالقرآن، والخوض: هو الشروع. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. أي: في الوزر إذا مكثتم معهم. ولم يرد به التمثيل من كل وجه، فإن خوض المنافقين فيه كفر، ومكث هؤلاء إن رافقه رضى ومشاركة فهو كفر، وإن رافقه كراهة وعدم مشاركة فهو معصية. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لاجتماعهم في الكفر والاستهزاء، فكما شارك المنافقون الكافرين في الكفر، كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم. وقد أفهمت الآية أن من أخلاق المنافقين مجالسة الكافرين ومشاركتهم ومؤانستهم، والسماع منهم كلام الكفر، ومشاركتهم إياهم بالاستهزاء بالإسلام. ثم زادنا الله بصيرة بالمنافقين بمزيد من أوصافهم. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق، أو ينتظرون زوال دولتكم وظهور الكفرة عليكم، وذهاب ملتكم. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي: نصر وتأييد وظفر، قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. أي: ألم نكن مظاهرين لكم، ونعطيكم نصرتنا، ونؤيدكم. يقولون ذلك توددا ومصانعة للمؤمنين. وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ. أي: حظ من الإدالة على المؤمنين لحكمة يريدها الله. قالُوا. أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. أي: قالوا للكافرين كان بإمكاننا أن نغلبكم، ونتمكن من قتلكم، ولكنا أبقينا عليكم، وكان بإمكاننا أن نشجع المؤمنين عليكم، ولكنا ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت قلوبهم به ومرضوا عن قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهم يمنون على الكافرين في خذلانهم المؤمنين ساعة الشدة، ولو أنهم ساعدوهم لانتصر المؤمنون. ومعنى الاستحواذ: الاستيلاء والغلبة. هذا هو حال المنافقين، مصانعة للمؤمنين وكلام لهم بما يناسب، ومصانعة للكافرين، وتكليم لهم بما يرضيهم. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي: يا أيها المؤمنون والمنافقون إن الله سيحكم بينكم يوم القيامة، فيدخل المنافقين النار، والمؤمنين الجنة، فلا تغتروا أيها المنافقون بكونكم تتظاهرون بأنكم مع أهل الإيمان، فلن ينفعكم هذا التظاهر يوم القيامة. ولا تحزنوا أيها المؤمنون من مودة المنافقين للكافرين، فحسابهم على الله. وإذا كان الحكم لله خالصا ظاهرا وباطنا يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. أي: يوم القيامة، فلا غلبة يومئذ، ولا نصرة، ولا حجة لكافر على مؤمن. ويحتمل أن يكون المعنى: أنه وعد من الله للمسلمين أن الحجة لهم دائما من الله على الكافرين يلهمهم الله إياها في أي مناقشة أو جدال. ويحتمل أن

[سورة النساء (4): آية 142]

يكون المعنى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم تسليط استئصال بالكلية وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة. وعلى هذا يكون النص ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه، وانتظروه، من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين، فاستأصلوهم. وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر. ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه. كما استدل بعضهم بالآية على عدم جواز شهادة الكافر على المسلم. وقد سمى الله في الآية ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأنهم، لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء. وسمى ظفر الكافرين نصيبا تخسيسا لحظهم، لأنه لمظة من الدنيا يصيبونها. إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ. أي: يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان، وإبطان الكفر، والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، أو المعنى: يخادعون أولياء الله وهم المؤمنون، فجعل خداع أوليائه خداعا له، تشريفا للمؤمنين من باب «من آذى وليا فقد آذاني» وَهُوَ خادِعُهُمْ. أي: وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء، والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في العقبى. وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى. أي: قاموا متثاقلين كراهية الصلاة. أما مجرد الغفلة فقد يبتلي بها المؤمن يُراؤُنَ النَّاسَ. أي: يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة، والمراءاة مفاعلة من الرؤية، لأن المرائي يريهم عمله، وهم يرونه استحسانا. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. أي: ولا يصلون أصلا إلا قليلا، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا نادرا. ولو كان هذا الذكر القليل خالصا لله لكان كثيرا، ولكنه ليس خالصا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. أي: مرددين، يعني ذبذبهم الهوى والشيطان بين الإيمان والكفر، فهم مترددون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين، أي: يدفع فلا يقر. والمنافقون مترددون بين الكفر والإيمان. لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ. أي: لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين، ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون كافرين، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. أي: فلن تجد له طريقا إلى الهدى، أو فلن تجد له طريقا ما أصلا، بل هو متقلب، كل يوم هو في طريق.

فوائد

فوائد: 1 - رأينا أن السمة الأولى للمنافقين هي أن ولاءهم منحرف. وقد ذكرت الآيات السابقة مجموعة من مظاهر هذا الولاء: مجالسة الكافرين، ومشاركتهم فيما هم فيه من الهجوم على الإسلام، والاستهزاء به، ومن ذلك مودتهم الخفية للكافرين. ومن ثم نجد النداء الثاني في المقطع الثاني يتوجه لأهل الإيمان بالحذر من موالاة الكافرين كما سنرى. 2 - روى ابن مردويه أن ابن عباس كان يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه، يغفر له، ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ... » وروى الإمام مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» رواه مسلم وغيره. 3 - وروى الإمام مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (أي المترددة بين الفحلين لا تدري أيهما ينزو عليها) بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيهما تتبع». 4 - روى أبو يعلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عزّ وجل». 5 - قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق والكافر، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلم إلي، فإني أخشى عليك، وناداه المؤمن أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحظي له ما عنده، فما زال يتردد بينهما، حتى أتى عليه الماء فغرقه، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. نقول: 1 - رأينا أن المنافقين يوالون الكافرين رغبة في العزة ولقد قال الله تعالى: أَيَبْتَغُونَ

عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وتعليقا على ذلك يقول صاحب الظلال: «والله- عزّ وجل- يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله- عزّ وجل- بالعزة، فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه. هكذا تكشف اللمسة الأخيرة عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى، وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة لله وحده، فهي تطلب عنده، وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين: ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها ... العبودية لله ... فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى، وأشخاص شتى، واعتبارات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شئ من العبودية لكل أحد، ولكل شئ ولكل اعتبار. وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال .. ولمن شاء أن يختار .. وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو مؤمن بالله. وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام، ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن ... إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين .. وإلا فإن الله غني عن العالمين!. ومما يلحق بطلب العزة عند الكافر وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر، واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة، والآشوريين، والفينيقيين، والبابليين، وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية. وروى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر ابن العباس، عن حميد الكندي عن عبادة بن نسي، عن أبي ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا، فهو عاشرهم في النار». ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة، وأن الأمة في الإسلام هي

المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ. في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المجتمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال!. 2 - قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ عند قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يقول الألوسي: «والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار، لا عاجزون كما في مكة، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك، وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة. وقال شيخ الإسلام خواهرزاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر، أو يستحسنه، أما إذا لم يكن كذلك، ولكن أحب الموت أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى في سورة يونس: رَبَّنَا اطْمِسْ الآية يظهر له صحة هذه الدعوى. وهو المنقول عن الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ، أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان، موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما روي من الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يده ونظر إليه ثلاث مرات وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس- كما قالوه- كفرا. واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود، وإبراهيم، وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى، هو العلم بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم، لا الإعراض بالقلب أو الوجه فقط، وعن الجبائى أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه.

ولنرجع إلى السياق

ولنرجع إلى السياق: أمر الله بالإيمان وثبت عليه، وحذر من الكفر، ونفر من المنافقين الذين يكفرون بعد إيمان، ثم أخبر بما أعده للمنافقين، ثم وصفهم ليعرفوا وليحذروا، وكانت الصفة الرئيسية للمنافقين، انحراف ولائهم، ومن ثم يأتي المقطع الثاني ليبدأ بالنهي عن اتخاذ الكافرين أولياء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بالمصاحبة أو بالمصادقة، أو بالمناصحة وإسرار المودة إليهم، أو بإفشاء أحوال المؤمنين إليهم، أو بطاعتهم، أو بنصرتهم، أو غير ذلك من مظاهر الولاء. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة بينة في تعذيبكم. دلت الآية على أن مجرد الولاء، ولو رافقه إيمان يستحق به صاحبه التعذيب، والسلطان في الآية الحجة. قال ابن عباس: «كل سلطان في القرآن حجة» والسند إليه صحيح. إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. أي: في أسفل النار. وقال بعضهم: النار دركات كما أن الجنة درجات، والمنافقون في القعر. وقد نقل عن الصحابة وصف حالهم في هذا القعر، فقال أبو هريرة: الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد من تحتهم ومن فوقهم. وقال ابن مسعود: في توابيت من نار تطبق عليهم. قال النسفي: والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وإنما كان المنافق أشد عذابا من الكافر، لأنه أمن السيف في الدنيا، فاستحق الدرك الأسفل في العقبى تعديلا، ولأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. أي: يمنعهم من العذاب، أو ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. أي: من النفاق وَأَصْلَحُوا. ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في النفاق. أي وأصلحوا العمل. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ. أي: وثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص. وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فبدلوا الرياء بالإخلاص، وأصبحوا لا يبتغون بطاعتهم إلا وجه الله. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في الدارين، هم أصحابهم، وهم رفاقهم، وهم زمرتهم يوم القيامة. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فليسارع المنافقون إذن إلى التوبة والإصلاح والاعتصام بالله، والإخلاص له ليشاركوا المؤمنين فيه. وليستخرج توبة المنافقين، وليرفع همة المؤمنين. قال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ هذا استفهام تقريري معناه: إن الله لا يعذب المؤمن الشاكر، والإيمان معرفة المنعم والشكر

[سورة النساء (4): آية 148]

الاعتراف بالنعمة، والكفر بالمنعم والنعمة عناد، فلذا استحق الكافر العذاب. وقدم في الآية الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه، وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكرا متصلا، فكان الشكر متقدما على الإيمان. ومعنى النص: أي شئ يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً يعلم من آمن وشكر، ومن نافق أو كفر، ويشكر لمن شكر، بمعنى أنه يجزي على الشكر، أو أن شكره لعبيده هو أنه يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب. وبعد أن أمرنا الله في هذين المقطعين بالإيمان، وتحرير الولاء. ورفع همتنا إلى أن نجمع مع الإيمان الشكر، لأن الشكر أعلى درجات العبودية يحذرنا فيما يلي من خلق يتنافى مع الإيمان، وهو الجهر بالسوء فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. أي: إلا جهر من ظلم، استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم، والسوء كله لا يحبه الله سواء كان جهرا أو غير جهر، ولكن الجهر أفحش. وجهر المظلوم بالسوء إما بدعائه على الظالم، وذكره بما فيه من السوء، أو رده عليه بمثل ما ظلمه به، أو الكلام عليه ضمن حدود مظلمته للناس، ولا شك أن رفع الدعوى على الظالم، وذكر حيثيات الظلم جائز بإجماع. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. أي: سميعا لشكوى المظلوم، عليما بظلم الظالم، ثم حث تعالى على العفو، وألا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق له الجهر به، حثا على الأفضل فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. أي: إن تظهروا خيرا أو تعملوا الخير سرا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ. أي: تمحوه عن قلوبكم، وتعرضوا عن الرد على من ظلمكم. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً. أي: أنه لم يزل عفوا عن الآثام مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنته، وذكر عفوه مع قدرته دليل لمن ذهب على أن إبداء الخير وإخفاءه، والعفو عن السوء، كل ذلك في موضوع العفو. فمن عفى فقد أظهر خيرا. ومن لم يعف فقد أخفى خيرا، ومن عفا عن السوء كله، فإنه في هذا كله يكون متخلقا بأخلاق الله الكاملة. وفي الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه». دلت هاتان الآيتان على أن من أخلاق المؤمنين العفو عمن ظلمهم، وترك السوء، فالآيتان في سياقهما تدلان على أن حفظ اللسان والعفو، من القضايا الرئيسية في موضوع الإيمان، لأن السياق كله في هذا الموضوع.

فائدة وتعليق

فائدة وتعليق: - فسر ابن عباس قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. فقال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له. وقال الحسن البصري: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه. «وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه». وقال عليه الصلاة والسلام: «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» وقال مجاهد في الآية: «هو الرجل ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن» وروى البزار أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لي جارا يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على الطريق، فأخذ الرجل متاعه، فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال مالك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم اخزه، قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبدا» فهذه مجموعة نقول تفسر قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. وعلى كل حال فالظلم تدركه الفطرة وتحدده النصوص ومن ظلم يحل له أن يتكلم بما ظلم به. ولقد علق صاحب الظلال على هذه الآية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بقوله: «إن المجتمع شديد الحساسية، وفي حاجة إلى آداب اجتماعية تتفق مع هذه الحساسية. ورب كلمة عابرة لا يحسب قائلها حسابا لما وراءها؛ ورب شائعة عابرة لم يرد قائلها بها إلا فردا من الناس .. ولكن هذه وتلك تترك في نفسية المجتمع وفي أخلاقه وفي تقاليده وفي جوه آثارا مدمرة؛ وتتجاوز الفرد المقصود إلى الجماعة الكبيرة. والجهر بالسوء من القول- في أية صورة من صوره- سهل على اللسان ما لم يكن هناك تحرج في الضمير وتقوى لله. وشيوع هذا السوء كثيرا ما يترك آثارا عميقة في ضمير المجتمع .. كثيرا ما يدمر الثقة المتبادلة في هذا المجتمع، فيخيل إلى الناس أن الشر قد صار غالبا. وكثيرا ما يزين لمن في نفوسهم استعداد كامن للسوء، ولكنهم يتحرجون منه، أن يفعلوه لأن السوء قد أصبح ديدن المجتمع الشائع فيه، فلا تحرج إذن ولا تقية، وهم ليسوا بأول من يفعل! وكثيرا ما يذهب استقباح السوء بطول الألفة. فالإنسان

[سورة النساء (4): آية 150]

يستقبح السوء أول مرة بشدة، حتى إذا تكرر وقوعه أو تكرر ذكره، خفت حدة استقباحه والاشمئزاز منه، وسهل على النفوس أن تسمع- بل أن ترى- ولا تثور للتغيير على المنكر. ذلك كله فوق ما يقع من الظلم على من يتهمون بالسوء ويشاع عنهم- وقد يكونون منه أبرياء- ولكن قالة السوء تنتشر؛ وحين يصبح الجهر بها هينا مألوفا، فإن البريء قد يتقول عليه مع المسئ ويختلط البر بالفاجر بلا تحرج من فرية أو اتهام، ويسقط الحياء النفسي والاجتماعي الذي يمنع الألسنة من النطق بالقبيح، والذي يعصم الكثيرين من الإقدام على السوء. إن الجهر بالسوء يبدأ في أول الأمر اتهامات فردية- سبا وقذفا- وينتهي انحلالا اجتماعيا، وفوضى أخلاقية، تضل فيها تقديرات الناس بعضهم لبعض أفرادا وجماعات، وتنعدم فيها الثقة بين بعض الناس وبعض، وقد شاعت الاتهامات، ولاكتها الألسنة بلا تحرج. لذلك كله كره الله للجماعة المسلمة أن تشيع فيها قالة السوء. وأن يقتصر حق الجهر بها على من وقع عليه ظلم، يدفعه بكلمة السوء يصف بها الظالم، في حدود ما وقع عليه منه من الظلم!». ثم يعود السياق إلى قضية الإيمان ليقرر كفر من كفر بالله، وكفر من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، ويناقش طبقة من هؤلاء، ويعريهم فلنر تتمة المقطع: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ دلت هذه الآية على أن الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بالله ورسله جميعا. وقد كفر اليهود بعيسى ومحمد عليهما السلام، وكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم. وهناك من يكفر بكل رسول لله أصلا. ومنهم من لا يؤمن حتى بوجود الله، ولكن السياق هنا منصب على من يكفر ببعض رسل الله. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أي: طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر، ولا واسطة بينهما. وفي هذا رد على كل من يعز عليه أن يسمى كافرا وفي الوقت نفسه لا يعطي قضية الإيمان كل لوازمها. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا. أي: أولئك هم الكاملون في الكفر، وكفرهم حق ثابت لا شك فيه. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. أي: وهيأنا للكافرين عذابا مذلا في الآخرة. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وليس هذا- بعد البعثة المحمدية- لأحد إلا لمن تابع محمدا صلى الله عليه وسلم، فأمته تؤمن بكل نبي، وتؤمن بكل كتاب. أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. أي: الثواب الموعود لهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي: غفورا لذنوبهم إن كان لهم ذنوب، رحيما بهم في

[سورة النساء (4): آية 153]

الدنيا والآخرة. هذه هي إحدى قواعد الفهم لموضوع الكفر والإيمان، وإذ تتقرر القاعدة يبدأ السياق يبين ظلم اليهود الذين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ السائلون هم اليهود. قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة. قال ابن جريج: «سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان، بتصديقه بما جاءهم به» وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والظلم للحقيقة. فلم يطلبوا آية من أجل أن يتأكدوا من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات كثيرة ولكنها طبيعتهم التي سيعرض السياق حقائق عنها ليؤكد أن كفرهم وتعنتهم لا سبب له إلا ظلمهم. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ هذا جواب شرط مقدر، معناه: إن استكبرت ما سألوه فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، والسؤال من آبائهم في أيام موسى عليه السلام، وأسند إليهم لأنهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم. وما هو هذا السؤال الأفظع؟ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. أي: عيانا، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ. أي: فأخذهم العذاب الهائل، أو النار المحرقة بسبب ظلمهم بالتحكم على نبيهم في الآيات، وتعنتهم في سؤال الرؤية لا بمجرد سؤال الرؤية، فقد سألها موسى ولكنه سألها إيمانا وشوقا وهم علقوا الإيمان عليها، ومع هذا فقد أحياهم الله بعد موتهم وعفا عنهم. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ. أي: ثم اتخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا المعجزات التسع، وهي معجزات في غاية الوضوح ومع ذلك عبدوا العجل. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ تفضلا ولم نستأصلهم بل أمرهم الله أن يقتلوا أنفسهم، أو أن العفو أخروي لأن العقوبة الدنيوية قد حصلت. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. أي: حجة ظاهرة على من خالفه، فانحرافهم مع هذا وفتنتهم أثر عن طبيعتهم القاسية فلا يستغرب انحرافهم وظلمهم، وتعنتهم الحالي هو امتداد لذاك. وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ. أي: بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه. قال ابن كثير: «وذلك حين امتنعوا عن الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام، رفع الله على رءوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا ... ». وهذا مظهر آخر من مظاهر ظلمهم إذ احتاج أخذ الميثاق عليهم إلى رفع الجبل فوقهم وتهديدهم. ثم أن يكون مع مثل هذا نقض للميثاق فما أفظع هذه الطبيعة؟. وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أمروا أن يدخلوا باب القدس سجدا، أي مطأطئين الرءوس عند دخولهم، فخالفوا ما

[سورة النساء (4): آية 155]

أمروا به، وعصوا فهي طبيعتهم، العصيان والمخالفة. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ. أي: أوصيناهم بحفظ السبت، والتزام ما حرم الله عليهم، فلا يتجاوزون الحد فيه، فخالفوا وعصوا واحتالوا على ارتكاب ما حرم الله عليهم، تلك طبيعتهم. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. أي: عهدا شديدا، فنقضوا مواثيقهم كلها بدليل قوله تعالى بعد ذلك: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. أي: فبنقضهم العهود التي أخذها الله عليهم، والجواب والعقوبة سيأتيان بعد خمس آيات كما سنرى. وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ. أي: وكفرهم بحججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام. وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. أي: بغير سبب يستحقون به القتل، والرسل لا يرتكبون ما يستحقون به القتل، ولكن حتى لا يتوهم متوهم ذكرت، وما قتلوهم إلا لشدة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جمعا غفيرا من الأنبياء عليهم السلام كما سنرى في قسم الفوائد. وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ. أي: قلوبنا مغطاة محجوبة لا يتوصل إليها شئ من الذكر والوعظ وهو كالاعتذار، وما أقبحه من اعتذار. لذلك رد الله عليهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ. أي: بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. أي: إلا قليلا منهم يؤمنون، كعبد الله بن سلام وأمثاله. وَبِكُفْرِهِمْ كرر ذكر الكفر، لتكرار الكفر منهم، كلما بعث رسول. وهنا يذكر الكفر بمناسبة كفرهم بعيسى عليه السلام. وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. أي: كذبا كبيرا، إذ رموها بالعظائم، فاتهموها بالزنى. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. فهم لم يكتفوا بالكفر بل تبجحوا بادعاء قتله. ووصف المسيح بأنه رسول الله إن كان من كلامهم، فإنه يكون من باب الاستهزاء، ويحتمل أن الله وصفه بالرسول، ويكون هذا ليس من كلامهم. وقد نفى الله- عزّ وجل- قتله أو صلبه بقوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وقتلوا وصلبوا شبيهه. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. أي: في عيسى عليه السلام، والاختلاف فيه إن كان أثناء القتل، أو قبله، يكون المختلفون اليهود، وإن كان فيما بعد فالمختلفون النصارى. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. أي: لفي شك من شأنه وقتله. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. أي: ما لهم بالمسيح من علم قاطع، ولكنهم يتبعون الظن، وأنى يجوز الظن في باب العقائد. وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. أي: وما قتلوه حقا، أو ما قتلوه متيقنين. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. أي: بل رفع الله المسيح إلى السماء. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً. أي: مانع الجناب، لا يرام جنابه ولا

[سورة النساء (4): آية 159]

يضام من لاذ ببابه. حَكِيماً. أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها أو يفعلها، ومن ذلك رفع المسيح وبمناسبة ذكر المسيح عليه السلام يقول الله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يحتمل معنيين، الأول: أي وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى عليه السلام وبأنه عبد الله ورسوله، وذلك إذا عاين قبل أن تزهق روحه، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف، والمعنى الثاني وهو الراجح: وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله، في آخر الزمان. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم غلوا فيه. ويعود الآن السياق المبدوء بقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، ليكمل الآن فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. قال ابن كثير: وهذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم، تشديدا منهم على أنفسهم وتضييقا وتنطعا، ويحتمل أن يكون شرعيا. والمهم هنا أن نعرف أن قوله تعالى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ هي التي يتعلق بها كل ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ .. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وبمنعهم عن طريق الله خلقا كثيرا، أو صدا كثيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ كان الربا محرما عليهم، كما حرم علينا، وكانوا يتعاطونه وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة، وسائر أنواع التعامل التي حرمها الله. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. أي: في الآخرة. لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ. أي: الثابتون في الدين الذين لهم قدم راسخة في العلم النافع من أهل الكتاب. قال ابن كثير: أنزلت في عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد وزيد بن سعية، وأسد بن عبيد، الذين دخلوا في الإسلام، وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. وَالْمُؤْمِنُونَ. أي: من المهاجرين والأنصار، ومن على قدمهم، فأولئك من أهل الكتاب وهؤلاء. يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. أي: القرآن. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أي: بسائر الوحي والكتب. دل هذا على أن الراسخين في العلم من أهل الكتاب إن كان عندهم إنصاف، فإن علمهم سيهديهم إلى الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ. أي: وأخص المقيمين الصلاة، دل على أن إقامة الصلاة عامل عظيم من

فصل في رفع المسيح عليه الصلاة والسلام

عوامل حصول الإيمان. وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ زكاة الأموال، وزكاة الأنفس. وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مع إيمانهم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، هؤلاء ممن هذه صفاتهم، الإيمان بالكتب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالله واليوم الآخر يعدهم الله. أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً. وبهذا ينتهي هذان المقطعان بتبيان ما أعده الله لأهل الإيمان من الأجر العظيم، بدأ المقطع الأول بالأمر بالإيمان، وختم المقطع الثاني بجزائه ومقتضياته، وخلال ذلك كان نقاش وتربية، وذكر مناف، وتطهير مما يناقض. وتعريض بأهل الكفر والعناد، ورفع للمسلم إلى ذروة التقوى بالتطهير عما ينافيها وذلك محور سورة النساء كلها كما رأينا أكثر من مرة، ولأن المقطعين في حكم المقطع الواحد دمجنا الكلام عنهما. فصل في رفع المسيح عليه الصلاة والسلام: سنعقد فصلا في أواخر تفسير المقطع الثاني عشر نتحدث فيه عن الأناجيل، والتثليث، وهناك سنرى القيمة التاريخية للأناجيل الأربعة المعتمدة عند نصارى اليوم، وسنرى أنها من وجهة النظر التاريخية والنقدية، مما لا يمكن أن تقوم به حجة، ومع إجماعها على أن المسيح عليه الصلاة والسلام قد صلب، إلا أنها متناقضة مع بعضها في كثير من الحيثيات فإنجيل متى يقول على لسان يهوذا الأسخريوطي. «الذي أقبله هو هو أمسكوه فللوقت تقدم إلى يسوع وقال السلام يا سيدي وقبله .... حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه». وفي إنجيل يوحنا: «فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون أجابوه يسوع الناصري قال لهم يسوع أنا هو وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم فلما قال لهم إني أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض». فرواية إنجيل متى تقول: إن يهوذا دلهم عليه من خلال القبلة ورواية إنجيل يوحنا تقول: إن المسيح عليه السلام هو الذي عرفهم على نفسه. وإذا كانت هذه الأناجيل كما سنرى ليس واحدا منها ثابت النسبة لواحد من تلاميذ المسيح عليه الصلاة والسلام فلذلك لا نحتاج إلى جهد عقلي كي نستدل على أنها غير قابلة للاعتماد. وبإجماع من كتب ودرس فإن المرحلة الأولى من النصرانية قد طمست

طمسا كاملا، وكل ذلك سنراه في الفصل الذي وعدنا به يقول شارل جنيبير أستاذ المسيحية ورئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس في كتابه (المسيحية: نشأتها وتطورها): (وهكذا لم نعد نستطيع أن نميز في وضوح الجوانب التاريخية لشخصية عيسى ولم نعد نملك المراجع اللازمة لتحديد أحداث حياته بدقة). ويقول عن موضوع دعوى الصلب: (ومن المرجح كذلك أن الأحداث الخاصة بالصلب كانت قد فقدت الكثير من وضوحها في ذاكرة المؤمنين قبل تحرير الأناجيل وأنها تأثرت في مخيلتهم بالأساطير المختلفة الشائعة ثم إنها فسرت تفسيرات غيرت وجددت في جوانب كثيرة أساسية منها). أمام هذا كله، فإن أي باحث يجد نفسه مساقا من الناحية التاريخية أن ينقل رواية إنجيل برنابا، لأنها الرواية الوحيدة المنسوبة لتلميذ مباشر من تلاميذ المسيح عليه السلام من الثابت أنه قد اختلف مع بولس الذي إليه مرجع المعتقدات النصرانية الحالية، وإن رواية برنابا عليه السلام لواضحة في أن المسيح عليه الصلاة والسلام قد رفع وأن الذي صلب هو يهوذا الخائن الذي ألقي عليه شبه المسيح. ونحن سننقل رواية برنابا كاملة في هذا الشأن، لا للاستناد عليها في إثبات رفع المسيح عليه الصلاة والسلام، فهذه قضية بت فيها القرآن وانتهى الأمر، لكنا ننقلها كيلا يماحك مماحك في أن النصارى واليهود مجمعون على الصلب، وأنهم لا يشكون في ذلك، بينما القرآن أثبت شكهم. يقول إنجيل برنابا: «الفصل الرابع عشر بعد المائتين» وخرج يسوع من البيت ومال إلى البستان ليصلي فجثا على ركبتيه مائة مرة معفرا وجهه كعادته في الصلاة ولما كان يهوذا يعرف الموضع الذي كان فيه يسوع مع تلاميذه ذهب لرئيس الكهنة وقال: إذا أعطيتني ما وعدت به أسلم هذه الليلة ليدك يسوع الذي تطلبونه لأنه منفرد مع أحد عشر رفيقا. أجاب رئيس الكهنة: كم تطلب؟ قال يهوذا: ثلاثين قطعة من الذهب فحينئذ عد له رئيس الكهنة النقود فورا وأرسل فريسيا إلى الوالي

وهيرودس ليحضر جنودا فأعطياه كتيبة منها لأنهما خافا الشعب. فأخذوا من ثم أسلحتهم وخرجوا من أورشليم بالمشاعل والمصابيح على العصي. «الفصل الخامس عشر بعد المائتين» ولما دنت الجنود من يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفا، وكان الأحد عشر نياما، فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد. «الفصل السادس عشر بعد المائتين» ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع وكان التلاميذ كلهم نياما، فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغير يهوذا في النطق، وفي الوجه شبها بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيد هو معلمنا، أنسيتنا الآن؟ أما هو فقال مبتسما: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفوا يهوذا الأسخريوطي وبينما كان يقول هذا دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا لأنه كان شبيها بيسوع من كل وجه، أما نحن فلما سمعنا قول يهوذا ورأينا جمهور الجنود هربنا كالمجانين، ويوحنا الذي كان ملتفا بملحفة من الكتان استيقظ وهرب، ولما أمسكه جندي بملحفة الكتان ترك ملحفة الكتان وهرب عريانا لأن الله سمع دعاء يسوع وخلص الأحد عشر من الشر. «الفصل السابع عشر بعد المائتين» فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه ساخرين منه لأنه أنكر- وهو صادق- أنه هو يسوع، فقال الجنود مستهزءين به، يا سيدي لا تخف لأننا أتينا لنجعلك ملكا على إسرائيل، وإنما أوثقناك لأننا نعلم أنك ترفض المملكة: أجاب يهوذا: لعلكم جننتم أنكم أتيتم بسلاح ومصابيح لتأخذوا يسوع الناصري كأنه لص، أفتوثقونني، أنا الذي أرشدكم لتجعلوني ملكا. حينئذ خان الجنود صبرهم وشرعوا يمتهنون يهوذا بضربات ورفسات، وقادوه

بحنق إلى أورشليم، وتبع يوحنا وبطرس الجنود عن بعد وأكد للذي يكتب أنهما شاهدا كل التحري الذي تحراه بشأن يهوذا ورئيس الكهنة ومجلس الفريسيين الذين اجتمعوا ليقتلوا يسوع. فتكلم من ثم يهوذا كلمات جنون كثيرة، حتى إن كل واحد أغرق في الضحك معتقدا أنه بالحقيقة يسوع وأنه يتظاهر بالجنون خوفا من الموت. لذلك عصب الكتبة عينيه بعصابة وقالوا له مستهزءين: يا يسوع نبي الناصريين (فإنهم هكذا كانوا يدعون المؤمنين بيسوع) قل لنا من ضربك، ولطموه وبصقوا في وجهه ولما أصبح الصباح التأم المجلس الكبير للكتبة وشيوخ الشعب وطلب رئيس الكهنة مع الفريسيين شاهد زور على يهوذا معتقدين أنه يسوع فلم يجدوا مطلبهم، ولماذا أقول إن رؤساء الكهنة اعتقدوا أن يهوذا يسوع؟ بل إن التلاميذ كلهم مع الذي يكتب اعتقدوا ذلك أن أم يسوع العذراء المسكينة مع أقاربه وأصدقائه اعتقدوا ذلك، إن حزن كل واحد يفوق التصديق، لعمر الله إن الذي يكتب نسي كل ما قاله يسوع: من أنه يرفع من العام وأن شخصا آخر سيعذب باسمه وأنه لا يموت إلا وشك نهاية العالم لذلك ذهب (الذي يكتب) مع أم يسوع ومع يوحنا إلى الصليب، فأمر رئيس الكهنة أن يؤتى بيسوع أمامه، وسأله عن تلاميذه وعن تعليمه فلم يجب بشيء في الموضوع كأنه جن حينئذ استحلفه رئيس الكهنة بإله إسرائيل الحي أن يقول له الحق. أجاب يهوذا: لقد قلت لكم إني يهوذا الأسخريوطي الذي وعد أن يسلم إلى أيديكم يسوع الناصري، أما أنتم فلا أدري بأي حيلة قد جننتم لأنكم تريدون بكل وسيلة أن أكون أنا يسوع، أجاب رئيس الكهنة، أيها الضال لقد أضللت كل إسرائيل بتعليمك، وآياتك الكاذبة مبتدئا من الجليل حتى أورشليم هنا. أفيخيل لك الآن أن تنجو من العقاب الذي تستحقه والذي أنت أهل له بالتظاهر بالجنون؟ لعمر الله إنك لا تنجو منه، وبعد أن قال هذا، أمر خدمه أن يوسعوه لطما ورفسا لكي يعود عقله إلى رأسه، ولقد أصابه من الاستهزاء على يد خدم رئيس الكهنة ما يفوق التصديق، لأنهم اخترعوا أساليب جديدة بغيرة ليفكهوا المجلس، فألبسوه لباس مشعوذ وأوسعوه ضربا بأيديهم وأرجلهم حتى إن الكنعانيين أنفسهم لو رأوا ذلك المنظر لتحننوا عليه، ولكن قست قلوب رؤساء الكهنة والفريسيين وشيوخ الشعب على يسوع إلى حد سروا معه أن يروه معاملا هذه المعاملة معتقدين أن يهوذا هو بالحقيقة يسوع، ثم قادوه بعد ذلك موثقا إلى الوالي الذي كان يحب يسوع سرا، ولما كان يظن أن يهوذا هو يسوع أدخله غرفته سائلا إياه لأي سبب قد سلمه رؤساء الكهنة والشعب إلى يديه. أجاب يهوذا: لو قلت لك الحق لما

صدقتني، لأنك قد تكون مخدوعا كما خدع الكهنة والفريسيون. أجاب الوالي (ظانا أنه أراد أن يتكلم عن الشريعة): ألا تعلم أني لست يهوديا؟ ولكن الكهنة وشيوخ الشعب قد سلموك ليدي، فقل لنا الحق لكي أفعل ما هو عدل، لأن لي سلطانا أن أطلقك، وأن آمر بقتلك. أجاب يهوذا: صدقني يا سيد أنك إذا أمرت بقتلي ترتكب ظلما كبيرا لأنك تقتل بريئا، لأني أنا يهوذا الأسخريوطي لا يسوع الذي هو ساحر فحولني هكذا بسحره فلما سمع الوالي هذا تعجب كثيرا حتى إنه طلب أن يطلق سراحه، لذلك خرج الوالي وقال مبتسما: من جهة واحدة على الأقل لا يستحق هذا الإنسان الموت بل الشفقة، ثم قال الوالي: إن هذا الإنسان يقول إنه ليس يسوع بل يهوذا الذي قاد الجنود ليأخذوا يسوع، ويقول إن يسوع الجليلي قد حوله هكذا بسحره، فإذا كان هذا صدقا يكون قتله ظلما كبيرا لأنه يكون بريئا، ولكن إذا كان هو يسوع وينكر أنه هو فمن المؤكد أنه قد فقد عقله ويكون من الظلم قتل مجنون، حينئذ صرخ رؤساء الكهنة، وشيوخ الشعب، مع الكتبة والفريسيين بصخب قائلين: إنه يسوع الناصري فإننا نعرفه لأنه لو لم يكن هو المجرم لما سلمناه ليديك، وليس هو بمجنون بل بالحري خبيث لأنه بحيلته هذه يطلب أن ينجو من أيدينا، وإذا نجا تكون الفتنة التي يثيرها شرا من الأولى، أما بيلاطس (وهو اسم الوالي) فلكي يتخلص من هذه الدعوى قال: إنه جليلي وهيرودس هو ملك الجليل، فليس من حقي الحكم في هذه الدعوى، فخذوه إلى هيرودس، فقادوا يهوذا إلى الذي طالما تمنى أن يذهب يسوع إلى بيته، ولكن يسوع لم يرد قط أن يذهب إلى بيته لأن هيرودس كان من الأمم وعبد الآلهة الباطلة الكاذبة عائشا بحسب عوائد الأمم النجسة، فلما قيد يهوذا إلى هناك سأله هيرودس عن أشياء كثيرة لم يحسن يهوذا الإجابة عنها منكرا أنه هو يسوع، حينئذ سخر به هيرودس مع بلاطه كله وأمر أن يلبس ثوبا أبيض كما يلبس الحمقى، ورده إلى بيلاطس قائلا له: لا تقصر في إعطاء العدل بيت إسرائيل. وكتب هيرودس هذا لأن رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين أعطوه مبلغا كبيرا من النقود، فلما علم الوالي من أحد خدم هيرودس أن الأمر هكذا تظاهر بأنه يريد أن يطلق سراح يهوذا طمعا في نيل شئ من النقود، فأمر عبيده الذين دفع لهم الكتبة (نقودا) ليقتلوه أن يجلدوه ولكن الله الذي قدر العواقب، أبقى يهوذا للصليب ليكابد ذلك الموت الهائل الذي كان أسلم إليه آخر، فلم يسمح بموت يهوذا تحت الجلد مع أن الجنود جلدوه بشدة سال معها جسمه دما، ولذلك ألبسوه ثوبا قديما من الأرجوان تهكما قائلين: يليق بملكنا الجديد

أن يلبس حلة ويتوج، فجمعوا شوكا وصنعوا إكليلا شبيها بأكاليل الذهب والحجارة الكريمة التي يضعها الملوك على رءوسهم، ووضعوا إكليل الشوك على رأس يهوذا ووضعوا في يده قصبة كصولجان وأجلسوه في مكان عال، ومر من أمامه الجنود حانين رءوسهم تهكما مؤدين له السلام كأنه ملك اليهود، وبسطوا أيديهم لينالوا الهبات التي اعتاد إعطاءها الملوك الجدد، فلما لم ينالوا شيئا ضربوا يهوذا قائلين: كيف تكون إذا متوجا أيها الملك إذا كنت لا تهب الجنود والخدم؟ فلما رأى رؤساء الكهنة مع الكتبة والفريسيين أن يهوذا لم يمت من الجلد، ولما كانوا يخافون أن يطلق بيلاطس سراحه أعطوه هبة من النقود للوالي، فتناولها وأسلم يهوذا للكتبة والفريسيين كأنه مجرم يستحق الموت، وحكموا بالصلب على لصين معه، فقادوه إلى جبل الجمجمة حيث اعتادوا شنق المجرمين، وهناك صلبوه عريانا مبالغة في تحقيره، ولم يفعل يهوذا شيئا سوى الصراخ: يا الله لماذا تركتني فإن المجرم قد نجا أما أنا فأموت ظلما. الحق أقول إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه هو يسوع، لذلك خرج بعضهم من تعليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيا كاذبا وأنه إنما يفعل الآيات التي فعلها بصناعة السحر لأن يسوع قال إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم فالذين ثبتوا راسخين في تعليم يسوع حاق بهم الحزن إذ رأوا من يموت شبيها بيسوع كل الشبه حتى إنهم لم يذكروا ما قاله يسوع، وهكذا ذهبوا في صحبة أم يسوع إلى جبل الجمجمة ولم يقتصروا على حضور موت يهوذا باكين على الدوام بل حصلوا بواسطة نيقوديموس ويوسف الاباريماثيائي من الوالي على جسد يهوذا ليدفنوه، فأنزلوه من ثم عن الصليب ببكاء لا يصدقه أحد ودفنوه في القبر الجديد ليوسف بعد أن ضمخوه بمأة رطل من الطيوب. «الفصل الثامن عشر بعد المائتين» ورجع كل إلى بيته ومضى الذي يكتب ويوحنا ويعقوب أخوه مع أم يسوع إلى الناصرة، أما التلاميذ الذين لم يخافوا الله فذهبوا ليلا وسرقوا جسد يهوذا وخبئوه وأشاعوا أن يسوع قام فحدث بسبب هذا اضطراب، فأمر رئيس الكهنة أن لا يتكلم أحد عن يسوع الناصري وإلا كان تحت عقوبة الجرم فحصل اضطهاد عظيم فرجم وضرب ونفي من البلاد كثيرون لأنهم لم يلازموا الصمت في هذا الأمر وبلغ الخبر الناصرة كيف أن يسوع أحد أهالي مدينتهم قام بعد أن مات على الصليب فضرع الذي

يكتب إلى أم يسوع أن ترضى فتكف عن البكاء لأن ابنها قام فلما سمعت العذراء مريم هذا قالت باكية: لنذهب إلى أورشليم لننشد ابني فإن رأيته مت قريرة العين. «الفصل التاسع عشر بعد المائتين» فعادت العذراء إلى أورشليم مع الذي يكتب ويعقوب ويوحنا في اليوم الذي صدر فيه أمر رئيس الكهنة، ثم إن العذراء التي كانت تخاف الله أوصت الساكنين معها أن ينسوا ابنها مع أنها عرفت أن أمر رئيس الكهنة ظلم وما كان أشد انفعال كل أحد، والله الذي يبلو قلوب البشر يعلم أننا فنينا من الأسى على موت يهوذا الذي كنا نحسبه يسوع معلمنا وبين الشوق إلى رؤيته قائما، وصعد الملائكة الذين كانوا حرسا على مريم إلى السماء الثالثة، حيث كان يسوع في صحبة الملائكة وقصوا عليه كل شئ لذلك ضرع يسوع إلى الله أن يأذن له بأن يرى أمه وتلاميذه فأمر حينئذ الرحمن ملائكته الأربعة المقربين الذين هم جبريل وميخائيل ورافائيل وأوريل أن يحملوا يسوع إلى بيت أمه وأن يحرسوه هناك لمدة ثلاثة أيام متوالية، وأن لا يسمحوا لأحد أن يراه خلا الذين آمنوا بتعليمه، فجاء يسوع محفوفا ... إلى الغرفة التي أقامت فيها مريم العذراء مع أختيها ومرثا ومريم المجدلية ولعازر والذي يكتب ويوحنا ويعقوب وبطرس فخروا من الهلع كأنهم أموات فأنهض يسوع أمه والآخرين عن الأرض قائلا: لا تخافوا لأني أنا يسوع، ولا تبكوا فإني حي لا ميت، فلبث كل منهم زمنا طويلا كالمخبول لحضور يسوع، لأنهم اعتقدوا اعتقادا تاما بأن يسوع مات، فقالت حينئذ العذراء باكية: قل لي يا بني لماذا سمح الله بموتك ملحقا العار بأقربائك وأخلائك وملحقا العار بتعليمك؟ وقد أعطاك قوة على إحياء الموتى، فإن كل من يحبك كان كميت. «الفصل العشرون بعد المائتين» أجاب يسوع معانقا أمه: صدقيني يا أماه لأني أقول لك بالحق أني لم أمت قط، لأن الله قد حفظني إلى قرب انقضاء العالم، ولما قال هذا رغب إلى الملائكة الأربعة أن يظهروا ويشهدوا كيف كان الأمر، فظهر من ثم الملائكة كأربع شموس متألقة حتى إن كل أحد خر من الهلع ثانية كأنه ميت، فأعطى حينئذ يسوع الملائكة أربع ملاء من كتان ليستروا بها أنفسهم لتتمكن أمه ورفاقها من رؤيتهم وسماعهم يتكلمون، وبعد أن

أنهض كل واحد منهم عزاهم قائلا: إن هؤلاء هم سفراء الله، جبريل الذي يعلن أسرار الله، وميخائيل الذي يحارب أعداء الله، ورافائيل الذي يقبض أرواح الميتين، وأوريل الذي ينادي إلى دينونة الله في اليوم الآخر، ثم قص الملائكة الأربعة على العذراء كيف أن الله أرسل إلى يسوع وغير (صورة) يهوذا ليكابد العذاب الذي باع له آخر، حينئذ قال الذي يكتب: يا معلم أيجوز لي أن أسألك الآن كما كان يجوز عند ما كنت مقيما معنا؟ أجاب يسوع: سل ما شئت يا برنابا أجبك، فقال حينئذ الذي يكتب: يا معلم إذا كان الله رحيما، فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتا؟ ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت وسمح الله أن يقع عليك عار القتل بين اللصوص على جبل الجمجمة وأنت قدوس الله أجاب يسوع: صدقني يا برنابا أن الله يعاقب على كل خطيئة مهما كانت طفيفة عقابا عظيما لأن الله يغضب من الخطيئة، فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلا حبا عالميا أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم، فلما كان الناس قد دعوني الله، وابن الله على أني كنت بريئا في العالم أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله، وبعد أن تكلم يسوع بهذا قال: إنك لعادل أيها الرب إلهنا لأن لك وحدك الإكرام والمجد بدون نهاية. «الفصل الحادي والعشرون بعد المائتين» والتفت يسوع إلى الذي يكتب وقال: يا برنابا عليك أن تكتب إنجيلي حتما، وما حدث في شأن مدة وجودي في العالم واكتب أيضا ما حل بيهوذا ليزول انخداع المؤمنين ويصدق كل أحد الحق حينئذ أجاب الذي يكتب: إني لفاعل ذلك إن شاء الله يا معلم ولكن لا أعلم ما حدث ليهوذا لأني لم أر كل شئ. أجاب يسوع: هاهنا يوحنا وبطرس اللذان قد عاينا كل شئ، فهما يخبرانك بكل ما حدث، ثم أوصانا يسوع أن ندعو تلاميذه المخلصين ليروه فجمع حينئذ يعقوب ويوحنا التلاميذ السبعة نيقوديموس ويوسف وكثيرين آخرين من الاثنين والسبعين وأكلوا مع يسوع، وفي اليوم الثالث قال يسوع: اذهبوا مع أمي إلى جبل الزيتون لأنني أصعد من هناك أيضا إلى السماء، وسترون من يحملني، فذهب الجميع خلا خمسة وعشرين من التلاميذ الاثنين والسبعين الذين كانوا

فوائد

قد هربوا إلى دمشق من الخوف، وبينما كان الجميع وقوفا للصلاة جاء يسوع وقت الظهيرة مع جم غفير من الملائكة الذين كانوا يسبحون الله فطاروا فرقا من سناء وجهه فخروا على وجوههم إلى الأرض ولكن يسوع أنهضهم وعزاهم قائلا: لا تخافوا أنا معلمكم، ووبخ كثيرين من الذين اعتقدوا أنه مات وقام قائلا: أتحسبونني أنا والله كاذبين؟ لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم كما قد قلت لكم، الحق أقول لكم أني لم أمت بل يهوذا الخائن. احذروا لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم، ولكن كونوا شهودي في كل إسرائيل، وفي العالم كله كل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها، وبعد أن قال هذا صلى لله لأجل خلاص المؤمنين وتجديد الخطأة، فلما انتهت الصلاة عانق أمه قائلا: سلام لك يا أمي، توكلي على الله الذي خلقك وخلقني، وبعد أن قال هذا التفت إلى تلاميذه قائلا: لتكن نعمة الله ورحمته معكم ثم حملته الملائكة الأربعة أمام أعينهم إلى السماء. «الفصل الثاني والعشرون بعد المائتين» وبعد أن انطلق يسوع تفرقت التلاميذ في أنحاء إسرائيل والعالم المختلفة، أما الحق المكروه من الشيطان فقد اضطهده الباطل كما هي الحال دائما فإن فريقا من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشروا بأن يسوع مات ولم يقم وآخرون بشروا بأنه مات الحقيقة، ثم قام وآخرون بشروا ولا يزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله وقد خدع في عدادهم بولص، أما نحن فإنما نبشر بما كتبت الذين يخافون الله ليخلصوا في اليوم الأخير لدينونة الله. آمين. أهـ. أقول: لسنا ملزمين أن نؤمن بكل ما ورد في هذا النص لعدم ثبوته القطعي عندنا، ولكنا نستأنس به لفهم بعض القضايا في النص القرآني. فوائد: 1 - قتل اليهود للأنبياء وتعذيبهم لهم شئ مشهور، ولا زالت كتب العهد القديم مع تحريفها وتبديلها، وكذلك كتب العهد الجديد، رغم تحريفها وتبديلها مليئة بما يشعر بهذا القتل، وأما تحريم الربا على اليهود فقد ورد في كتبهم الحالية في أكثر من مكان: فمن ذلك ما ورد في الإصلاح الثاني والعشرين من سفر الخروج «إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا».

ومن ذلك ما ورد في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية: «ولا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شئ مما يقرض بربا». 2 - ينبغي أن نلاحظ أن الكتب المعتمدة عند النصارى الحاليين، وهي ما يسمونه بكتب العهد الجديد، إن هي إلا من آثار مدرسة واحدة من مدارس النصارى وهي مدرسة بولس فالأناجيل من كتابة مدرسته، وأكثر الرسائل المعتمدة إن لم تكن كلها إما رسائله وإما رسائل لتلاميذه، وهذه الرسائل تشعر، أن بولس قد اختلف مع برنابا تلميذ المسيح المباشر وفي هذه الرسائل ما يشعر بإن هناك مخالفين لبولس وقد فصلنا ذلك في كتابنا (من أجل خطوة إلى الأمام) فإذا تأكد هذا المعنى نستطيع أن نتساءل، أين هى آثار الحواريين الاثنى عشر؟ وأين هي آثار تلاميذهم؟ أين هي أقوالهم؟ أين هي رسائلهم؟ أين هي أخبارهم؟ كل هذا غير موجود وليس موجودا ما يشعر به تقريبا، أليس هذا دليلا على أن دين المسيح الحقيقي، وإنجيله الحقيقي، وقصة حياته الحقيقة، ووضعه الحقيقي، كل ذلك قد انتهى بتغلب مدرسة بولس اليهودي الذي غلا في السيد المسيح، واستطاع بغلوه أن يتغلب بممالأة السلطة ونفاقه لها، ثم بتبني الدولة الرومانية مذهبه رسميا، إذا اتضح هذا، فإننا لا نستغرب التصورات الفاسدة عن السيد المسيح في الكتب المعتمدة عندهم. وإذا عرفنا تتبع الكنيسة لكل ما يخالفها والقضاء عليه سواء كان فكرا أو بشرا نعلم لماذا لم يصلنا شئ عن أخبار الرسل وتلاميذهم ونقولهم مما يخالف مدرسة بولس اليهودية التي اغتالت المسيحية من داخلها، وسيطرت عليها. غير أننا نجد بعضا مما فر من الإتلاف، كإنجيل برنابا التي تنص كتب العهد الجديد على اختلافه مع بولس. هذا الإنجيل يتحدث عن المسيح كما هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما يوافق الحق. وإن مما يشبه السخرية أن يدعي النصارى أن هذا الإنجيل ألفه أحد المسلمين، وهو الأوروبي الوجود، الأوروبي الطبع، ولئن سلمنا بذلك جدلا فنحن نسألهم: أين إنجيل برنابا التي تتحدث عن تحريمه النشرات البابوية التي صدرت قبل الإسلام بكثير. ولنا عودة على هذه الأمور في الفصل الذي سنكتبه عن التثليث عند النصارى في أواخر الكلام عن المقطع الثاني عشر. 3 - في نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان إجماع الأمة المسلمة، والنصارى كذلك يرون ذلك، وفي كتب اليهود ما يشعر به، وقد ورد أكثر من سبعين حديثا عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن نزوله، وحوالي أكثر من أربعين أثرا عن الصحابة في ذلك. وقد ألف في ذلك عبد الحي اللكنوي كتابه (التواتر الصريح في نزول المسيح) فمن أنكر قضية نزوله يكفر. والكلام عن المسيح عليه السلام مرتبط بالكلام عن المسيح الدجال الذي موضوعه من المواضيع المتواترة كذلك، وفي كتابنا- الأساس في السنة وفقهها- تفصيل ذلك. 4 - ننقل في هذه الفائدة كلام ابن عباس، في موضوع رفع المسيح، وما حدث لقومه بعده، كما ننقل حديثا واحدا عن نزول المسيح عليه السلام، وموضوع الدجال. أ- في أثر صحيح عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر في اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتى؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنا فقال: هو أنت ذاك. فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. ب- روى مسلم وأصحاب السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات، طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف، خسف في المشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق- أو تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا». ونحب هنا أن ننبه إلى أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب بل يفيد مطلق الجمع،

كلمة في السياق

كلمة في السياق: لاحظنا أكثر من مرة خلال استعراضنا لمعاني المقطعين، كيف أن هذين المقطعين كانا في سياق توضيح قضية الإيمان وما ينافيها، وما يناقضها، فلسنا بحاجة إلى إعادة ذلك، والمهم أن يكون واضحا أن الإيمان هو الركن الأساسي في قضية التقوى التي هي محور سورة النساء. وهذان المقطعان في هذه القضية، ونؤثر ألا نطيل الكلام هاهنا في موضوع السياق لأن لنا عودة أخيرة على سياق سورة النساء في آخر تفسيرها إن شاء الله. المقطع الحادي عشر ويمتد من الآية (163) إلى نهاية الآية (170) وكما أن المقطع الثامن قد بدأ ب (إنا) وانتهى ب (يا أيها) فإن هذا المقطع يبدأ ب (إنا) وينتهي ب (يا أيها) وبدايته إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ونهايته يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ. وهذا هو المقطع: [سورة النساء (4): الآيات 163 الى 166] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)

كلمة في المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 170] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) كلمة في المقطع: قلنا إن محور سورة النساء هو الآيات الخمس بعد المقدمة من سورة البقرة والتي من جملتها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وفي هذه الآيات تقرير أن الله أوحى لمحمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن الله يشهد بما أنزل على محمد، لاحظ الصلة بين قوله تعالى في سورة البقرة وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ وبين لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ وأن الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله قد ضلوا، وأن الله لن يهديهم إلا إلى النار. ثم ختم المقطع بالتبيان للناس جميعا أن الرسول قد جاءهم بالحق من ربهم وأن عليهم أن يؤمنوا. إن الصلة بين المقطع، وبين محور السورة من سورة البقرة لا يكاد يخفى. المعنى العام: يخبر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع، أن إنزال الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا، بل أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله، وعدد أسماء بعض من أوحي إليه من الرسل. وأن إنزاله الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا، فقد أنزل كتبا من قبل، منها

الزبور الذي أنزل على داود، وأن هؤلاء الرسل صلى الله عليهم وسلم كثر، منهم من قص الله على رسوله قصصهم، ومنهم من لم يقصص الله قصتهم، وأن هذا الوحي منه ما كان كلاما مباشرا من الله كما كان ذلك لموسى. ثم بين الله حكمة إرساله الرسل، وهي التبشير والإنذار من أجل إقامة الحجة على الخلق بما أعد الله لهم. ولما تضمن هذا الجزء من هذا المقطع إثبات نبوة محمد والرد على من أنكرها، بين الله- عزّ وجل- أنه وإن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم من كفر ممن كذبه وخالفه، فالله يشهد له أنه رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن الذي أنزله الله بعلمه، والدليل أنه أنزله بعلمه ما فيه من أمور لا يمكن أن تكون إلا أثرا عن علم الله، من ذكر للبينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، ومن ذكر لغيوب من الماضي والمستقبل، ومن ذكر لصفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه الله بها، إن في هذا القرآن من العلوم ما لا يمكن أن يكون، لولا أنه من عند الله رب العالمين. وكما شهد الله برسالة رسوله، وبأنه هو الذي أنزل الكتاب عليه، فإن الملائكة يشهدون بصدق ما أنزل الله على رسوله، وشهادة الله وحدها كافية، وسنرى كيف كانت شهادة الله أثناء الشرح الحرفي وفوائده، وإذ تأكدت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، يؤكد الله- عزّ وجل- الضلال المبين الذي وقع فيه من كفر في نفسه برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع الحق، وسعى مع هذا إلى صد الناس عن إتيانه والاقتداء به. ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته، وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك، وبالصد عن سبيله، وبارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، بأنه لا يغفر لهم ولا يهديهم سبيلا إلى الخير، بل هم مهتدون فقط إلى طريق جهنم، وأن مقامهم فيها الخلود الأبدي، وهذا على الله يسير. وإذا اتضحت هذه الحقائق، فقد جاء النداء إلى الناس جميعا أنه قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، والبيان الشافي من الله- عزّ وجل- فآمنوا بما جاءكم، واتبعوا يكن خيرا لكم. وأما إذا كفرتم بالحق الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله غني عنكم، وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم، لأنه مالك السموات والأرض وما فيهن، وهو العليم بمن اهتدى أو ضل، وبمن يستحق الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. فالمقطع منصب على تأكيد صحة الوحي، وصدق القرآن، وعلى تأكيد اتباع هذا الحق الذي هو القرآن، واتباع القرآن بعد الإيمان ركن من أركان التقوى، إذ التقوى كما رأينا في كتابنا- (جند الله ثقافة وأخلاقا) - إيمان واتباع كتاب، فهو

المعنى الحرفي

مكمل للمقطعين السابقين، فهما في ركن الإيمان، وهو في ركن اتباع الكتاب، فالمقطع إذن آخذ مكانه في السياق العام لسورة النساء، المرتبط بالسياق العام لسورة البقرة، على النسق العام لمعاني القرآن حسب تسلسلها الذي لا يحيط بحكمه إلا الله. المعنى الحرفي: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ كهود وصالح وشعيب، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ. أي: أولاد يعقوب وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. الزبور: اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ. أي: من قبل نزول هذه السورة. وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ. أي: رسلا آخرين لم يذكروا في القرآن. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. أي: بلا واسطة. وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. أي: يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره، وكذب رسله بالعقاب والعذاب. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. أي: لئلا يبقى لمعتذر عذر. والمعنى إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميم لإلزام الحجة، لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا بما وجب الانتباه له، ويعلمنا ما سبيل معرفته السمع، كالعبادات والشرائع، مقاديرها وأوقاتها وكيفياتها وغير ذلك. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله- عزّ وجل- من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين». وفي لفظ آخر. «من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل كتبه». وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً عزيزا في العقاب على الإنكار، حكيما في بعث الرسل للإنذار. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ومعنى شهادة الله بما أنزله إليه، إثباته لصحته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. أي: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك، وأنك مبلغه، أو أنزله بما علم من مصالح العباد، والدليل على أن إنزاله القرآن بعلمه، أن في هذا القرآن ما لا يمكن أن يصل إليه علم الإنسان مطلقا كالغيوب، أو ما لا يمكن أن يصل إليه علم الإنسان- خاصة في زمن نزول القرآن- ككثير من

[سورة النساء (4): آية 167]

أسرار هذا الكون. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ. أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. أي: شاهدا وإن لم يشهد غيره. روى ابن إسحاق عن ابن عباس في سبب نزول الآية الأخيرة قال: «دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم: إني لأعلم والله، إنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله- عزّ وجل- لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أي: ودفعوا الناس عن سبيل الحق بفتنتهم أو بدعايتهم ضده. قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً عن الرشد. أي: بعدوا عنه بعدا عظيما شاسعا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: بالله وآياته وكتبه ورسله وَظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، أو ظلموا الظلم العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكارهم نبوته وتحريف ما ورد في نعته في الكتب السابقة. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ما داموا على الكفر وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً. أي: سبيلا إلى الخير، أو سبيلا رشدا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. أي: إلى جهنم طريقهم، وفي جهنم عذابهم أبدا، وكان تخليدهم في جهنم سهلا عليه، وهذه الآية والتي قبلها في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون، وأنهم يموتون على الكفر. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ. أي: محمد صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ. أي: بالإسلام مِنْ رَبِّكُمْ فمن أراد الإسلام لله رب العالمين فليس إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله- عزّ وجل- فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ فصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبدينه وبكتابه، وبكل الحق الذي جاء به، وذلك خير لكل إنسان مما هو فيه. وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليما بمن يؤمن وبمن يكفر، حكيما لا يسوي بينهما بالجزاء، وبهذا ينتهي المقطع. فوائد: 1 - قال ابن كثير: «وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل،

كلمة في السياق

عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم». 2 - روى ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت: يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف، وأربعة وعشرون ألفا. قلت: يا رسول الله: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير، قلت: يا رسول الله! من كان أولهم؟ قال: آدم، قلت يا رسول الله: نبي مرسل؟ قال: نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا، ثم قال: يا أبا ذر: أربعة سريانيون: آدم وشيث، ونوح وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر. وأول نبي من بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك». وقد وسم ابن حبان البستي هذا الحديث بالصحة، وجعله ابن الجوزي في الموضوعات، ولم يعتمد علماء التوحيد بعض ما ورد فيه من معان فيوسف رسول وهو أقدم من موسى وهو من أبناء إسرائيل وعدد الأنبياء والرسل لا يثبت بمثل هذا الحديث حتى يعتمد. كلمة في السياق: هذا المقطع كله في تقرير أن ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإيمان به واجب وهي قضية رئيسية في التقوى، كما نعلم ذلك من مقدمة سورة البقرة. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وإذا عرفنا أن سورة النساء كلها محورها التقوى، عرفنا محل هذا في السياق. فصل في قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ: يقول صاحب الظلال عند هذه الآية: «ونقف من هذه اللفتة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال. نقف منها .. : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا «الإنسان» قضية الإيمان بالله؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعها وتصرفاتها؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى. لو كان الله سبحانه- وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها- يعلم أن العقل البشري،

الذي وهبه للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم؛ وتبليغهم عن ربهم؛ ولما جعل حجة الناس عنده- سبحانه- هي عدم مجئ الرسل إليهم: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ .. ولكن لما علم الله- سبحانه- أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى- بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط- وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة .. لما علم الله- سبحانه- هذا، شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وهذه تكاد تكون إحدى البديهات التي تبرز من هذا النص القرآني .. فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية .. إذن .. ما هي وظيفة هذا العقل البشري؛ وما هو دوره في قضية الإيمان وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟. إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ، ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام. وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض- بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها: أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص- ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها- بعد إدراك مدلولها، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له- ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان .. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها. إن هذه الرسالة تخاطب العقل .. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج

النظر الصحيح .. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه .. إن دور العقل- في هذا الصدد- هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص. وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل. فهذا النص من عند الله والعقل ليس له أن يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله. وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير .. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة .. أو من يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى .. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا .. من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شئون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها- أي إذا فهم ماذا يعني النص- لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ .. والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة- بعد أن يدرك المقصود بها- بمقررات له سابقة عليها، كونها .. لنفسه من مقولاته «المنطقية»! أو من ملاحظاته المحدودة؛ أو من تجاربه الناقصة .. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي- قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة- ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين- متى صح عنده أنها من الله- إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص! .. إن العقل ليس إلها، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله .. إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له .. هذا مجاله، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر، ما دام هناك من الأصول الصحيحة مجال للتأويل والأفهام المتعددة. وحرية النظر- على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه- مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع. وليس هنالك من هيئة، ولا سلطة، ولا شخص، يملك الحجر على العقول، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه

تطبيقه- متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح، المأخوذ من مقررات الدين- وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل .. إن الإسلام دين العقل .. نعم .. بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته. ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان والأنفس والآفاق، ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة؛ وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة. ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته، .. فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، أو عدم التسليم بها فهو كافر .. وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها .. وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل، ويرفض منها ما يرفض، ويختار منها ما يشاء، ويترك منها ما يشاء .. فهذا هو الذي يقول الله عنه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ ويرتب عليه صفة الكفر، ويرتب عليه كذلك العقاب .. فإذا قرر الله- سبحانه- حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى. أو قرر أمرا في الفرائض، أو في النواهي .. فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه. متى أدرك المدلول المراد منه .. إذا قال الله سبحانه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ .. أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ .. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ .. إلى آخر ما قال- سبحانه- عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء .. فالحق هو ما قال. وليس للعقل أن يقول- بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها- إنني لا أجد هذا في مقرراتي، أو في عملي، أو في تجاربي .. فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطإ والصواب. وما قرره الله- سبحانه- لا يحتمل إلا الحق والصواب. وإذا قال الله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا

تُظْلَمُونَ .. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ..... وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ .... إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية، فالحق هو ما قال- سبحانه- وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس .. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات .. وما يقرره الله- سبحانه- لا يحتمل إلا الصحة والصلاح. وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات، أو من منهج الحياة ونظامها، سواء في موقف العقل إزاءه .. متى صح النص، وكان قطعي الدلالة، ولم يوقت بوقت .. فليس للعقل أن يقول: آخذ في العقائد والشعائر التعبدية؛ ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها .. فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته. فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان .. احترازا من الجرأة على الله، ورمي علمه بالنقص والقصور- سبحانه وتعالى- عما يقولون علوا كبيرا .. إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام في الحالة الجزئية؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال. وليس في شئ من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية .. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة- بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح- والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته؛ وطبيعة الكائنات فيه والأحياء، والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات فيه والأحياء، وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها- في حدود منهج الله- لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام. ونقف من هذه اللفتة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وقفة أخرى: نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- ومن بعدهم المؤمنين برسالاتهم- تجاه البشرية كلها .. وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة .. إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم. فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشرية، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم .. في الدنيا والآخرة.

إنه أمر هائل عظيم .. ولكنه كذلك .. ومن ثم كان الرسل- صلوات الله عليهم- يحسون بجسامة ما يكلفون. وكان الله- سبحانه- يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم .. وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا .. ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا .. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا .. وهذا هو الذي يشعر به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يأمر أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً .. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ. .. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً .. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. إنه الأمر الهائل العظيم .. أمر رقاب الناس .. أمر حياتهم ومماتهم .. أمر سعادتهم وشقائهم .. أمر ثوابهم وعقابهم .. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ!. فأما رسل الله- عليهم الصلاة والسلام- فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، وأفضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل .. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان، ولكن بلغوها- مع هذا- قدوة ممثلة في العمل، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق .. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين. كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. بما أنه المبلغ الأخير. وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان. إنما أزالها كذلك بالسنان حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ .. وبقي الواجب الثقيل على من بعده .. على المؤمنين برسالته .. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجئ بعده صلى الله عليه وسلم وتبليغ هذه الأجيال منوط- بعده- بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة- تبعة إقامة حجة الله على الناس، وتبعة استنقاذ الناس من

عذاب الآخرة وشقوة الدنيا- إلا بالتبليغ والأداء .. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى .. فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس .. وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات .. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة .. الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس. ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء. بلاغ بالبيان. وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة .. وإلا فلا بلاغ ولا أداء .. إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله .. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها، وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة، وحمل التبعة في هذا كله وعدم النجاة من النار .. فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!. إن الذي يقول: إنه «مسلم» إما أن يبلغ ويؤدي هكذا بقدر ما يستطيع. وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى (إلا أن يشاء الله) .. إنه حين يقول: إنه «مسلم» ثم لا يبلغ ولا يؤدي .. كل ألوان البلاغ والأداء هذه، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلا من أداء شهادة له، تحقق فيه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وتبدأ شهادته للإسلام، من أن يكون هو بذاته ببيته وعائلته، ثم بأسرته وعشيرته، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه .. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة- بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة- إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها .. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق .. فإذا استشهد في هذا فهو إذن «شهيد» أدى شهادته لدينه، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو «الشهيد». وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته؛ ممثلة في علمه، وعدله، ورعايته، وفضله، ورحمته، وبره، بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى .. نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن؛ وما أودعه من القوى والطاقات، وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال. وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله

وحده .. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان .. فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور .. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال- إلا بعد الرسالة والبيان- ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله .. ثم ترك له ما وراء ذلك- وهو ملك عريض- يبدع فيه ما شاء، ويغير فيه ما يشاء، ويركب فيه ما يشاء، منتفعا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطئ عقله ويصيب وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق!. ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله- سبحانه- لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق، ووحدانيته، وتدبيره وتقديره، وقدرته وعلمه .. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس .. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج .. ولكن الله- سبحانه- بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون، وحجية الفطرة، وحجية العقل، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة، هذه الأجهزة، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي .. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع، أو تسقط حجتها وتستحق العقاب. ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره على ما يعلم به من ضعف ونقص، فيكل إليه هذا الملك العريض .. خلافة الأرض .. وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير. ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس، ومن عقل هاد ولكنه يضل، بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى .. وهو يكذب ويعاند، ويشرد وينأى، فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه، ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه على أيدى رسله الهداة .. ثم لا

يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل، فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب .. ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه .. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره .. استغنى عن هدايته ودينه ورسله .. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه- ما لم تقوم بمنهج الله- فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان .. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ إنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب .. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله ويتنكب هداه، فإن كينونته- بكل ما يكمن فيها من قوى- يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال- إن لم يكن هو الخداع والتضليل- كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة .. فالعقل ينضبط- مع الرسالة- بمنهج النظر الصحيح؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطإ الساعة التي تضبط، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات، لا كخطإ الساعة التي لم تضبط أصلا، وتركت للفوضى والمصادفة: وشتان شتان!. وآية ما يتم بالرسالة- عن طريق العقل نفسه- لا يمكن أن يتم بغيرها؛ فلا يغني العقل البشري عنها .. إن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة .. لا في تصور اعتقادي، ولا في خلق نفسي، ولا في نظام حياة؛ ولا في تشريع واحد لهذا النظام. إن عقلي أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا .. بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية- بعيدا عن رسالة الله وهداه- فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه- كما وصفه- رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة. وقد وصل أخناتون- في مصر القديمة- إلى عقيدة التوحيد- وحتى مع استبعاد

المقطع الثاني عشر

تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف- فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون- كما نقلت لنا- تجعل المسافة بينها وبين التوحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة. وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية. وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها .. إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها «العلم» الصاعد .. ولكن ميزة الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها .. هو التوازن الذي ينشئ السعادة والطمأنينة، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة .. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية- بعيدا عن الرسالة- في أي عصر .. والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام؛ مهما التمعت بعض الجوانب؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب. فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى، وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى .. والبشرية معها تتأرجح وتختار وتشقى. المقطع الثاني عشر ويمتد من الآية (171) إلى نهاية الآية (173) وهذا هو: [سورة النساء (4): آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

كلمة في هذا المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) كلمة في هذا المقطع: في السورة التي ترسم طريق التقوى للناس جميعا، وتبين لهم ماهيتها. يأتي فيها هذا المقطع خاصا بأهل الكتاب، يدعوهم فيه إلى الإيمان، والعمل الصالح، وترك ما يتنافى مع عبادة الله والعبودية له وصلة ذلك بمحور السورة الذي يدعو للعبادة والتوحيد والإيمان، والعمل الصالح لا تخفى. فقد رأينا في هذه السورة مقاطع موجهة للناس كلهم، ورأينا فيها مقاطع موجهة للمؤمنين. وهذا المقطع موجه لأهل الكتاب خاصة، كي يحرروا العبادة لله عقيدة وسلوكا ليكونوا من المتقين. وهذا الخطاب خاص بالنصارى، وقد رأينا من قبل كيف خوطب اليهود في المقطع العاشر. المعنى العام: ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن

اتخذوه إلها من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه فادعوا فيهم العصمة كما يعتقدون ذلك في البابا. فاتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا، فنهاهم عن الغلو في دينهم، ثم نهاهم أن يفتروا على الله، وأن يجعلوا له صاحبة أو ولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وتنزه وتقدس، وتوحد في سؤدده وكبريائه، وعظمته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه. وإذ كان من أعظم ما وقع من غلو ما ادعاه النصارى أن المسيح هو الله أو ابن الله- تعالى الله عن ذلك- فقد قرر الله في شأن المسيح أنه عبد من عباده، وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله، وكلمة ألقاها إلى مريم، أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن الله فكان عيسى بإذنه- عزّ وجل- وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، ونزلت حتى ركبت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله تعالى، ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل. وبعد أن قرر حقيقة عيسى نهاهم أن يجعلوا عيسى وأمه- أو ما يسمونه الروح القدس- مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وهذا نهي عن التثليث، وهو نهي لكل فرق النصارى عن ضلالهم في هذا الشأن، لأن فرق النصارى بعد ما فني أهل التوحيد الخالص منهم كلها تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك، وفي اللاهوت والناسوت في زعمهم هل اتحدا أو ما اتحدا، أو امتزجا، أو حل فيه، على ثلاث مقالات كلها كفر، ولهذا أمرهم الله- عزّ وجل- أن ينتهوا عما هم فيه، لأن انتهاءهم عما هم فيه، فيه الخير لهم، ثم قرر الله وحدانيته، ونزه ذاته أن يكون له ولد وقرر أن كل ما في السموات والأرض ملكه وخلقه، وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شئ، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد، وهو الحافظ والمدبر للجميع. ومن كان هذا شأنه، لم يحتج إلى ولد يعينه. ثم بين أنه لا المسيح، ولا الملائكة المقربون يستكبرون عن العبودية لله، بل هي فخرهم وشرفهم، وفيها أنسهم وشرفهم، وكيف لا يكونون كذلك وهم من أعرف خلق الله بجلال الله، وما ينبغي لهذا الجلال. ثم بين الله- عزّ وجل- أن من يستكبر عن عبادة الله، وتوحيده، فإن الله سيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور، ولا يحيف، وإنما يكون حكمه ضمن قاعدة هي: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه، وسعة رحمته وامتنانه. وأما الممتنعون

المعنى الحرفي

عن عبادة الله، المستكبرون عنها، فإن الله يعذبهم عذابا أليما، ولا يجدون من ينصرهم أو ينقذهم. المعنى الحرفي: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. أي: لا تجاوزوا الحد فيه، وكمثال على الغلو غلو يهود في حط المسيح عن منزلته، حتى قالوا: إنه ابن زنا، وغلو النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله. والغلو باب واسع يدخل فيه أشياء كثيرة من قضايا العقائد إلى العبادات إلى غير ذلك. وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ. أي: لا تصفوه إلا بصفاته العليا، وأسمائه الحسنى، وإلا بما يليق به من الحق، فلا تجعلوا له صاحبة ولا ولدا، أو غير ذلك مما لا يليق به. وفي هذا السياق يقرر حقيقة المسيح التي غلا فيها من غلا. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ فليس ابنا لله ولا هو رب، وإنما رسول الله كبقية رسله وَكَلِمَتُهُ سماه الله- عزّ وجل- كلمته لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلام، أو لأنه خلق بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، فكأنه خلق بكلمة الله المباشرة كن فكان، ولم يخلق على حسب عالم الأسباب. قال شاذ بن يحيا: ليست الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ. أي: أوصلها إليها، وحصلها فيها، جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى وَرُوحٌ مِنْهُ. أي: روح مصدرها منه، ومخلوقة من قبله بتخليقه وتكوينه، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله كقوله تعالى في سورة الجاثية: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ. أي: من خلقه ومن عنده، وليست من للتبعيض، بل هي لابتداء الغاية. وسمي المسيح روحا لأنه كان يحيي الموتى، ويحيي موات القلوب بإذن الله، وبما آتاه الله، وألقاه عليه من المحبة والجمال والجلال. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. أي: فصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، وآمنوا بكل رسل الله، ومنهم عيسى ومحمد والجميع عبيده وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ. أي: ولا تقولوا الإله ثلاثة: أب وابن وروح القدس انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. أي: انتهوا عن التثليث يكن الانتهاء خيرا لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. أي: تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا، يسبح تسبيحا من أن يكون له ولد، وأنى يكون له ولد؟.

[سورة النساء (4): آية 172]

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا بيان لتنزهه مما نسب إليه بمعنى أن كل ما فيهما خلقه، وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه، إذ البنوة والملك لا يجتمعان. على أن الجزء إنما يصح في الأجسام، وتعالى الله- عزّ وجل- عن أن يكون جسما. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أي حافظا ومدبرا لهما ولما فيهما. ومن عجز عن كفاية أمر احتاج إلى ولد يعينه، أما الله فهو الذي يحتاج إليه كل شئ، فأنى يكون له ولد؟ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ. أي: لن يأنف من العبودية لله وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. أي: الكروبيون أي العرشيون الذين هم حول العرش، وجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم. والمعنى ولا الملائكة المقربون يأنفون أن يكونوا عبادا لله، وفي ذلك رد على النصارى ومن عبد الملائكة من العرب. وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ. أي: ومن يترفع عن عبادة الله، ويطلب الكبرياء فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم. ثم فصل المجازاة فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ. أي: فيعطيهم ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. أي: ويعطيهم زيادة على ذلك من إحسانه وسعة رحمته، وامتنانه وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وقد فصل الله- عزّ وجل- في ذلك حال المتكبرين عن عبادته، وحال العابدين مع أن المذكور أحد الفريقين. وسبب ذلك أن ذكر أحد الفريقين يدل على ذكر الثاني، وأن ذكر الإحسان إلى النوع الثاني مما يفهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم، فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب عذابين: بالحسرة إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله. فصل في الأناجيل والتثليث: الأناجيل التي تعترف بها الكنائس منذ زمن بعيد هي: إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، ولكن التاريخ يروي لنا أنه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى قد أخذت بها فرق قديمة، فعند كل من أصحاب مرقيون، وأصحاب ديصان إنجيل يخالف بعضه الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل يخالف هذه الأربعة، وهناك إنجيل اشتهر باسم التذكرة، وإنجيل سرن تهس. ويذكر التاريخ أمرا أصدره البابا جلاسيوس الأول الذي ابتدأت بأبويته سنة (492) يعدد فيه أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها وفي عدادها كتاب يسمى إنجيل برنابا، وكل هذه الأناجيل شيء، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام شئ آخر، فهذه قصة حياة فيها بعض الوحي قد اختلط بأشياء كثيرة؛ ولذلك

فإن بعض المحققين من النصارى يقول: «قال اكهارن في كتابه: إنه كان في ابتداء الملة المسيحية في بيان أحوال المسيح رسالة مختصرة يجوز أن يقال: إنها الإنجيل الأصلي .. هذه ترجمة لما قاله نارتن كما نقله عنه الشيخ أبو زهرة، ونحن نجزم بإخبار الله لنا أن المسيح عليه الصلاة والسلام قد أنزل عليه كتاب هو الإنجيل، ولكن أين هو والكنيسة اعتمدت ما لا يصلح للاعتماد، وقضت على كل ما يخالفه، مع ملاحظة ما يقوله شارل جنيبير أستاذ الديانة المسيحية في جامعة باريس من كون العقلية التي سيطرت على النصارى في المراحل الأولى عقلية غير تحقيقية يقول: «فكل ما يمليه اتصال الواحد منهم اتصالا خياليا مباشرة بالروح القدس، يؤخذ قضية مسلمة وفرضا ضروريا على الجميع يؤمنون به إيمانا لا يعلو عليه، بل لا يدانية إيمانهم بالواقع المباشر الذي يمليه التاريخ. فتلك التعاليم مثلا التي قال القديس بولس أن عيسى أوحى بها إليه روحيا، كانت تبدو له أكثر ثقة ويقينا من كل ما كان يحكيه له صاحبا المسيح: بطرس ويعقوب» هذا كلام بحاثة نصراني فليتصور القارئ أن المسيحية الحالية التي هي أثر من آثار بولس كلها أثر عن دعوى إنسان أن المسيح يتصل به بشكل روحي، ويقول له كل شئ أما المسيحية كما ورثها تلاميذ المسيح وتلقوها منه مباشرة فقد انتهت. ولننظر نظرة في الأناجيل الأربعة التي يعتمدها النصارى حاليا الإنجيل الأول إنجيل متى: وينسب إلى متى أحد تلاميذ المسيح المباشرين، وهناك خلاف كثير في سنة تدوينه وأهم من هذا أن الأصل ضائع، يقول صاحب ذخيرة الألباب من كتاب النصارى «إن القديس متى كتب إنجيله في السنة (41) للمسيح باللغة المتعارفة يومئذ في فلسطين وهي العبرانية أو السير وكلدانية، ثم ما عتم هذا الإنجيل أن ترجم إلى اليونانية، ثم تغلب استعمال الترجمة على الأصل الذي لعبت به أيدي النساخ الأيونيين ومسخته، بحيث أضحى ذلك الأصل خاملا بل فقيدا وذلك منذ القرن الحادي عشر» ومن هذه العبارة نفهم أن هناك اختلافا كبيرا بين الأصل والترجمة حتى أتلف الأصل، ولكن من هو المترجم وما هو العصر؟ ويذكر سيف الدين فاضل في مقدمته لإنجيل برنابا أن هناك إنجيل متى الكاذب يبشر بما يبشر به إنجيل برنابا فهل هو الإنجيل الأصيل لمتى؟. إنجيل مرقس: ومرقس لم يكن من الحواريين وإن كان من تلاميذ المسيح المباشرين، وقد جاء في كتاب مروج الأخبار في تراجم الأبرار وهو كتاب نصراني: أن مرقس كان ينكر ألوهية المسيح هو وأستاذه بطرس الحواري، وقد جاء في ذلك الكتاب عن مرقس

«صنف إنجيله بطلب من أهالي رومية وكان ينكر ألوهية المسيح» وهناك خلاف كثير في زمن تأليفه. ويقول ابن البطريق:- من مؤرخي النصارى- «وفي عصر نارون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عن مرقس في مدينة رومية ونسبه إلى مرقس». وهذا وحده كاف لزعزعة الثقة بالرواية فهل بطرس تتلمذ على مرقس؟ وهناك روايات تقول: إن مرقس كتبه بعد وفاة بطرس وبولس وسنرى أن نسبة إنجيلي متى ومرقس لهما لا قيمة لها من الناحية التاريخية؛ لأنه لا يوجد سند صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، ولا باطل إليهما، فهي دعوى محض وإلا فما أسهل أن يقال: أملى مرقس إنجيله على فلان، وفلان أملاه على غيره، وعلى كل الأحوال فإن الشيخ رشيد رضا ينقل في مقدمته لإنجيل برنابا عن دائرة المعارف الفرنسية أن بولس هو الذي وضع إنجيلي مرقس ويوحنا ونسبهما إليهما، وأما لوقا فمن تلاميذ بولس فهو ليس من تلاميذ المسيح ولا من تلاميذ تلاميذه أصلا، ولذلك فإن هذا الإنجيل يمثل مدرسة بولس التحريفية. وأما إنجيل يوحنا ففيه دعاوى كثيرة، ولقد جاء في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى ما نصه: «أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه هو الحواري الذي يحبه المسيح فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري ووضعت اسمه على الكتاب نصا مع أن صاحبه غير يوحنا يقينا، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا- ولو بأوهى رابطة- ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى». وقد قال جرجس زوين اللبناني فيما ترجمه: «إن شيربنطوس وأبيسون وجماعتهما لما كانوا يعلمون المسيحية بأن المسيح ليس إلا إنسانا، وأنه لم يكن قبل أمه مريم فلذلك في سنة (96) اجتمع عموم أساقفة آسيا وغيرهم عند يوحنا، والتمسوا منه أن يكتب عن المسيح وينادي بإنجيل مما لم يكتبه الإنجيليون الآخرون، وأن يكتب بنوع خصوصي لاهوت المسيح».

وقال يوسف الدبس الخوري في مقدمة تفسيره (من تحفة الجيل): «إن يوحنا صنف إنجيله في آخر حياته بطلب من أساقفة كنائس آسيا وغيرها؛ والسبب أنه كانت هناك طوائف تنكر لاهوت المسيح فطلبوا منه إثباته وذكر ما أهمله متى ومرقس ولوقا في أناجيلهم». فالكتاب إذن كتب ليخدم غرض تأليه المسيح عليه السلام- وقد برأه الله مما قالوا- ومع كل ما يقال عن هذه الأناجيل فإن أحدا لا يستطيع أن يثبت بأي سند نسبتها إلى من نسبت إليه، ولذلك قلنا: إنها كلها لا تمثل إلا مدرسة واحدة هي مدرسة بولس التحريفية: فإنجيل لوقا لواحد من تلاميذه، وإنجيلا يوحنا ومرقس منسوبان إليه، وإنجيل متى ضائع والترجمة فيما يبدو ترجمة لمدرسة بولس فالمعروف أن متى بشر في الحبشة، ومن المعروف أن النجاشي كان موحدا، ويؤمن بأن عيسى عبد الله فهذا يؤكد أن الإنجيل الأصلي لمتى ليس هو الموجود حاليا، فأي قيمة تاريخية لهذه الأناجيل خاصة وأن أول إشارة تاريخية لها كانت سنة (209) ميلادية، فإذا عرفنا أنه قبل ذلك الوقت كانت هناك مئات من الفرق المسيحية، وكل فرقة لها رواياتها، وإذا عرفنا أن هناك تناقضات تبلغ المائة بين هذه الأناجيل، أثبتها جميعها رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه العظيم «إظهار الحق» أدركت أنه لا قيمة تاريخية لهذه الأناجيل ولا قيمة إلهامية، ومن ثم فلا قيمة لما تثبته أو تنفيه إلا إذا جاء شئ يرجح. ومن أهم السقطات التي نجدها في بعض الأناجيل ادعاء بنوة المسيح لله، وتأليهه، وادعاء التثليث الذي انحدر إلى النصارى عن الوثنيين، وهذه القضايا كلها ترفضها الواضحات من أدلة العقل، والواضحات مما يؤمنون به، وجاء القرآن- المعجزة الخالدة- ليصحح «إنما الله إله واحد». يقول سيف الدين أحمد فاضل: «وقد وردت «لا إله إلا الله» في أسفار العهد القديم والجديد (الكتب التي يؤمن بها اليهود والمسيحيون حاليا) وأبين بعضها فيما يلي: «لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم حجرا مصورا لتسجدوا له. لأني أنا الرب إلهكم» (سفر اللاويين 26: 1) أي كل حجر مصور لا يمكن أن يكون إلها بل هو وثن. «الرب هو الإله ليس آخر سواه» (سفر التثنية 54: 35) «اسمع يا إسرائيل

الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك» (سفر التثنية 6: 4، 5) أي: لا تحب إلا الرب بكل ما أعطيت. «فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه» (سفر التثنية 7: 9). فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك. (سفر التثنية 10: 12)، «الرب إلهك تتقي إياه تعبد» - أي: تعبده لا تعبد غيره- «وباسمه تحلف» (سفر التثنية 10: 12) - أي: إذا حلفت فاحلف باسم الله- وفي سفر التثنية 13 - 4 «وراء الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون وإياه تعبدون» انظروا الرب إلهكم وراءه تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون» .. «وإياه تعبدون». «انظر الآن. أنا أنا هو وليس إله معي. أنا أميت وأحيي. سحقت وإني أشفي وليس من يدي مخلص» (سفر التثنية 39032) - وتعني ليس من يدي مخلص أي: لا شفيع ولا وكيل من دونه «ليس قدوس مثل الرب لأنه ليس غيرك» (سفر صموائيل الأول 2: 3) «لا تحيدوا عن الرب بل اعبدوا الرب بكل قلوبكم. ولا تحيدوا. لأن ذلك وراء الأباطيل التي لا تفيد ولا تنقذ لأنها باطلة» (سفر صموائيل 12: 20، 21). «لذلك قد عظمت أيها الرب الإله لأنه ليس مثلك وليس إله غيرك» (سفر صموائيل الثاني 7: 22) «أيها الرب إله إسرائيل ليس إله مثلك» (سفر الملوك الأول 8: 33)، «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر» (سفر الملوك الأول 8: 60) «الرب هو الله الرب هو الله» (سفر الملوك الأول: 18: 39)، «أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدي الناس. لها أفواه لا تتكلم. لها أعين لا تبصر. لها آذان ولا تسمع. كذلك ليس لها في أفواهها نفس. مثلها يكون صانعوها وكل من يتكل عليها. يا بيت إسرائيل باركوا الرب ... » (مزمور 135: 15 - 20). «اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله» (سفر الجامعة 12: 13) - ويقصد ب «الإنسان كله» ما وضحه سليمان عليه السلام من أن الإنسان باطل وكل ما تحت الشمس باطل في إصحاحات سفر الجامعة كلها- «أنا الرب هذا اسمى لا أعطيه لآخر» (سفر أشعياء 42: 8). «إني أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس غيري مخلص» (سفر أشعياء 43: 10، 11)، «أنا الأول والآخر ولا إله غيري» .. «ما أعلمتك منذ القديم وأخبرتك فأنتم شهودي. هل يوجد إله غيري». (سفر أشعياء 44: 8) «أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي. نطقتك

فوائد

وأنت لم تعرفني. لكي يعلموا من مشرق الشمس ومن مغربها أن ليس غيري. أنا الرب وليس آخر». (سفر أشعياء 45: 5، 6)، «أنا الرب وليس آخر» (سفر أشعياء 45: 18)، «أليس أنا الرب ولا إله غيري، إله بار ومخلص ليس سواي التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر» (سفر أشعياء 45: 21، 22)، «اذكروا الأوليات منذ القديم لأني أنا الله وليس آخر الإله وليس مثلي» (سفر أشعياء 46: 9)، «وإني أنا الرب إلهكم وليس غيري»، (سفر يوئيل 2: 72). وفي إنجيل مرقس يقول المسيح عليه السلام: «إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى»، (إنجيل مرقس 12: 29، 30) - فقال له الكاتب (وهو نيقوديموس على ما بينه إنجيل برنابا) - «بالحق قلت لأن الله واحد وليس آخر سواه» (إنجيل مرقس 12: 32) - فأعجب المسيح عليه السلام برده، وقال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله»، (إنجيل مرقس 12: 34). فإذا كانت قضية التوحيد بمثل هذه الوضوح حتى فيما غير وبدل من إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يستسيغ عقل أن يقبل الشرك على أنه وحي؟!. فإذا قال العقل بعد ذلك كلمته في الرفض المطلق لأن يجمع بين التثليث والتوحيد، وجاء مع ذلك كله النص القرآني المعجز ليقيم الحجة ويهدي ويرشد، فهل بقي أمام عاقل أن يختار إلا التوحيد والإسلام والإيمان بالقرآن؟! فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» وفي رواية: «إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله». وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم. «أيها الناس عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجل».

2 - روى البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» وزادت رواية في مسلم «من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء». 3 - استدل المعتزلة ومن تشبث بتفضيل الملائكة على البشر بقوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ إذ قالوا: إن الارتقاء يكون من الأدنى إلى الأعلى فلما قال وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. أي: كأنه قال: ولا من أعلى منه قدرا، وأعظم منه خطرا. قال النسفي: والجواب أنا نسلم تفضيل الثاني على الأول، ولكن هذا لا يمس ما تنازعنا فيه، لأن الآية تدل على أن الملائكة المقربين بأجمعهم أفضل من عيسى، ونحن نسلم بأن جميع الملائكة المقربين أفضل من رسول واحد من البشر. إلى هذا ذهب بعض أهل السنة، ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدرة البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأسا لا يستنكفون عن عبادته، فكيف بمن يتولد من آخر، ولا يقدر على ما يقدرون، ولا يعلم ما يعلمون، وهذا لأن شدة البطش، وسعة العلوم، وغرابة التكون، هي التي تورث الحمقى وهم الترفع عن العبودية. فالنصارى رأوا المسيح ولد من غير أب، وهو يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، وينبئ بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ فبرءوه من العبودية، فقيل لهم: هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في المسيح، ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية، فكيف المسيح!! والحاصل أن خواص البشر- وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة، وهم الرسل منهم كجبريل وميكائيل وملك الموت ونحوهم، وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر، وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة. ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء، أنهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة، وتفضلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدية، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف، بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها، فكانت أزيد ثوابا بالحديث» أقول: والمراد بعوام المسلمين أي: ما سوى الرسل من الصديقين والشهداء والصالحين وإلا فالملائكة بإجماع أفضل من فسقة المسلمين وجهلتهم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: لقد طالب هذا السياق أهل الكتاب بتوحيد الله ومعرفته، وعبادته، والعمل الصالح، فدل ذلك على أن العبادة مجموعة أمور معرفة الله، والإيمان به، والعمل الصالح له، وهذا أوان الانتقال إلى المقطع الثالث عشر في هذه السورة، وهو المقطع الأخير، وكما بدأ المقطع الأول ب يا أَيُّهَا النَّاسُ ... فإن المقطع الأخير مبدوء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ. ولعله من المناسب قبل أن ننتقل إلى المقطع الأخير أن نشير إلى بعض المعاني: إن الآيات الخمس التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة قد وردت فيها: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. ولو أنك تأملت المقطع الذي مر معنا لوجدته دعوة إلى التوحيد: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ودعوة إلى العبادة والعمل الصالح لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وهكذا نجد مواطأة كاملة للمعاني الموجودة في المحور مع توجه الخطاب لبعض الناس وهم أهل الكتاب. وأما صلة المقطع بما قبله مباشرة فواضحة، فبعد أن دعا المقطع السابق في آيته الأخيرة الناس جميعا للإيمان بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، توجه إلى أهل الكتاب بذلك، والآن يعود الخطاب إلى الناس جميعا بالإيمان بالله والاعتصام بالقرآن. المقطع الثالث عشر وهو المقطع الأخير يمتد هذا المقطع من الآية (174) إلى نهاية الآية (176) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: [سورة النساء (4): آية 174] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)

كلمة في هذا المقطع

[سورة النساء (4): الآيات 175 الى 176] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) كلمة في هذا المقطع: بدأت السورة بمقطع مبدوء ب (يا أيها الناس) وانتهت بمقطع مبدوء ب (يا أيها الناس)، ولقد رأينا أن محور سورة النساء هو الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة من تلك السورة والتي منها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وهاهنا يأتي المقطع ليقرر أن هذا القرآن برهان من الله، وأنه نور مبين. وفي هذا السياق يبين لنا الله- عزّ وجل- الحكم في موضوع الكلالة، وهو موضوع مرتبط بقضايا الميراث التي تعرض لها المقطع الأول من سورة النساء فكما بدأ المقطع الأول ب (يا أيها الناس) وتحدث عن قضايا الميراث فكذلك هذا المقطع يبدأ ب (يا أيها الناس) وفيه جواب على استفتاء في شأن صورة من صور الإرث. المعنى العام للمقطع: يقول الله تعالى مخاطبا جميع الناس، ومخبرا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهة، وهو القرآن الذي هو الضياء الواضح على الحق كله في كل شئون الحياة، فهو حق، وفيه برهانه ودليله، ثم بين تعالى أن الذين يجمعون بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم على ضوء كتاب الله هم الذين سيرحمهم الله، ويدخلهم الجنة، ويزيدهم ثوابا ومضاعفة، ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم، وإحسانه إليهم، ويهديهم إليه طريقا واضحا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. هذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة،

المعنى الحرفي

وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات، وفي الحديث: «القرآن صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين». وبمناسبة كون هذا القرآن نورا وضياء فقد ختمت السورة بجواب استفتاء في قضية من قضايا الإرث، ليعلم أن التقوى هي في طاعة الله في كل شأن، والاستسلام لحكمه في كل قضية، أما الاستفتاء فهو سؤال عن إرث من لا والد له ولا ولد، وهو الكلالة، فبين الله- عزّ وجل- أنه إن مات امرؤ وليس له والد ولا ولد، وله أخت فلها نصف التركة، فإن كان لمن يموت أختان، فلهما الثلثان فريضة، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما. أما إذا كان الورثة للكلالة إخوة ذكورا ونساء، فيعطى الذكر مثل حظ الأنثيين. ثم بين الله حكمة هذا البيان فقال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا. أي: يوضح لكم فرائضه، ويحد لكم حدوده، ويبين لكم شرائعه لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان. ثم يختم الله الآية والسورة بقوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي: هو عالم بعواقب الأمور، ومصالحها، وما فيها من الخير لعباده. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ البرهان: هو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة. وهل هو هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو بصورته ومعناه، وصفاته، وخصائصه، ومعجزاته برهان قاطع على أنه رسول الله؟ أو المراد بالبرهان هنا القرآن الذي هو في خصائصه وصفاته وإعجازه وما فيه من المعجزات برهان على أنه من عند الله، وبرهان على وجود الله، وبرهان على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، قولان للمفسرين. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. أي: ضياء واضحا يضئ لكم، ويبين لكم كل قضية، فلا تبقى أمام عقولكم، ولا أمام قلوبكم ظلمة إلا أزالها، وهو القرآن الذي يستضاء به في ظلمات الحيرة. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ. أي: بالله أو بالقرآن فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ. أي: في جنته وَفَضْلٍ. أي: زيادة النعمة. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ. أي: يرشدهم إلى الله أو إلى الفضل صِراطاً مُسْتَقِيماً. أي: طريقا لا عوج فيه، والهداية إلى الصراط المستقيم جزاء الإيمان بالله، والاعتصام بكتابه. يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ الكلالة: من لا والد له ولا ولد إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الولد لفظ مشترك يقع على الذكر

فوائد

والأنثى. وَلَهُ أُخْتٌ سواء كانت لأب وأم، أو لأب فقط. فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. أي: الميت وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ. أي: والأخ يرث الأخت جميع ما لها إن قدر الأمر على العكس من موتها، وبقائه بعدها. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ. أي: فإن كانت الأختان اثنتين فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً. أي وإن كان من يرث بالأخوة ذكورا وإناثا، والمراد بالإخوة في النص الإخوة والأخوات، والتذكير للتغليب فَلِلذَّكَرِ منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا. أي: لئلا تضلوا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده، فهو القادر على التبيان، وقد فعل، فما أعظم جرم من يترك بيانه إلى بيان غيره. فوائد: 1 - روى البخاري عن البراء قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت يستفتونك .. والمراد والله أعلم آخر آية نزلت في الميراث. وفي سبب نزولها قال جابر ابن عبد الله رضي الله عنه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، قال: «فتوضأ علي، أو قال: صبوا عليه فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض» أخرجاه في الصحيحين، وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. 2 - في موضوع الكلالة خلاف كثير، وكان عمر يقول كما ثبت في الصحيحين: «ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وباب من أبواب الربا» والذي قضى فيه أبو بكر أن الكلالة ما لا والد له ولا ولد، وهو الذي عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن. 3 - روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة فقال: يكفيك آية الصيف» وإسناده جيد. وآية الصيف آخر سورة النساء، ويبدو أنها نزلت في فصل الصيف. 4 - في صحيح البخاري: «سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت

كلمة في المقاطع الثلاثة الأخيرة

فقال للابنة النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني. فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى الأشعري فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الخبر فيكم». وتفصيلات هذه القضايا في الكتب الموسعة في علم الميراث. وبهذا ينتهي الكلام عن هذا المقطع، وهو المقطع الأخير في سورة النساء المؤلفة من ثلاثة عشر مقطعا. كلمة في المقاطع الثلاثة الأخيرة يلاحظ أن المقطع الحادي عشر بدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وانتهى بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فالبداية والنهاية كانت في شأن الوحي والإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبل. ثم جاء المقطع الثاني عشر وخص أهل الكتاب بالدعوة إلى الحق، ثم جاء المقطع الثالث عشر وفيه نداء للناس جميعا يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ، بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فهي عودة على موضوع الإيمان بالله والوحي فالمقاطع الثلاثة مترابطة مع بعضها وهي آتية بعد مقطعين دعوا إلى تثبيت الإيمان والتحرر من الكفر والنفاق، فما بين المقطعين التاسع والعاشر. وما بين المقاطع الأخيرة صلات متشابكة، ومن قبل ذلك جاء مقطع يدعو إلى إقامة العدل والحكم بالقرآن وذلك كله مترابط متشابك، وهكذا نجد كيف أن كل مقطع شديد الصلة مع ما قبله وما بعده. كلمة في سورة النساء وصلتها بمحورها من سورة البقرة: قلنا من قبل: إن الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة هي محور سورة النساء ولو أننا أخذنا كل جزء من أجزاء الآيات الخمس ونظرنا إلى ما ورد تفصيلا له في سورة النساء لرأينا الكثير: ولنضرب أمثلة: بدأت الآيات الخمس بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ* وقد ورد النداء يا أَيُّهَا النَّاسُ* في سورة النساء ثلاث مرات: يا أَيُّهَا

النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ*، يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ، يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ. وجاء في الآيات الخمس قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. وجاء في سورة النساء: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ. وفي الآيات الخمس جاء قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .... وجاء في سورة النساء: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. وفي الآيات الخمس جاء قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وجاء في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ. وفي الآيات الخمس جاء قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ .... وجاء في سورة النساء: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ.

كلمة في صلة سورة النساء بارتباطات محورها

وقد ذكرت الآيات الخمس الحكمة من الأمر بالعبادة وهي التقوى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.* والتقوى تنافي الكفر وتنافي النفاق. وقد وصفت التقوى في أول سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقد جاء مقطع كامل في سورة النساء حول طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جاء مقطع كامل آخر حول وجوب الحكم بما أنزل الله. كما وصف المتقون في سورة البقرة بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. وقد جاء أكثر من مقطع في سورة النساء يفصل في قضايا الإيمان وفي القضايا التي تنافي الإيمان فجاء أكثر من مقطع يفصل في الكفر والنفاق. هذه إشارات سريعة في موضوع صلة سورة النساء بمحورها من سورة البقرة ولو أننا أردنا أن نتوسع لطال المقام. كلمة في صلة سورة النساء بارتباطات محورها: جاء بعد مقدمة سورة البقرة المقطع الذي أسميناه مقطع الطريقين وهو تسع آيات: خمس منها هي محور سورة النساء، وثنتان منها هي محور سورة المائدة كما سنرى، وثنتان منها هي محور سورة الأنعام كما سنرى، وقد ختم مقطع الطريقين بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.* وقد ختمت سورة النساء بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. مما يوحي بأن لسورة النساء ارتباطات بتتمة مقطع الطريقين. وفي الآيتين التاليتين للآيات الخمس الأولى من مقطع الطريقين جاء قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.* وقد تحدثت سورة النساء عمن ينقض الميثاق وعن بعض المواثيق: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. وفي تلك الآيتين جاء قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وجاء في سورة النساء: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ.

كلمة في سورة النساء وتفصيلها في امتدادات محورها

فسورة النساء تفصل في محورها وفي ارتباطاته كذلك. كلمة في سورة النساء وتفصيلها في امتدادات محورها: قلنا: إن لكل سورة في القرآن محورا من سورة البقرة، وأي سورة في القرآن تفصل في هذا المحور وامتداداته من سورة البقرة فكأنها تجذب إلى هذا المحور ما هو الألصق به من المعاني، ثم تفصل في الجميع وكل ذلك على نسق فريد عجيب. وقد رأينا كيف أن سورة آل عمران فصلت في معان في سورة البقرة هي امتدادات لمحورها: فمن مقطع آدم في سورة البقرة أخذت، ومن مقطع بني إسرائيل أخذت، ومن مقطع إبراهيم أخذت، ومن القسم الثاني من سورة البقرة أخذت، ومن القسم الثالث أخذت. أخذت ما هو الألصق بمحورها وفصلته، ولكن ضمن سياقها الخاص، وهكذا فصلت سورة النساء في محورها، وفي ارتباطات هذا المحور، وفي امتداداته بما أكملت به التفصيل الذي بدأته سورة آل عمران، ووضعت الأساس الذي ستكمله سورتا المائدة والأنعام. كلمة في نوعية تفصيل كل من سورة آل عمران والنساء: في مقدمة سورة البقرة جاء وصف للمتقين والكافرين والمنافقين، ومن تحقق بصفات المتقين تخلص بشكل تلقائي من صفات الكافرين والمنافقين، ولذلك فقد جاءت سورة آل عمران وكأنها تفصيل لصفات المتقين فبدأت ب: الم وختمت بقوله تعالى تُفْلِحُونَ كما بدأت الآيات التي وصفت المتقين في سورة البقرة ب: الم وختمت بقوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إنها جاءت تفصيلا لمقدمة سورة البقرة بشكل ما فأدخلت فيها ما أدخلت. ومن ثم فقد أصبح لمقدمة سورة البقرة تفصيلها الواسع في سورة آل عمران. ضع هذه النقطة نصب عينيك وتابع: جاءت معان معينة في مقدمة سورة البقرة بشكل مجمل وجاء مقطع الطريقين بعد ذلك ليفصل بشكل مجمل الطريق إلى التقوى، والطريق إلى التحرر من الكفر والنفاق.

كلمة في غسيل الدماغ وغسيل القلب

ولكن بسورة آل عمران فصلت المقدمة فاقتضى أن يفصل في الطريقين فجاءت سورة النساء لتفصل في الطريق للتحقق بالتقوى والإيمان والعمل الصالح بالمفهوم الأوسع على ضوء تفصيل آل عمران. وستأتي سورتا المائدة وآل عمران لتفصلا بالمفهوم الأوسع للتحرر من الكفر والنفاق على ضوء ما سبق ذلك من تفصيل، ولذلك نلاحظ أن معاني قد طرقتها سورة آل عمران قد جاءت بعد ذلك في سورة النساء، والتفصيل الذي سيكون في سورتي الأنعام والمائدة سيكون تفصيلا على ضوء ما مر. كلمة في غسيل الدماغ وغسيل القلب: أصبح موضوع غسيل الدماغ علما برعت فيه كل دوائر المخابرات في العالم، حتى مخابرات الدول الديموقراطية أصبحت تستعمله بشكل خفي، وقد حاولت دوائر تبشيرية أن تستعمله، وإن اختلفت الوسائل. ومن الوسائل التي تستعملها بعض أجهزة المخابرات في موضوع غسيل المخ أن تضع الإنسان في ظروف نفسية وجسدية صعبة، ثم تحاول أن تسخر من مبادئه وعقائده، ثم تحاول أن تشككه فيها، ثم تحاول أن تغرس فكرة ما في دماغه من خلال التكرار مرات ومرات؛ حتى تصبح الفكرة وكأنها جزء منه، بحيث لو أراد أن يتحدث عما يخالفها لم يستطع ولدوائر المخابرات في هذا الموضوع أساليب وفنون وفي أكثر الأحيان- إن لم يكن في كلها- يجتمع في عملية غسيل الدماغ الوحشية مع الباطل مع الظلم، حتى تصبح المسألة ظلمات فوق بعض. هذا غسيل الدماغ أما غسيل القلب فذلك شئ آخر: عند ما تتراكم على فطرة الإنسان أنواع من الصدإ فكيف يتم الجلاء؟ الجواب: أن الجلاء في القرآن. لقد جاءت سورة البقرة فربت على التقوى من خلال سياق. وجاءت سورة آل عمران لتفصل في أساس التقوى ضمن سياق. وجاءت سورة النساء لتفصل في ماهية التقوى ضمن سياق. ثم تأتي سور القرآن وفي كل سورة يأتي جديد قديم فما إن يبدأ الإنسان يقرأ القرآن

تذكير أخير بين يدي سورتي المائدة والأنعام

حتى يغسل القرآن قلبه مرة بعد مرة، وكل ذلك بالحق وللحق، إذا أدركت هذه النقطة تكون قد أدركت حكمة من حكم التكرار، والتفصيل في القرآن وتكون قد عرفت سببا من أسباب كون القرآن على مثل هذا الترتيب. فما أعظم كتاب الله، إذ يذكرنا في سورة على طريقة وبأسلوب وتسلسل، ثم يذكرنا في سورة أخرى على طريقة وبأسلوب وتسلسل، ثم وثم، فإذا وجد القلب الذي يحسن التلقي عن الله، فإنه لا ينتهي من تلاوة كتاب الله مرة إلا وقد تحقق وتعلق، ثم إذا كرر زاد التحقق والتعلق حتى يخلص الإنسان لله وكتابه وشرعه، فإذا رافق هذا عبادة وإقامة فرائض ونوافل، كان غسيل القلب كاملا، وشتان بين غسيل القلب هذا، وغسيل المخ عند الكافرين والظالمين، ففي عملية غسيل المخ يوضع المعذب والضحية كرها في شروط دقيقة معينة من الخوف والجوع، وتسلط عليه أنواع الهزء والسخرية فيما هو عليه، ثم تكرر عليه بعض المعاني بأساليب متعددة، وطرق متعددة، ليقلع عما هو فيه، ويسير فيما يريده جلادوه. أما غسيل القلب، فمنطلقه الاختيار، وهدفه الارتقاء، وظروفه الخوف والخشية، وأدواته العبادة والصوم والذكر، وزاده كتاب الله يصفي وينقي، وشتان بين العدل والظلم، والحرية والإكراه، والخوف من الله، والخوف من الجلادين، والعبادة والسوط، والمعاني السافلة الخسيسة، وكتاب الله. وشتان بين ما يوصل إلى الجنة، وما يوصل إلى النار، وشتان بين الجنة والنار. تذكير أخير بين يدي سورتي المائدة والأنعام: نستطيع أن نقول: إنه بعد مقدمة سورة البقرة جاء مقطع يتألف من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول منه فصلت فيه سورة النساء، والجزء الثاني منه فصلت فيه سورة المائدة، والجزء الثالث منه فصلت فيه سورة الأنعام، وهذا هو المقطع بأجزائه الثلاثة: [سورة النساء (4): آية 21] وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)

[سورة النساء (4): الآيات 22 الى 29] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)

إن الجزء الأول من هذا المقطع وهو الآيات الخمس الأولى فصلت فيه سورة النساء ولكن قوله تعالى من هذه الآيات الخمس لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* هو الذي أخذ الحيز الأكبر من السورة. فالسورة وضحت التقوى وما يدخل فيها، في مقاطعها كلها. ولئن جاءت مقدمة سورة البقرة لتعرض صفات المتقين فههنا عرفنا التقوى من خلال الأمر والنهي، وتأتي سورتا المائدة والأنعام لتفصلا ما لم يفصل في سورة النساء، أو تقول: إن المقطع المشار إليه في سورة البقرة فيه ثلاثة موضوعات متداخلة مترابطة، فجاءت سورة النساء لتفصل موضوعا، ثم سورة المائدة لتبين ما بعده، ثم سورة الأنعام لتبين الموضوع الأخير. وللإشعار بالتداخل وبوحدة المقطع، اجتمع في سورة النساء ما له صلة ببدايته وخاتمته. وكما أن المقطع في سورة البقرة مرتبط بالمعاني الموجودة في مقدمتها لأنه يمثل الطريق إلى التحقق بصفات الفئة الأولى المذكورة فيها، والتحرر من صفات الفئتين الأخيرتين. فسورة النساء هكذا. فالمعاني القرآنية يكمل بعضها بعضا، ويبني بعضها على بعض، فالسورة تفصل في محور وفي روابط المحور وفي امتدادات المحور. ومن كان يتابع ما كتبنا حتى الآن أصبح باستطاعته أن يدرك الشئ الرئيسي الذي نلح عليه في هذا التفسير ويدرك أننا على بصيرة في سيرنا بفضل الله عزّ وجل. ونحن لا نشك أن ما اتجهنا إليه في هذا التفسير في موضوع الوحدة القرآنية لا زال غامضا، ولا زالت أدلته غير واضحة، ولكنا كذلك لا نشك أن قارئ هذا التفسير من بدايته إلى نهايته سيتكامل معه صرح الأدلة حتى لا يشك أبدا في صحة ما اتجهنا إليه إن شاء الله. ونحب أن نستبق الأدلة فنقول: هل للصدفة محل في هذا الكون الذي هو صنع الله؟ حتما الجواب لا: هذا ما يقوله كل مؤمن، وعندئذ يأتي السؤال الثاني: هل هناك شئ في هذا الكون ينفك عن الحكمة؟ والجواب حتما: لا فإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للكون المخلوق، فما بالك بالقرآن الذي هو كلام الله، لا شك أن كل حرف في محله، وأن كل كلمة في محلها وأن كل آية في محلها، وأن كل سورة في محلها، وأن كل شئ فيه في محله لفي غاية الحكمة، والله وصف كتابه بالحكمة فهذا الكتاب الحكيم بكل ما فيه لا تنتهي

عجائبه. إن إدراكنا لهذه البدهية ينبغي أن يكون قاطعا للعجب في أن نحاول محاولتنا هذه التي يراها القارئ؛ لأنها محاولة للإجابة على كثير من الأسئلة المرتبطة بحكمة الله في أن يجعل كتابه على ما هو عليه. وسيرى القارئ كلما أوغلنا في هذا التفسير أن الأدلة ستتضافر لتأكد صحة ما اتجهنا إليه في موضوع الوحدة القرآنية وما عليه إلا أن يتابع وينصف. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

مقدمة المجلد الثالث: كلام عن ضرورة تعلم القرآن والعمل به

المجلّد الثالث [مقدمة المجلد الثالث: كلام عن ضرورة تعلم القرآن والعمل به] أي أخي القارئ: هذا هو المجلد الثالث من هذا التفسير وفيه سورتا المائدة والأنعام، ولعلك ألفت السير في هذا التفسير الذي يحتاج إلى صبر ومعاناة، خاصة في موضوع السياق والتعرف على آفاق الوحدة القرآنية، وإنما يهوّن عليك السير أن تعلم أنّ عصرنا عصر فتن، والنجاة في القرآن، وهذا مما تضافرت عليه أحاديث عن رسولنا عليه الصلاة والسلام، وإني لم آل جهدا في أن أقدم لك في هذا التفسير كل ما يحتاجه الفهم الصحيح لكتاب الله في عصر كثرت تعقيداته وأهواء أهله. أخرج أبو داود وأصل الحديث في البخاري ومسلم: قال نصر بن عاصم الليثي: أتينا اليشكري في رهط من بني ليث، فقال: من القوم؟ فقلنا: بنو الليث، أتيناك نسألك عن حديث حذيفة، قال: أقبلنا مع أبي موسى قافلين، وغلت الدوابّ بالكوفة، فسألت أبا موسى أنا وصاحب لي، فأذن لنا، فقدمنا الكوفة، فقلت لصاحبي: أنا داخل المسجد، فإذا قامت السّوق خرجت إليك، قال: فدخلت المسجد، فإذا فيه حلقة، كأنما قطعت رءوسهم، يستمعون إلى حديث رجل، قال: فقمت عليهم، فجاء رجل، فقام إلى جنبي، فقلت: من هذا؟ قال: أبصريّ أنت؟ قلت: نعم، قال: قد عرفت، ولو كنت كوفيا، لم تسأل عن هذا، قال: فدنوت منه، فسمعت حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني، قلت: يا رسول الله، هل بعد هذا الشر خير؟ قال: يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتّبع ما فيه- ثلاث مرات- قلت: يا رسول الله [هل] بعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشرّ، قال: قلت: يا رسول الله [هل] بعد هذا الشّرّ خير؟ قال: يا حذيفة، تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه- ثلاث مرات- قلت: يا رسول الله، [هل] بعد هذا الشّر خير؟ قال: هدنة على دخن، وجماعة على أقذاء فيها، أو فيهم، قلت: يا رسول الله، الهدنة على الدّخن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه، قلت: يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه- ثلاث مرات- قلت: يا رسول الله، بعد هذا الخير شرّ؟ قال: نعم فتنة عمياء صمّاء، عليها دعاة على أبواب النار، فإن متّ يا حذيفة وأنت عاض على جذل شجرة خير لك من أن تتّبع أحدا منهم». فأنت ترى أيها المسلم أن دواء ما نحن فيه تعلّم كتاب الله واتّباع ما فيه وهاتان روايتان يعضد بعضهما بعضا تؤكدان هذا المضمون:

- قال الحارث [بن عبد الله الهمداني] الأعور: «مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي فأخبرته، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ألا إنّها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا: (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن: 1] من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور» أخرجه الترمذي وأحمد والدارمي على مقال في أحد رواته لكنّ معناه صحيح. - قال عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما:) «نزل جبريل عليه السلام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره: أنها ستكون فتّن، قال: فما المخرج منها يا جبريل؟ قال كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوجّ فيقوّم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لا تلتبس به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، هو الذي لم تتناه الجنّ إذ سمعته أن قالوا: (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) من وليه من جبّار فحكم بغير ما فيه قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن اتّبعه هدي إلى صراط مستقيم» أخرجه رزين وذكر معناه ابن كثير بعد حديث الحارث من حديث عبد الله بن مسعود وقال: رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن، فالمعاني في الروايات الثلاث تصبّ في إناء واحد، أنّ المخرج حيث ادلهمّت الفتن تعلّم كتاب الله والعمل بما فيه، فاصبر أخي على تعلّم كتاب الله فطريق الجنة محفوف بالمكاره.

في آفاق الوحدة القرآنية: كلام عن مناسبة سورة المائدة لما قبلها وعن محاور سور قسم الطوال

في آفاق الوحدة القرآنية: [كلام عن مناسبة سورة المائدة لما قبلها وعن محاور سور قسم الطوال]

يقول صاحب الظلال في تقديمه لسورة المائدة: «ومن ثم نجد في هذه السورة- كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها- موضوعات شتى، الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع، على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد .. الأصل فيه إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه بلا شريك .. ». ويقول الألوسي في تفسيره عن وجه مناسبة سورة المائدة لسورة النساء وما قبلها: «ووجه اعتلاقها بسورة النساء- على ما ذكره الجلال السيوطي- عليه الرحمة- أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة. وعقد الصداق. وعقد الحلف. وعقد المعاهدة والأمان، والضمني عقد الوصية. والوديعة. والوكالة. والعارية. والإجارة، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فناسب أن تعقّب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمّت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجّه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ* وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بتنزيل المكي، وأوّل هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب، ثم إنّ هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة، وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة في صفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة. والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل». ونحن مع إثباتنا لما قاله صاحب الظلال والألوسي مما يدخل في الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم نضيف:

إن في القرآن سرا آخر، وروابط أخرى أقوى، تربط سور هذا القرآن بعضها ببعض بروابط هي وحدها إعجاز، فكيف إذا كانت واحدة من مظاهر الإعجاز؟. لقد درجنا فيما مرّ من هذا التفسير، أن نعرض لوجهة نظرنا في موضوع الوحدة القرآنية، بشكل رفيق، وكلما جاءت مناسبة ذكرنا جزءا من وجهة النظر، بحيث يكمّل ما سبق ذكره، ويبقى الموضوع مفتوحا لكلام جديد. إن كل سورة في القرآن الكريم هي جزء من قسم، أو جزء من مجموعة في قسم، وكل مجموعة سور تشكل فيما بينها وحدة على ترتيب معيّن، وكل سورة في مجموعة لها محورها من سورة البقرة، والمجموعة مع بعضها تلقي أضواء التفصيل على محاور سورها في سورة البقرة، على ترتيب تفصّل فيه السورة اللاحقة في محور يأتي بعد محور السورة السابقة، بحيث تجد آية أو آيات في سورة البقرة، قد فصلتها سورة، ثم سورة، ثم سورة، وكل ذلك على طريقة عجيبة في التفصيل كما سيمر معنا بإذن الله تعالى. ولا يعني ما مرّ أنّ سورة البقرة كانت آياتها مجملة (¬1)، فالله- عزّ وجل- وصف القرآن كله بالإحكام والتفصيل: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود: 1) فسورة البقرة مفصّلة فيها المعاني ومن ثمّ فهي تلقي أضواء التفصيل على بقية السور، والسور كلها تلقي عليها أضواء التفصيل بما يتكامل معه التفصيل تكاملا عجيبا. ولعلّه لم يحن حتى الآن، أو ان الكلام في هذا الموضوع بأكثر مما ذكرنا فلنكتف هاهنا بهذا القدر الذي ستأتيك أمثلته وتفصيلاته مرّات ومرّات. لقد كانت سورة البقرة مقدمة، وأقساما ثلاثة، وخاتمة، ورأينا كيف أن المعاني تترابط فيها ترابطا مدهشا، وكيف أن كل الأقسام مرتبطة بالمقدمة، وكيف أن الخاتمة كذلك مرتبطة بالمقدمة. ثم جاءت سورة آل عمران ففصّلت في مقدمة سورة البقرة والمعاني التي هي أشد لصوقا بها، وقلنا من قبل: إن سورة النساء والمائدة والأنعام ستفصل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، بشكل مباشر على الترتيب التالي: ¬

_ (¬1) - لم نرد بالإجمال هنا: المعنى الأصولي لهذه الكلمة.

سورة النساء تفصّل في الآيات الخمس الأولى من هذا المقطع، فهي محورها الرئيسي. وسورة المائدة ستفصّل في الآيتين اللاحقتين للآيات الخمس، فهما محورها الرئيسي. وسورة الأنعام ستفصّل في الآيتين الأخيرتين للمقطع، فهما محورها الرئيسي. وسنرى أن سورة الأعراف ستفصّل في المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة، وأنّ سورتي الأنفال وبراءة ستفصلان في محور يأتي في القسم الثالث من سورة البقرة، وبهذا ينتهي القسم الأول من أقسام القرآن قسم الطوال، وبانتهائه نأخذ التفصيل الأول لمعاني سورة البقرة، بما يغطي مجموع معانيها، ليبدأ القسم الثاني وفيه التفصيل الثاني كما سنراه فيما بعد. لقد فصّلت مجموعة السور السبع التي جاءت بعد سورة البقرة معاني في هذه السورة مبتدئة بأول السورة، ثم جاءت المحاور بعد ذلك متلاحقة. كل محور لاحق يأتي بعد محور سابق ومجموعة السور السبع وهي تفصّل في محاورها لم تكن تفصّل في المحور فقط، وإنما كانت تفصّل في المحور وامتدادات معانيه الأكثر لصوقا به من سورة البقرة نفسها. وهكذا جاءت كل سورة من سور المجموعة وهي تجمع بين المحور وامتدادات معانيه على نسق جديد، مفصّلة ومبينة، بحيث لا ننتهي من قسم الطوال إلا وقد أخذنا تفصيلا شاملا لمعان في سورة البقرة، من خلال السياق الخاص لكل سورة من هذه السور. وستأتي الأمثلة والتفصيل شيئا فشيئا. فلنبدأ عرض سورة المائدة. ***

سورة المائدة

سورة المائدة وهي السّورة الخامسة بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الرابعة من قسم الطّوال وآياتها مائة وعشرون وهي مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة المائدة

كلمة في سورة المائدة: قلنا إن المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة والذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة، هو مقطع الطريقين فبعد أن ذكرت مقدمة سورة البقرة أصناف الناس: متقين، وكافرين، ومنافقين، جاء المقطع الأول ليوضح الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق، فجاءت الآيات الخمس الأولى منه لتوضح الطريق إلى التقوى، وهي التي كانت محور سورة النساء. وبعد هذه الآيات الخمس تأتي آيتان هما محور سورة المائدة، ثم آيتان هما محور سورة الأنعام. فالآيتان اللتان هما محور سورة المائدة، تتكلمان في الفسوق الذي هو الطريق إلى الكفر والنفاق، والآيتان اللتان هما محور سورة الأنعام تناقشان الكافرين بكفرهم، وتقيمان عليهم الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية. وإذا قلنا إن سورة النساء تكلمت في الطريق إلى التقوى، وسورة المائدة تكلمت في الطريق إلى الفسوق، فذلك في سياقهما الرئيسي، إن آيتي البقرة اللتين تشكلان محور سورة المائدة هما: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. فهذا هو الطريق إلى الكفر والنفاق، نقض للعهد، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض، فهؤلاء هم الفاسقون، وهم الخاسرون، وهم الكافرون، وهم المنافقون بقسميهم. وتأتي سورة المائدة لتحرر المرء من هذه الأخلاق، وتفصّل فيها، وتدعو إلى ما يقابلها. فهي تبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ*. وفي سياق سورة المائدة يأتي قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وفي سياق السورة أيضا يأتي قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَ

عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وفي سياق السورة يأتي قوله تعالى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وفي سياق السورة يأتي قوله تعالى لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ... وصلة ذلك كله بقوله تعالى من سورة البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ لا تخفى، ففي السورة نماذج لنقض العهد مع الله، وتذكير بالوفاء بالعهود والعقود. ثم إن في السورة تذكيرا بما أمر الله أن يوصل فتذكر الولاء لله والرسول والمؤمنين وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ... لا تخفى أيضا. وفي سورة المائدة يأتي قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ .... كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ واضحة. فسورة المائدة تفصّل في موضوع نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، وفي موضوع الإفساد في الأرض، من خلال العرض، ومن خلال الأمر بما يحرّر من ذلك وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباطها بمحورها. قلنا: إنّ محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

وقد رأينا فيما ذكرناه نماذج وردت في السورة على قضايا الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض. ونلاحظ كذلك أن كلمة الفاسقين ترد في السورة كثيرا، وكذلك كلمة الخاسرين. مما يؤكد ما ذكرناه من أنّ محور سورة المائدة هو تلكما الآيتان من سورة البقرة. نلاحظ مثلا مجئ كلمة الخاسرين في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ .. وفي قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ... فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ .. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ. وكما وردت كلمة الخاسرين في السورة كثيرا فكذلك كلمة الفاسقين: قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ* قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. إنه لمن الواضح أن هناك صلة بين سورة المائدة وبين قوله تعالى من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. إن سورة المائدة تفصّل فيما هو نقض للميثاق، وفيما هو قطع لما أمر الله به أن يوصل، وفيما هو إفساد في الأرض، فتدعونا لتركه وتطالبنا بما لو فعلناه لا نكون فاسقين ولا خاسرين، أي لا منافقين ولا كافرين، فهي تكمّل سورة النّساء، فإذا كانت سورة النساء قد فصّلت فيما هو من التقوى، فسورة المائدة تفصّل فيما ليس من التقوى لتعمّق عندنا قضية التقوى وتحققنا بها بتخليصنا من أضدادها.

آثار ونصوص

وإذا عرفنا محور السورة من سورة البقرة، وعرفنا مضامينها الرئيسية. فلنبدأ عرض السورة ملاحظين: أنّ بداية سورة المائدة هي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .... وأنّ بداية صفات الفاسقين في سورة البقرة هي الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. فالسورة تبدأ بذكر ما يحرّرنا من نقض العهد الذي يستحق به صاحبه الإضلال، وقد أغفلنا عمدا الإشارة في هذه المقدمة إلى كيفية تفصيل سورة المائدة في امتدادات معاني محورها من سورة البقرة، مؤثرين تأجيله لعرضه أثناء التفسير. تتألف السورة من ثلاثة أقسام وخاتمة: القسم الأول يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* والقسمان الآخران يبدأ كل منهما بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ* ويتألف القسم الأول من ثلاثة مقاطع والثاني من مقطعين والثالث من مقطعين ثم تأتي الخاتمة، وللتسهيل فسنعرض السورة على أنها مقاطع مشيدين إلى الأقسام. آثار ونصوص روى الحاكم عن جبير بن نفير قال: (حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم فقالت: أما إنّها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: (أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها). وقال عبد الله بن عمرو: (آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح) رواه الترمذي وقال حسن غريب. فلنعط إذن لدراسة المائدة ما تستحقه من الأناة فإنها من الأهمّية بالمكان الكبير لمن يريد أن يفهم دين الله، ولمن يريد أن يتحرر من أسباب الضلال، وأن يستكمل قضية التقوى في نفسه.

المقطع الأول ويبدأ من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذا هو

المقطع الأول ويبدأ من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 5/ 3 - 1

5/ 6 - 4

كلمة في المقطع

5/ 11 - 7 كلمة في المقطع: يبدأ المقطع بالأمر بالوفاء بالعقود، وينتهي بتذكيرنا بنعمة الله- عزّ وجل- علينا أن كفّ أيدي النّاس عنا بعد إذ همّوا باستئصالنا، وكأن ختم المقطع بهذه النّهاية يقول لنا: أيها المؤمنون: كونوا مسلمين ملتزمين، ولا يحملنكم خوف الناس على التخلي عن إسلامكم، ولذلك فقد ختمت الآية الأخيرة بالأمر بالتقوى والتوكل .. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وفي الآية الثانية من المقطع يرد قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وقبل نهاية المقطع بثلاث آيات يرد قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مما يشير إلى وحدة المقطع وارتباط نهاياته ببداياته.

بدأت السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. وقبل نهاية المقطع بأربع آيات جاء قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ممّا يؤكد تعانق الصّلات بين بداية المقطع ونهايته. يبدأ المقطع بالأمر بالوفاء بالعقود، ثمّ يعرض علينا صفحة من الحلال والحرام وما يحلّ لنا وما يحرم، وذلك جزء من عقود الله معنا. ثمّ يأتي كلام عن الوضوء والغسل للصلاة، وهذا من أهم العهود المأخوذة علينا بدليل قوله عليه الصلاة والسلام «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». ولذلك يأتي بعد آية الأمر بالطهارة مباشرة قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ثم يأتي بعد ذلك أمر بالقيام لله، وبالشهادة بالقسط وهما كذلك من العهود، وأخيرا يأتي تذكير بأن قوما قد همّوا باستئصالنا، فكفّ الله أيديهم عنا، وذلك لتكون إقامتنا لأمر الله كاملة، ولنقيم العدل كاملا، ولنفي لله بالعقود كاملة، فالله معنا إن كنّا متقين متوكلين. فالمقطع كله إذن له صلة بالعقود والعهود المأخوذة علينا ولذلك فإن المقطع الثاني يبدأ بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ مما يشير إلى أن الكلام عن المواثيق لا زال مستمرا. وفي معرض النّهي عن استحلال شعائر الله، والنهي عن استحلال قتال القاصدين للبيت الحرام يأتي قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فالسياق يقول: لا تتعاونوا على مثل هذا، وتعاونوا على ما هو برّ وتقوى، وإذن فالتعاون على الإثم والعدوان يتنافى مع البر والتقوى، البرّ الذي حددته سورة البقرة وآل عمران، والتقوى التي فصّلت فيها سورة البقرة وآل عمران والنساء. ومجيء قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. بين ذكر المحرمات من المطعومات، وبين الترخيص للمضطر، وإباحة الطيبات والصيود المشروعة، وطعام أهل الكتاب، وإباحة الزواج من المؤمنات ومن الكتابيات، ما يشعر بأهمية قضايا التحريم والتحليل في دين الله- عزّ وجل- وأنها حلقة في منظومة هذا الدين. فإذا كان أساس الدين الأول (لا إله إلا الله محمد رسول

الله) فإن موضوع الحلال والحرام هو الشئ المتمّم المكمّل في هذا البناء. وإذن فكل المعاني تؤكد وحدة المقطع فلنتأمل صلة المقطع بالسياق القرآني العام: - قلنا إن محور سورة المائدة هو قوله تعالى في سورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا .. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ولقد فصّل المقطع تفصيلا واضحا في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ بأن طالبنا بالوفاء بالعقود وأرانا ما يدخل في العقود، وأمرنا أن نتذكر عهد الله علينا ومواثيقه، ليكون ذلك مقدمة للمقطع الثاني، الذي يبدأ بالكلام عن نقض بني إسرائيل للعهود، وعن نقض النصارى للعهود، فأنتم أيها الأمة المسلمة لا تنقضوا عهودكم. لقد ذكر في المقطع العقود والخسران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. لاحظ صلة ذلك بالمحور ... الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. قلنا: إن كل سورة جاءت بعد سورة البقرة تفصّل في محورها، وفي ارتباطات هذا المحور، وفي امتدادات معانيه التي هي أشد لصوقا به: ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وهاهنا في سورة المائدة عرفنا أنّ كلمة (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) عهد وميثاق: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. ولا يجوز نقضه، ومن نقضه ألا نتقيد بحلال ولا حرام، ومن نقضه ألا نلتزم بالحدود. فههنا عرّفتنا سورة المائدة على بعض امتدادات المحور في سورة البقرة وعلى خيط الربط. ومن ارتباطات المحور في سورة البقرة: أنّ المحور وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا

المعنى العام للمقطع الأول

يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... جاء بعد قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. وهاهنا يأتي قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. ومن ارتباطات المحور المشار إليه في سورة البقرة أنه جاء بعد الكلام عن المتقين الذين من صفاتهم إقامة الصلاة وهاهنا يأتي قوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا .... ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قضايا تحريم بعض المطعومات علينا وإباحة ذلك في حالة الاضطرار، وهاهنا يأتي تفصيل لذلك ضمن سياق السورة الخاص بها وبما يخدم محورها. ولعله من الواضح أن سورة المائدة تتّصل مواضيعها بمواضيع سورة النساء، وذلك لأن سورة النساء، وسورة المائدة، وكذلك سورة الأنعام، تفصّل في مقطع واحد هو مقطع الطريقين من سورة البقرة، فكذلك يوجد تلاحم وارتباطات في السور الثلاث، وكما أن المقطع متلاحم مع المقدمة التي فصّلتها سورة آل عمران ففيما بين السور الثلاث وآل عمران تلاحم، وهذا موضوع ستتضح لك آفاقه إن شاء الله تعالى. المعنى العام للمقطع الأول: يأمر الله- عزّ وجل- في هذا المقطع المؤمنين بالوفاء بالعهود، ويدخل في ذلك القيام بما ألزم الله- عزّ وجل- به عباده في أمر الحلّ والحرمة وما أخذه الله من الميثاق على من أقرّ بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم العهد فيه، من إقامة الفرائض، والأوامر، وترك النّواهي، ويدخل في ذلك العقود التي أباح الله إجراءها، مما يتعاقد به الناس، وألزم الله بالوفاء بها. ثم يبيّن الله أن مما أحل لنا: الأنعام من بقر وغنم وماعز وإبل، إلّا ما سيتلى علينا من تحريم بعضها في بعض الأحوال، كما سيأتي. ثم بيّن لنا أن الصيد في حال الإحرام حرام، والمراد به هنا صيد البر، ولله المشيئة المطلقة في الحكم بما يشاء إذ هو وحده الربّ، والتحليل والتحريم قضيّتان مهمّتان في الحياة البشرية، والوقوف عند حدّ الله فيهما أمر في غاية الخطورة، إذ بدونه لا تكون معرفة لله، ولا عبادة ولا تقوى، ثمّ نهى الله- عزّ وجل- أن تستحل حرماته أو يستهان

بشعائره. وشعائره هي أعلام دينه في العبادات، من صلاة وحج، أو هي ما أحلّ وحرّم، وكما نهى عن استحلال حرمة شعائره فقد نهى أن تنتهك حرمة الأشهر الحرم بانتهاك محارم الله فيها وهي- أي المحارم- وإن كانت واجبة التّرك في غير الأشهر الحرم فإنها فيها آكد. وكما نهى عن هذا، وهذا. فقد نهى عن ترك الإهداء إلى البيت الحرام، لما في الإهداء من تعظيم شعائر الله، كما نهى عن ترك تقليد هذا الهدي في أعناقه ليتميّز عمّا عداه من الأنعام، وليعلم أنّه هدي إلى الكعبة، فيجتنبه من يريده بسوء، ويبعث من يراه على الإتيان بمثله فمن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ولقد جاء الأمر بالإهداء والتقليد من خلال النّهي عن استحلال الاعتداء على الهدي والقلائد. وواضح أنّ استحلال ذلك محرّم، بل هو كفر إذ استحلال الحرام القطعي كفر. كما نهى الله- عزّ وجل- عن استحلال قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمنا، وعن استحلال قتال من قصده طالبا فضل الله، وراغبا في رضوانه، مثل هذا لا يجوز صدّه ولا منعه ولا تهييجه. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّ المحرم إذا فرغ من إحرامه، وأحلّ منه، فقد أبيح له ما كان محرّما عليه في حال الإحرام من الصيد، ثم نهى الله- عزّ وجل- أن يحملنا بغض قوم كانوا قد صدّونا عن المسجد الحرام على أن نتجاوز حكم الله فيهم، بل علينا أن نحكم بما أمرنا الله به من العدل في حق كل أحد، ثم أمر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين بأن يعاون بعضهم بعضا على فعل الخيرات- وهو البرّ هنا- وترك المنكرات- وهو التقوى هنا- ونهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم. فلا يجوز التعاون على ترك ما أمر الله بفعله، وعلى مجاوزة الله في دينه، فهنا نهي عن الإثم وهو مجاوزة ما فرضه علينا في أنفسنا، ونهي عن العدوان وهو تجاوز ما حدّه الله في شأن الغير. ثم أخبر تعالى خبرا يتضمّن النّهي عن تعاطي محرّمات محدّدة: وهي ما مات من الحيوانات من غير ذكاة ولا اصطياد، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال، سواء مات بتذكية أو غيرها، وهكذا الجراد، وكما حرمت الميتة حرّم الدم المسفوح، وكذلك لحم الخنزير إنسيّه ووحشيّه، واللّحم يعمّ جميع أجزائه حتى الشحم. وكذلك حرّم ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله. فإنه حرام لأن الله تعالى أوجب أن تذبح هذه الحيوانات على اسمه العظيم، فمتى عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره، من صنم، أو طاغوت، أو وثن، أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فهي حرام بالإجماع، ومما

حرّمه الله فى الآية المنخنقة: وهي التي تموت بالخنق، إما قصدا، وإما اتفاقا كأن تتخبّل في وثاقها فتموت به فهي حرام أيضا، وكذلك الموقوذة: وهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدّد (كالعصا) حتى تموت فلا تحلّ، وكذلك المتردّية: وهي التي تسقط من شاهق أو موضع عال، فتموت بذلك، فلا تحلّ. وكذلك النّطيحة: وهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدّم ولو من مذبحها. وكذلك ما عدا عليها أسد. أو فهد، أو أمثال ذلك أو ذئب، أو كلب، أو نمر فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام، وإن كان قد سال منها الدّم، ولو من مذبحها فلا تحلّ بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة، أو البعير، أو البقرة، أو نحو ذلك. فحرّم الله ذلك على المؤمنين. إلا ما يمكن ذكاته مما مرّ وذكي فإنه يحلّ، فما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، من المنخنقة، أو الموقوذة، أو المتردية، أو النّطيحة، أو ما أكل السبع، فذبح وفيه روح جاز أكله. وجمهور الفقهاء على أن المذكّاة متى تحرّكت بحركة تدلّ على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال. والنّصب: حجارة حول الكعبة كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللّحم ويضعونه على النّصب، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح التي ذبحت عند النّصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح، وذلك لأن الذبح عند النّصب من الشّرك الذي حرّمه الله ورسوله. وكانت العرب في جاهليتها تستقسم بالأزلام: وهي عبارة عن قداح ثلاثة مكتوب على أحدها: افعل، وعلى الآخر لا تفعل، والثالث فارغ ليس عليه شئ، توضع هذه القداح في كيس فمن أراد أمرا مهمّا مدّ يده إلى الكيس، فأجال القداح ثم أخرج أحدها من غير أن ينظر، فإذا طلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد. وقد حرّم الله ذلك لما في تعاطيه من الفسق، والغي، والضلالة، والجهالة، والشرك. وبدلا من ذلك فقد أمر الله المؤمنين إذا تردّدوا في أمورهم أن يستخيروه، بأن يتعبدوا له بصلاة الاستخارة ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- ما حرّم علينا، وبعد أن بيّن ما بيّن من معالم الإسلام فيما مضى، مما أصبح به الصف الإيماني متميّزا مستعصيا على الكفر وأهله، فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، وألا يخافوا أحدا إلّا الله. فإنهم إن لم

يخافوا أحدا في مخالفتهم الكافرين ينصرهم الله عليهم، ويؤيّدهم ويشف صدورهم. وفي هذا السياق وفي هذا المقام ذكّر الله- عزّ وجل- هذه الأمة بأكبر نعمة عليها حيث أكمل لها دينها، فلا تحتاج إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجنّ، فلا حلال إلا ما أحلّه. ولا حرام إلا ما حرّمه. ولا دين إلا ما شرعه، وكل شئ أخبر به فهو حقّ وصدق لا كذب فيه ولا خلف. وكما أكمل الله- عزّ وجل- لهم الدين بما أنزله من وحي، فقد أتمّ عليهم النعمة بهذا الإسلام، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، فإنه قد أتمّه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا، فليرض المسلمون لأنفسهم ولأمتهم وللبشر ما رضيه الله لهم، فإنّه الدّين الذي أحبّه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرّسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه. وبعد التذكير بهذه النّعمة يعود السّياق إلى موضوع المحرّمات، فيبيّن أن من احتاج إلى تناول شئ من هذه المحرّمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله والله غفور رحيم، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه، ويغفر له، وبعد أن بيّن تعالى ما حرّم علينا من الخبائث الضارّة للبدن، أو للدين، أو لهما فيما مرّ، فإن السياق يستمر في تبيان بعض ما أحلّ في معرض الجواب على سؤال عما أحلّ للمسلمين. فيذكر الله- عزّ وجل- أنّ ما أحلّه لنا هو الطيبات من الذبائح الحلال الطيبة التي ذكر اسم الله عليها، وكذلك الطيبات من الرزق الحلال، وأحل لنا ما صدناه بالجوارح وهي: الكلاب، والفهود، والصقور، وأشباهها، إذا كانت معلّمة، وأمسكت على صاحبها، وكان مرسلها قد ذكر اسم الله عليها وقت إرسالها، فإن صيدها حلال وإن قتله الجارح بالإجماع. وكما ذكّرنا الله بنعمته علينا بهذا الإسلام، في هذا السياق فإنه كذلك هنا يذكّرنا بنعمته علينا إذ أباح لنا الطيبات. وفي هذا السياق أيضا يقرر ويمنّ علينا بإباحة ذبائح أهل الكتاب لنا، وإباحة ذبائحنا لهم. وذكّرنا كذلك بأنه أحلّ لنا نكاح الحرائر العفيفات من النّساء المؤمنات. وتذكيره لنا بهذا توطئة للتقرير والامتنان علينا بإباحة زواج الكتابيّات لنا إذا أدّينا إليهنّ مهورهنّ، ونكحناهنّ بالطريق المشروع، من عقد وشهود، غير زانين بهنّ، أو متخذين إيّاهنّ عشيقات، ثم ذكر الله قاعدة: أنّ الذي يكفر بالإيمان، فإنه في الآخرة خاسر، حتى لا يتوهّم أنّ الزّواج من الكتابية يدخلها الجنّة مع بقائها على كفرها. وليتذكّر المؤمن رحم الإيمان فيفضّل المؤمنة على غيرها، وختم الآية بكلمة

الخاسرين، دو دلالة على السياق القرآني العام سنذكرها في نهاية الحديث عن المقطع إن شاء الله. ثم أمر الله- عزّ وجل- المؤمنين بالوضوء للصلاة في حالة الجنابة، وبالتيمم بدلا عن الطهارة بالماء في بعض الأحوال. ووصف الوضوء ووصف التيمم والحالات التي تبيح التيمم. وبين الحكمة في هذا التيسير وهو استخراج الشّكر والتحقّق به. ثمّ ذكّر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين بنعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق، في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه. ذكّرهم أن يتذكروا الميثاق الذي أعطوه عند ما قالوا سمعنا وأطعنا. ثم أمرهم بالمواظبة على التقوى في كل حال، ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر. ثم أمر الله- عزّ وجل- المؤمنين أن يكونوا قوّامين بالحق لله- عزّ وجل- لا لأجل الناس والسمعة، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا بالجور. ثم نهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل أمرهم أن يكونوا عادلين مع كلّ أحد، صديقا كان أو عدوا، مبينا أنّ فعل العدل أقرب إلى التقوى من تركه، آمرا إيّاهم بالتقوى، معلّما إيّاهم أنّه عليم بالظّواهر والخفيّات، ليعلموا أنه سيجزيهم على ما علم من أفعالهم التي عملوها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة لذنوبهم، والجنّة التي هي من مظاهر رحمته، والتي لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم التي شاء الله أن تكون أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه. فالكل منه، وكما وعد المؤمنين بالمغفرة والجنة، فقد توعّد الكافرين بالنار. ثم ذكّر الله- عزّ وجل- المؤمنين بنعمة من نعمه أحسّها الجيل الأوّل ويكرّرها الله في كل حين، وهي كفّ أيدي من يهمّ أن يوقع بالمؤمنين، ثمّ كرّر الأمر لهم بالتقوى وأمرهم بالتوكل عليه بهذه المناسبة، ليفهمهم أنّ من توكّل على الله كفاه الله ما أهمّه، وحفظه من شرّ النّاس وعصمه. ولو أننا تأمّلنا في معاني المقطع لوجدناها نماذج على أنواع مما أخذه الله علينا من مواثيق، في العبادة، والسلوك، والقضايا القلبية، والقضايا الحياتية، فإذا ما تذكرنا أنّ سورة المائدة تقابل قوله تعالى في سورة البقرة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

المعنى الحرفي

إذا تذكّرنا ذلك، عرفنا كيف أننا أخذنا تفصيلا في قضايا الميثاق، فقد لاحظنا تكرّر العهد والميثاق في ابتداء المقطع، وفي نهايته، وفي الوسط، كما لاحظنا قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. إنّ ذكر الخسران في نهاية آيتي البقرة، وفي وسط هذا المقطع من هذه السورة، كل ذلك يذكّرنا بالمحور الذي تدور حوله معاني السورة ضمن السياق القرآني العام. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ العقد: هو العهد الموثّق. وهي هنا عقود الله التي عقدها على عباده وألزمهم إياها، من مواجب التكليف، سواء ما عقده الله عليهم، أو ما تعاقدوا عليه فيما بينهم، على ضوء شريعته. والظاهر أنّ ما جاء بعد هذا الأمر هو التفصيل له. والأمر بالوفاء بالعقود نهي عن الغدر والنكث. فوائد: [حول معنى كلمة «العقود» وما يدخل فيها] 1 - قال زيد بن أسلم في تفسير العقود في الآية: هي ستة، عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. أقول: العقود أكثر من ذلك. 2 - قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أن المراد بالعقود في الآية العهود وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك. 3 - استدل الحنفية على لزوم عقد البيع وثبوته، ونفي خيار المجلس، بهذه الآية، وأوّلوا الحديث الصحيح بأنّه في ما قبل العقد. وهو مذهب المالكية مع الحنفية، واعتمد الشافعية عدم لزوم عقد البيع إلا بعد التفرّق. للحديث الصحيح «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا». قال ابن كثير الشافعي: وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقّب لعقد البيع، وليس هذا منافيا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود. 4 - روى ابن أبي حاتم أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ. فقال:

فائدة: حول الخلاف في إباحة جنين البهيمة المذبوحة

«إذا سمعت الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارعها سمعك خير يأمر به أو شرّ ينهى عنه». أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة في الأصل: كلّ ذات أربع قوائم، ثم أطلقت على كل حيوان في البرّ والبحر. والتقدير في الآية: أحلت لكم البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية البقر، والغنم، والماعز، والإبل، وفسّرها بعضهم بأنها: الظباء، وبقر الوحش، نظرا إلى ما بعدها. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إشارة إلى الآية التي ستأتي بعد قليل وهي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. فما حرّمته هذه الآية مستثنى من الحلّ العام لبهيمة الأنعام، فكان المعنى: أحلت لكم الأنعام إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الحرم: جمع حرام وهو المحرم. والمعنى: أحلت لكم هذه الأشياء، لا محلّين الصيد وأنتم محرمون فكأنه أراد أنه أحل لكم الأنعام في حال امتناعكم عن الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيّق عليكم. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام. فيحلّ ما يشاء، ويحرّم ما يشاء. وله وحده حق الحكم، وحق التحليل والتحريم؛ إذ هو الربّ، وهو الأعلم بمصالح عباده. فائدة: [حول الخلاف في إباحة جنين البهيمة المذبوحة] استدلّ ابن عمر وابن عباس وغير واحد بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ... على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمّه عند ذبحها. وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد قال: قلنا يا رسول الله ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: «كلوه إن شئتم فإنّ ذكاته ذكاة أمّه» وروى أبو داود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» وهي قضيّة خلافيّة لأنه يوجد من فهم الحديث على أنّ الجنين يحتاج إلى ذكاة كذكاة أمّه. والأمر فيه سعة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر: جمع شعيرة. وهو اسم ما أشعر. أي جعل شعارا. وهل المراد بها كل ما كان شعارا وعلما على دين الله من فرائضه ومحارمه؟ أو المراد بها هنا ما جعل شعارا، وعلما للنّسك، من مواقف الحج

ومرامي الحجار، والمطاف، والسعي، والأفعال التي هي علامات للحج يعرف بها، من الطواف والإحرام، والسعي، والحلق، والنّحر؟. قولان للمفسّرين، فعلى الأوّل يكون المعنى: لا تحلّوا ما حرّم الله بترك فرائضه وارتكاب منهيّاته. وعلى الثاني يكون المعنى: لا ترتكبوا ما يخلّ بشعائر الحج ومناسكه بالتّهاون بحرمتها، والحيلولة بينها وبين المتنسّكين بها. وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ. أي: لا تحلوا الشهر الحرام. وما المراد بالشهر الحرام هنا؟ هل المراد به أشهر الحج؟ أو المراد به الأشهر الحرم كلها؟ ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؟. قولان للمفسرين. وعلى القول الأول يكون المعنى: لا تفعلوا في أشهر الحج ما تصدون به الناس عن الحج. وعلى القول الثاني يكون المعنى: ولا تفعلوا في الأشهر الحرم ما ينافي حرمتها، فالمعصية فيها أشد حرمة، وأجمعوا على أنّ الله أحلّ قتال أهل الشرك، والكفر، والبغي، في الأشهر الحرم، وغيرها من شهور السّنة، فمن قال إنّ النّهي في الآية عن استحلال الشهر الحرام نهي عن القتال فيه كما هو عادة العرب في الجاهلية، اعتبر هذا منسوخا. وعلى ما ذكرنا من تفسير النّص فلسنا بحاجة إلى تقدير النّسخ ولا يترتب على الخلاف نتائج عملية وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ. أي: ولا تحلوا الهدي ولا القلائد. والهدي، هو ما أهدي إلى البيت، وتقرّب به إلى الله تعالى من النّسائك كالإبل والغنم والبقر والماعز. وهو جمع هدية. والقلائد جمع قلادة وهو ما قلّد به الهدي من نعل أو عروة مزادة، أو لحاء شجر، أو غيره. والمراد بالقلائد هنا الهدي المقلّد نفسه. والمعنى: لا تتعرضوا للهدي بالغصب، أو بالمنع من بلوغ محلّه. ولم عطف عليه القلائد مع أن القلائد من الهدي؟. قال النسفي: وتعطف على الهدي للاختصاص لأنها أشرف الهدي ... كأنه قيل والقلائد منها خصوصا، وجاز أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي: ولا تحلّوا قلائدها فضلا عن أن تحلّوها. وذهب ابن كثير إلى أن معنى ولا تحلّوا الهدي ولا القلائد: أي لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإنّ فيه تعظيم شعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميّز به عمّا عداها من الأنعام، وليعلم أنّها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها .. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً. آمّين أي: قاصدين. يبتغون أي: يطلبون والمراد بالفضل هنا: التّجارة أو

فوائد

الثّواب، والمراد بالرّضوان أي: أن يرضى الله عنهم. والمعنى: ولا تحلّوا قوما قاصدين المسجد الحرام، وهم الحجّاج، والعمّار، ممّن صفتهم أنّهم يطلبون فضل الله ورضوانه أي: لا تتعرضوا لهم، فأمّا من قصد المسجد الحرام ليلحد فيه، أو ليشرك عنده، أو ليكفر به، فهذا يمنع ويتعرض له. وقد حكى ابن جرير الإجماع على أنّ المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أمّ البيت الحرام، أو بيت المقدس وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا. أي: إذا فرغتم من إحرامكم، وخرجتم منه، وأحللتم، فقد أبحنا لكم ما كان محرّما عليكم في حال الإحرام من الصيد. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ. أي: ولا يحملنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ. أي: شدّة بغضهم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. أي: لكونهم منعوكم عن المسجد الحرام أَنْ تَعْتَدُوا. أي: أن تنتقموا منهم بإلحاق مكروه بهم لم يأذن به الله. قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى البر: كلمة شاملة فسرتها آية البر في سورة البقرة، وفسرها الحديث الشريف «والبر ما اطمأنت إليه النفس ... » والتقوى هي البرّ. وكلمات المفسّرين في تفسيرهما هنا متقاربة، فمنهم من قال: البرّ هنا: فعل الخير، والتقوى: ترك المنكرات. ومنهم من قال: البرّ: العفو. والتقوى والإغضاء. ومنهم من قال: البرّ: فعل المأمور. والتقوى: ترك المحظور. والمراد بهما- والله أعلم- ما يعم كل برّ، وكل تقوى، على أوسع مدلولاتهما، فيدخل فيهما تبعا ما له علاقة في السياق، من العفو، وترك الانتصار وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فسّر عليه وآله الصلاة والسلام الإثم بأنه: ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. قال ابن جرير: في تفسير الإثم والعدوان: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله، والعدوان: مجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم. ويدخل في هذا النهي آلاف الصّور، إذ العلاقات الاجتماعية في الغالب إمّا تعاون على البرّ والتقوى، أو تعاون على الإثم والعدوان، على أي مستوى من مستويات التعامل. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصى وما اتقى، وتعاون على غير البر والتقوى. فوائد: 1 - [تقلّد القلائد عند أهل الجاهلية للأمن] «كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلّدوا

2 - فائدة حول النسخ في سورة المائدة والخلاف فيه

أنفسهم بالشعر والوبر، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به». رواه ابن أبي حاتم. وأجمع علماء المسلمين على أن المشرك لو قلّد عنقه، أو ذراعيه، بلحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك أمانا من القتل، إذا لم يكن تقدّم له عقد من ذمّة المسلمين أو أمان. 2 - [فائدة حول النسخ في سورة المائدة والخلاف فيه] يمر معنا أحيانا في سورة المائدة ما يشعر بأنّ شيئا ما منها منسوخ، وبعضهم يكثر، وبعضهم يقل، وبعضهم ينفي النسخ فيها أصلا، كالحسن البصري إذا سئل: نسخ من المائدة شئ؟ قال: لا. والسبب في ذكر النسخ أو عدمه هو فهم بعض النصوص فهما موسّعا يلزم عليه اعتماد النسخ. فمثلا قال ابن عباس. نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وكما رأينا في آية القلائد، سنرى في الآية الثانية أنّ قضيّة النّسخ هنا إنّما هي أثر عن فهم موسّع للنّص فقط. ولو أننا فهمنا النّص من الابتداء فهما مضيّقا فإننا لا نحتاج للقول بالنّسخ. 3 - [سبب نزول آية وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ... وكلام على النسخ فيها] ذكر عكرمة والسّدّي وابن جرير أنّ آية وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نزلت في الحطيم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلمّا كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عزّ وجل: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ... فإذا صح أن هذا هو سبب النزول فإنه يكون منسوخا. أو نقول: إن هذه الصورة من عموم اللفظ أصبحت منسوخة. 4 - [حكم الأمر بعد الحظر] من التحقيقات الأصولية أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة كقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا فالأمر هنا بعد الحظر فهو للإباحة المفهومة من قبل من مفهوم قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. 5 - [الترغيب في الدلالة على الخير والترهيب من الإعانة على الشر] روى البزّار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «الدالّ على الخير كفاعله» قال ابن كثير وله شاهد في الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتّبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتّبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» وروى الطبراني عنه عليه الصلاة والسلام «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام».

[سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .... أي: البهيمة التي تموت حتف أنفها. ويستثنى من ذلك ميتتا السمك والجراد. وَالدَّمُ. أي: المسفوح. وهو السائل. أما الكبد والطحال وما يتبقى في العروق بعد الذبح فهذا مباح. وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ. الخنزير كله نجس وإنما خصّ اللّحم بالذكر، لأنه معظم المقصود والخنزير بكل أنواعه حرام إنسيّه ووحشيّه. وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. أي: وما رفع الصوت به لغير الله. وهو قولهم: باسم اللات والعزى، أو غير ذلك مما سوى الله عند ذبحه، فما ذبح على غير اسم الله فهو محرّم. واختلف العلماء في متروك التسمية عمدا أو سهوا كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام. وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي: التى تموت بالخنق: إما قصدا، وإما اتفاقا كأن تتخبّل في وثاقها حتى تموت أو غير ذلك. وَالْمَوْقُوذَةُ. أي: التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر حتى ماتت وفي الصحيح أنّ عديّ بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب قال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله» ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحدّه فأحلّه، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحلّه، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء. وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي التي تسقط من جبل أو في بئر فتموت. وَالنَّطِيحَةُ. أي: المنطوحة: وهي التي نطحتها أخرى فماتت بالنّطح وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها. وَما أَكَلَ السَّبُعُ. أي: ما أكل السبع بعضه ومات بجرحه، ويدخل في السبع الأسد والفهد والنّمر والكلب والذئب وغيره. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ. أي: إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح والاستثناء يرجع إلى المنخنقة وما بعدها، فإنه إذا أدركها وبها حياة فذبحها وسمّى عليها حلّت. روى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها فكل. وفي رواية ابن جرير عنه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنّطيحة وهي تحرّك يدا أو رجلا فكلها. قال ابن كثير: وهكذا روي عن طاوس، والحسن وقتادة، وعبيد بن عمير، والضّحاك، وغير واحد أنّ المذكّاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذّبح فهي حلال وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد وخالف مالك في هذا الحد فلم يجز الذكاة إلا لما كان يعيش بعد ما أكل السبع منه وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. أي: وما ذبح على الأوثان. كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها، يعظّمونها بذلك، ويتقرّبون إليها تسمّى الأنصاب. وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا

بِالْأَزْلامِ. أي: وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهي، القداح المعلّمة واحدها زلم أو زلم، كان أحدهم إذا أراد سفرا، أو غزوا، أو تجارة، أو نكاحا، أو غير ذلك يعمد إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني، والثالث غفل، فإن خرج الآمر مضى لحاجته، وإن خرج النّاهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قسم له، مما لم يقسم له بالأزلام وما أسخف ذلك. ذلِكُمْ فِسْقٌ. أي: الاستقسام بالأزلام خروج عن الطّاعة، أو مواقعة ما مرّ من المحرّمات خروج عن الطّاعة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ. أي: الآن يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا منه أن يغلبوه فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. أي: أخلصوا لي الخشية، فلا تخافوا الكافرين في مخالفتكم إياهم، وخافوني وحدي. وأنا أتولّى شأنكم كله. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. أي: أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام، والتوقيف على شرائع الإسلام وقوانين القياس، وكما أكمل في البيان، فقد أكمل بالقدوة العليا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بظهوركم أمّة مسلمة مستكملة كلّ كمال، مهمتها هدم كيان الجاهلية في كلّ مكان. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. أي: واخترت الإسلام لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده، وقد ذكر نعمة الإكمال للدين في سياق تحريم هذه المحرّمات، لأنّ تحريم هذه الخبائث. من جملة الدين الكامل، والنعمة التامّة، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره. ولما كان بيان حالات الاضطرارات من كمال الدّين بيّن حالة الاضطرار فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: فمن اضطر إلى الميتة، وإلى غيرها في مخمصة أي: في مجاعة غير متجانف لإثم: أي غير مائل إلى إثم، أو غير متعاط معصية الله، فإنّ الله غفور رحيم. غفور. يغفر للمضطر. رحيم بإباحته المحظور للمعذور. قال ابن كثير: قال الفقهاء قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا، هل يتناول منها قدر ما يسدّ به الرّمق؟ أو له أن يشبع؟ أو يشبع ويتزوّد؟ على أقوال. واختلفوا فيما إذا وجد ميتة، وطعام الغير، أو صيدا وهو محرم، هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد، ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين قال

فوائد

ابن كثير: وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما كما قد يتوهم كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له. فوائد: 1 - [حرمة شحوم الميتة] في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها النّاس؟ فقال: لا هو حرام. 2 - [النهي عن طعام المتبارين] أخرج أبو داود ... «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن طعام المتبارين أن يؤكل». 3 - [مسألة خلافية في صيد الكلب المعلم] اختلفوا فيما إذا صدم الكلب الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه. على قولين هما للشافعي رحمه الله. أحدهما لا يحل. والثاني يحل. وإنما ذكرناه هنا مع أنّ محلّه بعد الآية التالية لأنه يشبه الموقوذة. [4، 5 - حول الاستقسام بالأزلام] 4 - في الصحيحين أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام مصوّرين فيها، وفي أيديهما الأزلام فقال: «قاتلهم الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا». 5 - أخرج ابن مردويه عن أبي الدّرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يلج الدرجات من تكهّن، أو استقسم، أو رجع من سفر طائرا». أي متطيّرا. 6 - [التحريش بين المؤمنين من عمل الشيطان] في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم». 7 - [أثر حول قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ] روى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب. فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا يا معشر اليهود نزلت لا تخذنا ذلك اليوم عيدا. قال وأيّ آية؟ قال قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشية عرفة في يوم جمعة. ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم بألفاظ متقاربة. وكون هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة وكان يوم جمعة هو الصحيح المشهور الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.

8 - متى يحل أكل الميتة

والتحقيق أنها ليست آخر آية نزلت كما يظنّ بعضهم. بل آخر آية كما رأينا وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ .... 8 - [متى يحل أكل الميتة] وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحلّ لنا بها الميتة. فقال: «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها». الاصطباح: الغداء. والاغتباق: العشاء. والاحتفاء: قلع البقل من الأرض. وقال الحسن: إن رجلا سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال متى يحلّ الحرام؟ قال: فقال: «إلى متى يروى أهلك من اللبن أو تجئ ميرتهم». وروى عروة بن الزبير عن جدّته أنّ رجلا من الأعراب أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يحلّ لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي؟ وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا. فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا رويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرّم الله عليك من طعام مالك فإنه ميسور كله فليس فيه حرام». وروى أبو داود عن النّجيع العامري أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلّم. فقال: ما يحلّ لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا نغتبق، ونصطبح. قال أبو نعيم فسّره لي عقبة: قدح غدوة، وقدح عشية قال: ذاك- وأبي الجوع- وأحل لهم الميتة على هذه الحال». قال ابن كثير: وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحلّ لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتجّ به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشّبع ولا يتقيّد ذلك بسدّ الرّمق. وقد فسر عقبة الاصطباح والاغتباق في الحديث بأنه قدح عشية. وروى أبو داود عن سمرة أنّ رجلا نزل الحرّة ومعه أهله وولده فقال لهم رجل: إنّ ناقتي ضلّت فإن وجدتها فأمسكها. فوجدها ولم يجد صاحبها. فمرضت. فقالت له امرأته: انحرها، فأبي. فنفقت. فقالت له امرأته: اسلخها حتى نقدّد شحمها ولحمها فنأكله. قال: حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأتاه فسأله. فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوها. قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر. فقال: هلّا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك». قال ابن كثير: وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزوّد منها مدّة يغلب على ظنه الاحتياج إليها.

[سورة المائدة (5): آية 4]

وقد نقلنا هذه المجموعة من النصوص ليفهم منها حدود المخمصة الواردة في الآية والتي تبيح الأكل مما حرّم. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ. أي: ماذا أحل لهم من المطاعم؟ والسائل عديّ بن حاتم، وزيد بن مهلهل حسب رواية ابن أبي حاتم. قالا: يا رسول الله قد حرّم الله الميتة فماذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ ... التّسلسل في السّياق واضح فبعد ذكر ما حرّم علينا من الخبائث يذكر الآن ما أحلّ لنا من الطيّبات قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ. أي: ما ليس بخبيث وهو: كلّ ما لم يأت تحريمه في كتاب الله أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو إجماع الأمّة أو القياس. وبعضهم فسّرها في الآية بالذبائح المذكور اسم الله عليها. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ .... أي: أحل لكم الطيبات وصيد ما علّمتم من الجوارح أي من الكواسب للصيد من سباع البهائم كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين ومعنى مكلبين أي مؤدّبين. إذ المكلّب: هو مؤدب الجوارح ومعلمها. لأن التأديب في الكلاب أكثر، فاشتق من لفظه لكثرته. تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ. أي: تعلّمون الجوارح مما علّمكم الله في حملهنّ على الصّيد لكم. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الإمساك على صاحبه هو علامة التعليم والتكليب والتأديب. ولوصول الجارح إلى مرحلة التأديب التي يجوز فيها أن يؤكل صيده علامة تختلف في سباع البهائم عنها في سباع الطير. فإنه يشترط في جوارح البهائم ما لا يشترط في جوارح الطير. أمّا علامته في الكلب وأمثاله فهو ألّا يأكل منه فإن أكل منه لم يحلّ، وأمّا في الطير فإن أكله منه لا يحرّمه لأنّ مجرّد أنسه بصاحبه وعوده له وصيده له علامة على تعليمه وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. الضمير في عليه إمّا أن يعود على الصيد أو على الجارح فإن عاد على الصيد كان المعنى وسمّوا على المصيد إذا أدركتم ذكاته. وإن عاد على الجارح كان المعنى: وسمّوا عليه عند إرساله. وَاتَّقُوا اللَّهَ. أي: احذروا مخالفة أمره في هذا كله. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. أي: إنّه محاسبكم على أفعالكم ولا يلحقه فيه لبث. فوائد: 1 - [فائدة من قوله تعالى .. مِنَ الْجَوارِحِ .. ] فهم بعضهم من قوله تعالى: الْجَوارِحِ أنه يشترط لحلّ الأكل من صيدها الجرح وقد مرّت معنا هذه المسألة ورأينا أنها قضيّة خلافيّة.

2 - فائدة عظيمة في التأديب والتعليم من قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين ..

2 - [فائدة عظيمة في التأديب والتعليم من قوله تعالى وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ .. ] قوله تعالى مُكَلِّبِينَ في الآية يفيد أنّ من يعلّم الجوارح ينبغي أن يكون موصوفا بالتكليب وإلّا فإن التعليم مفهوم من قوله تعالى: ما عَلَّمْتُمْ وعلّق النسفي على هذا بقوله: وفيه دليل على أنّ على كل آخذ علم ألّا يأخذه إلا من أمثل أهله علما، وأنحرهم دراية، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه، وعض عند لقاء التماري أنامله. أي عند لقاء من يجادله. [3، 4 - حلّ أكل صيد الكلب المعلم مع التسمية] 3 - قال عليه وآله الصلاة والسلام: «إذا أرسل الرجل كلبه وسمّى فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وفي الصحيحين عن عديّ بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنّي أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم الله فقال: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتله؟ قال وإن قتله ما لم يشركها كلب ليس منها فإنك إنمّا سمّيت على كلبك ولم تسمّ على غيره»، وقال بعض فقهاء الشافعية. إن أمسك الكلب ثمّ انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثّر في التّحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني عنه عليه الصلاة والسلام «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردّت عليك يدك». 4 - وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله». قال ابن عباس: إذا أرسلت جارحك فقل باسم الله وإذا نسيت فلا حرج. الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كرّر هذا المعنى تأكيدا للمنّة. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. أي: وذبائح اليهود والنصارى حلّ لكم، وفسرنا الطعام هنا بالذبائح لأنّ سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملّة. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أنّ ذبائحهم حلال للمسلمين لأنّهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ويذكرون على ذبائحهم اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزّه عنه تعالى وتقدّس. وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. أي: فلا جناح عليكم أن تطعموهم لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم. فالمعنى إذن: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والجزاء. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ. أي: وأحلّ لكم نكاح المحصنات من المؤمنات والمحصنات هنّ:

فوائد

الحرائر أو العفائف، قال النّسفي: وليس هذا بشرط لصحّة النّكاح بل هو للاستحباب لأنّه يصحّ نكاح الإماء من المسلمات: ونكاح غير العفائف، وتخصيصهن بعث على تخيّر المؤمنين لنطفهم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ المحصنات هنا هنّ: الحرائر يهوديات أو نصرانيات، أو العفائف، فهنّ حلّ للمسلمين، وخالف في النّصرانيات بعضهم ولكنّ جماعة من الصحابة تزوجوا بنصرانيات ولم يروا بذلك بأسا. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. أي: إذا أعطيتموهنّ مهورهنّ، دلّ ذلك على أنّ المهر حقّ للزوجة مسلمة أو غير مسلمة، وعلى هذا يحرم أخذ مهر من المرأة، كما يفعله بعض الغربيين، ويجب العكس وهو دفع المهر للمرأة. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. أي: متزوجين غير زانين. وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ. الخدن هنا: الصديق والعشيق ويقع على الذكر والأنثى. فالزّواج هو المباح والعلاقة الزّوجية هي المباحة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. أي: ومن يكفر بشرائع الإسلام وما أحلّ الله وما حرّم فقد بطل عمله. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ خسر الجنة ونال بدلها الخلود الأبدي في النار، وأي خسارة أكبر من ذلك. فوائد: 1 - [جواز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة] ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفّل قال: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفتّ فإذا النّبي صلّى الله عليه وسلّم يبتسم» استدلّ به الفقهاء على أنّه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة وهذا ظاهر. واستدلّ به الحنفية والشافعية على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها ممّا حرّم عليهم. 2 - [وقوع النسخ في قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ .. ] أخرج ابن أبي حاتم عن مكحول. قال: أنزل الله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ثم نسخه الربّ- عزّ وجل- ورحم المسلمين فقال الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فنسخها بذلك وأحلّ طعام أهل الكتاب وهذا يعني أن مكحولا لا يرى ما يراه بقية الفقهاء من اشتراط ذكر اسم الله لحلّ ذبيحة أهل الكتاب. 3 - [طعام غير اليهود والنصارى لا يجوز أكله] واضح من الآية الآنفة الذكر أن طعام غير اليهود والنصارى لا يجوز، سواء كانوا ملحدين، أو صابئة، أو مجوسا، أو مرتدين.

4 - قياس حال نصارى عصرنا على حال نصارى تغلب في النهي عن أكل ذبائحهم

4 - [قياس حال نصارى عصرنا على حال نصارى تغلب في النهي عن أكل ذبائحهم] روى ابن جرير عن عليّ رضي الله عنه قال: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب «لأنهم» إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. وكان سعيد بن المسيّب والحسن لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب. وهذا الموضوع مهم لأنّ الكثيرين من نصارى عصرنا حالهم كحال بني تغلب. 5 - [عدم جواز زواج الغربيات في عصرنا] الجمهور على أن الكتابيّة إذا كانت زانية لا يجوز زواجها. نفهم من هذا حكم الزواج بالغربيات إذ يندر في عصرنا أن توجد غربية لا تزني، إلا إذا وجد العنت فيأخذ الإنسان في هذه الحالة بالقول الآخر. 6 - [حكم من تزوج امرأة فزنت قبل أن يدخل بها] أفتى جابر بن عبد الله، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري بأنّ الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنّه يفرّق بينهما، وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم. 7 - [حكم صحة عقد الزواج بين المسلم والمسلمة مع اشتراط العفة من الزنا] لم يشترط إلا الإمام أحمد العفّة عن الزنا لصحة عقد زواج ما بين المسلم والمسلمة وهو موضوع سيمر في سورة النور. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون أو من النّوم لأنه دليل الحدث فعمّ كلّ حدث. وقال آخرون بل المعنى: أعمّ. فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حقّ المحدث واجب وفي حقّ المتطهر ندب. روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن بريدة قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: «إني عمدا فعلته يا عمر». فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وحدّ الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس- ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم- إلى منتهى اللحيين- والذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، وفي النّزعتين والتحذيف خلاف هل هما من الرأس أو من الوجه؟ وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان. وهما أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة، والثاني أنه لا يجب. ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة وفي المضمضة والاستنشاق أقوال: 1 - هما واجبان في الوضوء والغسل وهو مذهب أحمد. 2 - هما مستحبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب مالك والشافعي. 3 - هما واجبان في الغسل دون الوضوء فهما مستحبان فيه كما هو مذهب الحنفية.

فوائد: حول مسائل في الوضوء وحكمته وثوابه وحكم المسح على الخفين

وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ. أي: مع المرافق قال ابن كثير: ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاريّ ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل». وفي صحيح مسلم «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ أوجب أحمد ومالك استيعاب الرأس بالمسح، وأوجب الشافعيّ أن يمسح أقل ما يطلق عليه اسم مسح، ولا يتقدر ذلك بحدّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه، وذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس وهو مقدار النّاصية، واختلفوا هل يستحبّ تكرار مسح الرأس ثلاثا كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد، أو ثلاث ثلاثة مسحات بماء واحد كما هو مذهب الحنفية. وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. أي: واغسلوا أرجلكم مع الكعبين والقراءة بالكسر للإشعار بوجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا. أي: فاغسلوا أبدانكم كلّها حتى لا يبقى شئ لم يغسل. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ قال الرّازي (أو) في قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بمعنى الواو والتقدير وجاء. حتى لا يلزم المريض والمسافر التيمّم بلا حدث. والغائط في الأصل المكان المطمئن وهو في الآية كناية عن قضاء الحاجة، ومعنى لا مستم النساء تقدّم الكلام عليه في سورة النّساء فلا حاجة بنا إلى إعادته. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. أي: في باب الطهارة ولذلك رخّص لكم في التّيمّم عند المرض، وعند فقد الماء توسعة عليكم، ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه. وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ. أي: بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ. أي: وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. أي: تشكرون نعمته عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتّسهيل فيثيبكم لذلك على شكركم. فوائد: [حول مسائل في الوضوء وحكمته وثوابه وحكم المسح على الخفين] 1 - قال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد.

فإذا بال أو أحدث توضّأ ومسح بفضل طهوره الخفّين. فقلت أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنعه. فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه. رواه ابن جرير وابن ماجه. دلّ الحديث على جواز المسح على الخفين وهي من القضايا الجائزة المتواترة عنه عليه السلام، كبديل عن غسل الرجلين ضمن شروطه المعروفة في السنّة والفقه. كما دلّ على كفاية الوضوء الواحد لمجموعة صلوات، إذا لم يكن حدث. وقال ابن سيرين: إن الخلفاء كانوا يتوضئون لكلّ صلاة. 2 - هناك قضايا خلافية بين الأئمة في بعض أمور اعتبرها بعضهم فريضة، واعتبرها بعضهم من باب السنن في الوضوء، من مثل الموالاة والترتيب والدّلك. والأمر فيه سعة. وهذا نموذج من وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ففي الصحيحين أنّ رجلا قال لعبد الله ابن زيد بن عاصم. وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ؟ فقال: عبد الله بن زيد: نعم. فدعا بوضوء فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرّتين مرّتين ثمّ مضمض واستنشق ثلاثا. وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرّتين إلى المرفقين، ثمّ مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدّم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه. ثم ردّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه». 3 - هناك خلاف بين الشّيعة وأهل السنة حول كون المسح على الرجلين هو الفرض في الوضوء وليس الغسل وهم محجوجون في السنّة، وقراءة النّصب في الآية. والسنّة متواترة في وجوب الغسل. 4 - وفي حكمة الوضوء نروي هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم «عن عمرو بن عبسة قال: قلت يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء. قال: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثمّ يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره إلا خرّت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثمّ يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه». إنه بالوضوء يقوم الإنسان بين يدي الله متطهّرا من الأوساخ الحسية والمعنوية، وقيام

[سورة المائدة (5): آية 7]

الإنسان بين يدي الله تعالى متطهرا من الأوساخ الحسية والمعنوية أقرب إلى التعظيم، فكان أكمل في الخدمة، ولهذا قيل: إنّ الأولى أن يصلي الرّجل في أحسن ثيابه وأنّ الصّلاة متعمّما أفضل من الصلاة مكشوف الرأس، كما أن ذلك أبلغ في التّعظيم. 5 - وقد وردت السنة بالحثّ على الدّعاء والذّكر عقب الوضوء ففي الحديث الصحيح «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ- أو فيسبغ الوضوء- يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنّة الثمانية يدخل من أيها شاء». وفي حديث آخر ندب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتوضئ إلى أن يدعو بعد الوضوء بقوله: «اللهمّ اجعلني من التّوابين واجعلني من المتطهرين». 6 - في صحيح مسلم عنه عليه وآله الصلاة والسلام: «لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور». وفي صحيح مسلم كذلك عنه عليه الصلاة والسلام. «الطّهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جنّة، والصبر ضياء، والصدقة برهان، والقرآن حجّة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بأن أنزل عليكم هذا الإسلام وهداكم إليه وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا. أي: واذكروا ميثاقه الذي عاقدكم به عقدا وميثاقا إذ تقولون سمعنا وأطعنا، دلّ هذا على أن قول المؤمن سمعنا وأطعنا ميثاق وعقد مع الله ومع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وذهب أئمة التفسير إلى أن هذا تذكير بالبيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند إسلامهم فقد كانوا يقولون: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّمع والطّاعة، في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله». والنص أعمّ. فكل مؤمن قال سمعنا وأطعنا فقد أعطى ميثاقه، وعليه أن يتذكّره وأن يفي به. وَاتَّقُوا اللَّهَ في نقض الميثاق وهو تأكيد وتحريض على مواظبة التّقوى في كلّ حال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أي: بسرائر الصدور من الخير والشرّ، هو وعد ووعيد. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ. أي: كونوا قوّامين بالحقّ لله- عزّ وجل- لا لأجل النّاس والسّمعة. شُهَداءَ بِالْقِسْطِ. أي: بالعدل لا بالجور وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. أي: ولا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. أي: العدل أقرب

[سورة المائدة (5): آية 9]

إلى التقوى. نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا. ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وإذا كان وجوب العدل مطلقا بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمر ونهى. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. هذا وعد ووعيد، ومن ثمّ أتبعه بوعد ووعيد. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة وما أعظم ذلك من أجر؟. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الكثيرة في الكون وفي القرآن، وفي ما أظهره على أيدي رسله من معجزات. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. أي: لا يفارقونها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ. أي بالقتل. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ. أي: فمنعها أن تمتدّ إليكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي والدّافع والمانع وهذه نعمة متكرّرة شاهدها الصحابة مرات، وشاهدها المسلمون في كلّ زمان، وتذكّرها يقتضي تقوى وتوكلا، وسبب نزول هذه الآية حادثة غورث بن الحارث إذ همّ أن يفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو حادثة كعب بن الأشرف وأصحابه إذ هموا أن يبطشوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني النّضير ليستعينهم في دية العامريّين. فأمر اليهود عمرو بن جحاش بن كعب بذلك، أمروه إن جلس النبي صلّى الله عليه وسلّم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرّحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما تمالئوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، وأرجّح أن تكون الآية تذكيرا بما كان يوم الأحزاب والعبرة لعموم اللفظ. فوائد: [حول العدل في إعطاء الأولاد بعض الأموال] 1 - ثبت في الصحيحين عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أعطاني أبي عطيّة، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطيّة فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتّقوا الله واعدلوا في أولادكم- وفي رواية قال: إنني لا أشهد على جور- قال فرجع أبي فردّ تلك الصدقة». وبعض الفقهاء يعتبرون إعطاء أحد الأولاد دون الآخرين- ما لم يكن ذلك في مرض الموت، أو كان وصية لما بعد الموت- يعتبرونه جائزا لكنّه يفقد صاحبه أجر العدل غير

كلمة في السياق

أنه لا يأثم بذلك والله أعلم. كلمة في السياق: 1 - ورد في المقطع خمس مرات: نداء للمؤمنين، مرة بالأمر بالوفاء بالعقود، ومرة بعدم استحلال قضايا معيّنة، ومرة بالطّهارة. ومرة بالعدل. ومرة بتذكر نعمة الله أن كفّ أيدي الكافرين، وتكرر الأمر بالتقوى خلال ذلك كثيرا. فإذا ما تذكرنا أن هذه السورة امتداد لسورة النّساء، وهي في الوقت نفسه تركّز على القضايا التي تنافي الإيمان، من نقض الميثاق، والفسوق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والفساد في الأرض، إذا ما تذكّرنا هذا عرفنا أهميّة هذه الأوامر التي ابتدأت بها السورة في مقطعها الأول، فعلينا أن ننتبه إلى أهميّة الوفاء بالعقود، وأهمية الصّلاة، وأهميّة العدل، وأهميّة تذكّر نعمة الله المتجددة بكفّ أيدي الكافرين عن استئصال المؤمنين، وكلّ ذلك مرتبط بقضيّة الإيمان والتقوى، والوفاء بالعهد مع الله. 2 - لقد رأينا عند تفسير قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أنّ من قال سمعنا وأطعنا فقد أعطى الله عهدا ولقد قالها كما قص الله علينا ذلك في سورة البقرة كل مؤمن آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا. فعلى الإنسان أن يذعن قلبه، وجسمه، ولسانه، بالسمع والطاعة، وذلك عهد جديد له مع الله- عزّ وجل- وعليه دائما أن يتذكر عهده مع الله، ومنّ مقتضى ذلك أن يكون عادلا. ومن مقتضى ذلك أن يكون طاهرا مصلّيا. ومن مقتضى ذلك ألا يرتكب حراما في فم أو فرج. ومن مقتضى ذلك ألا يهتك محارم الله. ومن مقتضى ذلك ألا يمدّ يده ليتعاون مع أحد على إثم وعدوان. ومن مقتضى ذلك أن يتعاون على البرّ والتقوى. ومن مقتضى ذلك أن يتذكّر نعمة الله عليه، وعلى المسلمين بنعمة الإسلام، ونعمة الرعاية. وذلك كله مرتبط بقوله تعالى من سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. فلكي لا نكون من هؤلاء فعلينا أن نلتزم بما أمرنا بالالتزام به في المقطع، وسيأتي

مقطع جديد يعطينا الله- عزّ وجل- به دروسا في أمم وشعوب نقضوا العهد والميثاق مع الله- عزّ وجل- فاستحقوا بذلك ما استحقوا. 3 - قد يكون ما مرّ كافيا للتدليل على أنّ محور سورة المائدة هو قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. فإذا اتضح هذا فلنلاحظ أنه في سياق قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... قد ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ وارتباط ذلك بقوله تعالى في المحور وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لا يخفى. وأنه في سياق قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... قد ورد قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لا تخفى وأنه جاء في المقطع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ ... ولهذا صلته بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. إن هذا كله يؤكّد أن المقطع فصّل فيما نتحرر به من الفسوق ودلّنا على ما لو وافقناه أو أهملناه أو خالفناه أو ارتكبناه فإننا نكون مستحقين الإضلال من الله- عزّ وجل-. 4 - من الملاحظ أن الآية الأولى في السّورة قد ورد فيها قوله تعالى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وأنه قد جاءت الآيات التي تتحدث عن صيد المحرم في أواخر السورة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً ... (96). وهذا يشير إلى ارتباط أول السّورة بآخرها، ويؤكد سياقها الواحد، كما يشير إلى أهمية امتناع المحرم عن الصيد؛ إذ بدأت به السورة بعد الأمر بالوفاء بالعقود، وفصّلت فيه فيما بعد، كما يشير إلى أن من أوائل ما يدخل في الوفاء بالعقود عقودنا مع الله- عزّ وجل- بالسّمع والطاعة في كل ما أمر ونهى. ولعلّه بذلك قد اتضح لنا إلى حدّ كبير سياق السورة وارتباطها بمحورها وسيزداد الأمر وضوحا فيما بعد فلننقل في نهاية الكلام عن المقطع بعض النقول ولنعقد بعض

فصول ونقول

الفصول التي تساعد على الفهم والالتزام. فصول ونقول: فصل: في نزول السورة وفي بعض أسباب النزول: يقول الألوسي: وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال: «نزلت المائدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة، وهو على ناقته، فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك من ثقل الوحي». وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، وأخرج أحمد، والترمذي عن ابن عمر: أن آخر سورة المائدة والفتح. وقد تقدم آنفا عن البراء: أن آخر سورة نزلت براءة، ولعل كلا ذكر ما عنده، وليس في ذلك شئ مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها» وهو غير واف بالمقصود لمكان «من». واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شئ، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل، والحسن رضي الله تعالى عنهما، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نسخ من هذه السورة آيتان، آية القلائد. وقوله سبحانه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. اه. ويقول صاحب الظلال: «في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح .. وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة .. وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة، التي فيها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة .. ولكن المراجعة الموضوعية للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول: إن السورة نزلت بكاملها بعد «الفتح» فضلا عن أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر، تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرائيل مع موسى- عليه

نقول من الظلال

السلام- من دخول الأرض المقدسة، كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية. وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصاري- رضي الله عنه- فى رواية، وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية، وهو يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ .. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون .. الخ». أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود- في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم- قوة ونفوذ وعمل في المدينة، وفي الصف المسلم، مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم. وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة، عقب غزوة الخندق، وقد تطهّرت الأرض من القبائل اليهودية القوية: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد. ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السلمية قد انتهت، ولم يعد لهما موضع بعد الذي بدا منهم فقول الله لنبيّه الكريم: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ .... لا بد سابق على هذه الفترة. وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم .. ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة، وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح؛ بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك، كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك. وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات». نقول من الظلال: ننقل هنا عن الظلال متفرقات من كلامه في هذا المقطع ونضعها في تسلسل يشير إلى سياق المقطع: إنه لا بد من ضوابط للحياة .. حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة .. الناس من الأقربين والأبعدين، من الأهل والعشيرة، ومن الجماعة والأمة؛ ومن الأصدقاء والأعداء .. والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر .. والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض .. ثم ..

حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة. «هذه الضوابط يسميها الله «العقود» .. ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود .. وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح. وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية. وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة. وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية. وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل. وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله، والشهادة بالقسط، والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله؛ والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن .. افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله .. وفي أولها عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته .. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود، وسائر الضوابط في الحياة. وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية لله، تقوم سائر العقود .. سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله، فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها. إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء .. ومن ثم كان هذا النداء. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود ... «إن الحديث عن الصلاة والطهارة، إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام، والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام .. إن هذا لا يجئ اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجئ كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه .. إنما هو يجئ في موضعه من السياق، ولحكمة في نظم القرآن. إنها- أولا- لفتة إلى لون آخر من الطيبات .. طيبات الروح الخالصة .. إلى جانب

طيبات الطعام والنساء .. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء .. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة، استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان .. والتي بها يتكامل وجود «الإنسان» ثم اللفتة الثانية .. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب .. كبقية الأحكام التالية في السورة .. كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا- في الفقه- على تسميته «بأحكام العبادات»، وما اصطلح على تسميته «بأحكام المعاملات». هذه التفرقة التي (وجدت في اصطلاحات العلماء) حسب مقتضيات «التصنيف» و «التبويب». لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية .. إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء .. وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه، لا، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر. والدين لا يستقيم إلا بتحقيقهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء. كلها «عقود» من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء. وكلها «عبادات» يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله. وكلها «إسلام» وإقرار من المسلم بعبوديته لله. ليس هنالك «عبادات» وحدها و «معاملات» وحدها .. إلا في «التصنيف الفقهي» .. وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي .. كلها «عبادات» و «فرائض» و «عقود» مع الله. والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله. وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق. «ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة، القوّامة على البشرية بالعدل .. العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال. العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات .. والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور .. ومن ثم فهذا النداء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ

فصل: في ضرورة دراسة كتب الفقه

أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. فصل: في ضرورة دراسة كتب الفقه: بمناسبة الكلام عن الذكاة الشرعية يقول صاحب الظلال: «والتفصيل يطلب في كتب الفقه المختصة»، وسنرى أنه بمناسبة الكلام عن حدّ السرقة يقول صاحب الظلال «ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال فتطلب في كتب الفقه» إنّ الذي يتصور أن صاحب الظلال يمنع دراسة الفقه يظلم صاحب الظلال، والذي يتصور أن يكون الإنسان فقيها دون دراسة كتب الفقه يكون واهما، والذي يتصور أننا لا نحتاج إلى كتب الفقه أصلا يكون مخالفا للنصوص، فالحديث الصحيح يقول «و بين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من النّاس» فالقليل إذن يعرفها، وهل القليل إلا أئمة الاجتهاد؟ وهذا موضوع فصّلنا فيه في كتابنا «جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما». فصل: في صور من الاستقسام بالأزلام: كثيرا ما يحدث أن أحدا من الناس يكون مشغولا بمسألة ما فيعبث بعلبة الكبريت مثلا فإن وقفت استبشر، أو يعبث بالعملة المالية المضروبة فإن جاءت العملة على وجه استبشر وإلا لم يستبشر وذلك نوع من الاستقسام بالأزلام علينا أن نبتعد عنه. فصل: في موضوع الصد عن المسجد الحرام: قضية الحج نرجو ألا تربط بأي وضع سياسي في هذا العالم، وألا تكون السياسة عاملا من عوامل الصد عن سبيل الله إن في تعقيد المعاملات، أو في تقييد الحج، أو في المعاملات الفظّة للحجاج والعمّار، أو لبعضهم، وعلى الحكومات جميعا أن تختار للتعامل مع الحجاج والعمّار أجود موظفيها أخلاقا، وأحسنهم سلوكا، وأكثرهم احتراما للناس وهذا أقل الواجب. فصل: في قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ:

يقول صاحب الظلال: «فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً .. يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتشريعية؛ فلا تعديل فيها ولا تغيير؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره. وتعديل شئ فيه كإنكاره كله؛ لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله؛ وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه .. أما العدول عنه كله إلى منهج آخر، ونظام آخر، وشريعة أخرى، فلا يحتاج منا إلى وصف، فقد وصفه الله- سبحانه- في السورة. ولا زيادة بعد وصف الله- سبحانه- لمستزيد .. إن هذه الآية تقرر- بما لا مجال للجدال فيه- أنه دين خالد، وشريعة خالدة. وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة .. إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان؛ وليس لكل زمان شريعة، ولا لكل عصر دين .. إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر، قد اكتملت وتمت، ورضيها الله للناس دينا. فمن شاء أن يبدل، أو يحوّر، أو يغيّر، أو يطوّر، إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان، فليبتغ غير الإسلام دينا .. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي، والشعائر التعبدية، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله؛ يحكم ويصرّف ويهيمن على نشاط الحياة كلها؛ وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور؛ دون خروج على أصل فيه ولا فرع، لأنه لهذا جاء، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين. إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع؛ ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوي كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور؛ بلا خروج على أصل أو فرع. ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج؛ لأن الله- سبحانه- لم يكن يخفى عليه أن هناك تطورات ستقع، وأن هناك حاجات ستبرز، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات. فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا. وما قدر الله حقّ قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور ..

ملاحظة: هناك مسائل فقهية كثيرة لها صلة بالمقطع تحتاج إلى ذكر ومناقشة. ولكن لكون هذا التفسير جزءا من سلسلة الأساس في المنهج ولكوننا سنتعرض في القسم الثاني من الأساس في المنهج وهو الأساس في السنة وفقهها لهذه القضايا كلها آثرنا أن لا نتوسع في ذلك هاهنا. ***

المقطع الثاني من سورة المائدة يمتد هذا المقطع من الآية (12) إلى نهاية الآية (34) وهذا هو

المقطع الثاني من سورة المائدة يمتد هذا المقطع من الآية (12) إلى نهاية الآية (34) وهذا هو: 5/ 16 - 12

5/ 24 - 17

5/ 32 - 25

5/ 34 - 33***

كلمة في المقطع

كلمة في المقطع: في هذا المقطع ثلاث فقرات: الفقرة الأولى: تذكر ما أخذ الله- عزّ وجل- من ميثاق على بني إسرائيل، وكيف أنهم نقضوا عهدهم مع الله- عزّ وجل- وأنه أخذ عهودا ومواثيق على النّصارى فنقضوا العهد وعوقبوا، وفي هذا السياق يدعو الله- عزّ وجل- أهل الكتاب إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإسلام، ويعرض علينا نماذج من كفرهم، ودعاواهم، فالفقرة تعرض نماذج من نقض العهد، وتدعو أهل ذلك لتلافيه بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإسلام. وصلة ذلك بمحور السورة في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ صلة واضحة. ثم تأتي الفقرة الثانية: وهي تعرض لنا قصة امتناع بني إسرائيل عن الجهاد زمن موسى عليه السلام، وفسوقهم بذلك، وعقوبتهم على ذلك. وذلك نموذج تفصيلي آخر على نقض العهد والفسوق بذلك، والصلة بين قوله تعالى في محور السورة من سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وبين هذه الفقرة واضحة. فهذا نموذج على الفسوق عن أمر الله بترك الفريضة. ونموذج لقطع ما أمر الله به أن يوصل من ولاء للرسل عليهم السلام وطاعتهم طاعة مطلقة. ثم تأتي الفقرة الثالثة: وفيها نموذج على نقض عهد وقطع لما أمر الله به أن يوصل من رحم، وإفساد في الأرض بقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وتعقيبا على ذلك يقرّر الله- عزّ وجل- بعض ما به تنحسم مادة الفساد في الأرض، وذلك بالقصاص وبحدّ الحرابة للمفسدين في الأرض. ثم يأتي المقطع الثالث فيبني على ذلك فيذكر الجهاد، ويذكر حدّ السرقة، وكلّ ذلك لقطع الفساد في الأرض. فالمقطع في فقراته الثلاث يفصّل في نقض العهد، وفي قطع ما أمر الله به أن يوصل، وفي الإفساد في الأرض. ويفصّل في الفسوق عامّة. فيضرب الأمثلة، ويقرّر الأحكام التي تحسم مادة الفساد. ولعل بمجموع ما ذكرناه أضحت الصلة بمحور السورة من سورة البقرة أكثر وضوحا. والصلة بين المقطع والذي قبله متعددة الجوانب: فالمقطع الأول أمر هذه الأمة بالوفاء بالعقود، وأمرها بالطهارة والصلاة، وذكّرها بنعمة الله عليها إذ همّ قوم أن يبسطوا إليها أيديهم فكفّ ذلك عنها.

المعنى العام

وجاء هذا المقطع مذكرا بالعهود الأساسية التي أخذت على بني إسرائيل والتي منها: إقامة الصلاة، ونصرة الرّسل، وكيف كان موقفهم منها لتأخذ هذه الأمة عبرة. وأرانا المقطع كيف أن بني إسرائيل نكصوا عن القتال، وفي هذا السياق يأتي الكلام عن القتل الظالم ليكون ذلك كله مقدمة للمقطع الذي فيه أمر بالجهاد، وقطع يد السارق، فكان بمثابة استمرار للكلام عما به تنحسم مادة الفساد في الأرض. فالمقطع الثاني، يقدم للمقطع الثالث، ويضرب الأمثلة التي تعين علي القيام بأمر الله فهو يخدم معاني المقطع الأول ويمهد لإقامة معاني المقطع الثالث. والملاحظ أن موسى عليه السلام قدّم للأمر بالجهاد بالتذكير بنعمة الله على بني إسرائيل، وقد ختم المقطع الأول بالتذكير بالنعمة على هذه الأمة. ثم جاء المقطع الثالث ليأمر بالجهاد مما يرينا كيف أنّ المقطع الثاني خدم المقطع الأول، وأن المقطع الأول والثاني يخدمان في تحقيق معاني المقطع الثالث. وصلة ذلك بالتربية والبناء لأمتنا من حيث إن المقاطع تأخذ بيدها شيئا فشيئا، لا تخفى. وهذا أوان الشروع في تبيان المعاني العامة للمقطع الثاني. المعنى العام: لمّا أمر الله عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم في ابتداء المقطع الأول، وفي أواخره كما رأينا. شرع يبيّن لهم كيف أنّه أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين اليهود والنّصارى، فلمّا نقضوا عهوده ومواثيقه، أعقبهم ذلك لعنا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق. وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل من كون محور سورة المائدة هو قوله تعالى في سورة البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... وقد بيّن الله- عزّ وجل- في الفقرة الأولى من المقطع، والتي لها علاقة بأخذ الميثاق كيف أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل في زمن موسى، وكيف أنّه جعل عليهم اثني عشر نقيبا على كل سبط منهم نقيب. ووعدهم الله- عزّ وجل- بالنّصر والرّعاية

إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصدّقوا رسل الله، ونصروهم، وأنفقوا في سبيل الله. ووعدهم كذلك مع الرعاية والنصرة- إن وفوا بهذا- أن يمحو عنهم ذنوبهم، ويسترها عليهم فلا يؤاخذهم بها، وأن يدخلهم جنّته، ثمّ هدّدهم أنّه من خالف هذا الميثاق من عقده وتوكيده وشدّه. فجحده وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضّلال، ثمّ أخبر تعالى عما حلّ بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، لقد أبعدهم عن الحق، وطردهم عن الهدى، وجعل قلوبهم قاسية لا تتعظ بموعظة حتى تأوّلوا كتابه، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، وتركوا العمل به رغبة عنه، ونسوا قسما منه فعطلوه، ثم أخبر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن حالهم الملازم لهم هو المكر والغدر والخيانة، وأنّه لا يزال يطّلع عليها منهم، وأمره مع هذا بالعفو عنهم والصفح إحسانا لأن الله يحب المحسنين، وهذا- والله أعلم- عند ما يكونون ذمّة للمسلمين، وأما في حالة كونهم أهل حرب فالحذر والحرب، وبعضهم قال إن الأمر بالصفح والعفو كان قبل الأمر بالقتال، وفي المعنى الحرفي بيان، وبعد أن بيّن الله- عزّ وجل- الميثاق الذي أخذه على اليهود، وعقوبتهم إذا خالفوه، بيّن عاقبة النصارى إذ نقضوا ميثاقه، فنسوا قسما مما ذكّروا به، فعاقبهم على ذلك في الدنيا، بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة، كل طائفة منهم تكفّر الأخرى، وعذاب في الآخرة أكبر إذ يحاسبهم على ما ارتكبوا من الكذب عليه سبحانه وعلى رسله عليهم السلام، وما نسبوه إلى الربّ- عزّ وجل- وبعد أن بيّن الله- عاقبة نقض الميثاق، وجّه النّداء لأهل الكتاب في هذا السياق، مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أمّيّهم وكتابيّهم، وأنّه بعثه بالبيّنات، والفرق بين الحقّ والباطل، مبيّنا لهم ما بدّلوه وحرّفوه وأوّلوه وافتروا على الله، ويسكت عن كثير مما غيّروه مما لا فائدة في بيانه، ثمّ أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيّه الكريم، فوصفه بأنه نور وكتاب واضح، وأنّ الذي يتّبع رضوان الله يهتدي به إلى طريق النّجاة والسّلامة ومناهج الاستقامة، فينجّيهم من المهالك، ويوضّح لهم أين المسالك، ويصرف عنهم المحذور ويحصّل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضّلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة. وبعد أن بيّن الله عاقبة نقض الميثاق، وبيّن لأهل الكتاب مهمّة من مهمّات رسوله،

ووصف كتابه حق وصفه مما يستدعي عند أهل الإنصاف الإيمان بسبب هذا الكمال الذي لا يشك معه أنّ محمدا رسول الله، وأن القرآن كتاب الله، بعد أن بيّن هذا، حكم بكفر النّصارى في ادّعائهم في المسيح ابن مريم- وهو عبد من عباد الله وخلق من خلقه- أنّه هو الله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، ثمّ أخبر تعالى عن قدرته على الأشياء كلها، وكونها تحت قهره وسلطانه بأنه لو أراد إهلاك المسيح وأمّه وأهل الأرض كلهم فمن ذا الذي كان يمنعه من ذلك؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه؟ وإذ كان الأمر كذلك فهو وحده الربّ والإله. ثم أخبر تعالى أن جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يسأل عمّا يفعل لقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، وهل المسيح وأمه إلا من جملة ملكه فأنى يكون إلها؟ ثم ردّ على اليهود والنّصارى ادّعاء كلّ منهم أنّهم أبناء الله، وأنّ له بهم عناية، وأنّه يحبهم بحكم انتساب كلّ منهم إلى من هو حبيب لله. فردّ الله عليهم ذلك، بأنّه لو كنتم كما تدّعون فلم يعذّبكم في الدنيا؟ وأعد لكم نار جهنّم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّهم ليسوا إلا بشرا من البشر، وأن إليه أمر العذاب والغفران، وأنّه ينال غفرانه بسلوك طريق ذلك، ثم بيّن أنّ الكون كله ملكه، وتحت قهره وسلطانه، وأنّ إليه المرجع والمآب، فلا فرار منه إلا إليه باتّباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقرآنه. ثمّ خاطب مرة ثانية أهل الكتاب بعد تبيانه هذه المعاني كلها، مبيّنا أنّه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيّين، الذي لا نبيّ ولا رسول بعده، بل هو المعقّب لجميعهم، أرسله بعد مدة متطاولة بينه وبين آخر رسول بعث قبله وهو عيسى، أرسله بعد طموس السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنّيران والصّلبان. فكانت النّعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنّ الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا الأنبياء الأقدمين، وكان الدّين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتّى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم؛ فهدى الخلائق، وأخرجهم الله به من الظّلمات إلى النّور، وتركهم على المحجّة البيضاء، والشّريعة الغراء من أجل ألا يحتج من بدّل وغيّر. بأنه ما جاءه من رسول يبشّر بدين الله، وينذر من مخالفة دينه. فها قد جاء البشير والنذير محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والله سيتولى عقوبة من خالفه وعصاه، وثواب من أطاعه. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من هذا المقطع والسؤال الآن هو:

ما الصلة بين موضوع الميثاق الوارد في أول هذه الفقرة، وخطاب أهل الكتاب باتباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟. والجواب- والله أعلم- أنّه لمّا كان من الميثاق الإيمان بالرسل ونصرتهم، فقد ذكّر الله- عزّ وجل- أهل ذلك بأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن عليهم أن يؤمنوا به وينصروه، ثمّ إن الخطاب بالإيمان قد جاء بعد تبيان عقوبة نقض الميثاق من قبل وكيف أن نقض الميثاق فيه ما فيه. فكيف بعد بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي قامت به الحجة على الخلق بما لا مزيد عليه؟ فإن استحقاق العقوبة أبلغ. ومن هذه الفقرة نفهم أنّ الوفاء بالميثاق لا يتمّ إلا بإقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، ونصرتهم، والإنفاق في سبيل الله، فإذا ربطنا بين هذا المقطع وبين محور السورة في سورة البقرة علمنا أنّ الذي ينقض واحدة من هذه المعاني لا يهتدي بكتاب الله، لأن الله تعالى قال هناك: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... فإذا أدركنا هذا عرفنا سرا آخر من أسرار الصلة بين خطاب أهل الكتاب والكلام عن الميثاق في أول هذه الفقرة، إذ بيّن في خطاب أهل الكتاب صفات الذين يستأهلون الاهتداء بكتاب الله قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ .. فارجع الآن وتأمل الآيتين اللتين قلنا إنهما محور سورة المائدة وهما قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لتجد الرّبط الكامل ما بين أجزاء هذه الفقرة أولا، وبين هذه الفقرة والمقطع قبلها ثانيا، وما بين ذلك والسياق القرآني العام ثالثا، على النّسق الوارد في سورة البقرة بهذا الشكل المعجز، نسأل الله أن يلهمنا شكره وأن يدخلنا جنته. وبعد الفقرة الأولى من هذا المقطع، تأتي الفقرة الثانية التي تعرض علينا موقفا من مواقف بني إسرائيل فما الصلة بينها وبين ما سبقها؟. أمّا الصلة بينها وبين الفقرة الأولى فقد رأينا أن الإيمان بالرّسل ونصرتهم جزء من الميثاق، وهذه الفقرة تبيّن موقفا من مواقف بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، وتقاعسهم عن النّصرة والقتال فيما هو مصلحتهم، وعقوبتهم على ذلك. وأمّا الصلة بين هذه الفقرة والمقطع السابق، فقد رأينا أن المقطع السابق ختم بالتذكير بنعمة الله، إذ كفّ أيدي من أراد الأذى بالمسلمين عن المسلمين. وطولب المسلمون على أثر ذلك بالتوكل على الله في السّلم والحرب وغير ذلك. وفي هذه الفقرة: يذكّر موسى عليه السلام

بني إسرائيل بنعمة الله ليقوم على ذلك توكل يدخل فيه اليهود حربا فيرفضون، ويعاقبون. والتربية في ذلك لهذه الأمّة واضحة، وسنرى أنه بعد هذا المقطع سيأتي أمر لأمتنا بالجهاد فلا ينبغي أن تكون كبني إسرائيل، وأما المعاني العامة في هذه الفقرة الثانية فهي: يخبر تعالى عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكّر به قومه من نعم الله عليهم، وآلائه لديهم، في جمعه لهم خيري الدنيا والآخرة، لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة. ومن ذلك إرسال الرسل إليهم، وجعلهم أحرارا يتملكون، وتشريف الله إيّاهم على عالمي زمانهم، ثم بنى موسى عليه السلام على هذا التذكير الأمر لهم بالقتال، ودخول الأرض المقدّسة الّتي وعدهم الله إياها على لسان أبيهم إسرائيل- إن كانوا مؤمنين- ونهاهم عن النّكول عن الجهاد، وهدّدهم بالخسران إن نكلوا، فاعتذروا عن الجهاد والدّخول، بأنّ في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال قومها قوما جبّارين، ذوي خلقة هائلة، وقوّة شديدة، وإنا لا نقدر على مقاتلتهم، ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدّخول إليها ما داموا فيها. فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم، ثمّ أخبر تعالى أنّ رجلين يخافان أمر الله، ويخشيان عقابه، حرّضا بني إسرائيل بأنهم إن توكلوا على الله، واتّبعوا أمره، ووافقوا رسوله، وقاتلوا وهاجموا؛ أيّدهم الله، ونصرهم، ونجحوا في احتلال الأرض، وهاهنا أصروا مرّة ثانية على النكول، ورفض الدخول، وترك الجهاد، وطالبوا- بكل صفاقة- موسى عليه السلام أن يقاتل هو وربه وحدهما، أما هم فإنهم قاعدون في مكانهم، فاعتذر موسى عليه السلام إلى الله أنه لا يطيعه أحد منهم إلا أخوه، ودعا الله أن يقضي ويفصل بينه وبين قومه الفسقة، فعاقبهم الله- عزّ وجل- حين نكلوا عن الجهاد بتحريم دخولهم عليهم مدّة أربعين سنة، وعاقبهم على ذلك كذلك بالتيه في الأرض، ثم سلّى الله موسى عليه السلام، وأمره ألّا يأسف، وألّا يحزن عليهم فيما حكم عليهم به فإنهم مستحقّون ذلك. وانتهاء الفقرة بقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ مشعر بأنّ ترك الجهاد المفروض والنكول عنه فسوق. ومشعر بالصّلة بين الفقرة ومحور السورة من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... وأن الجهاد جزء من الميثاق، الذي من تخلى عنه استحق الضّلال والإضلال، وهذا يفهم من أول هذا المقطع وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ... لأن النّصرة الحقيقية الكاملة إنّما تكون بالجهاد.

فإذا اتضح هذا المعنى فلنتذكر: أنّ محور سورة المائدة هو آيتا سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ*. وعلى هذا فمحور سورة المائدة يتضمّن خطين: الخط الأول: الأوامر التي لو أطاعها الإنسان ينال الهداية. الخط الثاني: الأشياء التي إذا أخلّ بها الإنسان استحقّ الضّلال من مثل نقض الميثاق، والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ومن ثمّ كان فهم سورة المائدة والتخلق والتحقق بما طولبنا به فيها من الأهمية بالمكان العظيم وقدر رأينا فى سورة البقرة أن استحقاق الضلال بثلاثة: 1 - بنقض الميثاق. 2 - بقطع الصلة اللّازمة. 3 - بالإفساد في الأرض. وقد جاء المقطع الأول يأمر بالوفاء بالعقود. وجاء المقطع الثاني يبيّن عاقبة نقض المواثيق في فقرته الأولى. وعاقبة نقض نوع منها في فقرته الثانية، وأما الفقرة الثالثة فإنّ فيها بيانا لأفظع أنواع الإفساد في الأرض، وهو القتل. وهكذا يمضي السياق مربيّا ومنفّرا ضمن محور خاص، وعلى نسق محدّد، ولننتقل إلى استعراض المعاني العامّة للفقرة الثالثة: أخبرنا تعالى في الفقرة الثالثة عن قابيل وهابيل ولم يسمّهما- ولكن ذكر غير واحد من السلف والخلف أنهما المرادان هنا- وكيف عدا أحدهما على الآخر فقتله بغيا عليه وحسدا له فيما وهبه الله من النّعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله- عزّ وجل-، ففاز المقتول بوضع الآثام، والدّخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السّلف والخلف: إنّ الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوّج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوّج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقرّبا قربانا، فمن تقبّل منه فهي له فتقبّل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصّه الله في كتابه، إذ أمر رسوله أن يقصّ خبر ابني آدم هذين على الأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة

ولا نقصان، إذ قرّبا قربانا، فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، فغضب قابيل على أخيه، وحسده بسبب ذلك، وهدّده بالقتل، فكان رد هابيل أن ذكر أنّ سنّة الله أن يتقبل من أهل التقوى، ثم أعلمه بأنه إن مدّ إليه يده بالقتل فإنه لن يقابل صنيعه الفاسد بمثله، لأنه يخاف الله ربّه، ثمّ علّل سبب استسلامه للقتل بأنه يريد من صبره على قتل أخيه أن يبوء أخوه بإثم قتله مع آثامه السابقة ليكون من المعذّبين عند الله بسبب ظلمهم. وفي ذلك عظة وردع لقابيل، إلا أنه لم يتّعظ، ولم يرتدع، فحسّنت له نفسه قتل أخيه، وشجعته عليه فقتله، فأصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة وأيّ خسارة أعظم من هذا؟ فلما مات أخوه تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفنه، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه فلما رآه سفّه نفسه أن يكون أعجز من الغراب في دفن أخيه، فدفنه فعلّاه الله بندامة بعد خسران. ثم يستمر السياق مبينا أنه من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا شرع الله لبني إسرائيل وأعلمهم، وجعله شريعة دائمة: أنه من قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنمّا قتل النّاس جميعا، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي: حرّم قتلها، واعتقد ذلك، فقد سلم النّاس كلّهم منه بهذا الاعتبار. ومن ثمّ فكأنه أحيا الناس جميعا بذلك. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّ رسل بني إسرائيل قد جاءتهم بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة، ومع ذلك فإنّ كثيرا منهم متّصف بالإفساد في الأرض. ومن هنا نفهم أن قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. أي: على اليهود قصة ابني آدم، وما ترتب عليها من حكم قطعي لله في موضوع القتل، وموقفهم من ذلك، نفهم من هذا أنّ السّياق في هذه الفقرة مستمرّ في قضيّة نقض الميثاق، في موضوع تشريعيّ، هو عصمة دم الإنسان إلّا بحق، ونقض بني إسرائيل لهذا. ثمّ ختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع الذي قرّر فيه وجوب نصرة الرسل، وحرمة الإفساد في الأرض، كجزء من الميثاق، بأن ذكر عقوبة حرب الله ورسوله، وعقوبة الإفساد في الأرض وهو القتل أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض بحسب جناية الجاني وأن هذه العقوبة لهم شر وعار، ونكال وذلّة وعقوبة في عاجل الحياة الدّنيا، ومع هذا الجزاء في الدنيا فإنّ لهم عذاب جهنّم يوم القيامة. واستثنى الله- عزّ وجل- من العقوبة التائبين قبل القدرة عليهم، فإنّ من كمال

التفسير الحرفي

مغفرة الله ورحمته أن يقبل توبتهم، وفي الموضوع تفصيلات وجزئيات سنراها بإذن الله. وبهذا ينتهي المقطع الثاني فلنعد إلى تفسيره تفسيرا حرفيا. التفسير الحرفي: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً. النّقيب: هو الذي ينقّب عن أحوال القوم ويفتّش عنها. وقد أمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا، يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمر به توثقة عليهم ففعل. وقوله تعالى: (وَبَعَثْنا)، يشير إلى أنه تعالى هو الذي عيّن هؤلاء الرؤساء وهو الذي اختار لكل سبط رئيسا، وفي الإصحاح الأول من سفر العدد مما يسمونه التوراة حاليا بعد ذكر أسماء النقباء «فأخذ موسى وهارون هؤلاء الرجال الذين تعيّنوا بأسمائهم» وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ. أي: ناصركم ومعينكم وراعيكم. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جميعا من غير تفريق بين أحد منهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ. أي: وعظّمتموهم أو ونصرتموهم بأن تردّوا عنهم أعداءهم، وتجاهدوا في سبيل دينهم. وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. أي: وأنفقتم في سبيل الله بلا منّ. أو: وفعلتم أنواع الخير كلها لله خالصة. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. أي: ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها. وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا أعظم المقصود فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ. أي: فمن جحد بعد هذا الميثاق وعقده وتوكيده وشدّه. فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. أي: فقد أخطأ طريق الحق، ومن كفر قبل ذلك فقد ضلّ سواء السّبيل أيضا، ولكنّ الضّلال بعده أظهر وأعظم. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ. أي: فبنقضهم ميثاقهم أي فبسبب ذلك (وما) هنا مزيدة لإفادة تعظيم الأمر. لَعَنَّاهُمْ. أي: طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً. أي: يابسة لا رحمة فيها ولا لين. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. أي: يفسّرونه على غير ما أنزل، وهذا بيان لأثر قسوة قلوبهم، لأنّه لا قسوة في القلب أشد من قسوة ينبثق عنها الافتراء على الله وتغيير وحيه. وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. أي: وتركوا نصيبا جزيلا، وقسطا وافيا من التوراة. أو أن الإغفال سمّي نسيانا. وَلا تَزالُ يا محمد وكذلك المسلمون. تَطَّلِعُ. أي: تظهر عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ. أي: على خيانة أو على فعلة ذات

فوائد: حول مسألة الاثني عشر نقيبا وما يستفاد منها وحول عاقبة نقض الميثاق

خيانة أي: هذه عادتهم، وكان عليها أسلافهم، كانوا يخونون الرسل، وهؤلاء يخونونك ويهمّون بالفتك بك. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم وما أقلهم. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ. أي: اعف عن هذا القليل من أهل الإيمان، وتجاوز عما سلف منهم، فلا تؤاخدهم به، كأدبك مع المؤمنين. هذا الذي حمل عليه النسفي هذين الأمرين. أما ابن كثير فقد جعل الأمرين في اليهود ونقل قول قتادة أن هذا منسوخ بآية القتال، والحكم المستقر في هذا الموضوع أنّ اليهود إن كانوا ذمّة فخانوا حوكموا فعوقبوا بما يستحقون، وإن كانوا حربيين معاهدين فخانوا فالحرب. أو كانوا حربيين فالحرب ضمن قدرة المسلمين، وفي حدود إمكانياتهم، وحسب المصلحة، وقد يعفى عن بعض تصرفاتهم إن كانوا ذمة، إذا كانت المصلحة في ذلك، فموضوع النّسخ بعد هذا التقرير يبقى قضيّة اعتبارية بحسب سعة الفهم للنص، وبحسب محمل الآية. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين اجتمع لهم حسن العمل، ومراقبة الله فيه، والإخلاص لله في ذلك. فوائد: [حول مسألة الاثني عشر نقيبا وما يستفاد منها وحول عاقبة نقض الميثاق] 1 - نقل ابن إسحاق أسماء نقباء بني إسرائيل حسب أسباطهم، وقال ابن كثير وقد رأيت في السفر الرابع (أي: سفر العدد) من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل، وأسماء ابن كثير مخالفة لما ذكره ابن إسحاق، وما نقله ابن كثير قريب من الموجود حاليا في سفر العدد، مما يدلّ على أن نسخ ما يسمّى بالتورات كانت متوافرة خلال العصور الإسلامية، وأن النقل منها وعنها كان متاحا لعلمائنا. 2 - لاحظنا أن الاثني عشر نقيبا كانوا معيّنين تعيينا، ونلاحظ أنّ رسولنا عليه الصلاة والسلام قد طالب الأنصار ليلة العقبة الثانية أن يختاروا هم من بينهم اثني عشر نقيبا، مما يدلّ على أنّ الأصل في شريعتنا هو انتخاب القيادات، وليس تعيينها، وليس الكلام هنا في القيادات العسكرية، والأمر واسع جدا، وتحكمه قواعد متعدّدة، وإنما أشرنا هذه الإشارة هنا حتى لا يفهم فاهم أنّ التعيين في غيبة الوحي هو الأصل. 3 - لاحظنا أن الميثاق قد أخذ على بني إسرائيل بخمسة أشياء. الصلاة، والزكاة، والإيمان بالرّسل، ونصرتهم، وفعل الخير، وأنهم عوقبوا على النقض بقسوة القلب، واللعن، وما من شئ أخذ عليهم به الميثاق إلا وقد أخذ علينا، فمن رأى من قلبه قسوة

[سورة المائدة (5): آية 14]

فلينظر أيّ شئ قد فرّط به من هذه الأمور وغيرها، لقد قست القلوب في عصرنا كثيرا فلنفتّش عما يلينها. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى. أي: ومن الذين سمّوا أنفسهم نصارى ويظهر أنّهم سمّوا أنفسهم كذلك ادّعاء لنصر الله. أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ لم يفصّل ماهيّة الميثاق الذي أخذ عليهم، لأنّ الميثاق الذي أخذ على الأمم واحد، فهو لا يحتاج إلى تفصيل. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. أي: تركوه وأهملوه بل خالفوه. ومن ذلك التوحيد والشرائع. فعوقبوا على ذلك بما يلي. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ. أي: فألصقنا وألزمنا بين فرق النّصارى المختلفة العداوة والبغضاء، وهو عقاب مستمرّ بهم كما هو مشاهد. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فهم لا يزالون متباغضين، متعادين، يكفّر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وكل فرقة تحرم الأخرى من الجنة في زعمها، ولا تدعها تلج معبدها، والأمر فيهم هكذا إلى يوم القيامة. وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. أي: سيخبرهم يوم القيامة بما اقترفوه من الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى شريعته فيجازيهم. فائدة: [انتشار العداوة والبغضاء عقاب على نسيان جزء من الوحي] دلّت الآية على أنّ نسيان جزء من الوحي الذي ينزله الله على أمّة تستحق به هذه الأمة العداوة والبغضاء. ولا شك أنّ أمتنا نسيت الكثير من الوحي المنزّل، ونحن نرى آثار هذا الترك عداء وبغضاء بين المسلمين، والترك الذي وقعت به أمتنا ترك عملي في الغالب، إلا ما وقعت به بعض الفرق، ومظهر هذا التّرك العملي أخذا ببعض ونسيانا لبعض، فلنقبل على هذا الدين ولنأخذه كله لعلّ الله يؤلف بين قلوبنا. وبعد أن بيّن الله فيما مرّ من الفقرة نقض اليهود والنصارى للميثاق، دعاهم إلى تلافي ذلك بالإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب لليهود والنّصارى. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا. أي: محمد عليه الصلاة والسلام يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من نحو صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن نحو الرجم، ومن نحو التوحيد والتنزيه، وكثير من الشعائر والشرائع. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. أي: مما تخفونه فلا يبيّنه لعدم حاجة الإنسانية إلى بيانه. قال ابن كثير في تفسيرها: ويسكت عن كثير ممّا غيّروه ولا فائدة في بيانه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ النّور هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. لأنه يهتدى به ويقتدى وفي

[سورة المائدة (5): آية 16]

مكان آخر سماه الله سراجا. فقال: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (الأحزاب: 46) ويمكن أن يراد به القرآن لكشفه ظلمات الكفر والشرك والحيرة والشك وغير ذلك ولإبانته ما كان خافيا على النّاس من الحق. وَكِتابٌ مُبِينٌ. أي: واضح لأنه ظاهر الإعجاز، وعلى أنّ النّور محمّد صلّى الله عليه وسلّم يكون المعنى: قد جاءكم القدوة الصالحة، والكتاب الواضح. وعلى أن النّور الكتاب يكون من باب عطف الموصوف على الصّفة. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ الضمير في (به) راجع للقرآن. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ. أي: رضوان الله بالإيمان به، وبرسله، وبكتابه. سُبُلَ السَّلامِ. أي: طريق السلامة والنجاة من عذاب الله. أو سبل الله التي توصل إلى رضوانه ومعرفته وجنته. وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. أي: ظلمات الشرك والكفر، والشك والنفاق، والشهوة والفسوق، إلى نور الإسلام والمعرفة. بِإِذْنِهِ. أي: بإرادته وتوفيقه. وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. أي: ويرشدهم إلى الطريق الأقوم. فوائد: 1 - [فائدة حول قوله تعالى يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ .. ] في قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ... إشارة إلى أنه لا بد للاهتداء بكتاب الله من إيمان أولا، يستتبع ذلك اهتداء بكتاب الله، يستتبع ذلك سير بالطرق الموصلة إلى رضوان الله، يستتبع ذلك هداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى الجنّة. 2 - [إخفاء أهل الكتاب أحكام كتبهم كالرجم للزاني] روى الحاكم بإسناد صححه عن ابن عباس قوله: «ومن كفر بالرّجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، أي قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فكان الرجم مما أخفوه» وبهذه المناسبة ننقل مما يسمّونه التوراة حاليا ما هو مذكور فيها من حكم الرّجم للزاني: في سفر اللاويين الإصحاح العشرون. «كل إنسان من بني إسرائيل ومن الغرباء النازلين في إسرائيل أعطى من زرعه لمولك فإنّه يقتل، يرجمه شعب الأرض بالحجارة» وفي سفر التثنية: الإصحاح الثاني والعشرين «ولكن إن كان هذا الأمر صحيحا لم توجد عذرة للفتاة، يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها في بيت أبيها» وفي الإصحاح نفسه «إذا كانت فتاة

[سورة المائدة (5): آية 17]

عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا» أقول في شريعتنا: إذا زنت العذراء والأعزب الذي لم يتزوج فإنهما يجلدان مائة جلدة أما المحصن والمحصنة فهما اللذان يرجمان إذا زنيا .. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وأيّ: كفر أفظع من هذا الكفر جعل البشر إلها. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. أي: الأشياء كلها تحت قهره وسلطانه فمن يمنع من قدرته ومشيئته؟ إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. أي: إن أراد أن يهلك من زعموه إلها، وأمّه، والنّاس جميعا، والمعنى: أنّ المسيح عبد مخلوق كسائر العباد، وذكر من في الأرض جميعا في هذا السياق إشارة إلى أنّ المسيح وأمّه من جنسهم، لا تفاوت بينهما وبينهم من حيث المعنى، وهذا يفيد أنّ من اشتمل عليه رحم الأموميّة لا يفارقه نقص البشريّة، ومن لاحت عليه شواهد الحدثية لا يليق به نعت الربوبيّة، وأنّ الله لو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصّمدية. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فجميع الموجودات ملكه ومنهم المسيح وأمّه وأنّى تجتمع المملوكية مع الربوبيّة! يَخْلُقُ ما يَشاءُ. أي: يخلق من ذكر وأنثى، ويخلق من أنثى بلا ذكر، ويخلق بلا ذكر ولا أنثى كما خلق آدم. ويخلق مباشرة. ويخلق بالأسباب وفي ذلك كله دليل عظمته، وعلامة كمال قدرته، والمشير إلى ربوبيته فكيف يستدل بشيء من ذلك على ربوبيّة غيره. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فله وحده الربوبية وهو وحده الإله. والسياق كله ردّ على النّصارى فيما زعموه من شأن المسيح. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. أي: نحن أعز عليه كالابن على الأب. كلّ من اليهود والنّصارى ادّعى هذه الدعوى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. أي: إن صحّ أنّكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعاقبون بذنوبكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثمّ أكمل بقوله بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ. أي: أنتم خلق من خلقه لا بنوه، فلكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقد شاء أن يعذّب من مات على الكفر؛ عدلا، وأن يغفر لمن تاب عن الكفر؛ فضلا، ثم هو بعد أن يتوب من الكفر إن واقع المعصية فأمره إلى الله، إن شاء أن يعفو وإن شاء أن يعذّب. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وفي هذا تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والنبوة متنافيان. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. أي:

[سورة المائدة (5): آية 19]

المرجع والمآب وفي هذا تنبيه ووعيد. يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا. أي: محمد عليه الصلاة السلام. يُبَيِّنُ لَكُمْ شرائع الله، وما كنتم تخفون، وما كنتم فيه تختلفون عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحى. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. أي: لئلا تحتجوا بذلك. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ بشير للمؤمنين، ونذير للكافرين، وفي الآية معنى الامتنان بأنّ الرّسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي، وكانوا أحوج ما يكونون إليه. ليهشوا إليه، ويعدّوه أعظم نعمة من الله، وتلزمهم الحجة؛ فلا يقولون غدا بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن كمال قدرته أن يرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على مثل هذا الكمال، ويعطيه مثل ما أعطاه. وأن يعاقب من عصاه. ويثبت من أطاعه. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من المقطع، بعد أن عرضت ما أخذ به العهد على بني إسرائيل، وكيف أنهم نقضوه، وبعد أن عرضت: أن العهد أخذ على النصارى، وضربت لنا نماذج على نقضهم العهد في ادّعائهم أنّ المسيح هو الله، وبعد أن فنّدت دعاواهم، وأقامت عليهم الحجة بمتابعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليتداركوا ما فاتهم من نقض المواثيق، وأن ذلك هو وحده طريق النجاة والصراط المستقيم. فوائد: [1، 2 - سبب نزول قوله تعالى قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ .. وفائدة منه] 1 - قال ابن كثير، وقد قال بعض شيوخ الصوفيين لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه؟ فلم يردّ عليه. فتلا عليه الصوفي هذه الآية: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ وهذا الذي قاله حسن وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلمّا رأت أمّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول ابني! ابني، وسعت فأخذته. فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ولدها في النّار. قال: فحفظهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لا والله ما يلقي حبيبه في النار» تفرد به أحمد. 2 - أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعمان بن آصى وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلّموه، وكلّمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته. فقالوا: ما تخوّفنا يا محمّد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، وأنزل الله فيهم وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إلى آخر الآية رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

3 - نبينا أولى الناس بعيسى عليه السلام

3 - [نبينا أولى الناس بعيسى عليه السلام] في صحيح البخاريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبيّ». قال ابن كثير: وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعي وغيره. 4 - [تعليق ابن كثير على قوله تعالى عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ] وبمناسبة قوله تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قال ابن كثير: والمقصود أن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم على فترة من الرسل، وطموس من السّبل، وتغيير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان، والنيران والصلبان. فكانت النعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنّ الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسّكين ببقايا من دين الأنبياء والأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعبّاد النّصارى والصابئين كما قال الإمام أحمد. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبة خطبها ذات يوم. «وإنّ ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلّتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا. ثم إنّ الله- عزّ وجل- نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا. ثم إنّ الله أمرني أن أحرّق قريشا فقلت: يا رب إذن يثلغوا (¬1) رأسي فيدعوه خبزة. فقال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير متصدق. وأهل النّار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (¬2) والذين هم فيكم تبع أو (تبعا) - شكّ يحيا- لا يبتغون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب والشنظير: الفاحش ... والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله «وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل». وفي لفظ مسلم «من أهل الكتاب». أقول: اليهودي الذي لم يؤمن بعيسى بعد بعثة ¬

_ (¬1) - يثلغوا: يشدخوا. ويدعوه خبزة: أي مكسورة كالخبزة. (¬2) - لا زبر له: أي لا عقل له ينهاه عن المعصية.

5 - العهد الجديد بما يشمله أثر من آثار بولس مع أنه ليس من الحواريين

عيسى كافر، فبقايا أهل الكتاب هم الذين آمنوا بحق، وليس عندهم ناقض ينقض إيمانهم. 5 - [العهد الجديد بما يشمله أثر من آثار بولس مع أنه ليس من الحواريين] إن ما يسمى بالكتاب المقدس عند النصارى يتضمن ما يسمى بالعهد الجديد، والعهد الجديد يشمل الأناجيل الأربعة المعتمدة عند نصارى عصرنا، وأعمال الرّسل، والرسائل، والدّارس للعهد الجديد يلاحظ ملاحظة مهمّة هي: أنّ آثار عيسى، وحوارييه، ومدارسهم، وتلاميذهم، كلها تكاد تكون معدومة فيه، فالعهد الجديد كلّه إنما هو أثر مدرسة بولس وحدها، مع أن بولس ليس من الحواريين، ولم يتتلمذ على سمعان بطرس الحواريّ الأول إلا خمسة عشر يوما، على حسب ما يذكر في رسائله. وفي رسائله يذكر أنه كان يبشر بإنجيل خاص به لم يتلقه عن أحد، وإنما عن المسيح مباشرة. ويذكر في رسائله أنه اختلف مع برنابا، ويهاجم في هذه الرسائل سمعان بطرس ويتهمه، ويهاجم في رسائله الذين يختلفون معه. ويدافع في رسائله عن نفسه كثيرا أمام هجمات ضدّه، كل ذلك يشير إلى أن دين المسيح عليه السلام كما ورّثه لتلاميذه قد اغتاله بولس هذا، وأنّ مدرسة بولس هذه قد تغلبت واضطهدت في النهاية مخالفيها، وقتلتهم فيما بعد، ثم هي انقسمت على نفسها الانقسامات الكثيرة، والمتمثلة بالكنائس المتعددة التي تكفّر كل منها الأخرى، وتعاديها أشد العداء، نقول هذا كله بمناسبة ما مرّ معنا من آيات حول النصارى خاصة، وفي هذا العهد الجديد الذي هو كله أثر من آثار مدرسة بولس نجد كثيرا مثل تعبير أن (المسيح هو الرب، وهو الله) وكثيرا ما تجد (تعبير أبناء الله وأحبابه). ومن كلام بولس هذا كما ورد في رسالته إلى أهل غلاطية في الإصحاح الأول «وأعرفكم أيّها الإخوة الإنجيل الذي بشّرت به أنه ليس بحسب إنسان لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علّمته بل بإعلان يسوع المسيح» وفي الإصحاح الثاني منها. «ولكن لما أتى بطرس (تلميذ المسيح الأول) إلى أنطاكية قاومته مواجهة لأنه كان ملوما، ومن مقدمة رسالته إلى أهل أفسس. (نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح) ... ». ومن كلامه في الإصحاح الخامس من هذه الرسالة. «فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحبّاء ... ». والتعبير عن المسيح بالرب وإعطاؤه كل خصائص الألوهية وحقوقها أكثر من أن يحصى في العهد الجديد كله. ولننتقل الآن إلى الفقرة الثانية في هذا المقطع لتفسيرها تفسيرا حرفيا.

[سورة المائدة (5): آية 20]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أمرهم أن يذكروا نعمة الله إجمالا ثم ذكّرهم بثلاثة منها. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ كيوسف وموسى وهارون عليهم السلام. وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. أي: أحرارا بعد إذ كانوا مستعبدين مستذلين في أيدي القبط. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، وإغراق العدو، وإنزال المنّ والسّلوى، وتظليل الغمام، ونحو ذلك من الأمور العظام، والمعجزات الكبيرة. مما لم تؤته أمة من الأمم المعاصرة لهم. قال ابن كثير: وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجا، وأكرم نبيا، وأعظم ملوكا، وأغزر أرزاقا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع مملكة، وأدوم عزا. ثم بنى موسى عليه السّلام على تذكّر النعمة أمرا ونهيا فقال: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. أي: المطهّرة. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. أي: قسمها لكم أو سمّاها أو كتبها لكم في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ. أي: ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف سكّان الأرض المباركة أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. أي: فترجعوا خاسرين ثواب الدّنيا والآخرة والأرض المباركة هنا: هي أرض بيت المقدس وما حولها. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ الجبار: هو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها. أي: بالقتال حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها أي: بغير قتال. فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها. أي: بلا قتال فَإِنَّا داخِلُونَ إلى الأرض المباركة حينئذ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ. أي: من الذين يخشون الله فكأنه قال: رجلان من المتقين. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بنعمة التقوى والخوف منه. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ. أي: باب المدينة. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ أي: كانت الغلبة لكم. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إذ الإيمان به يقتضي التوكّل عليه والتوكّل: قطع العلائق القلبية مع غير الله وترك التملّق بالباطل للخلائق. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها نفوا دخولهم إليها في المستقبل على وجه التوكيد، ثم أكدوا النفي بذكر الأبد، ثم قيّدوه ببقاء الجبارين فيها. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. أي: ماكثون لن نذهب معك لقتال، فلما عصوه وخالفوه. قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ لنصرة دينك إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي. أي:

[سورة المائدة (5): آية 26]

هارون وهذا من البث والشكوى إلى الله التي بمثلها تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. أي: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله، وهو في معنى الدعاء عليهم، أو فباعد بيننا وبينهم، وخلّصنا من صحبتهم. قالَ فَإِنَّها. أي الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ. أي: لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبّد، كتبها لهم بشرط الجهاد فلما أبوا منعوا منها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. أي: يسيرون فيها متحيرين .. فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. أي فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون. فوائد: 1 - [أهمية الجهاد في سبيل الله] من ذكر الفسوق في نهاية هذه الفقرة مرتين نعرف مفتاح السّياق؛ فقد رأينا أن سورة المائدة كلها تفصّل من سورة البقرة الآيتين اللتين فيهما. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... ومن هذه المجموعة نفهم أن النّعمة ينبغي أن يقابلها جهاد، وأنّ ترك الجهاد حيث فرض فسوق، وأنه مع الفسوق لا اهتداء بكتاب الله. فالفقرة تبرز أهميّة الجهاد في قضيّة الإيمان، وأما محل هذه الفقرة في سياقها القريب، فإنها مرتبطة بنقض الميثاق، إذ من الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل نصرة الرسل، وقد تخلى بنو إسرائيل عن نصرة موسى عليه السلام فاستحقوا لقب الفسوق، واستحقوا العقوبة الدنيوية. 2 - [قصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم] قال ابن كثير تعليقا على هذه القصّة المذكورة في هذه المجموعة: وهذه القصّة تضمّنت تقريع اليهود، وبيان فضائحهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء، ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكليمه، وصفيّه من خلقه في ذلك، وهو يعدهم بالنّصرة والظّفر بأعدائهم، هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم فرعون، من العذاب، والنّكال، والغرق له، ولجنوده في اليمّ، وهم ينظرون؛ لتقرّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم. فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. هذا وهم في جهلهم يعمهون. وفي غيّهم يترددون. وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه. ويقولون مع ذلك نحن أبناء الله وأحباؤه، فقبّح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود. وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النّار ذات الوقود، ويقضى لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود.

3 - بعض ما ورد في التوراة عن الرجلين اللذين يخافان وقد أنعم الله عليهما

3 - [بعض ما ورد في التوراة عن الرجلين اللذين يخافان وقد أنعم الله عليهما] ينقل المفسرون في هذا المقام كلاما كثيرا، منه الخياليّ، ومنه الذي له أصل في كتب بني إسرائيل؛ مما يدلّ على أن علماءنا قد اطلعوا اطّلاعا متينا على كتب بني إسرائيل، والأصل الذي يمكن أن يكونوا قد نقلوا عنه هو كتب العهد القديم، أو التلمود. وهذه القصّة مذكورة في التوراة الحالية، في سفر العدد (الإصحاح الثالث عشر، والإصحاح الرابع عشر) ويشار إلى هذا الموضوع كثيرا في بقية التوراة، وتسمّي التوراة الحالية الرجلين المذكورين في القرآن وهما كالب بن يفنّة، ويشوع بن نون، ومما ورد في (الإصحاح الرابع عشر) «وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر» وفي أواخر سفر العدد، وفي سفر التثنية، قصة التيه، وما كان لهم فيه. ومن كلام موسى عليه السلام في التثنية (الإصحاح التاسع والعشرين). «فقد سرت بكم أربعين سنة في البريّة لم تبل ثيابكم عليكم ونعلك لم تبل على رجلك» وفي الإصحاح الحادي والثلاثين «وأوصى (أي موسى) يشوع بن نون وقال تشدّد وتشجّع لأنك أنت تدخل ببني إسرائيل الأرض التي أقسمت لهم عنها وأنا أكون معك» وتحدّد التوراة الحالية المكان الذي كان فيه التّيه وتشير إشارات إلى طبيعة التيه من مثل ما ذكر في سفر التثنية الإصحاح الثاني: «ثمّ تحوّلنا وارتحلنا إلى البريّة على طريق بحر سوف، كما كلّمني الرب، ودرنا بجبل سعير أياما كثيرة ثم كلّمني الرّبّ قائلا كفاكم دوران بهذا الجبل تحوّلوا نحو الشمال ... » وفي الإصحاح نفسه «الآن قوموا واعبروا وادي زارد. فعبرنا وادي زارد والأيام التي سرنا فيها من قادش برنيع حتى عبرنا وادي زارد كانت ثماني وثلاثين سنة حتى فني كل الجيل رجال الحرب من وسط المحلة ... ». وإذا لم يكن عندنا عن رسولنا عليه الصلاة والسلام تفصيل في هذه الأمور فإننا نكتفي بالإحالة على ما يمكن أن يكون مصدرا، مع المعرفة بحاله من احتمال التغيير والتبديل كما ذكرنا في سورة البقرة، والرجلان اللذان ذكرهما القرآن كانا اثنين من اثني عشر رجلا على عدد أسباط بني إسرائيل أرسلهم موسى عليه السلام، ليتجسسوا الأرض، ويعرفوها فثبط العشرة، وقال يوشع وكالب قولة الحق فكافأهما الله بأن كانا الوحيدين اللذين عاشا ليريا الفتح، وكافأ الله كلا منهما مكافأة خاصة. أما يوشع فكان خليفة موسى عليه السلام وكان على يده الفتح وأما كالب فقد كوفئ مكافئات تذكرها التوراة، ومن قارن بين موقف أصحاب موسى عليه السلام وأصحاب رسولنا صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر- كما سترى- عرف الفضل لأهله، والحكمة في عقوبتهم بالتيه أربعين

المعنى الحرفي للفقرة الثالثة

سنة أن يموت الجيل الذي خرج من مصر. الجيل الذي تربى في الذّل، والقهر، وطراوة العيش؛ لكي ينشأ خلالها جيل أشدّ، وأقسى، وأقدر على تحمل لأواء الجهاد. المعنى الحرفي للفقرة الثالثة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. أي: واتل على أهل الكتاب هذه القصة ليروا ما يجرّ إليه الحسد إذ جرّ في هذه القصة إلى قضيتين: قطع ما أمر الله به أن يوصل وهو الرحم، والقتل الذي هو أفظع أنواع الإفساد في الأرض، وإذا ربطنا هذا الموضوع في السياق الكلي الذي عرّفنا أن نقض الميثاق وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، قضايا مترابطة، وأنّ تحرير الإنسان منها هو الطريق إلى الهداية، وأن سورة المائدة تفصّل في ذلك، ثم ربطنا بين هذه الفقرة وبين مقطعها فإننا ندرك كيف أنّ هذه القصة تخدم أكثر من قضية لها صلة في السياق، فهي تخدم في موضوع تحرير الإنسان من الإفساد فى الأرض، وتخدم في موضوع نصرة الرّسل إذ لم يبتعد من ابتعد من أهل الكتاب عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أثرا عن الحسد، وتخدم في التحرير من قطع ما أمر الله به أن يوصل إلى غير ذلك: نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ. أي: خبرهما وأكثر المفسرين على أنّ المراد بهما هابيل وقابيل ابني آدم من صلبه ويشهد لذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سنّ القتل». بِالْحَقِّ. أي: خبرا ملتبسا بالصدق، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة، أو واتل عليهم وأنت محق صادق. وذكر الحق في هذا السياق مشعر بأنّ النّص القرآني لا يحتاج إلى ما يؤيده من غيره لأنه حجة على كل شئ، وليس من شئ حجة عليه. إِذْ قَرَّبا قُرْباناً القربان: ما يتقرّب به إلى الله من نسيكة أو صدقة ومعنى النص إذ قرب كل واحد منهما قربانه. فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما. أي: قربانه وهو هابيل. وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ أي: قربانه وهو قابيل. قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ القائل هو قابيل قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كأن هذا جواب السؤال قال لم تقتلني؟ قال لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني. فقال: إنما يتقبل الله من المتقين. وأنت غير متّق. فإنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي لَئِنْ بَسَطْتَ. أي: مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ. أي: بماد يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ. أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، ثمّ بيّن علّة امتناعه عن القتل بقوله: إِنِّي

[سورة المائدة (5): آية 29]

أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ. أي: أن تتحمّل أو ترجع بِإِثْمِي. أي: بإثم قتلي إذا قتلتني. وَإِثْمِكَ الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد. فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ. أي: النار جزاؤهم. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ. أي: فحسّنته له وسوّلته له وشجّعته فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ بسفكه الدم الحرام، وتذكّرنا كلمة الخاسرين هنا بالسياق القرآني العام إذ تنتهي آيتا البقرة اللتان هما محور سورة المائدة بلفظ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* دلّ ذلك على أنّ ما فعله قابيل هو ذروة الضّلال إذ هو نقض ميثاق، وقطع رحم، وإفساد في الأرض، ومن ثمّ كان من الخاسرين فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ. أي: الله أو الغراب. كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ. أي: عورته وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي. أي: بدفنه. فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على عجزه أو على قتله، وإذا كان ندمه على قتله- والنّدم في شريعتنا توبة- فهل يعني هذا أنّ النّدم لم يكن توبة يومها؟ أو أنه توبة ولكن الله لم يقبل توبته لفظيع جنايته وسنّته هذه الجريمة؟ كل يحتمله المعنى. فوائد: [حول قصة ابني آدم وآثار حولها، ومسألة في الدفاع عن النفس] 1 - يذكر المفسرون كلاما كثيرا حول هذه القصة وحيثياتها ولم نجد في العهد القديم والجديد ما نذكره حول السّبب الذي من أجله كان القربان ولكن ابن كثير ينقل بإسناد جيد عن ابن عباس كلاما نذكره للاستئناس إذ ليس عندنا نص عن رسولنا عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن، وهذه رواية ابن عباس كما يرويها سعيد بن جبير. «قال نهى (أي آدم) أن تنكح المرأة أخاها توأمها. وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك، وأنكحك أختي. فقال: لا أنا أحق بأختي، فقرّبا قربانا فتقبّل من صاحب الكبش ولم يتقبّل من صاحب الزرع فقتله» وقال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرّج يعني الورع. 2 - بمناسبة ذكر هذه القضية يثير الفقهاء مسألة، وهي: ما حكم دفاع الإنسان

عن نفسه؟. فبعض الفقهاء يرى أن دفاع الإنسان عن نفسه واجب. وبناء عليه، فإنهم يعلّلون عدم دفع هابيل عن نفسه، إما لأنّ الدّفع لم يكن مباحا، أو أن قابيل قتله غدرا. 3 - بمناسبة هذه القصة إليك هذه الأحاديث التي لها صلة بموضوعها: أ- قال ابن كثير: وقد ورد في الحديث أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا. ب- روى عبد الرزاق عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمّة مثلا فخذوه بالخير منهما». ج- في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه». د- قال الإمام أحمد إنّ سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من السّاعي». قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ فقال «كن كابن آدم». هـ- قال الإمام أحمد: إنّ أبا ذر قال: ركب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حمارا وأردفني خلفه وقال: يا أبا ذر أرأيت إن أصاب النّاس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال «تعفّف». قال: «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب النّاس موت شديد يكون البيت فيه (يعني القبر) بالعبد كيف تصنع؟» قلت الله ورسوله أعلم. قال: «اصبر». قال: «يا أبا ذر أرأيت إن قتل النّاس بعضهم بعضا، حتى تغرق حجارة الزيت (موضع كان بالمدينة) من الدّماء كيف تصنع؟» قلت، الله ورسوله أعلم. قال: «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك». قال: فإن لم أترك؟ قال: «فأت من أنت منهم فكن منهم». قال: فآخذ سلاحي؟ قال: «فإذا تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك» رواه مسلم.

[سورة المائدة (5): آية 32]

و- أخرج ابن مردويه: عن منصور عن ربعيّ قال: كنّا في جنازة حذيفة فسمعت رجلا يقول. سمعت هذا يقول في ناس مما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لئن اقتتلتم لأنظرنّ إلى أقصى بيت في داري فلألجنّه، فلئن دخل عليّ فلان، لأقولن: ها، بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم». وقال أيوب السختياني: إنّ أول من أخذ بهذه الآية من الأمّة لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ لعثمان بن عفّان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي: بسبب القتل المذكور. كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ خصّهم بالذكر وإن كان حكما مشتركا في كل شريعة أنزلها الله لأن التوراة أول كتاب سماوي نصّ عليه. أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ. أي: من قتل نفسا بغير قتل نفس. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ. أي: أو بغير فساد في الأرض كالشرك، وقطع الطريق، وكل فساد يوجب القتل. فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً. أي: في الذنب لأن الاعتداء على نفس. اعتداء على النّفوس كلها. وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. أي: ومن استنقذها من أسباب الهلكة، من قتل، أو غرق، أو هدم، أو غير ذلك فكأنّما أحيا النّاس، جعل قتل الواحد كقتل الجميع، وكذلك الإحياء، ترغيبا وترهيبا، لأنّ المتعرض لقتل النفس إذا تصوّر أنّ قتلها كقتل النّاس جميعا. عظم ذلك عليه فثبّطه، وكذا الذي أراد إحياءها، إذا تصوّر أنّ حكم إحياء نفس، حكم إحياء جميع الناس رغب في إحيائها قال قتادة: عظيم والله وزرها، عظيم والله أجرها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي: بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد مجئ الرسل بالآيات فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي: لمتجاوزون الحدّ، ومن ذلك القتل، لا يبالون بفظاعته؛ حتى إنهم قتلوا الأنبياء. وبعد أن قرّر الله شناعة القتل إلّا في حالتين: حالة القصاص، وحالة الإفساد في الأرض. قرّر في الآية التالية: أنّ الذين يحاربون الله ورسوله، ويفسدون في الأرض، يستحقون القتل فقال. إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ بمحاربة دينه، وكتابه، وشريعته، وأوليائه. وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً. أي: ويسعون في الأرض مفسدين، بالصدّ عن دين الله، والسير في مسالك الشياطين. أَنْ يُقَتَّلُوا دون صلب وقطع. أَوْ يُصَلَّبُوا مع القتل. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ. أي: مختلفة اليد اليمين مع الرجل اليسرى. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. أي: أن يحبسوا ذلِكَ. أي: المذكور من العقوبات. لَهُمْ

[سورة المائدة (5): آية 34]

خِزْيٌ فِي الدُّنْيا. أي: ذلّ وفضيحة. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ النّار. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. أي: فتسقط عنهم هذه الحدود إلا ما هو حق العباد. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم بالتّوبة ويرحمهم فلا يعذبهم. فوائد [هامة: حول آية الحرابة وبعض أحكامها] 1 - قصة ابني آدم هذه موجودة في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من أسفار التوراة الحالية وفيه: «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قابين .. ثم عادت فولدت أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قابين عاملا في الأرض، وحدث بعد أيام أن قابين قدّم من أثمار الأرض قربانا للربّ، وقدّم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الربّ إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قابين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قابين .. وحدث إذ كانا في الحقل أن قابين قام على هابيل أخيه وقتله .. » والملاحظ أن القربان لم يكن سببه الزواج في هذه الرواية وأن القاتل اسمه قابين» بالنّون. 2 - في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج في التوراة هذا القول «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا». 3 - قال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ... من استحلّ دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا، ومن حرّم دم مسلم فكأنّما حرّم دماء النّاس جميعا» وقال ابن المبارك ... عن سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال: أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا». 4 - روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله اجعلني على شئ أعيش به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا حمزة نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال بل نفس أحييها قال عليك بنفسك». 5 - في فهم آية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... اتجاهان: الاتجاه الذي يتوسّع في فهم معنى المحاربة والإفساد، فالمحاربة في الأصل: هي المضادّة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد

في الأرض: يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب إنّ قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، فالذين توسعوا في الفهم أعطوا الإمام حق التعزير في كل جريمة، هي من هذا الباب، وأطلقوا يده في العقوبة لاستئصالها بالقتل وبغيره، مما هو مذكور في الآية. والاتجاه الثاني: الذي ضيّق فهم الآية فحملها على قطع الطريق، وحمل العقوبات فيها على تصرفات، فإن قتل فقط قتل، وإن قتل وأخذ المال، صلب، وإن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخاف الناس فقط سجن، والذين توسعوا في فهم الآية لا ينفون انطباقها على ما ذهب إليه الآخرون، بل يثبتون ما أثبتوه ويتوسعون. وهذه الآية هي أصل حدّ الحرابة الذي يذكر عادة في كتب الفقه في كتاب الحدود فليراجع هناك. 6 - في سبب نزول آية الحرابة نذكر الروايات التالية: روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك «أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض (أي المدينة)، وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: «ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها» فقالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فبعث في آثارهم فأدركوا فجئ بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا. لفظ مسلم. (من عكل أو عرينة)، وفي لفظ، (وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون). وفي لفظ لمسلم، (ولم يحسمهم)، وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وقال حمّاد بن سلمة عن أنس بن مالك: أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصحّوا فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آثارهم فجئ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم وألقاهم في الحرّة، قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا، ونزلت إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه، وقال الترمذي حسن صحيح. 7 - وهل آية المحاربة عامّة في المشركين والمسلمين؟ أو أنها خاصة في الكافرين،

فمن تاب منهم من قبل أن نقدر عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ، إن قتل أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، ثم تاب لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصاب. قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات. 8 - احتج بعموم آية المحاربة على أنّ حكم المحاربة لمن قطع السبيل وأخاف النّاس في الأمصار وفي السبلان على السواء، لقوله تعالى وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يقتل الرجل، فيخدعه حتى يدخله بيتا، ويأخذ ما معه، أن هذه محاربة، ودمه إلى السلطان، لا إلى وليّ المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأمّا في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق؛ لبعده ممّن يغيثه ويعينه. 9 - قال ابن عباس وغيره: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السّبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وقال الجمهور هذه الآية منزلة على أحوال من إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض. 10 - قال ابن كثير: واختلفوا هل يصلب حيا ويترك يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا بغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرّر في موضعه. وبالله الثقة وعليه التكلان. 11 - وفي قوله تعالى: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قال ابن كثير، قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام. رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك. وسعيد بن جبير. والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس: وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال الشعبي: ينفيه- كما قال ابن هبيرة- من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفى من جند إلى

جند سنين، ولا يخرج من دار الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: أن ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير أنّ المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه. 12 - يلاحظ من الآية أنّ جزاء الحرابة جزاء دنيوي وأخروي، فأمّا في أهل الكفر فظاهر، وأما في أهل الإسلام فهذا محمول على من استحلّ الحرابة فكفر؛ لأنّ النّصوص تفيد أنّ المسلم إذا أصاب حدا فأقيم عليه فالله لا يجمع عليه عقوبتين. ومن النّصوص في هذا ما ورد في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخذ على النّساء ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا. ولا يعضه (¬1) بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفّارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه». وعن عليّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أذنب ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثنّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شئ قد عفا عنه». رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وبعضهم حمل اجتماع العقوبتين في أهل الإسلام إذا كانت حرابتهم أثرا عن عقيدة فاسدة كحال الخوارج. 13 - من قطع السبيل من أهل الإسلام إذا تاب قبل القدرة عليه، وكان قد قتل وأخذ المال في شأنه اتجاهان: الاتجاه الأول: عدم سقوط حق العباد وهو الذي ذكرناه في التفسير الحرفي وهو اتجاه الحنفية. الاتجاه الثاني: اتجاه الشافعية أنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان: قال ابن كثير: وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة ثم نقل ثلاثة قصص تفيد هذا وهذه هي: أ- أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلّم رجالا من قريش منهم الحسن بن ¬

_ (¬1) أي: لا يرميه بالبهتان والكذب.

عليّ، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلّموا عليا فيه فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس الهمذاني فخلّفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قال: فكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر. وكذا رواه ابن جرير عن الشعبي وزاده: فقال حارثة بن بدر: ألا بلّغن همدان إمّا لقيتها … على النأي لا يسلم عدو يعيبها لعمر أبيها إنّ همدان تتقي ال … إله ويقضي بالكتاب خطيبها ب- روى ابن جرير عن الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضى الله عنه، بعد ما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي. وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو موسى: إنّ هذا فلان بن فلان وإنّه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنّه تاب من قبل أن تقدروا عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه. فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنّه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ج- روى ابن جرير عن موسى بن إسحاق المدني أن عليا الأسدي حارب وأخاف وأصاب الدّم والمال، فطلبه الأئمة والعامّة، فامتنع ولم يقدروا عليه، حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية:. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فوقف عليه فقال: يا عبد الله. أعد قراءتها فأعادها عليه؛ فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السّحر فاغتسل، ثمّ أتى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الصّبح، ثمّ قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه. فلما أسفروا عرفه الناس فقاموا إليه. فقال: لا سبيل لكم عليّ. جئت تائبا من قبل أن تقدروا عليّ، فقال أبو هريرة: صدق وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية. فقال: هذا عليّ جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال: وخرج عليّ تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقرّبوا سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقّها الآخر فمالت بهم فغرقوا جميعا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: في المقطع الأول رأينا أمرا بالوفاء بالعقود، وأمرا بالطهارة للصلاة، وأمرا بتذكر نعم الله والوفاء بميثاقه، وأمرا بالتوكل، وكل هذا ينتظمه قضية الإيمان والتسليم كمقدمتين رئيسيتين للاهتداء بكتاب الله. وفي المقطع الثاني ثلاث فقرات: الفقرة الأولى في المواثيق التي أخذت على اليهود والنّصارى، وكيف نقضوها وما عوقبوا به لذلك وفيها دعوة أهل الكتاب للدخول في دين الله. وفيها نماذج من عهود نقضها اليهود، ونماذج من عهود نقضها النصارى. ثم تأتي الفقرة الثانية: وفيها نموذج على عهد نقضه اليهود وهو نصرة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثمّ تأتي الفقرة الثالثة: وفيها قصة ابني آدم، وما رتب الله عليها من أحكام، وفيها جزاء المحاربين لله ورسوله المفسدين في الأرض، وينتظم هذه الفقرات أنها حديث عن نقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وهي القضايا الرئيسية التي تحول بين الإنسان وبين الاهتداء بكتاب الله، وخلال ذلك ذكرت لبعض هذا الانحراف، وهنا نحب أن نسجل ملاحظة هي: أنك تجد السياق القرآني يحدثك عن المعنى مرة بعد مرة، وفي كل مرة يعطيك جديدا، ويأتيك التفصيل شيئا فشيئا، وبشكل معجز عجيب، فكأن السياق القرآني يربي عند الإنسان المعنى شيئا فشيئا. والمهم أن نلاحظ أنّه من بداية السياق حتى نهاية هذا المقطع تكررت كلمة الخاسرين، وتكررت كلمة الفسق والفاسقين، وتكررت كلمة نقض الميثاق، وكلمة الإفساد في الأرض، وهي كلمات رئيسية في محور السورة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لقد ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ في الآية الخامسة والعشرين وورد قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ في الآية السادسة والعشرين. ولقد وردت كلمة الخاسرين في الآية الخامسة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ

نقول: عن صاحب الظلال حول تسلل الانحراف إلى عقائد النصارى

حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ووردت في الآية (21) وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ووردت في الآية (30) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ. ولقد وردت قضية الميثاق والإفساد في الأرض كما رأينا. أفلا يكون هذا دليلا على ما ذهبنا إليه من أنّ محور السورة ما ذكرنا. وبعد المقطع الأول والمقطع الثاني يأتي مقطع ثالث يحدثنا عما تنحسم به مواد الإفساد في الأرض، بعد ما سبق من كلام عن حدّ الحرابة، وبعد ما جاء من دروس في تقاعس بني إسرائيل عن الجهاد. وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن المقطع الثالث فلننقل بعض النقول ولنذكر بعض الفصول التي لها صلة في المقطع الثاني: نقول: [عن صاحب الظلال حول تسلل الانحراف إلى عقائد النصارى] 1 - رأينا أن الفقرة الأولى من المقطع الثاني كان فيها حديث عن النصارى وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ*. وقد تحدث صاحب الظلال حديثا طويلا حول الانحراف الذي تسلّل إلى النصارى ومراحله فقال: «إن الذي جاء به عيسى- عليه السلام- من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول. والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول .. ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات، بسبب دخول الوثنيين في النصرانية؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها. ولم تجئ هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة؛ ولكنها دخلت على فترات؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير، الذي تحار فيه العقول. حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها!. وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح- عليه السلام- في تلامذته وفي أتباعهم. وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت- وهو إنجيل برنابا- عن عيسى- عليه السلام- يذكره بوصفه رسولا من عند الله، ثم وقعت بينهم الاختلافات. فمن قائل: إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل. ومن قائل: إنه رسول نعم، ولكن له بالله صلة خاصة. ومن قائل: إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب، ولكنه على هذا مخلوق لله. ومن قائل:

إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب .. ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية «مجمع نيقية» الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة. قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية. «وكانوا مختلفين في الآراء والأديان فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله. وهم «البربرانية». ويسمون «الريمتيين». ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها. وهي مقالة «سابليوس». وشيعته. ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء من الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة «إليان» وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منّا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي «ابن الله» ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس. وهي مقالة «بولس الشمشاطي» بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم «البوليقانيون» ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تنزل: صالح، وطالح، وعدل بينهما. وهي مقالة «مرقيون» اللعين وأصحابه! وزعموا أن «مرقيون» هو رئيس الحواريين وأنكروا «بطرس». ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح وهي مقالة «بولس الرسول» ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا. وقد اختار الإمبراطور الروماني «قسطنطين» الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم، وشرّد أصحاب سائر المذاهب، وبخاصّة القائلين بألوهية الأب وحده، وناسوتية المسيح. وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه: «إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه. وأنه لم يوجد قبل أن يولد. وأنه وجد من لا شئ. أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الأب. وكل من يؤمن أنه خلق، أو من يقول: إنه قابل للتغيير ويعتريه ظل دوران». ولكن هذا المجتمع بقراراته لم يقض على نحلة الموحّدين أتباع «آريوس» وقد غلبت

على القسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، ومصر. ثم ثار خلاف جديد حول «روح القدس» فقال بعضهم: هو إله، وقال آخرون: ليس بإله! فاجتمع «مجمع القسطنطينية الأول» سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر. وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية: «قال ثيموثاوس بطريرك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله. وليس روح الله شيئا غير حياته. فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به. ومن كفر به وجب عليه اللعن»!!! وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية. وتم «الثالوث» من الأب. والابن. وروح القدس .. ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية .. أو اللاهوت والناسوت كما يقولون .. فقد رأى «نسطور» بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة. فأقنوم الألوهية من الأب وتنسب إليه، وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم، فمريم أم الإنسان- في المسيح- وليست أم الإله! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم- كما نقله عنه ابن البطريق: «إن الإنسان الذي يقول: إنه المسيح .. بالمحبة متحد مع الابن .. ويقال: إنه الله وابن الله، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة». ثم يقول: «إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حدّ ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة، أو هو ملهم من الله، فلم يرتكب خطيئة، وما أتى أمرا إدّا». وخالفه في هذا الرأي أسقف رومة، وبطريرك الإسكندرية، وأساقفة أنطاكية، فاتفقوا على عقد مجمع رابع وانعقد «مجمع أفسس» سنة 431 ميلادية. وقرر هذا المجمع- كما يقول ابن البطريق: «أن مريم العذراء والدة الله. وأن المسيح إله حق وإنسان، معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم» .. ولعنوا نسطور!. ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد، انعقد له «مجمع أفسس الثاني»

فصول

وقرر: «أن المسيح طبيعة واحدة، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت». ولكن هذا الرأي لم يسلم، واستمرت الخلافات الحادّة، فاجتمع مجمع «خلقيدونية» سنة 451 وقرر: أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة، وأن اللاهوت طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحدها، التقتا في المسيح» .. ولعنوا مجمع أفسس الثاني!. ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع. ووقعت بين المذهب المصري «المنوفيسية» والمذهب «الملوكاني» الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية. ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح؛ والخلافات الدامية، والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف، وما تزال إلى اليوم ثائرة .. وتجئ الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذه القضية؛ ولتقول كلمة الفصل؛ ويجئ الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة». لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ* .. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. فصول: فصل في تصحيح خطأ: بمناسبة قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ رأينا كيف أنّ هناك نصوصا تحضّ على التزام موقف ابن آدم القتيل، ومن دراسة لهذه النصوص نجد أنها فتاوى خاصة، في فتن خاصة لأشخاص بأعيانهم، أو أنّها فتاوى تنطبق على حالات بعينها، والعجيب أن يرى بعضهم في هذه النصوص دليلا له على تعطيل مبدأ الجهاد، بأن يخرج هذه النصوص عن مدلولها الخاص؛ فيعممها على حالات لا تنطبق على ما وردت في شأنه هذه النّصوص، وهو موضوع سنرى كلاما كثيرا فيه في هذه السلسلة كلها بحيث توضع النصوص في محلها. فصل: في موضوع الحقّ العام: نما في العالم كله موضوع الحق العام في الفقه القانوني، وإنه لمن إعجاز هذا القرآن

فصل في حكمة تنزل الأحكام بحسب الحوادث

أن فتح الباب لهذا النّوع من الفقه في كثير من نصوصه من مثل قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وموضوع الحق العام نجده في كثير من نصوص الإسلام وفي مسائل الفقه الإسلامي. فصل في حكمة تنزل الأحكام بحسب الحوادث: من الملاحظ أنّ القرآن نزل منجّما، ولم ينزل مرة واحدة، ولذلك حكمه الكثيرة، ومن جملة هذه الحكم أن تنزل النصوص لتعالج الأمر الواقع فيكون استقبال النّصوص في هذه الحالة جامعا في طيّاته التسليم الإيماني، مع القناعة العقلية الكاملة، مع الاستعداد النفسي للتنفيذ المباشر للحكم. إنّه عند ما تقع حادثة العرنيين الفظيعة وتنزل الآية التي تذكر حدّ الحرابة فذلك درس إلى قيام الساعة يجعل الحدّ له مبرراته الواقعية، ومن هنا ينبغي أن نأخذ درسا في العمل الإسلامي اليومي، بحيث تكون الحادثة دليل القاعدة العملية في الحركة وفي فقه الدعوة، والتنظيم والتعامل. ***

المقطع الثالث يمتد هذا المقطع من الآية (35) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو

المقطع الثالث يمتدّ هذا المقطع من الآية (35) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو: 5/ 40 - 35 كلمة في المقطع: هذا المقطع هو بمثابة امتداد للمقطع السابق من حيث إنه يأمر بحسم مادة الفساد في الأرض بجهاد الكافرين، وقطع يد السارق، وبمناسبة الأمر بالجهاد يذكّرنا الله- عزّ وجل- أنّ عذاب الكافرين يوم القيامة هو أكبر بكثير ممّا يصيبهم بسبب الجهاد؛ لأن جرمهم فظيع. وإذ يأمرنا الله بقطع يد السارق، عقوبة عادلة على جريمة، فإنه يفتح له باب التوبة، وصلة المقطع بمحور السورة من حيث إنه يعرض علينا مظاهر من نقض العهد والإفساد. وأي نقض للعهد أكبر من الكفر، ولا شك أنّ السرقة من الإفساد في الأرض. وبعد هذا كله فلنلاحظ ما يلي: في محور السورة من سورة البقرة وصف الله- عزّ

المعنى العام للمقطع

وجل- الفاسقين بأنهم: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* ويبدأ هذا المقطع بذكر طريق الفلاح وهو اجتماع التقوى والعمل والجهاد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل أنّ السورة تسير على خطين: خط تبيان الفسوق الذي يوصل صاحبه إلى الكفر والنّفاق، وخط تبيان المعاني التي إذا تحقق بها الإنسان خرج عن الفسوق وتحقق بالتقوى. المعنى العام للمقطع: يقول الله تعالى آمرا عباده بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم، وترك المنهيات، وأمرهم مع التقوى أن يتقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، ثم أمرهم بقتال الأعداء من الكفّار، والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، والتّاركين للدّين القويم، ورغبهم في ذلك بما أعدّه للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة، التي لا تبيد، ولا تحول، ولا تزول، في الغرف العالية الرّفيعة الآمنة، الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم ولا يبأس، ويحيا ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثم أخبر تعالى بما أعدّ لأعدائه الكفّار من العذاب والنّكال يوم القيامة، حتى لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبا، وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقّن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه، ولا محيص له ولا مناص، وعذابهم في جهنم موجع، وهم لا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من سكرته، وأليم مسّه، ولا سبيل لهم إلى ذلك، بل عذابهم دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها. وفي هذا السياق يأمر تعالى بقطع يد السارق والسارقة؛ مجازاة لهما على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك، ذلك حكم الله العزيز في انتقامه، الحكيم في أمره ونهيه وشرعه وقدره. ثم بيّن تعالى أن من تاب بعد سرقته، وأناب إلى الله فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأمّا أموال النّاس فلا بد من ردّها إليهم، أو ردّ بدلها عند الجمهور، ثم ذكّر الله- عزّ وجل- بمالكيته للسماوات والأرض، فهو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه الذي لا معقّب لحكمه، وهو الفعّال لما يريد؛ فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء وهو على كل شئ قدير.

المعنى الحرفي

المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... باجتناب ما نهى وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الوسيلة في اللغة: هي كل ما يتوسل به، أي يتقرّب من قرابة، أو صنيعة أو غير ذلك فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات والقربات وقد أطبق المفسرون على أنّ المراد هنا أن: تقرّبوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جعل الطريق إلى الفلاح التقوى والعمل الصالح والجهاد، فمن فرّط في واحد منها فرّط في الفلاح نفسه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من صنوف الأموال وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ. أي: وأنفقوه ليجعلوه فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: موجع ولا سبيل لهم إلى النّجاة بوجه يُرِيدُونَ. أي: يطلبون ويتمنّون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ. أي: دائم. فوائد: [حول معنى الوسيلة وحديث عن خروج بعض أهل النار منها] 1 - الوسيلة: هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضا علم على أعلى منزلة في الجنّة وهي منزلة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وداره في الجنة أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال حين يسمع النّداء: اللهم رب هذه الدّعوة التامّة، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إلّا حلّت له الشّفاعة يوم القيامة». وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ؛ فإنّه من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة». 2 - روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شرّ مضجع، فيقال: هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال: فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار».

[سورة المائدة (5): آية 37]

3 - أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد الفقير قال: جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدّث، فحدّث أن ناسا يخرجون من النار قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد؛ تزعمون أنّ الله يخرج ناسا من النار، والله يقول يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها الآية .. فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم فقال: دعوا الرجل، إنّما ذلك للكفار فقرأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ حتى بلغ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ. أما تقرأ القرآن؟ قلت بلى قد جمعته قال: أليس الله يقول: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (الإسراء: 79) فهو في ذلك المقام، فإنّ الله تعالى يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم، قال: فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذّب به. وأخرج ابن مردويه عن طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كلّ آية أقدر عليها، يذكر الله فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله، وأعلم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منّي؟ إنّ الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذّبوا، ثم أخرجوا منها، ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرجون من النار بعد ما دخلوا». ونحن نقرأ كما قرأت. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما والمراد اليمينات من الرسغين جَزاءً بِما كَسَبا. أي: مجازاة لهما على صنيعهما نَكالًا مِنَ اللَّهِ. أي: عقوبة منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. أي: غالب لا يعارض في حكمه، حكيم فيما حكم، من قطع يد السارق والسارقة فَمَنْ تابَ. أي: من السرقة مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. أي: من بعد سرقته وَأَصْلَحَ بردّ المسروق فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ. أي: يقبل توبته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: يغفر ذنبه ويرحمه أَلَمْ تَعْلَمْ يا محمد أو يا أيها الإنسان أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقد شاء أن يعذّب من مات على الكفر وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وقد وعد أن يغفر لمن تاب عن الكفر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التعذيب والمغفرة وغيرهما قَدِيرٌ. أي: قادر وحكمة تقديم التعذيب على المغفرة هنا تقدّم السرقة على التوبة والله أعلم.

فوائد: حول حد السرقة

فوائد: [حول حد السرقة] 1 - يلاحظ أنه في موضوع السرقة ذكر السارق، ثم السارقة، وفي موضوع الزنا ذكر المرأة، ثم الرجل، وذلك لأنّ السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر، فقدم ذكر السارق وأخّر الزاني؛ لأن الزنا ينبعث من الشهوة، وهي في النساء أوفر، وقطعت اليد لأنها آلة السرقة، ولم تقطع آلة الزنا تفاديا عن قطع النسل. 2 - ذهب الظاهرية إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرا، لعموم الآية، وأما الجمهور فاعتبروا النّصاب في السّرقة فعند الإمام مالك النصاب: ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها، أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع. وذهب الشافعي إلى أنّ الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار، أو ما يساويه من الأثمان، أو العروض فصاعدا. وذهب الإمام أحمد إلى أنّ كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مردّ شرعي، فمن سرق واحدا منهما، أو ما يساويه قطع. وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه فذهبوا إلى أنّ النّصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة أو ما يعادلها، واحتج كلّ لما ذهب إليه بأدلة. 3 - أورد بعض الزنادقة إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة بربع دينار ونظم في ذلك شعرا فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت … ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له … وأن نعوذ بمولانا من النار فأجيب: عزّ الأمانة أغلاها، وأرخصها … ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري 4 - من حوادث السرقة في عهده عليه الصلاة والسلام ما نراه في هذه الأحاديث: روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى بسارق قد سرق شملة فقال: ما إخاله سرق! فقال السارق: بلى يا رسول الله قال: «اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به» فقطع، فأتي به فقال: «تب إلى الله. فقال: تبت إلى الله فقال: «تاب الله عليك». روى ابن ماجه أنّ عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني، فأرسل إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا

كلمة في السياق

افتقدنا جملا لنا فأمر به فقطعت يده قال ثعلبة- أحد رواة الحديث-: أنا انظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهّرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار. وثبت في الصحيحين عن عائشة أنّ قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّمه فيها أسامة بن زيد؛ فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله عزّ وجل؟. فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشيّ قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإنّما هلك الذين من قبلكم أنهّم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا لفظ مسلم. وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة سنراها في كتاب الأساس في السنة وفقهها إن شاء الله. كلمة في السياق: 1 - جاء هذا المقطع بعد الكلام عن حدّ الحرابة وشريعة القصاص، فهو استمرار لما تنحسم به مادّة الفساد، ولذلك كان فيه أمر بالجهاد، وأمر بقطع يد السارق والسارقة. 2 - في الفقرة السابقة على المقطع ورد قوله تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فحتى لا يفهم فاهم أن الجهاد الذي فيه إزهاق الأنفس داخل في قضية الاعتداء على الحياة، جاء هذا المقطع آمرا بالجهاد، ومتحدثا عن العقوبة الأخروية للكافرين مما يعرف به فظاعة جرم الكافرين، فإذا جاهدهم المسلمون، وقتلوهم فليس ذلك إلا بسبب فظاعة جرمهم. 3 - يأتي هذا المقطع بعد المقطع الذي تحدث عن نكول بني إسرائيل عن الجهاد: حيث قال موسى عليه السلام «وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» وهاهنا يبين

فصول ونقول

المقطع أن طريق الفلاح هو الجهاد، مع التقوى، والعمل الصالح. إذا اتضحت هذه الأمور يكون قد وضح لدينا صلة هذا المقطع بما قبله فلنتحدث عن صلة المقطع بمحور السورة، وارتباطاته، وامتداداته: جاءت مقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، ثم جاء بعد ذلك مقطع الطريقين، ليبين طريق الفلاح، وطريق الخسران، وبعد أن جاء في المقطع الأول من سورة المائدة، وفي المقطع الثاني ما له صلة بالعقود، والفسوق، والإفساد في الأرض، والخسران، وغير ذلك مما له صلة في المحور، جاء المقطع الثالث يدعونا إلى سلوك طريق الفلاح، ويحدثنا عن عذاب الكافرين، وذلك يشبه ما ورد في مقدمة سورة البقرة، وبذلك يرتبط المحور بما سبقه من سورة البقرة، ولكن من خلال سياق جديد. فهناك تقدّمت معان حتى أوصلتنا إلى موقع. وهاهنا يكون العرض من الموقع حتى نستقر على البداية، وكأنه بذلك تنتهي جولة أولى في السورة لتبدأ جولة جديدة، أو ينتهي قسم ليبدأ قسم جديد، ولذلك فإنّ المقطع الرابع في السورة يبدأ بنداء موجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ فكأننا أمام قسم جديد، أو جولة جديدة، ولذلك فقد أصبح بإمكاننا أن نقول: إن المقاطع الثلاثة الأولى في السورة تشكل قسمها الأول. والسّورة مع أنها أقسام واضحة المعالم، فقد آثرنا أن نعرضها على أنها مقاطع، مع إشارتنا إلى نهاية القسم، وبداية القسم الجديد، وقبل أن ننتقل إلى المقطع الرابع الذي هو بداية القسم الثاني فلنعقد فصولا ولننقل نقولا. فصول ونقول: فصل في التوسل: إجماع المفسرين منعقد على أنّ المراد بالوسيلة في الآية وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ هو العمل الصالح قال الألوسي: واستدل بعض النّاس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب، أو الميت من عباد الله الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم

نقل: عن صاحب الظلال حول آية السرقة

بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور». وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل». وبهذه المناسبة تكلّم الألوسي كلاما طويلا في تحقيق الحقّ في هذه المسألة وغيرها من وجهة نظره وبعد أن أجاز التوسّل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيا وميتا وعلّل لذلك، مع ترجيحه التوسّل بأسماء الله تعالى وتفضيله إياه- والقضية كما نعلم فيها كلام كثير- بعد هذا كلّه قال: «إن النّاس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء، الأحياء منهم والأموات، وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شئ، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه، فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعوّ الحي الغائب- أو الميت المغيب يعلم الغيب- أو يسمع النداء ويقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه. ولا فتح فاه وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ*. فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني، الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا المنافق فجاءوا إليه، فقال: «إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله تعالى». لم يشك في أنّ الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرنّك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه- عزّ وجل- وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزيّن له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصور وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك. ا. هـ كلام الألوسي. نقل: [عن صاحب الظلال حول آية السرقة] بمناسبة قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .. يقول صاحب

الظلال: «إن المجتمع المسلم يوفر لأهل دار الإسلام- على اختلاف عقائدهم- ما يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية .. إنه يوفر لهم ضمانات العيش والكفاية. وضمانات التربية والتقويم. وضمانات العدالة في التوزيع. وفي الوقت ذاته يجعل كل ملكية فردية فيه تنبت من حلال؛ ويجعل الملكية الفردية وظيفة اجتماعية تنفع المجتمع ولا تؤذيه .. ومن أجل هذا كله يدفع خاطر السرقة عن كل نفس سوية .. فمن حقه إذن أن يشدد في عقوبة السرقة، والاعتداء على أمن الجماعة .. ومع تشديده فهو يدرأ الحد بالشبهة؛ ويوفر الضمانات كاملة للمتهم حتى لا يؤخذ بغير الدليل الثابت .. ولعله من المناسب أن نفصل شيئا في هذا الإجمال .. إن النظام الإسلامي كل متكامل، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر في طبيعة النظام وأصوله ومبادئه وضماناته. وبالنسبة لموضوع السرقة، فإن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد في المجتمع المسلم في دار الإسلام، في الحياة. وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة .. من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه، ويجد فيه السكن والراحة .. من حق كل فرد على الجماعة- وعلى الدولة النائبة عن الجماعة- أن يحصل على هذه الضروريات .. أولا عن طريق العمل- ما دام قادرا على العمل- وعلى الجماعة- والدولة النائبة عن الجماعة- أن تعلّمه كيف يعمل، وأن تيسر له العمل وأداة العمل .. فإذا تعطل لعدم وجود العمل، أو أداته، أو لعدم قدرته على العمل، جزئيا أو كليا، وقتيا أو دائما. أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته. فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه: أولا من النفقة التي تفرض له شرعا على القادرين في أسرته. وثانيا: على القادرين من أهل محلته. وثالثا: من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة. فإذا لم تكف الزكاة، فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين؛ بحيث لا يتجاوز هذه الحدود، ولا تتوسع في غير ضرورة، ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال. والإسلام كذلك يتشدد في تحديد وسائل جمع المال؛ فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا من حلال .. ومن ثم لا تثير الملكية الفردية في المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون؛ ولا تثير أطماعهم في سلب ما في أيدي الآخرين .. وبخاصة أن النظام يكفل لهم

الكفاية؛ ولا يدعهم محرومين. والإسلام يربي ضمائر الناس وأخلاقهم؛ فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب عن طريقه؛ لا إلى السرقة والكسب عن طريقها .. فإذا لم يوجد العمل، أو لم يكف لتوفير ضرورياتهم، أعطاهم حقهم بالوسائل النظيفة الكريمة .. وإذن فلماذا يسرق السارق في ظل النظام؟ إنه لا يسرق لسد حاجة. إنما يسرق للطمع في الثراء من غير طريق العمل. والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذي يروّع الجماعة المسلمة في دار الإسلام. ويحرمها الطمأنينة التي من حقها أن تستمتع بها. ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال. وإنه لمن حق كل فرد في مثل هذا المجتمع، كسب ماله من حلال، لا من ربا، ولا من غش، ولا من احتكار، ولا من أكل أجور العمال، ثم أخرج زكاته، وقدم ما قد تحتاج إليه الجماعة من بعد الزكاة .. من حق كل فرد في مثل هذا النظام أن يأمن على ماله الخاص، وألا يباح هذا المال للسرقات أو لغير السرقات. فإذا سرق السارق بعد ذلك كله .. إذا سرق وهو مكفي الحاجة، متبيّن حرمة الجريمة، غير محتاج لسلب ما في أيدي الآخرين، لأن الآخرين لم يغصبوا أموالهم ولم يجمعوها من حرام .. إذا سرق في مثل هذه الأحوال. فإنه لا يسرق وله عذر. ولا ينبغي لأحد أن يرأف به متى ثبتت عليه الجريمة. فأما حين توجد شبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العام في الإسلام هو درء الحدود بالشبهات. لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه في عام الرمادة، حينما عمّت المجاعة. ولم يقطع كذلك في حادثة خاصة؛ عند ما سرق غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة ناقة من رجل من مزينة. فقد أمر بقطعهم؛ ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم، درأ عنهم الحد؛ وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له .. وهكذا ينبغي أن تفهم حدود الإسلام، في ظل نظامه المتكامل؛ الذي يضع الضمانات للجميع، لا لطبقة على حساب طبقة .. والذي يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة. والذي لا يعاقب إلا المعتدين بلا مبرر للاعتداء ..

وبعد بيان هذه الحقيقة العامة نستطيع أن نأخذ في الحديث عن حد السرقة .. السرقة: هي أخذ مال الغير، المحرز، خفية .. فلا بد أن يكون المأخوذ مالا مقوما .. والحد المتفق عليه قريبا بين فقهاء المسلمين للمال الذي يعد أخذه من حرزه خفية سرقة هو ما يعادل ربع دينار .. أي: حوالي خمسة وعشرين قرشا مصريا بنقدنا الحاضر .. ولا بد أن يكون هذا المال محرزا، وأن يأخذه السارق من حرزه، ويخرج به عنه .. فلا قطع مثلا على المؤتمن على مال إذا سرقه، والخادم المأذون له بدخول البيت لا يقطع فيما يسرق لأنه ليس محرزا منه. ولا على المستعير إذا جحد العارية. ولا على الثمار في الحقل حتى يؤويها الجرين. ولا على المال خارج البيت، أو الصندوق المعد لصيانته .. وهكذا .. ولا بد أن يكون هذا المال المحرز للغير .. فلا قطع حين يسرق الشريك من مال شريكه لأنّ له فيه شركة فليس خالصا للغير. والذي يسرق من بيت مال المسلمين لا يقطع لأن له نصيبا فيه فليس خالصا للغير كذلك .. والعقوبة في مثل هذه الحالات ليست هي القطع، وإنما هي التعزير .. (والتعزير عقوبة دون الحد، بالجلد أو بالحبس أو بالتوبيخ أو بالموعظة في بعض الحالات التي يناسبها هذا حسب رأي القاضي والظروف المحيطة). والقطع يكون لليد اليمنى إلى الرسغ. فإذا عاد كان القطع في الرجل اليسرى إلى الكعب. وهذا هو القدر المتفق عليه في القطع .. ثم تختلف بعد ذلك آراء الفقهاء عند الثالثة والرابعة. والشبهة تدرأ الحد .. فشبهة الجوع والحاجة تدرأ الحد .. وشبهة الشركة في المال تدرأ الحد. ورجوع المعترف باعترافه- إذا لم يكن هناك شهود- شبهة تدرأ الحد. ونكول الشهود شبهة .. وهكذا. ويختلف الفقهاء فيما يعدونه شبهة. فأبو حنيفة مثلا يدرأ الحد في سرقة ما هو مباح الأصل- حتى بعد إحرازه- كسرقة الماء بعد إحرازه، وسرقة الصيد بعد صيده، لأن كليهما مباح الأصل. وإباحة الأصل تورث شبهة في بقائه مباحا بعد إحرازه. والشركة العامة فيه تورث شبهة في بقاء الشركة بعد الإحراز .. بينما مالك والشافعي وأحمد لا يدرءون الحد في مثل هذه الحالة. ويدرأ أبو حنيفة الحد في سرقة كل ما يسارع إليه الفساد، كالطعام الرطب والبقول واللحم والخبز وما أشبه. ويخالفه أبو يوسف ويأخذ برأي الثلاثة.

ولا نملك أن نمضي في تفصيل اختلافات الفقهاء في هذا المجال، فتطلب في كتب الفقه؛ وحسبنا هذه الأمثلة للدلالة على سماحة الإسلام وحرصه على ألا يأخذ الناس بالشبهات .. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ادرءوا الحدود بالشبهات». وعمر بن الخطاب يقول: «لأن أعطل الحدود بالشبهات أحبّ إليّ من أن أقيمها بالشبهات». ولكن لا بد من كلمة في ملائمة عقوبة القطع في السرقة؛ بعد بيان موجبات التشدد في أخذ السارق بالحد، في المجتمع المسلم في دار الإسلام؛ بعد توافر أسباب الوقاية وضمانات العدالة .. «إن علة فرض عقوبة القطع للسرقة أنّ السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أنّ يزيد كسبه بكسب غيره. فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله، فيطمع في ثمرة عمل غيره. وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل. أو ليأمن على مستقبله. فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب أو زيادة الثراء. وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع. لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب، إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل. فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو إلى ارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة. فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية. ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية وأنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم نشأة عالمنا حتى الآن .. وتجعل القوانين الحبس عقوبة السرقة. وهي عقوبة قد أخفقت في محاربة الجريمة على العموم، والسرقة على الخصوص. والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة. لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل إلا مدة الحبس. وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو موفر الطلبات مكفيّ الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب. وكان

لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمّي ثروته، ومن طريق الحلال والحرام على السواء! واستطاع أن يخدع الناس وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه. فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبغي فذلك هو الذي أراد؛ وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئا ولم تفته منفعة ذات بال. أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص من قدرته على العمل والكسب نقصا كبيرا؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال، ونقص الكسب إلى حد ضئيل أو انقطاعه هو المرجع في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة في جسمه، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه، فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب مقطوع بها إذا كانت العقوبة القطع؛ وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس. وطبيعة الناس كلهم- لا السارق وحده- أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة. وأعجب بعد ذلك ممن يقولون: إنّ عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، كأن المدنية والإنسانية أن ننكر العلم الحديث، والمنطق الدقيق، وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم؛ وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا، لنأخذ بما يقوله قائله فلا يجد عليه دليلا إلا التهويل والتضليل!. وإذا كانت العقوبة الصالحة حقا هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء، وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء. لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس. وطبائع البشر وتجارب الأمم. ومنطق العقول والأشياء. وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية. أما عقوبة الحبس فلا تقوم على أساس من العلم ولا التجربة، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع الأشياء. إن أساس عقوبة القطع (هو العلم بنفسية الإنسان وعقليته). فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد. وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة، لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم، وتأمين المجتمع. وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة، فهي أفضل العقوبات وأعدلها. ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض الناس لتبرير عقوبة القطع، لأنهم يرونها- كما

يقولون- عقوبة موسومة بالقسوة. وتلك حجتهم الأولى والأخيرة. وهي حجة داحضة. فإن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعبا أو عبثا أو شيئا قريبا من هذا. فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة حتى يصح تسميتها بهذا الاسم. ***

المقطع الرابع ويمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (50) وهذا هو

المقطع الرابع ويمتدّ من الآية (41) إلى نهاية الآية (50) وهذا هو: 5/ 44 - 41

كلمة في المقطع

5/ 50 - 45 كلمة في المقطع: قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا

المعنى العام

الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ قوله تعالى في الآيتين: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ولاحظ قوله تعالى هنا في المقطع أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فههنا حديث عن أفعال يستحق بها أصحابها إضلال الله لهم، هذه الأفعال هي أكل السحت، والسماع للكذب وقبوله، والتجسس للكافرين والمنافقين على المؤمنين، والمسارعة إلى الكفر، وفي ذلك نقض للعهد، وإفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. وفي هذا السياق يحدثنا المقطع عن أن الحكمة في إنزال التوراة والإنجيل هي أن يحكم بهما، وأن يحتكم لهما، وأنّ من لم يحكم بكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق، فإذا كان هذا هو الشأن في التوراة والإنجيل فما بالك بالقرآن الذي أنزله الله- عزّ وجل- مصدّقا للكتب ومهيمنا عليها. وفي سياق التحذير من الاحتكام لغير القرآن يقول- عزّ وجل- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ مما يدل على أن ترك حكم الله ردّة، والاحتكام إلى الأهواء فسوق يستحق به أصحابه الإضلال. فهذا الجزء من المقطع إذن يفصّل لنا مظهرا من مظاهر الفسوق الذي يحدثنا عنه محور السورة من البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ إن هذا الجزء من المقطع يفصّل في الفسوق فيرينا نموذجا منه هو رفض الاحتكام إلى كتاب الله، أو الرغبة في تحكيم غيره، أو الحكم بسواه، وذلك يدخل في نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض. إن المقطع ينتقل من تقرير الأخلاق التي يستحق بها أصحابها زيغ القلب، إلى ذكر تخيير الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أهل الكتاب في أن يحكم بينهم أولا، فإذا حكم فإنه يأمره أن يحكم بالقسط، ومن مثل هذه الشئون ينتقل السياق للكلام عن حكمة إنزال الكتب، ليقرر كفر من لم يحكم بما أنزل الله، وظلمه، وفسقه، ثمّ يمضي السياق كما سنرى بانيا على ما مر بما ينير لهذه الأمة طريقها المستقيم. المعنى العام: ابتدأ المقطع بالكلام عن المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله،

المقدّمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. وتكلم المقطع عن اليهود أعداء الإسلام وأعداء أهله، ثم وصف الجميع بأنهم يستجيبون للكذب، وأنهم منفعلون فيه، وأنهم يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أنهم جواسيس يتسمّعون كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لينقلوه إلى قوم آخرين، هؤلاء القوم الآخرون من صفاتهم تحريف كلام الله، وتوصية بعضهم لبعض ألا يأخذوا من محمد عليه وآله الصلاة والسلام إلا ما وافق هذا الكلام المجرّف، ومن كان من الناس من هذه الأنواع فقد أراد الله فتنته ولم يرد أن يطهّر قلبه، وجعل له الذّلة في الدنيا والعذاب في الآخرة. فالآيات تتحدث عن صنفين: صنف منافق وقد نهى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحزن على مسارعتهم في الكفر. والصنف الثاني وهم اليهود يأّس الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم منهم. وكيف لا ييأس ومن صفاتهم سماعهم للباطل، وقبولهم إياه، وأكلهم الحرام، ومن كان كذلك فأنّى يستجيب لله أم كيف يطهر قلبه. فإذا كان الأمر كذلك وجاء هؤلاء يتحاكمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد خيّر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين الحكم وعدمه، وبيّن له أن لا عليه ألّا يحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليه اتّباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أما إذا حكم بينهم فقد أمره الله أن يحكم بالحق وبالعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل، لأن الله يحبّ أهل العدل والحق. ثمّ أنكر الله عليهم آراءهم الفاسدة ومقاصدهم الزائفة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا وهو التوراة، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره. مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم، وهو أمر محمد عليه الصلاة والسلام وفي النّهاية فهم لا يقبلون حكم محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا حكم التوراة، والحقيقة أنهم ليسوا مؤمنين أصلا. ثمّ تحدّث الله عن كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن وما هو الموقف الصحيح منها؟ وهو لزوم الاحتكام إليها، وقبول هذا الحكم، ووصف رافض حكم الله في كتبه بالكفر والظلم والفسوق، فبدأ بالكلام عن التوراة التي أنزلها الله على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام وأنّ فيها هدى ونورا، وأنّ النّبيين والربانيّين والأحبار يحكمون بها ولا يخرجون عن حكمها ولا يبدّلونها ولا يحرّفونها؛ قياما منهم بحقّ ما استودعوه من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به، وأن يشهدوا الحق فيه، وألا يخافوا أحدا إلا الله، وألا يشتروا بالحق الدنيا.

ثم بيّن الله- عزّ وجل- حكمه فيمن ترك الحكم بما أنزل الله بأنه كافر. ثم ذكر الله- عزّ وجل- حكما من أحكام التوراة في هذا السياق وهو حكم قد أهملوه فذكر الحكم في هذا السياق فيه معنى التقريع أمّا الحكم فهو ما فرضه الله عليهم في التوراة من وجوب القصاص العادل، النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، والجروح قصاص، والدية جائزة، والعفو طيب، وهم يخالفون حكم الله ذلك عمدا وعنادا، وفي هذا السياق قرّر تعالى حكمه بأنّ من لم يحكم بما أنزل الله فإنه ظالم، لأنّ حكم الله وحده هو العدل، وما سواه ظلم، فمن خالف حكم الله فقد تعدّى وظلم، ثمّ جاء الكلام عن الإنجيل فبيّن تعالى أنّه أتبع على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، مؤمنا بالتوراة حاكما بما فيها، وأن الله قد آتاه الإنجيل، وأنّ في الإنجيل هدى إلى الحق، ونورا يستضاء به في إزالة الشبهات، وحل المشكلات، وأنّ الإنجيل موافق لما في التوراة، غير مخالف لما فيها إلا في القليل الذي فيه توسعة على بني إسرائيل، وأنّ الإنجيل فيه هدى يهتدى به، وأنّ فيه موعظة وزاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم لمن اتقى الله وخاف وعيده، هذا الإنجيل أنزله الله ليحكم به من خوطبوا به. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أن من لم يحكم بما أنزل فهو الفاسق الخارج عن طاعة ربه، المائل إلى الباطل، التارك للحق. ثمّ بدأ الكلام عن القرآن النّاسخ لما تقدمه، والجامع لكل وحي أنزله الله فبيّن- عزّ وجل- أنه أنزل القرآن على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالحق والصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله رب العالمين. وأنّ هذا القرآن يصدّق الكتب المتقدّمة في كونها من عند الله، وفي الأحكام والأخبار التي فيها، وفيما أخبرت به من البشارة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكتابه الخاتم الناسخ، وأنّ هذا القرآن أمين على وحي الله الذي أنزله الله من قبل، فما وافقه منها فهو هو، وما خالفه باطل، وهو حاكم على كل كتاب قبله؛ فقد جعله الله- عزّ وجل- آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفّل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة. وإذا كان القرآن كذلك فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بين الناس عربهم وعجمهم أميّهم وكتابيّهم- بما أنزل الله إليه فيه، وبما قرّره له من حكم من كان قبله من الأنبياء مما لم ينسخه شرعه، ونهاه أن يتبع آراءهم، أو أن ينصرف عن الحق الذي أمره الله به إلى أهواء الناس الذين هم جهلة وأشقياء إذا لم يهتدوا بكتاب الله. ثم أخبر الله- عزّ وجل- عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة

المعنى الحرفي

في الأحكام. المتفقة في التوحيد، وأنه جعل لكل أمة سبيلا وسنّة، في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحلّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، والدّين الذي لا يقبل الله غيره، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرّسل عليهم الصلاة والسلام، ثم بيّن تعالى أنه لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شئ منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة، ثم نسخها- أو بعضها- برسالة الآخر بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم الذي ابتعثه الله تعالى إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، وحكمة الشرائع المختلفة اختبار الله عباده فيما شرع وما نسخ، ثمّ ندبهم تعالى إلى المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة إليها، والخيرات هنا طاعة الله، واتّباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله، ثمّ بين تعالى أنّ مرجع الجميع ومعادهم ومصيرهم إليه يوم القيامة؛ فيخبر الجميع بما اختلفوا فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذّبين بالحقّ، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة. ثمّ كرّر الله- عزّ وجل- الأمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالحكم بما أنزل، وعدم اتباع أهواء البشر، وأمره بالحذر من أن يفتن عما أنزله إليه أو أن يتولى عن الحكم بما أنزل الله، فذلك علامة الصرف عن الهدى بسبب الذنب، ثم يقرر الله- عزّ وجل- أن أكثر الناس فاسقون خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق، ناكبون عنه، ثم أنكر تعالى على من يخرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، النّاهي عن كل شر، ويعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء أيريدون حكم الجاهلية، وعن حكم الله يعدلون؟ ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟! فإنّه تعالى هو العالم بكل شئ، القادر على كل شئ، العادل في كل شئ. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي: في إظهارهم ما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام، ومن موالاة المشركين؛ فإني ناصرك عليهم، وكافيك شرّهم. ومسارعتهم في الكفر تعني

[سورة المائدة (5): آية 42]

وقوعهم فيه أسرع شئ، إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ هؤلاء هم الذين يسارعون في الكفر، أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا. أي: ومن اليهود أي وكذلك اليهود لا يحزنك مسارعتهم في الكفر سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ هذه صفة اليهود والمنافقين، أنّهم يسمعون للكذب سماع قبول واستجابة أو المعنى: أنهم سمّاعون منك ليكذبوا عليك بأن يمسخوا ما سمعوا منك بالزيادة والنّقصان، والتبديل والتغيير سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يحتمل معنيين: الأول: أنهم جواسيس وعيون لناس آخرين ليبلغوهم ما سمعوا منك، والثاني: أنهّم يسمعون ويطيعون ويستجيبون لأقوام آخرين ممن لا يحضرون مجلسك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ الضمير في يحرّفون يعود على الأقوام الآخرين الذين يتجسس هؤلاء لحسابهم أو يطيعونهم والمعنى: يزيلون الكلم ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، فيجعلونه في غير مواضعه بعد أن كان ذا موضع يَقُولُونَ. أي: المحرّفون إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ. أي: إن أوتيتم هذا الكلام المحرّف المزال عن مواضعه فاعلموا أنه الحق واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا. أي: وإن سمعتم خلافة فإياكم وإيّاه وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ. أي: ضلاله فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هذا قطع رجاء بإيمان هؤلاء أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ. أي: عن الكفر لاختيارهم إياه لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ خزي المنافقين في الدنيا فضيحتهم، وخزي اليهود ذلتهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. أي: التخليد في النار سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ مر معنا معناه، وتكريره للتأكيد أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ السحت: وهو كل ما لا يحل كسبه ويدخل في ذلك الرّشوة فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا تخيير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم، وبين ألا يحكم بينهم، وذهب جمع من المفسرين: أنّ هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: إلّا تحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. أي: فلن يقدروا على الإضرار بك لأنّ الله تعالى يعصمك من النّاس وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. أي: بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ هذا تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أنّ الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن

فوائد

حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ لا بك ولا بكتابهم كما يدّعون. فوائد: 1 - [سبب استحقاق عقوبة عدم تطهير الله قلوب المنافقين واليهود] في هذه الآيات الثلاث نهي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحزن لمسارعة نوعين من الناس في الكفر، المنافقين واليهود، ووصف لهؤلاء، ووعيد لهم بالذلّة بالدنيا والعذاب في الآخرة، وقطع رجاء المؤمنين من إيمانهم، وهذه قضية مهمة، إذ ما السبب الذي استحق به هؤلاء عقوبة ألّا يطهر الله قلوبهم؟. أمّا المنافقون فسبب ذلك سماعهم للكذب سماع قبول، وتجسّسهم لحساب أعداء الله، وأما اليهود فسبب ذلك تحريفهم كتاب الله، وإرادتهم أن يكونوا قوّاما على دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم بدلا من الإسلام له، وسماعهم للكذب، وأكلهم المال الحرام، فإذا ربطنا بين هذه الآيات وبين محور السّورة من البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أدركنا بعض الأسباب التي يستحقّ بها أهلها إضلال الله، وأدركنا بعض مظاهر الفسوق عن أمر الله. 2 - [سبب نزول الآيات (41 - 43)] يذكر المفسرون سببي نزول لهذه الآيات. قال ابن كثير: «وقد يكون اجتمع هذان السّببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات في ذلك كله». وسنؤخر ذكر أسباب النزول لكنّا هنا نذكّر في أنّ خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ. فالعبرة لعموم اللفظ، فكل من سمع لأعداء الله وتجسس لحسابهم على أولياء الله يدخل في الآيات، وكل من حرّف كلام الله، وسمع للكذب، وأكل السّحت يدخل في الآيات، وإن كانت الآية في الأصل في اليهود، وفي وقائع من وقائعهم. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهدي للحق وَنُورٌ يبين ما استبهم من الأحكام يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا. أي: انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للتبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء من ملّة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم لِلَّذِينَ هادُوا. أي: للذين تابوا من الكفر وَالرَّبَّانِيُّونَ. أي: الزّهاد وَالْأَحْبارُ. أي: والعلماء أي وهؤلاء يحكمون بالتوراة بِمَا اسْتُحْفِظُوا. أي: بما استودعوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ. أي: رقباء لئلا يبدّل فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ هذا نهي لمن

[سورة المائدة (5): آية 45]

يحكم، عن خشية غير الله- في حكومته، وإمضائها على خلاف ما أمر به من العدل؛ خشية من سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد، وأمر بخشية الله وحده أن يخالف أمره وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. أي: ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمنا قليلا وهو الرّشوة وابتغاء الجاه ورضا النّاس وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به، أو جاحدا له، أو مفضّلا غيره عليه، أو مستحلا ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وما أكثر هذا الكفر في عصرنا؟ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها. أي: وفرضنا على اليهود في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أنّ النّفس مأخوذة بالنّفس مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. أي: والعين مفقوءة بالعين وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. أي: والأنف مجدوع بالأنف وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ. أي: والأذن مصلومة بالأذن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ. أي: والسن مقلوعة بالسن وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. أي: والجروح ذات قصاص وهو المقاصّة ومعناه ما يمكن فيه القصاص فحكمه القصاص، وإلّا فحكومة عدل فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ. أي: فمن تصدّق بالقصاص من أصحاب الحق وعفا عنه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. أي: فالتصدّق به كفّارة للمتصدق بإحسانه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إذ لا عدل إلّا بحكم الله، فمن امتنع عن الحكم بما أنزل الله فقد ظلم وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ. أي: وجعلنا على آثار النّبيين الذين أسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. أي: مؤمنا بها، حاكما بما فيها، بانيا عليها وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ. أي: الإنجيل فيه هداية وفيه نور، وهو مصدّق للتوراة غير ناقض إياها بل مصدّق لها وَهُدىً وَمَوْعِظَةً. أي: هاديا وواعظا لِلْمُتَّقِينَ لأنهم هم الذين ينتفعون بموعظة الإنجيل وهديه وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ. أي: وأمرنا أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. أي: هم الخارجون عن الطاعة. يقول صاحب الظلال: «إله واحد. وخالق واحد. ومالك واحد. وإذن فحاكم واحد. ومشرّع واحد. ومتصرف واحد ... وإذن فشريعة واحدة، وقانون واحد .. وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله، فهو إيمان وإسلام. أو معصية وخروج، وحكم بغير ما أنزل الله، فهو كفر وظلم وفسوق .. وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه، وكما جاء به كل الرسل من عنده .. أمة محمد والأمم قبلها على السواء ..

[سورة المائدة (5): آية 48]

ولم يكن بد أن يكون «دين الله» هو الحكم بما أنزل الله دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان الله. مظهر حاكمية الله. مظهر أن لا إله إلا الله. وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين «دين الله» و «الحكم بما أنزل الله» لا تنشأ فحسب من أنّ ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية. وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه وهذا هو «الإسلام» بمعناه اللغوي: «الاستسلام». وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان .. الإسلام لله .. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه، وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون. ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر شرائع تشابه شريعة الله أو حتى شريعة الله نفسها بنصها، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم؛ ولم يردوها لله؛ ولم يطبقوها باسم الله، إذعانا لسلطانه واعترافا بألوهيته. وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية، إلا تطبيقا لشريعة الله، وتقريرا لسلطانه في الأرض. ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .. ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله- سبحانه- ورفضهم لإفراد الله- سبحانه- بهذه الألوهية. يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم وألسنتهم. ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان. ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق، أخذا من رفضهم لألوهية الله، حين يرفضون حاكميته المطلقة؛ وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله». وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ. أي القرآن بِالْحَقِّ. أي: بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ، أو بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ. أي: يصدّق الكتب التي تقدمته نزولا، وإنما قيل لما قبل الشئ هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه، فما تقدم عليه يكون قدامه

[سورة النساء (4): آية 49]

وبين يديه. والقرآن مصدق لجميع كتب الله، لموافقته إياها في حال عدم تحريفها وتبديلها، ولتقريره ما دعت إليه من إخلاص العبادة والتوحيد لله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25). وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. أي: ومهيمنا على الكتب السابقة لأنه تضمّن ما تضمنته وزاد عليها من الكمالات ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله، والهيمنة يدخل في معناها الشهادة، والحكم، والائتمان. فالقرآن مؤتمن على الحق الموجود في الكتب السابقة، فكل ما خالفه مما هو موجود بين أيدي أصحابه الآن باطل، والقرآن شهيد على الحق الذي فيها، وحاكم على كل ما ينسب إليها، فهو يشهد للحق فيها بالصحة والثبات، ولغيره بالبطلان فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. أي: بما في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ هذا نهي أن يحكم بما حرّفوه، وبدّلوه، اعتمادا على قولهم، وقد تضمّن قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أي: ولا تنحرف، فلذا عدّاه بعن، فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم، أو لا تنحرف عادلا عما جاءك من الحق اتباعا لأهوائهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس شِرْعَةً. أي: شريعة وَمِنْهاجاً. أي: وطريقا واضحا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ. أي: ولكن أراد أن يعاملكم معاملة المختبر فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، فتعبّد كلّ أمّة بما اقتضته الحكمة، حتى أنزل هذا القرآن فتعبّد النّاس جميعا به فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. أي: فابتدروها، وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة والمراد بالخيرات: كل ما أمر الله تعالى به في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً هذا تعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. أي: فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم، ومبطلكم، وعاملكم ومفرّطكم في العمل. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هذا تأكيد للأمر بوجوب الحكم بما أنزل الله وحده وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ كائنة ما كانت هذه الأهواء، متلبسة بالدين أو بغيره وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ حذّره وهو رسول مأمون معصوم لتقتدي به أمته، ولتقطع أطماع أهل الأهواء فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: عن الحكم بما أنزل الله إليك، وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. أي: بذنب التولي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وهذا الإبهام لتعظيم التولي، وفيه تعظيم الذّنوب فإن الذنوب بعضها مهلك، فكيف بكلّها. دلّت

[سورة النساء (4): آية 50]

الآية جزما أنه لا يتولى إنسان، أو أمة، أو جماعة، أو حكومة عن حكم الله، إلا وسينزل الله بأصحابه مصيبة دنيوية عقوبة لهم على التولّي وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أي: لخارجون عن أمر الله أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. أي: يطلبون، إذ يرفضون حكم الله العادل الذي هو أثر عن علمه، ويريدون حكم البشر الذي هو أثر عن القصور والجهل والهوى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً. أي: لا أحد أحسن من الله حكما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فإنهم هم الذين يتبيّنون أن لا أعدل من الله، ولا أحسن حكما منه. دلّ ذلك على فضيلة اليقين، ومنه نتبيّن أنّ تربية اليقين هي الطريق للعودة إلى حياة الأمة الإسلامية بالقرآن والإسلام والشريعة. فوائد: 1 - [الحكم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل والقرآن. ما حكمه؟] قال النسفي: «ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام، ثم إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبيّن أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به. فقال في الأول (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ). وفي الثاني (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ). وفي الثالث (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ)». 2 - [حكم من لم يحكم بما أنزل الله] وصف الله- عزّ وجل- من لم يحكم بما أنزل بأنه كافر، ظالم، فاسق. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث، فيكون كافرا، ظالما، فاسقا. لأن الفاسق المطلق، والظالم المطلق، هو الكافر. وقيل (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) * فهو كافر بنعمة الله، ظالم في حكمه، فاسق في فعله. وهذا في غير المستحل أو المفضّل أو الجاحد أو المستهين فهؤلاء كفّار بإجماع وقال أكثر من إمام: نزلت في أهل الكتاب- أي هذه الآيات- وقال الحسن: وهي علينا واجبة. وقال إبراهيم: ورضي الله لهذه الأمة بها. وكيف لا يكون ترك الحكم بالقرآن مساويا لترك الحكم بالتوراة والإنجيل، والقرآن مهيمن على التوراة والإنجيل. [3، 6 - فوائد حول حكم القصاص ومسائل فيه] 3 - روى ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. قال: «هو الذي تكسر سنّه، أو تقطع يده، أو يقطع الشئ منه، أو يجرح في بدنه، فيعفو عن ذلك. قال: فيحط عنه خطاياه وإن كان

ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك». روى ابن مردويه أيضا عن عدي بن ثابت أن رجلا هتم فمه رجل على عهد معاوية رضي الله عنه، فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين، فأبى، فأعطى ثلاثا فأبى، فحدّث رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدّق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت». وقال الإمام أحمد أنّ عبادة بن الصامت قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفّر الله عنه مثل ما تصدّق به». وقال الإمام أحمد أيضا عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفّارة له». 4 - نلاحظ في موضوع القصاص وغيره أن هناك شيئا أجمع عليه الأئمة، وهناك شئ اختلفوا فيه. فما لا يسع أحدا- شعوبا أو حاكمين- تركه هو ما أجمعوا عليه. وأمّا ما اختلفوا فيه فللفرد الأخذ برأي إمام مجتهد. وللدولة الأخذ برأي إمام على ألّا يكون الأخذ أثرا عن هوى بل أثرا عن تحقيق. 5 - قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .. إخبار عن حكم الله الموجود في التوراة في موضوع القصاص. وهذا الحكم نجده الآن في ما يسمّونه التوراة، في سفر الخروج، في الإصحاح الحادي والعشرين. «وإن حصلت أذية تعطى نفس بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وكيا بكي، وجرحا بجرح، ورضّا برضّ ... ». والملزم لنا ما ورد في كتابنا. قال ابن كثير: وقد حكى الإمام أبو نصر الصبّاغ- رحمه الله- في كتابه الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلّت عليه. وقد احتج الأئمة كلّهم على أن الرّجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النّسائي وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب في كتاب عمرو بن حزم «أن الرجل يقتل بالمرأة». وفي الحديث الآخر «المسلمون تتكافأ دماؤهم». وهذا قول جمهور العلماء، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، إلا أن يدفع وليّها إلى أوليائه نصف الدية، لأن ديتها على النصف من دية الرّجل، وإليه ذهب أحمد في رواية وروي عن الحسن وعطاء وعثمان البستي، ورواية عن أحمد: أنّ الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل يجب ديتها، وهكذا احتجّ أبو حنيفة رحمه الله تعالى

بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمّي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصحيحين: عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يقتل مسلم بكافر» وأمّا العبد ففيه عن السّلف آثار متعدّدة أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حرا بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم عن ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصّص للآية الكريمة. ويؤيّد ما قاله ابن الصبّاغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك، كما قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك: أنّ الرّبيّع عمّة أنس كسرت ثنيّة جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «القصاص»، فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس كتاب الله القصاص». قال: فقال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة قال: فرضي القوم فعفوا وتركوا القصاص. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه». أخرجاه في الصحيحين. وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه عن حميد عن أنس بن مالك: أن الرّبيّع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها. فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا، فطلبوا الأرش والعفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم بالقصاص. فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله أتكسر ثنيّة الرّبيّع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيّتها. فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس: كتاب الله القصاص» فعفا القوم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه». رواه البخاري عن الأنصاري. 6 - ورد في آية القصاص قوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ والقاعدة في هذا: أن الجراح تارة تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع، كقطع اليد والرّجل والكفّ والقدم ونحو ذلك، وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل، بل في عظم، فقال مالك رحمه الله: فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها، لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب في شيء من العظام إلا في السن. وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شئ من العظام مطلقا، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث الرّبيّع بنت النّضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن. وقال الفقهاء لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه

7، 8 - تعليق ابن كثير على قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ..

قبل الاندمال ثم زاد جراحه فلا شئ عليه، فلو اقتص المجني عليه من الجاني، فمات من القصاص، فلا شئ عليه عند مالك، والشافعي، وأحمد. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة تجب الدّية في مال المقتص. وقال الشعبي والثوري وآخرون: تجب الدية على عاقلة المقتصّ له. وقال ابن مسعود وآخرون: يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله. [7، 8 - تعليق ابن كثير على قوله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .. ] 7 - قال ابن كثير تعليقا على قوله تعالى أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، النّاهي عن كل شرّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعا متّبعا، يقدّمونها على الحكم بكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير» اه. كلام ابن كثير. ونقول: إن الذي رأى ابن كثير نموذجا عنه في عصره في صورة الياسق نراه تقريبا في كل قطر إسلامي في صورة دساتير، وقوانين، ولوائح، وشعارات معتمدة تقريبا، من كل حكومة وفي كل قطر إسلامي، والذي أفتى به ابن كثير نفتي به فنقول: إن على المسلمين في كل قطر- إن استطاعوا- أن ينصحوا ويبيّنوا لكلّ من يحمي هذه الأوضاع هذا الأمر من أجل أن تصبح كلمة الله هي العليا، وإذا نجح المسلمون في قطر في الوصول إلى هذه النتيجة فعليهم أن يساعدوا إخوانهم في بقية الأقطار للوصول إلى النتيجة نفسها. 8 - أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة الناجي قال: سمعت الحسن يقول: من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية. وروى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الناس إلى الله- عزّ وجل- متبع في الإسلام سنّة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه». وروى البخاري نحوه بزيادة. [9، 10 - ذكر أسباب نزول الآيات (41 - 50)] 9 - ذكرنا سابقا أنّ المفسرين يذكرون سببي نزول للآيات الأولى من المقطع، والآن جاء أوان الروايات في ذلك نقلا عن ابن كثير مع اختصار للأسانيد:

أ- نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا (أي اليهود) قد بدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرّفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين فلمّا وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوه عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبيّ من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك، وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تجدون في شأن الرجم؟» فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم: إنّ فيها الرجم فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجما، فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها بالحجارة. أخرجاه وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له قال لليهود: «ما تصنعون بهما؟» قالوا: «نسخّم أي (نسود) وجوههما ونخزيهما. قال: (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممّن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليها، قال: ارفع يدك، فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إنّ فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فرجما. وعند مسلم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاء يهود، فقال: «ما تجدون في التوراة على من زنى» قالوا: نسوّد وجوههما ونحممهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: «فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين». قال: فجاءوا بها فقرءوها حتى إذا مرّ بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام- وهو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-: مره فليرفع يده، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القف (وهو واد في المدينة)، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلا منّا زنى بامرأة، فاحكم، قال: ووضعوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة فجلس عليها، ثم قال: «ائتوني بالتوراة، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته

ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك». ثم قال: «ائتوني بأعلمكم» فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقال الزهري: سمعت رجلا من مزينة، ممن يتّبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيّب عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى النّبي، فإنّه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فتيا نبيّ من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟» قالوا: يحمّم ويجبّه ويجلد. والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما. وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكت ألظّ به رسول الله النّشدة، فقال: اللهمّ إذ نشدتنا فإنّا نجد في التوراة الرّجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فما أوّل ما ارتخصتم أمر الله؟» قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخرّ عنه الرجم، ثم زنى رجل في أثره من النّاس، فأرادوا رجمه، فحال قومه دونه وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه. فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإني أحكم بما في التوراة» فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أنّ هذه الآية نزلت فيهم إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم. رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وابن جرير. وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: مرّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل مجلود، فدعاهم فقال: «أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟» فقالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزّاني في كتابكم؟» فقال: لا والله، ولولا أنّك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حدّ الزنى في كتابنا الرّجم، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه». قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل الله- عزّ وجل- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله تعالى يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ. أي: يقولون ائتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرّجم فاحذروا، إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما

أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال في اليهود إلى قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: في الكفار كلها: انفرد بإخراجه مسلم. وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه. فسألوه عن ذلك فقال: «أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم» فجاءوا برجل أعور يقال له ابن صوريا، وآخر فقال لهما النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنتما أعلم من قبلكما؟» فقالا: دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهما: «أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟» قالا: بلى، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلّل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنّ والسلوى على بني اسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قطّ، ثم قالا: نجد ترداد النّظر زنية، والاعتناق زنية، والتقبيل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هو ذاك» فأمر به فرجم، فنزلت فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ورواية أبي داود عن جابر قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتوه بابني صوريا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التّوراة؟». قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما، قال: «فما يمنعكم أن ترجموهما؟» قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشّهود، فجاء أربعة فشهدوا أنّهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله برجمهما». ومن خلال النّظر في هذه النصوص نرى أن سبب النزول هذا ينطبق على أحد احتمالات النّص، ولكنّ النّص أوسع وأعمّ من سبب النزول هذا، وإن كان سبب النزول يعيّن واحدة من الحالات التي تدخل تحت عموم النّص كما ذكرنا أكثر من مرة. ونحب هنا أن نذكر أن حكم الرجم المذكور في هذه النصوص على أنه موجود في التوراة قد نقلناه فيما مضى من تفسير سورة المائدة عن التوراة الحالية عند قوله تعالى يُبَيِّنُ

لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ فليراجع. ب- روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال: قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا- أو اصطلحوا- على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذّليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد: دية بعضهم نصف دية بعض، إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا، وفرقا منكم، فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم، ثمّ ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم- ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم- فدسّوا إلى محمّد من يخبر لكم رأيه: إن أعطاكم ما تريدون حكّمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكّموه، فدسّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأمرهم كله، وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله الْفاسِقُونَ ففيهم والله أنزل وإياهم عنى الله- عزّ وجل-» وروى ابن جرير عن ابن عباس أنّ الآيات التي في المائدة قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ- إلى الْمُقْسِطِينَ إنما أنزلت في الدية في بني النّضير وبني قريظة، وذلك أنّ قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدّى الدية كاملة، وأن قريظة كان يؤدّى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان» ثم قال ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنّضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القريظي رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إليه، فقالوا بيننا وبينكم رسول الله، فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ

كلمة في السياق

بِالْقِسْطِ. ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه». ومن خلال النظر في سبب النزول هذا للآيات نفسها ندرك كذلك حالة من الحالات التى تدخل تحت عموم اللفظ، ويؤكد لنا سبب النزول وحدة المقطع كله كما ذكرناه، وتبقى الحالات التي تدخل تحت عموم ألفاظ النّص كثيرة، فلنفهم مدلولات القرآن بأوسع ما تدل عليه لا بأضيقه. 10 - وفي سبب نزول آخر آيات المقطع نذكر هذه الرواية: روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه!، فأتوه، فقالوا: يا محمد إنّك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك!، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- عزّ وجل- فيهم وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ إلى قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ونرى من خلال هذه الرواية، نوعا من أنواع التآمر، يظهر بصيغته البسيطة هذه، في هذه القصة، ويأخذ شكلا معقدا في عصرنا، وفي كل حال يبقى الأمر بالحكم بما أنزل الله، وتنفيذه هو العاصم من كل تآمر، والانحراف دليل الوقوع في التآمر. ولعلّه لاحظنا من خلال أسباب النزول، نوعا من الخلل وقع فيه بنو إسرائيل، ولعلّه وضح لدينا أنّ هذا النوع من الخلل وقعت فيه أكثرية الأمّة الإسلامية، وأنه لا بدّ من عودة شاملة إلى القرآن والسنّة، ولا شك أن دون ذلك قوى عاتية ومؤسسات، وعلينا أن نتجاوز ذلك كله بإذن الله. كلمة في السياق: لقد قلنا إن سورة المائدة امتداد لسورة النساء من ناحية، وهي في الوقت نفسه تفصّل في آيتي البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... إلى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ من ناحية ثانية، فمن حيث إنها امتداد لسورة النساء فإن هذا المقطع يؤكد أنه لا تقوى إلا بتحكيم ما أنزل الله، ومن حيث إنها تفصّل آيتي البقرة

نقل: عن صاحب الظلال حول قضية الحكم بما أنزل الله وترك حكم الجاهلية

اللتين تضمنتا الحديث عن من يضل بكتاب الله، وهم الذين ينقضون الميثاق، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، وبكلمة واحدة «الفاسقون» قال تعالى فى الآيتين وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فهذا المقطع أعطانا صورا جديدة للفاسقين الذين لا يستأهلون أن يطهّر الله قلوبهم، ومن خلال هذا فهمنا صورة من صور نقض الميثاق، والإفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل فإذا اتضح هذا فلننقل بعض النقول، ولنعقد بعض الفصول: [نقل: عن صاحب الظلال حول قضية الحكم بما أنزل الله وترك حكم الجاهلية] نقل: نلاحظ أن قضية الحكم بما أنزل الله، وأن ما يقابل ذلك هو الجاهلية كانتا المعنى الرئيسي في المقطع، وقد أفاض صاحب الظلال في الكلام عن هاتين القضيتين في مقدمة كلامه عن هذا المقطع فلنر كلامه: قال: «يتناول هذا الدرس أخطر قضية من قضايا العقيدة الإسلامية والمنهج الإسلامي. ونظام الحكم والحياة في الإسلام .. وهي القضية التي عولجت في سورتي آل عمران والنساء من قبل .. ولكنها هنا في هذه السورة تتخذ شكلا محددا مؤكدا، يدل عليها النص بألفاظه وعباراته، لا بمفهومه وإيحائه .. إنها قضية الحكم والشريعة والتقاضي- ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والإيمان- والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا السؤال: أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي استحفظ عليها أصحاب الديانات السماوية واحدة بعد الأخرى؛ وكتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم؟ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع إلى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال؟ أو في آخر: أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرّع للناس ما لم يأذن به الله؟ الله- سبحانه- يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو. وإنّ شرائعه التي سنّها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها؛ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس، وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام ... والله- سبحانه- يقول: إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شئ منه، ولا

انحراف عن جانب ولو صغير. وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير! والله- سبحانه- يقول: إن المسألة- في هذا كله- مسألة إيمان أو كفر؛ وإسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى. وإنه لا وسط في هذا الأمر ولا هدنة ولا صلح، فالمؤمنون هم الذين يحكمون بما أنزل الله- لا يخرمون منه حرفا ولا يبدّلون منه شيئا- والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله. وأنه إما أن يكون الحكام قائمين على شريعة الله كاملة فهم في نطاق الإيمان. وإما أن يكونوا قائمين على شريعة أخرى- مما لم يأذن به الله- فهم الكافرون الظالمون الفاسقون. وأن الناس إما أن يقبلوا من الحكام والقضاة حكم الله وقضاءه في أمورهم فهم مؤمنون .. وإلا فما هم بالمؤمنين .. ولا وسط بين هذا الطريق وذاك؛ ولا حجة ولا معذرة ولا احتجاج بمصلحة. فالله رب الناس يعلم ما يصلح للناس؛ ويضع شرائعه لتحقيق مصالح الناس الحقيقية. وليس أحسن من حكمه وشريعته حكم أو شريعة. وليس لأحد من عباده أن يقول: إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبصر بمصلحة الخلق من الله .. فإن قالها- بلسانه أو بفعله- فقد خرج من نطاق الإيمان .. هذه هي القضية الخطيرة الكبيرة التي يعالجها هذا الدرس في نصوص تقريرية صريحة .. ذلك إلى جانب ما يصوره من حال اليهود في المدينة، ومناوراتهم مع المنافقين: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. وما يوجه به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمواجهة هذا الكيد الذي لم تكفّ عنه يهود، منذ أن قامت للإسلام دولة في المدينة .. والسياق القرآني في هذا الدرس يقرر أولا: توافي الديانات التي جاءت من عند الله كلها على تحتيم الحكم بما أنزل الله؛ وإقامة الحياة كلها على شريعة الله؛ وجعل هذا الأمر مفرق الطريق بين الإيمان والكفر؛ وبين الإسلام والجاهلية؛ وبين الشرع والهوى .. فالتوراة أنزلها الله فيها هدى ونور: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ .. وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ .. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .. والإنجيل آتاه الله عيسى ابن مريم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ .. والقرآن أنزله الله على رسوله بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وقال له: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما

أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟ .. وكذلك تتوافى الديانات كلها على هذا الأمر، ويتعين حدّ الإيمان وشرط الإسلام، سواء للمحكومين أو للحكام .. والمناط هو الحكم بما أنزل الله من الحكام، وقبول هذا الحكم من المحكومين، وعدم ابتغاء غيره من الشرائع والأحكام .. والمسألة في هذا الوضع خطيرة؛ والتشدد فيها على هذا النحو يستند إلى أسباب لا بد خطيرة كذلك. فما هي يا ترى هذه الأسباب؟ إننا نحاول أن نتلمسها سواء في هذه النصوص أو في السياق القرآني كله، فنجدها واضحة بارزة .. إن الاعتبار الأول في هذه القضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر- بلا شريك- أو رفض هذا الإقرار .. ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام .. والقرآن كله معرض بيان هذه الحقيقة .. إن الله هو الخالق .. خلق هذا الكون، وخلق هذا الإنسان. وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان .. وهو- سبحانه- متفرّد بالخلق، لا شريك له في كثير منه أو قليل. وإن الله هو المالك .. بما أنه هو الخالق .. ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما .. فهو- سبحانه- متفرد بالملك. لا شريك له في كثير منه أو قليل. وإن الله هو الرزاق .. فلا يملك أحد أن يرزق نفسه أو غيره شيئا. لا من الكثير ولا من القليل .. وإن الله هو صاحب السلطان المتصرّف في الكون والناس .. بما أنه هو الخالق المالك الرازق .. وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق، ولا رزق، ولا نفع، ولا ضر. وهو- سبحانه- المتفرّد بالسلطان في هذا الوجود. والإيمان هو الإقرار لله- سبحانه- بهذه الخصائص. الألوهية، والملك، والسلطان ... متفرّدا بها لا يشاركه فيها أحد. والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص .. هو إفراد الله- سبحانه- بالألوهية، والربوبية، والقوامة على الوجود كله- وحياة الناس ضمنا- والاعتراف بسلطانه الممثل في قدره؛ والممثل كذلك في شريعته. فمعنى الاستسلام لشريعة الله هو- قبل كل شئ- الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة، هو- قبل كل شئ رفض الاعتراف

بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه .. ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول .. وهي من ثم قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام. ومن هنا يجئ هذا النص: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ .. الظَّالِمُونَ .. الْفاسِقُونَ. والاعتبار الثاني هو اعتبار الأفضلية الحتمية المقطوع بها لشريعة الله على شرائع الناس .. هذه الأفضلية التي تشير إليها الآية الأخيرة في هذا الدرس: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .. والاعتراف المطلق بهذه الأفضلية لشريعة الله، في كل طور من أطوار الجماعة، وفي كل حالة من حالاتها .. هو كذلك داخل في قضية الكفر والإيمان .. فما يملك إنسان أن يدّعي أن شريعة أحد من البشر، تفضل أو تماثل شريعة الله، في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية .. ثم يدّعي- بعد ذلك- أنه مؤمن بالله، وأنه من المسلمين .. إنه يدّعي أنه أعلم من الله بحال الناس؛ وأحكم من الله في تدبير أمرهم. أو يدّعي أن أحوالا وحاجات جرت في حياة الناس، وكان الله- سبحانه- غير عالم بها وهو يشرّع شريعته؛ أو كان عالما بها ولكنه لم يشرّع لها! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام مهما قالها اللسان! فأما مظاهر هذه الأفضلية فيصعب إدراكها كلها. فإن حكمة شرائع الله لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجبال. والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه هنا .. في الظلال .. فنكتفي منه ببعض اللمسات: إن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها .. وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، بحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه، وتحكم الكينونة الإنسانية .. ومن ثم لا يفرّط في شئ من أمور هذه الحياة؛ ولا يقع فيه، ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمّر بين أنواع النشاط الإنساني؛ ولا أي تصادم مدمّر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال، والتوافق والتناسق .. الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر؛ وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة؛ ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني؛ ولا يخلو من التصادم المدمّر بين بعض ألوان النشاط وبعض. والهزات العنيفة الناشئة عن

هذا التصادم. وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولا .. لأن الله يعلم حق العلم بما يحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيا .. لأنه- سبحانه- رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع؛ وأن يجئ منهجه وشرعه مبرّأ من الهوى والميل والضعف- كما أنه مبرّأ من الجهل؛ والقصور والغلو والتفريط- الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان، ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى- فوق ما به من الجهل والقصور- سواء كان المشرّع فردا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلا من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أنّ لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد .. وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله. لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله. صانع الكون وصانع الإنسان. فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه، بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعا كونيا، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض، الذي يعيش فيه، ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم. ثم إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان .. ففي كل منهج- غير المنهج الإسلامي- يتعبد الناس الناس. ويعبد الناس الناس. وفي المنهج الإسلامي- وحده- يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .. إن أخص خصائص الألوهية- كما أسلفنا- هي الحاكمية .. والذي يشرّع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها. فهم عبيده لا عبيد الله. وهم في دينه لا في دين الله. والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان، بل يعلن «ميلاد الإنسان» .. فالإنسان لا يولد، ولا يوجد، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله؛ وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعا أمام رب الناس .. إن هذه القضية التي تعالجها نصوص هذا الدرس هي أخطر وأكبر قضايا العقيدة ..

إنها قضية الألوهية والعبودية .. قضية العدل والصلاح. قضية الحرية والمساواة. قضية تحرر الإنسان- بل ميلاد الإنسان- وهي من أجل هذا كله كانت قضية الكفر أو الإيمان، وقضية الجاهلية أو الإسلام .. والجاهلية ليست فترة تاريخية؛ إنما هي حالة توجد كلما وجدت مقوّماتها في وضع أو نظام .. وهي في صميمها الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر، لا إلى منهج الله وشريعته للحياة. ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد، أو أهواء طبقة، أو أهواء أمة، أو أهواء جيل كامل من الناس .. فكلها- ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله- أهواء .. يشرّع فرد لجماعة فإذا هي جاهلية. لأن هواه هو القانون .. أو رأيه هو القانون .. لا فرق إلا في العبارات! ويشرّع ممثلو جميع الطبقات وجميع القطاعات في الأمة لأنفسهم فإذا هي جاهلية .. لأن أهواء الناس الذين لا يتجردون أبدا من الأهواء، ولأن جهل الناس الذين لا يتجردون أبدا من الجهل، هو القانون- أو لأن رأي الشعب هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات! وتشرّع مجموعة من الأمم للبشرية فإذا هي جاهلية. لأن أهدافها القومية هي القانون- أو رأي المجامع الدولية هو القانون- فلا فرق إلا في العبارات! ويشرّع خالق الأفراد، وخالق الجماعات، وخالق الأمم والأجيال، للجميع فإذا هي شريعة الله التي لا محاباة فيها لأحد على حساب أحد. لا لفرد ولا لجماعة ولا لدولة، ولا لجيل من الأجيال. لأن الله رب الجميع والكل لديه سواء. ولأن الله يعلم حقيقة الجميع ومصلحة الجميع، فلا يفوته- سبحانه- أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم بدون تفريط ولا إفراط. ويشرّع غير الله للناس .. فإذا هم عبيد من يشرّع لهم. كائنا من كان. فردا أو طبقة أو أمة أو مجموعة من الأمم .. يشرّع الله للناس .. فإذا هم كلهم أحرار متساوون، لا يحنون جباههم إلا لله، ولا يعبدون إلا الله. ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان، وفي نظام الكون كله: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ .. فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج- في النهاية- عن نطاق الإيمان .. بنص القرآن .. ».

فصول

[فصول:] فصل في السّحت: السحت: هو الحرام، قال الألوسي في اشتقاقه: «من سحتّه إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتا- عند الزجّاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن. وأخرج عبد بن حميد. وغيره عن ابن عمر قال: قال رسول الله: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السّحت؟ قال: الرشوة في الحكم» وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «هدايا الأمراء سحت». وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: «قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السّحت هي؟ قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة، فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية» وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السّحت، فقال: «الرشا، فقيل له في الحكم؟ قال: ذاك الكفر» وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك، وأخرج ابن مردويه. والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ست خصال من السّحت: رشوة الإمام- وهي أخبث ذلك كله- وثمن الكلب. وعسب الفحل. ومهر البغي. وكسب الحجام. وحلوان الكاهن». وعدّ ابن عباس رضي الله تعالي عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر. قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، وجاء من طرق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما». أقول: قد أبيح كسب الحجام فإن صح الحديث فإن هذا الجانب منه منسوخ. فصل: في احتكام الكفار إلينا: بمناسبة الكلام عن قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ قال الألوسي: وهذا كما ترى تخيير له صلّى الله عليه وسلّم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وإليه ذهب أكثر السلف. قالوا: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان أولا مخيّرا ثم أمر عليه

الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا. وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر. والخنزير فإنهم يقرّون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه- في بعض ذلك- محمد. وزفر، وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم. «وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكّر. إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتميا. فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله. وأهلها جميعا ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة. مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام، وهو ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام؛ وعلى ما يختص بالنظام العام. فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم. كامتلاك الخنزير وأكله، وتملك الخمر وشربه، دون بيعه لمسلم. ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرّم عندهم. وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا. كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعا: مسلمين وغير مسلمين. فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام ... ». أقول: في أي قضية يكون أحد الأطراف فيها مسلما فالحكم إلى القضاء الإسلامي، وفي أي قضية ترافعوا بها إلى محاكمنا فالحكم فيها بما أنزل الله، وهذا الذي استقرّ عليه الأمر. أما في قضاياهم الخاصة فيما بينهم إن أرادوا أن يرجعوا في ذلك إلى علمائهم فنحن لا نتدخّل في ذلك ولكن، لن نعطيهم حق إيجاد قضاء خاص بهم، ثم إن أي اعتداء على النظام العام- فيما هو معتبر جريمة في شريعتنا- لنا حق مقاضاتهم، إلا ما استثنته معاهداتنا ومواثيقنا معهم، أو أصبح علما على أنه من شريعتهم التي قبلنا التعاقد معهم على أن يعطوا حرية فيها.

فصل في الجاهلية

فصل في الجاهلية: عند قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟ يقول صاحب الظلال: «إنّ معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص فالجاهلية- كما يصفها الله ويحددها قرآنه- هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله .. إن الجاهلية- في ضوء هذا النص- ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والناس- في أي زمان وفي أي مكان- إما أنهم يحكمون بشريعة الله- دون فتنة عن بعض منها- ويقبلونها ويسلّمون بها تسليما، فهم إذن في دين الله. وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر- في أي صورة من الصور- ويقبلونها فهم إذن في جاهلية؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين الله. والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية؛ والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية. وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .. وأجل! فمن أحسن من الله حكما؟ ومن ذا الذي يجرؤ على ادّعاء أنه يشرّع للناس، ويحكم فيهم، خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادّعاء العريض؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إن الله- سبحانه- وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد .. كان- سبحانه- يجهل أن أحوالا ستطرأ، وأن حاجات ستجدّ، وأن ملابسات ستقع؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟! ما الذى يستطيع أن يقوله من ينحّي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها

فصل في التكفير

شريعة الجاهلية، وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو- أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر- فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟ ما الذي يستطيع أن يقوله .. وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟ ألم يكن هذا كله في علم الله؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟ قصور شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة، والأوضاع المتجددة، والأحوال المتقلبة؟ ألم يكن ذلك في علم الله؛ وهو يشدّد هذا التشديد، ويحذّر هذا التحذير؟ يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء .. ولكن المسلم .. أو من يدّعون الإسلام .. ما الذى يقولونه من هذا كله، ثم يبقون على شئ من الإسلام؟ أو يبقى لهم شئ من الاسلام؟ إنه مفرق الطريق، الذي لا معدى عنده من الاختيار؛ ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال .. إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية .. والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين .. إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم، وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء! وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلن يستقيم له ميزان، ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح .. وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة، أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا «المسلمين» وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم .. فصل في التكفير: في كتابنا الإسلام ذكرنا عشرين ناقضا من نواقض الشهادتين وقد رأينا أن ابن كثير يعتبر المؤمنين بالياسق والملتزمين بها كفارا يجب قتالهم وقتلهم حتى يتركوها ويحتكموا

إلى كتاب الله، ولا أتصور أن أحدا من علماء المسلمين الأثبات يخالفه فيما ذهب إليه. فالإسلام جدّ وليس هزلا، والإسلام لا يقبل دخلا ولا دغلا، وصراط الله دقيق وميزان الله- عزّ وجل- عادل ومن استفتانا في أحد نقض الشهادتين أفتيناه بالكفر، ومن استفتانا في نظام يرفض الالتزام بالإسلام ويلتزم في دساتيره وقوانينه بغيره أفتيناه بكفره بلا تردد. بل نقول: إنّ أي حزب يرفض الإسلام، أو يريد أن يخلطه بغيره، أو يتبنى في مجموع آرائه ونظرياته ما هو كفر، فهو كافر، وأن أي حكومة تتبنى في مجموع دساتيرها وقوانينها ما يعتبر ناقضا للشهادتين فإننا نعتبرها كافرة، ومن يؤيدها، ويناصرها، فيما هي فيه فهو كذلك كافر فالأنظمة التي تشبه التتار في اعتمادها الياسق أو الياسا حكمها حكمهم. غير أن الحكم على نظام بالكفر لا يعني الحكم على كل فرد من أفراده بالكفر، بل قد نحكم على النظام كله بالكفر ونحكم لرئيسه نفسه بالإسلام، ومن ثمّ نقول: إن الحكم على كل فرد بعينه إنما يخضع للفتوى المعتبرة البصيرة من أهلها على ضوء النصوص، وهذه أمور تحتاج إلى تفصيل: لقد خدم يوسف عليه السلام في نظام كافر له شريعة تختلف عن شريعة يوسف بدليل قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ وبدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ والشك كفر، وإذن فنحن نحكم على النظام الذي خدم فيه يوسف بالكفر، بينما يوسف عليه السلام رسول من الرّسل. وهذا النجاشي حكم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام وصلّى عليه عند ما مات صلاة الغائب، وكان على رأس نظام كافر؛ لأنه لم يكن يحكم بشريعة القرآن، ومع ذلك فنحن نحكم عليه بأنّه مسلم. لقد عطّلت الدولة العثمانية نظام الحدود منذ منتصف القرن التاسع عشر بسبب الظروف الضاغطة فيما زعموا، واستبدلت بها غيرها، ومنذ تلك اللحظة أصبح النظام كافرا، ولكن هل نحكم على السلطان عبد الحميد نفسه بالكفر وهو الذي لا يشك في حرصه على الإسلام، وفي رغبته في إقامته، ولكنّه كان أعجز من أن يستطيع أن يفعل شيئا في زعمه وفي تقدير الكثيرين. هل نحكم بالكفر على رجل قبل وزارة ليخدم الإسلام في ظلّ نظام كافر؟ الذي

عودة إلى السياق

نقوله: إنّ هذه الأمور تخضع للفتوى البصيرة من أهلها، فالفتوى تقدّر زمانا ومكانا وشخصا، وفي كثير من الأحيان قد لا يتأتى لنا أن نعرف كل الحيثيات التي من خلالها نستطيع أن نصدر الحكم. إن فقهاء المسلمين مختلفون حول الجهل في دار الإسلام هل يعتبر كفرا قبل البيان أو بعده؟ فبعض الفقهاء كالشافعية يرون: أنه لا يحكم على مسلم بالكفر في إنكار معلوم من الدين بالضرورة إلا بعد البيان. ولكنّ كل العلماء يرون أنّ الجهل في «دار الحرب» والكفر يعتبر عذرا، فإذا اتضحت هذه النقطة بالذات، وعرفنا أن أكثر العلماء يعتبرون أن الأرض التي تعطّل الحكم بشريعة الله دار حرب، إذا أدركنا ذلك عرفنا أن الحكم على كل فرد بعينه بالكفر بسبب بعض المكفّرات يحتاج إلى فتوى تضع كلّ الأمور باعتبارها، ومن ذلك قضية الرخصة والعزيمة، وقضية الأحكام الأصلية، والفتوى بسبب الأوضاع الاستثنائية، ومن ذلك موضوع فقه الحركة والدّعوة، واحتياجات الحركة اليومية، وأشياء أخرى فصّلناها في محلّها من هذه السلسلة وفي كتب أخرى. عودة إلى السياق: قلنا إن القسم الأول من السورة تألف من المقاطع الثلاثة الأولى والآن نقول: إن القسم الثاني يتألف من مقطعين، المقطع الذي مرّ معنا، والمقطع الذي سيأتي ليبدأ قسم ثالث مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ كما بدئ القسم الثاني. فلنر المقطع الخامس في السورة، وهو المقطع الثاني من القسم الثاني من سورة المائدة. ***

المقطع الخامس ويمتد من الآية (51) إلى نهاية الآية (66) وهذا هو

المقطع الخامس ويمتدّ من الآية (51) إلى نهاية الآية (66) وهذا هو: 5/ 56 - 51

5/ 65 - 57

كلمة في المقطع

5/ 66 كلمة في المقطع: - يأتي هذا المقطع ليوضّح ما أمر الله به أن يوصل، فإذا كانت المقاطع السابقة قد جاء فيها نقض الميثاق، والإفساد في الأرض بشكل أوضح، فإن هذا المقطع يذكر فيه ما أمر الله به أن يوصل بشكل أوضح، فالولاء لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فريضة، فهذا مما أمر الله به أن يوصل. والولاء للكافرين والمنافقين لا يجوز، فمن لم يعط الولاء لأهل الإيمان فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومن أعطى ولاءه للكافرين والمنافقين فقد وصل ما أمر الله به أن يقطع، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة المقطع بمحور سورة المائدة من سورة البقرة. لاحظ الصلة بين محور السورة وبعض معان في هذا المقطع: في السورة من البقرة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وفي هذا المقطع نرى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ وفي محور السورة تجد قوله تعالى وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ* وفي هذا المقطع نجد عن اليهود وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. وهذا كله يؤكد صلة المقطع بمحوره من سورة البقرة، ويؤكد صحة ما اتجهنا إليه في فهم الوحدة القرآنية. في المقطع السابق على المقطع الذي بين أيدنا رأينا فسوق أهل الكتاب، ورأينا كلاما عن الراغبين في حكم الجاهلية، وفي هذا المقطع يحرم الله- عزّ وجل- علينا موالاة أهل الكتاب، ويحذّرنا من الردة، ويبيّن لنا خصائص الجماعة المسلمة، وأن من جملة هذه الخصائص الولاء لله والرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ثم ينهانا ربنا- عزّ وجل- عن

المعنى العام

موالاة الكافرين مطلقا، ويبين لنا كثيرا من مواقف الكافرين جملة، ومواقف أهل الكتاب خاصة، مما هو كالتعليل لمنعنا عن موالاتهم، فارتباط المقطع بعضه ببعض وارتباطه بما قبله، ومحله في سياق السورة الخاص وصلة ذلك بمحور السورة من البقرة كل ذلك له علاماته الكبرى. المعنى العام: ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله. ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض. ثم تهدّد وتوعّد من يتعاطى موالاتهم ووصفه بالظّلم، وأن الله لا يحبّه، وأيّ عقوبة أفظع من أن يبغض الله إنسانا؟ ثمّ أخبر تعالى عن الذين في قلوبهم مرض، وشكّ، ونفاق، كيف أنهم يبادرون إلى موالاتهم ومودّتهم في الباطن والظاهر، متأولين في مودتهم وموالاتهم، أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، أو الكافرين عامة، فينفعهم ذلك، ناسين أن النصر بيد الله، وأن الأمر كله له، وقد ذكّر الله هؤلاء وغيرهم أنّ هؤلاء سيندمون على ما أسرّوه في أنفسهم، من موالاة الكافرين يوم ينصر الله جنده، ويعلى كلمته، وعندئذ سيجدون أن ما كان منهم لم يغن عنهم شيئا، ولا دفع عنهم محذورا بل على العكس، كان عين المفسدة لهم، فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبيّن أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنّهم من المؤمنين ومعهم، ويحلفون على ذلك أشدّ الحلف، فبان كذبهم وافتراؤهم، وأحبط الله أعمالهم، فكانوا خاسرين [وورود كلمة خاسرين في هذا السياق يذكّرنا بالارتباط في محور سورة المائدة من سورة البقرة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* إذ أن هؤلاء نقضوا العهد والميثاق، وما أمر الله به أن يوصل من ولاء أهل الإيمان بعضهم لبعض]. ثم أخبر تعالى عباده المؤمنين عن قدرته العظيمة ورعايته لشئون دينه بأنه عند ما يتولى أحد عن نصرة دينه، وإقامة شريعته، فإنّ الله سيستبدل من هو خير لها منه وأشدّ منعة، وأقوم سبيلا، ممّن يتّصفون بالتواضع للمؤمنين، والشدّة على الكافرين، والعزّة عليهم، ممن يحبون الله ويحبهم الله، ممن يجاهدون في سبيل الله، ولا يردّهم عمّا هم فيه من طاعة الله وإقامة الحدود وقتال أعداء الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادّ، ولا يصدهم عنه صادّ، ولا يؤثر فيهم لوم لائم، ولا

عذل عاذل، ثم بيّن الله أنّ الاتصاف بهذه الصفات أثر عن فضله وتوفيقه، وهو الواسع الفضل، العليم بمن يستحق ذلك ممن لا يستحقه، وبعد أن حرّم الله في بداية المقطع تولي اليهود والنصارى، فضلا عن غيرهم من الكافرين، حدّد من يستحقون ولاية المسلم، فذكر أنه لا يستحقها إلا الله ورسوله والمؤمنون، المتصفون بإقام الصلاة التي هي بعد الشهادتين أكبر أركان الإسلام، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين، ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين، ثم أعطى الله وعده أن كل من يرضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو منصور وغالب في الدنيا والآخرة، ثم أعاد الله الكرّة بالتنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون- وهي شرائع الإسلام المطهرة، المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي- يتخذونها هزوا يستهزءون بها، ويعتقدون أنها نوع من اللعب، في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد، فكل من اتّخذ دين الله هزوا ولعبا من كتابي أو ملحد أو مشرك، فقد نهى الله عن موالاته. فأي جهل هذا الجهل العريض الذي وقع فيه عامّة المسلمين وخاصتهم، عند ما يوالون من هذا شأنه من زعماء أحزاب أو قادة سياسيين، أو رؤساء دول، ثم أمر الله- عزّ وجل- بتقواه وبالخوف منه؛ إذ بدون تقوى فلا إيمان، وكما يستهزئ هؤلاء بدين الله وشرائعه، فإنّهم إذا أذّن المسلمون داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال- لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب- يتخذون الصلاة هزوا ولعبا؛ بسبب جهلهم بمعاني عبادة الله وشرائعه، وما أكثر ما نصادف هؤلاء في عصرنا، حتى من أبناء المسلمين، الذين يعتبرون الصلاة لا تليق بالخاصّة، ويعتبرونها نوعا من أنواع الحركات الرياضية، يغني عنها غيرها بل يفضلها، ألا ما أجهلهم بجلال الله وحقه في أن يعبد، وما أكثر ما استطاع أعداء الله أن يكفّروا أبناء المسلمين. وبعد أن نهى الله عن اتخاذ الكافرين كلهم أولياء، ناصّا على أهل الكتاب خاصة، لأنهم مظنة أن يخدعوا المسلمين، فإنه أمر أن نوجّه لهم الخطاب في تسفيه ما هم عليه. فلا يكفي أن يكون موقفك من الكفر وأهله سلبيا، بل لا بد من موقف إيجابي، لأنه بدون ذلك لا يسلم لك حتى الموقف السلبي. ومن ثم أصدر الله أمره لرسوله صلّى الله عليه وسلّم- وهو أمر في الوقت نفسه للأمّة- أن تقول لأهل الكتاب هل لكم مطعن علينا أو عيب، إلا أننا نؤمن بالله حق الإيمان، وما أنزل علينا وما أنزل عليكم، وهل تنقمون منا إلا لأنكم فاسقون عن أمر الله، لا تلتزمونه ونحن نلتزم أمر الله كاملا، ثم أمرنا أن نقول لهم: هل نخبركم بمن هو شرّ

جزاء عند الله يوم القيامة؟ إنّهم أنتم المتصفون بما استوجبتم به لعنة الله، وغضبه ومسخه لكم، قردة وخنازير، أنتم الذين عبدتم الطاغوت من دون الله، فأنتم إذن شرّ مكانا مما تظنون بنا، وأنتم الضّالّون عن سواء السبيل، وبمناسبة النهي عن موالاتهم والأمر بتقريعهم يذكر لنا حالة من حالاتهم كيلا نخدع بهم، ثم حالة أخرى تنفر منهم وتقزّز النّفس من أحوالهم، أما الحالة الأولى فهي أنهم أحيانا يصانعون المؤمنين، بإعلان الإيمان في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ويدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم مستصحبون الكفر، ويخرجون من عنده والكفر كامن في أنفسهم لم ينتفعوا بما قد سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العلم، ولم تنجع فيهم المواعظ، ولا الزواجر، والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإنّ الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم، وسيجزيهم على ذلك أتمّ الجزاء. أما الحالة الثانية فهي أنهم يبادرون إلى تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على النّاس، وأكلهم أموالهم بالباطل، فلبئس العمل عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم، وهذه الحالة التي هم عليها لا ينهاهم عنها زهّادهم ولا علماؤهم، فلبئس صنيع الجميع. ثم أخبر تعالى عن مظهر من مظاهر جهل اليهود بالله، وسوء أدبهم معه، إذ يصفونه تعالى بأنه بخيل، جامعين إلى ذلك سوء التعبير، وقد ردّ الله- عزّ وجل- عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه، بأن جعل أيديهم مغلولة، ولعنهم بسبب قولهم هذا، وبيّن تعالى أنه وحده الكريم ذو الكرم المطلق، لأنه ذو المشيئة المطلقة، فهو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شئ إلا عنده خزائنه، وما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شئ مما نحتاج إليه في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، فهل هو الذي يستحق الولاية أم هؤلاء؟ ولنتذكّر أن هذا كله يأتي في سياق المقطع الذي ينهى عن موالاة هؤلاء وأمثالهم، ليكون قطع الولاء مبنيّا على أساس من الفهم العميق لوضع هؤلاء، ونفسيّتهم، وسلوكهم، ومن أجل أن نزداد بصيرة بيّن تعالى أنّ ما يؤتي الله- عزّ وجل- محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمّته من النّعم لا يزيد هؤلاء اليهود وأشباههم إلا نقمة، فبينما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا، وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون له ولأمته طغيانا، وقد عاقبهم الله- عزّ وجل- بأن ألقى بينهم العداوة والبغضاء، والخصومة والجدال في الدين، فلا تجتمع قلوبهم أبدا، وقد خالفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذبوه، وقد وعدنا الله أنه كلما عقدوا أسبابا يكيدوننا بها، وكلما أبرموا أمرا يحاربوننا فيه، أبطله الله، وردّ

كيدهم عليهم، وحاق مكرهم السيئ بهم. ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنّ من سجيّتهم أنّهم دائما يسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب من هذه صفته، ولم يتضح في عصر من العصور صفة الإفساد لليهود كما اتضحت في عصرنا، ومن كان هذا شأنه، ومن كان الله ضدّه، ومن تكفّل الله بإبطال مخططاته، فإنّه حري أن يعادى لا أن يوالى، ومن خلال ذكر الإفساد في الأرض نتذكر الصلة بين هذا المقطع ومحور السورة. ثم بيّن تعالى أن أهل الكتاب لو اجتمع لهم الإيمان والتقوى لكفّر الله عنهم ذنوبهم، وأدخلهم الجنة، ولو أن أهل الكتاب عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير لقادهم ذلك إلى اتّباع الحق، والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه، لو أن أهل الكتاب اجتمع لهم هذا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض مع تكفير السيئات ودخول الجنة، ولكن الواقع ليس كذلك فإنّ قسما منهم فقط، اجتمع له الاقتصاد في العمل ضمن هذه الحدود، وأما البقية فأعمالهم سيئة ونياتهم سيئة، وعلى الكفر والظلم والفسوق مقيمون، وبهذا ينتهي هذا المقطع الذي يعمّق قضية الولاء، التي أمر الله أن تكون هي الجامعة بين المؤمنين، وحرّم أن تكون بين أهل الإيمان وغيرهم، وقد بدأ المقطع في تحريم الولاء لليهود والنصارى. وختم المقطع بما ينفّر من كل معنى من معاني الولاء لليهود والنصارى، وإذا كان الأمر كذلك في اليهود والنصارى، وإذا كان هذا شأن هؤلاء فما بال الأبشع والأقبح أهل الإلحاد والشرك؟ وهكذا جاء النهي عن موالاة الكافرين بين تعليلين، تعليل سابق في المقطع الرابع، وتعليل لاحق في المقطع الخامس. وجاء تحديد صفات حزب الله، التي من جملتها تحرير الولاء لله والرّسول والمؤمنين، بين نهيين عن موالاة الكافرين. فاتضح بهذا القسم في مقطعيه ما ينبغي أن يوصل وما ينبغي أن يقطع. إن الكافرين والمنافقين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهو موالاة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ويصلون ما أمر الله به أن يقطع، وهو موالاة الشيطان وأهله، وبذلك استحقوا الإضلال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

المعنى الحرفى

لقد اتضح لنا من سورة المائدة ما به يستحق ناس هداية الله بهذا القرآن، وما به يستحق ناس إضلال الله لهم بهذا القرآن يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً. فمن تتبع ما ورد في سورة المائدة، عرف طريق الهداية، وعرف طريق الضلال، وعرف الكثير من تفصيلات الفسوق وضده، ومن تفصيلات قطع ما أمر الله به أن يوصل وضده، ومن تفصيلات الإفساد في الأرض وضده، وكل ذلك ضمن سياق السورة الخاص، بما يرتبط به القرآن بعضه ببعض، بأكثر من رابطة ووشيجة، روابط ووشائج لا يحيط بها إلا الله تعالى. المعنى الحرفى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. أي: تنصرونهم وتستنصرونهم، وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم ذكر علّة ذلك فقال: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دلّ هذا على أن الكفر ملّة واحدة تجاه الإسلام والمسلمين، فما أسخف من ينسى هذا وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي: من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من الله، وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين، وقد كتبنا كتابنا «جند الله ثقافة وأخلاقا» وكان هدفا من أهدافه أن نبيّن أهمية الولاء في دين الله، ونبيّن حدوده، فليراجع. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أي: لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر، وقوله تعالى هنا: لا يَهْدِي .... يذكرنا بالآيتين اللتين هما محور سورة المائدة واللتين فيهما وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... فإذا تذكرنا هذا علمنا كيف أن هذا المقطع يأخذ محله في سياق السورة ضمن محورها ليطهر القلوب من كل ما يهلكها. ويربيها على كل ما يزكيها فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. أي: نفاق يُسارِعُونَ فِيهِمْ أى: يبادرون في موالاة اليهود والنصارى وأمثالهم ومعاونتهم، والسبب الدافع لذلك هو يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ. أي: يقولون في أنفسهم نخاف أن تصيب المسلمين حادثة، أو نازلة تدور بالحال التي يكونون عليها من الظهور والغلبة، فمن أجل أن تكون لهم أياد ووجه عند الكافرين، يبادرون إلى موالاتهم، هذا لسان حالهم وللمسلمين ظهور، فكيف إذا كانت الدائرة للإسلام والمسلمين كما هو الحال في زماننا، فإنك ترى العجب العجاب من مسارعة أهل النفاق للتهالك على أبواب أهل الكفر وخدمتهم، والتقرّب إليهم بضرب أولياء الله وحربهم فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ. أي: لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين وللإسلام على الأعداء أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. أي: أن

[سورة النساء (4): آية 53]

يؤمر النّبي عليه الصلاة السلام بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. أو أن يكون لله مراد في شأن أهل الكفر يذلّهم به ويرغمهم، أو أن يكون لله أمر تشريعي من عنده في شأن أهل الكفر والنفاق وقد فعل فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. أي: فيصبح أهل النفاق على ما أخفوه في أنفسهم من النفاق نادمين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بعضهم لبعض إذا ظهر نفاق أهل النفاق وتكشّف أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ. أي: أهؤلاء الذين أقسموا لكم بأغلظ الإيمان، مجتهدين في توكيد أيمانهم، أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. أي: ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة، لا إيمانا وعقيدة. وهذا من قول الله- عزّ وجل- شهادة بحبوط الأعمال، وتعجيبا من سوء حالهم فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة. فوائد: [حول آية .. لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ... وسبب نزولها] 1 - أخرج ابن أبي حاتم عن عياض أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد. وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك، فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر: أجنب هو؟ قال: لا، بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية» أقول: هل يفهم من هذا حرمة إعطاء الذمّي عملا للمسلمين؟ المسألة ذات صور متعددة، تختلف باختلاف الأعمال، والأحوال والظروف، والزمان والمكان، وتحكم فيها الفتوى البصيرة من أهلها. 2 - وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال: فظننّاه يريد هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآية. من مثل هذه النصوص والفهوم ندرك هذه الحقيقة المهمّة في الإسلام، وهي أن الولاء يجب أن يكون للإسلام والمسلمين، أو بتعبير آخر إنّ الولاء يجب أن يكون للإسلام وأهله، أو بتعبير آخر إن الولاء يجب أن يكون للإسلام وللجماعة المسلمة، والجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك. 3 - اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات: فذكر السّدي أنّها

نزلت في رجلين، قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإنّي ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوّد معه، لعلّه ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث، وقال الآخر: أما أنا فإنّي ذاهب إلا فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصّر معه، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيات. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، فسألوه ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه أي إنّه الذبح. رواه ابن جرير. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، كما روى ابن جرير .. عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود، كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبي: «يا أبا الحباب، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه». قال: قد قبلت! فأنزل الله- عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ الآيتين. ثم روى ابن جرير .. عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن الصيف: أغرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا، فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بدّ لي منهم، فقال رسول الله: «يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه». فقال: إذا أقبل! قال: فأنزل الله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ- إلى قوله تعالى- وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنو قينقاع فحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في مواليّ- وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، قال: فأعرض عنه، قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسلني». وغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: «ويحك أرسلني». قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم لك». قال محمد بن إسحاق، فحدثني أبا إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشبّث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وكان أحد بني عوف بن الخزرج- له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي- فجعلهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتبرّأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أبرأ إلى الله وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إلى قوله وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. وروى الإمام أحمد .. عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد كنت أنهاك عن حب يهود». فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق». يقصد عدو الله أن يردّ على قول الرسول عليه الصلاة السلام بأن أسعد بن زرارة قد أبغضهم سماعا لأمرك، فلم يغن عنه ذلك شيئا وها قد مات فلم تنهاني عنهم؟ بعد ذكر أسباب النزول هذه نستطيع أن نقول: إن للنّفاق مظاهر متعددة متجدّدة، فللنفاق مظاهره عند ما تكون الدولة للمسلمين. وللنفاق مظاهره عند ما تكون الدولة للكافرين، وللنفاق مظاهره عند ما تكون المسألة بين بين، أو تحتمل وتحتمل. وفي أسباب النزول المارّة مظهر من مظاهر هذا النفاق في حالة من الحالات. والأصل الذي ينبغي أن نعرفه أن النفاق مرض في القلب يصيب الإنسان كما يصيبه الكفر أو الحسد أو الحقد أو الغل أو الكبر، وأنّ المظهر الرئيسي لهذا المرض هو الولاء للكافرين والمنافقين، هذا الولاء يكون خفيا أحيانا، ويكون ظاهريا أحيانا، ويكون بشكل ويكون بآخر على حسب الأحوال، ولا بد أن نلاحظ في أنفسنا أنّ من واجبنا أن

[سورة النساء (4): آية 54]

نطهّر هذه الأنفس من النفاق بالسلوك الحقيقي لطريق الإيمان، وأن نقطع كل معنى من معاني الولاء في أنفسنا لأعداء الله، وكذلك علينا أن نلاحظ في عملية التربية للمسلمين أن نعمّق قضية الإيمان في أنفسهم، وأن نحرّر هذه الأنفس من كل مظاهر الولاء المنحرف. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ. أي: من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. أي: يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها، ويطيعونه ويؤثرون رضاه، ويسيرون في الطرق المؤدية إلى محبته، ويتخلون عن الطرق التي تؤدي إلى ما يبغض أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الأذلة جميع ذليل، والذليل بيّن الذّل، وقد قال تعالى: أذلة على المؤمنين، ولم يقل أذلة للمؤمنين ليضمّن الذّل معنى الحنو والعطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التّذلل والتواضع، وهذه الذّلّة ذلة الولد لوالده وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (الإسراء: 24) فهي أثر عن الرحمة، ولذلك وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: 49) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. أي: أشداء عليهم، والعزاز الأرض الصلبة، فهم مع المؤمنين كالولد لوالده، والعبد لسيده، ومع الكافرين كالسبع على فريسته يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بقتال أعدائه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. أي: يجاهدون وحالهم في الجهاد خلاف حال المنافقين، لأن المنافقين لا يعملون شيئا يعلمون أنهم بسببه يلحقهم لوم من جهة الكافرين، أمّا المؤمنون فصفتهم الجهاد في سبيل الله، وهم صلّاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين، لا تروعهم لومة لائم، لا تؤثر فيهم، ولا تمنعهم عن المضيّ فيه. واللّومة: المرّة من اللوم، وفي تنكير اللومة ولائم مبالغتان، فكأنه قيل لا يخافون شيئا قط من لوم واحد من اللوّم، وفي عصرنا حيث تزداد حملات الإعلام العالمي ضد الجهاد وأهله، يدرك المسلم ضرورة التحقق بهذه الصفة. وفي عصرنا- عصر ضعف المسلمين- إذ يفرض الضعف منطقه على الكثيرين، فيلومون من جاهد، ندرك ضرورة التحقق بهذه الصفة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ هذا إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة، وانتفاء خوف اللومة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ومن سعته كثرة إفضاله، ومن علمه أن يعطي هذه الصفات لمن هو أهلها. وبعد أن ذكر في بداية هذا المقطع من تجب معاداته يذكر الآن من تجب موالاته فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ إنما تفيد الاختصاص أي: المذكورون وحدهم يخصّون بالموالاة وتجب لهم. ولم يجمع الولي وإن

[سورة النساء (4): آية 56]

كان المذكور جماعة تنبيها على أن الولاية لله أصل، ولغيره تبع، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع، وأما قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ قال ابن كثير: «فقد توهّم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن علي بن أبي طالب، أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مرّ به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه». وبعد أن ذكر ابن كثير هذه الروايات، قال: وليس يصحّ شئ منها بالكليّة، لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها، ثم نقل عن ابن عباس قوله: نزلت في المؤمنين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أولهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. أي: فإنهم هم الغالبون. دلّت الآية على أن الذين يتولون الله ورسوله والمؤمنين هم حزب لله، وأن الله ناصرهم، وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم أي أصابهم. فوائد: 1 - [الأمر بموالاة من توفرت فيهم صفات حزب الله] جاءت هذه الآيات الثلاث المبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* بين مجموعتين من الآيات كل منهما مبدوءة ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* وكل منهما تنهى عن موالاة الكافرين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ فكأنها وهي بين مجموعتين تنهيان عن موالاة الكافرين تقول: كونوا على هذه الصفات، ووالوا من توافرت به هذه الصفات، لا أولاء ولا أولئك، ولقد رأينا في أسباب النزول أنّ هذا المقطع كله مع أول آية من المقطع اللاحق كل ذلك نزل في حادثة واحدة. 2 - [توجيه هام إلى قراءة كتاب «جند الله ثقافة وأخلاقا» للمؤلف] في كتابنا «جند الله ثقافة وأخلاقا» برهنّا في القسم الثاني منه أنّ الأخلاق الأساسية الجامعة في الإسلام هي هذه الأخلاق الواردة ما بين قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ... إلى قوله .. هُمُ الْغالِبُونَ فليراجع الكتاب فإن فيه كثيرا من الخير، وقد قال ابن كثير في الآية: هذه صفات المؤمنين الكمّل.

3 - استنباط لطيف للنسفي من آية الردة

3 - [استنباط لطيف للنسفي من آية الردة] قال النسفي في آية الردة: «وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان، وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين، وصحة خلافته وخلافة عمر رضي الله عنهما». 4 - [حديث حول قوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .. ] أخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: لما نزلت فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم قوم هذا» أي أبي موسى الأشعري وقد كان لأهل اليمن دورهم الكبير في إنهاء الردة السابقة، ونرجو أن يكون لهم دور جديد في إنهاء هذه الردة المعاصرة، وكل المسلمين مطالبون بإنهائها. 5 - [بعض الأحاديث الخاصة بالآيات (54 - 56)] بمناسبة هذه الآيات نقل ابن كثير بعض الأحاديث وهذه هي: أ- روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: «أمرني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بسبع: أمرني بحب المساكين والدنوّ منهم، وأمرني أن انظر إلى من هو دوني، ولا انظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش». ب- وروى الإمام أحمد عن أبي المثنّى أنّ أبا ذرّ رضي الله عنه قال: «بايعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا وأوثقني سبعا، وأشهد الله علي تسعا- أن لا أخاف في الله لومة لائم- قال أبو ذر: فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هل لك إلى بيعة ولك الجنة» قلت: نعم، قال: وبسطت يدي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يشترط علي «أن لا تسأل الناس شيئا» قلت: نعم، قال: «ولا سوطك إن يسقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه». ج- وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا لا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكّر بعظيم» تفرّد به أحمد. د- وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول: مخافة النّاس. فيقول: إياي أحق أن تخاف» ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة.

6 - فائدة عظيمة من نتائج الردة الأولى أيام أبي بكر

هـ- وروى أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى إنّه ليسأله يقول له: أي عبدي رأيت منكرا فلم تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدا حجته قال: أي رب وثقت بك وخفت الناس». و- وثبت في الصحيح: «ما ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه قالوا: وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله؟ قال: يتحمل من البلاء ما لا يطيق». أقول: وكل امرئ أدرى بما يطيق، وعند ما يكون الأمر فرض عين فعلى كل إنسان أن يقيمه بقدر استطاعته. 6 - [فائدة عظيمة من نتائج الردة الأولى أيام أبي بكر] لقد وقعت الرّدّة الأولى بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، ولكن توافر للمسلمين وقتذاك أمور: قائد واحد هو أبو بكر، وصفّ واحد، وتربية رفيعة، وجهاد. والآن لا جهاد، ولا تربية رفيعة، ولا صفا واحدا، ولا قائدا واحدا، ومن ثمّ فإن هذه الردّة تمتدّ وتستمرّ، ولا بدّ للمسلمين الآن من طريق، تتحقق فيه التربية الرفيعة؛ ليوجد الصف الواحد؛ لتنبثق عنه القيادة ليقوم الجهاد، ولا شكّ أن هنا سؤالا خطيرا هو؟ من الذي يشق الطريق؟ أليس هي القيادة الربانية، فكيف نوفّق بين البداية التي لا بد منها، وبين قولنا صف تنبثق عنه قيادة فنجعل القيادة نتيجة وهي البداية؟ نقول: إنّ العمل الرباني يقتضي نكرانا للذات يتمّ معه السير في الطريق الصحيح، ثمّ إنّ الصف من خلال الشورى، لا يعجزه أن يختار قياداته المؤهلة لتحقيق هدف ما ضمن نظرية تنظيمية سليمة وصحيحة وبطبيعة الحال فإعلان الجهاد ليس هو البداية وهذا هو المراد هنا أما التربية والنظرية فلا بد أن تطرحهما قيادة ربانية ابتداء. 7 - [توجيه للتحقق بصفات حزب الله] ذكرت الآيات الثلاث التي مرّت معنا، صفات حزب الله، وعلى كلّ مسلم، وعلى كل مجموعة أن تفتّش في نفسها عن هذه الصفات، ولو أنّ كل مجموعة من المسلمين تحققت بهذه الصفات، بل لو أنّ كل فرد من المسلمين تحقق بهذه الصفات، لقطع المسلمون شوطا بعيدا في كل شئ، سواء في سيرهم إلى الله، أو في سيرهم نحو تحقيق الأهداف، أو في سيرهم نحو الجماعة الواحدة، أو في سيرهم نحو العمل الجماعي. ولكنّ قصورا في الصفات قد وقع، وقصورا في النظر قد وجد عند الكثيرين، إلّا من رحم الله. إن كل مجموعة من المسلمين غلب عليها النظر إلى إيجابيات ما هي عليه دون سلبياته، والنظر إلى سلبيات غيرها دون إيجابياته، ولو أنّ كل مجموعة نظرت إلى سلبيات ما عندها، وإيجابيات ما عند الآخرين، على ضوء النصوص، وعمل الجميع من أجل أن

[سورة النساء (4): آية 57]

يكمّل بعضهم بعضا، وأن يتكامل بعضهم ببعض، وضمّهم جميعا ولاء لبعضهم بالحق، وانطلقوا من خلال الشورى، لأرضوا ربهم، ثم لقهروا عدوّهم، إنني لا أستطيع أن أفهم كيف يحجب المسلم ولاءه عن أخيه المسلم والله عزّ وجل- يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (التوبة: 71) ألا ما أكثر ما يتلاعب الشيطان ببعض العقول. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ يعني اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة، وإذا كان أول المقطع نهى عن موالاة اليهود والنصارى، فقد ضم إلى أولئك هنا الكافرون عامّة، من ملحدين، ومشركين، ومجوس، وهندوس، وبوذيين، أو غير ذلك، وقد دلّت الآية أنّ الكافرين عامة ينظرون إلى دين الله بسخرية، ويعتبرون شعائره وشرائعه لعبا وَاتَّقُوا اللَّهَ أن توالوا الكفار، وفي إقامة شرعه كله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقّ الإيمان، لأنّ الإيمان الحق يأبى موالاة أعداء الله، ويتطلب خوفا من الله وحده وتطبيقا لشرعه، وبعد أن بيّن أنّ الكافرين عامّة يتخذون ديننا هزوا ولعبا، بيّن أنّ موقفهم هذا يسري على أرقى العبادات، وهي الصّلاة فقال: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ لأن استهزاءهم بالصلاة، واعتبارهم إياها لعبا غاية الحماقة والجهل، إذ أي جهل وحماقة أكبر من مثل هذه النّظرة إلى الصلاة وهي عبادة لله، فهل العاقل من يعبد الله أو من يستكبر عن عبادته؟ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي: هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله، وبكل كتاب أنزله الله، من القرآن إلى ما قبله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي: وهل تعيبون منا وتنكرون إلا بأن أكثركم فاسقون والمعنى: أعاديتمونا لأنّا اعتقدنا توحيد الله، وصدق أنبيائه، واعتقدنا فسقكم لمخالفتكم الحق؟ أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمّة قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً. أي: ثوابا، والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنّها وضعت موضع العقوبة هنا، مثل قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ*. عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أي: من لعنه الله واتصف بالصفات اللاحقة، شرّ عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ. أي: اليهود الذين مسخوا بسبب

[سورة النساء (4): آية 61]

اعتدائهم في السبت، كما سيأتي تفصيله في سورة الأعراف وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. أي: الشيطان، أي ما زيّنه الشيطان لهم للعبادة، كالعجل والبعل وغير ذلك أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً. أي: المتصفون بهذه الصفات مكانهم أكثر شرا، ووصف المكان بالشرّية، والمراد أهله للمبالغة وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. أي: عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة، فهم لا يهتدون إلى هذا الطريق لأن هذا الطريق هو الذي بعث الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به. ثم وصف الله- عزّ وجل- نوعا من المنافقين من اليهود فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ. أي: يدخلون على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويظهرون له الإيمان نفاقا، والتقدير: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين. وتقديره: متلبسين بالكفر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي: من النفاق وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ. أي: من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ. أي: يبادرون في المعصية كالكذب وَالْعُدْوانِ. أي الظلم، والمسارعة في الشئ: الشروع فيه بسرعة وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. أي: الحرام وخاصة الرّشا لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لبئس شيئا عملوه لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي: الزّهّاد والعبّاد وَالْأَحْبارُ. أي: العلماء عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ. أي: لبئس الصنيع صنيعهم. كلمة في السياق: 1 - بعد أن نهانا الله- عزّ وجل- عن اتخاذ الذين اتخذوا ديننا هزوا ولعبا أولياء، يكشف لنا الكثير من حقيقتهم، التي تنفرنا عن أن نتخذهم أولياء، والسّياق لا زال مستمرا في بيان مثالبهم، ولذلك سيأتي معنا وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. 2 - يلاحظ أن هذا المقطع فيه حديث عن السّحت، وقد بدأ المقطع السابق عليه بالكلام عن السّحت، وقد كنّا قلنا إن هذين المقطعين يشكلان قسما من أقسام سورة المائدة، وهذا مظهر من مظاهر وحدة المقطعين، ومن مظاهر ذلك: أنّه بناء على ما مر في المقطع السابق نهينا عن اتخاذ أهل الكتاب أولياء وأن ما نحن فيه تعليل للنهي عن اتخاذهم أولياء. فوائد: 1 - [مهمة العباد والزهاد والعلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] غلب على بعض العبّاد والزهّاد في الأمّة الإسلامية العزلة عن الناس، وترك الدعوة الشاملة، مع أن هؤلاء أولى بالقيام بهذه الشئون، وكذلك العلماء، بل الأمر في حقهم

2 - ثبوت الأذان بدليل من القرآن

أوجب، ودليل ذلك قوله تعالى لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ... وإنّما قال ابن عباس ذلك لأنه أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الرّبانيون والأحبار. فلمّا تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرّب أجلا. وأخرج الإمام أحمد .... عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعزّ منه وأمنع ولم يغيّروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب» ورواه أبو داود عن جرير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيّروا عليه فلم يغيّروا إلا أصابهم الله قبل أن يموتوا». وقال الحافظ المزي: «وهكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق به» أقول: المهمّ أن يمارس المسلم عملية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولو بشكل بسيط وسينقله هذا إلى أن يكون ذلك خلقا له. 2 - [ثبوت الأذان بدليل من القرآن] وفي قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... يقول النسفي: وفيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. ويذكر ابن كثير نموذجا على موقف أهل الشرك من الأذان وفيه معجزة. قال: «وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذّن، وأبو سفيان ابن حرب، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتّاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث ابن هشام: أما والله لو أعلم أنّه محق لاتّبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو

3 - أحاديث حول مسخ اليهود قردة وخنازير

تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد علمت الذي قلتم». ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنّك رسول، ما اطّلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك» 3 - [أحاديث حول مسخ اليهود قردة وخنازير] بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ينقل ابن كثير حديثا عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: «إن الله لم يهلك قوما- أو قال: لم يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإنّ القردة والخنازير كانت قبل ذلك». وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومسعر. وروى أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: «لا، إنّ الله لم يلعن قوما فيمسخهم، فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم». ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. أي: بخيلة. قال ابن عباس لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكن يقولون بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ هذا دعاء عليهم بالبخل، ومن ثم كانوا أبخل الناس، أو تغلّ في جهنم، فهي كأنّما غلّت وَلُعِنُوا بِما قالُوا. أي: بما وصفوا الله بما لا يليق بذاته بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ قال ابن كثير. أي: هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء. قال النسفي: «ثنّيت اليد في: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وهى مفردة في (يد الله مغلولة) ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له، ونفي البخل عنه، فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ هذا تأكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. أي: يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود وكفرا بآيات الله وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكلامهم أبدا مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق، ولا تعاضد إلا ظاهري كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. أي: كلما أرادوا حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نصر عليهم، أو كلما أرادوا حرب الإسلام وأهله غلبوا وقهروا، أو كلما أرادوا إشعال نار حرب على الإسلام وأهله أطفأ الله كيدهم وشرهم، وما غلبوا في عصرنا في بعض المعارك إلا لأنهم يحاربون رايات لم تقم على

[سورة النساء (4): آية 65]

تقوى، ولم تنتصب لإسلام وما غلبوا إلا بحبل الله وحبل من الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بنشر الفاحشة حيث كانوا، وقتل أخلاق الشعوب، ومقاومة الخير ونشر أفكار الضلال والكفر وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ولذلك فإنّه لا يحبهم بل يبغضهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام وَاتَّقَوْا باتّباع كتاب الله، فقرنوا إيمانهم بالتقوى لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. أي: لسترناها عليهم ولم نؤاخذهم بها، وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ لكونهم مسلمين وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، أي أقاموا أحكامهما وحدودهما، وما فيهما من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من القرآن لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني الثمار من فوق رءوسهم وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني الزروع، وهذا كله يفيد التوسعة، دلّت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ. أي: طائفة حالها الاقتصاد في مواقفها، أي ليست مسرفة ومتجاوزة للحدّ فهي مؤمنة، وتعمل صالحا باقتصاد وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي: وكثير منهم ما أسوأ عملهم. فوائد: [حول الآيات (64 - 66)] 1 - قال النسفي في قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (الإسراء: 29) 2 - قال ابن كثير في سبب نزول الآية: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. «وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنخاص اليهودي- عليه لعنة الله-، وقد تقدم أنه الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. 3 - روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، قال: وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى القبض يرفع ويخفض ... قال: وقال الله تعالى: أنفق أنفق عليك».

كلمة في السياق

4 - أخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن يرفع العلم» فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلّمناه أبناءنا؟ فقال: «ثكلتك أمّك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله. ثم قرأ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وقد رواه الإمام أحمد متصلا موصولا عن زياد بن لبيد أنه قال: ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا فقال: «وذاك عند ذهاب العلم» قال: قلنا: يا رسول الله. وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟، قال: «ثكلتك أمك يا بن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء». وهكذا رواه ابن ماجه. وقال عنه ابن كثير. وهذا إسناد صحيح 5 - عند قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ قال ابن كثير: فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله- عزّ وجل-: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها الآية. (فاطر: 32) والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة». كلمة في السياق: - لقد لاحظنا أثناء الشرح الكلي أو الحرفي لمعنى المقطع السابق كثيرا مما له علاقة بوحدة المقطع الذي مر معنا، وارتباطه بمحور السورة ضمن السياق القرآني العام، وأهم شئ نحب أن نذكر به هنا أن الهداية والضلال، وأسباب الهداية والضلال هي محور السورة الرئيسي، ومن أسباب الضلال قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومن أسباب الهداية وصل ما أمر الله به أن يوصل، وأن تولي الكافرين وصل لما أمر الله به أن يقطع، وأن تولي المؤمنين وصل لما أمر الله به أن يوصل، والمقطع الذي مر معنا فصّل كثيرا في المعاني التي تنفر من ولاء الكافرين، وتحبب بولاء المؤمنين، وقد لاحظنا في أسباب النزول أن منها ما ذكر أن آيات المقطع كله، وأول آية في المقطع اللاحق نزلت في موضوع واحد، ومن ثم نقول إن المقطع اللاحق الذي يبدأ

فصول ونقول

بخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هو امتداد للمقطع السابق في معانيه، ومضامينه. وسنرى ذلك. - قد قلنا عن المقطعين الأخيرين: إنهما يشكلان القسم الثاني من أقسام سورة المائدة، وأفضنا في الكلام عن وحدتهما، وأكدنا كثيرا أن النّهي عن الولاء للكافرين جاء مسبوقا بما ينفّر عنه ومتبوعا بما ينفّر عنه أيضا، وأنّ ذلك قد استغرق القسم بمقطعيه، وكما أن القسم الثاني بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ فإن القسم الثالث يبدأ بذلك: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. فصول ونقول: فصل في زمن نزول بعض الآيات من سورة المائدة: رأينا أثناء الكلام عن المقطع الخامس كيف تردّد اسم بني قينقاع فيه، ورأينا أن بعض الروايات تذكر أن الآية الأولى من المقطع السادس وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ نزلت مع هذا المقطع، وهي آية يبدو أنها نزلت مبكرة في المدينة، وكل ذلك يشير إلى أنّه ليس كل سورة المائدة نزلت متأخرة، وفي ذلك يقول صاحب الظلال: «نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة من أن هذه السورة، لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري، وأن مقاطع كثيرة فيها يرجّح أن تكون قد نزلت قبل ذلك؛ وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع- عام الأحزاب- على الأقل، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضا .. قبل إجلاء بني النضير بعد أحد، وبني قينقاع بعد بدر .. فهذه النصوص تشير إلى أحداث، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين، لا تكون أبدا بعد كسر شوكة اليهود؛ وآخرها كان في وقعة بني قريظة. فهذا النصّ عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء. وهذا التحذير- بل التهديد- بأن من يتولهم فهو منهم. وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر. وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزوا ولعبا، والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين- إذا قام المسلمون إلى الصلاة- هزوا ولعبا .. كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن، ما يجعل

نقول في موضوع الولاء

من الممكن أن تقوم هذه الملابسات، وأن تقع هذه الحوادث، وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد، وإلى هذا التهديد المكرر، ثم إلى حقيقة اليهود، والتشهير بهم والتنديد، وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو، المنوع الأساليب. وقد ذكرت بعض الروايات أسبابا لنزول آيات في هذا الدرس؛ يرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزوة بدر. وموقف عبد الله بن أبي بن سلول. وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي! وحتى بدون هذه الروايات، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجوّها، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها .. » نقول في موضوع الولاء: لقد أفاض صاحب الظلال بمناسبة النّهي عن موالاة أهل الكتاب في موضوع الولاء وقد رأينا أن ننقل بعض كلامه: - «إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شئ، واتخاذهم أولياء شئ آخر، لكنهما يختلطان على بعض المسلمين، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية؛ وتصطدم- من ثم- بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولا بد منها، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة .. وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكيّ لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها؛ ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب .. بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة .. وأن هذا شأن ثابت

لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم. وأنهم مصرّون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة. وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .. إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة. أهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا .. وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألّبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعا وردءا. وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين شنّوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا العرب المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان .. في الحبشة والصومال واريترية والجزائر، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان!. وبمناسبة قوله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يقول صاحب الظلال: لقد كان هذا تحذيرا عنيفا للجماعة المسلمة في المدينة. ولكنه تحذير ليس مبالغا فيه. فهو عنيف. نعم، ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة. فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى- وبعضهم أولياء بعض- ثم يبقى له إسلامه وإيمانه، وتبقى له عضويته في الصف المسلم، الذي يتولى الله ورسوله والذين آمنوا .. فهذا مفرق الطريق. وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام، وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام، ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملا ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف- أول ما تستهدف- إقامة نظام واقعي في الأرض فريد، يختلف عن كل الأنظمة الأخرى، ويعتمد على تصور متفرد عن كل التصورات الأخرى. إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم، الذي لا أرجحة فيه ولا تردد، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس- بعد رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم- وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه، منهج متفرد، لا نظير له بين سائر المناهج، ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر، ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج

آخر، ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه، ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه: الاعتقادية والاجتماعية، لم يأل في ذلك جهدا، ولم يقبل من منهجه بديلا- ولا في جزء منه صغير- ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي، ولا في نظام اجتماعي، ولا في أحكام تشريعية إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب ... إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو- وحده- الذى يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس؛ في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذى يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان .. وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره- مما هو قائم في الأرض من جاهلية .. سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك، أو فى انحراف أهل الكتاب، أو في الإلحاد السافر .. بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي، إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة، يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة؟. إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة؛ باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الأديان، كما يخطئون فهم معنى التسامح. فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي .. إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا؛ ولا يقبل فيه تعديلا- ولو طفيفا- هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ .. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .. وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .. وفي القرآن كلمة الفصل .. ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا الدين». أقول: المطلوب من المسلم المفاصلة الاعتقادية أما أنواع المفاصلة الأخرى فتحكمها الفتوى.

فصل في التفريق بين موقفين

فصل في التفريق بين موقفين: لقد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرا وكان من أوائل ما فعله أنه كتب وثيقة نستطيع أن نسميها باصطلاحنا الحالي- دستورية- تنظم العلاقة مع اليهود وقد جرت العادة خلال العصور أن تكون هناك عقود بين المسلمين وبين المواطنين من غير المسلمين وهي التي تسمى عقود أهل الذمة وبسبب من هذه العقود كان غير المسلمين يدخلون في ذمتنا ويعتبرون ذمّيين، هذا شئ والولاء شئ آخر. إن التزام المسلمين لأهل الذمة بشيء والوفاء به شئ والولاء شئ آخر. فلا يصح الخلط بين ما يجوز للجماعة المسلمة أن تعقده من عقود مع غير المسلمين وبين الموقف الخياني من أحد المسلمين إذ يعطي الكافرين ولاءه خيانة لله ورسوله والمؤمنين. ولنضرب أمثلة توضح المراد: لقد عاقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود في المدينة على معان وقد غدروا بها فيما بعد. فالعقد حتما ليس موالاة، ولكن لنفترض أن رجلا كان يتظاهر بالإسلام، وكانت عواطفه مع اليهود، ويتمنى أن يتغلب اليهود على المسلمين، وهو شريكهم في غدرهم وينقل لهم أسرار المسلمين. إنّ فعل هذا الرجل هو الولاء المحرّم، أمّا عقد الجماعة الإسلامية متمثلا بقيادتها فهذا جائز، إذا كانت مصلحة المسلمين تقتضي ذلك، سواء كانت عقودا على الأرض الإسلامية أو خارجها وسيأتينا نصوص ذلك في سور الأنفال وبراءة والنمل والقتال. إن العقد من قبل الجماعة شئ، والولاء شئ آخر، فنحن إن عاقدنا الكافرين عقدا أملاه علينا موقف، فإن هذا لا يعني أنّنا واليناهم، إن الجماعة الإسلامية قبل الحكم وبعد الحكم لا بدّ أن توضّح موقفها من المواطنين غير المسلمين الذين يعيشون على الأرض الإسلامية، وقد تجد قبل الحكم وبعد الحكم من يقبل التعامل على الأسس التي قدمتها جماعة المسلمين لا إيمانا منهم بالإسلام ولا رضى بالإسلام وعن المسلمين، ولكن قد يفعلون هذا تعقلا وحفاظا على المصالح. إن فعل الجماعة هذا لا يعتبر ولاء لأنّ هذا باب فتحه الإسلام لنا في تحركنا السياسي أو العسكري. - إنّه بعد قيام الدولة ليس أمامنا خيار إلّا أن نضع الأطر الحاكمة لكل قضية على أرضنا، ومن ذلك الضوابط التي تضبط علاقات المواطنة مع غير المسلمين، إنّ مثل

نقل في محبة الله

هذا ليس داخلا في قضية الولاء. - إن الولاء الخاطئ هو إعطاء النصرة والطاعة للكافرين، وللقيادات الكافرة، وأن تكون العواطف معهم في صراعهم مع المسلمين. أما تصرفات القيادة الراشدة، وتعاقدات الجماعة الراشدة، مع غير المسلمين. على ضوء الإسلام وعلى حسب مصلحة المسلمين فهذا شئ آخر يخضع لمبدأ الفتوى البصيرة من أهلها. نقل في محبة الله: بمناسبة قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ يقول صاحب الظلال: «وحب الله لعبد من عبيده، أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله- سبحانه- بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها .. أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي .. الذي يعرف من هو الله .. من هو صانع هذا الكون الهائل، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير! من هو في عظمته. ومن هو في قدرته. ومن هو في تفرده. ومن هو في ملكوته .. من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب .. والعبد من صنع يديه- سبحانه- وهو الجليل العظيم، الحي الدائم، الأزلي الأبدي، الأول والآخر والظاهر والباطن. وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها .. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما، وفضلا غامرا جزيلا، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه .. هو إنعام هائل عظيم .. وفضل غامر جزيل. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين .. وهذا هو الباب الذي تفوّق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين، وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل .... وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد، والحب من العبد للمنعم المتفضل، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض، وينطبع في كل حي وفي كل شئ، فإذا

هو جو وظل يغمران هذا الوجود، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب .. والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب .. وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة .. إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا .. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ .. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ .. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ .. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... وغيرها كثير ... وعجبا لقوم يمرون على هذا كله، ليقولوا: إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف، يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع ... لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله. فيربط بين الله والناس، في هذا الازدواج! إن نصاعة التصور الإسلامي، في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، لا تجفف ذلك الندى الحبيب، بين الله والعبيد، فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل، وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد، وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزيه .. إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين». ***

المقطع السادس يمتد هذا المقطع من الآية (67) إلى نهاية الآية (86) وهذا هو

المقطع السادس يمتدّ هذا المقطع من الآية (67) إلى نهاية الآية (86) وهذا هو: 5/ 72 - 67

5/ 82 - 73

كلمة في السياق

5/ 86 - 83 كلمة في السياق: مرّ معنا قبل هذا المقطع خمسة مقاطع، وقلنا إن الثلاثة المقاطع الأولى تشكل القسم الأول، ثم جاء مقطعان فشكلا القسم الثاني، وبعد ذلك يأتي المقطعان السادس والسابع فيشكلان القسم الثالث في السورة ثمّ تأتي الخاتمة. فالسورة ثلاثة أقسام وخاتمة وفي كل قسم من هذه الأقسام نجد جولة متكاملة نعرف بها طريق هداية وطريق ضلال، ولذلك ارتباطه الكبير بمحور السورة: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فى الجولة الأولى نجد: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. ونجد يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. وفي الجولة الثانية نجد: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. وفي الجولة الثالثة نجد: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ. فالأقسام الثلاثة تتكامل في تبيان طريق الضلال وطريق الهداية، وتوضح قضية الفسوق والخسران، وأركان الفسوق الثلاثة: نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وكل ذلك رأينا أمثلته فيما مرّ، وسنرى ما يؤكده ويعمّقه ويفصّله. وهاهنا آن الأوان لنقول شيئا:

كلمة في المقطع

إنّ سورة المائدة في محورها الرئيسي تبيّن الطريق الذى إن سلكه إنسان فإنه لا يستحق هداية الله، ويأتي في معرض ذلك ذكر الطريق الذي إذا سلكه إنسان يستحق هداية الله، بينما كان السياق الرئيسي في سورة النساء تبيان الطريق إلى التقوى ويأتي في معرض ذلك ما يتنافى مع التقوى. لاحظ أنّ الأقسام الثلاثة في سورة المائدة تتكامل من حيثيّات متعدّدة، ومن جملة مظاهر هذا التكامل: أن القسم الأوّل وهو يذكر في سياقه الرئيسي ما به يستحق الإنسان الإضلال يوصل إلى القسم الثاني الذي يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ففيه تعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن والسورة تفصّل في الطريق الذي يستحق به صاحبه الضّلال، لا تترك قضية البلاغ بناء على أن إنسانا ما سار في مثل هذه الطرق وبالتالي فلا علينا ألا نبلغه، ولذلك فإن القسم الثالث يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وسنرى مظاهر أخرى من التكامل في السّورة مما يشعرنا بوحدة سياقها زيادة على تفصيلها لمحورها. وبعد أن عرفنا أن القسم الثالث في السورة يتألف من مقطعين هما المقطع السادس والسابع فلنبدأ الكلام عن المقطع السادس الذي ذكرنا آياته قبل هذه الكلمة: كلمة في المقطع: بعد أن أكّد القسم الثاني في مقطعيه الرابع والخامس ضرورة الاحتكام إلى ما أنزل الله، وأوجب الاحتكام إلى القرآن، وبين آثار بركة ذلك على الحياة، يأتي هذا المقطع آمرا بالبلاغ، وخاصا بهذا البلاغ أهل الكتاب، ومحدّدا ما يقال لهم، ثم ذاكرا قاعدة النّجاة عند الله- عزّ وجل-، وفي هذا السياق يذكر المقطع موقف بني إسرائيل من الرّسل، عليهم الصلاة والسلام، وهو موقف لا يستغرب معه موقفهم من محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعوته، ثم ذكر المقطع بعض تصوراتهم الخاطئة في شأن الله، وانتقل الكلام إلى كفر النصارى، ومناقشتهم في هذا الكفر، ودعوتهم إلى التوحيد، وترك الغلوّ، وترك متابعة أهواء الضالين، ولذلك كله صلة بالبلاغ الذي أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بداية المقطع. ثم يقرّر الله- عزّ وجل- مسألة استحقاق اليهود لعنة الله، وأسباب ذلك، كما يقرّر شدة عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين، مستثنيا من العداوة الذين استجابوا للبلاغ من النصارى. فالمقطع كله في البلاغ وماهيّته، وخاصة لأهل الكتاب. وفيه

تيئيس من اليهود، ورجاء في النصارى، وقد جاء هذا كله في السياق الخاص للسورة. بعد المقطع الذي ذكر الله- عزّ وجل- فيه التوراة والإنجيل، وموقف أهلهما منهما، فكأن السياق اقتضى أن يخص هؤلاء بمقطع ودعوة خاصة، وقد سبق ذلك بيان انصبّ على أنّ علينا أن لا نتولاهم، وسبق ذلك أيضا كلام بيّن لنا فيه نسيان هؤلاء للعهود والعقود: ولنتأمل الآن الصلة بين المقطع، وبين محور السورة من سورة البقرة: لقد قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو الآيتان: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. لاحظ أن الآية الأولى في المقطع الذي مرّ معنا نجد قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لاحظ الصلة بين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وبين وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وفي الآية الثانية من المقطع نجد قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً لاحظ صلة ذلك في المحور بقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. وفي الآية الرابعة من المقطع نجد قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وفي الآية (79) والآية (80) في المقطع نجد تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فهؤلاء يصلون ما أمر الله به أن يقطع، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لذلك يأتي بعد الآيتين السابقتين قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا

الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ..... وبينما يعرض الله- عزّ وجل- علينا نموذج ناس هذا شأنهم في موقفهم من الكتاب يختم المقطع بعرضه نموذجا ممّن يهديهم الله بهذا القرآن وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ... لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. فالمقطع يفصّل في الفسوق الذي يستحق أصحابه الإضلال، وما يقابله مما ينال به أهله الهداية، مما هو تفصيل لمحور السورة من سورة البقرة، ولكنه تفصيل ليس على طريقة البشر، ولا يستطيعه البشر، وهذا كله ضمن السياق الخاص للسورة وبهذا ينتهي المقطع الأول من القسم الثاني ليبدأ المقطع الثاني من هذا القسم الذي يتوجّه فيه الخطاب لأهل الإيمان، فإذا كان البلاغ لا يؤثر في بعض الناس فإن أهل الإيمان موجودون ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم فيتكرّر في المقطع الثاني من القسم النّداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... * مرات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... وسنرى أنّ كل نداء من هذه النداءات يحرّر المسلم من خلق يستحق به صاحبه الإضلال؛ لأن الوقوع فيه فسوق، وسنرى أن هذا القسم بمقطعيه هو تفصيل لما مرّ معنا من قبل في السورة، ممّا يؤكد وحدة سياق السّورة، كما يؤكد ارتباطها بمحورها من سورة البقرة. ولنبدأ عرض المعنى العام للمقطع الأول من القسم الثالث للسورة وهو المقطع السادس فيها إذا اعتبرنا أن الوحدة العددية للسورة هى المقطع.

المعنى العام

المعنى العام: يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بصفة الرسالة، آمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه أفضل الصّلاة والسلام ذلك، وقام به أتمّ القيام، ثم بين الله له أنه إن لم يؤد إلى الناس ما أرسله الله به لم يبلغ رسالته، فهو إن كتم آية واحدة ممّا أنزله الله إليه لم يبلّغ رسالته، ثمّ وعده الله- عزّ وجل- أن بلّغ رسالتي، وأني حافظك وناصرك ومؤيّدك على أعدائك ومظفرك بهم. فلا تخف ولا تحزن فلن يسلّط عليك أحد ليقتلك. وقد كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول هذه الآية يحرس، فلمّا نزل الوعد ترك الحراسة، ثم بيّن له أنّ عليه أن يبلّغ وعلى الله الهداية، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ومن سنته أنه لا يهدي الذين يختارون طريق الكفر، وفي سياق الأمر بتبليغ الرسالة يأمره أن يقول لأهل الكتاب إنهم ليسوا على شئ من الدين حتى يقيموا التوراة والإنجيل، بأن يؤمنوا بجميع ما بأيديهم من الكتب المنزّلة من الله على الأنبياء، ويعملوا بما فيها، ومما فيها الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والأمر باتّباعه والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته ثم بيّن تعالى أن كثيرا منهم لا يزداد إلا طغيانا وكفرا، مع كل ما في الوحي الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من حجج وبينات. ثمّ نهى الله- عزّ وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحزن عليهم، ثمّ بيّن تعالى أن المسلمين، أو اليهود الذين أسلموا، أو النصارى الذين أسلموا، أو الصابئة الذين أسلموا، ممن آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحا، مأجورون عند الله، ناجون عنده، بموافقتهم للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثّقلين. فمن اتّصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وأما قبل بعثة رسولنا صلّى الله عليه وسلّم فإنهم ينجون إذا قاموا بما كلّفوا به، من الإيمان والعمل الصالح، وفي هذا السياق- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- بيّن الله- عزّ وجل- أنّه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السّمع والطاعة لله ولرسله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتّبعوا آراءهم وأهواءهم، وقدّموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه. وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتّب، وهو أنهم عموا عن الحق، وصمّوا فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه، ثمّ تاب الله عليهم مما كانوا فيه، فعادوا إلى العمى والصّمم إلا قليلا، والله مطّلع عليهم، وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم. وفي هذا السياق- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- يقرّر الله

كفر من زعم أنّ المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزّه علوا كبيرا، مع أنّ المسيح عليه السلام دعاهم لعبادة الله وحده، وبيّن لهم أنّ من أشرك بالله فقد أوجب له النّار وحرّم عليه الجنّة، وأنّه ما له عند الله ناصر، ولا معين، ولا منقذ مما هو فيه. ثمّ قرّر الله- عزّ وجل- كفر القائلين بالتثليث، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فما من إله إلا إله واحد ليس متعددا بل هو واحد لا شريك له، إله جميع الكائنات، وسائر الموجودات، ثمّ قال تعالى متوعدا لهم ومتهدّدا، بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا الافتراء والكذب ليصيبنّهم العذاب الأليم في الآخرة من الأغلال والنّكال. ثمّ دعاهم الله- عزّ وجل- إلى التوبة والاستغفار، ووعدهم الغفران وهذا من كرمه وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء، والكذب، والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكلّ من تاب إليه تاب عليه. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- حقيقة المسيح وأنه ليس إلا رسولا له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدّمين عليه، وأنّه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، وأمّه مؤمنة به، مصدّقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فهي لم تصل إلى درجة النّبوة لأنه لم تكن نبية قطّ أنثى، وأنّ المسيح وأمّه كانا يأكلان الطعام فهما يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، والافتقار دليل العبودية، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة. عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وفي هذا السياق،- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن ينكر عليهم عبادتهم من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، مع أن الله وحده هو السّميع العليم. السّميع لأقوال عباده، العليم بكلّ شئ، فكيف يعدل عنه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا، ولا يملك ضرا ولا نفعا لغيره ولا نفسه. ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن ينهى أهل الكتاب عن مجاوزة الحدّ في إطراء من أمروا بتعظيمه، حيث بالغوا فيه حتى أخرجوه عن حيّز النّبوة إلى مقام الإلهية كما صنعوا في المسيح، وما ذاك إلا لاقتدائهم بشيوخهم، شيوخ الضلال، ممّن ضلّ قديما وأضلّ، وخرج عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضّلال، ثم قرّر تعالى أنّه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود نبيّه عليه السلام، وعلى لسان عيسى بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه، وبسبب أنّهم كانوا لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمّهم على ذلك ليحذّرنا أن نرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم بيّن تعالى أن كثيرا منهم يوالون الكافرين ويتركون موالاة المؤمنين وتلك أعقبتهم نفاقا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم

ملاحظات في السياق

سخطا مستمرا إلى يوم معادهم. وقضى الله لهم بالعذاب الأبدي يوم القيامة. ثم بيّن تعالى أنهم لو كانوا مؤمنين حق الإيمان بالله والرسول والقرآن، لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنّبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل إليه، ولكن كثيرا منهم فاسقون، خارجون عن طاعة الله ورسوله، مخالفون لآيات وحيه وتنزيله. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- أنّ أشدّ أنواع العداء لأهل الإيمان عداء اليهود والمشركين، وما ذاك إلا لأنّ كفر اليهود والمشركين كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس، وتنقّص لحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى همّوا بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرّة، وسمّوه وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. على عكس النّصارى الذين زعموا أنّهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فإنّ فيهم مودّة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلّا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرّقة والرّأفة وبسبب وجود علماء وعباد فيهم، وبسبب اتصافهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، وأن من صفاتهم أنهم إذا سمعوا القرآن بكوا؛ بسبب معرفتهم أنّ هذا هو الحقّ الذي بشّر به عيسى عليه السلام، ويعلنون إذا سمعوا الحق إيمانهم، ويطلبون من الله أن يدخلهم في أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. هؤلاء يجازيهم الله على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق، جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون، وهذا جزاؤهم بسبب اتّباعهم الحق، وانقيادهم له، حيث كان وأين كان، ومع من كان. ثم أخبر عن حال الأشقياء الذين يجحدون آيات الله ويخالفونها، بأنّهم أهل النار والداخلون فيها. وكثير من الناس يفهمون الآيات الأخيرة من هذا المقطع فهما خاطئا. والشئ الذي ينبغي أن نفهمه بإجمال هو أن اليهود والمشركين أشدّ الناس عداء لنا، وأن النصارى فيهم استعداد من حيث الأصل للإيمان بديننا وشريعتنا ورسولنا. ومن ثم فهم مظنّة أن يوجد فيهم خير، وقبول للحق، ولكن لا يعني هذا أن الجميع يقبلون الحق إذا عرض عليهم، فمن قبل الحق فقد حقّق ظنّنا ودخل الجنة، ومن رفض الحق فحكمه حكم اليهود والمشركين: ملاحظات في السّياق: 1 - جاء في القسم الأول من المقطع الثاني من السورة قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وجاء في ذلك السّياق قوله تعالى:

المعنى الحرفي

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وفي هذا المقطع الذي هو بداية القسم الثالث يأتي قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ويأتي قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ هناك جاء التكفير في سياق نقض العهد الآتي في سياق الوفاء بالعقود وهاهنا يأتي التكفير في سياق نقض العهد الآتي في سياق الأمر بالتبليغ وهي ملاحظة أولى نسجلها هنا لنعرف صلة هذا القسم بما قبله. 2 - انتهى القسم الثاني من السورة بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ والآية الثانية في هذا القسم الآتية في معرض الأمر بالتبليغ هي قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهي كذلك ملاحظة نسجلها لتعلم الصلة المباشرة بين بداية القسم الذي نحن فيه ونهاية القسم السابق وستأتيك تفصيلات أخرى. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي: بلّغ جميع ما أنزل إليك وأيّ شئ أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. أي: وإن لم تبلّغ جميعه كما أمرتك، فلم تبلّغ إذا ما كلفت به من أداء الرّسالة، ولم تؤد منها شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أنّ من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لكونها في حكم شئ واحد، لدخولها تحت خطاب واحد، والشئ الواحد لا يكون مبلّغا غير مبلّغ مؤمنا به غير مؤمن وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. أي: يحفظك منهم أن يقتلوك، والنّاس هنا الكفار بدليل ما بعده إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أي: لا يعطيهم الهداية لعدم اختيارهم لها وأخذهم بأسبابها، ومن ذلك عدم هدايتهم لما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وفي هذا السّياق- سياق الأمر بتبليغ الرسالة- تصدر له ثلاثة أوامر مصدّرة بلفظ «قل» الأول منها بعد هذه الآية مباشرة، واثنان منها في وسط المقطع. والأمر بالتبليغ في هذا

ملاحظات حول السياق

المقطع مع بيان عدم هداية الكافرين والفاسقين، وذكر خصائص من يستحق الهداية في آخر المقطع. ووصف اليهود والنصارى بما ينفّر منهم، كل ذلك ينسجم مع كون هذا المقطع امتدادا للمقطع السابق من حيث إنه ينفي أن تكون لليهود والنصارى ولاية للمؤمنين مع ما هم عليه، وينسجم مع المحور العام للسورة الذي يتحدّث عن من يستحق الهداية، ومن يستحق الضلال، وتفصيل لصفات هؤلاء وهؤلاء. ملاحظات حول السّياق: الأمر الأوّل المصدّر بقوله تعالى قُلْ في هذا المقطع هو: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ .. الأمر الثاني هو: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً الأمر الثالث هو: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا ... إنّ هذه الأوامر في هذا المقطع آتية في سياق الأمر بالتبليغ، وستأتي نداءات لأهل الإيمان في سياق هذا القسم المبدوء بالأمر بالتبليغ، ممّا يشعرنا بأهمية هذه الأوامر، وأهمية هذه النّداءات في قضية محدّدة هي قضية التبليغ. وواضح من السّياق أن هذا القسم المبدوء بالأمر بالتبليغ يتألف من مقطعين: المقطع الأوّل ينصبّ على تبليغ أهل الكتاب، والمقطع الثاني ينصبّ على تبليغ أهل الإيمان. والوارث الكامل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه أن يلاحظ في الدعوة هذا وهذا، فيركّز في دعوته لأهل الكتاب، على ضرورة إقامة التوراة والإنجيل اللذين فيهما الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ويقيم الحجة على ذلك من خلال نصوص التوراة والإنجيل، ويركّز على قضية عبادة غير الله، ويركز على قضية الغلوّ في الدين، واتّباع أهواء الضالّين من أمثال بولس، الذي ضلّ عن تعاليم المسيح وعن إنجيله بدعوى الصّلة المباشرة بالسيد المسيح عليه السلام، تاركا هديه الذي نقله تلاميذه المباشرون، كما يركّز الداعية إلى الله على مجموع النداءات التي توجهت لأهل الإيمان في هذا القسم، من عدم تحريم الحلال إلى ترك الخمر والميسر، إلى غير ذلك. فوائد: 1 - [رد على فهم خاطئ لقوله تعالى ... وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ .. ] في قوله تعالى: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ

2 - معجزة غيبية في قوله تعالى ... والله يعصمك من الناس ..

رِسالَتَهُ يردّ النسفي على اعتراض، قال: قالت الملحدة لعنهم الله تعالى: هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك: كل هذا الطعام، فإن لم تأكله فإنك ما أكلته. قلنا: هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل، فإن لم تفعل: أي إن لم تبلّغ الرّسالة في المستقبل فكأنّك لم تبلّغ الرّسالة أصلا. أو بلّغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدّة، فإن لم تبلّغ كنت كمن لم يبلّغ أصلا. أو بلّغ ذلك غير خائف أحدا، فإن لم تبلّغ على هذا الوصف فكأنّك لم تبلغ الرسالة أصلا. 2 - [معجزة غيبية في قوله تعالى ... وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. ] في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ معجزة غيبية. إذ هي وعد من الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يسلّط عليه من يقتله مع كثرة دواعي القتل من كثرة الخصوم وشراستهم. وقد كان ذلك، وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفاة. ومن درس كثرة المؤامرات عليه صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وغير قريش واليهود، وسلامته عليه الصلاة والسلام مع هذا كله أدرك كمال المعجزة. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرس ويحب أن يحرس حتى نزلت هذه الآية، فترك الحراسة. في الصحيحين وعند الإمام أحمد أنّ عائشة رضي الله عنها كانت تحدّث «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا أنا على ذلك، إذ سمعت صوت السّلاح فقال: «من هذا؟»، فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نومه». وروى ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: «كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قالت: فأخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسه من القبّة، وقال: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عزّ وجل» وهكذا رواه الترمذي. وروى ابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال: كنا نحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالليل حتى نزلت: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فترك الحرس. ومن تتبع حوادث السيرة، عرف كثرة المؤامرات عليه في أمّة كان الفتك والثأر خليقة من أخلاقها. ومن ذلك قصة غورث بن الحارث المشهورة في الصحيح، وهي كما رواها ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «كنا إذا صحبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلّق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

[سورة النساء (4): آية 68]

«الله يمنعني منك، ضع السيف» فوضعه، فأنزل الله- عزّ وجل-: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ومن ذلك ما رواه جعدة بن خالد بن الصمة الجشميّ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأى رجلا سمينا، فجعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم يومئ إلى بطنه بيده، ويقول: «لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك». قال: وأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي». قال ابن كثير تعليقا على هذا النّص: «ومن عصمة الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم حفظه له من أهل مكّة وصناديدها وحسّادها ومعانديها ومترفيها، مع شدّة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرّسالة بعمّه أبي طالب، إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش، وخلق الله في قلبه محبّة طبيعيّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا شرعيّة، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفّارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر؛ هابوه واحترموه، فلما مات عمّه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا، ثم قيّض الله له الأنصار، فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحوّل إلى دارهم- وهي المدينة- فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود، وكلمّا همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله وردّ كيده عليه، لما كاده اليهود بالسّحر فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوّذتين دواء لذلك الداء. ولمّا سمّ اليهود ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله وحماه منه، ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها.» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: لستم على دين يعتدّ به حتى يسمّى شيئا لبطلانه حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ بالإيمان بكل ما فيهما، والعمل بكل ما فيهما، ومن ذلك الإيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم واتّباعه وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. أي: القرآن وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً. أي: سيزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود، وكفرا بآيات الله فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي: فلا تتأسّف عليهم، فإنّ ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا. وهم المسلمون وَالَّذِينَ هادُوا وهم حملة التوراة وَالصَّابِئُونَ قال أبو الزناد هم قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيّين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. أقول: ولا زال في العراق ناس يسمّون صابئة وَالنَّصارى. أي:

[سورة النساء (4): آية 70]

حملة الإنجيل مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أي: فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما خلفوه وراء ظهورهم. والمعنى: أنه من كان مسلما أو يهوديا في الأصل، أو نصرانيا أو صابئيا، قبل منه إسلامه، المتضمن للإيمان والعمل الصالح، وكوفئ. والمعنى: أن ما كان عليه الإنسان من قبل لا يضرّه إذا آمن وعمل صالحا بدخوله في الإسلام. أو المعنى: أن مسلمي هذه الأمّة، واليهود السابقين على عيسى، والنّصارى التابعين الحقيقيين لعيسى، والصابئين في حالة إيمانهم، وعملهم الصالح، الجميع من أهل الجنّة، وأهمّ شئ علينا أن نعرفه أنّ الإجماع منعقد على أنه لا يهودي ولا نصراني ولا صابئي بلغته دعوة رسولنا ثمّ لم يسلم إلا كان من أصحاب النار بعد ما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويلاحظ أن كلمة «الصابئون» في الآية مرفوعة، وما قبلها منصوب، والتقدير: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون كذلك» قال ابن كثير: «لما طال الفصل حسن العطف بالرّفع». قال النسفي: «وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالا، وأشدّهم غيّا يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان فما الظّنّ بغيرهم». لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: بالتوحيد وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا من أجل أن يوقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم، ويضادّ شهواتهم من ميثاق التّكليف والعمل بالشرائع فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ كأنّه قيل: كيف فعلوا برسلهم؟ فكان الجواب كلّما جاءهم رسول منهم ناصبوه إمّا بالتّكذيب وإمّا بالقتل وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ. أي: بلاء وعذاب أي: وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل، وقد ضمّن كلمة حسبوا معنى العلم لقوّته في صدورهم، ولذا دخل فعل الحسبان على (أن) التي يدخل عليها الفعل علم فَعَمُوا وَصَمُّوا. أي: فعموا عن الرشد، وصمّوا عن الوعظ، أو المعنى فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأن رزقهم التوبة ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي: صمّ كثير منهم وعمي كثير منهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. أي: فيجازيهم بحسب أعمالهم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ لم يفرّق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنّه عبد مربوب ليكون حجّة على النّصارى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ. أي: في عبادته غير الله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحّدين أي: حرمه دخولها

[سورة النساء (4): آية 73]

ومنعه منه وَمَأْواهُ النَّارُ. أي: ومرجعه إليها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. أي: وما للكافرين من معين ولا ناصر ولا منقذ مما هم فيه، وهو من كلام الله أو من كلام عيسى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. أي: وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له، وهو الله وحده لا شريك له وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من الافتراء والكذب والكفر لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ قال منهم لأن بعضهم يسلمون أو أسلموا عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: نوع شديد الألم من العذاب أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ. أي: ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر، وهذا الوعيد الشديد عما هم عليه، وفيه تعجيب من إصرارهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ هذا نفي للألوهية عنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أي: إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى، لم يكن منه، لأنه ليس إلها، بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده، كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى، وخلقه من غير ذكر، كخلق آدم من غير ذكر وأنثى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه أيضا إلا كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ هذا إبعاد لهما عما نسب إليهما من معاني الألوهية، لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنّقض، لم يكن إلا جسما مركّبا من لحم وعظم وعروق وأعصاب، وغير ذلك مما يدلّ على أنّه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ. أي: الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. أي: كيف يصرفون عن استماع الحقّ وتأمّله بعد هذا البيان. وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. أي: أتعبدون عيسى! وهو لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّكم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحّة الأبدان والسّعة والخصب، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئا، وهذا دليل قاطع على أنّ أمره مناف للربوبيّة حيث جعله لا يستطيع ضرّا ولا نفعا، وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شئ لا يخرج مقدور عن قدرته وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أي: أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه، ويعلم ما تعتقدونه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي

[سورة النساء (4): آية 78]

دِينِكُمْ الغلوّ: مجاوزة الحد، فغلوّ النّصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية عندهم، وغلوّ اليهود وضعه عن استحقاق النّبوة غَيْرَ الْحَقِّ. أي: غلوا غير الحق يعني غلوّا باطلا وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ المراد بهم الأسلاف والأئمّة الذين كانوا على الضّلال قبل مبعث النّبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَضَلُّوا كَثِيراً. أي: من تابعهم وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ حين كذّبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحسدوه وبغوا عليه لمّا بعث لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. أي: ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم. ثمّ فسر المعصية والاعتداء بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح فعلوه، والمراد أنّهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرّون عليه، ثم عجّب من سوء فعلهم مؤكدا ذلك بالقسم فقال: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال النسفي: وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم. فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أي: يوالون المشركين ويصافونهم لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. أي: لبئس شيئا قدّموه لأنفسهم سخط الله عليهم، أي: موجب سخط الله وَفِي الْعَذابِ. أي: في جهنم هُمْ خالِدُونَ أي ماكثون أبدا وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا خالصا بلا نفاق وَالنَّبِيِّ. أي: محمد صلّى الله عليه وسلّم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ. أي: القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ. أي: ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أنّ موالاة المشركين تدلّ على نفاقهم وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ. أي مستمرون في كفرهم ونفاقهم، ويمكن أن يكون المعنى: ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه يعني التّوراة ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون، ولكن كثيرا منهم فاسقون: خارجون عن دينهم، فلا دين لهم أصلا لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وصف اليهود بشدّة الشّكيمة، والنّصارى بلين العريكة. وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، ونبّه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين، ثمّ علّل للين النصارى بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً. أي: علماء وعبادا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. أي: علّل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بأن منهم

[سورة النساء (4): آية 83]

قسّيسين ورهبانا، وأن فيهم تواضعا واستكانة، واليهود على خلاف ذلك. قال النّسفى: وفيه دليل على أن العلم أنفع شئ وأهداه إلى الخير، وإن كان علم القسّيسين، وكذلك علم الآخرة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ وصفهم برقّة القلوب، وأنهّم يبكون عند استماع القرآن. ومعنى تفيض من الدمع: أي تمتلئ من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، أو أن أعينهم جعلت كأنها تفيض بنفسها من أجل البكاء. وفي قوله تعالى (مِنَ الْحَقِّ) إن أريد ب (من) التبعيض يكون المعنى عرفوا بعض الحق فأبكاهم، فكيف إذا عرفوه كله، فقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنّة يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا. أي: بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة، قالوا ذلك لمعرفتهم وصف هذه الأمّة بذلك وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا. أي: وبما جاءنا مِنَ الْحَقِّ. أي: محمدا عليه الصلاة والسلام والقرآن وفي استفهامهم هذا معنى الإنكار والاستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى على لسانهم وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ والتقدير ونحن نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا. أي: بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ قال النسفي: فيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان، وحتى لا يفهم فاهم أن هذا الثناء على النصارى جميعا عقّب فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذا أثر الرّدّ في حق الأعداء، والأوّل أثر القبول للأولياء، فالثناء على نصارى من نوع خاص اجتمعت لهم صفات، منها قبول الإسلام، وهذا شئ يجب أن يضعه الدعاة إلى الله نصب أعينهم. ملاحظات في السّياق: 1 - لقد تحدّث القسم الأوّل من سورة المائدة عن الفسوق والخسران، ونقض العهد والإفساد في الأرض، وأسباب الهداية والضلال، ثمّ جاء القسم الثاني فعمّق في موضوع الهداية والضلال، وموضوع الفسوق والفساد في الأرض، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ثمّ جاء القسم الثالث في مقطعيه آمرا بالتبليغ بانيا على ما مرّ من قبل في السورة محرّرا من

أسباب الضلال، معمّقا أسباب الهداية. فالصلة بين هذا القسم وبين ما مرّ من السورة واضحة جدا. ألا ترى أن القسم الأول في السورة قد وجد في آياته الأولى قوله تعالى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وقوله تعالى قبل ذلك أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ثم بعد ذلك قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... وسيأتي في هذا القسم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنه بعد أن وضعت القواعد التوضيحية لكثير من الأمور في القسمين الأول والثاني، يأتي القسم الثالث في مقطعيه ليدعو وينذر ويربي في سياق الأمر بالتبليغ. 2 - ومع أنّ القسم الثالث بنى على القسمين الأول والثاني اللذين وضّحا الكثير ممّا له علاقة بالمحور فهو واضح الارتباط بالمحور كذلك ففيه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ ومن تذكر آيتي المحور في سورة البقرة وضحت لديه الصلة. 3 - لقد جاء في أواخر المقطع الأول من القسم الأول: قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وجاء في أوّل المقطع الثاني من القسم الأول وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وذكر هناك عقوبة نقضهم للميثاق فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وفي المقطع الأول من القسم الثالث وهو المقطع الذي مرّ معنا: جاء قوله تعالى لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ... ثمّ بيّن موقفهم من الرّسل وبيّن أنهم في فعلهم هذا كانوا يظنون ألا يفتنهم الله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وقد ختم المقطع بقوله تعالى فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وكل ذلك يؤكّد أن القسم الثالث مرتبط بالقسمين الأولين، وأنّ سياقه يكمّل سياقهما فبعد تقرير القواعد يأتي الأمر بالتبليغ وفي سياق التبليغ يأتي تفصيل لكثير من الأمور التي مرّت من قبل وسيأتي مزيد بيان.

فوائد

فوائد: 1 - [لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة أو مؤمنة] في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث مناديا ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وفي لفظ مؤمنة. 2 - [كلام عن نبوة النساء] ذهب ابن حزم وآخرون إلى نبوّة سارة أم إسحاق، ونبوّة أمّ موسى وأم عيسى، استدلالا لهم بخطاب الملائكة لهنّ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال. قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... (يوسف: 109) وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك، وقد رأينا من قبل أنّ بعضهم جعل هذه الآية في الرّسالة، فهي وحدها التي لم تكن لأنثى، أما النبوّة فجوّزها ورأينا هناك ردّ ذلك. 3 - [آثار هامة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] بمناسبة قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ننقل هذه الأحاديث التي أوردها ابن كثير في هذا المقام: روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم». قال يزيد: وأحسبه قال: «وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم؛ فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متكئا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا». وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض- ثم قال- لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قوله فاسِقُونَ ثم قال: كلا والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرا، أو تقصرنّه على الحق قصرا» وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه، فلمّا رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيّهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي

نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد المسئ، ولتأطرنّه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم». وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم». وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وروى الإمام أحمد عن عديّ بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله العامّة والخاصّة». وروى أبو داود عن العرس بن عميرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها- وقال مرة: فأنكرها- كان كمن غاب عنها- ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها». وروى أبو داود عن رجل من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا أو: يعذروا من أنفسهم». وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام خطيبا فكان فيما قال: «ألا لا يمنعنّ رجلا هيبة النّاس أن يقول الحق إذا علمه» قال. فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا» وروى أبو داود عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل عند الجمرة الأولى فقال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز ليركب قال: «أين السائل؟» قال: أنا يا رسول الله، قال: «كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر». وروى ابن ماجه أيضا عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحقر أحدكم نفسه». قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: «يرى أمرا لله فيه مقال ثم لا يقول فيه. فيقول الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا: كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى». وروى ابن ماجه أيضا عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله يسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقّن الله عبدا حجّته قال: يا رب رجوتك وفرقت من النّاس». وروى الإمام أحمد عن حذيفة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذلّ نفسه» قيل:

4 - آثار في سبب نزول الآيات (82 - 84)

وكيف يذل نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء ما لا يطيق». وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا، قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رُذالكم» قال زيد: تفسير معنى قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: والعلم في رذالكم: إذا كان العلم في الفساق. أقول: إنّ علينا أن نعتاد على الإحسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الصالحة لا بد أن تترك أثرا. 4 - [آثار في سبب نزول الآيات (82 - 84)] وفي الآيات الأخيرة من المقطع أي لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ... قال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشيّ إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ عليهم القرآن، أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النّجاشي فأخبروه. وروى الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... قال إنهم كانوا كرّابين (يعني فلاحين) قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة فلما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم، فقالوا: لن ننتقل عن ديننا. فأنزل الله ذلك من قولهم وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ... واختار ابن جرير أن هذه الآيات كلها نزلت في صفات أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو من غيرها. 5 - [رد على قول فرقة الكرامية بأن الإيمان مجرد القول] تعلّقت الكرّاميّة- وهي فرقة ضالة- بقوله تعالى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ .... في أن الايمان مجرد القول. ورد النّسفي عليهم فقال: لكن الثناء بفيض الدمع من السباق، وبالإحسان في السياق، يدفع ذلك، وأنّى يكون مجرد القول إيمانا، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة: 8) نفى الإيمان عنهم مع قولهم آمنا بالله لعدم التصديق بالقلب. وقال: أهل المعرفة الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدّعاء على العطاء، والرّضا بالقضاء. فمن ادّعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه. كلمة في السياق: قلنا إن هذا المقطع الذي هو الأول في قسمه هو امتداد للمقطع السابق عليه، إذ يؤكد ويوضح ويعمّق ضرورة عدم الولاء لليهود والنصارى لما هم عليه، فارتباطه من هذه

فصول ونقول

الحيثية بالمحور العام للسورة من حيث تعميق وصل ما أمر الله به أن يوصل. وهو ولاء أهل الإيمان ونفي عكسه. وفي هذا المقطع رأينا أسبابا للضلال كالأسباب التي لعنت بها بنو إسرائيل، وأسبابا للهداية. من مثل صفات النصارى المستجيبين للحق، وهذا كذلك مرتبط بمحور السورة، من حيث إنّه بيان لأسباب الضلال وأسباب الهداية، وفي المقطع ذكر للمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل، وموقفهم من ذلك مما استحقوا، به ما استحقوه وفي هذا كذلك ارتباط للمقطع بمحور السورة، فالسّورة كما نرى تسير على منحيين، المنحى الأول: تعميق أسباب الهداية بكتاب الله، والمنحى الثاني: تبيان أسباب الضلال بطريقة من العرض معجزة، قد لا نكون أحسنا في عرضها، لكنّا نرجو أن نكون أفلحنا بالإشارة إليها، فإذا ما وصلت السورة إلى ما وصلت إليه تأتي الآن أوامر متعددة، وتوجيهات متعدّدة، تحوي في آياتها موضوعات متعددة، كلها تصب في السياق العام للسورة ضمن محورها. هذه الأوامر والتوجيهات والنّواهي تشكل المقطع الثاني من القسم الثالث وهو المقطع السابع في السّورة ولا يبقى بعده من السّورة إلا خاتمتها. فصول ونقول: - وقعت طائفتان من طوائف المسلمين في غلط في الفهم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الطائفة الأولى: بعض الصوفية، والطائفة الثانية: بعض الشيعة، أما الصوفية: فقد ذهب بعضهم إلى أن ما كلّف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو التبليغ لبعض المعانى، وهناك معان أخرى مما يصلون إليه بأذواقهم لم تدخل بالتبليغ، وأمّا بعض الطوائف من الشيعة فقد ذهبوا إلى أن الآية نزلت في موضوع تبليغ استحقاق عليّ للخلافة، وأن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قام بذلك يوم غدير خمّ وقد ناقش الألوسي كلّا من هؤلاء وهؤلاء، ونحن ننقل بعض كلامه هنا ومن أراد أن يقرأ كلامه كاملا فليراجع تفسيره: قال في الردّ على بعض المتصوفة: «والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزّل، فقد قال سبحانه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي. وغيره: «ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم»، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا

القرآن كل علم، وبيّن لنا فيه كل شئ، ولكن علمنا يقصر عما بيّن لنا في القرآن» وقال الشافعي رضي الله عنه: جميع ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن» ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة. ومثل ابن مسعود. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم. وفترت العزائم. وتضاءل أهل العلم. وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه، وسائر فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه. وقال بعضهم: ما من شئ إلا يمكن استخراجه من القرآن، لمن فهّمه الله تعالى حتى إن البعض استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقّبها- بالتغابن- ليظهر التغابن في فقده، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما إشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية، وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية. وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم، لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه هل عندكم كتاب خصّكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى، أو فهم أعطيه رجل مسلم. أو ما في هذه الصحيفة- وكانت متعلقة بقبضة سيفه- قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل. وفكاك الأسير. ولا يقتل مسلم بكافر. ويفهم منه- كما قال القسطلاني- جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وما عند الصوفية- كله من هذا

القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله وجهه- كما في صحيح البخاري-: حدّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم- أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده. وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن حاتم عن عنترة، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل، فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؟ والله ما ورّثنا رسول الله سوداء في بيضاء» وحمل- وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثّه على علم الأسرار- غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن. وأشراط الساعة. وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكنى عن بعض ذلك ولا يصرّح خوفا على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبا هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله تعالى: الرَّحِيمُ إلى آخر ما قال فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار؛ فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادّعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق. فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدّس سرّه في الأجوبة المرضية عن

الفقهاء والصوفية: سمعت سيدي عليا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يرى الحقيقة مؤيدة للشريعة، وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة وإنما هو عينها. وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل، لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا، حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة، وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة. ومما قاله الألوسي في عرضه لرأي بعض الشيعة في الآية ومناقشته لهم: «وزعمت الشيعة أن المراد ب ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه. «وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة. ووضعوا في خلاله كلمات مزورة، ونظموا في ذلك الأشعار. وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم. «وأنت تعلم أنّ أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلّمة لديهم أصلا، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين، لنوضّح الغثّ منه والسمين. «فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في مكان بين مكة والمدينة، عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبيّن فيها فضل علي كرم الله وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والحق مع علي كرم الله وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك. فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال: لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة تعجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف على جنده

الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم. وأخرج عن زينب بنت كعب- وكانت عند أبي سعيد الخدري قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى- أو في سبيل الله تعالى-، ورواه الإمام أحمد، وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تغير، فقال رسول الله: بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوي رجاله كلهم ثقات، وروي بإسناد آخر تفرد به، وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن، ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: من كنت مولاه فهذا وليّه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه. وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال: كنا مع رسول الله في حجة الوداع، فلما أتينا على غدير خم، كسح لرسول الله تحت شجرتين، ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه، وأخذ بيده وأقامه عن يمينه، فقال: أولست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة- وهذا ضعيف- فقد نصوا أن علي بن زيد. وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم، وفي السند أيضا- أبو إسحاق وهو شيعي مردود الرواية.

وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد علي كرم الله وجهه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ثم قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا، وهو حديث منكر جدا، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع. وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري، فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر، أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة. وعن الذهبي أن من كنت مولاه فعلي مولاه متواتر يتيقن أن رسول الله قاله، وأما اللهم وال من والاه، فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح- ولا والله ما نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام. والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحيهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك». أقول: موضوع المفاضلة بين الخلفاء الرّاشدين، أو موضوع كون الخلافة محصورة بعلي رضي الله عنه وبأبنائه قضيتان أدخلهما علماء الشيعة في مباحثهم الأصولية وسيبقى أهل السنة والجماعة مستمرين على تحقيقهم وهو الحق، وسيبقى الشيعة مستمرين على تحقيقهم، ونحن نطالب كل الناس بالإنصاف وقبول التحقيق العلميّ النّزيه، ونطالب في الوقت نفسه ألا يكون لموضوع تاريخي غير عمليّ في مرحلتنا الحاضرة تأثيره على وحدة المسلمين لصالح أعدائهم عامّة. والذي أراه للمستقبل في موضوع الخلافة أن تعطى الحرية لكل اتجاه إسلامي، في تأسيس حزب له على أساس آرائه في هذا الموضوع، وأن يقدّم كل حزب مرشحه للأمة ضمن القواعد المتفق عليها، والأمّة هي التي تختار، ومن اختارته فعلى الجميع أن يبايعوه، وأن يلتزموا بطاعته، مع استمرارهم في الدعوة إلى مرشحهم، أو إلى غيره لمرحلة لاحقة، على حسب اللوائح الدستورية المنبثقة عن الشورى، على ضوء الكتاب والسنة.

فصل: في الصابئين

فصل: في الصابئين: رأينا أثناء تفسير سورة البقرة أن المفسرين مختلفون في المراد بالصابئين هل المراد بذلك كل من صبأ عن دينه المنحرف إلى الحق؟ أو المراد بهم طائفة بعينها نرى بقاياها في العراق؟، وعلى القول الثاني فإننا ننقل هاهنا كلاما للآلوسي لا نعتبره تحقيقا بل نعتبره سردا لأقوال، فلعلّ تحقيقا ما يرجّح شيئا منها، أو ينقضه، يقول الألوسي عن الصابئين: «وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة، وقد تقدم الكلام على ذلك، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث- وكان فيه. وفي بنيه النبوة والدين- وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بابلون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش، واستخلف أنوش ابنه قونان، واستخلف قونان ابنه مهلائيل، واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه، وعلمه جميع العلوم، وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس عليه الصلاة والسلام- ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده، وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى، فأجابوه حتى عمّت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى. والطهارة، والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة، أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به- إلى آخر ما قاله- ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة. وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه: والصابئ بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئ بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان علي الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئ بن ماوي، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه، اه. فصل: في قوله تعالى وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ

نقل وتعليق

جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ* وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. إن مجئ آية وَحَسِبُوا بعد الآية السابقة عليها يشعر أن هؤلاء اليهود كانوا يرتكبون ما يرتكبون مع ظنّهم ألا تقع فتنة، وبذلك وصلوا إلى حالة العمى عن الحق والصمم عن كلّ موعظة، فجاءتهم الفتنة بأن سلّط الله عليهم بخت نصّر فقهرهم وأخذهم أسارى إلى بابل في غاية الذّلّ والمهانة حتى رحمهم الله- عزّ وجل- فأنقذهم بعد ذلك وهو قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولكنهم بعد ذلك عادوا إلى العمى والصّمم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فسلّط الله عليهم من سلّط وسيسلط إلى قيام السّاعة، هذا توجيه بعضهم للآية. وإن أمّتنا فيما يبدو تقع أحيانا فيما وقعت فيه يهود، فيفعلون ما يفعلون حسبانا منهم أنهم لن يسلط عليهم أحد، ويستغرقون في الانحراف، حتى تأتيهم الضربة، وما أكثر ما أصبنا بضربات وما أكثر الغفلة والعمى والصّمم. نقل وتعليق: بمناسبة قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قال صاحب الظلال: إنّ كلّ النّصوص القرآنية والنّبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم، مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته مهما وجد فيه من طغيان الحكم، في بعض الأحيان، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان، وهكذا نجد في قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» فهو إمام ولا يكون إماما حتى يعترف ابتداء بسلطان الله وبتحكيم شريعته، فالذي لا يحكّم شريعة الله لا يقال له «إمام» إنما يقول الله عنه سبحانه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله، فالمنكر الأكبر فيها والأهمّ، هو المنكر الكبير الأساسي الجذري، هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار، قبل الدّخول في المنكرات الجزئية، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر، وفرع عنه وعرض له. إنه لا جدوى من ضياع الجهد جهد الخيرين الصالحين من الناس .. في مقاومة المنكرات الجزئية، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول، منكر الجرأة على الله وادّعاء خصائص الألوهية، ورفض ألوهية الله يرفض شريعته للحياة، لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك

المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال. على أنّه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم: إن هذا منكر فاجتنبوه؟ أنت تقول: إن هذا منكر فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون: لك كلا! ليس هذا منكرا لقد كان منكرا في الزمان الخالي، والدنيا تتطور، والمجتمع يتقدم، وتختلف الاعتبارات. فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال، ولا بد من قيم معترف بها، نقيس إليها المعروف والمنكر، فمن أين نستمد هذه القيم؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان؟ من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم- وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه! فلا بد ابتداء من إقامة الميزان .. ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء .. هذا الميزان الثابت هو ميزان الله .. فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف- ابتداء- بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ وينكّل بمن يدعوه إلى منهج الله؟ ألا يكون جهدا ضائعا، وعبثا هازلا، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة، تختلف عليها الموازين والقيم، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟! إنه لا بد من الاتفاق مبدئيا على حكم، وعلى ميزان، وعلى سلطان، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء .. لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة. والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة .. وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن، ولتحشد كلها في جبهة واحدة، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان! وإن الإنسان ليرثي أحيانا ويعجب لأناس طيبين، ينفقون جهدهم في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في الفروع، بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم، ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقطوع!

فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حراما؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال .. لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟! وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البيّن في الطريق العام. وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله. لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟!. وما غناء أن تنهى الناس عن سبّ الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله؛ ولا يعبد فيه الله. إنما هو يتخذ أربابا من دونه؛ ينزلون له شريعته وقانونه؛ ونظامه وأوضاعه، وقيمه وموازينه. يضعون لهم الشرائع والقوانين؛ ويضعون لهم القيم والموازين؟! ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر- فضلا عن أن يكون النهي عن الصغائر- والكبيرة الكبرى لا نهي عنها .. كبيرة الكفر بالله، برفض منهجه للحياة؟! إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق، مما ينفق فيه هؤلاء «الطيبون» جهدهم وطاقتهم واهتمامهم .. إنه- في هذه المرحلة- ليس أمر تتبع الفرعيات- مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هذه حدود الله. فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه. فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة .. فكل جهد في الفروع ضائع؛ وكل محاولة في الفروع عبث .. والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات .. والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان». وقد يجئ على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقا على الإسلام. وليس هذا موقفا سلبيا من المنكر- كما يلوح في بادئ الأمر- وتعبير الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته. فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر .. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع

الشرعي الذى يخضع له ويعترف به .. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع «المعروف» في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة .. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير .. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع، ولأن له ضغطا- قد يكون ساحقا- فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان. هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ .. ». أقول: لقد فهم الكثيرون من قرّاء السيد رحمه الله هذا الكلام فهما خاطئا، فأصبحوا ينكرون على من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر في مجتمعاتنا مما أصبح معه من الواجبات وضع الأمور في مواضعها ولذلك نقول: إنّه من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نقدّم الدعوة إلى الأهم على المهمّ ثمّ وثمّ .. فعند ما أرسل صلّى الله عليه وسلّم معاذا إلى اليمن أمره أن يدعو إلى شهادة ألّا إله إلّا الله ... فإن هم أجابوا لذلك فليدعهم إلى الصلاة ... فإن هم أجابوا إلى ذلك فليعلمهم بأمر الزكاة وهكذا ... فليس من السنّة أن تأتي إلى إنسان مرتدّ عن الإسلام فتبدأ بدعوته إلى ترك التختم بالذهب مثلا، وهو لا يعترف بالإسلام أصلا، ولو أنّك فعلت فلست آثما، بل أنت مأجور ولكنّ الأصل أن تدعوه أولا إلى الإيمان، فإذا استجاب؛ فادعه إلى فهم الإسلام والالتزام بكل ما فيه، وليس عليك من حرج في أن تقدّم مهمّا على أهم، ولكن السنة أن تقدّم الأهم على المهمّ، وأن تتساهل ابتداء فيما اختلف فيه العلماء لتنتقل فيما بعد إلى آفاق العزائم، فتعلّم النّاس وتربيهم على أن يأخذوا بالأحوط، مع البيان أنّه أحوط دون الإلزام به وكأنّه أمر مجمع عليه. وأما إذا كان إنسان مسلما ابتداء ولكنّه على جهل فهذا لا عليك أن تبدأ معه البيان على ضوء العلم في الأصول والفروع، وأن تنهاه عن المنكر في الأصول والفروع وأن تأمره بالمعروف أصولا وفروعا. هذا كلّه في حق الفرد كفرد أمّا في الخطاب الجماعي، فالزمان والمكان والأشخاص هي التي تحدّد الموضوع، فإذا كنت تخاطب روّاد المساجد فلا عليك أن تتحدث عن كل شئ من الأصول إلى الفروع،

ولكنّ الحكمة أن تتخيّر موضوعك بحيث يناسب روّاد مسجدك، ولكن ليس من الحكمة إذا كنت تخاطب الأمريكيين غير المسلمين مثلا في أمريكا أن تبدأ الحديث معهم في الكلام عن كراهية المجئ إلى المسجد لمن تشمّ منه رائحة الثوم والبصل، وغير ذلك من الروائح التي لا تألفها الأذواق، قد يكون هذا جزءا من موضوع ولكن لا يصلح أن يكون هو الموضوع وأن يصاغ بصيغة طلب. ونحب أن نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل فيه الدعوة إلى الأصول والفروع، والمسلم من أخلاقه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكن عليه أن يكون حكيما في الدخول والخروج وتخيّر الموضوع. وهل يعتبر كلام الأستاذ سيد نهيا لنا عن أن نشغل أوقاتنا في صراع جزئي مع المنكرات الجزائية في المجتمع بحيث نستغرق في ذلك؟ قد يكون كلامه يفيد شيئا من ذلك، ولكن ليس هذا من باب أنه لو فعل بعض المسلمين ذلك يكونون قد ارتكبوا حراما، ولكن من باب ألا ينسينا واجب واجبات أخرى. إنّ الجهد الرئيسي للدعوة الإسلامية ينبغي أن ينصبّ على استبدال نظام جاهلي بنظام إسلامي، بالوسائل المشروعة المتاحة المستطاعة، هذا هو الفقه الصحيح للعمل العام، ولكن ونحن نسير لذلك، فلا حرج على من يحاول إزالة منكر جزئي، بما لا يؤثر على السّير العام نحو الهدف الكبير. هذه هي المسألة في إطارها العلمي والفقهي وفي إطار فقه الدعوة المعاصرة. إنّ كثيرين من النّاس يرون أنّ تغيير منكر جزئي باليد لا يجوز قبل قيام السّلطة الإسلامية ويستدلون على ذلك بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يكسّر الأصنام إلا بعد الفتح، وهذا خطأ فقد ثبت في السنة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشترك هو وعليّ بن أبي طالب في كسر صنم لقريش من على الكعبة قبل الهجرة وهربا، وهذا إبراهيم عليه السّلام كسّر الأصنام ولا سلطة. إنّه من حيث الجواز يجوز لكلّ مسلم أن يغيّر منكرا أوجب الشرع تغييره، وهو إن فعل مأجور، لكن هل يجب عليه ذلك؟ هل يحتاج إلى إذن إن كان منتسبا لجماعة تتضرّر بسبب فعلته؟ كل ذلك له موازينه الشّرعية والفتوى البصيرة من أهلها هي التي تعطي الجواب الصحيح على ضوء الموازنات الصحيحة.

إن هناك صورا من النهي عن المنكر قد ترتّب على غير الناهي ضررا لغيره، أمثال هذه الصور نصّ الغزالي في إحيائه على أن على الناهي ألا يقدم عليها قبل استئذان من يصيبه الضرر، ومن المعلوم أنّ ذلك لا تدخل فيه صورة ما إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق إنسان هو من باب فروض العين. قلنا هذا الكلام لأنّ ناسا كادوا أن يعطلوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسبب فهمهم الخاطئ لآراء صاحب الظلال. قد لا توجد فائدة في أن أنهى سكيرا عن شرب الخمر إذا كان مرتدا أو كافرا أصليا، وقد لا توجد فائدة في أن أنهى كافرا عن سبّ الدين. ولكن قد يكون من المناسب أن أسأل السّكير عما إذا كان يؤمن بالإسلام وعمّا إذا كان يفهمه، ثمّ بعد ذلك أدعوه إلى الإيمان وفهم الإسلام، وأنهاه إذا كان مؤمنا عن شرب الخمر. وقد يكون من المناسب أن أسأل ساب الدّين عن سبب سبابه، فأدعوه إلى الإسلام من خلال ذلك، وفي كل الأحوال لو أنني نهيت أمثال هؤلاء فلست مأزورا، بل أنا مأجور وكفى ذلك غناء. إنّ فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم ما ينبغي أن يعرفه المسلم وأن يتحقق به ولا تمكين للمسلم إلا بهذا: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ . إنهم كذلك قبل السلطة وبعدها، وإذا لم يكونوا كذلك قبل السلطة فلن يكونوا كذلك بعدها، وقد غلط ناس عطّلوا الصلاة، والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحجة أنّ ذلك لا يكون إلا بعد السلطة، وهو فهم خاطئ للآية، ونخشى أن يتسرّب لنا هذا الفهم الخاطئ. إنّه كما أنّنا نصلي في كل الحالات، ونزكي في كل الحالات، فعلينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل الحالات، ملاحظين ما مرّ من تقديم الأصول على الفروع، مع اعتبارنا أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الأصول مأجور. لقد رأيت نماذج من الناس استمرءوا السكوت على المنكر في كل الأحوال، بحجة أن المجتمع جاهلي، وواقعوا المنكر بحجة أن المجتمع جاهلي.

نقول: عن صاحب الظلال حول آية لتجدن أشد الناس عداوة ...

لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمينا والمجتمع جاهلي، وكان يعبد الله والمجتمع جاهلي، وكان مطهرا من مواقعة عادات الجاهلية على غلبتها، وهذا لم يكن تكليفا، أفبعد أن منّ الله علينا بالتكليف والبيان، يصل بعض الناس إلى تعطيل أحكام الله بسبب فهم خاطئ لكلام رجل، كلامه في الأصل يحتمل الخطأ والصواب. إنّه لمن أصعب أنواع الجهل ألّا يعرف إنسان أن يضع الكلمة التي يسمعها أو يقرؤها في محلها ودعونا نتأمّل الآيات التي كتب فيها الشهيد رحمه الله ما كتب: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ لقد وجد عيسى في مجتمع جاهلي كان على رأسه الرومان الوثنيون ولم يكن اليهود في ظل دولة مسلمة ومع ذلك لعنهم عيسى، السبب عصيانهم واعتداؤهم دون تحديد لهذا العصيان وهذا الاعتداء في الآية، ثم وصفهم الله عزّ وجل بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لاحظ تنكير كلمة (المنكر) الآتية في سياق نفي مما يعمّ كل منكر، ثم جاءت بعد ذلك آية تقول لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ دون تحديد لنوع الكلام الآثم ولا الحرام المأكول، أليس وضع أبناء المسلمين اليوم يشبه وضع المجتمع الذي وجد فيه عيسى عليه السلام، فهل إذا سكت علماؤنا وعبّادنا عن الكلمة الآثمة والكسب الحرام والاعتداء والعصيان والمنكر لا يكونون قد وقعوا فيما وقع فيه علماء بني إسرائيل. وهل الآيات فرّقت بين أصول وفروع؟ نرجوا أن نكون بهذا البيان قد وضعنا الأمور في مواضعها بالنسبة لهذا الموضوع الخطير. نقول: [عن صاحب الظلال حول آية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ... ] بمناسبة قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ يقول صاحب الظلال: إن الذي ألّب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة؛ وجمع بين اليهود .. من بني قريظة وغيرهم، وبين قريش في مكة، وبين القبائل الأخرى في

الجزيرة .. يهودي .. والذي ألّب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في فتنة عثمان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات .. يهودي .. والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي الروايات والسير .. يهودي .. ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال «الدستور» بها في عهد السلطان عبد الحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي أتاتورك .. يهودي .. وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود! ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية .. يهودي .. ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي .. ووراء معظم النظريات الهدّامة لكل المقاسات والضوابط يهود! ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا، وأعرض مجالا، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون- على ضراوتها- قديما وحديثا .. إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها. وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول. أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية .. (التي تعدّ الماركسية مجرد فرع لها) وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية». وحتى لا يفهم فاهم من قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أنّ ذلك في النصارى جميعا، ومن أجل أن يفهم النص على ما أنزل عليه أنّه في النصارى الذين مآلهم الدخول في الإسلام متى عرض عليهم يقول صاحب الظلال: «وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم .. فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى

الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم- فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه. وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك، يلاقون من ظلمها الوبال! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط- إلا في الظاهر- منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك! لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على الممالك الإسلامية في إفريقية أولا، ثم في العالم كله أخيرا. ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية حليفتين في حرب الإسلام- على كل ما بينهما من أحقاد- ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة. ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة. وبعد أن أجهزوا على عروة «الحكم» ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة «الصلاة»! ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنيين. فيؤيدون الوثينة حيثما وجدت ضد الإسلام. عن طريق المساعدات المباشرة تارة، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد. وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض. وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال! هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرنا، من مواقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام، لا فرق بين هذه وتلك؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر

وذاك في الكيد للإسلام، والحقد عليه، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمن. وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغدا، فلا ينساقون وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة، التي تنظر إلى أوائل النص القرآني- دون متابعة لبقيته، ودون متابعة لسياق السورة كله، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله- ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التى تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة. إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئا أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة- مهما قل عددها وعدتها- فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة. وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة، ولكن ضررهم لا يقل- حينئذ- عن ضرر أعدى الأعداء، بل إنه ليكون أشد أذى وضررا. ***

المقطع السابع يمتد هذا المقطع من الآية (87) إلى نهاية الآية (108) وهذا هو

المقطع السابع يمتد هذا المقطع من الآية (87) إلى نهاية الآية (108) وهذا هو: 5/ 92 - 87

5/ 99 - 93

5/ 105 - 100

محل هذا المقطع في السورة

5/ 108 - 106 محلّ هذا المقطع في السورة: تتألف سورة المائدة من ثلاثة أقسام وخاتمة وهذا المقطع هو المقطع الثاني من القسم الثالث الذي ابتدئ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فهو استمرار للمقطع السابق ومن ثمّ فإن له صلة كبيرة في قضية البلاغ، لقد انصبّ الكلام في المقطع الأول من القسم الثالث على بلاغ الكافرين، وانصبّ الكلام هنا على بلاغ المؤمنين، ولذلك كان في هذا المقطع تفصيل لكثير مما أجمل في أوّل سورة المائدة كما سنرى. كلمة في المقطع: آخر آية في المقطع ختمت بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لاحظ صلة ذلك بمحور السورة: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بدأ المقطع بالنهي عن تحريم الطيبات، وعن أكل الحلال الطيب لينتقل إلى الأيمان، إذ جرت العادة أنّ النّاس إذا أرادوا أن يحرّموا على أنفسهم شيئا أقسموا، فذكرت الفقرة الأيمان المنعقدة وكفارتها، وارتباط ذلك بمحور السورة واضح، فهل مما يدخل في نقض العهد الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ هذه الصورة التي ذكرتها الفقرة؟ أجاب المقطع على ذلك. ومن النهي عن تحريم الطيبات ينتقل السياق إلى فقرة جديدة

تذكر فيها الخبائث يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ففي هذه الفقرة تبيان لبعض ما أخذ علينا العهد باجتنابه، وحكمة ذلك، وما أبيح لنا بعد ذلك، ومن الكلام عما أحل لنا وحرم، وعن أكل الطيبات يأتي الكلام عن الصيد للمحرم، وعما يجوز له من صيد البحر. وعن حكمة بعض الأمور في الحج. ومن ذلك ينتقل السياق إلى كراهية السؤال عمّا لم يرد فيه تحريم ابتداء، ليصل إلى بعض ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم مما لم ينزل به الله سلطانا. فالسياق لا زال في قضايا التحريم والتحليل مما له صلة بقضايا الطعام، وإذ قرّرت السورة طريق الهداية والضلال، فإنّ آية تأتي لتبيّن أن ضلال الضالّين لا يضرّنا إن كنّا مهتدين. ثم تأتي فقرة أخيرة في المقطع حول الوصيّة في بعض الأحوال والشهادة والأيمان. والملاحظ أن الفقرة الأولى في هذا المقطع ذكرت فيها الأيمان، وأن الفقرة الأخيرة ذكرت فيها الأيمان ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فكأن المقطع كله في قضايا ينبغي أن تراعى، مما هو نوع نقض لميثاق مع الله، أو هو شرح لبعض الحالات التي يتمّ فيها توثيق أمام الله، وما هي المخارج في ذلك إن المقطع يحدّثنا عن أمور لو فعلها الإنسان يفسق عن أمر الله- عزّ وجل- وعن أمور هي من نوع نقض الميثاق، أو من قطع ما أمر الله به أن يوصل. إنّ ابتداء المقطع بذكر الأيمان، وانتهائه بذكر الأيمان، يدّل على أنّه مقطع واحد، وانتهاء المقطع بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لدليل على أنّ المقطع يفصّل في المحور. رأينا فيما مرّ قضيتين: صلة آيات المقطع ببعضها، وصلة المقطع بمحور السورة من البقرة. ولنلاحظ الآن ما يلي: لم يبق معنا بعد هذا المقطع إلا خاتمة السورة فكأنّ هذا المقطع هو المقطع الأخير. فلنلاحظ صلة هذا المقطع بأول مقطع في سورة المائدة. بدأت سورة المائدة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وفي هذا المقطع ترى حكم الأيمان المنعقدة، وفي المقطع الأول في الآية الأولى منه جاء قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وهاهنا يأتي تفصيل لموضوع صيد المحرم. وفي المقطع الأول تأتي الآية الثانية منه وفيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ويأتي في هذا المقطع قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ وفي المقطع

المعنى العام للمقطع

الأول يذكر الله- عزّ وجل- ما حرم علينا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .. ويأتي في هذا المقطع ذكر ما حرّمه الناس ولم يحرمه الله. ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ويأتي في هذا المقطع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وفي المقطع الأول يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. ويختم هذا المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ .. فههنا فقرة عن إقامة الشهادة في حالة من الحالات. فما بين المقطع الأول، والمقطع الأخير صلات واضحة، وما بين المقاطع التي ذكرت في الوسط، والمقطع الأول والأخير صلات واضحة كذلك، فالسورة لها سياقها الخاص، ومع ذلك فإنها تفصّل في محورها من سورة البقرة لتأخذ محلها في بناء صرح المعاني القرآنية على تسلسل معيّن، ونسق معيّن. ولعل في الكلمة الأخيرة عن السورة ما يزيد هذا الأمر بيانا، فلنبدأ عرض معاني المقطع: المعنى العام للمقطع: يبدأ هذا المقطع بالنهي عن تحريم ما أحل الله بالسير في غير سنة المسلمين في أمر النّساء، أو الطعام، أو الشّراب، أو اللباس، أو العادات، أو غير ذلك. وكما نهى عن تحريم الحلال، فقد نهى عن الاعتداء، لأن الله لا يحب أهله. والاعتداء في هذا المقام يحتمل التضييق على الأنفس بتحريم المباحات، أو تعذيب الجسد. ويحتمل الإسراف في تناول الحلال، فيكون طلبا بالأخذ من الحلال بقدر الكفاية والحاجة، إذ دين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط. ثم أمر الله- عزّ وجل- بالأكل من الحلال الطيّب، كما أمر بالتقوى في جميع الأمور باتّباع طاعته ورضوانه، وترك مخالفته وعصيانه. إذ مقتضى الإيمان بالله أن يتّقى. رأينا أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النساء، وهي من هذه الحيثيّة تكمّل بناء التقوى، وتدلّ على طريقها، وهي في الوقت نفسه تحرير للإنسان من كل الصفّات التي يضل بسببها أصحابها، فهي تخلية وتحلية.

ولذلك فإننا نجد في هذا المقطع عملية البناء وإزالة الأنقاض تتعاضدان، وعملية التحلية بالتقوى والتخلية عن الفسوق تتكاتفان، ومن ثمّ نجد في هذا المقطع النهي عن تحريم ما أحل الله، وذكر بعض ما حرّم أبدا، وذكر بعض ما حرّم في بعض الأحوال، والنهي عن السؤال ومؤاخذة من يحرّم ما أحل الله، كفعل الجاهليين في بعض الشئون. وبيان لحكم الله في جانب من موضوع الوصايا، وكل ذلك ينتظمه المحور الذي تدور حوله سورة المائدة فلنرجع إلى المعنى العام في المقطع. إنه قد يرافق تحريم الحلال- أو معنى من معاني الاعتداء يمين، ومن ثمّ فقد بيّن الله- عزّ وجل- حكم الأيمان المنعقدة في هذا المقام بعد أن بين حكم يمين اللغو في سورة البقرة، فبيّن هنا أنّ الله يؤاخذ باليمين التي يرافقها تصميم وقصد، وأن مثل هذه اليمين كفارتها لمن يجب عليه أن يحنث فيها، أو يجوز- إذا أراد الحنث- واحد من ثلاثة، إما إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصيام ثلاثة أيام، ثم بيّن الله- عزّ وجل- أن هذه هي كفّارة اليمين الشرعية، وأمر بحفظ الأيمان، إما بالبر بها، أو بالتكفير عنها، وأنّ هذا البيان لأحكامه يقتضي منّا شكرا. وبعد أن بيّن الله- عزّ وجل- لنا عدم جواز تحريم ما أحلّ، طالبنا بالالتزام بما حرّم، وبيّن لنا أنّ تعاطي الخمر والقمار مما حرّم، وأنّ مما حرّم الأنصاب: وهي الحجارة التي كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأنّ مما حرم الأزلام: وهي قداح أي: أقلام كانوا يستقسمون بها، ويستفتحون بها، ويلتزمون بتوجيهها الأعمى. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- أن هذه الأشياء كلها شر وسخط من فعل الشيطان وعمله ودعوته ووسوسته، آمرا إيانا بتركها لنكون من حزب الله، ومن عباده المفلحين. ثم بيّن تعالى ما هو مراد الشيطان من دعوته لنا إلى الخمر والميسر؟ ألا وهو إيقاع العداوة والبغضاء بيننا بذلك، وتحصيل الغفلة عن الله. فحيثما وجد الخمر كان العداء والشر، وحيثما وجد القمار- جدا أو هزلا- وجدت الشحناء. وإنّما يريد الله لحزبه أن يكونوا متحابّين، ومن ثمّ حرّمهما عليهم، وحيثما وجدت الخمرة والقمار كانت الغفلة عن الله، والله يريد منا أن نكون ذاكرين، ولذلك حرم علينا الخمرة والقمار، وحضّنا على الانتهاء عنهما بعد أن أظهر لنا الحكمة في التحريم، ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- أنّ من آمن، وعمل صالحا، واتّقى وأحسن فليس عليه جناح فيما طعم من أنواع المباحات وما أكثرها، وأنه تعالى يحب المحسنين.

في بداية المقطع بيّن أنه لا يحب المعتدين، وهاهنا بيّن أنه يحب المحسنين، وهذا يؤكد فهمنا أنّ المقطع فيه تحرير وبناء، وتخلية وتحلية، وكذلك السورة كلها. ثمّ بين الله- عزّ وجل- هنا- بعد أن بيّن في أوّل السورة حرمة الصيد على المحرم أنّ الله- عزّ وجل- قد يبتلينا في حالة إحرامنا بضعيف الصيد وصغيره حتى لو شئنا أن نناله بأيدينا لنلناه، وقد يبتلينا بالكبار منه حتى لو شئنا أن نناله بأسلحتنا لنلناه، وذلك كله اختبار لنا لتظهر طاعة من يطيع منّا في سرّه وجهره فيما نهانا عنه وحرّمه علينا. إنّه قد يختبرنا بالصّيد يغشانا في رحالنا نتمكن من أخذه بالأيدي والسّلاح في حالة إحرامنا، ليظهر من يخاف الله بالغيب ممّن لا يخافه، ثمّ بين تعالى أنّ من يعتدي بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدّم فإنّ له عذابا أليما لمخالفته أمر الله وشرعه، ثمّ نهى الله- عزّ وجل- عن قتل الصيد في حال الإحرام، وهذا تحريم منه تعالى للصيد في تلك الحالة ونهي عن تعاطيه، وما يدخل في هذا وما يستثنى منه سنراه، ثمّ بيّن تعالى أنّ من أصاب صيدا عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، مع ملاحظة أنّ المتعمّد مأثوم، والمخطئ غير ملوم. وأن هذا الجزاء ينبغي أن يكون من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، وهل تصح القيمة أو لا تصح؟ قولان للفقهاء، وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة كما رواه البيهقي. وتفصيل هذا سنراه. هذا الجزء يجب أن يكون الحكم فيه في المثلي، أو بالقيمة في غير المثلي، لرجلين عدلين من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين أولا؟ على قولين سنراهما، هذا الجزاء يجب أن يصل إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك، ويوزّع لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة، وإذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم، أو لم يكن الصيد من ذوات الأمثال فإنه يقوّم مثله من النعم لو كان موجودا، ثم يشترى به طعام فيتصدق به لكل مسكين مدّ على رأي، ومدّان على رأي آخر، فإن لم يجد صام عن إطعام كل مسكين يوما، وبعضهم قال: هو في الأصل مخيّر بين الجزاء والإطعام، فإن لم يجد فالصيام. واختلفوا هل لا يجوز الإطعام إلا في الحرم على قولين، وتفصيل ذلك كله سيأتي، وإنما فرض الله الجزاء والكفّارة تأديبا، ثمّ بين الله- عزّ وجل- أنّ هذا الحكم لا يطالب به أحد قبل نزوله، فإنّ ما كان من قبل ذلك فهو عفو، ثمّ هدّد الله من يجترئ على الصيد وهو محرم بحيث يتكرر منه الاجتراء بالانتقام منه، فالله- عزّ وجل- عزيز منتقم بمعنى: أنّه منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام

أحد ممّن يريد أن ينتقم منه، ولا يمنعه من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأنّ الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزّة والمنعة، وهو ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه، ثمّ بيّن تعالى أنّ الصيد المحرّم على المحرم هو صيد البر، وأمّا صيد البحر وطعامه مما اصطدناه وما لفظه فهو مباح لنا في كل حال، منفعة لنا وقوتا، ثمّ أمرنا بتقواه، كيف لا وإليه سنحشر ونحاسب. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- في هذا المقام ماهيّة الحكمة من جعله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد من شعائره، فبيّن أنّ الحكمة في ذلك شيئان. الأوّل: انتعاش الناس في أمر دينهم ونهوضهم إلى أغراضهم في معاشهم. والثاني: هو أن نزداد علما بالله، علما بمالكيته لما في السموات والأرض من خلال ممارسة شعائر الحج، وعلما بأنه بكل شئ عليم من خلال ذلك كذلك. ثمّ أمرنا الله- عزّ وجل- في هذا السياق أن نعلم أنّه شديد العقاب، كما أنه غفور رحيم حتى لا تنسينا رؤية الجلال عن مشاهدة الجمال، ولا تجرّئنا رؤية الرحمة على المعصية، كما لا تقنطنا رؤية العقوبة من الرحمة. ثمّ بيّن أنّ على الرسول صلّى الله عليه وسلّم البلاغ والله هو الذي يعلم كل شئ فيحاسب، وفي هذا المقام- مقام البيان أن على الرسول البلاغ فقط- يأمر الله رسوله أن يبيّن أنّ القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، ثمّ نادى أصحاب العقول الصحيحة المستقيمة أن يتقوه باجتناب الحرام وتركه، والقناعة بالحلال والاكتفاء به للوصول إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ثمّ أدّب الله- عزّ وجل- عباده فنهاهم عن السؤال عن أشياء لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها، لأنّها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربّما ساءتهم، وشقّ عليهم سماعها، مبيّنا لهم أنّهم إن سألوا عن هذه الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبيّن لهم، وعندئذ يكون سؤالهم من أجل فهم الوحي، وأما قبل ذلك فيكون من باب التكلّف، ثمّ طمأنهم الله تعالى عن عفوه عمّا كان منهم قبل ذلك؛ إذ أنّه الغفور الحليم الذي لا يعاقب قبل البيان. ثمّ بيّن تعالى الحكمة في النهي عن الأسئلة وما ذاك إلا لعلمه تعالى بالطبيعة البشرية، فلقد سأل المسائل قوم من قبلنا فأجيبوا عنها، ثمّ لم يؤمنوا بها، فأصبحوا كافرين أي بسببها. أي: فلم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد، يفهم من ذلك أن طاقة البشر في موضوع الإيمان محدودة والله- عزّ وجل- إنّما ينزّل على عباده بما يتناسب وهذه الطاقة، وعند ما يسأل الناس قد لا يوفقون في سؤالهم، فإذا ما أجيبوا ترتب على ذلك حرج ومشقّة، فنهوا أن يبتدءوا سؤالا، وسمح لهم أن يستفهموا. وأن يتفقّهوا. ثمّ بيّن

الله- عزّ وجل- حكمه في قضية من قضايا الجاهليين، فقد كان الجاهليون يتركون بعض الأنعام لا يجيزون حلبها لأحد من الناس، وهذه هي البحيرة، ويتركون بعض الأنعام يسيّبونها لآلهتهم فلا يحملون عليها شيئا، وهذه هي السائبة. وكانت الناقة البكر إذا بكّرت في أول نتاج بأنثى ثم ثنّت بأنثى يسيّبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، وهذه هي الوصيلة، وسنرى تفسيرا آخر للوصيلة، وكان الفحل من الإبل إذا لقح عددا من الإناث دعوه للطواغيت وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شئ وسمّوه الحامي. بين الله- عزّ وجل- أن هذا كله ليس من دينه ولا شرعه، وليست هذه الأشياء عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها إليه، وليس ذلك بحاصل لهم بل هو وبال عليهم، وهم في هذا كله كاذبون على الله وجهلة لا عقل لهم إذ يضيّعون المال بلا مقابل، والجنون في هؤلاء أنّهم إذ دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وإلى ترك ما حرّمه مما فيه مصلحتهم في دنياهم وأخراهم قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، من الطرائق والمسالك مع ما عليه الآباء من الجهل والضلال، فلا علم ولا هداية، ولا فهم ولا معرفة، فكيف يتّبعونهم والحالة هذه، ألا إنه لا يتّبعهم في هذه الحالة إلا من هو منهم وأضلّ سبيلا. ثمّ أمر الله- عزّ وجل- عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجدهم وطاقتهم، مخبرا لهم أنّه من أصلح أمره لا يضرّه فساد من فسد من النّاس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا. وأن لله المرجع، وهو الذي سيحاسب ويجزي كلّا بعمله، ثم بيّن الله- عزّ وجل- أنه في حالة كون الواحد منا مسافرا وأدركته الوفاة فإنّ عليه في هذه الحالة أن يوصي، وأن يشهد على وصيته اثنين من عدول المسلمين، فإذا لم يتوافر له ذلك فليشهد اثنين من غير المسلمين، وإنّما جاز استشهاد غير المسلمين في هذه الحالة للضرورة عند فقد المسلمين. قال شريح: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلّا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصيّة. فإذا شكّ ورثة الميّت بأنّهما خانا أو غلّا أو غير ذلك، حبسا بعد صلاة يجتمع فيها الناس، فيحلفان بالله أنّهما لا يشتريان بأيمانهما أي: لا يعتاضان بها عوضا من الدنيا الفانية الزائلة، ولو كان المشهود عليهم قريبا فإنّهما لا يحابيان، وإنهّما لا يكتمان الشهادة، وأنّهما إن فعلا ذلك من تحريف الشهادة، أو تبديلها، أو تغييرها، أو كتمانها بالكلية، يكونان من الآثمين، فإن اشتهر وظهر وتحقّق من الشاهدين الوصيّين أنهّما خانا أو غلّا شيئا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك، وتحقق ذلك

ملاحظات حول السياق

بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقّين للتركة- وليكونا من أول من يرث ذلك المال- فيقسمان بالله: إن قولنا: إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة، وما اعتدينا فيما قلنا فيهما من الخيانة، وإن كنا قد كذبنا عليهما فإنّا إذا لمن الظالمين. ثمّ بيّن الله- عزّ وجل- حكمة هذا الحكم الأخير وهي أنّ ذلك أقرب أن يقيم الشاهدان الأصليّان الشهادة على الوجه الأصلي؛ فيحملهما على الإتيان بها على وجهها تعظيم الحلف بالله، ومراعاة جانبه، وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس، إن ردّت اليمين على الورثة فيحلفون ويستحقون ما يدّعون، ثمّ ختم الله هذا بالأمر بتقواه، والأمر بالسمع والطاعة له، مبيّنا أنه لا يهدي القوم الفاسقين أي: الخارجين عن طاعته والمتابعة لشريعته. وختم هذا المقطع كله بقوله تعالى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يذكّر بقوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من آيتي سورة البقرة اللتين قلنا عنهما: إنهما محور سورة المائدة ضمن السّياق القرآني العام، ولا شك أن هذا المقطع قد بين جوانب من الفساد في الأرض، كتحريم الحلال، والاعتداء، وكالخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، والصيد حالة الإحرام، والسؤال في غير محله، وتحريف الشهادة، كما بيّن جوانب من الفسوق عن أمره لا يهدى معها أصحابها. ملاحظات حول السياق: رأينا أن هذا المقطع ابتدأ بالكلام عن الأيمان، وانتهى بكلام عن نوع من الأيمان وهذا يشير إلى وحدة المقطع، وقد رأينا في هذا المقطع قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وكنّا رأينا من قبل أن المقطع السابق على هذا المقطع قد ابتدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فذكر البلاغ في هذا المقطع يشير إلى أن هذا المقطع استمرار للمقطع السابق، وهذا يؤكد ما قلناه من قبل إن القسم الثالث من سورة المائدة يتألف من مقطعين، وأن القسم الثالث كله هو في أمور تدخل في باب البلاغ، ومن هنا ندرك سرّ تعرّض السورة في أوائلها لبعض المعاني مجملة، ثمّ تفصيلها في قسمها الأخير، هناك جاءت في سياق، وهاهنا تأتي في سياق، هناك تأتي في سياق الأمر بالوفاء بالعقود، وهاهنا تأتي في سياق الأمر بالبلاغ، ونكرّر هنا ما قلناه من قبل من أنّ على الدّعاة إلى الله أن يلاحظوا إذن أهمية التركيز على تبليغ معاني القسم الثالث في مقطعيه، مع ملاحظة أن المقطع الأوّل في جملته تركيز على معان يتوجّه فيها الخطاب لغير

المعنى الحرفي

المؤمنين، وأن المقطع الثاني هو في جملته تركيز على معان يتوجه فيها الخطاب للمؤمنين، نقول هذا كله بين يدي المعنى الحرفي للمقطع الثاني من القسم الثالث والذي هو المقطع السابع. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الطيبات: ما طاب ولذّ من الحلال، ومعنى لا تحرّموا أي: لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا وَلا تَعْتَدُوا. أي: ولا تجاوزوا الحدّ الذي حدّ لكم في تحريم أو تحليل، أو لا تتعدّوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرّم عليكم، أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. أي: المتجاوزين حدوده وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً نهى عن تحريم الطيبات ثمّ أمر بالأكل منها وَاتَّقُوا اللَّهَ في الوقوف عند ما أحلّ وحرّم الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ دلّ هذا على أن الإيمان بالله يوجب تقواه فيما أمر به ونهى عنه، وإذ يقترن تحريم الطيبات باليمين عادة، كان مناسبا هنا أن يذكر حكم الأيمان. ولذلك قال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ مرّ معنا في سورة البقرة موضوع اليمين اللغو، والخلاف فيه فلغو اليمين: هو الساقط الذي لا يتعلق فيه حكم، وتعريفه عند الحنفية: أن يحلف على شئ يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وعند الشافعي رحمه الله: هو ما يجري على اللسان بغير قصد وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ تعقيد الأيمان توثيقها، والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، أو ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم فَكَفَّارَتُهُ. أي: فكفّارة نكثه، أو فكفّارة معقود الأيمان ما سيأتي، والكفّارة هي التي من شأنها أن تكفّر الخطيئة أي تسترها إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ هو أن يغذيهم ويعشيهم، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك لكل واحد نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير، أو صاع من تمر، وعند الشافعي رحمه الله مدّ لكل مسكين والمدّ ربع صاع مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قال الحنفية أي: غداء وعشاء من برّ إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام، والأدنى مرّة من تمر أو شعير والأوسط غداء وعشاء أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال الحنفية: وأدنى الكسوة ثوب يغطي العورة، والعورة عندهم من السرّة إلى ما تحت الركبة أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. أي: عتقها واشترط الشافعي أن تكون مؤمنة، ولم يشترط الحنفية ذلك؛ لإطلاق النص فيجوز عندهم

نقل: عن صاحب الظلال حول قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله ..

أن تكون كافرة أو مؤمنة، والحانث مخيّر بين واحدة من هذه الثلاث المذكورات. قال ابن كثير: فهذه خصال ثلاث في كفّارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وقد بدأ بالأسهل. فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق فترقّى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصوم ثلاثة أيّام: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وعدم الوجود في اختيار ابن جرير هو أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفّارة اليمين، واختلف العلماء هل يجب في صيام الثلاثة أيام التتابع، أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ قولان للعلماء، أوجب الحنفية والحنابلة وهو قول للشافعي التتابع، ولم يوجب ذلك مالك ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ. أي: وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفّارة لا تجب بنفس الحلف. قال الحنفية: ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ بأن لا تحلفوا أصلا، أو بالبرّ بها إن لم يكن الحنث خيرا، أو بالتكفير عنها إن كان في الحنث خير كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ. أي: بمثل هذا البيان يوضّح الله لكم أعلام شريعته وأحكامه وذلك من تمام نعمته أن يكون البيان واضحا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. أي: من أجل أن تتحققوا بمقام الشكر على نعمته فيما يعلّمكم، ويسهّل عليكم المخرج من كل ما يمكن أن يكون فيه حرج. نقل: [عن صاحب الظلال حول قوله تعالى لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يقول صاحب الظلال: «ما أحله الله فهو الطيب، وما حرمه فهو الخبيث. وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له. من وجهين: الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان .. والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات التي بها صلاحه وصلاح الحياة، فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ علم الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات. ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده. ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا .. ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح، والتوازن المطلق، والتناسق الكامل، بين طاقات الحياة البشرية جميعا، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان، تعمل عملا سويا، ولا تخرج عن الجادة. ومن ثم حارب الرهبانية، لأنها

فوائد

كبت للفطرة، وتعطيل للطاقة وتعويق للطاقة عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها. لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله. والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة. لأنها تقف بها عند نقطة معيّنة بحجة التسامي والارتفاع. والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله. فوائد: 1 - [مقدار الصاع والمد من أوزاننا في العصر الحديث] الصاع في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رأي فقهاء الحنفية وآخرين يعدل حوالي أربعة كيلو غرامات في عصرنا إلا قليلا، والمد ربع صاع فهو يعدل أقل من كيلو غرام من الأوزان العالمية المتعارف عليها في عصرنا. والصاع والمدّ على النصف من ذلك على رأي الشافعية وآخرين. [2، 3 - مسائل في كفارات اليمين] 2 - استدل الحنفية بوجوب التتابع في كفّارة اليمين بقراءة شاذّة هي «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» قال الأعمش: وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل أن يكون خبرا واحدا، أو تفسيرا من الصّحابة وهو في حكم المرفوع. 3 - هناك خلاف كثير بين العلماء حول الكسوة المجزأة في الكفارة وقد رأينا أدنى ما يجوز عند الحنفية ووافقهم على ذلك مالك وأحمد، وقال الشافعي: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص، أو سراويل، أو إزار، أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك. واختلف أصحابه في القلنسوة والخف والصحيح عدم الإجزاء. 4 - [روايات في أسباب نزول الآيات (87 - 89)] وفي سبب نزول هذه الآيات نذكر الروايات التالية: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني رواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك- وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوا أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عمله في

السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، أن رجلا أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء، وإنّي حرّمت عليّ اللحم، فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وكذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وروى ابن جرير ... عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتّلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قال ابن جريج عن عكرمة: أنّ عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب تبتّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرّموا طيّبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرّموا من النّساء والطعام واللّباس، وما أجمعوا من قيام الليل وصيام النّهار، وما همّوا به من الاختصاء، فلمّا نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منّا من ترك سنتنا: فقالوا: اللهم سلّمنا واتّبعنا ما أنزلت، وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ولها شاهد في الصحيحين من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه كما تقدم. وقال أسباط: عن السدي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوما فذكّر النّاس، ثمّ قام ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا عشرة منهم: على بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملا، فإنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم، فحرّم بعضهم أن يأكل اللحم والودك وأن يأكل بنهار، وحرّم بعضهم النّوم، وحرّم بعضهم النّساء، فكان عثمان بن مظعون ممّن حرم النساء، وكان لا يدنو من أهله ولا تدنو منه، فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال لها الحولاء، فقالت لها عائشة ومن

5، 6 - آثار حول قوله تعالى .. لا تحرموا طيبات ما أحل الله ..

عندها من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع عليّ زوجي وما رفع عني ثوبا، منذ كذا وكذا، قال: فجعلن يضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن يضحكن، فقال: «ما يضحككن؟» قالت: يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا، فأرسل إليه فدعاه فقال: «ما لك يا عثمان؟» قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة، وقصّ عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يجبّ نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك»، فقال: يا رسول الله إني صائم، فقال: «أفطر» فأفطر وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت: ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام حرّموا النساء والطعام والنّوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عني فليس مني». فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا يقول لعثمان: لا تجبّ نفسك فإنّ هذا هو الاعتداء، وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ رواه ابن جرير. [5، 6 - آثار حول قوله تعالى .. لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ .. ] 5 - روى الأعمش .. عن عمرو بن شرحبيل قال: جاء معقل بن مقرّن إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني حرّمت فراشي فتلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية. وروى الثوري ... عن مسروق قال: كنّا عند عبد الله بن مسعود فجئ بضرع فتنحّى رجل فقال له عبد الله: ادن، فقال: إنّي حرمت أن آكله، فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفّر عن يمينك، وتلا هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية. رواه ابن أبي حاتم. 6 - روى ابن أبي حاتم أن زيد بن أسلم قال: إن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي، هو عليّ حرام، فقالت امرأته: هو عليّ حرام. وقال الضيف: هو عليّ حرام، فلما رأى ذلك وضع يده، وقال: كلوا باسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر الذي كان منهم، ثمّ أنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وهذا أثر منقطع. وفي البخاري في قصة

كلمة في السياق

الصدّيق مع أضيافه شبيه بهذا، وفيه، وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء- كالشافعي وغيره- إلى أنّ من حرّم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنّه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه كما في الحديث المتقدّم لم يأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بكفارة، وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا، أو مشربا، أو ملبسا، أو شيئا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ الآية (التحريم: 1، 2). وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقّبه بالآية المبيّنة لتكفير اليمين، فدلّ على أنّ هذا منزّل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم. كلمة في السياق: قلنا إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو قوله تعالى: ... وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وإنّ الفقرة التي مرّت معنا لها صلة بنقض العهد، سواء في ذلك ما ورد فيها من تحريم الحلال، أو الاعتداء، أو ما كان فيها من كلام عن الأيمان، وسنرى أن الفقرة الثانية التي ستأتي لها صلة بقطع ما أمر الله به أن يوصل ففيها قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وسيذكر في الفقرة الثالثة من المقطع مظهر من مظاهر الإفساد في الأرض في قتل المحرم الصيد، وهكذا تتضح معنا شيئا فشيئا صلة سورة المائدة بمحورها من سورة البقرة. ولنلاحظ أن أول آية تأتي في الفقرة اللاحقة تعلل للأمر باجتناب الخمر والميسر بالفلاح لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح ضد الخسران ولذلك ارتباطه كذلك بمحور السورة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. أي: القمار وَالْأَنْصابُ. أي: الأصنام لأنها تنصب فتعبد وَالْأَزْلامُ. أي: القداح التي يستقسم بها وقد مرت معنا في أول السورة رِجْسٌ. أي: نجس أو خبيثة مستقذرة مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه من

[سورة المائدة (5): آية 91]

آثار دعوته فكأنه عمله فَاجْتَنِبُوهُ أي: الرجس أو عمل الشيطان، والمعنى واحد لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أي: لعلكم تحصّلون صفة الفلاح، وقد تأكّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية من وجوه، حيث صدّرت الجملة بإنّما التي تفيد الحصر، وقرنهما بعبادة الأصنام، وجعلهما رجسا من عمل الشيطان، ولا يأتي منه إلا الشر البحت، وأمر بالاجتناب، وهو أبلغ في النهي من الترك، لأن الترك يشعر بإمكانية الأخذ، والاجتناب فيه معنى النهي عن الاقتراب والملامسة أصلا، وجعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خسارا إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ بعد أن بيّن في الآية السابقة تحريمهما ذكر في هذه الآية حكمة التّحريم، وهي ما يتولد عن الخمر والميسر من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وخصّت الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال: وعن الصلاة خصوصا، وإنّما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا، ثمّ أفردهما آخرا، لأنّ الخطاب للمؤمنين، وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أن ذلك جميعا من أعمال أهل الشرك، فكأنه لا مباينة بين عابد الصّنم وشارب الخمر والمقامر. ثمّ أفردهما بالذكر ليعلم أنّهما المقصودان بالذكر فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي فانتهوا. وهذه الصيغة فيها أبلغ أنواع النّهي كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا. أي: وكونوا حذرين مع طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أي: اجمعوا مع الطاعة الخشية والحذر لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيّئة، وعمل كل حسنة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. أي: فإن أعرضتم عن الطاعة والحذر فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأنه ما كلّف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما أضررتم أنفسكم حين أعرضتم عمّا كلفتموه لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ. أي: إثم فِيما طَعِمُوا قبل نزول تحريم الخمر والميسر إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك وَآمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد الإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا بأن تركوا الخمر والميسر بعد التحريم إيمانا واحتسابا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا بترك المحرمات كلها مع مراقبة الله، وفعل ما أمر به من خير في حقّ الله والناس، ويحتمل أن يكون المراد بالأمر الأول في التقوى النّهي عن الشّرك، وفي الأمر الثاني النهي عن المحرمات. وفي الأمر الثالث النهي عن الشبهات

كلمة في السياق

وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين اجتمع لهم فعل الحسن مع الإخلاص لله ومراقبته: كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أنّه قد ورد في هذه الفقرة قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وسنرى أنّه سيرد في الفقرة الثالثة من هذا المقطع قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وهذا يدلّ على أن هذا المقطع استمرار للمقطع السابق عليه والذي بدايته: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وهذا يؤكد: أن هذين المقطعين يشكلان قسما واحدا، يحدّد معاني رئيسية في قضية البلاغ لأهل الكفر ولأهل الإيمان. 2 - يلاحظ أن الآية الأخيرة في الفقرة التي مرّت معنا ذكرت الإيمان والعمل الصالح، وذكرت التقوى والإيمان والعمل الصالح، وذكرت التقوى والإيمان، وذكرت التقوى والإحسان، وهي مجمل المعاني المطلوبة التي ذكرت في سورة البقرة قبل محور السورة. فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ... وقبل محور السورة من سورة البقرة ورد الأمر بالعبادة، وقد ذكر قبل محور السورة مباشرة الإيمان والعمل الصالح، وقبل الأمر بالعبادة ذكرت صفات المتقين والكافرين، وهاهنا ربطت قضية تحريم الخمر والميسر وغير ذلك بذلك كله. نقل: [عن صاحب الظلال حول حكمة تحريم الخمر] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ قال صاحب الظلال: «إن غيبوبة السكر- بأي مسكر- تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة، مراقبا لله في كل خطرة، ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء. والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته؛ فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة. تكاليف لربه، وتكاليف لنفسه، وتكاليف لأهله، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها،

فوائد

وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها. وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف. وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتّم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع، فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة. وإنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره .. وغيبوبة السكر لا تتفق في شئ مع هذا الاتجاه. ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات؛ وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار. والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق، وأن يواجهوها، ويعيشوا فيها، ويصرفوا حياتهم وفقها، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام .. إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة؛ أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل، ووهن العزيمة، وتذاؤب الإرادة. والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة .. والإدمان .. وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وسائر المخدرات .. وهي رجس من عمل الشيطان .. مفسد لحياة الإنسان. وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسيّة، أو في اعتبار شربها هو المحرم. والأول قول الجمهور. والثاني قول ربيعة بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين .. فوائد: 1 - [آثار حول مراحل تحريم الخمر وأحكام تتعلق بها] مرّ معنا في سورتي البقرة والنساء شئ عن موضوع السّير التدريجي في الأمة حتّى حرّمت الخمر حرمتها النهائية، ولذلك فسنكتفي هنا بنقل بعض النصوص: أ- روى الإمام أحمد ... عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فكان منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قال: حي على الصلاة نادى: لا يقربنّ الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت

الآية التي في المائدة. فدعي عمر فقرئت عليه، فلمّا بلغ قول الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. قال عمر: انتهينا، انتهينا، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنّسائي. ب- ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس إنّه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل» هذا ما كان في زمانهم، أما اليوم فالخمرة عشرات الأنواع وتستخرج من عشرات المواد الأولية، كلها حرام. ج- روى الإمام أحمد .. عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان، أما علمت أن الله حرّمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا فلان بماذا أمرته؟». فقال: أمرته أن يبيعها قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها» فأمر بها فأفرغت في البطحاء .. ورواه مسلم والنسائي. د- روى الإمام أحمد .. عن عبد الرحمن بن غنم: أنّ الدّاري كان يهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل عام راوية من خمر، فلمّا كان عام حرمت، جاء براوية فلمّا نظر إليه ضحك فقال: «أشعرت أنّها قد حرّمت بعدك؟» فقال: يا رسول الله ألا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله اليهود، انطلقوا إلى ما حرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه فباعوه إنه ما يأكلون، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام». هـ- وروى الإمام أحمد .. عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره: أنّه كان يتّجر في الخمر في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق، يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيّب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا كيسان إنها قد حرّمت بعدك»، قال: فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها حرّمت وحرم ثمنها» فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم هراقها. و- وروى الإمام أحمد .. عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبي

بن كعب، وسهيل بن بيضاء، ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أنّ الخمر قد حرّمت؟ فما قالوا حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اكف ما بقي في إنائك، فو الله ما عادوا فيها وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ. وأخرجاه في الصحيحين أيضا. ز- روى أحمد .. عن قيس بن سعد بن عبادة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن ربي تبارك وتعالى حرّم عليّ الخمر والكوبة (¬1) والقنين (¬2)، وإياكم والغبيراء (¬3)، فإنّها ثلث خمر العالم». ح- روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله حرّم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر». قال يزيد: القنين: البرابط، تفرد به أحمد. ط- روى الإمام أحمد .. عن عبد الله بن عمرو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم» قال: وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الله حرّم الخمر، والميسر، والكوبة، والغبيراء، وكل مسكر حرام». ي- روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المربد، فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخّرت له، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدية، قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال: «لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها». ك- روى الحافظ أبو بكر البيهقي ... عن مصعب بن سعد عن سعد قال: أنزلت في الخمر أربع آيات فذكر الحديث، قال: وصنع رجل من الأنصار طعاما، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرّم حتى انتشينا، فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور فضرب به أنف سعد ففزره وكان ¬

_ (¬1) - الكوبة: النرد او الطبل الذي يسمّى الدربكة (¬2) - والقنين: نوع من أنواع لعب الروم يتقامرون به وفسّر بالبربط الذي هو عود النغم (¬3) - الغبيراء: نوع من أنواع الشراب المسكر يتخذه أهل الحبشة من الذرة.

أنف سعد مفزورا فنزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أخرجه مسلم. من حديث شعبة. ل- روى الحافظ البيهقي .. عن ابن عباس قال: إنّما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا فلمّا أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلمّا أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن: والله، لو كان رءوفا رحيما ما صنع هذا بي، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال ناس من المتكلفين: هي رجس وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى آخر الآية. ورواه النسائي. م- روى ابن جرير ... عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينا نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رملة، ونحن ثلاثة- أو أربعة- وعندنا باطية لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه، إذ نزل تحريم الخمر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ إلى آخر الآيتين فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبّوا ما في باطيتهم، فقالوا: انتهينا ربنا». س- روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن جابر بن عبد الله قال: كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فحمل منها بمال، فقدم بها المدينة، فلقيه رجل من المسلمين فقال: يا فلان إنّ الخمر قد حرّمت فوضعها حيث انتهى على تل، وسجّى عليها بأكسية، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بلغني أنّ الخمر قد حرّمت، قال: «أجل» قال: لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: «لا يصلح ردّها»، قال: لي أن أهديها إلى من يكافئني منها؟ قال لا. قال: فإن فيها مالا ليتامى في حجري، قال: «إذا أتانا مال البحرين فإننا نعوّض أيتامك من مالهم». ثمّ نادى بالمدينة، فقال رجل: يا رسول الله، الأوعية ننتفع بها قال: «فحلوا أوكيتها» فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي» هذا حديث غريب.

ع- روى الإمام أحمد .. عن أنس بن مالك: أن أبا طلحة سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا، فقال: «أهرقها». قال: «أفلا نجعلها خلا؟ قال: «لا». ورواه مسلم وأبو داود والترمذي. ف- روى أحمد .. عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها، ومن ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال». قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عصارة أهل جهنم». ص- روى أحمد وأبو داود ... عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مخمّر خمر، وكلّ مسكر حرام. ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب، تاب الله عليه- فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينه الخبال قيل وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار، ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال». تفرّد به أبو داود. ق- روى الشافعي رحمه الله .. عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب حرمها في الآخرة». أخرجه البخاريّ ومسلم. ر- روى مسلم ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة». ش- روى أحمد ... عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة منّان ولا عاقّ ولا مدمن خمر». ت- روى البيهقي ... عن عثمان بن عفان قال: اجتنبوا الخمر فإنّها أمّ الخبائث، إنّه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبّد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة غويّة، فأرسلت إليه جاريتها فقالت ندعوك لشهادة، فدخل معها، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيّة خمر، فقالت. إني والله ما دعوتك لشهادة، ولكني دعوتك لتقع عليّ أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر، فسقته كأسا فقال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه. وهذا إسناد صحيح.

2 - تعريف الميسر وحكمة تحريمه

ث- في الصحيحين: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن». خ- روى الإمام أحمد .. عن أسماء بنت يزيد أنّها سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من شرب الخمر لم يرض عنه الله أربعين ليلة، إن مات، مات كافرا، وإن تاب تاب الله عليه؛ وإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» قالت، قلت: يا رسول الله وما طينة الخبال؟. قال: «صديد أهل النار». 2 - [تعريف الميسر وحكمة تحريمه] الميسر: هو القمار، ويدخل فيه أصناف كثيرة، ونوادي القمار في العالم تفنّنت في ابتداع أنواع منه، كما أنّ كثيرا من المؤسسات تقوم على القمار من اليانصيب، إلى سباق الخيل. وللأئمة كلام كثير في الميسر وما يدخل فيه، ومن كلامهم: كل شئ من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز، حتى الكعاب، والجوز، والبيض التي تلعب بها الصبيان، ومن كلام الأعرج الميسر الضرب بالقداح على الأموال والثمار. وقال القاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله، وعن الصلاة فهو من الميسر، ويدخل في الميسر المحرّم أنواع من اللعب ولو لم تكن على مال ومن ذلك اللعب بالنّرد. ففي صحيح مسلم «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من لعب النّردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه». وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لعب بالنّرد فقد عصى الله ورسوله». وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «مثل الذي يلعب بالنّرد ثمّ يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثمّ يقوم فيصلّي». وروى عبد الله عن الإمام أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان (أي فصا النرد) اللتان تزجران زجرا فإنهّما ميسر العجم». وأما الشّطرنج. فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنّه قال: الشطرنج من الميسر رواه ابن أبي حاتم. وقال عبد الله بن عمر إنه شرّ من النّرد ونصّ على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد، وكرهه الشافعي رحمه الله كراهة تنزيهية إذا لم يله عن واجب ولم يكثر حتى يلهي عن ذكر الله، وإذا كان الهدف منه مران التفكير، قال الحنفية: وكره تحريما اللعب بالنرد- الطاولة- والشطرنج والمنقلة الصينية والدحل والكعب والورق المنقش الذي يسميه العامة (شدّة) ونحو ذلك وإن لم يقامر. وأباح أبو يوسف الشطرنج إذا لم يقامر به ولم يداوم، ولم يخل

3 - سبب نزول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح .. الآية (93)

بواجب كتأخير صلاة، ولم يكثر الحلف عليه. والحكمة في تحريم الميسر هي ما ذكره الله من كونه يثير البغضاء، ويصدّ عن ذكر الله، وهو يحطم الأعصاب، ويذهب المال، وينقل الملكية نقلا غير معقول، ويقلل الإنتاج العام للأمة. 3 - [سبب نزول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ .. الآية (93)] في سبب نزول الآية الأخيرة يروي الإمام أحمد عن ابن عباس قال: لما حرّمت الخمر قال ناس: يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا .... إلى آخر الآية، ولمّا حولت القبلة قال ناس يا رسول الله: إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ .... وروى الإمام مسلم والترمذي والنسائي عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا إلى قوله تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لي أنت منهم». ومن أحقّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون منهم؟ 4 - [المقطع يعمق معاني الهداية والضلال] في الفقرة الأولى من هذا المقطع نهينا عن تحريم ما أحل الله، وعن الاعتداء، وفي هذه الفقرة نهينا عن الخمر والميسر، وفي كل نهينا عن نوع من أنواع الفساد في الأرض. وفي الانتهاء موافقة الميثاق الذي أخذ علينا. وفي مقام الشكر والإحسان ما يرشحنا للاهتداء بهدي الله. وفي الاعتداء ما يرشحنا للضلال. ومن ثم نجد هذا المقطع يعمّق ما به نستحق الهداية، ويحرّرنا مما به نستحق الضلال. كلمة في السياق بدأ المقطع بالنهي عن تحريم ما أحل الله لنا من الطيبات، وثنى في فقرته الثانية بتبيان أنواع من الخبائث، وتنتهي الفقرة الثانية بآية تبين نفي الجناح عن المؤمنين فيما طعموا، وذلك مقدمة للكلام عن تحريم أكل صيد البر للمحرم، وعن تحليل صيد البحر له، وذلك مضمون الفقرة الثالثة، ولأن هناك ناسا تميل طبيعتهم إلى التشدّد والرغبة في الحظر فقد جاءت الفقرة الرابعة في المقطع تقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... وهكذا تتعانق المعاني في فقرات المقطع، وتتكامل،

فصل في محاولة للفهم

آخذة محلها في السياق القريب والسياق العام ... فصل في محاولة للفهم: عند قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال صاحب الظلال: «ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على هذا النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح، ومرة مع الإيمان، ومرة مع الإحسان .. كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الآن .. وأحسن ما قرأت- وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح- هو ما قاله ابن جرير الطبرى: «الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل. والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل». وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو: «إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى. ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية، ومرة مع الإحسان- وهو العمل الصالح- في الثالثة .. ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى. ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني. فالتقوى .. تلك الحساسية المرهفة برقابة الله، والاتصال به في كل لحظة. والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه. والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة. والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها .. هذه هي مناط الحكم، لا الظواهر والأشكال .. وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان». وأنا اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا .. ولكنه لم يفتح عليّ بشيء آخر .. والله المستعان». أقول: الذي أفهمه من الآية: أنه لا جناح على من طعم الحلال إذا اجتمع له التقوى، والإيمان، والعمل الصالح، وأداه ذلك إلى الارتقاء إلى حقيقة التقوى والإيمان، ثم أداه ذلك إلى الارتقاء إلى مقام التقوى والإحسان، مما يشير إلى أن التحقق بالتقوى والإحسان هو أرقى المقامات، يليه التحقق بالتقوى والإيمان، يليه الحد الأدنى

[سورة المائدة (5): آية 94]

من التقوى والإيمان والعمل الصالح، فإذا كان الإنسان تقيا مؤمنا عاملا وأكل حلالا حتى ارتقى إلى حقيقة الإيمان والتقوى ثم إلى حقيقة التقوى والإحسان، فهذا لا جناح عليه فيما طعم حالا أو مآلا، أما إذا كان أكل الحلال لا يرافقه ارتقاء بل يرافقه انحدار فذلك الذي تحذّر منه الآية، فأكل الحلال يحتاج إلى شكر، وشكره الارتقاء إلى المقامات العالية من التقوى والإيمان، ثم إلى التقوى والإحسان، وعلى هذا الفهم فإن الآية تحضّ المؤمنين العاملين أن يؤدوا شكر الإطعام المباح بالارتقاء إلى المقامات العليا وتحذّر من النزول. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ معنى يبلو: يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم، لا لعلم ما لم يعلم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أفاد التعبير: التقليل ليفيد أنه ليس من الفتن العظام تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ. أي: تنالونه أخذا بأيديكم يعني: صغار الصيد، وفراخه، وضعافه، وطعنا برماحكم وذلك كبار الصيد لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ . أي: ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجودا، كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد، ليثيبه على عمله لا على علمه فيه فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ. أي: فمن صاد بعد هذا الإعلام والإنذار فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: لمخالفته أمر الله وشرعه، وقد ظهر الابتلاء هذا على أشده يوم الحديبية قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون والابتلاء مستمر إلى يوم القيامة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ. أي: المصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. أي: في حال إحرامكم أي وأنتم محرمون للحج أو للعمرة أو لهما معا وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً. أي: ذاكرا لإحرامه، أو عالما أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه. قال النسفي: فإن قتله ناسيا لإحرامه، أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ، وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، لأن مورد الآية فيمن تعمّد ... ولأن الأصل فعل المتعمّد، والخطأ ملحق به للتغليظ. فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ. أي: فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد. قال النسفي: وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النّعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، وإن شاء صام عن طعام كلّ مسكين يوما. وعند محمد والشافعي: مثله: نظيره من النّعم، فإن لم يوجد له نظير من

[سورة المائدة (5): آية 96]

النعم فكما مرّ يَحْكُمُ بِهِ. أي: بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ. أي: حكمان عادلان من المسلمين هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ معنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم إن كان هديا من النّعم، وأما في حالة القيمة فعند الشافعي كذلك أنّ التصدّق ينبغي أن يكون في الحرم، وعند الحنفية فحيث شاء الإنسان أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ التقدير فجزاء، أو كفارة من طعام مساكين أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً العدل ما عادل الشئ من غير جنسه، كالصوم والإطعام، والإشارة في ذلك إلى الطعام، يصوم عن إطعام كل مسكين يوما. ومذهب الحنفية قائم على التخيير بين الهدي والإطعام والصيام، والخيار في ذلك إلى القاتل عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ. أي: فعليه الجزاء بأن يكفّر أو يصوم ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، والوبال المكروه، والضّرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ. أي: عمّا كان منكم من الصيد قبل التحريم وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. أي: ومن عاد إلى قتل الصيد بعد التحريم، أو في ذلك الإحرام فإنّ الله هو ينتقم منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ يلزم من شاء ما شاء ذُو انْتِقامٍ ممن جاوز حدود الإسلام أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ. أي: كل مصيدات البحر، أي كل دوابه، والحنفية لا يحلون للأكل من دواب البحر إلا السمك كبيرا أو صغيرا. ومع ذلك فقد أحلوا للمحرم صيد البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وَطَعامُهُ قال النسفي: وما يطعم من صيده والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكولات منه وهو السمك هذا مذهب الحنفية وأما غيرهم فقد فسر الآية بأن صيده ما أخذ منه حيا. وطعامه: ما لفظه ميتا مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ. أي: منفعة لكم وقوتا أيها المخاطبون ولكل مسافر، أو أحل لكم تمتيعا لمقيمكم يأكله طريا ولمسافركم يتزوده قديدا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً. أي: ما دمتم محرمين، وصيد البر أي ما صيد فيه: وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر، والبحر له مرعى كما للناس متجر وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تصطادوا في الحرم أو في الإحرام الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. أي: تبعثون فيجزيكم على أعمالكم جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ. أي: صيّر أو خلق الله الكعبة والبيت الحرام انتعاشا للناس في أمر دينهم، ونهوضا إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم، لما يتمّ من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم، فاقتضى ذلك أحكاما خاصة من أمثال ما مر، وكذلك وَالشَّهْرَ الْحَرامَ. أي:

[سورة المائدة (5): آية 98]

الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة لأنه مختص من بين الأشهر بإقامة موسم الحج، فاقتضى ذلك اختصاصه بأحكام خاصة منفعة ومصلحة للناس، ويحتمل أن يكون المراد بالشهر الحرام جنس الأشهر الحرم فيكون المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وَالْهَدْيَ. أي: ما يهدى إلى مكة وَالْقَلائِدَ وهي البدن التي تقلّد كرمز على أنها هدي إلى الحرم، وخصّت بالذكر وهي من الهدي لأنّ الثواب فيها أكثر وبهاء الحج معها أظهر ذلِكَ إشارة إلى جعل الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما للناس وما خصت به لذلك من أحكام لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي: لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض ويملك كل ما فيهما، فيحكم ويشرع ويأمر ويحظر بعلم وحكمة، وكيف لا وهو بكل شئ عليم اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. أي: لمن استخفّ بأحكامه، ولمن استخف بالحرم والإحرام وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومن مغفرته ورحمته أن يغفر آثام من عظّم المشاعر الحرام ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ هذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأنّ الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فلا يخفى عليه نفاقكم أو وفاقكم قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لمّا أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي عنده خبيثهم وطيبهم، بل يميّز بينهما فيعاقب الخبيث أي الكافر، ويثيب الطّيب أي المسلم، ولا يستوي عنده الحلال والحرام، ولا صالح العمل وطالحه، ولا جيّد النّاس ورديئهم وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ سواء كان رجالا أو مالا أو أعمالا فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ بإيثار الطيّب وإن قلّ، على الخبيث وإن كثر لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ دلّ هذا على أن الفلاح مقرون بإيثار ما يحبه الله. ملاحظات حول السياق: 1 - بدأت سورة المائدة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ. وقد جاءت الفقرة الأولى من هذا المقطع تنهى عن تحريم ما أحل الله، وجاءت الفقرة

نقول: عن صاحب الظلال حول قوله تعالى جعل الله الكعبة ..

الثانية مبينة بعض ما حرّم الله، وجاءت الفقرة الثالثة في النهي عن الصيد للمحرم، وستأتي الفقرة الرابعة وفيها تبيان ضلال أهل الجاهلية في تحريمهم بعض بهيمة الأنعام. وهكذا نجد أن المقطع تتسلسل معانيه، وأنّها مرتبطة بالمقطع الأول من السورة مما يشعر بوحدة السورة، وارتباط أوائلها بأواخرها، فضلا عن الصّلات المتعدّدة بين كل جزء في السورة وما قبله وما بعده. 2 - لاحظنا أن التعليل للنهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كان لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ونلاحظ أنّ الفقرة التي نهت عن قتل الصيد للمحرم تنتهي بقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فالآيات تدلنا على طريق الفلاح الذي هو ضدّ الخسران فمن خالف خسر، وارتباط ذلك بمحور السورة بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لا يخفى. 3 - إن صيد المحرم، وشرب الخمر، ولعب الميسر، واتخاذ الأنصاب والأزلام، وتحريم ما أحل الله، له صلة بنقض العهد، ولبعضه صلة بقطع ما أمر الله به أن يوصل، ولبعضه صلة بالإفساد في الأرض، وكل ذلك لا يخفى على المتأمل. نقول: [عن صاحب الظلال حول قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ .. ] عند قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ قال صاحب الظلال: «لقد جعل الله هذه المحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام. وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم. كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب .. أقول: لقد نسخ تحريم القتل والقتال فجاز في شريعتنا القتل والقتال العادلان في الأشهر الحرم وقد ألقى الله في قلوب العرب- حتى في جاهليتهم- حرمة هذه الأشهر. فكانوا لا يروّعون فيها نفسا، ولا يطلبون فيها دما، ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه، فكانت مجالا آمنا للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق .. جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة- بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام. تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع. كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منطقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان.

فوائد

ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقا للهدي- وهو النعم- الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة، فلا يمسه أحد في الطريق بسوء. كما جعله لما يقلّد من الهدي معلنا احتماءه بالبيت العتيق. «وبعد فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما. وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما .. وإنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري .. ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية .. هذا المصطرع الذي يثور ويغور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان، وعلى الإنسان والحيوان! .. إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع، حتى ليتحرج المحرم أن يمدّ يده إلى الطير والحيوان .. وهما- في غير هذه المنطقة- حل للإنسان. ولكنهما هنا في المثابة الآمنة في الفترة الآمنة في النفس الآمنة .. إنها منطقة المران والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملإ الأعلى، وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى. ألا ما أحوج البشرية المفزعة الوجلة، المتطاحنة المتصارعة .. إلى منطقة المران التي جعلها الله للناس في هذا الدين، وبينها للناس في هذا القرآن». ولقد بيّن- جل جلاله- الحكمة في جعله الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قياما للناس بأنها ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وفي هذا المقام يقول صاحب الظلال: «تعقيب عجيب في هذا الموضع، ولكنه مفهوم أن الله يشرع هذه الشريعة، ويقيم هذه المثابة، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شئ عليم .. ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم، وهتاف أرواحهم. أنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات، والاستجابة للأشواق والمكنونات، فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته، وتذوّقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شئ عليم». فوائد 1 - [الخلاف فيما يحرم صيده وقتله على المحرم] فيما يحرم صيده وقتله على المحرم خلاف بين العلماء، فالشافعي يرى أنّ المحرّم هو المأكول، وما تولّد منه دون غيره، ويجوز عنده للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه

ولا فرق بين صغاره وكباره، فالعلّة الجامعة كونها لا تؤكل. والجمهور على حرمة صيد ما يؤكل وما لا يؤكل ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور». وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدوابّ ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور». ورواه أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله، قال أيوب: قلت لنافع: فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها، ولا يختلف في قتلها، ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور الذئب، والسبع، والنّمر، والفهد؛ لأنها أشدّ ضررا منه. وقالوا: فإن قتل المحرم ما عداهن فداه كالضبع والثعلب والوبر (هرّ البرّ) ونحو ذلك. قال مالك: وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السباع العوادي. وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب لأنه كلب برّي، فإن قتل غيرهما فداه، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه، وهذا قول الأوزاعي، والحسن بن صالح: وقال زفر بن الهذيل: يفدي ما سوى ذلك، وإن صال عليه، وقال بعض الناس: المراد بالغراب هاهنا: الأبقع وهو الذي في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود، والأعصم وهو الأبيض، لما رواه النسائي ... عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس يقتلهن المحرم: الحية، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور». والجمهور على أن المراد به أعمّ من ذلك لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه، وقال مالك رحمه الله: لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه. وقال مجاهد بن جبر وطائفة: لا يقتله بل يرميه، ويروى مثله عن علي. وقد روى هشيم- .. عن أبي سعيد، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عما يقتل المحرم، فقال: «الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي». ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وعند ما تكون المسألة فيها أخذ ورد بين الأئمة فينبغي أن يلاحظ الإنسان ألا يقرب ما أجمعوا عليه، ثم يحتاط لدينه بمطالبته نفسه بالعزيمة، ويعذر الناس إذا أخذوا بالرّخصة أي: بالقول الأخفّ من أقوال الأئمة.

2 - حكم العمد والنسيان في صيد المحرم

2 - [حكم العمد والنسيان في صيد المحرم] الجمهور على أن العامد والنّاسي سواء في وجوب الجزاء على من صاد وهو محرم. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرت السنّة على النّاسي، ومعنى هذا أنّ القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمّد وعلى تأثيمه بقوله: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وجاءت السنة من أحكام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء على الخطأ، كما دلّ الكتاب عليه في العمد. وأيضا فإنّ قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمّد مأثوم، والمخطئ غير ملوم: وكثيرا ما يكون الفارق بين الخطأ والعمد لا من حيث الجزاء الدنيوي بل في الإثم والعقوبة الأخرويين. [3، 4 - حكم الصحابة في جزاء صيد بعض الحيوانات] 3 - حكم الصحابة في النّعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز. ومن قصصهم في هذا الباب ما يلي: أخرج ابن أبي حاتم .. عن ميمون بن مهران: أنّ أعرابيا أتى أبا بكر فقال: قتلت صيدا وأنا محرم، فما ترى عليّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبيّ بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسألك. فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما تنكر؟ يقول الله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فشاورت صاحبي، حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به. وهذا إسناد جيّد لكنه منقطع. أفترى أنّ الصّديق قد بيّن له الحكم برفق وتؤدة لمّا رآه أعرابيا جاهلا، وإنما دواء الجهل التعليم، فأمّا إذا كان المعترض منسوبا إلى العلم فقد روى ابن جرير ... عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجا فكنّا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا فنتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح (مرّ من اليمين إلى اليسار وعكسه: برح) لناظبي أو برح فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ حشاه، فركب وودعه ميتا، قال: فعظمنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقصّ عليه القصّة فقال: وإذا إلى جنبه رجل كأنّ وجهه قلب فضة- يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت عمر إلى صاحبه فكلّمه، قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدا قتلته أم خطأ؟ فقال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله، فقال عمر: ما أراك إلا شركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها، قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل عظّم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها فلعل ذلك يعني أن يجزئ عنك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة، قال: فعلا صاحبي

5 - التخيير بين كفارات صيد المحرم

ضربا بالدرة، وجعل يقول أقتلت في الحرم وسفّهت الحكم؟ قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني، فقال: يا قبيصة بن جابر إني أراك شابّ السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب. وروى ابن جرير ... عن ابن جرير البجلي قال: أصبت ظبيا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعدا، فحكما عليّ بتيس أعفر. وروى ابن جرير أيضا: أن أريد (وهو ابن عبد الله البجلي) أوطأ ظبيا فقتله وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جديا قد جمع الماء والشجر (أي: رعى الماء والشجر) ثم قال عمر يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ. 4 - لو أن الصحابة حكموا في صيد ما بمقابل، كما رأينا في حكمهم في مقابل بقرة الوحش ببقرة. هل يكتفى فيه بحكمهم، أو يحتاج القاتل إلى تحكيم مستأنف؟ قال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة، وجعلاه شرعا مقرّرا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين، وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا، لقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ونحن لا نرغب أن نرجّح لمعرفتنا بقصورنا، ولكنّا هنا نلفت النظر إلى أنّ اشتراط التحكيم المستأنف فيه مصلحة متجدّدة، فمثلا قيمة النعامة قديما غير قيمتها حديثا. 5 - [التخيير بين كفارات صيد المحرم] في قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ... أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً جعل مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في المشهور عنه أن «أو» هنا للتخيير، فالقاتل مخيّر بين هذا، أو هذا، ومن الفقهاء من ذهب إلى أنّها للترتيب، فلا تصح القيمة، أو الصيام إلا في حالة كون المصيد غير مثلي، أو في حالة عدم الوجود والقدرة، والأمر فيه سعة، والمهم أن نعرف أن ذبح الهدي محله في الحرم لمن اختاره جزاء، وما سواه فيه خلاف. 6 - [حل ميتة البحر] روى ابن جرير أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: «إنّ البحر قد قذف حيتانا كثيرة ميتة أفنأكلها؟ فقال: لا تأكلوها. فلمّا رجع عبد الله إلى أهله أحد المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى هذه الآية وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ فقال

اذهب فقل له فليأكله، فإنّه طعامه». وقد استدلّ الجمهور على حلّ ميتة البحر بآية المائدة هذه، وبما رواه الإمام مالك بن أنس، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا، قبل الساحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة وأنا فيهم، قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، قال: فكان يقوّتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: فما تغني تمرة؟ فقال: فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظّرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ومرت تحتهما فلم تصبهما. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر: فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابّة يقال لها العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا. نحن رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنّا، لقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ويقتطع منه القدر كالثور، أو: كقدر الثور، قال: ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلمّا قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرنا ذلك له، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من لحمه شئ فتطعمونا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه فأكله. وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم حين وجدوا هذه السمكة، فقال بعضهم: هي واقعة أخرى، وقال بعضهم: بل هي قضية واحدة. ولكن كانوا أولا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ بعثهم سريّة مع أبي عبيدة فوجدوا هذه في سريّتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم. وروى مالك عن أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الطهور ماؤه، الحل ميتته». وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل وأهل السنن الأربعة، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم. وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بنحوه، والأدلة في أكل ميتة البحر واضحة كالشمس. ولا شك أن ما أنتن من الميتة إذا ترتب على أكله ضرر قطعي لا يجوز إلا في حالة الضرورة، وأما موضوع ما يجوز أكله

7 - حكم أكل صيد المحرم

من حيوان البحر وما لا يجوز. فقد رأينا أن الخلاف قائم بين من لا يجيز إلا أكل السمك وما أشبهه، ومن يجيز أكل كل دابة في البحر والأمر فيه سعة. 7 - [حكم أكل صيد المحرم] إذا صاد المحرم صيدا متعمدا أو مخطئا حرم عليه أكله لأنه في حقه كالميتة. وهل هو في حق غيره من المحلين والمحرمين كذلك؟ قال مالك والشافعي في أحد قوليه ذلك، وقال آخرون بإباحته لغير القاتل سواء المحرمون والمحلون، فإن أكل الصائد المحرم الصيد أو شيئا منه هل يلزمه جزاء ثان؟ قولان للعلماء، وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل، وأما إذا صاد حلال (غير محرم) صيدا فهل يجوز للمحرم أكله؟ ذهب ذاهبون إلى إباحة ذلك مطلقا منهم عمر بن الخطاب، والزبير، وسعيد بن جبير، والكوفيون، وذهب ذاهبون إلى كراهته، منهم علي، وابن عمر، وفصل مالك، والشافعي، وأحمد، بين ما إذا كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد أو لا، فإن قصده لا يحلّ له، وإلا حلّ له، واستدلوا لمذهبهم بحديث الصعب بن جثامة: أنه أهدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودّان، فردّه عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: «إنّا لم نردّه عليك إلا أنّا حرم». وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة، قالوا: فوجهه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ظنّ أن هذا إنما صاده من أجله، فردّه لذلك، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنّه يجوز له الأكل منه، ويشهد لذلك حديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله، ثم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها؟». قالوا: لا قال: «فكلوا». وأكل منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين بألفاظ كثيرة. وروى الإمام أحمد ... عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صيد البر لكم حلال» قال سعيد- وأنتم حرم- ما لم تصيدوه أو يصد لكم». وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي. ورواه الشافعي رضي الله عنه عن جابر ثم قال: وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. وروى مالك رضي الله عنه .. عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج، وهو محرم في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد، فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: أولا تأكل أنت؟ فقال إني لست كهيئتكم، وإنما صيد من أجلي. وبهذه المناسبة نحبّ أن نذكّر أنّ فترة الحج فترة مران على السلام الحق، ويمارس المحرم هذا السلام مع الأحياء كلها، ولكنه يقتل الفواسق حتى في حالة إحرامه كرمز

8 - فائدة عظيمة من قوله تعالى ... ولو أعجبك كثرة الخبيث ..

على أنّه في صراع مع الشر لا يهدأ، وفي الحكم الذي ذكرناه، نلاحظ أن المسلم لا يتناقض مع نفسه، فهو لا يقتل ما حرّم عليه ثمّ يأكله، فيبني حلا على حرمة. 8 - [فائدة عظيمة من قوله تعالى ... وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ .. ] جاء في الحديث: «ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى» وروى البغوي في معجمه أنّ ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه». نذكر هذا بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ. 9 - [تعميق لقضية التقوى] رأينا أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النساء من حيث كونها طريقا وتعميقا لقضية التقوى، ولقد ختمت هذه الفقرة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فلا فلاح إلا بتقوى، ولا تقوى إلا باتباع كتاب الله في كل حال. كلمة في السياق: بعد أن بيّن الله- عزّ وجل- أنه لا يصح لنا أن نحرّم طيبات ما أحل لنا، وبيّن لنا بعض الخبائث التي حرّمت علينا، وبعد أن ذكر أن صيد البر حال الإحرام لا يجوز- وهي حالة مستثناة من الحل العام- ينهانا في الفقرة اللاحقة أن نسأل؛ رغبة في التحريم، ويبين لنا أن ما حرّمه أهل الجاهلية على أنفسهم، من عند أنفسهم ليس حراما، بل إن ما حرّموه على أنفسهم من عند أنفسهم دليل على ضحالة العلم والعقل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ، إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. أي: تغمّكم وتشق عليكم، إذ تؤمرون بتحمّلها فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها، وفي هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء ممّا لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنّها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربّما ساءتهم، وشقّ عليهم سماعها وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ يحتمل معنيين. الأول: وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي- وهو ما دام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين أظهركم- تبد لكم تلك التكاليف التي تسوؤكم، ويترتب على ذلك تفريط. والمعنى الثاني: أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزّل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبيّن لكم، وعلى هذا يكون المعنى: إن السؤال لتفهم الوحي جائز، وأما السؤال ابتداء فقد يترتب عليه ضرر عام، وهذا لا يجوز عَفَا اللَّهُ عَنْها. عفا الله عما سلف من

[سورة المائدة (5): آية 102]

مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ومن حلمه أنه لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار قَدْ سَأَلَها. أي: سأل مثل هذه المسائل قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم السابقة ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها. أي: بسببها كافِرِينَ كما حدث لبني إسرائيل، وعرف ذلك منهم ما جَعَلَ اللَّهُ. أي: ما شرع ذلك، ولا أمر به، ثم بين هذا الذي لم يشرعه ولم يأمر به مِنْ بَحِيرَةٍ البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها، وامتنعوا من ركوبها، وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا مرعى وَلا سائِبَةٍ هي الناقة يسيبونها لآلهتهم، ويعاملونها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، كان الرجل منهم يقول: إذا قدمت من سفري، أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وَلا وَصِيلَةٍ هي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرا أكله الرجال، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم، وكذا إن كان ذكرا وأنثى، وقالوا وصلت أخاها، فالوصيلة بمعنى الواصلة وَلا حامٍ وهو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريمهم ما حرّموا ونسبتهم هذا التحريم إليه وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فأفعالهم وتصوراتهم لا عقل فيها ولا فهم، ومن جهلهم وعدم عقلهم فإنهم كما قال الله بعد ذلك وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ. أي: هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة أو إلى حكم الله مطلقا قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أي: كافينا ذلك أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ . أي: الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجّة. وآباء هؤلاء لا علم، ولا هداية، فكيف يكفيهم ما عليه آباؤهم وهم كذلك. والسياق العام لهذه الفقرة على الشكل التالي: نهاهم عن السؤال ابتداء، وسمح لهم بالسؤال لاستجلاء الوحي، ثمّ علّل سبب منع السؤال، ثم ابتدأ تبيان حكمه في موضوع تحريم الانتفاع في أنواع من الحيوان، ثم بيّن جهالة الجاهليين في رفضهم الاحتكام إلى الله ورسوله، واتباعهم آباءهم في القضايا غير المعقولة المعنى، والتي تدلّل على الجهل والضلال، كهذه القضية المذكورة في وسط الفقرة، وقد دلّت الآية على أن غير شرع الله لا يقوم على عقل، ولا علم، ولا هداية. نقل وتعليق: [نقل عن صاحب الظلال حول آية .. لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ .. ] عند قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

يقول صاحب الظلال: «إن المعرفة الغيبية في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة .. فالغيب وما وراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية. وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به. فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه فإنه لا يصل إلى شئ أبدا، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها .. فهو جهد ضائع. فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل، يؤدي إلى الضلال البعيد. وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام .. وهذا هو منهج الإسلام .. ففي طوال العهد المكي لم يتنزّل حكم شرعي تنفيذي- وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام. ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه، فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل، وفي حدود القضية المعروضة دون تفصيص للنصوص، ليكون للسؤال والفتوى جديّتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني: كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن .. ذكره الدارمي في مسنده .. وذكر عن الزهري قال: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون. وأسند عن عمار بن ياسر- وقد سئل عن مسألة- فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناها لكم. وقال الدارمي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن فضيل عن عطاء، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهنّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ .. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ .. وشبهه .. ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وقال مالك: أدركت هذا البلد (يعني المدينة) وما عندهم علم غير الكتاب والسنة. فإذا نزلت نازلة، جمع الأمير من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه. وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله!

وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية: روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» .. قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وكثرة السؤال»: التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطّعا، وتكلّفا فيما لم ينزل، والأغلوطات، وتشقيق المولدات. وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف. ويقولون: إذا نزلت النازلة وفّق المسئول لها .. إنه منهج واقعي جاد. يواجه وقائع الحياة بالأحكام، المشتقة لها من أصول شريعة الله، مواجهة عملية واقعية .. مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا .. فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع، فهو استفتاء عن فرض غير محدد. وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع. والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غير محدد. والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم. ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله لغير التفقه، والفتوى على هذا الأساس لغير مريد العمل!! إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ .. فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة، ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس .. أي: لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه .. فما استفتاء المستفتي؟ وما فتوى المفتي؟ إنهما- كليهما- يرخصان شريعة الله، ويستهتران بها، شاعرين أو غير شاعرين سواء! ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة .. إنها دراسة للتلهية! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه، ليخدّر مشاعر الناس بهذا الإيهام! إن هذا الدين جد. وقد جاء ليحكم الحياة. جاء ليعبّد الناس لله وحده، وينزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان فيرد الأمر كله إلى شريعة الله لا إلى شرع أحد سواه .. وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها. ولم يجئ هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار. ولا لتكون شريعته

تعليق: المؤلف على كلام صاحب الظلال وبيان أهمية دراسة الفقه

موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة. ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية في الهواء!. هذا هو جدّ الإسلام. وهذا هو منهج الإسلام. فمن شاء من «علماء» هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة. أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء!. تعليق: [المؤلف على كلام صاحب الظلال وبيان أهمية دراسة الفقه] أن تحاول الحركة الإسلامية تصوّر الفرعيّات التي يمكن أن تواجهها بعد خمسين عاما ثمّ تكرّس جهودها كلها من أجل ذلك فذلك استنفاد للطاقات في غير محلّها، وأن تشتغل الحركة الإسلامية أو المفتون بعمليّات التبرير للجاهلية والجاهليين فذلك عبث وهجوم على دين الله، ولكن أن يوجد المفتي القادر على أن يفتي المسلم في حياته المعاصرة فيما ينبغي فعله أو تركه في ظل الأنظمة الكافرة فذلك فرض لا بد منه، وأن تسير الحركة الإسلامية في الأوضاع المعاصرة على ضوء الفتوى المبصرة من أهلها، فذلك فرض الفروض، وأن يجيب فقهاء المسلمين خلال العصور على كل سؤال ولو كان سؤالا لا يقع إلا مرّة في العصر فذلك ليس عيبا. ثمّ إن دراسة الفقه هي الطريقة الوحيدة لإيجاد الرّجل الفقيه، وإنّ التعرف على طرق استنباط الأحكام من خلال ما فعله علماء المسلمين خلال العصور هو الطريق العملي لإيجاد العقلية الفقهية القادرة على حلّ المشاكل اليومية. إنّه لا بد من دراسة الفقه، ولا بد من وجود الفقيه، ولا بد من استيعاب العلوم التي يحتاجها وجود الفقيه، وكل ذلك من فروض الكفايات في الأمة، وأن يسأل المكلف عمّا يحلّ له وعمّا يحرم عليه في أي ظرف وفي أي مجتمع فهذا كذلك من الفرائض. فما قاله صاحب الظلال ينبغي حمله على غير مثل هذه الحالات، لقد فهم الكثيرون عن صاحب الظلال ما لم يرده، فمثلا تجد بعضهم يحارب أصل دراسة الفقه اعتمادا على رأي (سيد رحمه الله) بينما (سيد رحمه الله) في أوسع ما قال «ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة» فهو يحمل على مثل هذا

فوائد: حول قوله تعالى ... لا تسئلوا عن أشياء ..

ونحن نعتبر حملته هذه نفسها خطا ففي الحديث «ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل خير من أن تصلي ألف ركعة» إن دراسة كل أبواب الفقه جزء من عملية إبقاء الإسلام كله حيا. فوائد: [حول قوله تعالى ... لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ .. ] 1 - ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالأشياء التي نهوا عن السؤال عنها الآيات والمعجزات غير أن مجموع ما ورد من أسباب نزول يدلّ على المعنى الذي اتجهنا إليه واخترناه، وهو اختيار عامّة المفسرين ولنذكر هنا ما ورد من أسباب نزول لهذه الآية: - روى البخاري ... عن أنس بن مالك قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط، وقال فيها: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» قال: فغطّى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجوههم لهم خنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: «فلان». فنزلت هذه الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ. - روى ابن جرير ... عن قتادة في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية، قال: فحدثنا أن أنس بن مالك حدّثه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: «لا تسألوني اليوم عن شئ إلا بيّنته لكم» فأشفق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلّا لافّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبيّ الله من أبي؟ قال: «أبوك حذافة» قال: ثم قام عمر، أو قال فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله-، أو قال: أعوذ بالله- من شر الفتن، قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صوّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط». - روى البخاري ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟. ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ

تَسُؤْكُمْ حتى فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري. - روى الإمام أحمد ... عن عليّ قال: لمّا نزلت هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت، قال: فقالوا: أفي كل عام؟ فقال: «لا، ولو قلت نعم لوجبت،». فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ الآية. وكذا رواه الترمذي وابن ماجه. وممّا يعين على فهم معنى هذه الآية الأحاديث الثلاثة الآتية: - روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته». - وفي صحيح مسلم عن رسول الله أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنّما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم». - وفي الحديث الصحيح أيضا: «إنّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تسألوا عنها». من النصوص المذكورة سابقا نستطيع أن نحصي عددا من الحالات التي نهي المسلمون أن يسألوا عنها: - السؤال استهزاء، والسؤال عن غير ما هو ديني، والسؤال عن أمر ذي طابع خاص ويريد صاحبه أن يقحم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، والسؤال عمّا يسوء وليس من باب الديانات، والسؤال الذي يترتب عليه تضييق على المسلمين، أو يدلّ على غلو عند صاحبه، والسؤال عمّا سكت الله عنه، والسؤال الذي فيه طابع الجدل والمماحكة، وقد قررنا القاعدة من قبل وهي عدم ابتداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالسؤال عن شئ جديد، وجواز الاستيضاح عن شئ نزل من الوحي، أو تقرّر من الدين بقصد الفهم والعمل. 2 - قد يتساءل متسائل عن بداية وجود ما ذكر الله من أمر البحيرة وغيرها وفي النصوص التالية بيان: روى البخاري ... أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول

الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه، وهو أوّل من سيّب السوائب». تفرّد به البخاري. وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك»؟ فقال أكثم: تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيّر دين إبراهيم، وبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي». وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أوّل من سيّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإنّي رأيته، يجرّ أمعاءه في النّار» تفرّد به أحمد. فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرّعاع من النّاس إلى عبادتها، والتقرّب بها. وشرع هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، ومن هذه النصوص، ومن الآية الواردة في هذا الموضوع، نعرف أنّ تحريم الحلال في الشريعة الإسلامية كتحليل الحرام كلاهما كفر وضلال، وكلامنا في الحرام القطعي، أو في الحلال القطعي، ومن هنا نفهم خطأ الذين يسارعون إلى التحليل والتحريم من عند أنفسهم دون علم. فما أجرأ هؤلاء على النار، وإنّا لنرى في عصرنا ناسا يهجمون على الفتوى في أمور من عند أنفسهم لو عرضت على مالك أو أحمد أو الشافعي لبقي الشهور يفكر فيها وهم يفتون فيها دون تفكير أصلا. 3 - روى ابن أبي حاتم ... عن مالك بن نضلة قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في خلقان من الثياب فقال لي: «هل لك من مال؟» قلت: نعم، قال: «من أي المال؟» قال: فقلت: من كلّ المال من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: فإذا آتاك الله مالا فلير عليك». ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال: قلت نعم، قال: وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: «فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بحيرة. وتشق آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم». قلت: نعم، قال: «فلا

كلمة في السياق

تفعل. إن كل ما آتاك الله لك حل». ثم قال: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. من هذا النّص ندرك جهل أهل الجاهلية حيث حاولوا شكر النّعمة عن غير طريق الشكر، كما ندرك أن طريق الشكر هو التزام أمر الله، وهو في هذا المقام أن يدفع الإنسان زكاة ماله للفقراء، أو يمنح شيئا منه للمحتاجين، أو يوسّع على نفسه وعلى الناس فيه. 4 - قد يتساءل متسائل عن الصلة بين هذه الفقرة التي مرّت معنا وبين ما قبلها وما بعدها؟ والجواب: في هذا المقطع يقرر الله أحكاما متعددة، فإن يأتي خلال هذا المقطع ما يحجر السؤال عن المسكوت عنه، ويبيح السؤال عما نزل، فذلك شئ منسجم مع ما قبله وما بعده، وأن يقرّر خلال ذلك حكم ما حرمه الجاهليون على أنفسهم، وأن يسفه فعلهم في مقطع يبدأ بالنهي عن تحريم الطيبات، كل ذلك واضح الصّلات، وفي هذه الفقرة التي تمنع السؤال المتعنّت وتقرر الحكم النهائي في تسفيه عادة جاهلية، أن يسفّه المقلدون للآباء تقليدا أعمى، كل ذلك ينسجم مع جو المقطع، وفي مقطع هو جزء من سورة المائدة التي تعمّق معنى التسليم لله والإيمان به والاهتداء بكتابه أن تأتي فقرة تمنع السؤال، وتقرّر الأحكام، وتسفّه تقليد الضلّال والجهال، كل ذلك سائر على نسق يكمّل بعضه بعضا. كلمة في السياق: لنتذكّر أن محور سورة المائدة من سورة البقرة هما الآيتان المبدوءتان بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... ولنتذكر أن في هاتين الآيتين يرد قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... وقد رأينا أن سورة المائدة وضّحت الكثير من معالم طريق الهدى، وحدّدت الكثير من صفات المهتدين وبيّنت طريق الضلال، وحدّدت صفات الذين يستحقون الضلال، وقد سارت السورة موضحة هذا وذاك، فإذا استقرت المعالم فقد آن الأوان ليبيّن لأهل الإسلام أنّ ضلال الضالين لا يضرّ المهتدين، وهذا هو مضمون الآية اللاحقة التي تشكّل فقرة برأسها، وهي الفقرة الخامسة في المقطع السابع الذي هو المقطع الثاني في القسم الثالث من السورة، وسنرى محلّ الفقرة في سياق المقطع والقسم وهي:

[سورة المائدة (5): آية 105]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الزموا إصلاح أنفسكم أي: عليكم أنفسكم وما كلّفتم من إصلاحها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. أي: لا يضرّكم الضلّال عن دينكم إذا كنتم مهتدين وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. أي: المهتدون والضالون راجعون إلى الله، وهو سيخبر الجميع بأعمالهم، ويحاسبهم عليها، ثم يجزي الجميع على أعمالهم. فائدة: [الفهم الصحيح لقوله تعالى ... عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ .. ] من المهم جدا أن نعرف فهم السلف رضي الله عنهم لهذه الآية، فإنّ فهمهم لها عاصم من الغلو والخطأ: روى الإمام أحمد رحمه الله ... أنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيّها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله- عزّ وجل- أن يعمّهم بعقابه»، وقال أبو بكر: يا أيها الناس إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان. وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه. وروى أبو عيسى الترمذي ... عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيّة آية، قلت: قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإنّ من ورائكم أياما، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم» وزاد بعضهم: قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم». ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال عبد الرزاق ... أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله تعالى:

عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنّها اليوم مقبولة: ولكنّه قد يوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ. وروى أبو جعفر الرازي، ... عن ابن مسعود في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ الآية. قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية. قال: فسمعهما ابن مسعود فقال: مه، لم يجئ تأويل هذه بعد، إنّ القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن اليوم، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من حساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء. وألبستم شيعا، أو ذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية. وروى ابن جرير ... عن سفيان بن عقال، قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود، وأنتم الغيّب، ولكنّ هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. وروى ابن جرير أيضا ... عن سوار بن شبيب قال: كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة، كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألوا، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلّا الخير، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال الرجل: إني لست إياك

أسأل، وإنما أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله: لعلك ترى لا أبا لك أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم، عظهم وانههم، وإن عصوك فعليك نفسك، فإنّ الله- عزّ وجل- يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية. وروى أيضا .. عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس. فقرأ أحدهم هذه الآية عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. وروى أيضا ... عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها!! فتمنّيت أنّي لم أكن تكلّمت، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان: إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرّك من ضل إذا اهتديت. وروي أيضا ... أنّ الحسن تلا هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وروي أيضا أن سعيد بن المسيّب قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرّك من ضل إذا اهتديت. وكذا قال غير واحد من السلف. والذي نقوله تعليقا على هذا كله: 1 - أن الجماعة المسلمة متكاتفة متضامنة، ومن مظاهر تكاتفها: تواصيها بالحق والصبر، وأمرها لبعضها بالمعروف، وتناهيها عن المنكر، فإذا حققت هذا لا يضرها من ضلّ إذا اهتدت، ولكنها إذا تركت التواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تكون مهتدية. 2 - إن من الهداية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، فمن لم يفعل هذا يكون قد ترك من الهدى، فالآية لا تفيد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الأمر بالمعروف جزء من الهداية. ولكن قال الفقهاء إذا ترجح لديك عدم فائدة الأمر بالمعروف، فلا يجب عليك

كلمة في السياق

الأمر بالمعروف، وإذا لاحظنا السياق والآية التي قبل هذه الآية ندرك أن الكلام في حالة هي: عند ما يصرّ الكافرون على التقليد، وندعوهم فلا يستجيبون، فإنّ ضلالهم لا يضرّنا عند الله. كلمة في السياق: 1 - جاءت هذه الآية في سياق القسم المبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهذا يفيد أنّ من جملة المعاني التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبلغها المؤمنين هذا المعنى، وهو أن على أهل الإيمان أن يبذلوا جهدهم كاملا في إصلاح أنفسهم، وأخذها بأسباب الهداية، وأنهم إن فعلوا ذلك لن يضرّهم ضلال الضلّال. 2 - جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... بعد فقرات النّهي عن تحريم الطيبات، وتبيان بعض المحرمات، وبعد النهي عن صيد البر للمحرم، وبعد النهي عن السؤال المتعنت، مما يشير إلى أن هذه المعاني من الهداية التي ينبغي أن يأخذ المسلم نفسه بها، وأنه إن فعلها لا يضرّه ضلال الضلّال في شأنها. 3 - وفي سياق الآية الواعظة التي تذكّرنا بالرجوع إلى الله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً تأتي الفقرة الخامسة والتي تحدثنا عن وصيّة المغترب إذا مات ليختم المقطع بموضوع متصل بالأيمان، التي جاء حديث عنها في بداية المقطع لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ .... 4 - لقد رأينا صلة المقطع الذي بأيدينا الآن بالمقطع الأول من السورة ومما ورد في المقطع الأول من السورة قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ والفقرة السادسة في هذا المقطع تبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ .... وقبل أن نعرض الفقرة الأخيرة في المقطع فلننقل ما قاله صاحب الظلال عن الآية التي مرّت معنا. نقل عن آية لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ من كلام صاحب الظلال في آية عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

[سورة المائدة (5): آية 106]

«إن كون الأمة المسلمة مسئولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا، ثم في الأرض جميعا. وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته، وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته. وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت: هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه .. والأمة المسلمة قوّامة على نفسها أولا، وعلى البشرية كلها أخيرا. وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما- وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة بإقامة شريعة الله في الأرض- إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها. إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان- وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله، واغتصاب سلطانه، وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته. «وكلا والله إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد. ولا يصلح إلا بعمل وكفاح. ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها .. ولا بد من جهد. بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبالقوة إن وجدت حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم» اه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ حضور الموت: مشارفته وظهور أماراته، والتقدير العام: شهادة بينكم حين حضور أحدكم الموت حين الوصية شهادة اثنين، وفي النّص دليل على وجوب الوصيّة ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هذه صفة للشاهدين، اشترط العدالة لهما، وأن يكونا منا، وهل المراد ب (منكم) من المسلمين، أو من أقارب الميت، ومن يلوذ به لأنهم هم الأعلم بحالات الميت، قولان للمفسرين، والجمهور على أن المراد هو الأول، أي من المسلمين أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. أي: من غير المسلمين على القول الذي عليه الجمهور إِنْ أَنْتُمْ

[سورة المائدة (5): آية 107]

ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. أي: سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فهذان شرطان لجواز استشهاد غير المسلمين تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي: توقفونهما للحلف من بعد الصلاة، لأنه وقت اجتماع الناس فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: فيحلفان بالله إن شككتم في أمانتهما، والتقدير إن ارتبتم في شأنهما فحلّفوهما لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً. أي: لا نشتري بالله، أو بالقسم عوضا من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. أي: ولو كان المقسم له قريبا منّا أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له ذا قربى منّا وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ. أي: الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ. أي: إن كتمنا فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً. أي: فإن اطّلع على أنّهما فعلا فعلا ما أوجب إثما واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين فَآخَرانِ. أي: فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ. أي: من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، والأوليان تثنية أولى، والمراد به الأحق بالشهادة لقرابة أو معرفة كأنه قيل ومن هما اللذان يشهدان الشهادة المعاكسة، فقيل الأوليان فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما. أي: ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيّين الخائنين وَمَا اعْتَدَيْنا. أي: وما تجاوزنا الحقّ في يميننا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: إن حلفنا كاذبين ذلِكَ أي الحكم الذي مر ذكره أَدْنى أي أقرب أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي: أن يأتي الشهداء على تلك الحادثة كما حملوها بلا خيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ. أي: يتكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم، فصار المعنى: ذلك أقرب أن تؤدوا الشهادة بالحق والصدق إما لله أو لخوف العار والافتضاح بردّ الأيمان وَاتَّقُوا اللَّهَ. أي: في الخيانة واليمين الكاذبة وَاسْمَعُوا. أي: سماع قبول وإجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. أي: الخارجين عن الطاعة. فوائد: [حول آيات الوصية وسبب نزولها] 1 - قال ابن كثير: اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ رواه العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم: إنها منسوخة، وقال آخرون وهم الأكثرون- وهو الذي رجّحه ابن جرير-: بل هو محكم ومن ادعى نسخه فعليه البيان.

2 - واختلفوا هل الاثنان شاهدان، أو وصيّان، على قولين، القول الأول: أنهما شاهدان على الوصية، والقول الثاني أنهّما وصيّان، ومن قال إنّهما شاهدان قال: فإن لم يكن معهما وصيّ ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة. واختلفوا هل المراد بالصلاة المذكورة صلاة المسلمين في حالة كون الشاهدين غير المسلمين أو صلاتهما في دينهما. 3 - وفي سبب نزول هذه الآيات يروي الترمذي وأبو داود عن ابن عباس بإسناد حسن غريب هذه الرواية، قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعدي بن بدّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم. فلمّا قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما. وأن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية. وقد اجتزأنا بذكر هذه الرواية لحسن سندها، وأعرضنا عن ذكر غيرها في موضوعها مع أن فيه زيادة تفصيل لعدم الاطمئنان إلى السند مع ملاحظة اشتهار أصل القصة في الصّدر الأول، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين، وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر رواه ابن جرير، وكان تميم وصاحبه نصرانيين وقتها. قال ابن كثير: وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعي نسخه إلى فاصل في هذا المقام. 4 - وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الشعبيّ قصة حدثت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تدلّ على أنّ هذا الحكم معمول به غير منسوخ، وهذه هي القصة: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا (اسم بلدة معروفة أيامها ولذلك أشار إليها بقوله) هذه، قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا الأشعري، يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فأخبراه، وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فأحلفهما

كلمة في السياق

بعد العصر بالله ما خانا، ولا كذبا، ولا بدّلا، ولا كتما، ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما». وقد دلّ عمل أبي موسى، وعدم إنكار الناس، ورواية الشعبي للحادثة دون نكير، على صحّة اتجاه من ذهب إلى أنّ الحكم غير منسوخ. كلمة في السياق: في هذا المقطع عدة فقرات كلها مبدوءة ب «يا أيها الذين آمنوا» الأولى: في النهي عن تحريم الطيبات. والثانية: في تقرير حرمة الخمر والميسر. والثالثة: في حرمة صيد المحرم. والرابعة: في النهي عن السؤال مع تقرير عدم حرمة أنواع من الأنعام. والخامسة: في التأكيد على أن هداية المهتدين لا تضر معها ضلالة الضالين. والسادسة: في طريق الوصول إلى حق وراث من مات في سفر، وما بين النهي عن تحريم الطيبات في الفقرة الأولى، وتحريم الاعتداء على ما لم يأذن به الله في الفقرة الثالثة، وتحريم السؤال المتعنت مع تبيان إباحة بعض الأنعام في الفقرة الرابعة، وتحريم أكل مال من مات في سفر في المجموعة الأخيرة، صلات واضحة، والصلة بين هذا كله وبين الإقبال على الأنفس في الهداية في الفقرة الخامسة لا تخفى. ولذلك كله صلاته بمحور السورة من البقرة فالسّورة بيّنت في قضية الهداية والضلال، وفي قضية الفسوق وأسبابه، وفي أنواع من نقض الميثاق، وفي أنواع من الإفساد في الأرض، وفي أنواع من قطع ما أمر الله به أن يوصل. فإذا اتضح محل المقطع الأخير في السياق فلنذكر كلمة حول أقسام السورة تكون بمثابة المقدمة للكلام عن خاتمتها. كلمة في أقسام السورة: قلنا: إن السورة تتألف من ثلاثة أقسام وخاتمة، وقد عرضنا الأقسام الثلاثة ولم تبق إلا الخاتمة. وقد رأينا كيف أن الأقسام الثلاثة فصّلت في محور السورة، ورأينا صلاتها فيما بينها. وقد ركّز القسم الأول على الوفاء بالعقود، وترك الإفساد في الأرض، وإذ كان الناس في هذا الشأن قسمين: مهتدين، وكافرين، فقد جاء القسم الثاني لينهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن على الذين يسارعون في الكفر، وركّز السياق على وصل ما

خاتمة السورة تمتد خاتمة السورة من الآية (109) إلى نهاية الآية (120) وهذه هي

أمر الله به أن يوصل. ثم جاء القسم الثالث ليطالب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبلاغ بأمور عيّنها القسم، وهكذا تجد أن الأقسام تتكامل معانيها في السورة، وتتواصل، والمقاطع تتكامل معانيها وتتواصل، والفقرات تتكامل معانيها وتتواصل، وكلّ ذلك بما يكمّل معاني سورة النساء، فبين السورتين تكامل، كل ذلك والسورة مشدودة إلى محورها في سورة البقرة تفصّل فيه. والملاحظ أن الآية الأولى في محور سورة المائدة ختمت بقوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وأن آخر آية في القسم الثالث ختمت بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وكما ترى فإن المعنى واحد، وسنرى كيف أن خاتمة السورة مرتبطة بما قبلها من القسم الثالث، وبما قبلها من مضمون السورة، وأنّها كذلك مرتبطة بمحور السورة من البقرة فلنر خاتمة السّورة: خاتمة السورة تمتد خاتمة السورة من الآية (109) إلى نهاية الآية (120) وهذه هي: 5/ 111 - 109

5/ 120 - 112

كلمة في سياق خاتمة السورة

[كلمة في سياق خاتمة السورة] - بدأ القسم الثالث بالأمر بالبلاغ، وحدّد في مقطعه الأول مضامين من البلاغ لغير المسلمين، ثم جاء المقطع الثاني في القسم فحدّد مضامين من البلاغ لأهل الإيمان، ثم جاءت خاتمة السورة لتطوي الزمن وتعرض علينا في آيتها الأولى كيف أن الله سيجمع الرّسل عليهم السلام، ويسألهم عن جواب أقوامهم لهم، كأن هذه النّقلة تشير إلى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بلّغ، وأن على الناس أن يستجيبوا، وأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيد على الموقف، ومن بين الرّسل جميعا يخصّ المسيح عليه السلام بكلام تتقرّر فيه صحة ما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه في شأنه مما يخدم معاني المقطع الأول في القسم الثالث ومعاني في القسمين الأول والثاني يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ .... فالخاتمة مرتبطة بالقسم السابق عليها مباشرة، ومرتبطة بمحور السورة، وكلّ ذلك قد جاء من خلال عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة، يعرض الله- عزّ وجل- علينا فيه حقيقة عيسى وأمّه، وحقيقة دعوته، وذلك بعد أن مر معنا أكثر من مرة كفر الذين غلوا في شأنه، فكأنّ السورة ذكرت في السياق ما يناسبه من شأن القائلين بألوهية المسيح عليه السلام، حتى إذا فرغت السورة من تقرير الأحكام، وبيان ما يقتضيه سياقها، خلصت إلى ذكر حقيقة المسيح وأمه عليهما السلام، وحقيقة دعوته. - لقد رأينا في السورة نقض اليهود والنصارى للمواثيق، ورأينا غلوّ النصارى في المسيح عليه السلام وأمه في أكثر من مكان، وفي خاتمة السورة يأتي تقرير مسألة المسيح وأمه عليهما السلام على حقيقتها التي ينبغي أن يرجع النّاس إليها. - قلنا عن سورة المائدة إنها استمرار لسورة النساء في كونها تفصّل هي وسورة النساء، وسورة الأنعام بعدهما، في مقطع الطريقين: الطريق إلى التقوى، والطريق إلى الكفر والنفاق. وفصّلت سورة النساء بشكل أخص في الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وفصلت سورة المائدة بشكل أخص في قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

وتأتي خاتمة سورة المائدة لتقرّر أن دعوة عيسى عليه السلام هي الدعوة المحمدية نفسها: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ. فبعد أن تمّ التفصيل للطريقين في سورة النساء، وسورة المائدة، تأتي خاتمة سورة المائدة لتقرّر أن ما دعا إليه القرآن الناس جميعا، من عبادة الله وحده، هو لباب دعوة كل رسول، ومنهم عيسى عليه الصلاة والسلام. وتأتي خاتمة سورة المائدة وفيها تقرير لحقيقة عيسى عليه السلام، ودعوته بين يدي سورة الأنعام التي تناقش الكافرين بكفرهم وتقيم عليهم الحجة. فكأنّ هذه الخاتمة هي الربط ما بين سورتي المائدة والنساء، وبين سورة الأنعام، وهي السور الثلاث التي تفصّل مقطعا كاملا من سورة البقرة. - وفي الخاتمة نموذج على ناس نقضوا العهد في شأن عيسى، ونموذج على ناس وصلوا ما أمر الله به أن يوصل وهم الحواريون. وفي المقطع نموذج على صلاح المصلحين في الأرض، وفيها إعلام بما ينجي عند الله وهو الصدق، وإعلان أن المالكية لله- عزّ وجل- وهو الإعلان الذي رأيناه في أواخر سورة البقرة، وأواخر سورة آل عمران، وهو الذي ينبغي أن يقرّ به الإنسان ليكون ممن يعبد الله وحده. ولئن كان من خلال هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة يتقرر: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فإن ذلك درس لمن يكتم شهادة الله في الدنيا، ويخون الأمانة. وصلة ذلك بالفقرة السابقة على الخاتمة واضحة، إذ هي في أداء الشهادة والأمانة. وأن تختم السورة التي تربي على الوفاء بالعهود، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، والإصلاح في الأرض بهذه الخاتمة التي ترينا هول المقام يوم القيامة، وشدة التدقيق حتى مع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فذلك واضح الدلالة على أن ما طولبتم به أيها الناس، أنتم محاسبون عليه فخذوا الأمر بمنتهى القوة. وهكذا نجد أنّ خاتمة السورة في محلّها، تؤدي أكثر من خدمة للسياق، فهي تربي على معانيها، وتكمّل معاني قسمها، وتضع الأمور في مواضعها بالنسبة لقضايا تعرّض

المعنى العام

لها سياق سورة المائدة، وهي إذ فنّدتها هناك في خطاب أهل الدنيا. فإنها هنا تعرضها والقيامة قد قامت، وهي مع ذلك ترتبط بمحور سورة المائدة من البقرة وكما أنها مقدمة لسورة الأنعام. المعنى العام: تبدأ خاتمة سورة المائدة بالإخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة، وعما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، ولهول ذلك اليوم، ولكونه موقفا تذهل فيه العقول، نفوا أن يكون لهم علم بما أجيبوا، وذلك من هول الموقف، وحسن الأدب مع الله، إذ لا علم لهم بالنسبة لعلم الله المحيط، إذ هو وحده العليم بالظواهر والبواطن. فعلم الرسل بالنسبة لعلم الله كأنه لا علم، لأن الله وحده علّام الغيوب كلها، ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- ما منّ على عبده ورسوله عيسى عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات الباهرات وخوارق العادات، وأمره إياه أن يذكر نعمته عليه في خلقه إياه من أمّ بلا أب. وجعله إياه آية ودلالة قاطعة على كمال قدرته عزّ وجل على الأشياء، وأمره أن يذكر نعمته على والدته مريم؛ حيث جعله لها برهانا على براءتها ممّا نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، ومن أجلّ نعمه عليه التي أمره أن يتذكرها ما أيده به من جبريل عليه السلام، فجعله نبيا داعيا إلى الله في صغره وكبره، فأنطقه في المهد صغيرا شهد ببراءة أمّه من كل عيب، واعترف لله بالعبودية، وأخبر عن رسالته ودعوته إلى عبادته في صغره وكبره، ثمّ أمره أن يتذكر نعمة تعليمه الكتاب والتوراة، وما أكرمه به من الخوارق والمعجزات، من تصوير الطين وتشكيله على هيئة الطائر بإذن الله له في ذلك، فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله أي: فينفخ في تلك الصورة التي شكّلها بإذن الله له في ذلك فتكون طيرا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه، ومن ذلك إبراء الأعمى والأبرص بإذن الله، ومن ذلك دعوته فيقومون أحياء بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته. ثمّ أمر أن يذكر نعمته عليه في كفّه بني إسرائيل عنه حين جاءهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوته ورسالته من الله إليهم، فكذبوه واتّهموه بأنّه ساحر وسعوا في قتله وصلبه، فنجّاه منهم، ورفعه إليه، وطهّره من دنسهم، وكفاه من شرّهم، ثمّ أمره أن يذكر نعمته عليه بأن جعل له أصحابا وأنصارا، إذ ألهم حوارييه الإيمان به واتّباعه، فاستجابوا له وانقادوا وتابعوا. ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- في هذا السياق قصة اقتراح المائدة على عيسى من قبل حوارييه وجوابه ودعاءه الله من أجلها، وردّ الله

عليه، وبيان سنة الله في حالة اقتراح الآيات من قبل الناس، وكيف أنّه إن استجاب للاقتراح. ثمّ كفر أحد ممّن شاهد الآية يستحق عذابا شديدا. وهل أنزل الله المائدة، أو لم ينزلها؟ قولان للمفسرين: ففي الأسانيد الصحيحة إلى الحسن ومجاهد ما يفيد أن الحواريين بعد أن عرفوا ما يترتب على النّزول قالوا: لا حاجة لنا، فلم تنزل. وسيأتي تفصيل ذلك. وهل هذا التذكير لعيسى بنعم الله عليه بعد إصعاده إلى السماء، أو يوم القيامة. قولان للمفسرين، والسّياق يفيد الثاني: وبعد إذ يأمر الله عيسى يوم القيامة أن يتذكّر نعمه عليه، ويعدّدها له، يخاطب عبده ورسوله عيسى قائلا له بحضرة من اتّخذه وأمّه إلهين من دون الله، هل كان ذلك بأمره؟ وفي هذا تهديد، وتوبيخ، وتقريع للنّصارى، في الدنيا والآخرة، فيجيب عيسى بكمال الأدب منزّها الله، معلنا أنه لم يكن له أن يقول مثل هذا الكلام قائلا لله- عزّ وجل- إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب، فإنه لا يخفى عليك شئ مما قلته، لا أردته في نفسي، ولا أضمرته. ثمّ ذكر أنّه ما دعاهم إلّا إلى الذي أرسله الله به، وأمره أن يبلّغه، وهو عبادة الله، وأنه كان يشهد على أعمالهم ما دام فيهم وبين أظهرهم، فلمّا رفعه الله- عزّ وجل- لم يعد إلا الله رقيبا عليهم، وهو وحده الشهيد على كل شئ، ثمّ ردّ المشيئة إلى الله في أمر تعذيبه إياهم، أو مغفرته لهم. وفي ردّه المشيئة لله في هذا المقام تبرّ من النّصارى الذين كذبوا على الله ورسوله عيسى، وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وعندئذ يقول الله تعالى مجيبا لعبده ورسوله عيسى بن مريم فيما أنهاه إليه من التبري من النّصارى الملحدين الكاذبين على الله ورسوله، ومن ردّ المشيئة فيهم إلى ربه عزّ وجل: مبيّنا جلّ جلاله أن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفع الموحدين توحيدهم، فهم وحدهم الذين يدخلهم جنته ماكثين فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون، ولهم من الله الرضى، وأي فوز أكبر وأعظم من هذا؟. ثم يختم الله- عزّ وجل- السورة بتبيان أن الله هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرّف فيها، القادر عليها، فالجميع ملكه، وتحت قهره، وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير، ولا وزير، ولا عديل، ولا والد، ولا ولد، ولا صاحبة، ولا إله غيره، ولا رب سواه. وفي انتهاء سورة المائدة بهذه الخاتمة التي هي تسجيل لموقف من مواقف يوم القيامة

المعنى الحرفي

مجموعة من الحكم العظيمة المرتبطة بسياق السورة العام، فهي من ناحية درس للنصارى الذين نقضوا عهد الله وميثاقه، ودرس للصادقين المهتدين، فإذا كان محور السورة يتحدث عما به يكون الضلال وعمّا به تكون الهداية، وإذا كانت السورة تحريرا من أسباب الضلال وتحقيقا بأسباب الهداية، فمن خلال هذا العرض لمشهد من مشاهد يوم القيامة نعرف طريق الله، ونعرف ضلال الضالين، ونعرف طريق النجاة، وفيما سيأتي مزيد من البيان لهذه المعاني: المعنى الحرفي: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الخطاب للمؤمنين أن يتذكروا أو يحذروا هذا اليوم الذي يجمع الله الرسل ويوجه لهم فيه الخطاب فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ. أي: ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان، وفي السؤال توبيخ لمن أنكرهم قالُوا لا عِلْمَ لَنا يحتمل أنهم قالوا ذلك تأدّبا: علمنا ساقط مع علمك سبحانك، ومغمور به فكأنه لا علم لنا، ويحتمل أن يكون المراد: لا علم لنا بإخلاص قومنا فأنت وحدك تعلم الظاهر والباطن، ويحتمل أن يكون المراد: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، ويحتمل أن يكون هول الموقف دعاهم إلى البراءة من علمهم، وهذا هو الذي يجمع فيه بين قولهم هذا وشهادتهم على أقوامهم. قال السدي: نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: لا علم لنا، ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم، رواه ابن جرير إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ نفوا علمهم، ووصفوا الله بالعلم الكامل المحيط بكل شئ. ومن ذلك الغيوب كلها إِذْ قالَ اللَّهُ. أي: في ذلك اليوم الذي يجمع فيه الرسل يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ. أي: إذ قوّيتك بجبريل عليه السلام، أيّد به لتثبت الحجة عليهم، ويحتمل أن يكون المراد بروح القدس الكلام الذي يحيا به الدّين وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أوضار الآثام، فالقدس الطهر تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ. أي: تكلّم الناس طفلا إعجازا وَكَهْلًا. أي: وكبيرا تبلّغ النّاس دعوة الله وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ فسّرها بعضهم بالكتابة والخط، وتحتمل مطلق الكتاب أي جنسه، وتحتمل ما أطلعه الله عليه من غيوب اللوح المحفوظ وتحتمل ما افترضه الله على عباده وَالْحِكْمَةَ. أي: الكلام المحكم الصّواب، الموافق لمقتضى الحال، والمناسب للمقام وَالتَّوْراةَ كتاب موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ كتابه

[سورة المائدة (5): آية 111]

الذي أوحاه الله إليه وَإِذْ تَخْلُقُ معطوف على ما أمر أن يتذكره من نعم الله، وتخلق بمعنى تقدّر مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. أي: تصنع من الطين هيئة مثل هيئة الطير بِإِذْنِي. أي: بتسهيلي فَتَنْفُخُ فِيها. أي: في الهيئة التي كان يقدّرها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي. وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ. أي الذي خلق أعمى وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى. أي: من القبور أحياء بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ. أي: حين همّوا بقتله، أي اليهود إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ. أي: المعجزات الواضحات فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وصفوا المعجزة بالسّحر، والرسول بالساحر وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ. أي: وإذ ألهمت الحواريين. والحواريون: هم الخواص أو الأصفياء أَنْ آمِنُوا. أي: آمنوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ. أي: اشهد بأننا مخلصون لله في إسلامنا وجوهنا إليه إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. أي: هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته؟ والعرب تستعمل استطاع وأطاع بمعنى واحد أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة هي الخوان إذا كان عليه الطعام قالَ اتَّقُوا اللَّهَ. أي: في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إذ الإيمان يوجب التقوى قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها. أي: تبركا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا. أي: وتزداد يقينا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا. أي: نعلم صدقك عيانا كما علمناه استدلالا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ. أي: نشهد بما عاينّا لمن بعدنا، ولمّا كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنّت قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا. أي: يكون يوم نزولها عيدا لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، أو للمتقدمين منا والأتباع وَآيَةً مِنْكَ. أي: على صحة نبوتي وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. أي: وأعطنا ما سألناك وأنت خير المعطين قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وعدهم الإنزال، وشرط عليهم في حالة الإنزال شرطا، هذا الشرط هو أنّ من يكفر بعد إنزالها فإنّ الله يعذبه تعذيبا لا يعذبه أحدا من عالمي زمانهم، فهل قبلوا الشرط وأنزل الله المائدة، أو أنّهم تركوا السؤال بعد سماعهم هذا الشرط؟ قولان للمفسرين، وسيأتي في الفوائد وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الجمهور على أنّ هذا السؤال يكون في يوم القيامة قالَ سُبْحانَكَ. أي: أنزهك من أن يكون لك

[سورة المائدة (5): آية 117]

شريك ما يَكُونُ لِي. أي: ما ينبغي لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. أي: أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. أي: إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته والمعنى: أني لا أحتاج إلى الاعتذار لأنك تعلم أني لم أقله ولو قلته لعلمته لأنك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي. أي: ما في ذاتي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ. أي: ما في ذاتك إذ نفس الشئ ذاته وهويته، والمعنى: تعلم معلومي، ومعلومك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ومن ذلك علم ما انطوت عليه النفوس ومن كان كذلك لا يصل إلى علمه علم أحد ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ. أي: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به، ثمّ فسّر ما أمره به أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً. أي: رقيبا ما دُمْتُ فِيهِمْ مدّة كوني فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ. أي: الحفيظ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أي: من قولي وفعلي وقولهم وفعلهم إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ علم عيسى عليه السلام أنّ منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال في جملتهم إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك، مكذّبين لأنبيائك، وأنت العادل، فإنهم كفروا بعد وجوب الحجة عليهم، وإن تغفر لمن أقلع منهم وآمن فذلك فضل منك، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك، أو عزيز بمعنى قادر على الثواب، حكيم بمعنى لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. أي: قال الله لعيسى عليه السلام: هذا يوم ينفع الصادقين فيه صدقهم المستمر في دنياهم وآخرتهم وهو يوم القيامة لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بالسعي المشكور وَرَضُوا عَنْهُ بالجزاء الموفور ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه باق، بخلاف الفوز في الدنيا فهو غير باق لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ هذا تعظيم لله من أن يكون معه إله آخر وهو مالك كل شئ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء. فوائد: 1 - [كلام صاحب الظلال عن حواريي عيسى] بمناسبة قوله تعالى على لسان الحواريين إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قال صاحب الظلال: «ويكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى .. المستخلصين منهم وهم

2 - ليس من الأدب مع الله الاقتراح بين يديه

الحواريون .. فإذا بينهم وبين أصحاب رسولنا صلّى الله عليه وسلّم فرق بعيد .. إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى. فآمنوا. وأشهدوا عيسى على إسلامهم .. ومع هذا فهم بعد ما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا، يطلبون خارقة جديدة تطمئن بها نفوسهم، ويعلمون منها أنه صدقهم. ويشهدون بها له لمن وراءهم. فأما أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم .. لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان. ولقد صدّقوا فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان، ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن .. هذا هو الفارق الكبير بين حواريي عيسى عليه السلام- وحواريي محمد صلّى الله عليه وسلّم- ذلك مستوى، وهذا مستوى .. وهؤلاء مسلمون، وأولئك مسلمون .. وهؤلاء مقبولون عند الله، وهؤلاء مقبولون .. ولكن تبقى المستويات متباعدة كما أرادها الله». 2 - [ليس من الأدب مع الله الاقتراح بين يديه] لاحظنا أن اقتراح الآيات على الرّسل ليس هو الأدب مع الله ورسله، وأنّ الاستجابة في هذه الحالة يرافقها شروط، ويشبه ما ورد هنا ما وقع لرسولنا عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قالت قريش للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: «وتفعلون؟» قالوا: نعم، قال فدعا، فأتاه جبريل فقال: إنّ ربك يقرأ عليك السّلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذّبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة، قال: «بل باب التوبة والرحمة». 3 - [أثر آية ... إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ .. ] يلاحظ أن ما قاله عيسى عليه السلام في هذا الموقف إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ... يقوله رسولنا عليه الصلاة والسلام في موقف من مواقف يوم القيامة، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بموعظة فقال: «يا أيها الناس. إنكم محشورون إلى الله- عزّ وجل- حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم

4 - شأن عظيم لآية .. إن تعذبهم فإنهم عبادك ..

منذ فارقتهم». 4 - [شأن عظيم لآية .. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ .. ] قال ابن كثير عن آية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ... وهذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها ثم ساق روايات منها: أ- روى الإمام أحمد ... عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلمّا أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها، قال: «إنّي سألت ربي- عزّ وجل- الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا». ب- روى ابن أبي حاتم .... عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا قول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فرفع يديه فقال: «اللهم أمّتي» وبكى، فقال الله يا جبريل، اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فأسأله ما يبكيه، فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال- وهو أعلم- فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمّتك، ولا نسوءك. 5 - [قول بأن سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن] أخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال: «آخر سورة أنزلت سورة المائدة». وهذا يجعل لهذه السورة أهمية خاصة إذ إنهّا نزلت بعد أن وصلت التربية الربانية لهذه الأمة إلى مرحلة عالية من النضج. 6 - [ما ورد في الأناجيل عما يشبه قصة المائدة] يلاحظ أنّ ما يسمّى بالأناجيل الأربعة المعتمدة عند النصارى حاليا ليس فيها إشارة إلى موضوع نزول مائدة من السماء، ونحن وإن كنا نجزم أن هذه الأناجيل ليست هي الإنجيل الذي أنزل على عيسى، وإن كانت قد تحوي فقرات منه، لأنها كما ذكرنا من قبل تمثل مدرسة بولس الذي ذكر في رسائله أنه لم يتلقه عن أحد، وأنه لم يتتلمذ على تلاميذ المسيح المباشرين، كما ذكر هو- إلا خمسة عشر يوما، ثم دخل في صراع معهم، ومن ثم لا نعتبر ما أثبتته هذه الأناجيل، أو رفضته إلا في الحدود التي أقرها وحي الله وحتى في هذه القضايا فإننا نستأنس استئناسا. وفي موضوع المائدة لا نجد كلاما عن رسولنا صلّى الله عليه وسلّم حول نزولها أو عدمه، وعلماء المسلمين أكثرهم على نزولها، والثابت عن مجاهد والحسن أنهما كانا يقولان بعدم نزولها. قال ابن كثير تعليقا على ما

ذهب إليه الحسن ومجاهد. وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النّصارى، وليس هو في كتابهم ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا، ولا أقل من الآحاد والله أعلم، ولكنّ الذي عليه الجمهور أنّها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير» أقول: يلاحظ في الأناجيل المذكورة أن فيها كلاما عن مائدة من مثل ما ورد في الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا: «فرفع يسوع عينيه ونظر أنّ جمعا كثيرا مقبلا إليه، فقال لفيلبس: من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء؟ وإنّما قال هذا ليمتحنه لأنّه هو علم، ما هو مزمع أن يفعل، أجابه فيلبس: لا يكفيهم خبز بمائتي دينار، ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا، قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس: هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان، ولكن ما هذا لمثل هؤلاء، فقال يسوع: اجعلوا الناس يتكئون، وكان في المكان عشب كثير. فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف، وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين، وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا فلما شبعوا قال لتلاميذه: اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شئ، فجمعوا وملئوا اثنتي عشرة قفّة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين، فلمّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم» فهل مثل هذا الكلام أصله قصة المائدة ثم حرّفت وبدّلت كغيرها فأصبحت على هذه الشاكلة، وكان أصلها ما ورد في القرآن، أو أن ما ذكره القرآن كان حادثا آخر. يلاحظ أن إنجيل مرقص ذكر القصة السابقة التي ذكرها إنجيل يوحنا، وذكر قصة أخرى في الإصحاح الثامن هي: «في تلك الأيام إذ كان الجمع كثيرا جدا ولم يكن لهم ما يأكلون، دعا يسوع تلاميذه وقال لهم: إني أشفق على الجمع لأن الآن لهم ثلاثة أيام يمكثون معي. وليس لهم ما يأكلون، وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين يخورون في الطريق، لأن قوما منهم جاءوا من بعيد، فأجابه تلاميذه: من أين يستطيع أحد أن يشبع هؤلاء خبزا هنا في البرّية؟ فسألهم: كم عندكم من الخبز؟ فقالوا: سبعة. فأمر الجمع أن يتكئوا على الأرض وأخذ السبع خبزات، وشكر وكسر وأعطى تلاميذه ليقدّموا، فقدّموا إلى الجمع وكان معهم قليل من صغار السمك، فبارك وقال أن يقدموا هذه أيضا، فأكلوا وشبعوا، ثمّ رفعوا فضلات الكسر سبعة سلال. وكان الآكلون نحو أربعة آلاف، ثم صرفهم، وللوقت دخل السفينة مع تلاميذه وجاء إلى نواحي دلمانوثة». وبعدها .. «فخرج الفريسيون وابتدءوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء

كلمة في السياق

لكي يجربوه فتنهد بروحه وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية». فهل في هذا النص الأخير إشارة إلى موضوع طلب المائدة ثم حرّف وصيغ هذه الصياغة المحرفة؟ كل ذلك ممكن ولا يترتب على كون المائدة نزلت أو لم تنزل شئ عملي، فنحن مؤمنون بنزولها إن كانت قد نزلت، وبعدمه إن لم تكن نزلت، ونؤمن بأنّ القرآن هو الحق الخالص. كلمة في السياق: بهذه الخاتمة تنتهي سورة المائدة وفيها يعرض الله مشهدا من مشاهد يوم القيامة حيث يخاطب الله الرسل عامّة، ويسألهم عما أجيبوا ويذكّر عيسى بنعمه، ومن ذلك إظهاره لاستجابته له عند ما طلب الحواريّون منه المائدة واشتراطه، ثمّ سؤاله عما إذا كان أمر الخلق بعبادته، وجواب عيسى بأنه لم يدع إلا لعبادة الله، وجواب الله له عمّا أعدّ للصادقين، وفي هذا ربط لنهاية السورة بما ذكر فيها من قصة النّصارى، وفي ذلك وضع للأمور في نصابها من أنّ النّجاة الحقيقيّة هي في عبادة الله، والصدق معه، والتسليم بربوبيته، وفي هذا المقام نتذكّر أنّ سورة المائدة امتداد لسورة النّساء، فهي تفصل في حيّز المحور العام لسورة النساء الذي هو اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... * مع كونها تختص بمحور خاص بها وهو وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. وهاهنا موضوع سيبرز معنا في ما بعد بشكل أوضح، كيف تفصّل سورة في محورها، وتخدم محل ذلك المحور في سياقه من سورة البقرة، وهو موضوع نؤثر هنا أن نمسه مسا رفيقا لأنه ستأتي أمثلة واضحة عليه، وعندئذ نقف عنده وقفات أطول ونكتفي هنا أن نقول: إن سورة النساء، والمائدة، والأنعام، تفصّل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، فسورة النساء تفصّل في الخمس آيات الأولى فيه. وسورة المائدة تفصّل في الآيتين التاليتين، وسورة الأنعام تفصّل في الآيتين الأخيرتين من المقطع، وسورة المائدة تفصّل في محورها، ومحورها مرتبط بما قبله، ومن ثم يظهر فيها ما له صلة بما قبل المحور من معان، فهي امتداد لسورة النساء من ناحية، وهي تفصل في محورها من ناحية أخرى، ومع هذا وهذا فلها سياقها الخاص بها، وعلى ضوء ما ذكرناه ندرك كيف أنّ

فصل في عالمية القرآن

سورة المائدة فصّلت في موضوع العبادة، والتقوى، وبشّرت أهل الإيمان والعمل الصالح، وعرّفت على الله، وعمّا يقرّب إليه، وما يبعد عنه، مع أنها قررت القضايا التي بها يكون الإنسان من الفاسقين، فحذّرت منها، وضربت الأمثلة على أنواع من نقض الميثاق، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، أو على أنواع من الإفساد في الأرض، وطالبت بما يقابل ذلك من أخلاق الإيمان. ولنذكّر بشيء كنّا ذكرناه من قبل: بدأ المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ... وانتهى بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وبدأت سورة النساء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ وانتهت بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وهذا يشعرنا أن محور سورة النساء هو المقطع كله، ولكن من خلال المعاني رأينا وسنرى أن الآيات الأربع الأخيرة في المقطع فصلتها سورتا المائدة والأنعام. فصل في عالمية القرآن: لم يحدّثنا القرآن الكريم إلا عن خمسة وعشرين رسولا، ولكنه أخبرنا أنه أرسل إلى كل أمّة لها لسانها الخاص رسولا وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا. (النحل: 36) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (إبراهيم: 40) إن اختيار خمسة وعشرين رسولا من مجموع الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الذي تحتاجه البشرية لاستيعاب كل ما يلزمها في قضية العبرة والقدوة، وبما يغطي الحياة كلها فمن خلال هذه القصص الحق لا يجد الإنسان حالة إلا ويرى العبرة والقدوة التي تلائم الحال التي هو عليها، ومن ثم كانت قصص القرآن- على محدودية عددها- مغطية للحياة البشرية في كل الأزمان والأماكن. وقد أخذت قصص أقوام الأنبياء وخاصة بني إسرائيل والنصارى حيزا كبيرا، وما ذلك إلا لأن ما وقعوا به يشبه ما وقعت به الأمم الأخرى، وما يمكن أن تقع فيه أمتنا، ولذلك فإنه وإن لم يذكر في القرآن كل الأمم وانحرافاتها، وكل الأديان وانحرافاتها، فإنّه ما من حادثة ولا انحراف إلا وقد قصّ علينا فيه ما نعرف أنّه انحراف، ومن خلال ما ذكر نعرف حكم ما لم يذكر. فمثلا في هذا العالم ديانات كبرى، كالديانة البوذية والمجوسية، والبرهمية، والكونفوشيوسية، لم تذكر صراحة في القرآن، ولكن من التتبع

كلمة أخيرة في سورة المائدة

نعرف أن فيما ذكر في القرآن ما نعرف به حكم كل جزئية في هذه الديانات، بحيث يعرف الإنسان حكم الله فيها، إنّ كثيرا ممّا قاله النصارى في شأن المسيح عليه السلام، قاله البوذيون في شأن بوذا، فمن عرف الحكم في هؤلاء، عرفه في هؤلاء، ومن عرف بم أقيمت به الحجة على هؤلاء، عرف كيف يقيم الحجة على هؤلاء. ولعل التركيز الأكبر الذي نراه على الديانتين اليهودية والنصرانية يعود إلى أنّ ما عند هؤلاء أكثر إيهاما للإنسان، ومن ثمّ فإنّه يمكن أن يكون أشد إضلالا، فإذ تقوم الحجة عليهما فإنّها على غيرهما أكثر إلزاما، وسنرى أمثلة ذلك فيما بعد ممّا يؤكد ما ذكرناه من أن ما ذكر في القرآن كاف في الرّد على ما لم يذكر، ومن هذا وغيره تتأكد عالمية القرآن، وهذا وحده كاف للدلالة على أن القرآن ليس وليد بيئة، بل هو كتاب الله عزّ وجل. كلمة أخيرة في سورة المائدة: بدأنا بعرض سورة المائدة على أنّها مقاطع، وانتهينا على أنهّا أقسام، كل قسم يضمّ أكثر من مقطع، وقد رأينا أدلّة ذلك، ورأينا أنّ سورة المائدة تتألّف من ثلاثة أقسام وخاتمة: القسم الأول: ويتألف من ثلاثة مقاطع، كان التركيز فيها بشكل مباشر أو ضمني على الوفاء بالعهود، وعلى وصل ما أمر الله به أن يوصل، وعلى النهي عن الإفساد في الأرض، وفيها تحدّد طريق الهداية، وطريق الضلال ثم جاء القسم الثاني: وقد ابتدأ بالنهي عن الحزن على الذين يسارعون في الكفر، وفيه تعمّقت معرفة طرق الضلال، وعمّق موضوع الالتزام بالكتاب، وموضوع وصل ما أمر الله به أن يوصل، وقطع ما أمر الله به أن يقطع، وقد شمل القسم الثاني مقطعين، ثمّ جاء القسم الثالث: آمرا بالبلاغ، معتمدا على ما ورد في القسمين الأولين، وقد جاء القسم الثالث على مقطعين: المقطع الأول في بلاغ أهل الكتاب، والمقطع الثاني في بلاغ أهل الإيمان، ثمّ جاءت الخاتمة فنقلتنا مباشرة إلى نتيجة البلاغ من خلال عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة إذ يسأل الله- عزّ وجل- الرّسل عن موقف أقوامهم من البلاغ، ويخص عيسى عليه السلام بالحوار ليخدم الحوار موضوع البلاغ في القسم الثالث وما سبقه مما له علاقة في موضوعه، وبهذا تكون سورة المائدة قد عرّفتنا على الفسوق، والخسران، وعلى ما يقابل ذلك، وعرّفتنا على ما به يستحق أحد الهداية أو الضلال، وعرّفتنا على المواثيق التي لا ينبغي أن تنقض، وعلى ما به تنقض وعلى ما أمر الله به أن يوصل، وعلى

ما به يقطع، وعلى الإفساد في الأرض، وعلى ما به يستأصل، وارتباط ذلك بمحور السورة واضح، وقد فصّلنا في ذلك كله، وهذا أوان الانتقال إلى تفسير سورة الأنعام.

سورة الأنعام

وهي السّورة السّادسة بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الخامسة من قسم الطّوال وآياتها مائة وخمس وستون وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة الأنعام

كلمة في سورة الأنعام: قلنا إن سورة النساء، والمائدة، والأنعام تفصل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة. وأن سورة الأنعام محل تفصيلها الآيتان الأخيرتان من هذا المقطع واللتان هما: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ولو أنك نظرت في السورة نظرة تأمل لوجدتها تفصيلا لهاتين الآيتين: فالآية الثانية من سورة الأنعام هي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ لاحظ صلتها بقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ والآية الأخيرة في السورة هي: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لاحظ صلة الآية الأخيرة من سورة الأنعام بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. والآية التي بعدها في سورة البقرة وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. إن الآية الثانية في المحور هي هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً والملاحظ أن كثيرا من آيات سورة الأنعام مبدوءة بقوله تعالى (وهو) وكثير من هذه الآيات تفصيل لكون الأرض بما فيها مخلوقة للإنسان. وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ 3 وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 18 وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ .... 60 وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ... 61 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ... 73 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... 97

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ 98 وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ .... 99 وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ .... 141 وآخر آية في السورة: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ .... 165 ولقد جاءت آيات المحور في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فالمحور جاء يناقش الكافرين بالله، ويقيم عليهم الحجة في سياق الأمر بعبادة الله وتوحيده، ومن ثمّ فإنّ سورة الأنعام التي هي تفصيل لذلك المحور، تبدأ بما يشير إلى ذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ومنها أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ 56 قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ ... 71 وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً .... وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ... قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً .... قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ .. 164 من هذه المقتطفات ندرك أن سورة الأنعام تفصّل في محورها من سورة البقرة الآتي في حيز قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... ومن ثم فهي تفصيل للمحور في سياقه من سورة البقرة.

وقد رأينا منذ الكلام عن سورة آل عمران أن محاور السّور من سورة البقرة لها امتدادات معان في سورة البقرة نفسها، وأن السّور التي تفصّل في محاور من سورة البقرة، تفصّل في هذه المحاور وامتدادات معانيها، فتشد إلى المحور من سورة البقرة ما هو ألصق به، ثمّ تفصّل الجميع أو تبني على الجميع وأثناء عرضنا لسورة البقرة رأينا صلة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. فالله الذي خلق ما في الأرض للإنسان، أباح له أن يأكل منها إلا ما حرّم عليه. وفي سورة الأنعام تأتي تفصيلات في هذه الشئون وغيرها مما يعتبر تفصيلا لامتدادات معاني المحور في سورة البقرة. فمثلا يوجد في سورة الأنعام تفصيل وحوار في ما أحلّ وحرّم من المطعومات وهذه نماذج: 6/ 120 - 118

6/ 121 فسورة الأنعام تفصّل في محورها من سورة البقرة، وفي محلّ هذا المحور من مقطعه، وفي امتدادات معاني هذا المحور من سورة البقرة. تأتي سورة الأنعام كلا متكاملا، فهي تفصّل في ما ذكر، ولكن ضمن سياقها الخاصّ بها، ووحدتها الخاصة بها، فإذا لاحظت أن سورة الأنعام مكية، وأن سورة البقرة مدنية- أي متأخرة في النزول عنها- ثم رأيت كيف أن سورة الأنعام تفصّل فيما أجمل في سورة البقرة، أو تبني عليه، أدركت مظهرا من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن، وأنّ كل شئ فيه يدلّك على أنّه يستحيل أن يكون بشريّ المصدر، بل هو كلام الله- عزّ وجل- وسنرى أثناء عرض السورة مزيدا من بيان ارتباط سورة الأنعام بمحورها ومحله من سياقه، وامتدادات معانيه في سورة البقرة، ولكنّا أحببنا هنا أن نضع نقاط علّام كبرى.

فصول ونقول

لقد فصّلت سورة النساء، والمائدة، والأنعام في مقطع الطريقين من سورة البقرة، المقطع الذي دلّ على طريق التقوى، وحدّد طريق الانحراف، وناقش أصل الانحراف، وهو الكفر، مدلّلا على وجوب التوحيد والعبادة، شكرا لله على ما أعطى الإنسان وسخره له. إن مقطع الطريقين بدأ بالدعوة إلى العبادة، معلّلا لوجوبها بخلق الله عزّ وجل للإنسان، وخلقه الأشياء من أجله، وانتهى بمناقشة الكافرين بالله، وإقامة الحجة عليهم من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وجاءت السور الثلاث لتفصّل في هذا كله مع ملاحظة: أنّ كلا من السور الثلاث تفصّل في محورها الخاصّ بها، وتخدم في موضوع المقطع كله، فكل سورة من السور الثلاث تخدم في تفصيل محورها بشكل أوّلي، وتخدم بقية المقطع، فتمّ بالسور الثلاث التعريف على الله، وتقرير الرجوع إليه، وتفصيل ماهية التقوى وطريقها سلبا أو إيجابا أي: ما ينبغي أن يحذر، وما ينبغي أن يفعل، وسورة الأنعام كما ذكرنا تفصّل في محورها الذي هو كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مع كونها تكمّل بناء معرفة الطريقين الذين دلّت عليهما سورة النساء وسورة المائدة. فصول ونقول فصل في نقل عن الألوسي في وجه مناسبة سورة الأنعام لسورة المائدة: قال الألوسي: «ووجه مناسبتها لآخر المائدة على- ما قال بعض الفضلاء- أنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: أنه تعالى لمّا ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله، فبدأ سبحانه بذكر خلق السموات والأرض، وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه ما فيهن، ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلا، وجعل له أجلا آخر للبعث، وأنه جل جلاله منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ الخ .. فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عزّ من قائل: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدوّاب والطير، ثم

خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عزّ وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النّيّرين والنجوم، وفلق الإصباح، وفلق الحب والنوى، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الخ .. وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ الخ .. فأخبر عن الكفار أنهم حرّموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عزّ شأنه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك؛ فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق جلّ جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم، فأتى به على الوجه الأبين، والنّمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك، مما اشتملت عليه السورة، فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك، لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته، إباحة ومنعا، وتحريما وتحليلا، فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وقوله عزّ اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله تعالى جل وعلا وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ الخ .. وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات. وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع، ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفرايني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام، وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد، وافترائهم الباطل هذا، ثم أنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى ممّا تفوت الحصر، ولا يحيط بها نطاق العد، إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى، وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة، وأشير في الفاتحة- التي هي أم الكتاب- إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى الإبقاء الأول. وفي سبأ الإيجاد الثاني، وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد.

نقول من الظلال تعرف على السورة

نقول من الظلال تعرّف على السورة: يقول صاحب الظلال: هذه السورة مكيّة .. من القرآن المكي .. القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة عشر عاما .. ، يحدثه فيها عن قضية واحدة. قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديد حتى لكأنّما يطرقها للمرة الأولى؟ لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا الدين الجديد «قضية العقيدة» ممثلة في قاعدتها الرئيسية .. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة. لقد كان يخاطب بهذه القضية «الإنسان». الإنسان بما أنه إنسان .. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان، والإنسان العربي في كل زمان. كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان في ذلك الزمان وفي كل زمان! إنها قضية «الإنسان» التي لا تتغير، لأنها قضية وجوده في هذا الكون، وقضية مصيره. قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء .. وهي قضية لا تتغير، لأنها قضية الوجود والإنسان! لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده، ووجود هذا الكون من حوله كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء؛ وكيف جاء، ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هنا؟ .. وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ .. وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضا، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد. وكانت هذه القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود الإنسان. وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده، على توالي الأزمان .. .... وهذه السورة- مع ذلك- تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة .. إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف، وفي كل مشهد، تمثل «الروعة الباهرة» .. الروعة التي تبده النفس، وتشده الحس، وتبهر النفس أيضا؛ وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا. نعم! هذه حقيقة؟ حقيقة في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها .. وما أظن بشرا ذا قلب لا يجد منها لونا من هذا الذي أجد .. إن

الروعة فيها تبلغ فعلا حد البهر. حتى لا يملك القلب أن يتابعها إلا مبهورا مبدوها! إنها- في جملتها- تعرض «حقيقة الألوهية» .. تعرضها في مجال الكون والحياة، كما تعرضها في مجال النفس والضمير، وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون .. وتعرضها في مشاهد النشأة الكونية، والنشأة الحياتية، والنشأة الإنسانية، كما تعرضها في مصارع الغابرين، واستخلاف المستخلفين .. وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون، وتواجه الأحداث، وتواجه النّعماء والضّراء كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة .. وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة، ومواقف الخلائق وهي موقوفة على ربها الخالق .. إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة، بكل مقوماتها وبكل مكوناتها. وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية، وتطوّف بها في الوجود كله، وراء ينابيع العقيدة وموحياتها المستسرّة والظاهرة في هذا الوجود الكبير .. إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السموات والأرض، تلحظ فيها الظلمات والنّور، وترقب الشمس والقمر والنّجوم. وتسرح في الجنات المعروشات وغير المعروشات، والمياه الهاطلة عليها والجارية فيها؛ وتقف بها على مصارع الأمم الخالية. وآثارها البائدة والباقية. ثم تسبح بها في ظلمات البر والبحر، وأسرار الغيب والنفس، والحي يخرج من الميت، والميت يخرج من الحي، والحبة المستكنة في ظلمات الأرض، والنطفة المستكنة في ظلمات الرحم. ثم تموج بالجن والإنس، والطير والوحش، والأولين والآخرين، والموتى والأحياء، والحفظة على النفس بالليل والنهار .. إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس، وأقطار الحس .. ثم إنها اللمسات المبدعة المحيية، التي تنتفض بعدها المشاهد والمعاني أحياء في الحس والخيال .. وإذا كل مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر، جديد نابض، كأنما تتلقاه النفس أول مرة، وكأنما لم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان! وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها، متشابكة معها؛ في المجرى المتصل المتدفق! ..... روى أبو بكر بن مردويه- بإسناده- عن أنس بن مالك قال: قال رسول

فصل: بمناسبة أن سورة الأنعام تعمق معاني العقيدة

الله صلّى الله عليه وسلّم «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج». ورسول الله يقول: «سبحان الله العظيم. سبحان الله العظيم». هذا الموكب، وهذا الارتجاج، واضح ظلهما في السورة، إنها هي ذاتها موكب. موكب ترتج له النفس، ويرتج له الكون! .. إنها زحمة من المواقف والمشاهد والموحيات والإيقاعات! .. وهي- كما قلنا من قبل- تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها، في المجرى المتصل المتدفق.» فصل: بمناسبة أن سورة الأنعام تعمّق معاني العقيدة: الذين يتكلمون عن موضوع تعميق العقيدة يفطنون إلى الكثير ممّا يعمّقها، وقد يغيب عن بعضهم أشياء، وهذا التفسير يعتبر من مهمّاته الإشارة إلى مثل ذلك كلما جاءت مناسبة، وسيستكمل هذا الموضوع في القسم الثاني من هذه السلسلة (سلسلة الأساس في المنهج) ونحب هنا أن نشير إلى نقطة في هذا الموضوع فنقول: إن تعميق الإيمان يحتاج إلى جانبين: جانب نظري وجانب عملي. أما الجانب النظري فيتمثل في الأدلة والبراهين، وأما الجانب العملي فيتمثل في المذكّرات قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: 28) والذكر والصلاة من أهم المذكّرات، ولذلك فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأصحاب كانوا مكلفين بأوائل سورة المزّمل التي أمرت بالقيام الطويل، والذكر الكثير لما في ذلك من آثار على القلب. وقد يجتمع الجانبان في بعض العبادات: كعبادة التفكر وكقراءة القرآن. فالقرآن يقدّم الدليل وهو في الوقت نفسه مذكّر، والتفكر نوع تذكّر. وهو الدليل على الدليل. فإذا ما اتضح ذلك فإننا نذكّر القارئ بالإكثار من التفكر في مخلوقات الله، وبالإكثار من قراءة القرآن، مع التفكر والتدبر، ونذكره بالإكثار من الصلاة ومن الذكر بأنواعه من استغفار، إلى صلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تسبيح وتكبير وتهليل، إلى غير ذلك من الأذكار، إذا ما أراد أن ينمو إيمانه ويطمئن قلبه ببرد اليقين. آثار: أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها

كلمة في أقسام السورة ومقاطعها

وأما القسم الثاني في السورة فيمتدّ من الآية (95) حتى نهاية السورة أي نهاية سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح، وروى الحاكم بإسناد قال عنه صحيح على شرط مسلم، عن جابر، قال لما نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: لقد شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق». وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتجّ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: سبحان الله العظيم. سبحان الله العظيم». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد». وروى سفيان الثوري ... عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت سورة الأنعام على النّبي صلّى الله عليه وسلّم جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة». وفي رواية أخرى عن أسماء قالت: نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا ما بين السماء والأرض». أقول: وحول كون السّورة نزلت بمكة كلها دفعة واحدة، أو أن بعض آياتها نزلت في المدينة خلاف كبير، مرجعه إلى الاختلاف في قوة بعض الروايات. وقد رجّح صاحب الظلال، كما رجح غيره من قدماء المفسرين، أنها نزلت جملة واحدة في مكة، وناقش آخرون في ذلك، وسيمر معنا في عرض السورة شئ مما له صلة بذلك. كلمة في أقسام السورة ومقاطعها: تتألف سورة الأنعام من قسمين: القسم الأول ويمتدّ حتى نهاية الآية (94) بدايته بداية السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ونهايته قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. لاحظ أن الآية الأولى في القسم الأول تتحدث عن الشرك في الدنيا، وأن الآية الأخيرة تتحدث عن حال الشرك وأهله يوم القيامة.

كلمة في بعض العلامات التي تدلنا على المقاطع

الآية (165): يبدأ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وينتهي بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ. والصلة واضحة بين ما خلق الله للإنسان، وبين كون الإنسان خليفة على هذه الأرض. ومن تأمل مقدمتي القسمين ومضمونهما اتضح له بما لا يقبل الجدل صلة ذلك بمحور السّورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يتألف القسم الأول من سورة الأنعام من ثلاثة مقاطع كما سنرى ويتألف القسم الثاني من مقطعين. كلمة في بعض العلامات التي تدلنا على المقاطع: من الملاحظ أنّ الآية الأولى في سورة الأنعام مبدوءة ب (الحمد لله) ثم تأتي الآية الثانية مبدوءة بقوله تعالى: (هو)، والآية الثالثة مبدوءة بقوله تعالى: (وهو) ثم تتكرر كلمة (وهو) في السورة كثيرا كما رأينا، فكأنها معطوفة على (هو) الأولى في السورة، وإنّ من العلامات التي تحدّد بدايات ونهايات بعض المقاطع في السورة أن نرى (وهو) فقد اعتدنا في السياق القرآني أن نرى مقطعا تشبه بدايته نهايته، ولذلك نرى أن آخر مقطع في السورة بدايته وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ. فأول آية فيه مبدوءة بقوله تعالى: (وهو) وآخر آية فيه مبدوءة بقوله تعالى: (وهو). وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ .. وقد نرى مقاطع ليست مبدوءة بمثل هذا ولا مختومة بمثله، وقد نرى مقاطع مبدوءة بذلك وليست مختومة به، ولقد جرينا على أن نعتمد مثل هذه العلامات حيث وجدت وساعد المعنى في تحديد بداية المقطع أو نهايته، ولكن الشئ الأكثر تحديدا والذي يجعلنا نحدّد به المقطع أو القسم بشكل دائم بداية ونهاية هو المعنى. وسنرى ذلك واضحا في هذه السورة. وكما قلنا فإن السورة تنقسم إلى قسمين كبيرين، وكل قسم يتألف من أكثر من مقطع، وسنرى كيف أنّ المعاني مع بعض العلامات تحدّد لنا الأقسام والمقاطع على صعوبة ذلك لقوة تلاحم معاني السّورة حتى قال صاحب الظلال: «فلا يمكن تجزئة

السورة إلى مقاطع، كل منها يعالج جانبا من الموضوع إنّما هي موجات .. وكل موجة تتفق مع التي قبلها وتكمّلها» ولكن ومع كون السّورة موجات، فسنرى كيف أن نقاط علام واضحة تحدّد لنا أقسام السورة ومقاطع كل قسم. ***

القسم الأول من السورة وهو الآيات (1 - 94)

[القسم الأول من السّورة وهو الآيات (1 - 94)] المقطع الأول من القسم الأول في السّورة: ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (17) وهذا هو: 6/ 9 - 1

كلمة في تحديد المقطع

6/ 17 - 10 كلمة في تحديد المقطع: سيأتي بعد الآية الأخيرة من هذا المقطع قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. وهي أوّل آية مبدوءة بقوله تعالى (وَهُوَ) بعد الآية الثالثة من السّورة، وهي علامة من جملة العلامات التي نستأنس بها لتحديد المقطع. فالذي دلّنا على نهاية المقطع المعنى من ناحية، وأن هناك أكثر من دليل نستأنس به لبداية المقطع اللاحق ونهايته، وتحديد بداية ونهاية المقطع اللاحق هو تحديد ضمني للمقطع السابق.

كلمة في المقطع الأول

كلمة في المقطع الأول: قلنا إن محور سورة الأنعام من سورة البقرة هو قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وفي المقطع الأول من سورة الأنعام تأتي الآيات الثلاث الأولى لتقرر هذه المعاني وتبني عليها، فتقرّر أنّ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وخلق الظلمات والنّور. وتقرّر أنّ الله عزّ وجل خلق الإنسان من طين، وجعل له أجلا، ثم جعل أجلا أخيرا للبشر جميعا، وأن لله الألوهية في السموات والأرض، وأنه يعلم السرّ والجهر، ومع ذلك فالنّاس يشركون بربهم، ويشكّون بالله واليوم الآخر. إن الآيات الثلاث الأولى التي تشكّل مقدمة السورة، تتكلم عن كل معاني المحور، وتقرر ما قرّرته، وتبني على ذلك، وتتحدث عن كفر الإنسان وشكّه وافترائه، فالصلة واضحة جدا بين مقدّمة السورة في آياتها الثلاث، وبين محور سورة الأنعام من البقرة، وإذ كان محور السورة يعجّب من كفر الكافرين، فإن الآيات السبع التي تأتي بعد المقدمة تحدّثنا عن مواقف الكافرين إذا جاءتهم الآيات، وكيف أنّهم يكذّبون بالحق إن جاءهم، وأنه لو أنزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه لزعموا أنه سحر، وكيف أنهم يقترحون أن ينزل على الرسول ملك، وخلال ذلك يلفت الله عزّ وجل نظرهم إلى القرون الماضية ليعتبروا، وأما كون بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من البشر فذلك مقتضى حكمة الله عزّ وجل وابتلائه، وبيّن الله عزّ وجل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن الاستهزاء بالرّسل صلوات الله وسلامه عليهم سنّة ماضية، وأن عقوبة الله لهؤلاء المستهزئين سنة ماضية، وهكذا نجد أن الفقرة التي تأتي بعد مقدمة سورة الأنعام كلها تصبّ في النقاش المباشر مع الكافرين. وصلة ذلك بمحور السورة من البقرة واضحة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ .... ثم يختم المقطع بأوامر توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأمره أن يعلن فيها مجموعة إعلانات وبأن يقول مجموعة أقوال، قول يأمرهم به أن يسيروا في الأرض ليكتشفوا عاقبة المكذّبين، وقول يوجّه لهم فيه سؤالا عن السموات والأرض لمن هي، ثمّ يقرّر أنها لله عزّ وجل، وقول يعلن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه لا يتخذ وليا إلا الله، وقول يعلن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خوفه من الله وخشيته من عذابه يوم القيامة، وهكذا نجد أن المقطع

المعنى العام

الأول في السورة فصّل في مضمون محور السورة، وبنى عليه وناقش الكافرين. وبيّن الموقف الصّحيح لأهل الإيمان، وكل ذلك كان ضمن سياق السورة الخاص الذي يبدأ بالتعريف على الله عزّ وجل، وما تقتضيه هذه المعرفة من شكر لله عزّ وجل، ثم تبدأ السورة في مناقشة الكافرين، وتبيان الخطأ في مواقفهم، وتعلّم أهل الإيمان ماهيّة الموقف الحق. فإذا اتضح محل المقطع بالنسبة للسياق القرآني العام، وأن لسورة الأنعام سياقها الخاص بها. فلنبدأ بعرض المعاني العامة للمقطع الأول: المعنى العام: يبدأ الله عزّ وجل السورة مادحا نفسه الكريمة، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض لعباده، وجعله الظلمات والنور منفعة لعباده، وقد جمع لفظ الظلمات ووحّد لفظ النور لكونه أشرف، وبيّن أنّه مع هذا كله كفر به أكثر عباده، وجعلوا له شريكا وعدلا، واتخذوا له صاحبة وولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ثمّ بيّن تعالى أنّه خلق أبانا آدم- الذي هو أصلنا ومنه خرجنا من طين، فانتشرنا في المشارق والمغارب. وقد قضى لكل إنسان أجله الخاص، وقدّر وقضى لهذا العالم كله أجله وهو عمر الدنيا بكمالها، ثم انتهاؤها وقضاؤها وزوالها وانتقالها، والمصير إلى الدار الآخرة. وهذا أمر لا يعلمه إلا هو، ومع هذا فإنّ النّاس يشكّون في أمر الساعة، وقد بيّن استحقاقه للحمد، وكمال قدرته، ومظاهر هذه القدرة، ومظاهر إنعامه على خلقه، وكيف أنّه مع ذلك يشرك به من أشرك، ويشكّ باليوم الآخر من يشك، ومن هذه المقدمة ندرك أن المحور العام للسورة مناقشة الكفر وأهله، وتقرير قدرة الله، والتدليل على عنايته لاستخراج الشكر وإكمال المعرفة بالله، وهذه القضايا هي التي نجدها في آيتي سورة البقرة اللتين قلنا عنهما إنهما محور سورة الأنعام. ثمّ بدأ الكلام بعد المقدمة مقرّرا أنه تعالى هو المدعو والمسمى الله في السموات وفي الأرض، أي يعبده ويوحّده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا، إلا من كفر من الجن والإنس، وأنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سرّ وجهر، فيعلم سرّنا وجهرنا، ويعلم كسبنا وجميع أعمالنا، خيرها وشرها، وبعد أن يخبر سبحانه عن ربوبيته للسماوات والأرض، وإحاطة علمه بما فيها، يخبر عن المشركين المكذّبين المعاندين أنهّم كلّما أتتهم آية أي: دلالة ومعجزة وحجّة ممّا يدلّ على وحدانية الله، وصدق رسله الكرام، فإنهم

يعرضون عنها، فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها. وكمثال على ذلك تكذيبهم بالقرآن الذي هو أعظم آية وأكبرها إعجازا، ثمّ هدّدهم وتوعّدهم وعيدا شديدا على تكذيبهم بالحق، بأنه لا بدّ أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب، وليجدنّ غبّه وليذوقنّ وباله، ثم قال تعالى واعظا ومحذّرا لهم أن يصيبهم من العذاب والنّكال الدنيوي ما حلّ بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة، الذين كانوا أشدّ منهم قوّة وأكثر جمعا، وأكثر أموالا وأولادا، واستعلاء في الأرض وعمارة لها، أعطاهم من الأموال والأولاد والأعمال والجاه العريض، والسّعة والجنود، وأكثر عليهم من أمطار السماء، وينابيع الأرض، استدراجا وإملاء لهم، ثم أهلكهم بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ليختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم. إنّ الإنسان لو تأمّل هذا الموضوع، فتأمّل فعل الله في الأمم السالفة فإنّه يتّعظ ويؤمن، ويترك الكبر والكفر، ويعمل لله، ويعمل لآخرته، ويوقن أنّه كان واجب السابقين الشكر ولم يشكروا، وأنّ واجب اللاحقين الشكر فليشكروا، والمتأمل يرى كيف أن المقطع يسير على نسق المحور العام لسورة الأنعام في مناقشة الكافرين، بالتدليل على قدرة الله، واستخراج شكره، والتهييج على معرفته، وتقرير الرجوع إليه. ثمّ يستمرّ المقطع بالإخبار عن المشركين، وعنادهم ومكابرتهم للحق، ومباهتتهم ومنازعتهم فيه، حتى لو أنزل عليهم كتاب من السماء فعاينوه ورأوا إنزاله، وباشروا ذلك لقالوا: إنّ هذا سحر واضح، فالعلّة في كفر الكافرين إذن هي مرضهم لا قلّة الآيات ولا انعدامها، فالآيات موجودة وكثيرة، ولكن طبيعتهم الجاحدة هي التي تستكبر عن الرؤية والإيمان، وكأثر عن هذه الطبيعة الكافرة الجاحدة اقتراحهم الاقتراحات من أجل الإيمان- في زعمهم- وهم كذبة، ومن اقتراحاتهم ما قصّه الله علينا في هذا السياق أنّهم اقترحوا أن ينزل عليهم ملك من السماء ليكون مع رسول الله نذيرا. وقد ردّ الله عليهم أنّه لو نزّل الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب، فتلك سنّة الله، ثمّ بين لهم أنّه حتى لو أنزل مع الرسول البشري ملكا، أي: لو بعث إلى البشر رسولا ملكيا لكان على هيئة الرجل لتمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبّسون على أنفسهم في قبول رسالة الرّسول البشريّ، فلو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل؛ لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة من النّور، وفي هذه الحالة يبقى الالتباس، والخلاصة أنهم اقترحوا نزول الملك وذلك يخالف السّنن؛ لأن الملك من عالم الغيب، وقد أمروا أن يؤمنوا بالغيب؛ ممتحنين في ذلك، وهم لا يقومون بواجبهم ويقترحون على الله تغيير سننه، ولو أنّه

سبحانه غيّرها لما أفادهم ذلك شيئا، لأنّ العلّة في الأصل موجودة فيهم. فالعلّة هي الطبيعة الكافرة الجاحدة، ولا شكّ أنّ اقتراح الآيات والمقترحات الفاسدة وتعليق الإيمان عليها يجرح قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المكلّف من الله بالدعوة إليه، ومن ثمّ اتجه السياق ليعزّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنّ رسلا من قبله قد استهزئ بهم، فأحاط بأقوامهم العذاب ونزل بهم في النهاية، وفي هذا تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم في تكذيب من كذّبه من قومه، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للناس: أن يضربوا في الأرض معتبرين فينظروا ما أحلّ الله بالقرون الماضية- الذين كذبوا رسله وعاندوهم- من العذاب والنّكال والعقوبة في الدنيا مع ما ادّخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجّى رسله وعباده المؤمنين، هذا هو المعنى الأوّل الذي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله للناس، ثم أمره أن يوجّه لهم سؤالا، وأن يجيب على هذا السؤال، وأن يبني عليه، أمره أن يسألهم لمن ما في السموات والأرض، وأن يجيب هو على هذا السؤال بأن الله هو مالك السموات والأرض، وأن الله الذي هو مالك السموات والأرض قد كتب على ذاته المقدسة الرحمة، وأقسم بذاته المقدسة أنه سيجمع عباده يوم القيامة، وذلك من مظاهر رحمته، وأخبرنا عن هذا اليوم بأنّه هو اليوم الذي لا شك في وقوعه، ولا ريب عند عباد الله المؤمنين فيه، فأما الجاحدون المكذّبون فهم في ريبهم يترددون، وهم سيخسرون أنفسهم يوم القيامة؛ لعدم تصديقهم بالمعاد؛ وعدم خوفهم شرّ ذلك اليوم. والله الذي هو مالك ما في السموات وما في الأرض، مالك كل دابّة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرّفه وتدبيره لا إله إلا هو، وهو السّميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم، وبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالأمرين السابقين أمره أن يأمرهم بالاعتبار، وأن يبلّغهم مالكية الله لما في السموات والأرض ورجوع الخلق إليه، أمره أن يعلن، أنّه- أي رسول الله- لا يتخذ وليّا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، الذي أبدعهما على غير مثال سبق، إذ هو الرّازق لعباده من غير احتياج إليهم، ثمّ أمر أن يعلن أنّه أمر أن يكون أول الناس إسلاما وألّا يكون مشركا، ثمّ أمره أن يعلن أنه يخاف عذاب الله العظيم إن عصاه، وهو العذاب الذي من صرفه الله عنه فقد رحمه، وذلك أعظم أنواع الفوز، وبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للكافرين ما رأينا، وأن يعلن لهم ما مرّ معنا، بيّن لرسوله أنّه هو الله مالك الضرّ والنّفع، وأنه المتصرّف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، وأنّه لا يكشف الضّرّ إلا هو، ولا يصيب بالخير إلا هو، وإذا أراد أن يصيب أحدا بضرّ فلا يكشفه أحد، وإذا أراد أن

فائدة

يصيب أحدا بخير فإنّه القادر على كل شئ. ومجئ الآية الأخيرة في سياق الأمر بالتّبليغ والأمر بالإعلان واضح الحكمة؛ إذ قد يترتب على البيان أو الإعلان ضرر، فوضّح أنّ النّفع والضر بيد الله وحده، فليطمئن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده المؤمنون. ومن خلال هذه المعاني ندرك كيف أنّ المقطع عرّفنا على الله، وناقش الكفرة ولفت نظر الكافرين ليعتبروا، وردّ على اقتراح من مقترحاتهم، وأمر رسوله أن يبلغهم معاني، وأن يعلن لهم مواقف، وطمأنه على النتيجة. فائدة: إنّ الجحود والإنكار واقتراح الآيات علاجه ما ذكر في هذا المقطع، ومن ثمّ فإنّ على دارس المقطع أن ينتبه إلى ما لفت إليه النظر، وأن ينتبه إلى الأوامر المصدرة بكلمة (قل) فإنّها تمثّل الموقف المداوي والمكافئ لمواقف الكافرين. المعنى الحرفي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ هذا تعليم بأن من خلق يستحق الحمد، وإن لم يحمده الجاحدون. وفي كتابنا «الله جل جلاله» من سلسلة الأصول الثلاثة تحدثنا عن ظاهرة حدوث الكون، وعن ظاهرة الحكمة فيه، وكيف أنّهما يدلّان على الله بما لا يقبل الجدل، فليراجع. وفي قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إشارة إلى ظاهرة الحدوث وفي قوله: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ إشارة إلى ظاهرة الحكمة، وأن الواجب لله الشكر على ما خلق وجعل، ومعنى جعل هنا: أحدث وأنشأ والمجوس يقولون: بقدم الظلمة والنور. والماديون يقولون: بقدم العالم. وفي النّص ردّ على الجميع وفي كتابنا المذكور رد علمي وعقلي على فكرة قدم المادّة، وأفرد النّور لإرادة الجنس؛ ولأنّ ظلمة كل شئ تختلف باختلاف ذلك الشئ فظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منهما صاحبه، والنّور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات، وحتى في الظلمة القلبية فظلمة الكفر غير ظلمة النفاق، وظلمتهما غير ظلمة الفسوق، ونور الهداية واحد ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: ومع هذا كله فإن الكافرين يساوون به غيره. تقول: عدلت هذا بهذا إذا ساويته به، واستعمال (ثمّ) في المقام يفيد استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، فما أفظع فعلهم! إنّه بدلا من أن يحمدوه كفروا نعمته وعدلوا به سواه مما لا يقدر على شئ من الخلق.

[سورة الأنعام (6): آية 2]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. أي ابتدأ خلق أصلكم أي آدم منه ثُمَّ قَضى أَجَلًا. أي: حكم بالموت وقدّره وقضاه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. أي: أجل القيامة، ويحتمل أن يكون المراد بالأجل الأول: ما بين أن يخلق الإنسان إلى أن يموت. وبالأجل الثاني البرزخ: وهو ما بين الموت والبعث، ويحتمل أن يكون المراد بالأجل الأول: النوم، وبالثاني: الموت. ويحتمل أن يكون المراد بالأجل الثاني هو الأول ويكون التقدير: ثمّ قضى أجلا مسمّى عنده أي معلوم ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ تحتمل أن تكون من المرية فيكون المعنى: ثم أنتم تشكون، ويحتمل أن يكون من المراء فيكون المعنى ثم أنتم تجادلون ويفيد مجئ (ثم) في هذا المقام استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنّه محييهم ومميتهم وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ. أي: وهو المعبود فيهما، أو هو المعروف بالإلهية فيهما، أو هو الذي يقال له الله فيهما يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ. أي من الخير والشرّ ويثيب عليه ويعاقب. كلمات ونقول في الآيات الثلاث: هذه الآيات الثلاث هي مقدمة السورة، كما أنّها مقدمة المقطع الأول، وبحكم أنهّا مقدمة السّورة فهي تشير إلى مضمونها، وإذ كان مضمون السورة مرتبطا بمحور السّورة من البقرة، فإن هذه الآيات الثلاث تكاد تعرض لمحور السورة بشكل واضح. ولنعقد مقارنة بين محور سورة الأنعام من سورة البقرة وهذه المقدمة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذه هي الآية الأولى في المحور، لاحظ صلتها بالآية الثانية من مقدمة سورة الأنعام: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. والآية الثانية في محور السورة هي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. لاحظ صلة معانيها بالآية الأولى والثالثة من مقدمة سورة الأنعام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ... وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ إن محور سورة الأنعام من سورة البقرة يعجّب من كفر الكافرين، وينكر عليهم، ومقدمة سورة الأنعام تدلّنا على الشكر بدل الكفر الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كما أنها تعرض علينا مواقف الكافرين ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. لقد أقامت الآيتان اللتان هما محور سورة الأنعام من سورة البقرة الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، وكلاهما مرتبط بظاهرة الخلق، وهاهنا تتحدث الآيات الثلاث عن هذه الظواهر كلها، وفي هذه الآيات الثلاث يقول صاحب الظلال: «إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة، إنّما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل «الخلق» ودليل «الحياة» ممثلين في الآفاق وفي الأنفس، ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطابا جدليا، لاهوتيا أو فلسفيا! ولكن خطابا موحيا موقظا للفطرة، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء، وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه. ووجود السماوات والأرض، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة- وحياة الإنسان في قمتها- وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه، كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله، والوحدانية هي القضية التي تستهدفها السورة كلها- القرآن كله- وليست هي قضية (وجود) الله. فلقد كانت المشكلة دائما في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله! ... ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، ولتقرير الحاكمية، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله. والحقيقة أن هناك شكا كثيرا فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم! فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلّها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية، كيلا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم- كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقة الذي توفره العقيدة! .... إن وجود هذا الكون الذي ابتدأ بهذا النظام الخاص، يستلزم- بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء- أن يكون وراءه خالق مدبّر، فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود .... كذلك نشأة هذه الحياة. والمسافة بينها وبين المادة- أيا كان مدلول المادة

[سورة الأنعام (6): آية 4]

ولو كان هو الإشعاع- لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبّر. يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضا بعد وجودها. والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرّد الحياة ... ولا بد من إرادة مدبّرة تمنح الإنسان الحياة، وتمنحه خصائص الإنسان. .... إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة!». *** ولنعد إلى عرض المعنى الحرفي، فبعد المقدمة تأتي مجموعتان في المقطع الأول: مجموعة تبين بعض مواقف الكافرين، وتناقشهم، وتحذرهم، ومجموعة تأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخاطبهم بمعان: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ أي: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلّة التي يجب فيها النظر والاعتبار وتؤدي إلى الإيمان إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. أي: إلا كانوا تاركين للنظر فيها لا يلتفتون إليها لقلة خوفهم وتدبّرهم في العواقب وأعظم آية القرآن، وأعظم دليل على إعراضهم عن الآيات تكذيبهم له فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ. أي بالقرآن وهو أعظم آية وأكبرها، بدليل أنهم تحدّوا فعجزوا عنه لَمَّا جاءَهُمْ. أي حين جاءهم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. أي فسوف يأتيهم أنباء الشئ الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن، أي أخباره وأحواله يعني: سيعلمون بأي شئ استهزءوا، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته أَلَمْ يَرَوْا. أي: هؤلاء المكذّبون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ القرن: هو مدة انقضاء أهل كل عصر مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ الخطاب هنا أول ما يتوجه لأهل مكة لأنّهم أوّل من خوطب بهذا القرآن، والتمكين في البلاد إعطاء المكنة، والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسّعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً. أي: وأرسلنا المطر عليهم كثيرا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ. أي: من تحت أشجارهم والمعنى: عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقوا الغيث المدرار فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ولم يغن عنهم سلطانهم وما كانوا فيه شيئا وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. أي: جيلا آخر بدلا منهم لنختبرهم، فعملوا مثل أعمالهم، فأهلكوا كإهلاكهم، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فما أنتم بأعز على الله منهم، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم فأنتم أولى بالعذاب

فوائد

ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه. فوائد: 1 - [نقل عن صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى .. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يقول صاحب الظلال: «وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكّن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تمّ بمشيئة الله؛ ليبلوهم فيه: أيقومون عليه بعهد الله وشرطه من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده- بما أنه صاحب الملك وهم مستخلفون فيه- أم يجعلون من أنفسهم طواغيت تدّعي حقوق الألوهية وخصائصها؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرّف المالك لا المستخلف .. إنها حقيقة ينساها البشر- إلا من عصمهم الله- وعندئذ ينحرفون عن عهد الله، وعن شرط الاستخلاف؛ ويمضون على غير سنة الله؛ ولا يتبيّن لهم في أوّل الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون .. حتى يستوفي الكتاب أجله؛ ويحق وعد الله .. ثم تختلف أشكال النّهاية: مرّة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال- بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام- ومرة يأخذهم بالسنين، ونقص الأنفس والثمرات- كما حدث كذلك لأقوام- ومرّة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض؛ فيعذب بعضهم بعضا، ويدمّر بعضهم بعضا، ويؤذي بعضهم بعضا، ولا يعود بعضهم يأمن بعضا؛ فتضعف شوكتهم في النهاية؛ ويسلط الله عليهم عبادا له- أو عصاة- يخضدون شوكتهم، ويقتلعونهم ممّا مكّنوا فيه؛ ثمّ يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم .. وهكذا تمضي دورة السّنّة .. السعيد من وعى أنها السنة، ومن وعى أنه الابتلاء؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه. والشقي من غفل عن هذه الحقيقة، وظنّ أنه أوتيها بعلمه، بحيلته، أوتيها جزافا بلا تدبير. وإنه لممّا يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكّنا في الأرض، غير مأخوذ من الله .. ولكن النّاس إنما يستعجلون، إنهم يرون أوّل الطريق أو وسطه؛ ولا يرون نهاية الطريق .. ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجئ! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث .. والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون- في حياتهم الفردية القصيرة- نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم ويحسبونه نهاية الطريق! إنّ هذا النّص في القرآن: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ .. وما يماثله، وهو يتكرر كثيرا

2 - توجبه للآية (6)

في القرآن الكريم .. إنما يقرّر حقيقة، ويقرّر سنّة، ويقرّر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ .. إنه يقرر حقيقة الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية- ولو لم يرها فرد في عمره القصير، أو جيل في أجله المحدود- ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب .. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ: فإنّ هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة، وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم- مع الزمن- وهي توغل في متاهة الذنوب! وأمامنا في التاريخ القريب- نسبيا- الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي، والدعارة الفاشية، واتخاذ المرأة فتنة وزينة، والترف والرخاوة، والتلهي بالنعيم .. أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان- وقد أصبحوا أحاديث- وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة، كفرنسا وانجلترا- كذلك- على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض. إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفا باتا من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها .. ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلا على أساس القاعدة الاعتقادية. والتفسير الإسلامي- بشموله وجديّته وصدقه وواقعيّته- لا يغفل أثر العناصر المادية- التي يجعلها التفسير المادي هي كل شئ- ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى .. التي لا ينكرها إلا أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود .. يبرز قدر الله من وراء كل شئ؛ ويبرز التغيّر الداخلي في الضمائر والمشاعر، والعقائد والتصوّرات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي .. ولا يغفل عاملا واحدا من العوامل التي تجري بها سنّة الله في الحياة». 2 - [توجبه للآية (6)] في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يمكن أن نحمل الآية على المخاطبين الأوّلين فيها وهم أهل مكة، وعندئذ يكون واضحا أن الأمم السابقة، والأقوام السابقين قد مكّن لهم ما لم يمكّن لأهل

[سورة الأنعام (6): آية 7]

مكة وما لم يوسّع عليهم، وكل مكذّب يأخذ عبرة من هذا الخطاب، ويمكن أن نحمل الآية على أن المخاطبين بها العرب، وواضح أن ما أعطى الله الأمم الأخرى والأجيال السابقة، كبني إسرائيل، والرومان، واليونانيين، والصينيين، والمصريين، لم يعطه العرب، وكل قوم يستطيعون الاعتبار بهذا الخطاب، والسؤال: هل يمكن أن نجعل الخطاب للأجيال كلها بعد نزول القرآن؟ إننا إن حملنا الآية هذا الحمل فهذا يحتاج منا إلى إثبات أنه قد مرّت قرون قبل نزول القرآن مكّنت في الأرض ما لم تمكن به القرون اللاحقة على نزول القرآن حتى عصرنا، ونقول نحن نحتاج إلى إثبات بسبب أن النص القرآني يحتمل، والذي نقوله: إن من ينظر إلى مثل سدّ الصين العظيم، والأهرام، وآثار بعلبك، وشبكة المياه الجوفية الموجودة في بلاد الشام من عصر الرومان، وما يقال إن المناخ العالمي قد تغيّر، وأن الجفاف يزداد، وأن المناطق الصحراوية تمتد، وما يقال تاريخيا عن تمكين أقوام بأعيانهم في الأرض، أما التمكين الحالي ففي الغالب ليس تمكينا لأقوام بل لشعوب من مجموعة أقوام، أو لدول، أو لاتحادات، إن مثل هذه المعاني تجعلنا نقول باحتمال النص للفهم الأخير. والله أعلم. ولنرجع إلى عرض آيات المجموعة الأولى فبعد أن وضّح الله إعراضهم عن الآيات، وتكذيبهم للقرآن، ووعظهم بما أصاب الأمم السابقة، عاد إلى تبيان طبيعتهم الجاحدة، فقال: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ القرطاس الورق، والكتاب المكتوب فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. أي: اجتمع لهم مع المعاينة اللمس لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أي: واضح وإنما يقولون ذلك تعنّتا، وعنادا للحق بعد ظهوره وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ. أي: وقالوا: هلا أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ملك يعلمنا أنّه نبي وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. أي لقضي أمر هلاكهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. أي ثمّ لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين، لأنّهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون، ومجئ (ثمّ) في هذا المقام يفيد أنّ عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشّدة أشد من نفس الشّدة وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً. أي: ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا (لأنّهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة) لَجَعَلْناهُ رَجُلًا. أي لأرسلناه في صورة رجل وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ. أي لخلّطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان، فيسلكون معه كسلوكهم معك يا محمد، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك،

كلمة في السياق

يقال: لبّست الأمر على القوم وألبسته إذا أشبهته وأشكلته عليهم. كلمة في السياق: بدأت السورة بتعريفنا على الله، وعلى إحاطة علمه من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، أو من خلال ظاهرة الخلق، ودلّتنا على أن مقتضى الخلق الحمد، وبينت لنا أن من مواقف الكافرين الشرك والشك. ثمّ ذكرت السورة موقف الكافرين من الآيات، ولفتت نظرهم إلى مصارع الكافرين. ثمّ بينت لنا أنّ سبب الكفر ليس مرتبطا بقلّة الآيات، بل بشيء آخر، حتى إن الكافرين لو أنزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه بأيديهم لقالوا عن ذلك إنه سحر، فالعلّة فيهم إذ كفروا. ثمّ جاءت آية تذكر لنا نموذجا على اقتراحاتهم المتعنتة المستهزئة، ثم جاء الردّ عليهم بآية، وسيأتي تهديد لهم في آية لاحقة، ثمّ تأتي بعد ذلك المجموعة الثانية وفيها إيضاحات لما ينبغي أن يقال لهم. وهكذا نجد أن النقاش الذي بدأ في محور سورة الأنعام من سورة البقرة مع الكافرين تأتي تفصيلاته هنا. فوائد: 1 - [سبب نزول قوله تعالى وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ قال الألوسي: «وعن الكلبي: وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث. وعبد الله بن أبي أمية. ونوفل بن خويلد لما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله. وفي سبب نزول قوله تعالى وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قال الألوسي: أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب. والنضر ابن الحارث بن كلدة. وعبد بن عبد يغوث. وأبي بن خلف بن وهب. والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ الخ .. 2 - [كلام الألوسي حول آية وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ قال الألوسي: وقد قيل: إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- وهم هم- إنما رأوا

3 - عوالم المخلوقات تحكمها سنن وقوانين ربانية

الملك في صورة البشر ولم يره منهم على صورته غير النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بجياد ومرة في السماء، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة والذي صحّ من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدا من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك، ولم يرد هذا- كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شئ من كتب الآثار، وأما رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه السلام، على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب، وظاهر الأخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شئ لا نفيا ولا إثباتا، وعدم رؤية جبريل عليه السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره، إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم. ولوط. وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين، وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار». أقول: إن التركيب النفسي والروحي والقلبي للرّسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يختلف، فهم بشر ولكنهم يوحى إليهم، ومن ثمّ فسنّة الله فيهم غير سنّته في بقية خلقه، ثمّ إن الآية تفيد أنّه لو أنزل ملك بناء على اقتراحهم لقضي الأمر، وتلك سنّة من سنن الله أنّه لو استجاب لاقتراح قوم بإنزال ملك وهو اقتراح متعنت فإنّه يأتيهم العذاب، فلا نحتاج إذن لبحث إمكان رؤية الملائكة بسبب من الآية. 3 - [عوالم المخلوقات تحكمها سنن وقوانين ربانية] فهمنا من الآيتين الأخيرتين أن لهذا العالم قوانين وسننا، وأن الملائكة في خلقتهم الكاملة لا يراهم البشر في قوانين هذا العالم إلا من خصّه الله بخصائص معيّنة كالرّسل، وهذا شئ واضح لأن الحواسّ البشرية محدودة بحسب القوانين الإلهية، فالأذن مثلا لا تستطيع أن تسمع الأصوات التي تقل ذبذباتها إلى 13 ذبذبة في الثانية، ولا تستطيع أن تسمع الأصوات إذا ارتفعت ذبذباتها فوق 30000 ذبذبة في الثانية، وكذلك العين لا ترى المادة إذا وصلت إلى حالة من الوجود لطيفة جدا، وكذلك إذا وصلت المادة إلى حالة من الكثافة مرتفعة جدا وقد حسب إينشتاين الحالة التي لا ترى فيها المادة إذا

[سورة الأنعام (6): آية 10]

وصلت إلى ثقل نوعي معيّن (راجع إينشتاين من سلسلة اقرأ) وهذا كله ضمن عالم المادة، فكيف بعالم الغيب، فما أجهل من يكفر، وما أحمق من يرفض الإيمان بما يقوله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قامت الأدلة على صدق رسالته. ولنعد إلى السياق فبعد أن ردّ الله على هؤلاء المكذبين المتعنتين عزّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. أي: فأحاط بهم الشئ الذي كانوا يستهزءون به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل استهزائهم. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من المقطع الأول بعد أن بيّنت لنا طرفا من مواقف الكافرين وطبيعتهم واقتراحاتهم، وتأتي الآن المجموعة الثانية ويتوجه فيها الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلفظة (قل) ليردّ ويعالج ويعلن وهذه هي المجموعة الثانية: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يفيد قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبّه، على ذلك بثم؛ لتباعد ما بين الواجب والمباح، ونفهم من الآية أنّ النظر في مصارع المكذبين دواء، ويأتي الآن الدواء الثاني، فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يسألهم قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ أمره أنّ يسألهم ويجيب، وفي ذلك إشارة فكأنه قال: لا خلاف بيني وبينكم على هذه الحقيقة، وأنكم لا تقدرون أن تنسبوا من المخلوقات شيئا إلى غيره، هذه هي الحقيقة الأولى، والحقيقة الثانية هي: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أصل معنى كتب: أوجب، ولا يجب للعبد على الله شئ في الأصل، وإنما المراد أنه وعد وعدا مؤكدا وهو منجزه لا محالة، وذكر النفس بهذه الصيغة يفيد الاختصاص ورفع الوسائط، ولمالكيته للسماوات والأرض ولكتابته على نفسه الرحمة فإنه أقسم لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. أي لا شك فيه أي في هذا اليوم، أو في هذا الجمع، وقد فهمنا: أن إيجاد هذا اليوم هو أثر مالكيته ورحمته وهذا معنى سنراه كثيرا إذ أن من عرف أسماء الله وصفاته يدرك أنّ اليوم الآخر بديهي الوجود، كأثر عن هذا الجلال والكمال الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. أي: الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة باختيارهم الكفر، هم الذين لا يؤمنون بهذا اليوم، ولا يخافون شر ما يصيبهم فيه، قرّر مجئ اليوم الآخر وخسارة الكافرين فيه بعد تقرير مالكيته ورحمته، ثم يعود ليقرر مالكيته وسمعه وعلمه فقال:

فوائد: نقل عن صاحب الظلال حول آية كتب على نفسه الرحمة

وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إن اعتبرنا سكن من السكنى فإنه يتناول في هذا المقام الساكن والمسافر، وإن اعتبرناه من السكون فمعناه: أنّ له ما سكن، وما تحرك فيهما، فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر، وذكر السكون لأنّه أكثر من الحركة، وفي الإشارة إلى الحركة والسكون في هذا المقام إقامة حجة على الكافرين إذ وجود الحركة والسكون تقتضي حدوث العالم، وحدوث العالم يدلّ على خالقه، وخالقه هو مالكه، وخالقه لا يغيب عنه شئ ولذلك ختمت الآية بقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع كل موجود وكل مسموع، ويعلم كل معلوم فلا يخفى عليه شئ، وإذ كان الأمر كذلك فليحذر المكلفون يوم القيامة، فإن النّاقد بصير، والحساب عسير إلا من يسّره له الله، وفي مجموع ما ورد في هاتين الآيتين دواء آخر لمن أراد أن يعالج الكفر، وحجة لمن أراد أن يناقش أهله. فوائد: [نقل عن صاحب الظلال حول آية كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] عند قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال صاحب الظلال: «ورحمة الله تفيض على عباده جميعا؛ وتسعهم جميعا؛ وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم. وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة: إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته. في نشأتهم من حيث لا يعلمون. وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يفضّل بها الإنسان على كثير من العالمين. وتتجلى في تسخير ما قدّر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته. وتتجلى في تعليم الله للإنسان، وبإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته .. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك. وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلّما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لجّ في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير؛ ولم يصغ للتحذير. وهو على الله هين. ولكنّ رحمة الله وحدها هي التي تمهله؛ وحلم الله وحده هو الذي يسعه. وتتجلى في تجاوز الله- سبحانه- عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة

الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب. وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء. ومحو السيئة بالحسنة .. وكله من فضل الله. فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. حتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال عن نفسه، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله. والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيّ عنها، هو أجدر وأولى. وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن؛ فيتصل به، ويعرفه؛ ويطمئن إليه- سبحانه- ويأمن في كنفه؛ ويستروح في ظله .. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها، فضلا عن وصفها والتعبير عنها. فلننظر كيف مثّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهذه الرحمة بما يقربها للقلوب شيئا ما: أخرج الشيخان بإسنادهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قضى الله الخلق- وعند مسلم: لما خلق الله الخلق- كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» .. وعند البخاري في رواية أخرى: «إنّ رحمتي غلبت غضبي» .. وأخرج الشيخان بإسنادهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جعل الله الرحمة مائة جزء. فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءا واحدا. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابّة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه». وأخرج مسلم بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة». وله في أخرى: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة واحدة: فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض. فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة». وهذا التمثيل النبوي الموحي، يقرّب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى .. ذلك

إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة، والضعف والمرض؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض- ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب- ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه .. فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما! وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يني يعلّم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبي. فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلّب ثديها، إذ وجدت صبيا في السبي، فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال صلّى الله عليه وسلّم «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟». قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه. قال: «فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها» .. (أخرجه الشيخان). وكيف لا. وهذه المرأة إنما ترحم ولدها، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟ ومن تعليم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية بهذا الأسلوب الموحي، كان ينتقل بهم خطوة أخرى، ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته، ليتراحموا فيما بينهم، وليرحموا الأحياء جميعا؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل. عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الراحمون يرحمهم الله تعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» .. (أخرجه أبو داود والترمذي). وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» ... (أخرجه الشيخان والترمذي). وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي». وعن أبي هريرة كذلك. قال: «قبّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» .. (أخرجه الشيخان). ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم يقف في تعليمه لأصحابه- رضوان الله عليهم- عند حدّ

ولنعد إلى السياق والعرض

الرحمة بالنّاس. وقد علم أن رحمة ربه وسعت كل شئ. وأن المؤمنين مأمورون أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي؛ تخلقا بخلق الله سبحانه. وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب؛ فشكر الله تعالى له فغفر له». قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا قال: «في كل كبد رطبة أجر» ... (أخرجه مالك والشيخان). وفي أخرى: أن امرأة بغيّا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع (أي أخرج) لسانه من العطش فنزعت له موقها (أي خفها) فغفر لها به. وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر. فرأينا حمرة (طائر) معها فرخان لها، فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرّش (أو تفرش) - (أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض) فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها». ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذّب بالنار إلا رب النار» .. أخرجه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فحرقت. فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟» ... (أخرجه الشيخان) وهكذا علّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه هدي القرآن. ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة .. إنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!». ولنعد إلى السياق والعرض: كعلاج وحوار وإقامة حجة تأتى المجموعة الثانية في المقطع، وقد جاء في آيتها الأولى أمر بالسير والاعتبار بمصارع الكافرين، وفي الآيتين الثانية والثالثة لفت نظر إلى مالكية الله

[سورة الأنعام (6): آية 14]

ورحمته وما يترتب عليهما، وفي ذلك علاج وإقامة حجة، وبعد ذلك تأتي الآن آيتان تأمران رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن معاني عن تحقّقات ذاته الشريفة، مما يفهم منه أنّه في الردّ على الكافرين نحتاج إلى إقامة حجة وإعلان موقف، ولذلك نرى أن الآيتين التاليتين فيهما إعلان موقف قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا. أي ناصرا ومعبودا، أي لا أتخذ، ثمّ وصف الله ذاته بقوله: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي مخترعهما وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ. أي وهو يرزق ولا يرزق، أي المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع، والمعنى: كيف لا أتخذ الله نصيرا ومعبودا؛ وهو الخالق والرازق! وغيره لا يخلق ولا يرزق؛ فلا يصلح وليا ولا نصيرا، وبعد هذا الإنكار على اتخاذ غير الله وليا أمر الله رسوله أن يعلن قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأنه أسبق أمته إلى الإسلام فهو أوّل الملتزمين به وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. أي وقيل لي لا تكونن من المشركين، والمعنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك، دلّ هذا على أنّ الشّرك والإسلام لا يجتمعان، وأنّ الإسلام هو وحده الذي ينفي كلّ شرك، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وهو يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ. أي: من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله الرحمة العظمى وهي النّجاة وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الفوز: حصول الربح ونفي الخسارة، والنّجاة يوم القيامة هي الفوز الكامل الواضح، وأيّ فوز أعظم من الجنة والزحزحة عن النار! وبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن هذا الإعلان، ذكّره، بما يساعده على إقامة حقيقة هذا الإعلان والبيان وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو ذلّ أو إيذاء أو ابتلاء أو غير ذلك من البلاء فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. أي: فلا قادر على كشفه إلا هو وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من غنى أو صحّة أو نصر أو غير ذلك من نعمه فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أي قادر على الإيصال والإدامة والإزالة. وتعليقا على هذه الآيات الثلاث الأخيرة والآية التي بعدها قال صاحب الظلال: «فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها، وبإعراضها وعنادها، وبالتوائها وكيدها، وبفسادها وانحلالها .. ما أحوج من يواجه هذا الشر كله، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذه المشاعر .. مخافة المعصية والولاء لغير الله. ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقّب العصاة .. واليقين بأن الضار والنافع هو الله. وأن الله هو القاهر فوق عباده؛ فلا معقّب على حكمه، ولا رادّ لما قضاه .. إن قلبا لا يستصحب

هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف «إنشاء» الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال! ثم ما أحوج العصبة المؤمنة- بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها، ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته، وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر .. ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم، كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى. وأن تقول ما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية؛ بما قذف به في وجهها الرسول الكريم، تنفيذا لأمر ربه العظيم: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ: لا أَشْهَدُ. قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .. إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض، من الجاهلية التي تغمر الأرض، هذا الموقف، لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية، قاطعة، مزلزلة رهيبة .. ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شئ قدير، وأنه هو القاهر فوق عباده. وأن هؤلاء العباد- بما فيهم الطواغيت المتجبرون- أضعف من الذباب، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحدا إلا بإذن الله، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق. وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت، وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد، وتنذرها هذه النذارة، وتعلنها هذا الإعلان، وتفاصلها هذه المفاصلة. وتتبرأ منها هذه البراءة. إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي؛ إنما جاء منهجا مطلقا خارجا عن قيود الزمان والمكان. منهجا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزّل فيه هذا القرآن. وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماما؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشئ الإسلام في الأرض إنشاء .. فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين. والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره. والمفاصلة الحاسمة مع

فوائد

الباطل وأهله .. لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة .. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ... ». أقول: إن إعلان المسلم مثل هذه الإعلانات هو جزء من الدعوة، وجزء من الحجة، وجزء من العلاج للنفس الكافرة، كما أنّه تقوية لذات المسلم، وارتقاء بمشاعره وهكذا تنتهي المجموعة الثانية في المقطع وبها ينتهي المقطع الأول. فوائد: 1 - [معان على الداعية أن يركز عليها] بعد أن ذكر الله عزّ وجل في المقطع إعراض الكافرين عن الآيات، وأنّه لو أنزل عليهم كتابا من السماء فلمسوه بأيديهم ما آمنوا، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل اقتراح الكافرين أن ينزّل عليهم ملك، وبعد أن بيّن أن هذا الاقتراح أثر من آثار الاستهزاء، فإنّه أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول أربعة أقوال، ولذلك جاءت أربعة أوامر بلفظة «قل» إن مجموع هذه الأقوال تدلّ على الدّواء، فمن أراد من أهل الكفر أن يؤمن فهذا هو الطريق: 1 - السير في الأرض والاعتبار بعاقبة المكذبين 2 - معرفة مالكية الله لكل شئ ورؤية رحمة الله في كل شئ 3 - رؤية خلق الله للكون كله وأن يرتب على ذلك إسلام الوجه لله 4 - إعلان المسلم خوفه من عذاب الله وبناء على ذلك نقول: إن الداعية إلى الله عليه أن يركّز على هذه المعاني كلها، ومن المعنى الأخير نعرف أنّ وجود الخائفين من الله هو تذكير عملي للكافرين، وإنّ ختم الآيات بقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ... يشير إلى أن المسلم عليه أن يقول للكافرين ما أمر به من أوامر في هذا المقام، معتمدا على الله، متوكلا عليه، عارفا أن النّفع والضرّ بيده وحده. 2 - [أدعية مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمناسبة الآيات] بمناسبة قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قال ابن كثير: وفي حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلّى الله عليه وسلّم على طعام، فانطلقا معه، فلما طعم النبي صلّى الله عليه وسلّم وغسل يديه قال: «الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، ومنّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودع ولا مكفي ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضّلال، وبصّرنا من العمى، وفضّلنا على كثير ممّن خلق تفضيلا، الحمد لله رب

3 - كلام لصاحب الظلال حول آية قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ..

العالمين». وبمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ... يقول ابن كثير: «وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أقول: إن في أذكار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي دعواته أعظم عرض للمعاني الإسلامية، وأعظم تطبيق لمعاني العبودية، والمعرفة لله، وأعظم تحقيق لأوامر الله كلها فليتأمل هذا وليفهم. 3 - [كلام لصاحب الظلال حول آية قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ .. ] عند قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يقول صاحب الظلال: «قضية واحدة محدّدة لا تقبل لينا ولا تميّعا .. إما إفراد الله سبحانه بالتوجّه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور، ورفض إشراك غيره معه فيها؛ وولاء القلب والعمل، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك .. إما هذا كله فهو الإسلام .. وإما إشراك أحد من عباده معه في شئ من هذا كله فهو الشرك. الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام». كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة الأنعام من سورة البقرة هو قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقد رأينا صلة المقطع الذي مرّ معنا بهذا المحور، فالمقطع عدا عن تعرضه لمعاني المحور، فإنّه قد ناقش الكافرين، ودلّهم على الطريق الصحيح للإيمان، وكل ذلك قد مرّت معنا تفصيلاته. وقد أشار محور السورة إلى قهر الله وحكمته وعلمه، فمن مظاهر قهر الله الموت والبعث، ومن مظاهر حكمة الله أن خلق الأرض وما فيها للإنسان، ومن مظاهر علم الله خلقه السموات والأرض على مثل هذا الإتقان، هذا كله قد أشارت إليه آيتا المحور، وبعد المقطع الأول من سورة الأنعام يأتي المقطع الثاني وبدايته: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ونهايته: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. لاحظ الصلة بين بداية المقطع الثاني ونهايته، وبين المعاني الموجودة في البداية

تلخيص وتقديم

والنهاية، وبين محور السورة من البقرة. إن الآية الأولى في المقطع الثاني يرد فيها قوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ كما يرد ذلك في الآية الأخيرة كذلك. ومعاني المقطع كلها تدور حول القهر الإلهي، والحكمة والعلم، فذلك مضمون المقطع الثاني ولذلك كله صلته بالمحور. لاحظ الآن ما يلي: في محور السورة من سورة البقرة كلام عن القهر الإلهي وعن الحكمة، وعن العلم: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذا من مظاهر قهره هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً هذا من مظاهر حكمته وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهذا حديث عن علمه. فإذا عرفنا أن مضمون المقطع الثاني من القسم الأول من سورة الأنعام يتلخص بأنه عرض لمظاهر من القهر الإلهي، ولمظاهر من علم الله وحكمته، أدركنا صلة المقطع في المحور. وسنرى صلة المقطع بما قبله وبما بعده. تلخيص وتقديم: جاء المقطع الأول وفيه مقدمة، هي مقدمة السورة كلها وتتألف من آيات ثلاث. ثمّ عرض علينا المقطع موقف الكافرين من الآيات: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وجاءت آيات بعد ذلك تعالج هذا الموقف. ثمّ عرض علينا المقطع اقتراحا من اقتراحات الكافرين: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وجاءت آيات تعالج وضع الكافرين جملة وانتهت بقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ثم جاء المقطع الثاني وبدايته وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للكافرين ما يقول، ومن جملة ذلك: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بعد ذلك يأتي المقطع الثاني وهو في سياقه الرئيسي. يتحدث كما سنرى عن القهر الإلهي، والحكمة، والعلم، ولكنّه يسير على النّسق الذي رأيناه في المقطع الأول، إذ نجد فيه عرضا لمواقف الكافرين، واقتراحاتهم، وعلاجا لها، ونكاد نجد في كل مجموعة منه عرضا لموقف من مواقف الكافرين، وعرضا لمشهد من مشاهد الآخرة. فلننتقل للحديث عن المقطع الثاني:

المقطع الثاني يمتد هذا المقطع من الآية (18) إلى نهاية الآية (73)

المقطع الثاني يمتدّ هذا المقطع من الآية (18) إلى نهاية الآية (73): بدايته قوله تعالى وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ونهايته قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. لاحظ انتهاء الآية الأولى في المقطع بقوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. وانتهاء الآية الأخيرة بذلك، وفيما بين البداية والنهاية تفصيل لمظاهر من قهر الله وحكمته وعلمه، وإقامة حجة على النّاس بذلك. يتألف المقطع من جولتين الجولة الأولى تبدأ بقوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وتستمر حتى تأتي آية مبدوءة بقوله تعالى: (وهو) وفيها تفصيل لمظهر من مظاهر القهر الإلهي. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. ثم تأتي الجولة الثانية من هذا المقطع وتبدأ كذلك بقوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. إنهما جولتان في مقطع واحد، يفصّل في القهر الإلهي والحكمة والعلم، ومن خلال التأمّل في الجولتين نرى أنّ الجولة الأولى يغلب عليها التفصيل في القهر الإلهي، وأن الجولة الثانية يغلب عليها التفصيل في الحكمة والعلم، لاحظ بداية الجولة الأولى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. ولاحظ بداية الجولة الثانية: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً. من هاتين البدايتين ندرك ما قلناه من أنّ الجولة الأولى يغلب عليها التفصيل في القهر الإلهي، وأن الجولة الثانية يغلب عليها التفصيل في الحكمة والعلم، وكلا الجولتين تفصلان في القهر الإلهي، والحكمة، والعلم، ومن خلال مظاهر حكمة الله وعلمه تقام الحجة على الكافرين، ومن خلال مظاهر القهر الإلهي يعجّب الإنسان من كفر الكافرين، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة؛ إذا المحور يقيم الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، ومن خلال التذكير بالعلم والحساب، ويعجّب من كفر الكافرين، ولنا عودة على السياق فيما بعد، فلنبدأ عرض المقطع بعرض الجولة الأولى منه:

الجولة الأولى من المقطع الثاني وتمتد من الآية (18) إلى نهاية الآية (60) وهذه هي

الجولة الأولى من المقطع الثاني وتمتدّ من الآية (18) إلى نهاية الآية (60) وهذه هي: 6/ 26 - 18

6/ 34 - 27

6/ 45 - 35

6/ 54 - 46

كلمة في هذه الجولة

6/ 60 - 55 كلمة في هذه الجولة: تبدأ الجولة بالحديث عن قهر الله وحكمته وعلمه، وتنتهي بالحديث عن مظاهر من علمه وحكمته وقهره: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ... وَهُوَ

المعنى العام

الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ .... وفيما بين ذلك حديث عن مظاهر العلم والقهر والحكمة: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ .... وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ... فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ .... فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ومن خلال ذلك نرى وحدة الجولة. والجولة تعرض مواقف للكافرين، وترد عليها، وتقصّ علينا اقتراحات الكافرين المتعنة، وتناقشهم فيها، وتأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول كلاما محددا؛ ولذلك يتكرّر فيها الأمر «قل» ومن ثمّ فهي استمرار للمقطع الأول؛ ففيها منه شبه، وذلك مظهر من مظاهر وحدة سياق السّورة. والجولة مع هذا كله تفصّل في محور السورة من سورة البقرة، ويكفي أن تقارن آخر آية فيها: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. يكفي أن تقارن هذه الآية بقوله تعالى في المحور: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. حتى تدرك الصلة بين الجولة وبين محور سورة الأنعام من سورة البقرة. وإذ تقرّرت وحدة الجولة ومحلها في سياق السورة ومحلها بالنسبة للسياق القرآني العام فلننتقل إلى عرض معانيها العامة. المعنى العام: يقرّر الله تعالى في بداية هذه الجولة أنّه هو القاهر فوق عباده، فهو الذي خضعت له الرّقاب، وذلّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شئ، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوّه وقدرته الأشياء؛ فاستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت قهره وحكمه، فلا تنفذ مشيئة إلا بمشيئته، ولا يكون إلا

ما أراد، ثم يقرّر أنّه الحكيم في أفعاله، الخبير بمواضع الأشياء ومحالها؛ فلا يعطي إلا عن علم، ولا يمنع إلا عن علم، وبعد أن قرّر الله- عزّ وجل- قهره وحكمته وعلمه- وآثار هذه الصفات مرئية معلومة، فمن لم يشاهد من خلالها خالقها فإنّه يكون عديم الإدراك- بعد هذا التقرير يأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يسأل الكافرين عن أعظم الأشياء شهادة، ثم يأمره أن يجيب: أن الله هو أعظم الأشياء شهادة، وأن الله الأعظم شهادة هو يشهد على رسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما يقال له وما يردّ عليه، وشهادة الله لرسوله قائمة في المعجزات التي أظهرها على يده، وأعظمها هذا القرآن الذي يدلّ دلالة لا تقبل شكا على أنه من عند الله؛ بما فيه من إعجاز؛ وبما فيه من معجزات؛ لذلك قال بعد ذلك وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. أي: والقرآن نذير لكل من بلغه، وفيه الشهادة على أن محمدا رسول الله، بحكم كونه معجزة لا تكون إلا من عنده سبحانه، ثمّ أمر الله رسوله أن يسألهم وأن يجيب ملقّنا إياه الحجّة، أمره أن يسألهم عما إذا كانوا يشهدون أن مع الله آلهة أخرى، ثم أمره أن يقول بأنه لا يشهد شهادتهم بعد أن أفهمهم أن شهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي شهادة الله بكتابه، ثم أمره أن يعلن ويقرر وحدانية الله، وأن يعلن براءته من شركهم، وإذ أخبر تعالى عما نعرف به صدق رسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عن أهل الكتاب أنهم يعرفون هذا الذي جاء به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، كما يعرفون أبناءهم؛ بما عندهم من الأخبار، والأنباء عن المرسلين المتقدمين، والأنبياء؛ فإن الرسل بشروا بمجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصفته، وبلده، ومهاجره، وصفة أمته، فما أوضح استحقاق الكافرين لخسارة أنفسهم يوم القيامة بعدم إيمانهم بهذا الأمر الجليّ الظاهر الذي بشّرت به الأنبياء، ونوّهت به في قديم الزمان وحديثه، وفي هذا السياق قرّر تعالى أنّه لا أظلم ممّن تقوّل على الله؛ فادّعى أنّ الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثمّ لا أظلم ممّن كذّب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، وأن الظالمين من هؤلاء، وهؤلاء من المفترين والمكذبين لا يفلحون، وإذ كان رسوله صلّى الله عليه وسلّم من المفلحين، ومن كذّبه لا يفلح، فذلك علامة من أعلام رسالته، وإذا عاقب الله من لم يؤمن برسوله صلّى الله عليه وسلّم، فذلك أثر من آثار قهره، الذي صدّرت بالكلام عنه هذه الجولة، وبهذه المعاني التي قرّرت قهر الله وحكمته وعلمه، وأنّه الأعظم شهادة، وأنّه منزل القرآن، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسوله، وأنّ رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يرقى إليها شك، من حيث أدلتها، أو من حيث شهرتها عند أهل الكتاب، والظلم الأكبر ظلم من لا يؤمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعد تقرير هذه المعاني ينقلنا الله تعالى إلى

مشهد من مشاهد يوم القيامة، إذ يحشر الكافرين والمشركين فيسألهم عن معبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها من دونه، ويعطونها صفات الألوهية وخصائصها وحقوقها، فما تكون حجتهم ومعذرتهم إلا أن يقسموا أنهم ما كانوا مشركين، كذبوا على الله في الدنيا، ويكذبون على الله في الآخرة، وفي كل من الحالين فإنهم لا يكذبون إلا على أنفسهم وإذ كان كذبهم كله- سواء في ذلك كذبهم على الله في الإشراك به في الدنيا، إلى كذبهم في الآخرة- لا قيمة له ولا نفع فيه فليلاقوا عاقبة هذا الكذب .. وهذا مظهر من مظاهر قهره الذي بدأ بذكره المقطع، أن يحشر الكافرين والمشركين إليه يوم القيامة ويجازيهم، ثمّ بيّن الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّ من المشركين من يجئ ليسمع قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يستفيدون شيئا؛ لأن الله جعل على قلوبهم أغطية فلا يفقهون القرآن، وجعل في آذانهم صمما عن السماع النافع لهم، وذلك عقوبة لهم بما اجترحوه، وما اتصفوا به، وعقوبتهم أثر من آثار قهره كذلك، ثمّ إنّهم مهما رأوا من الآيات، والدّلالات، والحجج البينات، والبراهين، فإنهم لا يؤمنون بها؛ إذ لا فهم عندهم، ولا إنصاف، وعند المحاجّة والمناظرة يزعمون أنّ هذا القرآن مأخوذ من كتب الأوائل، ومنقول عنهم، يقولون هذا وهم لا يفهمون هذا القرآن ولا يعقلونه، ثم يزيدون في عتوّهم إذ ينهون الناس عن اتّباع الحق، وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والانقياد للقرآن، ويبتعدون هم عنه؛ فيجمعون بين الفعلين القبيحين، لا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع، وهم بهذا الصنيع لا يهلكون إلا أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم، وهم لا يشعرون، وبعد عرض حالهم هذا، يعرض الله مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وموقفا لهؤلاء المشركين الكافرين هناك، في مقابل موقفهم هذا، ومن ثم يذكر الله حالهم إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك يتمنّون أن يردّوا إلى الدار الدنيا؛ ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذّبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين؛ عندئذ يظهر ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر، والتكذيب، والمعاندة، وقد بيّن الله تعالى في هذا المقام أنهّم ما طلبوا العودة إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه؛ جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا؛ ليتخلصوا مما شاهدوا من النار. ولو أن الله ردّهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة. فهم كذبة في زعمهم أنهم لو عادوا إلى الدنيا لعملوا صالحا، بل لو أنهم أعيدوا لعادوا إلى كفرهم ولقولهم: أن لا حياة إلا الدنيا، وأنه لا معاد ولا بعث، وكما

يوقفون على النار فإنهم يوقفون بين يدي الله ليسألهم أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون، عندئذ يقرون مقسمين بالله إنّه حق، ولكن أنى ينفعهم ذلك؟ فليس لهم إلّا العذاب يذوقون مسّه؛ بكفرهم بربهم وبالبعث وبالرّسل، وفي هذا السياق يقرّر الله خسارة من كذّب بلقائه، وخيبته إذا جاءته الساعة بغتة، ندامته على ما فرّط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، حيث يقودهم عملهم إلى النار، ثم قرّر الله- عزّ وجل- حقيقة الحياة الدنيا، وأنهّا ليست إلا لهوا ولعبا. وأنّ الدار الآخرة هي الدار، وهي الأحسن لأهل التقوى والإيمان، وفي هذا المقام يسلي الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه، بتذكيره أن الله محيط علما بتكذيبهم، وبحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتأسفه عليهم، مبيّنا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّ تصديقهم مستمر له في الحقيقة، فهم لا يتهمونه بالكذب في نفس الأمر؛ ولكن الظالمين يعاندون الحق، ويدفعونه بصدورهم. ثمّ بيّن الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّه إن يكذّب فقد كذّبت رسل من قبله، وكان منهم الصبر على التكذيب والأذى، وكان لهم النصر في العاقبة، وتلك سنة الله، وقد عرّف الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأخبارهم كيف نصروا، وأيدوا على من كذّبهم من قومهم، ليكون له فيهم أسوة، وبهم قدوة، ثمّ أدّب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم ليزداد صبرا، بأنّه إن شقّ عليه الإعراض فليأتهم بآية، بدخوله سربا في الأرض، أو بصعوده سلّما في السّماء، وما هو بفاعل إلا بإذن الله. فليصبر، ثمّ بيّن الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أنه لو شاء أن يهدي الناس لهداهم ولكن له حكمة في ذلك، فلا يتصوّر معها هداية الخلق جميعا إلا جاهل، ثمّ بيّن الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّ الذي يستجيب لدعوته هو من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه، أما موتى القلوب من الكفار، فلا سماع لهم، ولا استجابة منهم، وسيرون مغبّة أمرهم، إذ يبعثون ويرجعون إلى الله، وهكذا نرى من خلال ما مرّ عرضا لأحوال الكافرين، ومظاهر من قهر الله لهم في الآخرة، وهو المعنى الذي بدأ به المقطع. وكما قصّ الله علينا في المقطع الأول اقتراحا من اقتراحاتهم وردّ عليهم، ففي هذا المقطع يقصّ الله علينا كذلك اقتراحا من اقتراحاتهم المتعنّتة، إنّهم يطلبون آية أي: خارقا على مقتضى ما يريدون وما يتعنتون، وقد بيّن الله- عزّ وجل- أنه قادر على ذلك، ولكنّ حكمته تقتضي تأخير ذلك؛ لأنه لو أنزلها وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة، كما فعل بالأمم السابقة، ثمّ قرّر جهل الأكثرين من بني الإنسان، ثمّ بيّن تعالى أنّ كلّ نوع من أنواع الحيوان إنّما هو أمّة من الأمم أليس هذا آية تدل على الله! بدليل أنّه لا ينسى أحدا منها من تدبيره ورزقه، فمن لم ير مثل هذه الآيات فأي آية تجعله يؤمن؟!

وفي هذا السياق يذكّر الله- عزّ وجل- أنّ مرجع الجميع إليه، ثمّ بين تعالى أنّ مثل المكذّبين بآيات الله في جهلهم، وقلة علمهم، وعدم فهمهم، كمثل أصمّ: وهو الذي لا يسمع، أبكم: وهو الذي لا يتكلم، وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه؟ ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يوجه سؤالا للكافرين فيه تقرير أن الله المتصرّف في خلقه بما يشاء، الذي لا معقّب لحكمه، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه؛ بل هو وحده الإله لا شريك له، بدليل أنّه في حالة مجئ الساعة لا يدعون غيره؛ لعلمهم أنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه، فكيف يشركون به غيره؟! وفي هذا السياق يقرّر الله سنة من سننه، هي مظهر من مظاهر قهره، هذه السنّة هي أنّه كلّما أرسل إلى أمّة رسولا، فلم يستجيبوا له، يبتليهم بالفقر، وضيق العيش، والأمراض، والأسقام، والآلام، من أجل أن يرجعوا إلى الله، ويتضرعوا إليه ويخشعوا فإذا لم يتضرعوا ويرجعوا، وزادت قسوة قلوبهم، وأصرّوا على ما هم عليه من الشرك، والفساد، والمعاصي، وتمادوا بالإعراض، والغفلة، والتناسي، فعندئذ يفتح الله عليهم أبواب الجاه والرزق، وكل ما يختارون، وهذا استدراج منه وإملاء لهم- عياذا بالله من مكره- حتى إذا فرحوا بما أعطوا من الدنيا؛ عندئذ يأخذهم الله بغتة؛ فإذا هم آيسون من كل خير، وهذه السنّة مظهر من مظاهر قهر الله وحكمته وعلمه، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل هؤلاء المكذّبين المعاندين أنّه لو سلبهم الله سمعهم، وأبصارهم، وختم على قلوبهم، فهل أحد غير الله يقدر على ردّ ذلك إليهم؟ لا شك أنّ الجواب: لا يقدر على ذلك أحد سواه، إلا إذا أراد إنسان أن يماحك، ثم لفت الله نظر رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يبيّنه ويوضّحه ويفسّره، ثمّ هؤلاء الكافرون مع هذا يعرضون عن الحق، ويصدّون الناس عن اتباعه، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يسألهم أنّه في حالة مجئ العذاب مباغتا لهم أو ظاهرا يعاينونه، هل يهلك الله إلا الظالمين؟ وذلك لأنّ الرسل ما أرسلوا إلّا للتبشير والإنذار، فمن آمن وأصلح فإنه يستحق الأمن من الله لا العذاب، والذين يستحقون العذاب هم الفاسقون، ومن ثمّ فإن عذاب الله إذا جاء يصيبهم وحدهم. وفي هذا السياق نعرف سنة من سننه- عزّ وجل- أنّ عذابه لا يصيب به من يقوم بشرعه وحقّه، وإنّما يصيب به من كفر بما جاءت به الرّسل، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.

ثم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أوامر: أن يعلن عن كونه لا يملك ولا يتصرف بخزائن الله، وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، وأنه ليس إلا بشرا من البشر، وليس ملكا، وأنه عبد لله مطيع، لا يخرج عما أوحى الله إليه قيد شبر، ولا أدنى منه، ثمّ أمره أن يسأل هل يستوي من اتّبع الحق وهدي إليه، ومن ضلّ عنه فلم ينقد له، ومجئ هذا السؤال في هذا السياق يفيد أن العبودية لله هي الإبصار الحقيقي، وهي الهداية الكاملة، ثمّ هيّجهم الله للتفكر، إذ التّفكّر في هذا المقام يدلّهم على أنّ محمدا عبد الله ورسوله حقا وصدقا، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن ينذر بهذا القرآن من يخاف أن يحشر إلى الله يوم القيامة، حيث لا وليّ ولا شفيع لأحد من دون الله؛ إذ لا حاكم في ذلك اليوم إلا الله، فأمثال هؤلاء هم المرشحون للتقوى والعمل الصالح والإيمان، ثمّ نهى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يطرد الذين يعبدون الله ويسألونه، وأمر ألا يبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، بل أن يجعلهم جلساءه وأخصّاءه وحسابهم على الله، وهدّده أنّه إن طرد أمثال هؤلاء فإنّه والحالة هذه يكون ظالما، ثمّ بيّن حكمة اتّباع الرسل من الضعفاء وهي الابتلاء، والاختبار، والامتحان، لأهل الكبر، هل يتخلّون عن كبرهم، أو إنهّم يتكبرون على الضعفاء، وعلى الحق، ويستبعدون أن يمنّ الله على أمثال هؤلاء الضعفاء، والله- عزّ وجل- هو الأعلم بالشاكرين له، بأقوالهم، وأفعالهم، وضمائرهم؛ فيوفّقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يكرم المؤمنين بردّ السلام عليهم وتبشيرهم برحمة الله الواسعة الشاملة، التي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلا منه وإحسانا وامتنانا، وأن من رحمته أنّه يعامل من عصى ثم رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع وعزم على ألّا يعود- وأصلح العمل في المستقبل- بالمغفرة والرّحمة. ثمّ بيّن تعالى أنّ تبيانه للحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد، وذم المجادلة والعناد، وتفصيله لما يحتاجه المخاطبون من بيان للآيات، كل ذلك من أجل أن تقوم الحجة، ومن أجل أن تظهر طريق المجرمين المخالفين للرّسل، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن أنه على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليه، بينما هم قد كذّبوا بالحق الذي جاءه من عند الله، وأن يعلن لهم أن ما يستعجلون به من العذاب لا يملكه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ مرجع الأمر إلى الله، إن شاء عجّل لهم ما سألوه من العذاب، وإن شاء أنظرهم وأجّلهم، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة، وهو جلّ جلاله خير من فصّل، وخير من يفصل في الحكم بين عباده، ثم أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: لو كان

المعنى الحرفي

مرجع ذلك إليه لأوقعت بكم ما تستحقونه من العذاب، ولكن الأمر لله، وهو الأعلم بالظالمين، ثمّ بيّن تعالى إحاطة علمه بالغيب كله، وبجميع الموجودات برّيّها وبحريّها، لا يخفى عليه من ذلك شئ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ويعلم الحركات حتى من الجمادات، فما ظنك بالحيوانات ولا سيما المكلفون منهم من جنّهم وإنسهم؟ ثمّ بيّن تعالى أنّه يتوفى عباده في منامهم بالليل، وهذا هو التوفي الأصغر، ويعلم ما كسبوه من الأعمال بالنهار، مبيّنا بذلك إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وحركتهم، وأنّه إذ يتوفى عباده في منامهم، ويبعثهم من موتهم الأصغر هذا، فمن أجل أن ينال كل واحد أجله الذي كتبه له، ثم المرجع إلى الله، ثم يخبر الجميع بأعمالهم، ويجزيهم على ذلك. والنّوم والاستيقاظ أثر من آثار قهر الله لعباده؛ إذ لا يستطيعون الخروج عن سننه، فالجولة كلها عرض لآثار قهر الله وعلمه وحكمته، ومناقشة للكفرة بالله ورسله، وعرض لما أعدّ الله لهم من عذاب يوم القيامة وسنعرض الجولة على مجموعات لطولها. المعنى الحرفي: المجموعة الأولى وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ القهر: بلوغ المراد بمنع الغير من بلوغه والمعنى: وهو الغالب المقتدر العالي على عباده وَهُوَ الْحَكِيمُ في تنفيذ مراده الْخَبِيرُ بمن يستحق القهر من عباده قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. أي: من أعظم الأشياء شهادة؟ الجواب: الله أكبر شهادة، والله الأكبر شهادة شهيد بين رسوله وبين الكافرين على أن محمدا رسول الله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. أي: لأنذركم به يا أهل مكة، ولأنذر به من بلغه هذا القرآن إلى قيام الساعة، ومجئ هذا النص بعد ذكر شهادة الله يوحي أن من شهادة الله لرسوله إنزاله هذا القرآن المعجز عليه أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى في هذا الاستفهام معنى الإنكار والتبكيت قُلْ لا أَشْهَدُ. أي: بما تشهدون به وإنما أشهد على وحدانيته قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فليس هناك من إله معه؛ ومن ثمّ فإننا لا نعطي صفات الألوهية، أو خصائصها، أو حقوقها لأحد سواه وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ به الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. أي: التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يَعْرِفُونَهُ. أي: يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحليته ونعته الثابتين في الكتابين (كما فصلنا ذلك في الفصل الخامس من كتابنا «الرسول» من سلسلة الأصول

[سورة الأنعام (6): آية 21]

الثلاثة) كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ من حيث الوضوح والجلاء الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من المشركين والملحدين ومن أهل الكتاب الجاحدين ومن الكفار أجمعين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. أي: برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأي خسارة أعظم من خسارة الجنة ودخول النار؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الظلم: وضع الشئ في غير موضعه، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبودا. وافترى بمعنى اختلق، والمعنى: لا أحد أظلم لنفسه من اثنين: من اختلق على الله الأكاذيب، فوصفه بما لا يليق به. ومن كذّب بآيات الله كالقرآن والمعجزات، فهؤلاء أظلم الظالمين؛ وهؤلاء لا يفلحون إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. أي: إن الأمر والشأن عدم فلاح هؤلاء، وكيف يفلحون عند الله وقد جمعوا بين أمرين باطلين، فكذبوا على الله ما لا حجة عليه، وكذّبوا بما ثبت بالحجة. نقول وتعليق: [نقل عن الألوسي حول آية لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ .. وتعليق للمؤلف] عند قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال الألوسي: «أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن، ووصل إليه من الأسود والأحمر، أو من الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون، ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بلغه القرآن فكأنما شافهته». واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيوجد بعد، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول، والحنفية إلى الثاني، وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب قال: «أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا: لا فخلى سبيلهم ثم قرأ وَأُوحِيَ إِلَيَّ الآية». وعند النّص نفسه يقول صاحب الظلال: فكل من بلغه هذا القرآن من الناس، بلغة يفهمها، ويحصل منها محتواه، فقد قامت عليه الحجة به، وبلغه الإنذار، وحق عليه العذاب، إن كذب بعد البلاغ .. (فأما من

فوائد: حول الآيات (18 - 21)

يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه فلا تقوم عليه الحجة به؛ ويبقى إثمه على أهل الدين، الذين لم يبلغوه بلغته، التي يفهم بها مضمون هذه الشهادة .. هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته». أقول: كان بعض شيوخنا يرى أنّه متى سمع أحد باسم محمّد صلّى الله عليه وسلّم فإنّ عليه أن يبحث، وإذا لم يبحث فإنّه آثم معذّب عند الله، وكان يأخذ ذلك من قوله علية الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثمّ لم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» وعلى هذا الاتجاه فإنّ مجرد السّماع باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبرسالته يعتبر تبليغا للسامع، وبه تقوم الحجة عليه. وكان بعض العلماء يفرّق بين من بلغته الدعوة عن طريق مسلم مشافهة أو سماعا أو كتابة، وبين من لم يبلغه عن هذا الطريق، فمن قرأ عن الإسلام بقلم مسلم، أو سمع عن الإسلام بالراديو، أو التلفزيون، أو بالخطاب المباشر من مسلم، فقد قامت عليه الحجة، ويدخل في ذلك بلا شك من وقعت بيده ترجمة مسلم للقرآن الكريم، وعلى رأي هؤلاء فإن من لم يسمع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من كافر فإنّ الحجة لم تقم عليه. ويرى بعض العلماء أن مجرد السماع باسم محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته، مع وجود القدرة على التعرّف من خلال الكتاب أو عن طريق مسلم كاف لإقامة الحجة، وعلى هذا فمتى وجد المسلم في مكان أو وجد الكتاب الذي يشرح الإسلام بلغة يفهمها أهل مكان، وتسامع أهل ذلك المكان باسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد قامت عليهم الحجة. ولنا عودة على هذا الموضوع، ويكفي هنا أن نعرف أنّه حيث يستطيع المسلمون أن يبلغوا بالدعوة ثمّ لا يبلغون؛ فإنهم آثمون، والإثم يوجد حيث توجد الاستطاعة، واستطاعة كل إنسان بحسبه، وفي الحديث «بلّغوا عني ولو آية» ومن الحديث نفهم أنه يفترض على المسلمين التبليغ، وأنه بالآية تقوم الحجة، وفي الفوائد ما يؤكد هذا. فوائد: حول الآيات (18 - 21) 1 - بدأ المقطع بإعطائنا تصورا عاما عن مضمون المقطع من خلال ذكر قهر الله، وعلمه وحكمته، وإذ ثبت القهر والعلم والحكمة لله- عزّ وجل- فقد أثبت الله أنه الأكبر شهادة، وشهد لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة، وأقام الحجة على ذلك بالقرآن،

[سورة الأنعام (6): آية 22]

وبالبشارات، وبيّن أنه لا أحد أظلم من الكافرين، وقد ختمت الآيات التي مرّت معنا بذكر أنّ أفظع الظلم ظلم الكافرين المفترين على الله، أو المكذبين بآياته؛ ومن ثم فإننا نفهم أن هناك تصورا خاصا للمسلمين حول مفهوم العدل والظلم، يفترق من الأساس مع أيّ تصور آخر في هذا العالم. 2 - دلّ قوله تعالى: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً على أنّه يجوز إطلاق اسم الشئ على الله تعالى، فالشئ اسم للموجود، ولا يطلق على المعدوم، والله تعالى موجود ولذلك صح إطلاق لفظ الشئ عليه جل جلاله وسبحانه. 3 - أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب عند قوله تعالى: وَمَنْ بَلَغَ «من بلغه القرآن فكأنّما رأى النّبي وكلّمه» وأخرج ابن جرير عنه «من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم» وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلّغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب فقد بلغه أمر الله» وقال الربيع بن أنس: «حق على من اتّبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن ينذر بالذي أنذر» ولنعد للعرض. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً. أي: واذكر يوم نحشرهم جميعا ثُمَّ نَقُولُ توبيخا لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا. أي: مع الله غيره أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. أي: أين آلهتكم التي جعلتموها وزعمتموها شركاء لله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ. أي: كفرهم يعني: ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه، وجادلوا عنه إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التديّن به، أو ثمّ لم يكن جوابهم إلا أن قالوا .... فسمّى جوابهم فتنة؛ لأنه كذب، أو المراد بفتنتهم حجتهم، وقال ابن جرير: والصواب ثم لم يكن قبلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا عما سلف منهم من الشرك بالله إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ هذا قولهم عند ما رأوا مغبة الشّرك، وقد ذكّر الله رسوله به، ثمّ أمره أن يعتبر فقال: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. أي: بقولهم ما كنّا مشركين وَضَلَّ عَنْهُمْ. أي: غاب عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ إلهيته وشفاعته فهم كانوا يشركون بالله؛ زاعمين أن شركاءهم يشفعون لهم فأين مزاعمهم؟ لقد اتضحت لهم الأكاذيب عند ما رأوا بطلانها عيانا. في الآية الثانية من هذا المقطع أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ

واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وفي هذه الآيات الثلاث يعرض الله علينا موقفهم يوم القيامة إذ يسألون عن شركائهم، وكيف أنّهم يتبرءون من هؤلاء الشركاء وفي ذلك دعوة للتبرؤ من الشرك في الحياة الدنيا، والشرك الذي ينبغي أن يتبرأ منه الإنسان في الحياة الدنيا أوسع مدلولا مما يفهمه الكثيرون، وفي توضيح هذا الجانب يقول صاحب الظلال: «إن الشرك ألوان، والشركاء ألوان، والمشركين ألوان .. وليست الصورة الساذجة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة الشرك وكلمة الشركاء وكلمة المشركين: من أن هناك ناسا كانوا يعبدون أصناما أو أحجارا، أو أشجارا، أو نجوما، أو نارا .. الخ .. هي الصورة الوحيدة للشّرك! إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله- سبحانه- بإحدى خصائص الألوهية .. سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات. أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها. أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة .. كلها ألوان من الشرك، يزاولها ألوان من المشركين، يتخذون ألوانا من الشركاء. والقرآن الكريم يعبّر عن هذا كله بالشرك؛ ويعرض مشاهد من يوم القيامة تمثل هذه الألوان من الشرك والمشركين والشركاء؛ ولا يقتصر على لون منها، ولا يقصر وصف الشرك على واحد منها؛ ولا يفرق في المصير والجزاء بين ألوان المشركين في الدنيا وفي الآخرة سواء .. ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعا: كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله، لها مشاركة- عن طريق الشفاعة الملزمة عند الله- في تسيير الأحداث والأقدار. كالملائكة. أو عن طريق قدرتها على الأذى- كالجن بذواتهم أو باستخدام الكهان والسحرة لهم- أو عن طريق هذه وتلك- كأرواح الآباء والأجداد- وكل أولئك كانوا يرمزون له بالأصنام التي تعمرها أرواح هذه الكائنات؛ ويستنطقها الكهان؛ فتحل لهم ما تحل، وتحرم عليهم ما تحرم .. وإنما الكهان في الحقيقة .. هم الشركاء! وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام، وتقديم القربات لها والنذور- وفي الحقيقة للكهان- كما أن بعضهم- نقلا عن الفرس- كانوا يعتقدون في الكواكب ومشاركتها في تسيير الأحداث- عن طريق المشاركة لله- ويتقدمون لها كذلك بالشعائر (ومن هنا علاقة الحلقة المذكورة في هذه السورة من قصة إبراهيم عليه

فوائد: حول الآيات (22 - 24)

السلام بموضوع السورة كما سيأتي) .. وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم- عن طريق الكهان والشيوخ- شرائع وقيما وتقاليد، لم يأذن بها الله .. وكانوا يدّعون ما يدّعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله!». فوائد: [حول الآيات (22 - 24)] 1 - إن أمر الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتذكر موقف المشركين يوم القيامة، وبراءتهم من كفرهم، وأمره بالاعتبار بذلك فيه تعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتسلية عن موقف الكافرين منه، وفي ذلك أيضا عرض لنوع من أنواع القهر الإلهي، ولفت نظر إلى أن الدنيا وحدها ليست إلا وجها من أوجه التدبير الإلهي، ويظهر فيها بعض أنواع القهر، ولكن الآخرة هي الوجه الآخر. 2 - يلاحظ أن هذه الجولة التي نحن فيها تتألف من آية هي مقدمتها ومجموعات، وقد رأينا أنّ المجموعة الأولى- وهي التي مرت معنا- فيها عرض لموقف من مواقف الكافرين في الدنيا، وبيان لموقف من مواقفهم في الآخرة حين يجزون جزاء مواقفهم في الدنيا، وفي المجموعة الثانية كذلك عرض لموقف من مواقفهم، ثمّ عرض لمواقف لهم يخزون فيها في الآخرة وهذه هي المجموعة الثانية المجموعة الثانية في الجولة وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. أي: حين تتلو القرآن، أي يجيئون ليستمعوا قراءتك وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي: أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ. لئلا يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً. أي: ثقلا يمنع السمع وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لجحودهم وطبيعتهم الكافرة المتكبرة حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأساطير: هي الأكاذيب ومفردها أسطورة، والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم بالآيات إلى أنهم يجادلونك وينكرون، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون عن القرآن- الذي هو كلام الله- إنه أكاذيب وَهُمْ. أي: المشركون يَنْهَوْنَ عَنْهُ. أي: ينهون الناس عن القرآن، أو عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم واتباعه والإيمان به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. أي: ويبعدون عنه بأنفسهم فيضلون ويضلون وَإِنْ يُهْلِكُونَ

[سورة الأنعام (6): آية 27]

إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أي: وما يهلكون إلا أنفسهم بمعنى أنّ الضرر لا يتعدّاهم إلى غيرهم، وإن كانوا يظنّون أنّهم يضرّون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكنّهم لا يشعرون بهذا، هذا حالهم في الدنيا، فكيف يكون حالهم يوم القيامة؟ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ. أي: إذا أروها حتى يعاينوها، أو حبسوا على الصراط فوق النار، أي لو رأيت هذا المشهد لشاهدت أمرا عظيما فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تمنّوا الرّدّ إلى الدّنيا ليؤمنوا وليتركوا التكذيب، والمعنى: يا ليتنا نردّ وإن رددنا لم نكذب بل نكون من المؤمنين، ولكن أنّى لهم الرجوع؟ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. أي: بل ظهر لهم ما كانوا يخفون من الناس في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم، وإذ ظهر هذا فقد قامت الحجة عليهم وَلَوْ رُدُّوا. أي: إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أي: فيما وعدوا من أنفسهم فإنهم لا يوفون به، فأيّ طبيعة هذه الطّبيعة؟ إذا عرفنا هذا أدركنا لم استحقوا الخلود في النار، لأنهم لو بقوا أبدا لكانوا كافرين أبدا. وبهذا تكون المجموعة الثانية من هذه الجولة قد انتهت، وفيها كما في المجموعة الأولى موقف للكافرين في الدنيا، ومشهد من مشاهد يوم القيامة، ولننتقل إلى المجموعة الثالثة لنجد موقفا في الدنيا ومشهدا من مشاهد يوم القيامة. المجموعة الثالثة وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا. أي: ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها ولا حشر ولا نشر، وأكدوا هذا المعنى بقولهم وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وهذا أعظم الجهل؛ لأنّ من عرف الله وقدرته لم يستغرب خلقه لنا مرة ثانية، ومن عرف الله وعرف عدله أيقن بالحساب والجزاء في دار غير هذه الدار، وقد أخبر الله أنّه فاعل على لسان رسله عليهم السلام، فأيّ جهل بعد ذلك أن لا يؤمن الإنسان بالبعث وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ. أي: أوقفوا بين يديه وهو تعبير عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه فماذا يقول الله لهم في هذا الموقف قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ. أي: أليس البعث وهذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تزعمون، وقوله بالحق أي بالكائن الموجود، وهذا تعيير لهم على التكذيب بالبعث وقولهم

المجموعة الرابعة

لما كانوا يسمعون من حديث البعث: ما هو بحق قالُوا بَلى وَرَبِّنا أقروا وأكدوا الإقرار باليمين حيث لا ينفعهم إقرارهم قالَ. أي: الله فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. أي: بسبب كفركم، وفي معرض إنكارهم لليوم الآخر يأتي في السياق مجموعتان، مجموعة تقرر جزاء من لم يؤمن بالآخرة، ومجموعة فيها تعزية وتسلية وتوجيه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فإننا نستطيع أن نقول: إن هاتين المجموعتين استمرار للمجموعة السابقة وفي موضوعها، ولكنا سنعرضهما على أنهما المجموعة الرابعة والخامسة. المجموعة الرابعة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ. أي: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها من لقاء الله حَتَّى هذه غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم لأن خسرانهم لا غاية له إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ. أي: القيامة لأنّ مدة تأخرهم مع تأبّد ما بعدها كساعة واحدة بَغْتَةً. أي: فجأة، والبغتة: هي ورود الشئ على صاحبه من غير علمه بوقته قالُوا يا حَسْرَتَنا هذا نداء تفجّع معناه يا حسرة احضري فهذا أوانك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها. أي: على ما قصّرنا في الحياة الدنيا أو في السّاعة، أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ. أي: آثامهم عَلى ظُهُورِهِمْ خصّ الظّهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور، كما عهد الكسب بالأيدي، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. أي: ألا بئس شيئا يحملونه، ومجئ (ألا) في هذا السياق يفيد تعظيم ما يذكر بعده وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا هذا جواب لقولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا وتقييم لها إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ اللعب: ترك ما ينفع لما لا ينفع. واللهو: الميل عن الجدّ إلى الهزل، والمعنى: ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، أو ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، لأنّها لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ. أي: ولدار الساعة الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو أَفَلا تَعْقِلُونَ. قيمة الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة؛ فتعملون للآخرة، وأ فلا تعقلون عن الله فتسمعون وتطيعون وتؤمنون وتتقون؟ وهكذا يتكامل الردّ على دعوى الكافرين أنه لا

معاد من خلال التذكير بحقيقة الحياة الدنيا، وستأتي المجموعة الخامسة لتكمّل الردّ، وقبل أن نعرض المجموعة الخامسة نحب أن ننقل هنا ما قاله صاحب الظلال في هذا المقام مذكّرا بأبعاد التصور الإسلامي لقضية الحياة: يقول صاحب الظلال: «فالحياة- في التصور الإسلامي- ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد؛ وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس؛ كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا. إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد طولا في الزمان، وتمتد عرضا في الآفاق، وتمتد عمقا في العوالم، وتمتد تنوعا في الحقيقة .. عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها. إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المشهودة- فترة الحياة الدنيا- وفترة الحياة الأخرى؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار!. وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر؛ دارا أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض؛ ونارا تسع الكفرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض .. وتمتد في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله. وجود يبدأ من لحظة الموت، وينتهي في الدار الآخرة. وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله. وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله. وتمتد الحياة في حقيقتها؛ فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى .. في الجنة وفي النار سواء. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا ... ولا تساوي الدنيا- بالقياس إليها- جناح بعوضة!. والشخصية الإنسانية- في التصور الإسلامي- يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان وفي هذه الآفاق من المكان، وفي هذه الأعمال والمستويات من العوالم والحيوات ... ويتسع تصورها للوجود كله؛ وتصورها للوجود الإنساني؛

ويتعمق تذوقها للحياة؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها؛ بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات .. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني، وتصورهم للوجود الإنساني؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا! ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم، ويبدأ الاختلاف في النظم ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج للحياة متكامل متناسق؛ وتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه: تصورا واعتقادا، وخلقا وسلوكا، وشريعة ونظاما .. إن إنسانا في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق، ويصارع الآخرين عليه، بلا انتظار لعوض عما يفوته ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به .. إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس!. إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشئ سعة في النفس، وكبرا في الاهتمامات، ورفعة في المشاعر! ينشأ عنها هي خلق وسلوك، غير الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم. فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه، طبيعة هذا التصور، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته، استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله، وأنه مناط العوض والجزاء؛ وصلح الفرد واستقام سلوكه- متى استيقن الآخرة كما هي في التصور الإسلامي- وصلحت الأوضاع والأنظمة، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة فيخسرون الدنيا والآخرة. والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون: إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا؛ وإلى إهمال هذه الحياة؛ وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها؛ وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعا إلى نعيم الآخرة .. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة- كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة- وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم ... فالدنيا- في التصور الإسلامي- هي مزرعة الآخرة. والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه

كلمة في السياق

الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعا .. كل أولئك هو زاد الآخرة وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة، ويعوّضهم عما فقدوا في صراع الباطل، وما أصابهم من الأذى .. فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن، أو تفسد وتختل، أو يشيع فيها الظلم والطغيان، أو تتخلف في الصلاح والعمران .. وهم يرجون الآخرة وينتظرون فيها الجزاء من الله؟. إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين؛ ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا- مع ادعائهم الإسلام- فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين؛ ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة. فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة. وهو يعي حقيقة هذا الدين ثم يعيش في هذه الحياة الدنيا سلبيا أو متخلفا، أو راضيا بالشر والفساد والطغيان. إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى. ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة. ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقوامها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها. ويكافح الشر والفساد والظلم محتملا الأذى والتضحية حتى الشهادة، وهو إنما يقدم لأنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا؛ وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى. وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقة الحياة الآخرة، وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع، وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى؛ وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم، من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة. ومن أجل ذلك كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الآخرة». كلمة في السياق: رأينا أن محور السّورة هو كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لاحظ كلمة إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثمّ تذكر أن المجموعات التي مرت معنا كلها فيها حديث عن هذه الرّجعة، وما يكون فيها، وتذكّر أن المجموعة

المجموعة الخامسة

الخامسة التي ستمرّ معنا إنما هي امتداد لما قبلها، فالجولة إذن تفصّل في محور السورة بشكل واضح، وهي مع تفصيلها للمحور لها سياقها الخاص بها، فهي ترينا نماذج على القهر الإلهي في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فلنتذكر ونحن نقرأ ما تبقّى من الجولة: السياق الخاصّ لها وهو: عرض نماذج من القهر الإلهي، والحكمة والعلم الإلهيين. ولننتقل إلى المجموعة الخامسة في الجولة. المجموعة الخامسة قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ. أي: لا ينسبونك إلى الكذب ولكن يكذّبون ما جئت به وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فيه دلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، والمعنى أن تكذيبك تكذيب لله لأنّك رسوله المصدّق بالمعجزات، فهم لا يكذّبونك في الحقيقة، وإنّما يكذّبون الله، لأن تكذيب الرّسول تكذيب للمرسل وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فتلك طبيعة النفس البشرية الكافرة في كل عصر أنها تكذّب الرّسل فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا الصبر: حبس النفس على المكروه، والمعنى: أنّهم صبروا على تكذيب قومهم وإيذائهم حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا. أي: استمر صبرهم حتى جاءهم النّصر، فما بعد التكذيب والإيذاء إلا النصر، وما بعد الصبر، إلا النصر، تلك سنة الله في دعوته ورسله، قال صاحب الظلال: «إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم، ضارب في شعاب الزمن، ماض في الطريق اللاحب، ماض في الخط الواصب .. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة. وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء .. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني، ولا ينكص ولا يحيد .. والعاقبة هي العاقبة، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق .. إن نصر الله دائما في نهاية الطريق». هذه سنة الله- عزّ وجل- ولذلك عقّب الله- عزّ وجل- على قوله: حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بقوله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ. أي: لمواعيده في نصرة رسله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. أي: ولقد جاءك بعض أنبائهم وقصصهم، وما

[سورة الأنعام (6): آية 35]

كابدوا من مصابرة المشركين وكيف كانت العاقبة لهم وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ. أي: وإن كان عظم وشق عليك كفرهم وعدم استجابتهم للإسلام فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ. أي: سربا ومنفذا تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ. أي: أو تجعل لك سلما في السّماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية منها، والمعنى إنك لا تستطيع ذلك، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض، أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم، ولكنّ لله مرادا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى. أي: لجعلهم بحيث يختارون الهدى، ولكن لما علم أنهّم يختارون الكفر لم يشأ أن يجمعهم على ذلك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. أي: من الذين يجهلون ذلك، ويجهلون ما فيه من الحكم العظيمة إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. أي: إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم، أمّا غيرهم وهم الكفار فهؤلاء لا يسمعون، ولا يستجيبون ولذلك قال وَالْمَوْتى. أي: الكفار لأنهم موتى القلوب، فشبّههم الله بأموات الأجساد يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا. كلمة في السياق: - تشكل المجموعات الثلاث الأخيرة كلا متكاملا، فهي كلها تعالج قول الكافرين وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا من خلال الحجة، والموعظة، والتذكير، والتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتبصيره بحكمة الله- عزّ وجل- ولقد رأينا أن من حكمة الله- عزّ وجل- أن لا يهدي كل المكلفين، فذلك من مظاهر قهره وحكمته وعلمه، فالله- عزّ وجل- لا يهدي من لا يستحق الهداية، وهو أعلم بهم، وذلك من حكمته، وذلك من آثار قهره، وتعذيبهم كذلك هو أثر من آثار قهره وعلمه وحكمته، وهذا يذكرنا بالسياق الخاص للجولة. - يلاحظ أن آخر آية في المجموعة الأخيرة هي: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ولنتذكر أن محور السورة من البقرة فيه: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ والخطاب هناك للكافرين كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ ... ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الجولة تفصل في محور السورة من البقرة. ولها سياقها الخاص، كما لها ارتباطها بالسياق القرآني العام.

فوائد: روايات عن قوله تعالى فإنهم لا يكذبونك ..

فوائد: [روايات عن قوله تعالى فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ .. ] 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ذكر ابن كثير الروايات التالية: أ- روى سفيان الثوري ... عن علي قال: قال أبو جهل للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك ولكن نكذّب ما جئت به، فأنزل الله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. ب- روى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ! فقال: والله إني أعلم أنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنّك رسول الله ويجحدون. ج- ذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحد منهم بالآخر فاستمعوها إلى الصباح، فلمّا هجم الصبح تفرّقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء به، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلمّا أصبحوا جمعتهم الطريق فتلاوموا ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، فلمّا كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا فلمّا أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها، ثمّ تفرّقوا فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثمّ أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.

المجموعة السادسة

د- روى ابن جرير عن السدي في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ لما كان يوم بدر قال الأخنس ابن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة، إن محمدا ابن أختكم، فأنتم أحق من ذبّ عن ابن أخته، فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كفّ عن ابن أخته، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غلب محمد رجعتم سالمين، وإن غلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا- فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبيّ- فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسّقاية والحجابة والنّبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فآيات الله محمد صلّى الله عليه وسلّم». بين يدي المجموعة السادسة: قلنا إن المجموعات الثلاث الأخيرة تشكل كلا متكاملا يبدأ بقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ولكنّا عرضناها على أنهّا ثلاث مجموعات لسهولة العرض، وإلا فإنها تكاد تكون فقرة واحدة تبدأ بقوله تعالى: (وقالوا) والآن تأتي مجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ فكأنها معطوفة على وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ولسهولة العرض فإننا سنعرض المجموعة اللاحقة على أنها المجموعة السادسة في الجولة، وإنما أشرنا إلى هذا ليعلم أن الجولة يمكن أن تقسم تقسيمات أخرى كأن نقسمها إلى فقرات، وكل فقرة إلى مجموعات. فلننتقل إلى المجموعة السادسة: المجموعة السادسة: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. أي: هلّا أنزل عليه خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ويتعنتون قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً كما اقترحوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أي: لا يعلمون أنّ الله قادر على أن يأتي بآية، ولا يعلمون ما يترتب على نزول الآية المقترحة من عذاب عاجل لمن كفر، ثم لفت النظر إلى آياته في الكون وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ الدابّة: اسم لما يدبّ، وتقع على المذكر والمؤنّث وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ قيّد الطيران بالجناحين لنفي المجاز إِلَّا أُمَمٌ

[سورة الأنعام (6): آية 39]

أَمْثالُكُمْ. أي: إلا خلق أمثالكم في الحياة والموت، والاحتياج إلى مدبّر يدبّر أمرها، وفي القوانين التي تخضع لها وتنتظمها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. أي: ما تركنا في الكتاب من شئ، والكتاب يحتمل أن يكون المراد به اللوح المحفوظ، ويحتمل أن يكون المراد به القرآن. فإن أريد به اللوح المحفوظ كان المراد: ما تركنا من شئ لم نكتبه في اللوح المحفوظ، وإن كان المراد به القرآن كان المعنى: ما تركنا في القرآن من شئ يحتاج الخلق إلى بيانه إلا وقد اشتمل عليه القرآن، وقد جاء هذا التقرير في سياق الكلام عن كون كلّ نوع من دوابّ الأرض، وكل نوع من الطيور، أمة لها من الخصائص، والقوانين، واللغة، والعادات، ما به تسمّى أمة، وعلم دراسات الحيوانات أعطانا- حتى الآن- من هذا الكثير، فإشارة القرآن إلى ذلك هنا معجزة منفردة، وهو في الوقت نفسه دليل على أنه ما من شئ إلا وفي القرآن بيان عنه. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ في تفسير الحشر هنا اتجاهان للمفسرين، الاتجاه الأول: اتجاه من يفسر حشر البهائم بأنه موتها، والاتجاه الثاني يفسّر حشرها ببعثها وإقامة العدل فيما بينها، ثم إفنائها، وفي الفوائد سنذكر مزيدا عن هذا الموضوع، ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته في هذه الآية ما يشهد لربوبيته، وينادي على عظمته، قال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ. أي: لا يسمعون كلام المنبّه وَبُكْمٌ. أي: لا ينطقون بالحق فِي الظُّلُماتِ. أي: خابطون فيها، وجمعت الظلمات لكثرة أنواعها، ظلمة الجهل، والحيرة، والكفر، والغفلة عن تأمل ذلك والتفكر فيه مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ. أي: من يشإ الله ضلاله يضلله، وفي هذا إيذان بأنّه فعّال لما يريد وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بأن يهديه للإسلام وفي هذا الكلام دليل على خلق الأفعال، وإرادة المعاصي، ونفي وجوب الأصلح عليه، وهي قضايا خالف بها المعتزلة، وإذ وصل السياق إلى هذا المعنى تأتي مجموعة أوامر بلفظ (قل) موجهة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأمره أن يقول معاني محددة للكافرين، فيها ردود على اقتراحهم الآيات. ولقد استخرج صاحب الظلال من هذا المقام- مقام اقتراح الآيات والموقف منها درسا سجّله وننقله بين يدي العلاج القرآني الذي ستعرضه المجموعات اللاحقة: فصل في الموقف من الاقتراحات يقول صاحب الظلال:

«من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجّه إليهم الدعوة، في تحوير منهج دعوته عن طبيعة الربانية؛ ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم .. ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق- وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى، منها في هذه السورة وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ! ... وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات. ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ- كَما زَعَمْتَ- عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ! .. وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها!. والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية- أية آية- مما يطلبون. وقيل للرسول صلّى الله عليه وسلّم: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ* إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ .. وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عند ما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .. ليعلموا أولا: أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية، والدليل على الحق، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون، وأنهم موتى وأن الله لم يقسم لهم الهدى- وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا- ثم ليعلموا كذلك: أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم! وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني .. إنه ليس خاصا بزمن، ولا

محصورا في حادث ولا مقيدا باقتراح معين. فالزمن يتغير، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى، وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر. وهناك من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات .. كالاشتراكية .. والديمقراطية .. وما إليها .. ظانين أنهم يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة! .. إن «الاشتراكية» مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر؛ قابل للصواب والخطأ. وإن «الديمقراطية» نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا .. والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادى، والنظام الاجتماعي الاقتصادى، والنظام التنفيذي والتشكيلي .. وهو من صنع الله المبرّأ من النقص والعيب .. فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله- سبحانه- عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله- سبحانه- عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟! .. لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه .. يتخذونهم أولياء: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى .... فهذا هو الشرك! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده، ولكنهم- ويا للنكر والبشاعة! - يستشفعون لله- سبحانه- عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم؟! .. إن الإسلام هو الإسلام. والاشتراكية هي الاشتراكية. والديمقراطية هي الديمقراطية .. ذلك منهج الله، ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له، والصفة التي وصفه بها .. وهذه وتلك من مناهج البشر. ومن تجارب البشر. وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس .. ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله، أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلّب. وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله!

على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم، ولم يقدّروا الله حق قدره .. إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية، وباسم الديمقراطية، لأن هذين زيّان من أزياء الاتجاهات المعاصرة .. فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي! كما كان الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وما تزيني مثلا! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية، وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد، فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام؟ لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس؟! إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها- وفي غيرها كذلك- يشمل هذا كله .. إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه؛ فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين، ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه، ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته .. إن الله غني عن العالمين. ومن لم يستجب لدينه عبودية له، وانسلاخا من العبودية لسواه، فلا حاجة لهذا الدين به، كما أنه لا حاجة لله- سبحانه- بأحد من الطائعين أو العصاة. ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه، التي يريد الله أن تسود البشرية. فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل، وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية ... إن الذي نزّل هذا الدين بمقوماته وخصائصه، وبمنهجه الحركي وأسلوبه، هو- سبحانه- الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه .. ». ***

فوائد

فوائد: 1 - [نقل بخصوص آية ... إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ] بمناسبة قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ينقل ابن كثير ما أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله قال: قلّ الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتمّ لذلك فأرسل راكبا إلى كذا، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شئ أم لا؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمين بقبضة جراد، فألقاها بين يديه، فلما رآها كبر ثلاثا، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خلق الله- عزّ وجل- ألف أمة، منها ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، وأول شئ يهلك من هذه الأمم الجراد. فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه». وفي حالة صحة هذا الحديث فالمراد بذكر العدد إما التكثير فلا يفهم منه الحصر، وإما أن يكون المراد الأمم الرئيسية التي خلقها الله، أو الأمم ذات الإدراك المرتفع. 2 - [روايات بخصوص آية ... ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ] بمناسبة قوله تعالى عن هذه الأمم: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ نقل ابن كثير في معنى الحشر قولين، القول الأول أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس قال: موت البهائم حشرها وذكر أنه روي عن مجاهد والضحاك مثله، والقول الثاني إن حشرها هو بعثها يوم القيامة لقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ثم ذكر مجموعة آثار تشهد لهذا القول وهذه هي مع حذف الأسانيد: أ- روى الإمام أحمد ... عن أبي ذر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى شاتين تنتطحان فقال: «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟» قال: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما». ب- روى ابن جرير. عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ انتطحت عنزان فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون فيم انتطحتا؟» قالوا: لا ندري، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما». ورواه من طريق آخر عن أبي ذر فذكره وزاد: قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما. ج- وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ... عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».

3 - كلام بخصوص آية ما فرطنا في الكتاب من شيء

د- وروى عبد الرزاق ... عن أبي هريرة في قوله إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ قال يحشر الخلق كلهم يوم القيامة. البهائم والدواب والطير وكل شئ فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمّاء من القرناء، ثم يقول كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً. هذان اتجاهان للمفسرين في هذا الموضوع، والذي نفهمه نحن أنّ ما نص الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم على حشره يحشر، وما لم ينص على حشره فموته حشره حتى لا يقال إن الجراثيم وما أشبهها في الخلق تبعث وتحشر أو نقول: إن هناك حدّا معيّنا من الإدراك إذا وجد ترتب عليه حشر، وإذا لم يوجد لم يكن حشر، ويتحقق العدل الإلهي في الحيوانات التي لا تحشر بالشكل الذي يعلمه الله- عزّ وجل- ونرجو أن نكون بذلك قد جمعنا بين القولين بما لم نعطّل به نصا، ولم نشأ أن نتحدث عن هذا الموضوع بما يبعد هذا التفسير عن بساطته وسهولة الوصول إلى معانيه. 3 - [كلام بخصوص آية ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ] رأينا أن هناك اتجاهين للمفسرين في تفسير الكتاب في قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ قال الألوسي: ذاكرا أدلة من ذهب إلى أن المراد بذلك القرآن: «والمراد من الكتاب القرآن، واختاره البلخي وجماعة. فإنه ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، بل وغير ذلك، إما مفصّلا، وإما مجملا، فعن الشافعي عليه الرحمة: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها. وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلّجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى، فقالت له امرأة في ذلك. فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله تعالى. فقالت له: قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. قالت: بلى. قال: فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه». وقال الشافعي رحمه الله تعالى مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى. فقيل له؟ ما تقول في المحرم يقتل الزنبور: فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه أنه قال: يقال: أنزل في هذا القرآن كل علم

كلمة في السياق

وبين لنا فيه كل شئ. ولكن علمنا يقصر عما بيّن لنا في القرآن» وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرّة والخردلة والبعوضة» وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر الله تعالى به». كلمة في السياق: ذكرت المجموعة السادسة اقتراحا للكافرين وردّت عليه، وبعد هذا الردّ تأتي الآن مجموعات تعالج المرض، وتقيم الحجة، وتشرح بعض سنن الله، وتأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوجه الحوار، وأن يناقش، وأن يعلن، وكل ذلك يجري على نسق واحد، نسق يحقق تكامل الجولة ضمن سياقها، ويكمّل تفصيل المحور، والملاحظ أن الأمر «قل» الموجه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتكرّر في هذه المجموعات، وقد مرّت معنا من قبل ست مجموعات في هذه الجولة وها قد وصلنا إلى المجموعة السابعة وهي مصدرة بقوله تعالى: قُلْ. المجموعة السابعة قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ. أي: هل علمتم أنّ الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ معناه: أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون غير الله؟ وفي هذا تبكيت لهم أي أتخصون آلهتكم بالدعوة إذا أصابكم ضر، أم تدعون الله دونها؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ غير الله إله فادعوه ليخلصكم ولكنّهم كاذبون بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ. أي: بل تخصّونه بالدّعاء دون الآلهة المزعومة فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ. أي: فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن أراد أن يتفضّل عليكم وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ. أي: وتتركون آلهتكم أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأنّ أذهانكم وقتذاك مغمورة بذكر ربكم وحده إذ هو القادر على كشف الضرّ دون غيره. إن رجوع الإنسان إلى الله ساعة الشّدّة وإقباله عليه بالدّعاء وإفراده بذلك، لدليل أيما دليل على استكنان الإيمان بالله وتوحيده في الفطرة البشرية، ولقد علّق صاحب

الظلال على الآية الأخيرة بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ... بقوله: «بل تدعونه وحده؛ وتنسون شرككم كله! .. إن الهول يعرّي فطرتكم- حينئذ- فتتجه بطلب النجاة إلى الله وحده. وتنسى أنها أشركت به أحدا. بل تنسى هذا الشرك ذاته .. إن معرفتها بربها هي الحقيقة المستقرة فيها؛ فأما هذا الشرك فهو قشرة سطحية طارئة عليها، بفعل عوامل أخرى. قشرة سطحية في الركام الذي ران عليها. فإذا هزّها الهول تساقط هذا الركام، وتطايرت هذه القشرة، وتكشّفت الحقيقة الأصلية، وتحركت الفطرة حركتها الفطرية نحو بارئها، ترجوه أن يكشف عنها الهول الذي لا يد لها به، ولا حيلة لها فيه .. هذا شأن الفطرة في مواجهة الهول، يواجه السياق القرآني به المشركين .. فأما شأن الله- سبحانه- فيقرره في ثنايا المواجهة. فهو يكشف ما يدعونه إليه- إن شاء- فمشيئته طليقة، لا يرد عليها قيد. فإذا شاء استجاب لهم فكشف عنهم ما يدعون كله أو بعضه؛ وإن شاء لم يستجب، وفق تقديره وحكمته وعلمه. هذا هو موقف الفطرة من الشرك الذي تزاوله أحيانا، بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف، نتيجة عوامل شتى، تغطي على نصاعة الحقيقة الكامنة فيها .. حقيقة اتجاهها إلى ربها ومعرفتها بوحدانيته .. فما هو موقفها من الإلحاد وإنكار وجود الله أصلا؟ نحن نشك شكا عميقا- كما قلنا من قبل- في أن أولئك الذين يمارسون الإلحاد في صورته هذه صادقون فيما يزعمون أنهم يعتقدونه. نحن نشك في أن هناك خلقا أنشأته يد الله، ثم يبلغ به الأمر حقيقة أن ينطمس فيه تماما طابع اليد التي أنشأته، وفي صميم كينونته هذا الطابع، مختلطا بتكوينه، متمثلا في كل خلية وفي كل ذرة. إنما هو التاريخ الطويل من العذاب البشع، ومن الصراع الوحشي مع الكنيسة، ومن الكبت والقمع، ومن إنكار الكنيسة للدوافع الفطرية للناس مع استغراقها هي في اللذائذ المنحرفة .. إلى آخر هذا التاريخ النكد الذي عاشته أوربا قرونا طويلة .. هو الذي دفع الأوربيين في هذه الموجة من الإلحاد في النهاية .. فرارا في التيه، من الغول الكريه. ذلك إلى استغلال اليهود لهذا الواقع التاريخي؛ ودفع النصارى بعيدا عن دينهم؛ ليسلس لهم قيادهم، ويسهل عليهم إشاعة الانحلال والشقاء فيهم، وليتيسر لهم استخدامهم- كالحمير- على حد تعبير «التلمود» و «برتوكولات حكماء صهيون» .. وما كان اليهود ليبلغوا من هذا كله شيئا إلا باستغلال ذلك التاريخ الأوربي النكد، لدفع الناس إلى الإلحاد هربا

[سورة الأنعام (6): آية 42]

من الكنيسة. ومع كل هذا الجهد الناصب، المتمثل في محاولة «الشيوعية» - وهي إحدى المنظمات اليهودية- لنشر الإلحاد، خلال أكثر من نصف قرن، بمعرفة كل أجهزة الدولة الساحقة، فإن الشعب الروسي نفسه لم يزل في أعماق فطرته الحنين إلى عقيدة في الله .. ولقد اضطر «ستالين» الوحشي- كما يصوره خلفه خروشوف! - أن يهادن الكنيسة، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن يفرج عن كبير الأساقفة، لأن ضغط الحرب كان يلوي عنقه للاعتراف للعقيدة في الله بأصالتها في فطرة الناس مهما يكن رأيه ورأي القليلين من الملحدين من ذوي السلطان حوله. ولقد حاول اليهود- بمساعدة «الحمير» الذين يستخدمونهم من الصليبيين- أن ينشروا موجة من الإلحاد في نفوس الأمم التي تعلن الإسلام عقيدة لها ودينا. ومع أن الإسلام كان قد بهت وذبل في هذه النفوس .. فإنّ الموجة التي أطلقوها عن طريق أتاتورك في تركيا .. انحسرت على الرغم من كل ما بذلوه لها- (وللبطل) - من التمجيد والمساعدة. وعلى كل ما ألّفوه من الكتب عن (البطل) والتجربة الرائدة التي قام بها .. ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك، ألّا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد. إنما يرفعون عليها راية الإسلام.، كيلا تصدم الفطرة، كما صدمتها تجربة أتاتورك. ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية. غير أن العبرة التي تبقى من وراء ذلك كله، هي أن الفطرة تعرف ربها جيدا، وتدين له بالوحدانية، فإذا غشّى عليها الرّكام فترة، فإنها إذا هزها الهول وتساقط عنها ذلك الركام كله وتعرّت منه جملة، عادت إلى بارئها كما خلقها أول مرة .. مؤمنة طائعة خاشعة .. أما ذلك الكيد كله فحسبه صيحة حق تزلزل قوائمه، وترد الفطرة إلى بارئها سبحانه. ولن يذهب الباطل ناجيا، وفي الأرض من يطلق هذه الصيحة. ولن يخلو وجه الأرض- مهما جهدوا- ممن يطلق هذه الصيحة». وبعد أن أقام الله الحجة على المشركين من خلال واقعهم وإذ كان السياق في موضوع التهديد بالعذاب الرباني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فإن الآية التالية تبين لهم سنّة الله في معاملته للأمم حتى لا يستبطئوا عذاب الله مع تكذيبهم رسوله فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ. رسلا فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ. أي: بالبؤس

[سورة الأنعام (6): آية 43]

والضر، ويدخل في البؤس القحط، والجوع، وفي الضر المرض، ونقصان الأنفس، والأولاد لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. أي: يتذللون، ويتخشّعون لربّهم، ويتوبون عن ذنوبهم إذ المفروض أن تتخشّع النّفوس عند نزول الشدائد فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا. أي: هلّا تضرعوا بالتّوبة عند إنزال البأساء والضّراء بهم، وهذا يفيد نفي التضرع وإنما استعملت (لولا) في هذا المقام ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فلم ينزجروا بما ابتلوا به بل زادوا عتوا بدلا من أن يتضرعوا وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فصاروا معجبين بأعمالهم على قبحها وسوئها كما نرى المنحرفين عن أمر الله- وما أكثرهم- يسمّون انحرافهم أسماء تدل على عجبهم وافتخارهم بما هم فيه من ضلال فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من الوحي والبأساء والضراء أي: تركوا الاتعاظ به؛ ولم يزجرهم؛ فأعرضوا عنه، وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من الصّحة، والسّعة، وصنوف النعمة، ورخاء الدنيا، ويسرها من جاه ورفاه ومجد، وهذا استدراج منه تعالى، وإملاء لهم عياذا بالله من مكره حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا. أي: من الأموال والأولاد والأرزاق والجاه وتيسير الأمور أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً. أي: على غفلة أي فجأة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. أي: آيسون من كل خير ومتحسرون، وأصل الإبلاس: الإطراق حزنا لما أصاب الإنسان أو ندما على ما فاته فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا. أي: أهلكوا عن آخرهم، ولم يترك منهم أحد إذ عند ما يقطع دابرهم لا يبقى منهم أحد وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة، وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله. ومن الآيات نعرف كما قال صاحب الظلال: إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة، وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة. يبتلي الطائعين والعصاة سواء. بهذه وبذاك سواء .. والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر، ويبتلى بالرخاء فيشكر، ويكون أمره كله خيرا .. وفي الحديث: «عجبا للمؤمن إن أمره كله له خير- وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (رواه مسلم).

كلمة في السياق

كلمة في السّياق: - إن صلة قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بسياق الجولة الذي عنوانه وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ واضحة، فقطع دابر الذين ظلموا مظهر من مظاهر القهر الإلهي، وذلك مظهر من مظاهر ارتباط المجموعة التي مرّت معنا بسياق الجولة الخاص الذي تحدثنا عنه كثيرا، وقد آن الأوان لنتذكر محلّ هذه الجولة بالنسبة لسياق السورة الخاص: بدأت سورة الأنعام بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ لاحظ كلمتي (يعدلون) و (تمترون) إن الشرك والامتراء، أو الشرك والشك، مرضان من أمراض النفس البشرية، والجولة التي بين أيدينا تعالج الشرك، والشك، والامتراء منذ بدايتها، ففي المجموعة الأولى ورد قوله تعالى: قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. وفي المجموعة الثانية ورد قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وذكرت المجموعات الأربع اللاحقة مجادلة المشركين، ثم جاءت المجموعة السابعة وفيها عودة إلى التوحيد بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وتأتي المجموعة الثامنة لتكمل الحوار مع الشرك وأهله، فالجولة إذن- مع أن لها سياقها الخاصّ بها- ترتبط بسياق السورة الخاص بروابط متعدّدة، وهي في هذا كله تفصّل في محور السورة من البقرة. فوائد: 1 - [استدراج الله تعالى للظالمين] روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج». ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. وروى ابن أبي حاتم أنّ الحسن البصري قال: من وسّع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتّر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له، ثم قرأ: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ قال: مكر بالقوم ورب الكعبة؛ أعطوا

2 - كلام صاحب الظلال عن تاريخ الأمم السابقة

حاجتهم ثم أخذوا. وروى ابن أبي حاتم أيضا أن قتادة قال: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم، وغرتهم، ونعمتهم؛ فلا تغتروا بالله فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وروى ابن أبي حاتم أيضا ... عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «إذا أراد الله بقوم بقاء- أو نماء- رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم- أو فتح عليهم- باب خيانة حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ كما قال: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وهذا الموضوع مما ينبغي أن يعرفه كل إنسان، فإن أكثر الناس غافلون عن هذا المقام إذا أصابهم النعماء جعلوها علامة على الرضى، وإذا أصابهم غير ذلك جعلوها علامة السخط، ولم يرافق ذلك عندهم تضرع وإنابة وتوبة، وكثيرون من الناس يغترون بما عليه الناس من نعمة، أو يحكمون على مقاماتهم عند الله بما يرون من صعوبات تعترضهم، وكل هؤلاء معرفتهم بالله قاصرة، وإدراكهم لقهر الله وفعله محدود. وعلينا أن ندرك في هذا المقام أن الاستدراج والإملاء قد يكون لفرد، وقد يكون لأمة، وقد يكون لقوم، وقد يكون لدولة. فليحذر الإنسان سخط الله، وليحاسب نفسه. 2 - [كلام صاحب الظلال عن تاريخ الأمم السابقة] بمناسبة الكلام عن الأمم التي أرسل الله لها رسلا وسنّة الله فيها قال صاحب الظلال: «ولقد عرف الواقع البشري كثيرا من هذه الأمم، التي قصّ القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها، قبل أن يولد «التاريخ» الذي صنعه الإنسان! فالتاريخ الذي سجّله بنو الإنسان حديث المولد، صغير السن، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر الأرض! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل- على قصره- بالأكاذيب والأغاليط، وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة، والمحرّكة للتاريخ البشري، والتي يكمن بعضها في أغوار النفس، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب، ولا يبدو منها إلا بعضها. وهذا البعض يخطئ البشر في جمعه، ويخطئون في تفسيره، ويخطئون أيضا في تمييز صحيحه من زائفه- إلا قليلا- ودعوى أي بشر أنه أحاط بالتاريخ البشري علما، وأنه يملك تفسيره تفسيرا «علميا» وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضا .. هي أكبر أكذوبة يمكن أن يدّعيها بشر! ومن عجب أن بعضهم يدعيها! والأشد إثارة للعجب أن بعضهم يصدقها! ولو قال ذلك المدعي: إنه يتحدث عن (توقعات) لا عن (حتميات) لكان ذلك مستساغا .. ولكن إذا

وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري؟!. والله يقول الحق، ويعلم ماذا كان ولماذا كان. ويقص على عبيده- رحمة منه وفضلا- جانبا من أسرار سننه وقدره؛ ليأخذوا حذرهم ويتعظوا؛ وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة؛ يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيرا كاملا صحيحا. ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون، واستنادا إلى سنة الله التي لا تتبدّل .. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها .. ». «ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة؛ وكان لها من التمكين في الأرض؛ وكان لها من الرخاء والمتاع؛ ما لا يقل- إن لم يزد في بعض نواحيه- عما تتمتع به اليوم أمم مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع؛ مخدوعة بما هي فيه؛ خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء .. هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة. والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه، وهي تتمرّد على سلطانه، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته، وهي تعيث في الأرض فسادا، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله .. ولقد كنت- في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية- أرى رأى العين مصداق قول الله سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ .. فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية .. مشهد تدفّق كل شئ من الخيرات والأرزاق بلا حساب! .. لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك! وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه، وشعورهم بأنه وقف على «الرجل الأبيض» وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية- كذلك بشعة! وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يصل إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها، حتى صار علما على الصلف العنصري. بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين .. كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية، وأتوقع سنة الله، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين. حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ*

المجموعة الثامنة

فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ .. وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهناك ألوان من العذاب باقية. والبشرية- وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شئ- تذوق منها الكثير. على الرغم من هذا النتاج الوفير، ومن هذا الرزق الغزير! إن العذاب النفسي، والشقاء الروحي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الخلقي .. الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع؛ وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية، التي تباع فيها أسرار الدولة، وتقع فيها الخيانة للأمة، في مقابل شهوة أو شذوذ .. وهي طلائع لا تخطئ على نهاية المطاف! وليس هذا كله إلا بداية الطريق .. وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا- على معاصيه- ما يحب فإنما هو استدراج» .. ثم تلا: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ. حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ ... (رواه ابن جرير وابن أبي حاتم). غير أنه ينبغي، مع ذلك، التنبيه إلى سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة) .. ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .. فلا يقعدنّ أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجرى سنة الله بلا عمل منهم ولا كد. فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق، ولا يكونون أهله .. وهم كسالى قاعدون ... ». ثم تأتي المجموعة الثامنة في الجولة الأولى من المقطع الثاني من سورة الأنعام وفيها حوار وعرض سنن، وإقامة حجة، وهي مبدوءة بكلمة «قل» ويتكرّر فيها هذا الأمر أكثر من مرّة فلنر المجموعة: المجموعة الثامنة قُلْ. أي: يا محمد لهؤلاء المكذّبين المعاندين أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بأن أصمّكم وأعمالكم أي سلبكم إياها كما أعطاكموها وهذا تدليل على قدرة الله، كما هو تذكير بطرق النظر المؤدية إلى الإيمان لأنّه وارد في سياق اقتراحهم الآيات وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فسلب العقول والتمييز، ثمّ سألهم: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ. أي: هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم؟ بل

[سورة الأنعام (6): آية 47]

لا يقدر على ذلك أحد سواه انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ. أي: نكرّرها ونبيّنها ونوضّحها ونفسّرها، دالة على أنه لا إله إلا الله، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال، وبدلا من رؤية الآيات والوصول من خلالها إلى الإيمان يقترحون الآيات والمعجزات تعنتا وعنادا، ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ. أي: ثم هم يعرضون عن الآيات بعد ظهورها، والصدوف: الإعراض عن الشئ. ثمّ يأتي أمر آخر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصيغة (قل): قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً. أي: فجأة بأن لم نظهر أماراته أَوْ جَهْرَةً. أي: ظهرت أماراته هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ مبشّرين بالجنان لأهل الإيمان، ومنذرين بالنيران لأهل الكفران، قال النسفي: ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة. وقال ابن كثير: مبشّرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ. أي: فمن آمن من قلبه بما جاءوا به، وأصلح عمله باتباعه إياهم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. أي: بالنسبة لما يستقبلونه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أي: بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا فالله وليهم فيما خلّفوه، وحافظهم فيما تركوه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. أي: ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل، وبما خرجوا عن أوامر الله وطاعته، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته، جعل العذاب ماسّا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام، وقوله تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني أن ذلك بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر وفي هذه المجموعة بيان أن العذاب لا يصيب إلا الظالمين الفاسقين، وأن المؤمنين الصالحين في أمان في دنياهم وأخراهم، والآن يأتي أمر آخر بصيغة (قل): قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ. أي: قسمه للخلق وأرزاقه، أو لست أملك خزائنه ولا أتصرف فيها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ. أي: ولا أقول لكم إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله- عزّ وجل- ولا أطّلع منه إلا على ما أطلعني عليه وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ. أي: ولا أدعي أنّي ملك، إنّما أنا بشر من البشر يوحى إليّ من الله- عزّ وجل- شرّفني بذلك وأنعم عليّ به، والمعنى: لا أدعي هذا ولا هذا أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر، من ملك خزائن الله، وعلم الغيب، ودعوى الملكية، فلماذا تكذبون دعوتي ورسالتي! إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا

ما يُوحى إِلَيَّ. أي: لست أخرج عنه قيد شبر، ولا أدنى منه، وما أخبركم إلا بما أنزل الله عليّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ هذا مثل للضال والمهتدي، أو لمن اتّبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع، أو لمن يدّعي المستقيم وهو النبوة مع الدليل والبرهان، والمحال وهو الإلهية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ من أجل ألا تكونوا ضالين، أو من أجل أن تعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر، أو من أجل أن تعلموا أن اتّباع ما يوحى إليّ ممّا لا بدّ لي منه. وتعليقا على هذه الآية، وتبيانا لكون العقل بدون الوحي أعمى، وتوضيحا لمحل العقل بالنسبة للإنسان يقول صاحب الظلال: «ثم .. إنّ اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى .. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة .. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟ سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط .. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته .. وهذه وظيفته .. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية، وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير. يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا. تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة .. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما، ويضع على أساسها نظاما، ملحوظا فيه الشمول والتوازن .. ومن ثم يظل- حين ينعزل عن منهج الله وهداه- يرتاد التجارب، ويغيّر الأحكام، ويبدّل النّظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال .. وهو في ذلك يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة .. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله؛ وجعل التجارب والتقلبات في «الأشياء» وفي «المادة» وفي «الأجهزة» وفي «الآلات» .. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح. ويتعرض لهذا كله- بعد طبيعة تركيبه- بسبب ما ركب في الكيان البشري من

شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون، فتؤدي إلى تدمير الحياة وانتكاسها، وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده، فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات- وهي شتى- من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم في مجال الحياة البشرية؛ ليقوّم به تجربته وحكمه وليضبط به اتجاهه وحركته. والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصّواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما- العقل والوحي- من صنع الله فلا بد أن يتطابقا .. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه. والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي- حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر- إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله .. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجّة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله- سبحانه- يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة. والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم- وهو من منتجات العقل- يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك .. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شئ؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق، وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد تكفل له انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها- وفق

فائدة: كلام صاحب الظلال عن آية ... ولا أعلم الغيب ..

شريعة الله- فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك. والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى». فائدة: [كلام صاحب الظلال عن آية ... وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ .. ] بمناسبة قوله تعالى آمرا رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يقول صاحب الظلال: «ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من «النبوءات» الزائفة، يدّعيها «متنبئون» ويصدقها مخدوعون .. ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب، والاتصال بالجن والأرواح، وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى، والتعاويذ، أو بالدعوات والصلوات، أو بغيرها من الوسائل والأساليب. وتتفق كلها في الوهم والضلالة، وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب. «فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء. ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة «بالأرباب!». لا تطيع الكاهن، ولكنها تلبي دعوته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه وترشده بالعلامات والأحلام، ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات! ولكنهما- نبوءة السحر ونبوءة الكهانة- تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس. لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان، ويريدان قصدا ما يطلبانه بالعزائم والصلوات، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره، ينطق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها، ولعله لا يعيها. ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه، ولحن رموزه وإشاراته. وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب «مانتي manti «ويسمون المفسر «بروفيت prophet «أي المتكلم بالنيابة عن غيره. ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها. وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون، إلا أن يكون الكاهن متوليا للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب، ومضامين رموزه وإشارته. ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية، مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة. فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث- في أكثر الأحيان- من آبائه وأجداده. وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة؛ ولا يتوقف

الجذب على هذه البيئة، لأنه قد يعتري صاحبه في البرية، كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد». وهكذا حفلت الجاهليات- ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية- بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي. وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور؛ ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة، وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة .. ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ومنها هذا التقرير: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ؟ .. أقول: لقد أكرم الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن أطلعه على بعض الغيوب، وقد يكرم الله- عزّ وجل- مسلما بأن يلهمه حقا، أو يجري على لسانه كلمة حق، أو يريه رؤيا حق، وبعض ذلك قد يكون له صلة بأمر غيبي. وقد يكرم الله المسلمين باستجابة دعاء فيسخر لهم ما يسخر ولكنّ ذلك ليس هو الأساس الذي يبني عليه المسلم مواقفه. إن كثيرين من مسلمي عصرنا بسبب من رؤية كرامة لولي، أو بسبب من إلهام حق لصالح يتابعون صاحب ذلك في كل شئ وينسون تكليف الله لهم في القيام بأمره ونصرة شريعته، ووجوب التعاون مع المسلمين على الخير، ووجوب كون المسلمين صفا واحدا. إن هذه الآية تصحح مفاهيم خاطئة كثيرة في أمر النبوة وفي أمر الدخول في الإسلام، وفي أمر المتابعة عليه. فليس رسول الله ملكا ومن ثمّ يتابع، وليس رسول الله عالما بالغيب ومن ثمّ يتابع، وليس بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خزائن الله ومن ثمّ يتابع، إنه يتابع لأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد يعطيه الله ويعطي من تابعه، وقد يكرمه الله بشيء من علم الغيب، ثم هو أكرم على الله من ملائكته ولكنّ صفته هي أنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولا زالت القضايا التي صححتها الآية محل غلط عند كثير من المسلمين: فالرّفاه عند بعضهم هو الهدف من حمل الإسلام والمطالبة بإقامته، إن الرفاه سيتحقق بإذن الله،

كلمة في السياق

ولكن الدخول في الإسلام والمطالبة بإقامته مطلوب من الإنسان في كل حال وجد رفاه أو لم يوجد. والصف الإسلامي يقدّم قيادته الراشدة، وهذه القيادة واجبة الطاعة على تفصيلات. وقد يكرم الله- عزّ وجل- هذه القيادة بإلهام، ولكن وجود القيادة ووجوب طاعتها ليس متعلقا بذلك. كلمة في السياق: في المجموعات الثمان التي مرت معنا في هذه الجولة- بل فيها وفيما قبلها- جرى حوار شامل مع الكافرين والمشركين- بصرف النظر عن استعداداتهم- مما يشير إلى أنه لا بد من إقامة الحجة على كل كافر سواء آنسنا منه خيرا أو لم يؤنس منه أي خير. وبعد، فقد يستجيب لدعوة الله من تغلبه نفسه في بعض الأحوال، وقد يستجيب لدعوة الله فقراء وضعفاء وعجزة، وقد يستجيب لدعوة الله ناس هم في موازين الناس أغبياء إلى آخر ما يمكن أن يقال في هذا الشأن، فما أدب الداعية في ذلك؟ إن المجموعة التاسعة في هذه الجولة تتحدث عن هذا كله: تتحدث عمن هم محلّ الرجاء في الدعوة وتتحدث عن أدب الداعية مع المستجيبين!. *** المجموعة التاسعة بعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمجموعة أوامر بصيغة «قل» ليجابه بها الكافرين، ويحذّرهم ويردّ عليهم في مقابل اقتراحاتهم، وجّه الله رسوله توجيهين في أمر ونهي، الأمر هو وَأَنْذِرْ بِهِ أي: وأنذر بالوحي، أي: بالقرآن. الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ أي: المسلمون المقرّون بالبعث إلا أنهم مفرّطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه، أو أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث، ومن هنا نفهم أن الإنذار بالقرآن إنما

[سورة الأنعام (6): آية 52]

يستفيد منه المؤمنون بيوم القيامة، ولا يؤمن أحد بالقيامة إلا بعد إيمان بالله والرسول، ومن ثمّ فإنّ الداعية يركز أول ما يركّز على موضوع الإيمان بالله، والرسول، واليوم الآخر، وإقامة الحجة على الناس بذلك، وهذا الذي نفهمه من كلام ابن عمر «كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن» ومن أجل هذا المعنى كتبنا سلسلة الأصول الثلاثة، ومن هنا نفهم أهمية هذا التوجيه في قضية الدعوة لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ. أي: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أي: لعلهم بهذا الإنذار يدخلون في زمرة أهل التقوى، نفهم من ذلك أن الإنذار بالقرآن والوحي من أهله طريق من طرق التحقق بالتقوى، وبعد الأمر السابق يأتي نهي، فبعد أن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإنذار من أجل التقوى، أمر بعد ذلك بتقريب المتقين ونهي عن طردهم، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم- أي عبادته- ويواظبون عليها ووسمهم بالإخلاص وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. أي: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، والمراد بدعاء ربهم عبادته، والمراد بالغداة والعشيّ دوامهم ومواظبتهم على العبادة، والمراد بإرادتهم وجهه إخلاصهم له إذ يعبّر بالوجه عن ذات الشئ وحقيقته، وقد يراد بالغداة والعشي الإشارة إلى صلاة الصبح والعصر، أو الصلوات المكتوبة كلها ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. أي: ليس عليك من ذنوبهم من شئ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. أي: كما أنك لا تحاسب عنهم فهم لا يحاسبون عنك فَتَطْرُدَهُمْ أي حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم وإذ كان الأمر كذلك فكيف تطردهم فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. أي: إن طردتهم والحالة هذه فإنّك تكون من الظالمين، والظلم يكون في حالة الطّرد المباشر، أو في حالة التسبّب، وهذا التوجيه من أهمّ التوجيهات في قضية الدعوة إلى الله، فإنّه لا يجوز طرد ولا إبعاد الذين يعبدون الله حتى ولو أخطئوا، أو قصّروا، أو أذنبوا، لا يجوز طردهم لا صراحة، ولا تسببا ما داموا متّصفين بهذه الصفة وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. أي: ومثل تلك الفتنة العظيمة، ابتلينا الأغنياء بالفقراء، والعظماء بالعامة، إذ كان أول المستجيبين لدعوة الله هم الفقراء، والضعفاء، والمساكين، وفي ذلك ابتلاء واختبار وامتحان للطرفين للكبار والضعفاء، للضعفاء، فلا تميل أعينهم عن أهل الحق، وللأغنياء والكبراء لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا. أي: أهؤلاء أنعم الله عليهم بالإيمان ونحن المقدّمون والرؤساء، وهم

[سورة الأنعام (6): آية 54]

الفقراء، إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحق، وممنونا عليهم من بينهم بالخير، وقد قال الله في جواب ذلك أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له، بأقوالهم، وأفعالهم، وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه إلى صراط مستقيم، وبعد النّهي عن طرد أهل التقوى أمره بتطييب قلوبهم وتبشيرهم وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. أي: فأكرمهم بردّ السلام عليهم، وبشّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم، وفي أمره تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: «سلام عليكم» إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما وتطييبا لقلوبهم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أمره أن يقول لهم هذا فيبشرهم بسعة رحمة الله، وقبوله التوبة منهم، ومعنى النص: وعدكم بالرحمة وعدا مؤكّدا، وأوجبها على نفسه الكريمة تفضّلا منه وامتنانا وإحسانا. ومن رحمته أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً. أي: ذنبا بِجَهالَةٍ. أي: بسبب من الجهل، ولا يعصي أحد ربه إلا بجهل، إما بنسيانه بما يتعلق بالمعصية من المضرّة، أو لأن مجرد إيثار المعصية على الطاعة جهل ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ. أي: من بعد السوء أو العمل وَأَصْلَحَ. أي: وأخلص توبته فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: فشأنه أنه غفور رحيم، يغفر لأهل الإيمان ويرحمهم، فمن رجع عما كان عليه من المعاصي وأقلع وعزم على ألا يعود، وأصلح العمل في المستقبل، فقد وعده الله بالمغفرة والرّحمة، ثمّ ختم الله هذا التوجيه بقوله وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ. أي: ومثل ذلك التفصيل البيّن نفصل آيات القرآن ونوضّحها في صفة أحوال النّاس، ممن هو مطبوع على قلبه، أو من يرجى إسلامه وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. أي: ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل بهذا البيان. الفوائد: 1 - [سبب نزول الآية وَأَنْذِرْ بِهِ ... وما بعدها] يذكر ابن كثير سبب نزول الآيات: وَأَنْذِرْ بِهِ ... وما بعدها فلننقل رواياته مع حذف الأسانيد: أ- روى الإمام أحمد ... عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده خبّاب، وصهيب، وبلال، وعمّار فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ إلى قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.

ب- روى الإمام ابن جرير ... عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده صهيب، وبلال، وعمّار، وخبّاب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمّد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ ونحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم أن نتّبعك، فنزلت هذه الآية: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ إلى آخر الآية. ج- روى الحاكم في مستدركه .. أن سعدا قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ابن مسعود، قال: كنّا نستبق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وندنو منه ونسمع منه فقالت قريش: يدني هؤلاء دوننا فنزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. قال الحاكم عن هذه الرواية: على شرط الشيخين. وأخرجها ابن حبّان في صحيحه. د- روى ابن جرير ... عن عكرمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ الآية. قال: جاء عتبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من أهل الكفر، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب: لو أنّ ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنّما هم عبيدنا وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النّبي صلّى الله عليه وسلّم فحدّثه بالذي كلموه فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون من قولهم؟ فأنزل الله- عزّ وجل- هذه الآية وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ إلى قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ قال: وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالما مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاري، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا الآية. فلما نزلت أقبل عمر رضي الله عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله- عزّ وجل-: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الآية.

تعليق صاحب الظلال على أسباب نزول الآيات السابقة

[تعليق صاحب الظلال على أسباب نزول الآيات السابقة] ومن أسباب النزول هذه ندرك معنى إسلاميا عظيما يغيب عن كثير من النّاس إذ يبيعون المستضعفين بالأغنياء، والعاديين بالأذكياء، والمغمورين بأصحاب الجاه وفي هذا المقام يقول صاحب الظلال: «نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص .. والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادئ وقيم ونظريات في «حقوق الإنسان»! .. إنها أكبر من ذلك بكثير .. إنها تمثل شيئا هائلا تحقق في حياة البشرية فعلا .. تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها .. تمثل خطا وضيئا على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية .. ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة؛ ومن ضخامة هذا الشئ الذي تحقق يوما؛ ومن أهمية هذا الخط الذى ارتسم بالفعل في حياة البشر الواقعية .. إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم؛ أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه، ما دام أنها قد بلغته، فهو في طوقها إذن وفي وسعها .. والخط هناك على الأفق، والبشرية هي البشرية، وهذا الدين هو هذا الدين .. فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين .. وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله .. من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها، وأطلقتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها! فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم- وكانت فيه البشرية كلها- فهو يتمثل واضحا في قولة «الملأ» من قريش: «يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أ هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك!» .. أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، للسابقين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، وأمثالهم من الضعفاء؛ وقولهما للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد!». .. هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح وقيمها الهزيلة، واعتباراتها الصغيرة .. عصبية

النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة .. وما إلى ذلك من اعتبارات. هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء! .. ذات القيم التي تروج في كل جاهلية؛ والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية! هذا هو سفح الجاهلية .. وعلى القمة السامقة الإسلام! الذي لا يقيم وزنا لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة، ولهذه النعرات السخيفة! .. الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض. فالأرض كانت هي هذا السفح .. هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة .. الإسلام الذي يأتمر به- أول من يأتمر- محمد صلّى الله عليه وسلّم محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء، والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش .. والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن «هؤلاء الأعبد» .. نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد؛ وصاروا أعبد الله وحده فكان من أمرهم ما كان! وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش، وفي مشاعر الأقرع وعيينة، فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير، لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ * وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ، ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .. ويتمثل في سلوك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع «هؤلاء الأعبد» .. الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم- وهو بعد ذلك- رسول الله وخير خلق الله، وأعظم من شرفت بهم الحياة! ثم يتمثل في نظرة «هؤلاء الأعبد» لمكانهم عند الله؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها «سيوف الله» ونظرتهم لأبي سفيان «شيخ قريش وسيدهم» بعد أن أخّره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام، وهو في شدة الابتلاء .. فلما أن عاتبهم أبو بكر رضي الله عنه في أمر أبي سفيان، حذره صاحبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون قد أغضب «هؤلاء الأعبد»! فيكون قد أغضب الله- يا الله! فما يملك أي تعليق يبلغ هذا المدى وما نملك اليوم إلا أن نتملاه! - ويذهب أبو بكر رضي الله عنه يترضّى «الأعبد» ليرضى الله: «يا إخوتاه أغضبتكم»؟ فيقولون: «لا يا أخي. يغفر الله لك»! أي شئ هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبديل في القيم والأوضاع، وفي المشاعر والتصورات، في آن؟ والأرض هي الأرض، والبيئة هي البيئة، والناس هم الناس، والاقتصاد هو الاقتصاد .. وكل شئ على ما كان، إلا وحيا نزل من السماء على رجل من البشر، فيه من الله سلطان .. يخاطب فطرة البشر من وراء الركام، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح، فيستجيشهم الحداء- على طول الطريق- إلى القمة السامقة .. فوق .. هنالك عند الإسلام! ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح. وتقوم- مرة أخرى- في نيويورك، وواشنطن، وشيكاغو .. وفي جوهانسبرج .. وفي غيرها من أرض «الحضارة!» تلك العصبيات النتنة، عصبيات الجنس واللون، وتقوم هنا وهناك عصبيات «وطنية» و «طبقية» لا تقل نتنا عن تلك العصبيات .. ويبقى الإسلام هناك على القمة .. حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية .. يبقى الإسلام هناك- رحمة من الله بالبشرية- لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء، وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام .. ونحن لا نملك- في حدود منهجا في هذه الظلال- أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة .. لا نملك أن نقف هنا تلك «الوقفة الطويلة» التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها. لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط، إلى القمة السامقة البعيدة .. ثم تهبط مرة أخرى على عواء «الحضارة المادية» الخاوية من الروح والعقيدة! ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى، بعد أن فشلت جميع التجارب، وجميع المذاهب، وجميع الأوضاع،

2 - روايات حول قوله تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة

وجميع الأنظمة، وجميع الأفكار، وجميع التصورات التي ابتدعتها البشر لأنفسهم بعيدا عن منهج الله وهداه .. فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة، وأن تفيض على القلوب الطمأنينة- مع هذه النقلة الهائلة- وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح، وبلا اضطهادات؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية، وبلا رعب، وبلا تعذيب، وبلا جوع، وبلا فقر، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يصنعها البشر، ويتعبد فيها بعضهم بعضا من دون الله .. فحسبنا هذا القدر هنا .. وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها، وتكسبها في القلوب المستنيرة». 2 - [روايات حول قوله تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] وبمناسبة قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ينقل ابن كثير ما يلي: أ- روى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لمّا قضى الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش، إنّ رحمتي غلبت غضبي» أخرجاه في الصحيحين. ب- روى ابن مردويه ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق، أخرج كتابا من تحت العرش: إنّ رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة أو قبضتين، فيخرج من النار خلقا لم يعملوا خيرا، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله». ج- ومما يناسب هذه الآية من الأحاديث أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل: «أتدري ما حقّ الله على العباد؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا». ثم قال: «أتدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم» وقد رواه الإمام أحمد .. عن أبي هريرة رضي الله عنه. فما أعظم رحمة الله وما أقبح من لم ينل من هذه الرحمة يوم القيامة، وما أعقل من عمل للوصول إلى استحقاق رحمة الله الكاملة بسلوك طريق ذلك، والتّحقّق بالصفات التي يعطي الله أصحابها رحمته، وهي مذكورة بقوله تعالى في سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ وهذا

3 - قراءة بالنصب لقوله تعالى .. سبيل المجرمين

موضوع سيأتي. 3 - [قراءة بالنصب لقوله تعالى .. سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ] هناك قراءة صحيحة بنصب قوله تعالى: سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ومعناها: ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به. فالآية إذن في قراءتيها تبيّن أن سبيل المجرمين قد بيّنت بهذا القرآن، وأن المقصود الأول بهذا البيان هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ ورثته والمسلمون، إن إحدى الحكم الكبيرة لتصريف الآيات في هذا القرآن هي هذه. وتعليقا على هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة! إن هذا المنهج لا يعنى بيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب. إنما يعنى كذلك بيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا .. إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين. وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق! إن هذا المنهج هو الذي قرره الله- سبحانه- ليتعامل مع النفوس البشرية. ذلك أن الله- سبحانه- يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص .. كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحادّه ويحاربه إنما هو على الباطل .. وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنّه جعل لكل نبي عدوا منهم وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ .. ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين. إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان، وطريقان مفترقتان .. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط. ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. ويجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضوع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف

أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون. وبعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين .. وهذا التحديد كان قائما، وهذا الوضوح كان كاملا، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه. وكانت سبيل المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين .. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله- سبحانه- يفصّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة- ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين! وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية. حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك .. لا يجدي معها التلبيس. ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شئ من هذا. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته .. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام، تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسما. وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله- وحده- هو خالق هذا الكون المتصرّف فيه. وأن الله- وحده- هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله- وحده- هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله .. وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام. أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله. ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر. هذه هي المشقة الكبرى .. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل.

تلخيص وتذكير

أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة كي تنطلق طاقتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش ولا يميعها لبس. فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم «المسلمون» وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم «المجرمون». أقول: إن شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها مضمونها ولها نواقضها فمن أتى بالمضمون ولم يأت ناقضا من نواقض الشهادتين فهو المسلم، وقد يكون فاسقا أو تقيا، ولكن إذا لم يدرك الإنسان مضمون الشهادتين، أو أتى بناقض من نواقضهما، فإنه لا يكون مسلما، فمثلا من مضمون الشهادتين أن يعرف الإنسان الإسلام ويؤمن به ويسلم لله فيه، فإذا جهل الإسلام ولم يعرف أن يصفه كما هو ولو وصفا إجماليا فإنه لا يكون مسلما حتى قال فقهاء الحنفية: لو أن صغيرة تزوجت ثمّ بلغت عند زوجها وسألها عن الإسلام فلم تعرف أن تصفه فإن عقدها ينفسخ، عند ما كانت صغيرة كانت مسلمة تبعا لأبويها، فلمّا بلغت أصبحت مكلفة بالإسلام، وعليها أن تعرفه، فإذا لم تعرفه لا تكون مسلمة، ولكن ليس شرطا أن تحسن وصفه، بل يكفي في حقّها أنّها لو سئلت عن شئ معلوم من الدين بالضرورة أن تعرفه، وفقهاء الشافعية لا يعتبرون منكر ذلك كافرا إلا بعد البيان. فلا بد إذن من معرفة مضمون الشهادتين، ولا بد من ترك النواقض، وقد مرّ معنا في سورة المائدة أن كفر نظام ما لا يعني بالضرورة كفر كل فرد فيه ابتداء. تلخيص وتذكير: إن مما ينبغي أن يبقى على ذكر منا: أن الإنذار بالقرآن طريق من طرق التقوى، ولذلك فإن على الدّعاة إلى الله أن يحيوا مجالس الوعظ، وأن يكثروا منها، من أجل أن يتابعوا قضية الإيمان، كما أن على الدعاة أن يعطوا المستجيبين لدعوة الله حقوقهم، فلا تتطلع أعينهم إلى غيرهم زهدا بهم، ورغبة بأهل الدنيا. وإن مما تفهمنا إياه آيات المجموعة التاسعة أن من سبيل المجرمين الترفّع على أهل الإيمان، مما يفهم منه ضمنا أن التواضع لأهل الإيمان من سبيل المؤمنين. ثمّ تأتي المجموعة العاشرة في الجولة وفيها أوامر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأمره أن يعلن عدّة إعلانات تكاد تكون الردّ الأخير في هذه الجولة على اقتراحات الكافرين.

المجموعة العاشرة

المجموعة العاشرة وإذ وصل السياق إلى ما مرّ فإنّ الله يأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن ثلاثة إعلانات: الإعلان الأول: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أي: قل إنّي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ. أي: لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتّباع الهوى دون اتّباع الدليل، وفي النّص بيان للسبب الذي به وقعوا في الضلال وهو اتّباع الهوى قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً. أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ في شئ، وهذا يعني أنكم لستم مهتدين أبدا، والإعلان الثاني: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي لمّا نفى أن يكون الهوى متّبعا، نبّه على ما يجب اتّباعه وهو شريعة الله، والمعنى: إني من معرفة ربي وأنّه لا معبود سواه على حجة واضحة، أو إني على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليّ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ. أي: بالله حيث أشركتم به غيره ويمكن أن يكون المراد: وكذبتم بالبيّنة أي بالقرآن، فيكون المعنى: إنّي على حجّة من جهة ربي وهو القرآن، وكذّبتم بهذه البيّنة، ثمّ عقّبه بما دلّ على أنهّم أحقّاء بأن يعاقبوا بالعذاب لذلك فقال: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. أي: من العذاب إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أي: إنما أمر ذلك إلى الله إن شاء عجّل لكم ما سألتموه من ذلك، وإن شاء أنظركم وأجّلكم لما له من الحكمة العظيمة يَقُصُّ الْحَقَّ. أي: لا يفعل إلا حقا ولا يأمر إلا بحق فيما يحكم به، ويقدّره، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ. أي: خير الفاصلين بالقضاء الحق إذ الفصل: هو القضاء، ثم يأتي الإعلان الثالث قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي. أي: في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. أي: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ومن ثم فهو ينزل العذاب على مقتضى علمه وحكمته في الوقت المناسب. فائدة: [في الجمع بين الآية (58) وبعض ما ورد في السنة] بمناسبة هذه الآية الأخيرة يقول ابن كثير: فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية، وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما

أردّت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلّم عليّ ثمّ قال: يا محمد إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا». وهذا لفظ مسلم. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم وسأل لهم التأخير لعلّ الله يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا. فما الجمع بين هذا وبين قوله في هذه الآية الكريمة قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فالجواب- والله أعلم- أنّ هذه الآية دلت على أنّه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، وأمّا الحديث فليس فيه أنّهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنّه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكّة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم وسأل الرّفق لهم» وبهذه المناسبة نقول: إنّ ما أنزله الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من وحي سواء كان قرآنا أو سنة يكمل بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه بعضا وكيف لا يكون كذلك وهو من علم الله، وعلم الله محيط، وذلك من أعظم الأدلة على كون هذا الإسلام دين الله، ولكن الجاهلين وحدهم هم الذين يظنون غير ذلك أو يتوهمون. وبعد هذا الحوار الطويل يعود السياق إلى صيغة التقرير في موضوع المعرفة الربانية فيقول: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ... ولو أنّك تأمّلت لوجدت أن هناك صلة ظاهرة بين بداية المقطع وهذه الآية وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ... وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ .... وما بين ذلك حوار لمن ينكر ذلك، وما بين ذلك تقرير لمقتضى ذلك، وما بين ذلك هداية لما ينبغي أن يترتب على الإيمان بذلك. فما أعظم هذا القرآن إذ يجول بك السياق ثم يردك إلى محور السورة، وتبقى جولاته كلها في الإطار الذي يعمّق محور السورة، وبما أنّ خاتمة الجولة الأولى من المقطع الثاني تبدأ بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فلنقدم للآية بنقل عن الظلال حول الفارق بين العقلية المسلمة وغيرها: «إن القرآن- وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور

الإسلامي والعقلية الإسلامية- يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا. إن هنالك سننا ثابتة لهذا الكون؛ يملك «الإنسان» أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها. وإلى جانب هذه السنن الثابتة- في عمومها- مشيئة الله الطليقة، لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها. وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها. فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها. وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها «غيب» لا يعلمه البشر علم يقين؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و «الاحتمالات» .. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضا. وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة؛ وكلها «غيب» بالقياس إليه هي تجري في كيانه، ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله؛ وهو لا يعلمها! وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون. وحاضره وحاضر الكون. ومستقبله ومستقبل الكون .. وذلك مع وجود السنن الثابتة التي يعرف بعضها، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة. وإن «الإنسان» ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه، وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله .. وكذلك كل شئ حي .. ومهما تعلّم ومهما عرف، فإن هذا لن يغيّر من هذا الواقع شيئا. إن العقلية الإسلامية عقلية «غيبية علمية» لأن «الغيبية» هي «العلمية» بشهادة «العلم» والواقع .. أما التنكر للغيب فهو «الجهلية» التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة! وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابتة .. فلا يفوت المسلم «العلم»

البشري في مجاله، ولا يفوته إدراك الحقيقة الواقعية؛ وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء. والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها «الفرد» فيتجاوز مرتبة «الحيوان»، إلى مرتبة «الإنسان» وهي نقلة بعيدة الأثر في تصوّر الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون .. ظاهره وخافيه .. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول. ... «لقد كان الإيمان بالغيب هو مفترق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم المادة ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان- كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم المادة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس، ويسمون هذا «تقدمية». وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميّزة هي صفة: «الذين يؤمنون بالغيب» .. والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين». والذين يتحدثون عن «الغيبية» و «العلمية» يتحدثون عن «الحتمية التاريخية» كأن كل المستقبل مستبين، و «العلم» في هذا الزمان يقول: إن هناك «احتمالات» وليست هنالك «حتميات»! ولقد كان ماركس من المتنبئين «بالحتميات»! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟ لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلتر، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر .. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا .. في روسيا والصين وما إليها .. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية!

المجموعة الحادية عشرة

ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي وها هو ذا خليفتهما «خروشوف» يحتمل راية «التعايش السلمي». ولا نمضي طويلا مع هذه «الحتميات» التنبئية. فهي لا تستحق جدية المناقشة! إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره. وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك- مع هذا- سننا للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ؛ وغيب الله المجهول .. وهذا قوام الأمر كله .. ». المجموعة الحادية عشرة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلال والأقفال، ومن علّمه الله مفاتحها وكيفيّة فتحها توصّل إليها فأراد أنّه هو المتوصّل إلى المغيّبات وحده لا يتوصّل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن، ويعلم فتحها فهو المتوصّل إلى ما في الخزائن، ويدخل في ذلك العذاب والرّزق، وما غاب عن العباد من الثّواب والعقاب والآجال والأحوال وخصّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مفاتح الغيب خمسا بالذكر سنراها في الفوائد وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ. أي: من النّبات والدّوابّ وغير ذلك وَالْبَحْرِ من الحيوان، والجواهر، والعناصر وغير ذلك وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. أي: ما من ورقة تسقط إلا ويعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ إلّا يعلمها وَلا رَطْبٍ. أي: ذي رطوبة وَلا يابِسٍ إلا يعلمه كذلك، والجميع في كتاب مبين إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد وهو هنا إما علم الله، أو اللوح المحفوظ قال صاحب الظلال وهو يعرض هذه الآية: «إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط؛ الذي لا يندّ عنه شئ في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب ... ولكن أين هذا الذي نقوله نحن- بأسلوبنا البشري المعهود- من ذلك النسق

القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟ إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود .. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل التصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو- إذ يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار .. مفاتحها كلها عند الله، لا يعلمها إلا هو .. ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط، هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند شئ عن علم الله المحيط .. إنها جولة تدير الرءوس، وتذهل العقول .. جولة في آماد الزمان، وآفاق المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول .. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصور آمادها الخيال .. وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات .. ألا إنه الإعجاز! وننظر في هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن. ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر .. إن الفكر البشري حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع- موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق. إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته .. فما اهتمام الفكر البشري بتقصّي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبّع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبئونه هم في جوف الأرض

ويرتقبون إنباته .. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به، ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبر به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق، وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق: «ولا رطب ولا يابس» .. إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم .. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق! ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ .. فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يندّ عنه شئ في ملكه، الصغير كالكبير، الحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب .. إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع .. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعا، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا .. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ كذلك لا تلحظه العين البشرية، ولا تلمّ به النظرة البشرية .. إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده؛ المشرف على كل شئ، المحيط بكل شئ .. الحافظ لكل شئ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شئ .. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب .. والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيّدا حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضا. ويعلمون- من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري، كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا .. والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا! وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم .. كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع في التعبير ذاته، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ .. آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق، في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان.

وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. آماد وآفاق وأغوار في «المنظور»، على استواء وسعة وشمول .. تناسب في عالم الشهود والمشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها .. حركة الموت والفناء، وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار. وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ .. حركة البزوغ والنّماء. المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق. وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ .. التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت والازدهار والذبول، في كل حي على الإطلاق .. فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ .. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك، في مثل هذا النص القصير .. من؟ إلا الله! ثم نقف عند قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ .. نقف لنقول كلمة عن «الغيب» و «مفاتحه» واختصاص الله- سبحانه- «بالعلم» بها .. ذلك أن حقيقة الغيب من «مقومات التصور الإسلامي» الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية، ومن قواعد «الإيمان» الرئيسية .. وذلك أن كلمات «الغيب» و «والغيبية» تلاك في هذه الأيام كثيرا- بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل «العلم» و «العلمية» .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك «غيبا» لا يعلم «مفاتحه» إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل .. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو- سبحانه- من طاقته ومن حاجته، وأن الناس لا يعلمون- فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظنا، وأن الظن لا يغني عن الحق شيئا .. كما يقرر- سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سننا لا تتبدّل وأنّه علّم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها، ويتعامل معها- في حدود طاقته وحاجته- وأنّه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق .. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها بحقيقة «الغيب» المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شئ بقدر غيبي خاص من الله،

كلمة في السياق

ينشئ هذا الحدث ويبرزه للوجود .. في تناسق تامّ في العقيدة الإسلامية، وفي تصوّر المسلم النّاشئ من حقائق العقيدة .. ». كلمة في السياق: تتألف المجموعة الحادية عشرة التي هي خاتمة الجولة الأولى من المقطع الثاني من سورة الأنعام تتألف هذه المجموعة من آيتين: آية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ... والآية التالية وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ .... وهاتان الآيتان تعودان بنا إلى بداية المقطع كله لتكونا بمثابة إعادة النهر إلى مجراه الرئيسي، فهما تأتيان نهاية لجولة ومقدمة لجولة أخرى في مقطعهما. بدأ المقطع بقوله تعالى وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ثم جرى حوار شامل، ثم عاد المقطع إلى الكلام عن الله بصيغة التقرير: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ... وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ... وتأتي الآية الأولى في الجولة الثانية على نفس الوتيرة: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً وهكذا يعود السياق إلى مجراه الرئيسي فلنر الآية الثانية في المجموعة الحادية عشرة: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. أي: يقبض أنفسكم عن التصرف بالتّمام في المنام، وفي هذا إخبار عن أنّه يتوفى عباده في منامهم بالليل. وهذا هو التوفي الأصغر وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ. أي: ما كسبتم فيه من الآثام، وهذه جملة معترضة دلّت على إحاطة علمه تعالى بخلقه، في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وحال حركتهم ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ. أي: ثمّ يوقظكم في النّهار، أو التقدير ثمّ يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم فيه، فقدّم الكسب لأنّه أهم ولا يعني هذا أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا بالنهار. فتخصيص الشئ بالذكر لا يدّل على نفي ما عداه لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى. أي: لتوفى الآجال على الاستكمال ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ. أي: ثمّ إلى الله رجوعكم بالبعث بعد الموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. أي: في ليلكم ونهاركم ويستدل بالنوم والاستيقاظ بعده على البعث وتفهم من خلال النوم كثير من قضايا عالم البرزخ.

فوائد: حول الآيتين (59، 60)

فوائد: [حول الآيتين (59، 60)] 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ نذكر هذه الرواية. روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتح الغيب خمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. وفي حديث عمر أن جبريل حين تبدّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما قال له: «خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية. 2 - يقول النسفي بمناسبة قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ: وعندك أيها الإنسان مفاتح العيب فمن آمن بغيبه أسبل الله السّتر على عيبه. 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ .... يروي ابن كثير ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويردّ إليه، فإن أذن الله في قبض روحه قبضه وإلا ردّ إليه». فذلك قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ. أقول إنّ الله- عزّ وجل- أسند الوفاة في الآية إلى ذاته الكريمة، وفي هذا الحديث أسندت الوفاة إلى عالم الأسباب، وإسناد ما لعالم الأسباب دخل فيه إلى الله لأنه هو الفاعل على الحقيقة وهو الخالق: «الله خالق كل شئ». 4 - سمّى الله- عزّ وجل- في الآية الأخيرة النّوم وفاة، وسمّاه في مكان آخر الموت وهو الموت الأصغر فمن النّوم نعلم شيئا عن عالم الموت وعن عالم البرزخ- وهو العالم الذي نكون فيه بعد الموت فقد أعطانا الله بهذا النّوم صورة مصغّرة عن الموت، وعن عالم البرزخ، وعن عذاب القبر، أو نعيمه، فنحن نرى النائم ساكنا هادئا لا نرى على جسمه أثرا، ومع ذلك فقد يكون في عذاب أو نعيم، كأن يرى نفسه يتلذّذ أو يتعذّب وهو ساكن هادئ لا نرى عليه أثرا في كثير من الأحيان، ولا يعني هذا أنّ حال الميت والنائم واحد بل يعني هذا أنّ النّوم صورة مصغّرة عن الموت، بل إنّ ما يكون للإنسان بعد الموت أكثر وضوحا مما يكون للإنسان في عالم اليقظة، فلذلك العالم قوانينه، والنوم هو المثال المقرب، وفي كتاب إحياء علوم الدين للغزالي في المجلد الرابع كلام نفيس عن هذا الموضوع فليراجع، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث صحيح «النّوم أخو الموت».

ملاحظة حول السياق

ملاحظة حول السياق: يلاحظ أن المقطع الأول من سورة الأنعام وردت فيه كلمة (قل) كثيرا، وكذلك هذا المقطع في جولتيه، مما يشير إلى أن الحوار مع الكافرين شئ رئيسي في سياق هذه السورة وصلة ذلك بمحور السورة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ لا تخفى، فالمحور فيه إقامة حجة على الكافرين، وفي هذه السّورة تقام الحجة على الكافرين مرة بعد مرة: كانت الآية الثانية من الجولة التي مرّت معنا: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... ثم بعد آيات جاء قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ .... ثمّ بعد آيات جاء قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ثم تأتي بعدها مباشرة قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً. ثم جاء بعد آيتين قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ... ثم جاءت بعد خمس آيات ثلاث آيات كلّ منها مبدوء بقوله تعالى (قل). قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ .. قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ... قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... وسنرى في الجولة الثانية من المقطع كيف يتكرّر الأمر (قل) كذلك إن السّورة حوار شامل مع الكافرين في كل الاتجاهات الرئيسية للكفر، سواء كانت نظرية، أو كانت عملية، ولذلك فإن على الداعية إلى الله أن يتملّى حججها ويعرف كيف يقرع بها. كلمة في السياق: انتهت معنا الجولة الأولى من المقطع الثاني بعد أن ختمت بالتذكير بالموت الأصغر والموت الأكبر، وكلاهما مظهر من مظاهر قهر الله- عزّ وجل- وذلك يشير إلى صلة خاتمة الجولة ببدايتها وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ. والمقطع نفسه لا يزال مستمرا وذلك أننا نعلم في علم البلاغة أنه إذا طال الفصل حسن التكرار، وقد بدأ

المقطع بقوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وها هي الآية (61) تقول: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ... ونلاحظ أن آخر شئ في سياق الجولة الثانية، هو قوله تعالى في الآية (73) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لاحظ أنه منته بقوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. فذلك مع المعاني مما دلّنا على بداية المقطع ونهايته. وقد رأينا كيف أن الجولة الماضية لها سياقها الخاص كما أن لها محلها في السياق الخاص لسورة الأنعام مع كونها تفصل في محور السورة من البقرة لاحظ صلة آخر آية مرّت معنا في الجولة بمحور السورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وفي الآية الأخيرة وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وفي محور السورة: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وفي الآية الأخيرة: ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالصلة واضحة بين هذه الآية ومحور السورة من البقرة، والصلات التي تربط بين المقطع وبين المحور كثيرة كما رأينا وسنرى. ولنا عودة على هذا الموضوع ولننتقل إلى عرض الجولة الثانية من المقطع الثاني: ***

الجولة الثانية من المقطع الثاني وتمتد من الآية (61) إلى نهاية الآية (73) وهذه هي

الجولة الثانية من المقطع الثاني وتمتدّ من الآية (61) إلى نهاية الآية (73) وهذه هي: 6/ 67 - 61

6/ 72 - 68

كلمة في هذه الجولة

6/ 73 كلمة في هذه الجولة: قلنا إن هذه الجولة استمرار للمقطع الثاني فهي تذكّرنا بالقهر الإلهي، والعلم الإلهي، والحكمة الإلهية. فالجولة بعد أن تذكّرنا في آياتها الأولى بمظاهر علم الله، وحكمته، وقهره من خلال التذكير بالموت، والحساب، واستجابة الدعاء حال الكرب، والتعذيب في الدنيا، تذكّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه مع هذا كله فإنّ قومه يكذّبون بالقرآن. وفي هذا السياق يذكّر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم- وهو تذكير لنا. ألا يجلس مع القوم الظالمين حال خوضهم في آيات الله، وأن يعرض عمّن اتخذ دينه لعبا ولهوا، وأن يقيم الحجة على الكافرين من خلال إعلان الاستمرار على دين الله، واستنكار العودة إلى الكفر بعد الهداية، ثمّ تذكرنا الجولة بالإسلام لله رب العالمين، وإقامة الصلاة، والتذكير بأن الله هو الخالق والقادر والمالك والعليم والحكيم والخبير. نطع في جولتيه يقيم الحجة على الكافرين، ويبيّن لهم فساد ما هم فيه، ويحدّد للمسلم بعض المواقف منهم، ويبيّن ما يقتضيه الإيمان بالله ومعرفته، وصلة ذلك بمحور السورة الذي ينكر على الكافرين كفرهم، والذي يعجّب من حالهم، والذي يقيم الحجة على الكافرين من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، إن صلة هذا المقطع بمحور السورة واضحة. ولقد قلنا إن محور سورة الأنعام آت في سياق الأمر: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ من سورة البقرة، ولذلك آثاره في سورة الأنعام ومن ثم نرى المقطع ينتهي بقوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ*. وقد بدأ هذا المقطع بقوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ- لاحظ قوله تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ- وانتهى بآية مبدوءة بقوله

المعنى العام

تعالى «وَهُوَ» ومنتهية بقوله تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ فما بين بداية المقطع ونهايته صلة واضحة. المعنى العام: يكرّر الله- عزّ وجل- في بداية هذه الجولة ذكر قهره لعباده. فهو الذي قهر كل شئ، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شئ. وأنّه يرسل من الملائكة من يحفظون بدن الإنسان ويحصون عمله، وأنه إذا حان أجل الإنسان واحتضر توفته الملائكة المكلفون بذلك، وأن هؤلاء الملائكة لا يفرّطون في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله- عزّ وجل- إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجّار ففي سجين. وأنّ مردّ الخلائق كلّهم إلى الله يوم القيامة، فيحكم فيهم بعدله وهو الذي له الحكم وحده وهو الأسرع حسابا، وبعد أن ذكر الله قهره، وبعض مظاهر قهره، امتنّ على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البرّ والبحر وهم الحائرون الواقعون في المهامة البريّة، وفي اللجج البحريّة إذا هاجت الرياح العاصفة فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له، جهرا وسرا، واعدين الله أنه إن أنجاهم من ضائقتهم هذه ليكوننّ من الشاكرين لله بالقيام بأمره. وهنا أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول ويعلن أن الله وحده هو الذي ينجي من هذه الظلمات، ومن كل كرب، ثم بعد هذا الإنجاء يوجد من يشركون بعبادته ودعائه آلهة أخرى. وبعد أن ذكر الله- عزّ وجل- مظهرا من مظاهر قهره، ورحمته، وكفر عباده، ذكر الله- عزّ وجل- مظاهر أخرى من مظاهر قهره، فذكّر بقدرته على أن يبعث عذابا من فوق رءوس عباده، وعلى أن يبعث عذابا من تحت أرجلهم، أو يجعلهم ملتبسين شيعا: فرقا متخالفين، ويسلّط بعضهم على بعض بالعذاب والقتل، ثمّ ذكر أنّه يوضح الآيات، ويبيّنها، ويفسّرها؛ من أجل أن يفهموا ويتدبّروا عن الله آياته وحججه وبراهينه. وبعد هذا البيان ذكر الله- عزّ وجل- تكذيب قوم محمّد صلّى الله عليه وسلّم للقرآن، وهو الحق الذي ليس وراءه حق، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن أنّه ليس عليهم بحفيظ، وأنّ لكل نبأ حقيقة، ولكل خبر وقوعا، ولو بعد حين. وأنهّم سيرون ويعلمون، وفي هذا تهديد ووعيد لهم على تكذيبهم ما لا يحتمل التكذيب، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم- وهو أمر لكل مؤمن- أنّه إذا رأى الذين يكذّبون بآيات الله أن يعرض عنهم حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب، وفي حالة الجلوس نسيانا، فقد

كلمة في السياق

أمر ألا يعود. والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة أن لا يجلس مع المكذّبين الذين يحرّفون آيات الله، ويضعونها على غير مواضعها، فإن جلس أحد معهم ناسيا فلا يقعد بعد التذكير مع القوم الظالمين. ثمّ وعد الله المتقين أنهم إذا تجنّبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برءوا من عهدتهم، وتخلّصوا من إثمهم. ثمّ بيّن الله تعالى حكمة الأمر بالإعراض عن الذين يخوضون بآيات الله، أنه من أجل أن يتقوا ذلك ولا يعودوا إليه، ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يترك، ويدع، ويعرض، ويمهل المتخذين دينهم لعبا ولهوا، والمغرورين بالحياة الدنيا، ثم أمره أن يذكّر الناس بهذا القرآن، وأن يحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة، من أجل أن تنجو الأنفس ولا تهلك يوم تحبس عن الخير ودرك المطلوب، إذ لا قريب ولا أحد يشفع لنفس كافرة ولو بذلت كل مبذول. ثمّ بيّن تعالى كيف أنّ هؤلاء الذين لا يقبلون التذكير يهلكون بكسبهم السيئ، وأن لهم شرابا من حميم وعذابا أليما بسبب كفرهم. ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن أنّه لا يدعو- هو ولا المسلمون- من دون الله أحدا، وكيف يفعلون وهم يعلمون أنّه لا يضرّ ولا ينفع إلا الله، وكيف يفعلون فيرتدّون بعد إذ هداهم الله، إنهم لن يفعلوا ذلك فيكونوا كالمستجيبين لدعوة الشياطين، الذين يزعمون للإنسان- في حالة حيرته وضلاله- أنهم يدعونه إلى الحق والهدى، وهم كاذبون، إذ لا هدى إلا هدى الله الذي استجاب له الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون، وهو الذي أمرهم بالإسلام له- جل جلاله- كما أمرهم أن يقيموا الصلاة ويتقوه إذ هو الذي إليه المرجع. ثمّ ختم الله- عزّ وجل- هذا المقطع كله بتقرير أنّه هو الذي خلق السموات والأرض بالعدل، فهو مالكهما وخالقهما، والمدبّر لهما ولمن فيهما وكما ذكر بدء الخلق بقدرته، فقد ذكّر في هذا المقام أنه كذلك الخالق ليوم القيامة، ثم ذكر الله أن من صفاته- عزّ وجل- أن قوله الحق وله الملك، وأظهر ما يظهر هذا لخلقه يوم ينفخ في الصور. ثم وصف ذاته بأنه عالم الغيب والشهادة، وأنه الحكيم الخبير كلمة في السياق: إن السياق الخاص للمقطع كله بجولتيه يكاد يكون عرضا لمظاهر من قهر الله وحكمته وعلمه، وهي المعاني التي ذكرتها أول آية فيه، ولذلك رأينا في المقطع مظاهر من قهره عزّ وجل في الدنيا وفي الآخرة، ورأينا استعراضا لمظاهر من علمه، ولمظاهر من

المعنى الحرفي

حكمته، ولعل آخر آية في المقطع تدل على هذا كله: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ولقد رأينا أن سياق سورة الأنعام يكاد يكون عرضا لمظاهر خلق الله للأشياء والإنسان، وكيف ينحرف المنحرفون مع ذلك فيشركون ويمترون، ولقد رأينا كيف أن الجولة الأولى من هذا المقطع ركّزت على الشرك وحاورت أهله، وسنرى في هذه الجولة مثل ذلك قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ... وهكذا نجد أن المقطع في جولتيه يمضي على نسق واحد مع السياق الخاص للسورة، وهو مع هذا وهذا يفصّل في محور السورة من سورة البقرة، كما رأينا أدلة ذلك وكما سنرى. فلننتقل الآن إلى التفسير الحرفي للجولة الثانية: المعنى الحرفي: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً. أي: ملائكة حافظين لكم، وآخرين حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد إذا تفكروا أن صحائفهم تقرأ على رءوس الأشهاد حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حتى هنا لغاية حفظ الأعمال أي: وذلك أدب الملائكة مع المكلف مدة الحياة إلى أن يأتيه الممات تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا. أي: استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. أي: لا يتوانون ولا يؤخرون ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ. أي: إلى حكمه وجزائه أي المتوفون تردّهم الملائكة إلى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. أي: مالكهم الذي يلي أمورهم، العدل الذي لا يحكم إلا بالحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ في الدنيا والآخرة، وإن نازعه في الدنيا في الظاهر من لا يعرفه فإنّه يوم القيامة لا حكم لغيره وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ إذ هو لا يشغله حساب عن حساب ويحاسب جميع الخلائق في الوقت القصير جدا. فائدة: نقل النسفي بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ ... هذه الحكمة المذكورة: الردّ إلى من ربّاك خير من البقاء مع من آذاك. وذكر ابن كثير بهذه المناسبة حديثا رواه الإمام أحمد وقال ابن كثير عنه: حديث غريب. وهذا هو الحديث: عن أبي هريرة

[سورة الأنعام (6): آية 63]

رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح ريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها- عزّ وجل- وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء؛ فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل في الحديث الثاني». قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ذكر الظلمات هنا مجاز عن مخاوف البر والبحر، ويحتمل أن يكون المراد بظلمات البرّ الصواعق، وبظلمات البحر الأمواج تَدْعُونَهُ. أي: فحينئذ تفردونه بالدعاء وحده تَضَرُّعاً. أي: معلنين الضراعة وَخُفْيَةً. أي: ومسرّين الدعاء في أنفسكم كذلك لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ. أي: يقولون وهم في الخطر: لئن خلّصنا من هذه الظلمات لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. أي: لله وحده بالاعتراف له، والإخلاص له، والعمل له قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها. أي: من الظلمات وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ. أي: ومن كل غمّ وحزن ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ بعد ذلك ولا تشكرون، فما أكثر غفلة الإنسان، وما أكثر كفره قُلْ هُوَ الْقادِرُ. على كل شئ فلا يغرنّكم الأمن عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما أمطر على قوم لوط، وعلى أصحاب الفيل الحجارة أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون. واتجه ابن عباس في تفسير من فوقكم أو من تحت أرجلكم اتجاها آخر ففسّر مِنْ فَوْقِكُمْ «بالأئمة والأمراء السّوء. وفسّر مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ بخدم السوء، قال ابن جرير: وهذا القول وإن كان له وجه صحيح لكنّ الأوّل: أظهر وأقوى» ومن عرف ما كانت عليه روسيا في ظل القياصرة، وما آلت إليه في ظل الحكم الشيوعي، عرف فظاعة العذاب

فائدة

على حسب ما فسّره به ابن عباس، ويحتمل أن يكون المراد بالفوق والتحت حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً. أي: أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى كل فرقة منكم لها هدى ومصلحة تخالف الأخرى، ومعنى خلطهم هنا أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بأن يقتل بعضكم بعضا، ومن عرف ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. إذ قتل فيهما عشرات الملايين، وجرح فيهما عشرات الملايين عرف معنى هذه الآية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ. أي: نكرّرها بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ. أي: يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه. فائدة: هذه الآية عامّة، والخطاب فيها لكل أهل الأرض ولمّا نزلت أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ الأمن من الله لأمّته في الحياة الدنيا ألّا تصيبهم هذه الثلاثة فأعطي أمانا في الأولى والثانية، ومنع الثالثة، ولا يعني الأمان من الأولى والثانية ألا يصيب بعض الأمة شئ من ذلك، بل ورد ما يدّل على الإصابة لبعض بقاع هذه الأمة، وأمّا الثالثة فما أكثر ما عذّب المسلمون بها ولا يزالون، وقد نقل ابن كثير عند هذه الآية روايات كثيرة حول ما ذكرناه. وأحاديث لها علاقة بالآية وبعضها يشبه الآخر، فلننقل منها، ما لا يؤدي إلى التكرار مع التعليق المناسب: أ- روى البخاري ... عن جابر بن عبد الله قال: لمّا نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بوجهك». أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: «أعوذ بوجهك». أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا أهون- أو قال:- أيسر». ب- روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ... عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فقال: «أما إنّها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» وأخرجه الترمذي ثم قال: هذا حديث غريب. وقد جاء تأويلها في عصرنا وتأويل بعضها من قبل، ونحن ننتظر المزيد من تأويلها،

ففي عصرنا حدث خسف في المغرب في أغادير من أرض الإسلام، وعذبت قرى في تركيا من فوقها، وفي كل يوم تقريبا نسمع غرقا وزلزالا وحرقا. ج- روى الإمام أحمد ... عن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، فصلينا معه، فناجى ربه- عزّ وجل- طويلا ثم قال: «سألت ربي ثلاثا: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». انفرد بإخراجه مسلم. ولا يعني هذا أنه لا يصيب الجوع والغرق أجزاء من هذه الأمة، فإنّ هذا حاصل، ولكن الاستئصال للعالم الذي هو أمة الدعوة، أو للمسلمين الذين هم أمة الإجابة لا يكون. د- روى الإمام أحمد ... عن خبّاب بن الأرتّ- مولى بني زهرة وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: راقبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلاته، قلت: يا رسول الله، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صلّيت نحوها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل إنها صلاة رغب ورهب. سألت ربي- عزّ وجل- فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألت ربي- عزّ وجل- أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا، فأعطانيها، وسألت ربي- عزّ وجل- أن لا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها، وسألت ربي- عزّ وجل- أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها». ورواه النسائي وابن حبان والترمذي. وقال حسن صحيح. والملاحظ أنه وإن سلّط على جزء من أجزاء الأرض الإسلامية عدو فإن التسليط الكلي لا يكون فمثلا في الاجتياح المغولي والتتري للأمة الإسلامية بقيت أجزاء لم تحتل كمصر والمغرب، وفي الاجتياح الاستعماري الحديث بقيت أجزاء كثيرة مستقلة كالحجاز، ونجد، واليمن، وهكذا لم يمر عصر على الإطلاق بحيث يسلّط على هذه الأمة غيرها تسليطا كاملا. هـ- روى الإمام أحمد ... عن شدّاد بن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر، وإني سألت ربي- أن لا يهلك أمّتي بسنة بعامة

وأن لا يسلط عليهم عدوا فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ، وإني قد أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا، وبعضهم يسبي بعضا». قال: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتى لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة». إسناده جيد قوي. وقد وقع الكثير مما تحدث عنه هذا الحديث، وما أكثر معجزاته عليه الصلاة السلام، وإن كل كلمة من كلماته لمعجزة لو عقل الناس وفهموا، فعليه الصلاة والسلام. و- روى الحافظ ابن مردويه ... عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوت ربي- عزّ وجل- أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع الله عنهم ثنتين، وأبى علي أن يرفع عنهم ثنتين: دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض. فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين: القتل والهرج». وكما قلنا من قبل إن الذي رفع إنما هو الرجم الكلي، أو الغرق الكلي، أما التعذيب الجزئي فإنه واقع، وقد رأينا الحديث السابق قد وردت فيه كلمة «بعامة» مما يدل على أن المراد الإهلاك الكلي وهو الذي رفع. ز- روى أبو جعفر الرازي في أثر عن أبي بن كعب: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. قال: فهي أربع خلال: منها اثنتان بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعا، وذاق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان الرّجم والخسف. وقد وقع شئ من ذلك كما ذكرنا في عصرنا في أغادير إذ خسف بها جميعا وهي بلدة مغربية غلب عليها الفسوق والجهل- وتحدثت الإذاعات عن الأعاصير التي اجتاحت البنغال في مرحلة من المراحل، ونادرا ما يمر عام إلا ونسمع الكثير من مثل ذلك. ح- روى ابن مردويه ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي لأمتي أربع خصال فأعطاني ثلاثا، ومنعني واحدة. سألته أن لا تكفر أمتي واحدة فأعطانيها، وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يظهر عليهم

[سورة الأنعام (6): آية 66]

عدوا من غيرهم، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» في هذا الحديث إشارة إلى أن هذه الأمّة لا تكفر دفعة واحدة. وهذا ما حصل، فرغم قوة الردّة عن الإسلام في عصرنا فإن الإسلام على غاية من القوة عند أهله. وبعد: فإن هذه الآية خطاب للبشرية كلها، والبشرية كلها يصيبها ما هدّدها الله به من هذه الثلاثة بلا استئصال. فكل فترة نسمع بخسف أو زلزال أو غرق، أو حرق في مكان ما من الأرض، والحروب المستعرة، والحروب المحتملة مما تشيب له الرءوس، ولكون الأمة الإسلامية جزءا من البشرية؛ فقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربه ليرفع عن أمته ما هددت به الآية فأجيب إلى بعضها ومنع الآخر. وقد رأينا في التعليقات على ما ذكرناه ما فيه الكفاية، ونسأل الله أن يجعلنا دائما مع الحق، ومن أهله، ومع أهله. وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ. أي: وكذّب بالقرآن قومك وهو الصدق الذي ليس وراءه حق ويحتمل أن يكون المراد: وكذّب بالعذاب قومك وهو الحق الذي لا يتخلف- إذا أراد الله- وهل المراد بقومه قريش أو العرب عامّة؟ يحتمل هذا وهذا قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. أي: بحفيظ أو كل إليه أمركم إنّما أنا منذر لِكُلِّ نَبَإٍ. أي: لكل شئ ينبئ به القرآن من أمر الدنيا والآخرة مُسْتَقَرٌّ. أي: وقت استقرار وحصول لا بد منه وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا تهديد ووعيد أكيد بوقوع ما أخبر به القرآن وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا. أي القرآن، أي يخوضون في الاستهزاء به والطّعن فيه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ. أي: لا تجالسهم وقم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. أي: غير القرآن مما يحلّ فحينئذ يجوز أن تجالسهم وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ. أي: ما نهيت عنه من عدم الجلوس معهم حال الخوض منهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى. أي: بعد أن تتذكر مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين الجاحدين، وأي ظلم أكبر من ظلم الله بالاستهزاء بآياته وتكذيبها وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ. أي: وما على المتقين مِنْ حِسابِهِمْ. أي: من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيبا واستهزاء مِنْ شَيْءٍ. أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شئ مما يحاسبون عليه من ذنوبهم وَلكِنْ ذِكْرى. أي: ولكن عليهم أن يذكّروهم إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أي: لعل هؤلاء الخائضين يتقون الله فيؤمنون، ويتركون الكفر، ويجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمسائتهم، وفي زماننا هذا حيث كثر الخوض في آيات الله، كم ينبغي أن يكون المسلم على ذكر من هذه الآية وَذَرِ الَّذِينَ

[سورة الأنعام (6): آية 71]

اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي كلّفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لَعِباً وَلَهْواً. أي: سخروا به واستهزءوا، واللهو: ما يشغل الإنسان من هوى وطرب. فما أشدّ جهل هؤلاء إذ يلعبون بالإسلام، ويلهون به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فظنّوها الهدف والغاية، وأنّها كل شئ؛ ففتنوا ببهجتها، وزينتها، ونسوا الآخرة، وكفروا بها، أو غفلوا عنها، ومعنى ذرهم أي: اتركهم، وأعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ. أي: وعظ بالقرآن؛ مخافة أن تسلم نفس إلى الهلكة، والعذاب، وترتهن بسوء كسبها، وأصل الإبسال المنع وأي عذاب أفظع من منع دخول الجنة! فكيف إذا رافقه دخول النار! لَيْسَ لَها. أي: لهذه النفس الهالكة مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ينصرها بالقوة وَلا شَفِيعٌ يدفع عنها بالمسألة، والمعنى وذكّر بالقرآن كيلا تبسل نفس عادمة وليا وشفيعا بكسبها وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها العدل: الفدية لأن الفادي يعدل المفدى بمثله، والمعنى: وإن تفد كل فداء لا يؤخذ منها ولا يقبل أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ الحميم: هو الماء الحارّ، والمعنى: أولئك الهلكى لهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم، والمبسلون: هم الهالكون المتّخذون دين الله لعبا ولهوا. قُلْ لهؤلاء الكافرين أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ. أي: أنعبد من دون الله الضار النافع ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا. أي: ما لا يقدر على نفعنا لو دعوناه، ولا على ضرنا إن تركناه وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا. أي: أو نرد راجعين إلى الشرك؟ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ للإسلام وأنقذنا من كل مظهر من مظاهر الشرك! كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ. أي: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين في الأرض؛ فأضلته وذهبت به كل مذهب حَيْرانَ. أي: تائها ضالا عن الجادّة لا يدري كيف يصنع لَهُ. أي: لهذا الحيران أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى. أي: يدعونه إلى أن يهدوه الطريق، سمّى الطريق المستقيم الهدى ائْتِنا. أي: يقولون له: ائتنا، وهو ضارب في التيه لا يجيبهم، ولا يأتيهم، وهذا تشبيه للضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم، وهذا وجه من وجوه فهم الآية، والوجه الآخر أن أصحابه هم أولياؤه في الشر يدعونه إلى ما يزعمون أنه هدى، وما هو بهدى؛ لأن الهدى هدى الله، فيستجيب لهم ويترك هدى الله فهو واقع بين تأثيرين، تأثير شياطين الإنس، وشياطين الجن، وعلى كل حال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ

[سورة الأنعام (6): آية 72]

الْهُدى. أي: وحده وما وراءه ضلال وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. أي: قل إن هدى الله هو الهدى، وقل أمرنا لنسلم أي: لأن نسلم لرب العالمين وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ. أي: وأمرنا لأن نقيم الصلاة فصار المعنى: وأمرنا للإسلام ولإقامة الصلاة وكذلك وَاتَّقُوهُ. أي: وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في كل الأحوال وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . أي: يوم القيامة، أمر أولا بالإعلان عن أنه لا هدى إلا هدى الله، وأن يعلن عمّا أمر به من إسلام لله، وإقام صلاة، وتقوى، وأن يعلن أن مرجع الخلق إلى الله، وهذه أمهات الهدى، فمن لم يحقق هذه في نفسه فإن أصل الهداية لم يتحقق به، ومن هنا نعلم أن كل ما عليه الخلق من غير الإسلام ضلال وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. أي: بالحكمة أو المعنى خلقها محقا وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ اليوم هنا بمعنى الحين والمعنى أنه خلق السموات والأرض بالحق والحكمة، وحين يقول لشئ من الأشياء كن فيكون ذلك الشئ قَوْلُهُ الْحَقُّ. أي: الحكمة. أي: لا يكون شيئا من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الصور: القرن بلغة اليمن، والمعنى: أن الملك له وحده يوم ينفخ في الصور، وله الملك في كل حين ولكنّه هناك لا ينازعه منازع عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. أي: عالم السرّ والعلانية، عالم الظاهر والباطن، عالم ما غاب عن العباد وما هو مشهود لهم وَهُوَ الْحَكِيمُ في الإفناء والإحياء الْخَبِيرُ بالحساب والجزاء. وبهذا انتهى المقطع. فوائد: 1 - [تعليق صاحب الظلال حول الآية (68)] بمناسبة قوله تعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وما جاء قبلها من نهي عن مخالطة الذين يخوضون بآيات الله يقول صاحب الظلال: وقد جاء في قول القرطبي في كتابه «الجامع لأحكام القرآن» بصدد الآية: «وفي هذه الآية ردّ من كتاب الله- عزّ وجل- على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين، ويصوّبوا آراءهم تقية .. ». ونحن نقول: إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها. أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية فهو المحظور. لأنه- في ظاهره- إقرار

للباطل، وشهادة ضد الحق. وفيه تلبيس على الناس ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله. وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة. كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال: «قال ابن خويزمنداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر- مؤمنا كان أو كافرا- قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة: فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السّختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها؛ ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» .. فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله .. وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية؛ ومن يقره على هذا الادعاء .. فليس هذا بدعة مبتدع؛ ولكنه كفر كافر، أو شرك مشرك، مما لم يكن في زمانهم. فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى، وهو يزعم الإسلام. ولم يقع شئ من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام- إلا من عصم الله- وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام .. ». أقول: نص فقهاؤنا على أن خلطة الفاسق مكروهة، فكيف بخلطة الكافر، ولا بدّ أن نفرّق بين الخلطة التي يقتضيها عمل دنيوي مشترك فهذه ضرورة تقدّر بقدرها، ولا مانع شرعيا منها إذا كان العمل جائزا شرعا، لقد آجر بعض الصحابة نفسه ليهود، وتعامل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمور المعاملات مع غير المسلمين، فهذا ممّا لا حرج فيه، وقد يضطر الإنسان بحكم عمله- أن يجالس غير المسلمين، كالمدرس في مدرسة يدرّس فيها كافر ومسلم فهذا ممّا لا حرج فيه، إلا إذا خاض هؤلاء في آيات الله طعنا واستهزاء فعليه أن يوقفهم عند حدّهم وإذا لم يستطيع فعليه أن يقوم.

2 - المراد بالصور في الآية (73)

2 - [المراد بالصّور في الآية (73)] قال بعضهم المراد بالصور في الآية- وفي هذا المقام- جمع صورة أي: يوم ينفخ فيها فتحيا. قال ابن جرير: والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال ابن جرير: والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» وقال الإمام أحمد .... عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه». ثم يذكر ابن جرير حديثا طويلا رواه أبو القاسم الطبراني في كتابه المطولات، وينقل ابن كثير طرفا منه ثم يقول: هذا حديث مشهور وهو غريب جدا ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة تفرّد به إسماعيل بن رافع، قاضي أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثّقه، ومنهم من ضعّفه. ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفلاس، ومنهم من قال فيه هو متروك. وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر، إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء. قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة، وأما سياقه فغريب جدا، ويقال جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقا واحدا، فأنكر عليه بسبب ذلك، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث» والذي أقوله إن هذا الحديث بعد ما رأينا من الكلام فيه يمكن أن نعتبره محاولة لإعطاء صورة متسلسلة عما سيكون من خلال نصوص متعددة، منها الصحيح، ومنها المنكر، جمعها جامعها وجعلها حديثا واحدا، وحاسبه على فعله علماء المسلمين. وسننقل ما اجتزأه منه ابن كثير مع ملاحظة ما مرّ: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في طائفة من أصحابه فقال: «إنّ الله لمّا فرغ من خلق السموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخصا بصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر». قلت: يا رسول الله وما الصور؟ قال: «القرن» قلت كيف هو؟ قال: «عظيم والذي بعثني بالحق إن أعظم دارة فيه كعرض السموات والأرض، ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخة الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ. فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر، وهي كقول الله وَما

يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (ص: 15) فيسيّر الجبال، فتمرّ مرّ السحاب فتكون سرابا، ثم ترتج الأرض بأهلها رجّا، فتكون كالسفينة المرميّة في البحر تضربها الأمواج تكفّأ بأهلها كالقنديل المعلّق في العرش ترجرجه الرّياح، وهو الذي يقول: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ* قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (النازعات: 6، 7، 8) فيميد الناس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين ما لهم من أمر الله من عاصم، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى يَوْمَ التَّنادِ (غافر: 32) فبينما هم على ذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمرا لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم انشقت فانتثرت نجومها، وانخسفت شمسها وقمرها». قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك». قال أبو هريرة: يا رسول الله من استثنى الله- عزّ وجل- حين يقول فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ؟ (النمل: 87) قال: «أولئك الشهداء». وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وآمنهم منه، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه. قال: وهو الذي يقول الله- عزّ وجل- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (الحج: 2) فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله إلا أنّه يطول، ثمّ يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق أهل السموات والأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، وجاء ملك الموت إلى الجبار- عزّ وجل- فيقول: يا رب، قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت، فيقول الله- عزّ وجل وهو أعلم بمن بقي- فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وبقيت أنا، فيقول الله- عزّ وجل- ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول: يا رب يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول: اسكت، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، فيموتان، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول: يا رب قد مات جبريل وميكائيل. فيقول الله- عزّ وجل وهو أعلم بمن بقي- فمن بقي؟ فيقول بقيت أنت

الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة عرشك، وبقيت أنا، فيقول الله ليمت حملة عرشي، فيموتوا، ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات حملة عرشك فيقول الله- وهو أعلم بمن بقي- فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمت فيموت، فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، كان آخرا كما كان أولا طوى السموات والأرض طيّ السّجلّ للكتب، ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات، ثم يقول أنا الجبار أنا الجبار ثلاثا ثم هتف بصوته لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ثلاث مرات فلا يجيبه أحد ثم يقول لنفسه لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ يقول الله يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فيبسطهما ويسطحهما ثم يمدّهما مدّ الأديم العكاظي لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى، من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثمّ ينزل الله عليهم ماء من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يوما، حتى يكون الماء فوقهم اثنى عشر ذراعا، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث- أو كنبات البقل- حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله- عزّ وجل- ليحيى حملة عرشي فيحيون، ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور، فيضعه على فيه ثمّ يقول: ليحيى جبريل وميكائيل فيحييان، ثم يدعو الله الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا، وأرواح الكافرين ظلمة، فيقبضها جميعا، ثمّ يلقيها في الصور، ثمّ يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنّها النحل، قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول: وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السّمّ في اللديغ، ثم تنشقّ الأرض عنهم، وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فتخرجون سراعا إلى ربكم تنسلون مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (القمر: 8) حفاة عراة غرلا فتقفون موقفا واحدا، مقداره سبعون عاما، لا ينظر إليكم، ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع ثم تدمعون دما، وتعرقون حتى يلجمكم العرق- أو يبلغ الأذقان- وتقولون من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلّمه قبلا، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى ويقول: ما أنا بصاحب ذلك

فيستقرءون الأنبياء نبيا نبيا كلما جاءوا نبيا أبى عليهم- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-: «حتى تأتوني فأنطلق إلى الفحص فأخر ساجدا» قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الفحص؟ قال: «قدام العرش حتى يبعث الله إليّ ملكا فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي: يا محمد فأقول: نعم يا رب. فيقول الله- عزّ وجل-: ما شأنك- وهو أعلم- فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال الله: قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فأرجع فاقف مع الناس، فبينما نحن وقوف إذ سمعنا من السماء حسّا شديدا، فهالنا فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافّهم، وقلنا لهم: أفيكم ربنا، قالوا: لا، وهو آت، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافّهم، وقلنا لهم أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، وهو آت، ثمّ ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبّار- عزّ وجل- في ظلل من الغمام والملائكة فيحمل عرشه يومئذ ثمانية- وهم اليوم أربعة- أقدامهم في تخوم الأرض السفلى، والأرض والسموات إلى حجزهم، والعرش على مناكبهم، لهم زجل في تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبّوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، رب الملائكة والروح، سبحان ربنا الأعلى، الذي يميت الخلائق ولا يموت. فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه، ثم يهتف بصوته: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليّ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، ثمّ يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ* هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أو- بها تكذبون- شك أبو عاصم وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فيميز الله الناس، وتجثو الأمم يقول الله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

(الجاثية: 28) فيقضي الله- عزّ وجل- بين خلقه إلا الثقلين: الجن والإنس، فيقضي بين الوحوش، والبهائم، حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن، فإذا فرغ من ذلك فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى، قال الله لها كوني ترابا، فعند ذلك يقول الكافر يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (النبأ: 40) ثم يقضي الله بين العباد، فكان أول ما يقضي فيه الدماء، ويأتي كل قتيل في سبيل الله، ويأمر الله- عزّ وجل- كل قتيل فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول: يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول- وهو أعلم-: فيم قتلتهم؟ فيقول: قتلتهم لتكون العزة لك، فيقول الله له: صدقت. فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة. ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول: يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول- وهو أعلم-: لم قتلتهم؟ فيقول يا رب قتلتهم لتكون العزة لى فيقول: تعست. ثم لا تبقي نفس قتلها إلا قتل بها، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها، وكان في مشيئة الله إن شاء عذّبه، وإن شاء رحمه، ثمّ يقضي الله تعالى بين من بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه إلى أن يخلص اللبن من الماء، فإذا فرغ الله من ذلك، نادى مناد يسمع الخلائق كلهم، ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثّلت له آلهته بين يديه، ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم، ثم يتبع هذا اليهود، وهذا النصارى، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار وهو الذي يقول: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (الأنبياء: 99) فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون، جاءهم الله فيما شاء من هيئته، فقال: يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فينصرف عنهم، وهو الله الذي يأتيهم فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يأتيهم فيقول: يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون والله ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساقه، ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم، فيخرّون للأذقان سجدا على وجوههم ويخرّ كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر، ثم يأذن الله لهم فيرفعون ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة- أو كحد السيف- عليه كلاليب، وخطاطيف، وحسك كحسك السعدان، دونه جسر دحض مزلّة، فيمرون كطرف العين، أو كلمح البرق، أو كمرّ

الرّيح، أو كجياد الركاب، أو كجياد الرجال، فناج سالم، وناج مخدوش، ومكردس على وجهه في جهنم، فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة. قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون من أحقّ بذلك من أبيكم آدم عليه السلام، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلّمه قبلا، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله، فيؤتى نوح فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول عليكم بإبراهيم، فإن الله اتخذه خليلا، فيؤتى إبراهيم، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك ويقول: عليكم بموسى فإن الله قرّبه نجيا، وكلّمه، وأنزل عليه التوراة، فيؤتى موسى، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ولكن عليكم بروح الله وكلمته، عيسى ابن مريم، فيؤتى عيسى ابن مريم فيطلب ذلك إليه فيقول ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد». قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن، فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيفتح لي، فأحيّا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا، فيأذن الله لي من تحميده، وتمجيده، بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد، واشفع تشفّع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي يقول الله- وهو أعلم- ما شأنك؟ أقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفّعني في أهل الجنة فيدخلون، فيقول الله شفّعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنة» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «والذي نفسي بيده، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم، ومساكنكم، من أهل الجنة بأزواجهم، ومساكنهم، فيدخل كل رجل منهم على اثنين وسبعين زوجة، سبعين مما ينشئ الله- عزّ وجل- وثنتين آدميتين من ولد آدم، لهما فضل على من أنشأ الله، لعبادتهما الله في الدنيا، فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة، على سرير من ذهب، مكلل باللؤلؤ، عليها سبعون زوجا من سندس وإستبرق، ثم إنه يضع يده بين كتفيها، ثم ينظر إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبدها له مرآة وكبده لها مرآة. فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله، ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره وما تشتكي قبلها، فبينا هو كذلك، إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل- إلا أنه لا منيّ ولا منيّة- إلا أنّ لك أزواجا غيرها، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة، كلما أتى واحدة

كلمة في السياق

قالت له: والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شئ أحبّ إليّ منك. وإذا وقع أهل النار في النار، وقع فيها خلق من خلق ربك، أوبقتهم أعمالهم، فمنهم من تأخذ النار قدميه لا تجاوز ذلك، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه جسده كله إلا وجهه حرّم الله صورته عليها» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فأقول: يا رب شفّعني فيمن وقع في النار من أمّتي. فيقول: أخرجوا من عرفتم، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع، فيقول الله: أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيمانا، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، ثم يشفع الله فيقول: أخرجوا من وجدتم في قلبه إيمانا ثلثي دينار. ثم يقول: ثلث دينار ثم يقول: ربع دينار. ثم يقول: قيراطا. ثم يقول حبة من خردل، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد، وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قطّ، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع، حتى أن إبليس ليتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له، ثم يقول: الله بقيت وأنا أرحم الراحمين. فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره، كأنهم حمّم فيلقون على نهر يقال له نهر الحيوان، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فما يلي الشمس منها أخيضر، وما يلي الظل منها أصيفر، فينبتون كنبات الطراثيث، حتى يكونوا أمثال الذر، مكتوب في رقابهم «الجهنميون عتقاء الرحمن، يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب، ما عملوا خيرا لله قط، فيمكثون في الجنة ما شاء الله، وذلك الكتاب في رقابهم، ثم يقولون ربنا امح عنا هذا الكتاب فيمحوه الله- عزّ وجل- عنهم». كلمة في السياق: لقد رأينا هذا المقطع في جولتيه أنه ناقش الكافرين وهذا يقابل قوله تعالى في سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وتحدث كثيرا عن الرجوع إلى الله، وناقش كفر الكافرين في ذلك وهذا يقابل ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وتحدث عن خلق السموات والأرض، وعن كثير من سننه في الأرض، وعن مظاهر علمه، وهذا فيه رشحة من قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فالمقطع كله إذن يخدم المحور، وكما انسجم المقطع مع السياق القرآني العام، فإنّ المقطع منسجم في تسلسله الخاص، إذ تحدّث عن

مجموعة مظاهر من مظاهر قهر الله، وعلمه، وحكمته، وهي المعاني التي بدأ بها المقطع، والتي يدور المقطع في سياقه الخاص حولها، والكفر بدايته واحدة ولكن منحنياته ومنعرجاته كثيرة جدا، وقد ناقش المقطع كثيرا من هذه المنحنيات والمنعرجات، والإيمان بالله بدايته واحدة، ولكنه يبتنى عليه مواقف وسلوكيات، وقد حدّد المقطع كثيرا من مواقف وسلوكيات الإيمان بالله، والإيمان بالله يقتضي فهما لحوادث الكون على شكل معيّن، وقد حدّد المقطع كثيرا من الفهوم لأسرار هذا الكون على حقيقتها. وكنّا ذكرنا من قبل أنّ المقطع سائر على النسق المستمر للسياق الخاص للسورة في معالجة الشرك والامتراء، وتقرير خلق الله للأشياء، واستحقاق الله الحمد مما تعرضت له مقدمة السورة. والآن يأتي مقطع آخر هو المقطع الثالث في القسم الأول من سورة الأنعام. وهو يعرض لقضايا التوحيد، ولقضايا الشرك، من خلال قصة إبراهيم وعرضه لمسيرة موكب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مرّ العصور. وبهذا يستكمل القسم الأول من أقسام سورة الأنعام مسيرته الطويلة في التقرير والعرض والمناقشة وتأكيد ما ينبغي أن يؤكّد. ***

المقطع الثالث ويمتد من الآية (74) إلى نهاية الآية (94) وهذا هو

المقطع الثالث ويمتد من الآية (74) إلى نهاية الآية (94) وهذا هو: 6/ 83 - 74

6/ 92 - 84

كلمة في المقطع

6/ 94 - 93 كلمة في المقطع: يبدأ المقطع بالكلام عن التوحيد من خلال الكلام عن إبراهيم عليه السلام، وينتهي بعرض مشهد من مشاهد يوم القيامة يؤنّب فيه المشركون: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وفي وسط المقطع نرى كلاما عن دعاة التوحيد وهم الرّسل عليهم الصلاة والسلام ومن والاهم. وفي البداية والنهاية والوسط نجد نقاشا وحوارا مع أهل الشّرك والكفر ممّا يؤكد وحدة المقطع، كما يؤكد صلته بالسياق الخاص لسورة الأنعام الذي حددته الآيات الأولى فيها: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ والمقطع يحدثنا عن كفر الكافرين بالله، وشرك المشركين به، كما يحدثنا عن حال هؤلاء الكافرين إذا رجعوا إلى الله، وذلك له صلة بمحور السورة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ لاحظ قوله تعالى في المقطع على لسان إبراهيم عليه السلام إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إنّه من ملاحظة ذلك ندرك الصلة بين المقطع ومحور السورة من البقرة.

وبعد هذا الذي قدّمناه عن وحدة المقطع، ومحله في السياق الخاص لسورة الأنعام، وصلته بمحور السّورة من البقرة، فلننقل ما قدّم به سيد قطب لهذا المقطع مبيّنا وحدته وتلاحمه قال رحمه الله: «هذا الدرس بطوله لحمة واحدة؛ يتناول موضوعا متصل الفقرات .. إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة- وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية. وما بينهما من ارتباطات- ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة .. يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه .. مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة .. ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات؛ وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة .. والدرس- في جملته- يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح- عليه السلام- إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية- كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين، إبراهيم عليه السلام- ويرسم مشهدا رائعا حقا للفطرة السليمة، وهي تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في أعماقها، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها .. إلى أن يخلص لها تصور حق، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق. ويقوم على ما تجده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس. ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ. إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟. ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول؛ يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور؛ حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغوا لا وزن له. يتناثر على جانبي الموكب الجليل، الماضي في طريقه الموصول. وحيث يلتحم آخره مع أوله، فيؤلف الأمة الواحدة، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها، دون اعتبار لزمان أو مكان ودون اعتبار لجنس أو قوم، ودون اعتبار لنسب أو لون .. فالحبل الموصول

بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم. إنه مشهد رائع كذلك؛ يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ. وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يأتي التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلا، ولم ينزل على بشر كتابا .. إنهم لم يقدروا الله حق قدره. فما قدر الله حق قدره من يقول: إنه- سبحانه- تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور. فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته، وعلمه وحكمته، وعدله ورحمته .. إنما اقتضت حكمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا، وأن ينزل على بعض الرسل كتبا، ليحاولوا جميعا هداية البشر إلى بارئها، واستنقاذ فطرتها من الركام الذي يرين عليها، ويغلق منافذها، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها .. ويضرب مثلا الكتاب الذي أنزل على موسى. وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعا .. وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله .. وهي الدعاوى التي كان يدّعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة. وفي الختام يأتي مشهد الاحتضار المكروب للمشركين: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ* وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ! لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. وهو مشهد كئيب مكروب رعيب، يجلله الهون، ويصاحبه التنديد والتأنيب جزاء

المعنى العام للمقطع

الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب». أقول: إنه في السورة التي تناقش الكافرين، وتقيم عليهم الحجة يأتي في وسطها- تقريبا- هذا المقطع الذي يذكر الله- عزّ وجل- فيه حوار إبراهيم لأبيه وقومه، وما منّ الله به على إبراهيم وذريّته- ومنهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم- وكيف أنّه مع كثرة الوحي واستمراره وظهوره في التاريخ يوجد من ينكر أصل الوحي مع وجود التوراة وظهور هذا القرآن. وفي هذا السياق يبيّن الله- عزّ وجل- أنه لا أظلم من الكاذبين على الله، أو المدّعين أن الله أوحى إليهم ولم يوح، أو المتحدّين لله في وحيه. هؤلاء يذكّرنا الله- عزّ وجل- كيف تكون وفاتهم وكيف يكون قدومهم على الله. فالمقطع يبني في سياق السورة لبنات في صرح التعريف على الله- عزّ وجل- وسننه، ويقيم الحجة على الكافرين، ويدلّ على طريق الإيمان، وصلة ذلك بمحور السورة، ومحلّه من مقطعه، وامتدادات هذا المحور في سورة البقرة، تكاد لا تخفى على المتأمل. المعنى العام للمقطع: بعد إذ قامت الحجة على أهل الكفر، وأتتهم الموعظة، وعلم أهل الإيمان كيف ينبغي أن يقولوا وأن يفعلوا .. يأتي هذا المقطع مبتدئا بالكلام عن إبراهيم عليه السلام إذ يناقش أباه، متعجبا من عبادته غير الله، مبينا له أنه هو والسالكين مسلكه تائهون، لا يهتدون أين يسلكون، بل هم في حيرة وجهل، وأمرهم في الجهالة والضلال بيّن واضح لكل ذي عقل سليم، إذ يعبدون الأصنام من دون الله، ومن بداية المقطع نعلم أن هذا المقطع سائر على النسق العام للسورة في التعجيب من الكفر ومناقشة أهله من خلال قصة أبي الأنبياء مع قومه. ثم قص الله- عزّ وجل- في هذا المقام كيف أنه أرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وهل هذه الرؤية بيان لوجه الدلالة على وحدانية الله، أو هذه الرؤية رؤية كشف قلبي روحي من باب انكشاف شئ من عالم الغيب؟ قال ابن كثير: فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانا، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة، والدلالات القاطعة، من أجل أن يصل إلى اليقين الكامل، ثمّ قصّ الله- عزّ وجل- قصة قوله عن النجم، ثم عن القمر، ثم عن الشمس هذا رَبِّي ورفضه لربوبية

النجم، ثم القمر، ثم الشمس، واختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة، أي هل فعلا كان ينتقل في التأمل حتى وصل إلى ربوبية الله؟ أو أنه كان يناظر قومه في هذا الكلام؟ وهل في قوله: هذا رَبِّي استفهام أو تقرير؟. رجّح ابن جرير أن المقام مقام نظر. ورجّح ابن كثير أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبيّنا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام. قال ابن كثير: فبيّن في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام، التي هي على صور الملائكة السماوية، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسّلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرّزق والنّصر، وغير ذلك ممّا يحتاجون إليه، وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيّزة، وهي القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشترى، وزحل، وأشدّهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة، فبيّن أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية؛ فإنها مسخّرة، مقدّرة بسير معيّن لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا، ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام، خلقها الله منيرة؛ لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار، ثم تبدو في الليلة القابلة على- هذا المنوال- ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبيّن فيه مثل ما بيّن في النّجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، وأقام عليهم الحجة بأنه لا شئ من هذه المخلوقات مهما كبرت وعظمت يستحق الربوبية، أعلن براءته من عبادتهن، وموالاتهن، وأعلن أنه إنما يعبد خالق هذه الأشياء، ومخترعها، ومسخّرها، ومقدّرها، ومدبّرها، الذي بيده ملكوت كل شئ، وخالق كل شئ، وربه ومليكه وإلهه، ثم أخبر تعالى عن خليله حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد، وناظروه بشبه من القول كيف أنكر عليهم أن يجادلوه في أمر الله، وأنه لا إله إلا هو، وقد بصّره الله وهداه إلى الحق، وأنّه على بيّنة من ربه، فكيف يلتفت إلى أقوالهم الفاسدة، وشبههم الباطلة، ومن ذلك تخويفهم إياه بآلهتهم، والدليل قائم على بطلان قولهم فيما ذهبوا إليه، وذلك أنّ هذه الآلهة التي يعبدونها لا تؤثّر شيئا؛ فهو لا يخافها، ولا يباليها؛ إذ لا يضر ولا ينفع إلا الله الذي أحاط علمه بجميع الأشياء، فلا تخفى عليه خافية، فكيف لا يعتبرون ولا يتعظون، ولا ينزجرون، ثم أقام عليهم الحجة

بتبيان أنّ الأحقّ بالأمن هو من يعبد الله الذي يملك الضّرّ والنفع، وأن الأحق بالخوف هو الذي لا يعبده، وأن الذين اجتمع لهم الإيمان والإخلاص والتوحيد هم المستحقون للأمن في الدنيا وفي الآخرة. ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- أنّ هذه الحجّة منّة من الله على إبراهيم، وبها تقوم الحجة على قومه، وليس مثل حجّة الله حجّة، وليس مثل علمه علم، ولكن الكفر يرفض الحجّة لا لقصور فيها بل لعمى وصمم عند أهله. ثمّ ذكر الله ما منّ به على إبراهيم من رزقه إسحاق، بعد أن طعن في السن، ومن بعده يعقوب بن إسحاق، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه، وتركهم، ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوّضه الله عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه، وعلى دينه، كإسحاق ويعقوب، وكلّا منّ عليه بالهداية الكاملة، التي هي النّبوة والرّسالة، مثل ما منّ الله على نوح عليه السلام من قبل بالهداية الكاملة، والذريّة الصالحة الباقية، فكلّ من في الأرض من الخلق ذريّته، وقد جعل الله من ذرية إبراهيم عليه السلام الأنبياء والرّسل الكثيرين: داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس. وكل هؤلاء قد ذكروا في هذا السياق، وذكر معهم لوط كذلك، وليس من ذرية إبراهيم الحسّية بل هو من أبنائه في المعنى، لأنّه قد استجاب لدعوته، وكما منّ الله على هؤلاء بالهداية، فقد منّ على كثير من آبائهم، وذريّاتهم، وإخوانهم بالهداية والاجتباء؛ وتلك سنة الله يهدي من يشاء ممّن استجاب لدعوته ولم يشرك به معه غيره. وفي هذا السياق ذكر الله أنّ هؤلاء جميعا لو أشركوا لأحبط الله أعمالهم، وفي ذلك تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته، وهكذا يتّضح لنا ما منّ الله به على إبراهيم، من التّوحيد والدّعوة إليه، ورفض الشرك، وإقامة الحجة على أهله، وأن ذلك لم يزل دأب المهتدين من قبله ومن بعده وإن الشرك لا يرافقه إلا حبوط العمل، ثمّ قرّر الله- عزّ وجل- أنّ هؤلاء المذكورين قد آتاهم الله الكتاب والحكم والنّبوة، أنعم عليهم بذلك رحمة للعباد؛ ولطفا منه بالخليقة، فإن يكفر من كفر بالكتاب والحكمة والنّبوة- كأهل مكة وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومجوس وكتابيين-، فقد وكّل الله بها من لا يكفر بها، ولا يجحد منها شيئا، ولا يردّ منها حرفا إلى يوم القيامة، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها. ثمّ قرر الله- عزّ وجل- أنّ هؤلاء الذين سبق ذكرهم هم أهل الهدى، فعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهم وبهداهم، وهو أمر لأمّته جميعا؛ إذ إنّ أمّته تبع له فيما يشرّعه

ويأمرهم به، وبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهؤلاء، أمره أن يعلن أنّه لا يطلب من أحد أجرا على البلاغ والتبليغ لدعوة الله وكتابه، وأنّه ما يريد بهذا البلاغ وهذا القرآن إلا أن يذكّر الخلق جميعا من أجل أن يرشدوا من العمى إلى الهدى، ومن الغيّ إلى الرّشاد، ومن الكفر إلى الإيمان. وهكذا استقرّ السياق على الكلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعوته ودينه ومهمته، وأنه استمرار لإبراهيم في ذريته ودعوته، وأنه على سنّة الرسل السابقين، غير مبتدع بل متّبع، وإذ استقر السياق على هذا فقد بدأ السياق يناقش من يكفر بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويناقش بعض أفكارهم وكلامهم، فبيّن أنّ الذين يزعمون أنّ الله لم ينزل على أحد من خلقه وحيا لم يعرفوا الله حق معرفته، ولم يعظّموه حقّ تعظيمه، وفي هذا دليل على أن السورة كلها تناقش الكفر بالله، وما يترتب على الكفر، كما تصف الإيمان، وما يترتب على هذا الإيمان، مع تذكيرها بنعم الله على الإنسان، وتذكيرها بصفات الله، وهذا كله ينسجم مع محور السورة العام، وهما آيتا البقرة اللتان أشرنا إليهما في أكثر من مكان. ولنرجع إلى السياق. فإذ كان قائلو هذا الكلام يوم نزول القرآن هم اليهود أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهؤلاء المنكرين لإنزال شئ من الكتب من عند الله أمره أن يذكر لهم قضية جزئية تقوم بها الحجة، جوابا على نفيهم العام وهي: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وهو التوراة التي قد علمتم- وكل أحد- أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورا وهدى للناس؛ ليستضاء بها في كشف المشكلات؛ ويهتدى بها من ظلم الشبهات. هذه التوراة التي تظهرون منها ما تظهرون، وتحرّفون منها ما تحرّفون، وتبدّلون وتتأولون منها ما تتأولون، وتكتمون منها ما تكتمون. ومن أنزل هذا القرآن الذي علّم الله فيه الخلق من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي مما لا يحيط به أحد. من أنزل هذا كله إلا الله؟ ثم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول جوابا على هذا السؤال غير منتظر جوابهم: الله، وأن يدعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين؛ فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين. نفهم من هذا كله أن الإيمان بالله، والمعرفة له، يقتضيان إيمانا بأن الله يهدي عباده، وينزل عليهم وحيا وكتبا، فمن زعم أن الله لا يتدخل في هداية عباده، أو لا يرسل رسلا، أو لا يوحي وحيا، فإنه ما عرف الله ولم يهتد بهداه، ولم يعظّمه التعظيم اللائق به. وإذ يستقر هذا المعنى يقرّر الله أنّه هو الذي أنزل هذا القرآن، وجعله مباركا، وجعله يصدّق الكتب السابقة عليه، وأنّه أنزله من أجل أن ينذر به الخلق جميعا، مبتدئا

بمكة العظيمة أمّ الدنيا جميعها. ثمّ بيّن أنّ من آمن بالله وباليوم الآخر فإنّه يؤمن بهذا القرآن ويقيم الصلاة ويحافظ عليها، ومن ثمّ نعلم أنّه ما من إنسان لا يؤمن بهذا القرآن إلا وهو كافر باليوم الآخر، أو أن إيمانه باليوم الآخر غير صحيح. وإذ تقرّر أنّ من أصل الإيمان بالله ومن أصل معرفته وتعظيمه: الإيمان بما أنزل؛ فإن الله يقرّر بعد ذلك أنّه لا أحد أظلم ممّن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولدا، أو ادّعى أنّ الله أرسله إلى النّاس ولم يرسله، وكذلك من ادّعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي بما يفتريه من القول، ثمّ بيّن حال هؤلاء الظالمين إذ هم في سكرات الموت وغمراته وكرباته، والملائكة تضربهم وتعذبهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، قائلين لهم: اليوم تهانون غاية الإهانة؛ كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتّباع آياته، والانقياد لرسله، ويوم القيامة يقال لهم: كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فها هو قد جاء، وكل ما أعطيناكم في الحياة الدنيا من النّعم والأموال والجاه وغير ذلك تركتموه وراء ظهوركم، فأين آلهتكم المزعومة التي أشركتموها مع الله في العبادة؟! لقد تقطعت ما بينكم وبينهم من الوشائج والصلات، وذهب عنكم، وضاع ما كنتم تزعمونه من رجاء في الأصنام والأنداد. وهكذا عرض الله علينا ما يناله هؤلاء الظالمون من تقريع وتوبيخ ساعة موتهم ويوم بعثهم، وما بعد ذلك من العذاب أشد؛ لأنّهم لم يؤمنوا بالله حقّ الإيمان، ولم يعظّموه حقّ التّعظيم، ولم يعرفوه حق المعرفة، بحيث يؤمنون به، وبصفاته التي تقتضي إيمانا باليوم الآخر، وإيمانا بالرّسل، وإيمانا بالوحي، وبعدا عن الكذب عليه أو تكذيب رسله. وبتقرير هذه المعاني ينتهي المقطع، بعد إذ تقرر فيه أن من مقتضيات الإيمان بالله توحيده وخوفه وحده. وأنّ من منن الله على من وحّده أن يهديه، وأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام مظهر من مظاهر استمرار التوحيد والهداية، وأنه لا يزال أهل التوحيد والهداية موجودين، وأن من تعظيم الله وكمال معرفته الإيمان بأنه ينزل وحيا ويرسل رسلا، وأن محمدا عليه الصلاة السلام هو الذي يعظم الله حق التعظيم، ويعرفه حق المعرفة، وأن قرآنه مما أنزل الله، وأن من لم يؤمن بالقرآن، أو ادّعى على الله ما لم يتصف به، أو ادّعى أن الله أنزل عليه ولم ينزل أظلم الخلق، وأن هؤلاء الظالمين سيرون مغبة ظلمهم توبيخ، وتقريع، يوم يموتون، ويوم يبعثون، وهذه المعاني كلها لها صلة

فائدة: تكرار القصص في القرآن لخدمة السياق

ما بالمحور العام للسورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .... كما أن لها صلة بالسياق الخاص لسورة الأنعام؛ ولذلك ذكر في أول المقطع وأوسطه الشرك، والمقطع بمجموعه يعمّق المعنى الصحيح للتوحيد. فائدة: [تكرار القصص في القرآن لخدمة السياق] نلاحظ هنا أنه قد ذكر إبراهيم في سورة الأنعام، ومن قبل ذكر في سورة البقرة وغيرها. ويذكر في سور كثيرة من القرآن. وكذلك غيره من الرّسل، كما تذكر قصص أقوام في أكثر من مكان. والشئ الذي ينبغي أن نلاحظه أنه في كل مكان تذكر قصة، أو تكرر، فإنها تذكر لتخدم غرضا يتفق مع السياق الخاص، ويتفق مع السياق القرآني العام، ومن ثم فإنها تؤدي حيث ذكرت غرضا خاصا في محلها، فقصة إبراهيم عليه السلام في سورة البقرة تؤدي غرضا ينسجم مع السياق الخاص والعام في سورة البقرة؛ حيث تخدم موضوع القيام حق القيام بأمر الله، وقصة إبراهيم عليه السلام هنا تخدم موضوع الإيمان بالله، والطريق إليه، وما يقتضيه هذا الإيمان من أمن، وما يكافئ الله- عزّ وجل- به أهل التوحيد. وهكذا، ومن تأمّل كيف أنّ القصّة الواحدة تؤدي كل مرة غرضا خاصا في سياقها الجزئي والكلي، إن من تأمل هذا الموضوع ظهر له شئ من إعجاز هذا القرآن وكيف أنّه لا تنقضي عجائبه. المعنى الحرفي للمقطع: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً هذا استفهام توبيخي أي أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهية إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. أي: في ضلال بيّن واضح، وأيّ ضلال أكبر من اتّخاذ غير الله إلها وَكَذلِكَ. أي: وكما أريناه قبح الشرك نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الملكوت من الملك لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة والمعنى وكما أريناه قبح الشرك أرينا بصيرته لطائف خلق السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. أي: أريناه ذلك من أجل أن يكون من الموقنين، أو من أجل أن يستدل ويكون من الموقنين عيانا كما أيقن بيانا فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ. أي: أظلم وهو معطوف على وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ. رَأى كَوْكَباً قال النسفي: أي الزهرة أو المشتري، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى

[سورة الأنعام (6): آية 77]

طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أنّ النّظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها ليس بإله، لقيام دليل الحدوث فيها، ولأن محدثا أحدثها، ومدبرا دبّر طلوعها وأفولها، وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها. وقد بدأ لمّا رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه .. قال لهم: قالَ هذا رَبِّي. أي: في زعمكم، أو المراد أهذا ربي؟ استهزاء بهم وإنكارا عليهم، والعرب تكتفي عن حرف الاستفهام بنغمة الصوت، والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأنّه أدعى إلى الحق، وأنجى من الشغب عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة فَلَمَّا أَفَلَ. أي: غاب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. أي: لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال. لأنّ ذلك من صفات المخلوقين لا الخالق فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً. أي: مبتدئا في الطلوع قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. أي: نبّه قومه بهذا على أن من اتخذ القمر فهو ضالّ، وإنّما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ- وكلاهما انتقال من حال إلى حال- لأن الاحتجاج بالأفول على بطلان الإلهية أظهر؛ لأنّه انتقال مع خفاء واحتجاب. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ. أي: أعظم من القمر والنّجم فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ به من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. أي: للذي دلّت عليه هذه المحدثات على أنّه منشئها حَنِيفاً. أي: مائلا عن الأديان كلها إلى الإسلام وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله شيئا من خلقه وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. أي: في توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ. أي: في توحيده وَقَدْ هَدانِ. أي: إلى التوحيد وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً قال هذا لمّا خوّفوه: أن معبوداتهم تصيبه بسوء والمعنى: إني لا أخاف معبوداتكم في وقت قطّ لأنّها لا تقدر على منفعة ولا مضرّة، إلا إذا شاء ربي أن يصيبني منها بضرّ فهو قادر على أن يجعل فيما شاء نفعا، وفيما شاء ضرا لا الأصنام وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً. أي: فلا يصيب عبدا شئ من ضر أو نفع إلا بعلمه أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميّزون بين القادر والعاجز وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ. أي: وكيف أخاف معبوداتكم وهي مأمونة الخوف وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ. أي: بإشراكه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً. أي: حجة إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه الحجة، والمعنى: وما لكم لا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف

[سورة الأنعام (6): آية 82]

فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ فريق الموحّدين وفريق المشركين أيهما أحق بالأمن من العذاب إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وإنما قال فأي الفريقين ولم يقل فأينا احترازا من تزكية نفسه ثم أجاب هو بنفسه عن السؤال الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ. أي: ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، فالظلم هنا الشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ هذا تتمة كلام إبراهيم عليه السلام وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ المراد بها جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى وَهُمْ مُهْتَدُونَ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ. أي: في العلم والحكمة إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في رفعه من يشاء عَلِيمٌ بمن يستأهل ذلك. فصول: في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ سمّى الله أبا إبراهيم (آزر) وعند هذه التسمية وفي هذه الآية تدور معارك كلامية بين المسلمين، وبين غيرهم، وبين المذاهب الإسلامية نفسها. وسبب هذه المعارك يعود إلى شيئين: الشئ الأول: أن كتب العهد القديم تسمّي أبا إبراهيم (تارح). والشئ الثاني: أن بعض المذاهب الإسلامية تعتبر أن آباء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأجداده ليس فيهم كافر، وبناء عليه فقد حملوا كلمة الأب في الآية على أنّ المراد بها العمّ، وأكثر المفسرين على أنّ صرف الحقيقة في الآية إلى المجاز لا داعي له، وأما كتب العهد القديم فقد اعتدنا فيها- كما أثبت ذلك رحمة الله بن خليل الهندي في كتابه القيم (إظهار الحق) - أن تترجم الاسم من لغة إلى لغة، فمن لا يعرف هذه الحالة عنهم يقع في اللبس، وبناء عليه فلا يبعد أن يكون الاسم (تارح) هو الترجمة لاسم (آزر) غير أن العقاد في كتابه (إبراهيم أبي الأنبياء) يرى أن كلمة (تارح) نفسها يمكن أن يكون لفظها الأصلي (آزر). وكما دارت معركة حول هذه الآية، فقد دارت معركة حول قول إبراهيم عن الشمس والقمر والنجم هذا رَبِّي هل هذا نظر أو مناظرة كما رأينا؟. والذين ذهبوا إلى أنه مناظرة، ذهبوا إلى ذلك فرارا من أن يثبتوا أن إبراهيم كان على غير التوحيد في بداية أمره، وفي أخبار التلمود من كتب اليهود إشارة إلى هذه الحادثة التي سجّلها القرآن. وأنها حصلت لإبراهيم وهو ابن ثلاث سنين، ومع أن هذه الروايات لا يثبت

فصل في اتجاهات المفسرين حول آزر

بها شئ ولكن آثرنا نقلها ومن ثمّ فقد عقدنا ثلاثة فصول: فصل: في اتجاهات المفسرين في شأن (آزر) وفصل في تحليل العقاد حول كلمة (آزر) وفصل في الأخبار التلمودية. فصل في اتجاهات المفسرين حول آزر: قال الألوسي: آزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه السلام وكان من قرية من سواد الكوفة، وقال الزجاج: ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها مهملة مفتوحة، وحاء مهملة. ويروى بالخاء المعجمة. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام يازر، واسم أمه مثلى. وإلى كون آزر ليس اسما له ذهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما. واختلف الذاهبون إلى ذلك. فمنهم من قال: إن آزر لقب لأبيه عليه السلام. ومنهم من قال: اسم جده. ومنهم من قال: اسم عمه- والعم والجد يسميان أبا مجازا-. ومنهم من قال: هو اسم صنم: وروي ذلك عن ابن عباس. والسدي. ومجاهد رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من قال: هو وصف في لغتهم ومعناه المخطئ. وعن سلمان التيمي قال: بلغني أن معناه الأعوج. وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوارزمية. وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الأعلام الأعجمية. وقيل: الأولى أن يقال: إنه غلب عليه فألحق بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة. أو الوزر بمعنى الإثم. ومنع صرفه حينئذ للوصفية، ووزن الفعل؛ لأنه على وزن أفعل. وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر .... والذي عوّل عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادّعوا أنه ليس في آباء النبي صلّى الله عليه وسلّم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، والمشركون نجس» وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعوّل عليه. والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد ألّفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا، والقول بأن ذلك قول الشيعة- كما ادعاه الإمام الرازي- ناشئ من قلة التتبع، وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام».

فصل في تحليل العقاد في الجمع بين اسم آزر وتارح

أقول: إنّ كثيرين من المفسرين لم يعرّجوا على هذا الموضوع لرؤيتهم أنّ الأمر أوضح من أن يعرّج عليه، ولذلك فقد اكتفوا بتقرير أن آزر هو أبو إبراهيم، والملاحظ أن الألوسي يميل إلى ترجيح القول بأن آزر عمّ وليس أبا. فصل في تحليل العقاد في الجمع بين اسم آزر وتارح: قال «فإن إبراهيم قد انحدر إلى أرض كنعان من أرض أشور، واعتقد شراح الكتب الإسرائيلية في غير موضع أن الآباء الأوّلين ينسبون إلى بلادهم أو أممهم كما يقال: ابن مصر، وابن أوربة، وأبناء الشرق، وأبناء الغرب، وأبناء النيل. فإذا نسب إبراهيم إلى آشور فمن الجائز جدا أن يكون تارح وآزر لفظين مختلفين لاسم واحد، كما انتسب القوم إلى اسم جد قديم كما يقال في النسبة إلى عدنان وقحطان. ونظرة واحدة في اسم آشور ونطقها إلى اليوم في العراق وسورية تقرّب لنا هذا الاحتمال الذي يبدو بعيدا لأول وهلة. فقد كتبت آشور تارة آزور، وتارة أثور، وتارة أتور بالتاء، وتارة أسور بالسين .. ولا يخفى كذلك أن كلمة تارح تنطق تيرح على لسان الكثيرين من الناطقين باللغات السامية، وتنطق تيرا وتيره عند الذين لا يستطيعون النطق بالحاء .. فإذا لاحظنا ذلك كله فليس أقرب من تحويل أتور وأتير إلى تيره وتيرح، وقد وردت في تاريخ يوسيفوس بغير الحاء، ووردت في تاريخ يوسيبوس أثور، وهو مكتوب باليونانية، وقد ورد في التوراة اسمان بمعنى الأميرة أحدهما بالحاء وهو سارح (46 تكوين) والآخر بغير الحاء وهو سار أو ساره .. ومؤدى هذا أن (آزر) هي النطق الصحيح الذي عرف به اسم أسور القديم، وأن تيره وتيرح هي نطق الذين يكتبونها أتيره أو تيرح، وينطقون بكلمة أتور بين الواو والياء. روى صاحب (المزهر) عن الأصمعي أن رجلين «اختلفا في الصقر فقال أحدهما بالصاد وقال الآخر بالسين، فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر، وعلى هذا يتخرج جميع ما ورد من التداخل نحو قلى يقلي وسلى يسلي». وإذا اختلفت الحروف في اللهجة العربية الواحدة هذا الاختلاف فلا محل للجزم

فصل في بعض الأخبار التلمودية عن إبراهيم عليه السلام

بالتخطئة حين تختلف السين والزاي، أو التاء والثاء في لغات تباعدت بينها الآماد .. وأيا كان القول في نسبة إبراهيم إلى آزر بمعنى أسور، فهو أقرب من القول بأن أباه سمي تارحا من الحزن أو من الكسل، وليس عليه دليل من وقائع التاريخ والجغرافية ولا من الاشتقاق. وتفيد هذه الملاحظة فائدة جلى في معرض آخر من معارض سيرة الخليل، فلم يكن تاريخ إبراهيم في الإسلام مستمدا من المصادر اليهودية- كما زعم بعض المتسرعين من رواة الأخبار الدينية غير الإسلامية-، وإلا لما كان أيسر من تسمية أبيه تارحا وتيرحا وأتيرة وما شابه هذه التصحيفات، ولما كان هناك سبب قط لتسميته بآزر على أي توجيه وإنما هذا بيّنة من بيّنات شتى على أن دعوة إبراهيم لم تصل إلى الحجاز من مصادر اليهود .. ». أقول: بل عن طريق القرآن وحي رب العالمين. فصل في بعض الأخبار التلمودية عن إبراهيم عليه السلام: في معرض الكلام عن إبراهيم أبي الأنبياء نقل العقّاد بعض ما ورد من أخبار في كتب اليهود الأخرى- أي غير ما يسمى بالعهد القديم حول إبراهيم عليه السلام-، ومن كلامه في هذا الموضوع: «يطلق اسم خليل الله وحبيب الله في الكتب الإسرائيلية على أنبياء غير إبراهيم، أشهرهم موسى، ويعقوب، وسليمان، ويغلب على الكتب المتأخرة وصفه بالحبيب، ويعتقدون أنه هو المقصود بقول أرميا في الإصحاح الحادي عشر «حبيبي في بيتي». وفي كثير من كتب المدراش والتعليم يقال إن الدنيا خلقت من أجله، وأن أبناء نوح ضلوا عن سواء السبيل، وعبدوا الأصنام، وكان جد إبراهيم يدعى (رو) فسمى ابنه (سيروج) أي ذهبوا بعيدا، وصدق في هذه التسمية، لأن سيروج حين كبر وولد له ابن سماه ناحور، وعلمه السحر والتنجيم وعبادة الأصنام، وكان الشيطان (مسطمبا) يرسل أعوانه لكيد البشر، ويطلقهم على البذور وهي على وجه الأرض كأنهم الغربان لتلتقطها وتفسدها. لهذا سمى ناحور ابنه تيرح أو تارح، ويقول شراح كتاب «اليوبيل» أحد هذه الكتب التعليمية إن الاسم بهذا المعنى غامض ولكنه قد يرجع إلى كلمة آرامية بمعنى المحو والشحوب.

وتزوّج تارح إيمتالي بنت كرناب، فرزقا إبراهيم. وكان مولده مرصودا في الكوكب فاطلع عليه النمروذ، واستشار الملأ من قومه فأشاروا عليه بقتل كل طفل، ذكر، واستحياء البنات، وإغداق العطايا والجوائز على أهليهن، ليفرحوا بمولد البنات. وأحس تارح أن امرأته حامل، فلما أراد أن يتحقق من ذلك صعد الجنين إلى صدر أمّه فخوى بطنها ولم يظهر فيه حمل، وهربت أمه حين جاءها المخاض فأوت إلى كهف ولدته فيه، وتركته ثمة وهي تدعو له، فبقي ثلاث عشرة سنة لا يرى الشمس- على رواية بعض الكتب-، ومكث في الكهف أقل من ذلك على روايات أخرى، وأرسل الله جبريل يرعاه فجعل الطفل يمتص أصابعه فيرضع منها ويكبر قبل الأوان. وخرج من الكهف ليلا وهو في الثالثة فرأى النجوم فقال: هذه هي الأرباب. فلما أشرقت الشمس قال: كلا. بل هذه هي الرب. فلما أفلت وظهر القمر قال: بل هو هذا .. فلما أفل قال: ما هذه بأرباب. إنما الرب المعبود هو الذي يديرها ويسيرها ويبديها ويخفيها. وفي بعض الكتب أن أمه خرجت تتفقده بعد عشرين يوما حيث تركته فوجدت في طريقها صبيا ناميا فسألها:-ماذا جاء بك إلى الصحراء؟ .. فأنبأته بقصتها، وعرّفها بنفسه فدهشت وعجبت لطفل يكبر ولم يمض على مولده شهر واحد .. قال لها: إنها قدرة الله الذي يرى ولا يرى .. ويظن جامعوا الأساطير اليهودية أن وصف الله بهذه الصفة منقول من أصل عربي اطلع عليه يهود الأندلس، ثم اختلفت تفصيلاته عند نقلها إلى العبرية .. قالت أمه وقد ازداد عجبها: أإله غير النمروذ؟ .. قال: نعم يا أماه .. رب السموات والأرض، ورب النمروذ بن كنعان. فاذهبي وبلغي النمروذ ما سمعت. وأنبأت زوجها تارح وكان أميرا من أمراء الملك، فذهب إليه يطلب لقاءه، فأذن له باللقاء فسجد بين يديه، ولم يكن من عادتهم إذا سجد أحدهم بين يدي الملك أن يرفع رأسه بغير أمره، فلما أمره الملك أن ينهض ويتكلم روى له القصة ففزع أعوانه ووزراؤه، ثم ملكوا جأشهم وقالوا له: علام هذا الفزع من صبي لا حول له ولا قوة، ومن أمثاله في المملكة ألوف وألوف. قال لهم النمروذ: وهل رأيتم صبيا في العشرين يتكلم وينطق بمثل هذا البيان؟ .. وخشي الشيطان أن يسبق الإيمان إلى قلب الملك فبرز لهم وأزال ما بهم من الروع،

وحرّض الملك على قتل الصبي، فحشد له جندا من القادة والفرسان، وخرجوا إلى الكهف الذي قيل لهم إن الصبي مختبئ فيه، فإذا بينه وبينهم سحب لا ينفذ النظر إلى ما وراءها، وإذا بهم مجفلون لا يقدرون على الثبات. فلما عادوا إلى النمروذ وشرحوا له ما عاينوه قال لهم: لا مقام لنا بهذه الديار! وخرج من بلده إلى أرض بابل فلحق به إبراهيم على جناح جبريل، ولقي هناك أبويه، ثم بدأنا بالدعوة إلى الله: الإله الأحد الذي لا إله غيره، رب السموات، ورب الأرباب ورب النمروذ. وأنذرهم أن يتركوا عبادة الصنم الذي صنعوه على مثال النمروذ. فإن له فما ولكنه لا ينطق، وعينا ولكنه لا يبصر، وأذنا ولكنه لا يسمع، وقدما ولكنه لا يسعى، ولا ينفع نفسه، ولا يغني عن غيره شيئا. وأسرع أبوه إلى الملك يبلغه أن ابنه إبراهيم طوى مسيرة أربعين يوما في أقل من يوم، ثم لحق به إبراهيم إلى قصر الملك فهز عرشه بيديه وصاح به: «أيها الشقي! إنك تنكر الحق، وتنكر الله الحي الصمد. وتنكر عبده إبراهيم خادم بيته الأمين». ويخاف النمروذ فيأمر تارح أن يعود بابنه إلى موطنه، ثم تتكاثر الروايات في عشرات من كتب المدارس والتفسيرات حول ما حدث بعد ذلك بين إبراهيم وقومه، وبينه وبين الملأ والملك وكهنة الأرباب، مما تغني هذه الأمثلة عن تفصيله واستقصائه، وبعضه كما تقدم معوّل عليه عند اليهود، وبعضه من قبيل ضرب الأمثال بالنوادر والأعاجيب .. وليس من المطلوب أن نتتبع هذه القصص والنوادر لأنها تستوعب ألوف الصفحات، ولكننا نأخذ منها ما ينتظم في أغراض هذا الكتاب، ومنها ما يدل على تفكير واضعيه، أو يفيد عند المقابلة بين المصادر، أو يلاحظ فيه الوضع لطرافته الأدبية والفنية، أو يتمم صورة أخرى ناقصة في خبر من الأخبار. فمما ورد في «مدراش رباه» أن أباه حنق عليه حين كسر الأصنام فخاصمه إلى النمروذ، فسأله النمروذ: إن كنت لا تعبد الصور والمشبهات فلماذا لا تعبد النار؟ قال إبراهيم: أولى من عبادة النار أن أعبد الذي يطفئها. قال النمروذ: فاعبد الماء إذن؟ قال إبراهيم: بل أولى من عبادة الماء أن أعبد السحاب الذي يحمله. قال النمروذ: إذن تعبد السحاب ..

فوائد: حول الآيات (74 - 76) والآية (82)

قال إبراهيم: وأولى بالعبادة من السحاب ريح تبدده وتسير به من فضاء إلى فضاء .. قال النمروذ: فما لك لا تعبد الريح؟ قال إبراهيم: إن الإنسان يحتويها بأنفاسه فهو إذن أحق منها بالعبادة. ومغزى الحوار أن عقل الإنسان قادر بالنظر في خلق الله أن يصل إلى معرفة الخالق، وينكر عبادة الأوثان، فلما أعيا النمروذ أن يخضعه، سجنه ومنع عنه الطعام والماء، ومضى عليه عام في غيابته؛ فأيقن الحارس أنه قد مات، ولكنه ناداه: إبراهيم: أأنت بقيد الحياة؟ فسمع جوابه: نعم أنا بقيد الحياة. فأمر الملك بضرب عنقه، فلم يعمل فيه السيف .. فأوقد له نارا ودفع به إلى أحد أعوانه ليقذف به فيها، فلما قاربها خرج من الأتون لسان من النار والتهم الجلاد ولم يقترب من إبراهيم، فتشاور الملأ عند الملك في أمره، فاتفقوا على إحراقه وإلقائه في النار من منجنيق بعيد، مخافة من ألسنة النار. وضرع الملائكة إلى الله أن ينجيه، فأذن لهم أن يعملوا لنجاته ما يستطيعون، ولكنه أبي أن يعتمد في نجاته على أحد غير الله، وإذا بالجمر من حوله كأنه فراش من الورد والريحان». أقول: إننا لا نستطيع إثبات شئ في أمر النبوات السابقة إلا إذا أقره الوحي الذي جاءنا عن رسولنا عليه الصلاة والسلام، فإذا أقره فعندئذ يكون داخلا في الوحي الذي أمرنا أن نؤمن به، وما عدا ذلك فالأمر يحتمل، ونحن لم ننقل ما نقله العقاد إلا لأن فيه اتجاها جديدا فأحببنا ذكره لنفتح النظر في موضوع اختلفت فيه عبارات المفسرين. فوائد: [حول الآيات (74 - 76) والآية (82)] 1 - اختلف المفسرون في اسم أبي إبراهيم، وهل آزر هو اسم له، أو لقب، أو نسب، أو اسم صنم سمي به لتعلقه به فقال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر، ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان، كالكثير من الناس، أو يكون أحدهما لقبا. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله جيد قوي. 2 - ثبت في صحيح البخاري أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له أبوه: يا بنيّ اليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: أي ربّ ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: يا إبراهيم انظر ما وراءك، فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار.

3 - أخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال أي مجاهد: فرجت له السموات، فنظر إلى ما فيهن، حتى انتهى إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع، فنظر إلى ما فيهن. وزاد غيره: فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي ويدعو عليهم، فقال الله إني أرحم بعبادي منك لعلّهم أن يتوبوا أو يرجعوا. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسيرها قال: فإنه تعالى جلا له الأمر سرّه وعلانيّته، فلم يخف عليه من أعمال الخلائق، فلمّا جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله: إنك لا تستطيع هذا، فردّه كما كان قبل ذلك. قال ابن كثير: فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانا، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهد بفؤاده وتحقّقه وعرفه، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدّلالات القاطعة، كما روى الإمام أحمد والترمذي وصحّحه عن معاذ بن جبل في حديث المنام: «أتاني ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري يا رب، فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلى لي كلّ شئ وعرفت ذلك». وذكر الحديث. 4 - رأينا في قول إبراهيم هذا رَبِّي من يذهب إلى أن هذا المقام مقام نظر وتدبّر، ومن يذهب إلى أنه مقام مناظرة. وقد جادل ابن كثير جدالا عنيفا وطويلا ضد القول الأول مستشهدا بالآيات الكثيرة التي تثبت رفض إبراهيم للأصنام ابتداء وسلامة فطرته، وبالأحاديث التي تثبت أن كل مولود يولد على الفطرة إلى أن قال: فإذا ما كان هذا في حق سائر الخليقة فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام؟! بل هو أولى النّاس بالفطرة السليمة والمستقيمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا شك ولا ريب». ورجّح النسفي: أنّ كلام إبراهيم هذا للمناظرة بدليل قوله تعالى: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أقول: ولا شك أن من لاحظ ابتداء الكلام في قصة إبراهيم وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ولاحظ نهاية الكلام، ثم مجئ قوله تعالى بعد ذلك وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ... يشعر أنّ المقام مقام مناظرة. وإن كان الظاهر غيره والله أعلم. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ يذكر ابن كثير مجموعة أحاديث نذكرها بدون إسنادها مع حذف المكرّر:

- روى البخاري ... عن عبد الله قال: لما نزلت وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال أصحابه: وأيّنا لم يظلم؟ فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: لما نزلت الآية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ إنما هو الشرك». - روى ابن مردويه ... عن عبد الله قال: لمّا نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لي أنت منهم». - روى الإمام أحمد ... عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كأن هذا الراكب إياكم يريد» فانتهى إلينا فسلّم فرددنا عليه فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أين أقبلت؟» قال: من أهلي وولدي وعشيرتي قال: «فأين تريد؟» قال: أريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «فقد أصبته». قال: يا رسول الله علّمني ما الإيمان؟. قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». قال: قد أقررت. قال: ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جرذان فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع على هامته فمات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليّ بالرجل» فوثب إليه عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه، فقالا: يا رسول الله قبض الرجل!، قال: فأعرض عنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما رأيتما إعراضي عن الرجل فإني رأيت ملكين يدسّان في فيه من ثمار الجنة فعلمت أنّه مات جائعا». ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا والله من الذين قال الله- عزّ وجل- فيهم الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الآية، ثم قال: «دونكم أخاكم» فاحتملناه إلى الماء فغسّلناه وكفّنّاه، وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس على شفير القبر فقال: «الحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا». - روى ابن مردويه ... عن عبد الله بن سخبرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطي فشكر، ومنع فصبر، وظلم فاستغفر، وظلم فغفر» وسكت قال: فقالوا: يا رسول الله ما له؟ قال: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.

[سورة الأنعام (6): آية 84]

ومن أجل أن يتحرر الإنسان من كل مظهر من مظاهر الشرك لا بد له من علم وذكر، ولا بد له من معرفة بالله عقلية وقلبية، ومعرفة بشريعته والتزام بها. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. أي: لإبراهيم كُلًّا هَدَيْنا. أي: هديناهم كلهم وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ. أي: وهدينا نوحا من قبل إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ يحتمل أن يكون ومن ذريّة نوح، ويحتمل أن يكون ومن ذريّة إبراهيم. قال النسفي: والأول أظهر لأن يونس ولوطا لم يكونا من ذرية إبراهيم. أقول: الملاحظ أن كتب العهد القديم تعتبر يونس من ذرية إبراهيم قال الألوسي: ومن الناس من ادّعى أن يونس من ذرية إبراهيم وصرّح في جامع الأصول أنه كان من الأسباط زمن شعيا، وأما لوط فهو ابن أخي إبراهيم فإما أن نقول: دخل في الذرية تغليبا، وإما أن نقول دخل في الذرية لأنه من المستجيبين لإبراهيم فأخذ حكم الذرية وهذا كله على القول الثاني داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ. أي: وهدينا من ذريته هؤلاء وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. أي: ومثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين، ويحتمل أن يكون المراد باسم الإشارة هداية الذرية، أو الهداية، فيكون المعنى أن من أحسن نهدي له من ذريته، وذلك من جزائه، أو أن من أحسن يستحق الهداية كالمذكورين وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. أي: كلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لأنّه لا صلاح إلا بهذا وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. أي: بالنّبوة والرّسالة وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ. أي: كذلك فضّلناهم على العالمين وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. أي: إلى الإسلام الذي هو دين الله الواحد في كل العصور ذلِكَ هُدَى اللَّهِ. أي: ما دان به هؤلاء المذكورون هو دين الله وهديه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فضلا ويضل من يشاء عدلا وَلَوْ أَشْرَكُوا. أي: مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات العلى لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. أي: لبطلت أعمالهم أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. أي: جنس الكتاب ممّا ينزله الله من وحي وَالْحُكْمَ. أي: الحكمة أو المراد به فهم الكتاب لما يترتب عليه من قدرة على الحكم السديد وَالنُّبُوَّةَ وهي أعلى مراتب البشر، وأرقى مقامات العبودية لله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ. أي: فإن يكفر بالكتاب والحكم والنبوة هؤلاء من قريش، وغيرهم من سائر أهل الأرض فَقَدْ وَكَّلْنا بِها

[سورة الأنعام (6): آية 90]

قَوْماً كالمهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. أي: لا يجحدون منها شيئا، ولا يردّون منها حرفا واحدا أُولئِكَ. أي: الأنبياء المذكورون، مع من أضيف إليهم من الآباء والذرّيّة والإخوان، وهم الأشباه الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. أي: هم أهل الهدى لا غيرهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. أي: اقتد واتّبع، وإذا كان هذا أمرا للرسول صلّى الله عليه وسلّم فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به. والمعنى: فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم. والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله، وتوحيده والاستسلام له، وفي أصول الدين دون الشرائع فإنّها مختلفة إلّا ما أقرّه الله منها، ممّا ذكره ولم ينصّ على نسخه قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. أي: على الوحي، أو على تبليغ الرّسالة والدّعاء إلى التوحيد. قال الحنفية مستدلين به على أصل مذهبهم: وفيه دليل على أنّ أخذ الأجر على تعليم القرآن ورواية الحديث لا يجوز» وهي قضية خلافية، وقد استقرّت الفتوى في فقه الحنفية على الجواز بسبب تغيّر الحال، والذي يبدو لي أن هناك فارقا بين أخذ الأجر على مجرّد الدعوة وأخذ الأجر على التعليم إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ. أي: ما القرآن إلا عظة للجنّ والإنس. فوائد: 1 - قال ابن كثير: وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية «إبراهيم» أو «نوح» على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال، لأن «عيسى» عليه السلام إنما ينسب إلى «إبراهيم» عليه السلام بأمّه «مريم» عليها السلام فإنّه لا أب له. روى ابن أبي حاتم ... عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلّى الله عليه وسلّم، تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال: أليس تقرأ سورة الأنعام وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ حتى بلغ وَيَحْيى وَعِيسى قال: بلى، قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال: صدقت». فلهذا إذا أوصى الرجل لذريّته، أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي:

[سورة الأنعام (6): آية 91]

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا … بنوهن أبناء الرجال الأجانب وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم أيضا لما ثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيّد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فسماه ابنا، فدلّ على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوّز. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ قالوا: ومعنى توكيلهم بها أنهم وفّقوا للإيمان بها، والقيام بحقوقها، كما يوكّل الرجل بالشئ ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. أقول: ومن الموكّلين من أشار إليهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». 3 - روى البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي (ص) سجدة؟ فقال نعم. ثم تلا وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ... إلى قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. ثم قال: هو منهم» وهذا فهم دقيق لابن عباس فما من موقف كريم من مواقف الرسل إلا وكان رسولنا إذا وجد في مثل ظرفه يفعل مثله، أو أحسن منه، وقد أشرنا إلى مثل هذا في كتابنا «الرسول» من سلسلة الأصول الثلاثة. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. أي: وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده، حين أنكروا بعثة الرسل صلّى الله عليه وسلّم والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أو وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذّبوا رسله إليهم قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ الكتاب هنا التوراة، أنزلها الله نورا ليستضاء بها في كشف المشكلات، وهدى ليهتدى بها في ظلم الشبهات تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً القرطاس الورقة، والمعنى: بعّضتموه وجعلتموه قراطيس مقطّعة ورقات ليتمكّنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء أو: تجعلون جملتها قراطيس أي: قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرّفون منها ما تحرّفون، وتبدّلون وتتأوّلون، وتقولون هذا من عند الله أي في كتابه وما هو من عند الله وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ هناك اتجاهان في فهم هذا النصّ: الاتجاه الذي يجعله في أهل الكتاب كتتمة للخطاب السابق، والاتجاه الذي يجعله خطابا لهذه الأمة، فعلى الأوّل يكون المعني: وعلمتم يا

[سورة الأنعام (6): آية 92]

أهل الكتاب بالكتاب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من أمور دينكم ودنياكم، وعلى الاتجاه الثاني يكون المعنى: ومن أنزل القرآن الذي علّمكم الله فيه من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم قُلِ اللَّهُ. أي: قل الله أنزله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. أي: ثم دعهم في جهلهم وضلالهم وباطلهم الذي يخوضون فيه لاعبين حتى يأتيهم من الله اليقين، فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين وَهذا. أي: القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ على محمد عليه الصلاة والسلام مُبارَكٌ. أي: كثير المنافع والفوائد مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. أي: من الكتب وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى. أي: مكة، وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض، وقبلة أهل التقوى، وأعظمها شأنا، ولأن الناس يؤمّونها وَمَنْ حَوْلَها. أي: من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم، ومن عرب وعجم، والمعنى: وهذا القرآن أنزلناه للبركات، وتصديق ما تقدّم من الكتب، ولإنذار أمّ القرى وما حولها من العالم وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. أي: يصدّقون بالعاقبة ويخافونها يُؤْمِنُونَ بِهِ. أي: بالكتاب فأصل الدّين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن بالحق وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ خصّت الصلاة بالذّكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين، فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها. نقول: نحب أن ننقل بمناسبة هذه الآيات ما قاله صاحب الظلال والألوسي في قوله تعالى واصفا كتابه بالبركة «مبارك» ثمّ ما قاله صاحب الظلال في قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ونقدم النقلين الأوّلين لأنهما كالدليل بالنسبة للنقل الثالث: قال صاحب الظلال في شرحه لكون القرآن مباركا كما وصفه الله في الآية: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. «إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل، وأن ينزل الله عليهم الكتب. وهذا الكتاب الجديد، الذي ينكرون تنزيله، هو كتاب مبارك .. وصدق الله .. فإنه والله مبارك .. مبارك بكل معاني البركة .. إنه مبارك في أصله. باركه الله وهو ينزله من

عنده. ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل .. قلب محمد الطاهر الكريم الكبير .. ومبارك في حجمه ومحتواه. فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر، ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام، في أضعاف حيزه وحجمه! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر؛ وعالج قضية التعبير، بالألفاظ عن المدلولات، ليدرك أكثر مما يدرك الذين يزاولون فنّ القول ولا يعالجون قضايا التعبير، أنّ هذا النّسق القرآني مبارك من هذه الناحية. وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيّز- ولا في أضعاف أضعافه- عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات! وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرّر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له في كلام البشر .. وإنه لمبارك في أثره. وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطابا مباشرا عجيبا لطيف المدخل، ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن، فيفعل ما لا يفعله قول قائل ذلك أن به من الله سلطانا. وليس في قول القائلين من سلطان! ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب .. وما نحن ببالغين لو مضينا شيئا أكثر من شهادة الله له بأنه «مبارك» ففيها فصل الخطاب «وقال الألوسي في تفسير كلمة «مبارك» التي وصف الله بها القرآن: وقوله سبحانه مُبارَكٌ أي: كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة قال الإمام: جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة». وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. وهذا القول الذي كان يقوله مشركوا مكة في جاهليّتهم، يقوله أمثالهم في كل زمان؛ ومنهم الذين يقولونه الآن؛ ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر، وأنها تطوّرت وترقت بتطور البشر وترقيهم .. لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم، كالوثنيات كلها قديما وحديثا، وترتقي بالزعم وتنحطّ بارتقاء أصحابها وانحطاطهم، ولكنها تظل خارج دين الله كله. وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله، وهي ثابتة على أصولها الأولى؛ جاء بها

كل رسول، فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة؛ ثمّ وقع الانحراف عنها والتحريف فيها، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد. وهذا القول الذي ذكرته الآية يقوله- قديما أو حديثا- من لا يقدر الله حق قدره، ومن لا يعرف كرم الله وفضله، ورحمته وعدله .. إنهم يقولون: إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة! كما كان العرب يقولون. أو يقولون: إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعنى بالإنسان «الضئيل» في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض بحيث يرسل له الرسل، وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير! وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث. أو يقولون: إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل .. إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين. كما يقول الماديون الملحدون! وكله جهل بقدر الله- سبحانه- فالله الكريم العظيم العادل الرحيم، العليم الحكيم .. لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده، وهو يعلم سرّه وجهره، وطاقاته وقواه، ونقصه وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره، واقواله وأعماله، وأوضاعه ونظامه، ليرى إن كانت صوابا وصلاحا، أو كانت خطأ وفسادا .. ويعلم- سبحانه- أن العقل الذي أعطاه له، يتعرض لضغوط كثيرة من شهواته ونزواته، ومطامعه ورغباته، فضلا عن أنّه موكّل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله، وليس موكّلا بتصوّر الوجود تصورا مطلقا، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة. فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله، فتنشئ له تصورا سليما للوجود والحياة .. ومن ثم لا يكله إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة بربها الحق، وشوق إليه، ولياذ به في الشدائد .. فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس، بكل ما يملكون من أجهزه التوجيه والتأثير .. إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليردّ عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية من داخل أنفسهم ومن خارجها .. وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه .. فما كان ليخلق البشر ثم يتركهم سدى .. ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولا: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا .. فتقدير الله قدره يقتضي الاعتقاد

فائدة: سبب نزول آية وما قدروا الله حق قدره ...

الأساس فى التفسير، ج 3، ص: 1712 بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق. وأنه أوحى إلى هؤلاء منهج الدعوة إلى الله، وأنزل على بعضهم كتبا تبقى بعدهم في قومهم إلى حين- ككتب موسى وداود وعيسى- أو تبقى إلى آخر الزمان كهذا القرآن. ولما كانت رسالة موسى معروفة بين العرب في الجزيرة العربية، وكان أهل الكتاب معروفين هناك، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي، بتلك الحقيقة: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فائدة: [سبب نزول آية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... ] للمفسرين في سبب نزول قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... اتجاهان: اتجاه أنها نزلت في قريش واختاره ابن جرير، واتجاه أنها نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص رجل من اليهود، أو في مالك بن الصيف من اليهود أيضا والذين يرون أنها في مالك بن الصيف يروون هذه الحادثة: أن جماعة من اليهود منهم مالك بن الصيف كانوا يجادلون النّبي عليه الصلاة السلام فقال النبي عليه الصلاة والسلام له: أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ قال نعم. قال: فأنت الحبر السمين. فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شئ». أقول: من الملاحظ في عصرنا أن بعض رجال الدّين من غير المسلمين إذا فشلوا في إقناع الإنسان بدينهم حاولوا تشكيكه في الأديان كلها، وقد روى لي واحد من النصارى الذين أسلموا أن واحدا من علماء النصارى عندما فشل في إقناعه في العودة إلى النصرانية حاول أن يشككه بأصل الأديان كلها ولكن مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ*. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله كهؤلاء الذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. أي: كهؤلاء الذين يدّعون النبوة أمثال مسيلمة وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ. أي: ومن ادّعى أنه يعارض ما جاء من عند الله بما يفتريه من القول كالنّضر بن الحارث، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، أي لا أحد أظلم من هؤلاء الأنواع الثلاثة وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ من أمثال هؤلاء المذكورين فِي غَمَراتِ

[سورة الأنعام (6): آية 94]

الْمَوْتِ. أي: في شدائده وسكراته وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ. أي: يبسطون أيديهم بالعذاب يقولون: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ. أي: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم وفي هذا تصوير للتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ المراد باليوم وقت الإماتة وما يعذّبون به من شدّة النّزع، والهون الهوان الشدّيد والمعنى: اليوم تهانون غاية الإهانة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ من أنّ له شريكا أو ولدا، أو أنه لا يرسل رسلا ولم ينزل كتبا، أو تزعمون أنّه أنزل عليكم ولم ينزل وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تؤمنون بها ولا تنقادون لها وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى هذا يقال لهم يوم القيامة. ومعنى فرادى منفردين بلا مال ولا معين كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. أي: على الهيئات التي ولدتم عليها في الانفراد وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ. أي: ما ملّكناكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ فلم تحملوا منه نقيرا وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ. أي: في استعبادكم وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والشركاء؛ ظانّين أنّها تنفعهم في معاشهم ومعادهم على حسب نوع المشركين والشركاء لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ. أي: لقد وقع التّقطّع بينكم وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. أي: وضاع وبطل عنكم ما كنتم تزعمون أنّ ما عبدتموه شفيع لكم. فائدة: [نقل كلام ابن كثير في قوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ ... ] بمناسبة قوله تعالى: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ .. ينقل ابن كثير ما يلي: ثبت في الصحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس». وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج (أي ولد الضأن) فيقول الله- عز وجل- أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان. فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدّمت لنفسك؟! فلا يراه قدمّ شيئا، وتلا هذه الآية وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ الآية. رواه ابن أبي حاتم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: هذا المقطع هو نهاية القسم الأول من السورة، وقد أعطانا نموذجا لأهل الإيمان وحجّة على الكفر وأهله. وكيف أن الكفر وأهله لا حجّة لهم، ثم عدّد لنا مجموعة من النماذج الإيمانية الراقية، وكيف أن هذه النماذج الراقية لا ينقطع المقتدون بها، وأن الإيمان مستمر، وأهله مستمرون، وذكر لنا أنّ الذين لا يؤمنون بوحي الله لا يعرفون الله، وذكر ما أعدّ الله للظالمين يوم القيامة، فالمقطع سائر على سنن السورة في سياقها الخاص، وفي تفصيلها لمحورها، وبهذا المقطع ينتهي القسم الأول من سورة الأنعام ليبدأ القسم الثاني. إنّه بعد هذه الموجات والجولات، وبعد الحوار الشامل، يأتي الآن قسم جديد يبدأ بالكلام عن الله بما هو ألصق بمحور السورة، ثم يجول جولات مع الكافرين في مقطعه الأول، ثم يعود السياق لذكر ما هو ألصق بمحور السورة، ثمّ يجول جولات مع الكافرين لتنتهي السورة بذكر ما هو ألصق بمحور السورة، فلا تنتهي السّورة إلا وقد فصّلت في محورها، واستكملت سياقها في إقامة الحجة على الكفر وأهله.

القسم الثاني من السورة وهو الآيات (95 - 165)

القسم الثاني من السورة [وهو الآيات (95 - 165)] يكاد يكون واضحا أن سورة الأنعام تنقسم إلى قسمين. القسم الأول: هو المقاطع الثلاثة السابقة التي بدأت بمقدمة السورة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ والقسم الثاني هو ما تبقّى من السورة وهو مقطعان وبدايته قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ لقد أقام الله- عز وجل- الحجة على الكافرين في القسم الأول. وعرّفنا على ذاته. ويأتي بعد ذلك القسم الثاني وفيه تعريف على الله، وإقامة حجّة على الكافرين ومناقشتهم فيما ذهبوا إليه مما لا يقتضيه الإيمان بالله ومعرفته. والقسم الثاني يتألف من مقطعين واضحي البدايات والنهايات فتحصل أن مجموع مقاطع السورة خمسة تأتي ضمن قسمين كبيرين. بين يدي المقطع الأول من القسم الثاني: يتألف المقطع الأول من القسم الثاني من مقدمة وثلاث فقرات. تتحدث المقدمة عن الله- عز وجل- وعمّا خلق، وعمّا فعل للإنسان، ثمّ تأتي ثلاث فقرات معطوف بعضها على بعض، وكلها مبدوءة بفعل ماض يتحدث عن مواقف للكافرين: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ... وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ .. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً .. فإذا انتهت الفقرة الأخيرة يعود السياق للحديث عمّا خلق الله للإنسان، وبذلك يبدأ المقطع الثاني من القسم الثاني وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ .... ***

المقطع الأول من القسم الثاني من سورة الأنعام ويمتد من الآية (95) إلى نهاية الآية (140) وهذا هو

المقطع الأول من القسم الثاني من سورة الأنعام ويمتد من الآية (95) إلى نهاية الآية (140) وهذا هو: «المقدمة» 6/ 99 - 95 الفقرة الأولى 6/ 101 - 100

6/ 108 - 102 الفقرة الثانية 6/ 111 - 109

6/ 121 - 112

6/ 129 - 122

6/ 135 - 130 الفقرة الثالثة 6/ 137 - 136

كلمة في المقطع

6/ 140 - 138 كلمة في المقطع: إن في هذا المقطع والذي بعده دلالة واضحة على أن محور سورة الأنعام هو الآيتان اللتان ذكرناهما من سورة البقرة فلنلاحظ الصلات: جاء في آيتي المحور قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ. ويبدأ هذا المقطع بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ - كما يرد في الآيات الأولى منه وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. وجاء في آيتي المحور قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. ونجد في الآيات الأولى من المقطع قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ويسير المقطع عارضا مواقف الكافرين، ومقيما الحجة عليهم حتى يصل إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وذلك مرتبط بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فالله خلق لكم وحدّد لكم طريقة الانتفاع ببعض الأشياء. ولقد قلنا من قبل إن قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وقوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ إنما

المعنى العام

هو امتداد للكلام عن خلق الأشياء لصالح الإنسان. وههنا يذكر الله- عز وجل- شرط حلّ الذبائح، ثم يسير المقطع مقيما الحجّة على الكافرين حتى ينتهي بذكر ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم، مما يتناقض مع إباحة الله الأشياء للإنسان وارتباط ذلك بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً واضح المعالم، وسنرى أن المقطع الثاني من القسم استمرار للكلام عما خلق الله من أجلنا وعن موضوع التحريم. ولنبدأ عرض المعاني العامّة للمقطع: المعنى العام: يبتدئ المقطع بالإخبار عن الله أنه فالق الحب والنوى، أي أنه سبحانه الذي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها، من الحبوب والثّمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، ويخرج النبات الحي من الحب والنّوى اللذين هما كالجماد الميت، ويخرج الولد الصالح من الفاجر، والفاجر من الصالح، والحي من الأرض الميتة، والميت مما هو حي. هذا كله فعل الله، وفاعله هو الله وحده، فكيف يصرف الناس عن الحق ويعدلون عنه إلى الباطل؛ فيعبدون معه غيره، أو يكفرون به، ومن هذه البداية في هذا المقطع ندرك كيف أن المقطع يفصّل في محور السورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... وسنرى ذلك واضحا في كل ما يأتي. - ثم أخبر تعالى أنه خالق الضياء والظلام، فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرّة الصباح، فيضئ الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجئ النهار بضيائه وإشراقه، وذلك من آثار قدرته- عز وجل- على خلق الأشياء المتضادّة المختلفة، الدّالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه. وكما أنه فلق الإصباح، فقد جعل الليل ساجيا مظلما لتسكن فيه الأشياء، وجعل الشمس والقمر بحساب مقنّن مقدّر، لا يتغيّر ولا يضطرب، بل لكل منها منازل يسلكها ضمن النظام الدقيق للمجوعة الشمسية مع الأرض، مما يترتب عليه ما يترتّب، والجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شئ فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. - وكما فعل هذا كله فقد جعل النّجوم ليهتدي بها الإنسان في ظلمات البرّ والبحر،

فلولاها لضاع الإنسان ولم يستطع أن يسلك طريقا بحريا، ولا أن يهتدي في الظلام إلى طريق- وهو موضوع سنراه- فما أوضح آياته- جل شأنه- في الكون، وكم فصّل آياته في كتابه، ولكن العالم وحده هو الذي يعرفها، ويعقلها ويؤمن بالله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل القرآن. - وكما فعل ما مر كله فهو الذي أنشأنا من نفس واحدة- هي نفس آدم- ثمّ جعلنا نستمرّ بالتزاوج والتوالد عن طريق الأرحام والأصلاب، ولا يدرك عظمة هذه الآية- آية نشأتنا الأولى واستمرارنا عن طريق التزاوج والحمل- إلا من كان عنده فقه قلب يعي به كلام الله ومعناه. - وكما فعل الله- عزّ وجل- ما مر فهو الذي أنزل من السماء ماء بقدر، مباركا ورزقا للعباد وإحياء وغياثا للخلائق؛ رحمة من الله بخلقه، فأخرج بهذا الماء كل أصناف النبات ومنه الزرع والشّجر الأخضر، ومنه الذي يخلق الله فيه الحب الذي يركب بعضه بعضا كالسنابل، ومنه النخل الدانية العذوق القريبة المتناول، ويخرج بهذا الماء جنات من أعناب، ويخرج به الزيتون والرمّان المتشابه في الورق والشّكل والمتخالف في الثّمار شكلا وطعما وطبعا، كل ذلك يستأهل النظر، ولذلك أمر الله بالنظر إلى ثمره حين نضجه؛ ليتفكر الإنسان في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود، فبعد أن كان حطبا صار رطبا، ولقد خلق سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح الكثير إن في هذا كله لآيات ودلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء ورحمته لقوم يصدّقون به، ويتّبعون رسله، وبعد هذه الآيات التي دلّلت على الله، وسفّهت الكافرين به، وأقامت الحجة على أهل الكفر بظاهرة العناية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً والتي رأينا بعضا من تفصيلاتها هنا تأتي الفقرة الأولى من المقطع فنجدنا أمام عرض لأنواع من الكفر ومناقشة لأهله: لقد ذكر الله عزّ وجل أنّ المشركين أشركوا في عبادته الجنّ؛ فجعلوهم شركاء له في العبادة- تعالى الله عن شركهم وكفرهم- فإن قيل من يعبد الجن؟ فالجواب أنّ كل من أطاع الشيطان- وما أكثرهم- فقد عبد الجن. لقد عبد الإنسان الشيطان وترك عبادة الله وهو الذي خلقه! وكما عبد الجن فقد افترى على الله كذبا بأن جعل له بنين وبنات جهلا وسفها وضلالا، تقدّس الله وتنزّه وتعاظم عمّا يصفه هؤلاء الجهلة الضالّون من الأولاد والأنداد والنّظراء والشّركاء، وكيف لا ينزّه عن هذا وهو المنفرد

بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا نظير! وهو مبدع السموات والأرض، وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق! ومن كان هذا شأنه فكيف يكون له ولد! والولد إنما يتولد بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شئ من خلقه؛ لأنّه خالق كل شئ فلا صاحبة له، وإذ لا صاحبة له فلا ولد له، وكيف يكون له صاحبة أو ولد وهو الذي خلق كل شئ! وهو الذي بكلّ شئ عليم، ومن كان كذلك فإنّه لا نظير له - هذا الإله الذي خلق السموات والأرض وأبدعهما، وخلق كل شئ والذي هو بكل شئ عليم، هو ربنا، لا الجنّ ولا غيرهم، فهو الذي لا إله إلا هو وهو خالق كل شئ، وهو الذي يستحقّ العبادة وحده؛ فاعبدوه وحده؛ إذ هو الحفيظ والرقيب والمدبّر لكل من سواه، يرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار. - هذا الإله العظيم لا تدركه الأبصار في الدنيا، ولا تحيط به لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلا أحد يستطيع أن يحيط بكنه عظمته وجلاله على ما هو عليه، أما هو فإنه يدرك الأبصار، يراها ويحيط بها علما على ما هي عليه؛ لأنه خلقها، إذ هو اللطيف الذي يعلم دقائق الأمور ومشكلاتها، العليم بظواهر الأشياء وخفياتها. وبعد أن قرّر المقطع شرك من أشرك وردّ عليهم الردّ البليغ العجيب المدهش الذي فيه وصف الذّات الإلهية مما يدّل على أنّ القرآن من عند الله، إذ من يستطيع أن يصف الله هذا الوصف المدهش إلا هو- جل جلاله-. - ثمّ إنه بعد هذا الردّ المدهش والبلاغ العجيب يذكر الله- عزّ وجل- أنّه بإنزاله هذا القرآن قد أعطي البشر البصائر كلها أي: البينات والحجج التي يرى بها الإنسان الأشياء على ما هي عليه، فمن أبصر بها وعلى ضوئها فمصلحة ذلك عائدة عليه، ومن عمي عنها ولم ير بها فوبال ذلك عائد عليه، ومحمّد عليه الصلاة والسلام مبلّغ وما هو بحافظ ولا رقيب. ثمّ بيّن تعالى أنّه بمثل هذا البيان الرائع، وهذا التقرير العظيم، وهذه الحجة الواضحة، يبيّن الآيات، ويوضّحها ويفسّرها، ويكرّرها، فأما الكافرون والمشركون والمنافقون، فإنّهم بدلا من أن يؤمنوا يتّهمون محمدا عليه الصلاة

والسلام بأنّ هذا الكتاب أثر عن دراسته ومدراسته، لا أثر عن نبوته والوحي إليه، وأما العالمون فيؤمنون، ويتضح لهم بهذا الإيمان الحقّ كله في كل شئ نتيجة هذا التصريف للآيات بمثل هذا البيان والكمال. وبعد هذا البيان يأتي الآن أمر ونهي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأمته من بعده. أما الأمر فهو: - أن عليه صلّى الله عليه وسلّم أن يتّبع ما أنزل الله عليه بالاقتداء به واقتفاء أثره والعمل به، وأن عليه أن يعرض عن المشركين بالعفو والصفح، واحتمال الأذى حتى يفتح الله ثم بيّن الله تعالى: - أن لله حكمة في إضلال الضالّين، فإنّه لو شاء لهدى الناس جميعا، ولو شاء لجمعهم على الهدى، فله المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإذا كان الأمر كذلك فالله وحده هو الحفيظ على أقوالهم وأفعالهم، وهو الوكيل على أمورهم وأرزاقهم، وليس محمّد صلّى الله عليه وسلّم بوكيل ولا بحفيظ بل هو مبلّغ فقط. - ثمّ نهى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتّب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين، وهو لا إله إلا هو، يسبونه ظلما وجهلا، فمن أجل ألا يقع هذا فعلينا ألا نواجه المشركين بسبّ آلهتهم، ثمّ بيّن تعالى أنه كما زيّن لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زيّن لكل أمة ضالّة من الأمم الخالية عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره، وإليه المعاد، وسوف يحاسب الجميع على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من المقطع. وتأتي الآن فقرة أخرى على نفس السنن. تلك مبدوءة ب: (وجعلوا) وهذه مبدوءة ب: (وأقسموا) - يخبر الله تعالى عن المشركين والكافرين أنهم يحلفون الأيمان المؤكّدة لئن جاءتهم معجزة خارقة ليصدقنّها وهذا يفيد أنهّم يدّعون أنّ الآيات ليست كافية للإيمان، أو أنّها غير موجودة، وهذا كذب وافتراء وتعنّت منهم ولذلك فقد أمر الله رسوله أن يعلن

أن أمر الآيات إلى الله، وأن الآيات عنده كثيرة، وما أنزل فيه كفاية ولكنّهم متعنّتون، ولذلك خاطب المؤمنين مبيّنا لهم أن الكافرين إذا جاءتهم الآيات التي يقترحونها فإنّهم لا يؤمنون- وذلك لأنّ سنّة الله أنّ من لم يؤمن أوّل مرّة بما أنزله الله مع قيام الحجة عليه فيه فإنّه لا يؤمن أبدا لأن الله يقلّب قلوب هؤلاء وأفئدتهم؛ جزاء لهم على عدم الإيمان، ولذلك فإنهم لو جاءتهم الآيات المقترحة فإنهم يرفضونها ويبقون في كفرهم وضلالهم يلعبون ويتردّدون ويتحيّرون، ثمّ بيّن تعالى أنّه لو أجاب سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها، فنزّل عليهم الملائكة تخبرهم بالرّسالة من الله بتصديق الرسل، ولو بعث لهم الموتى فكلّموهم وأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، ولو أنّه حشر عليهم الأمم فعرضت عليهم أمة بعد أمة فأخبرهم الجميع بصدق الرسل فيما جاءوهم به، ولو حدث هذا كله فإنّه ما كان لهم أن يؤمنوا إلا إذا شاء الله هدايتهم، وهو إن هدى يهدي فضلا، وإن أضل يضل عدلا. يهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الضلال، وذلك من آثار علمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته، ولكنّ أكثر الخلق جاهلون بالله وبسننه، وفي ذلك أمر للمؤمنين ألا يكونوا من الجاهلين وإذ تقررت هذه المعاني يخبر الله- عزّ وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بسنة من سننه هي أنّه: - كما جعل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أعداء يخالفونه ويعاندونه فقد جعل لكل نبي من قبله أيضا أعداء من شياطين الإنس والجن يلقي بعض هؤلاء إلى الآخر القول المزيّن المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه- من الجهلة- بأمره، وذلك كله بقدر الله وقضائه ومشيئته. فدع يا محمد ومن اتبعك هذا القول الكاذب المزخرف الغرور وأهله. فإن الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين تميل قلوبهم وعقولهم وأسماعهم إليه، فليرض هؤلاء هذا الزّخرف، وليتبنّوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون، وليعملوا ما هم عاملون، فلهم طريق ولك ولأتباعك طريق. ومن هذا العرض عرفنا أن العلّة التي منها يبدأ الزّيغ هي الكفر بالآخرة، فهي التي يترتّب عليها كل شر، ومن الآيات عرفنا أنّ من يضل فلاستحقاقه الضلال بكفره وذنبه، وإذا استقرت هذه المعاني فإنّ الله يأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يردّ على كل ما مرّ من كلام الكافرين واتجاهاتهم بالإعلان: - أنه لا يقبل غير الله حكما، وقد حكم الله له، وعليهم بكتابه البيّن المفصّل الكامل الحجّة، هذا الكتاب الذي يعلم المنصفون من أهل الكتاب أنّه منزّل من الله

بالحق؛ وذلك ممّا عندهم من البشارات في كتبهم، ثمّ ينهى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون من الشاكّين، ولم يشكّ عليه الصلاة والسلام وإنما هو الرب يأمر وينهى، والأمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أمر لأمّته. - ثمّ بيّن- عزّ وجل- أنه قد جعل كتابه كاملا وتاما، صادقا فيما قال وفيما أخبر، عدلا فيما حكم وفيما أمر، فكلّ ما أخبر به فحقّ لا مرية فيه ولا شكّ، وكلّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكلّ ما نهى عنه فهو الباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، وليس لأحد أن يعقّب على حكمه، أو ينقضه، أو يبدّله، أو يغيّره، وأنّ الله هو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، الذي يجازي كل عامل بعمله. وبعد أن أمر الله- عزّ وجل- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن أنه لا يرضى غير الله حكما بيّن له في هذا المقام أنّ أكثر أهل الأرض على ضلال، وأنّهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم، وإنّما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل، وأنّ الله وحده هو الأعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، ولذلك فلا تبتغ غيره حكما لأنّ أكثرية أهل الأرض إن اتّبعتها تضلّك، فما أعظم هذا البيان في هذا المقام إذ كثير من الناس تغره الأكثرية وتضلّه، أما المسلم فالله هو وحده مصدر الهداية والإضلال عنده، ومنه تتلقى الهداية. ولو خالف الخلق كلهم أمره فإنهم ضالون. وفي هذا السياق- سياق أن الحكم لله وحده وأنّه لا طاعة للخلق في معصية الله- يقرّر الله- عزّ وجل- إباحة الذبائح إن ذكر عليها اسم الله، وحرمتها إذا لم يذكر عليها اسم الله، مع حوار مع المشركين في هذا المقام، وكل ذلك منسجم مع سياق ما قبله وما بعده. فلنر المعاني ثمّ لنر الارتباط: يأمر الله- عزّ وجلّ- عباده المؤمنين- أمر إباحة- أن يأكلوا من الذّبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه أنّه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه مما يستبيحه الكفار قديما وحديثا من أكل أنواع الميتات، أو ما له حكمها، ثمّ ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه، مبيّنا لهم أنّه لا داعي إلى التحرّج في ذلك بعد أن بين لنا ما حرّم علينا، ثمّ بيّن تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم: الميتات، وما ذكر عليه غير

ولنعد إلى السياق

اسم الله تعالى، وإضلالهم البشر بغير علم، وهدّدهم بأنّه هو الأعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم؛ وسيجازيهم عليه. - ثمّ أمر الله تعالى عباده أن يتركوا معصيته في السرّ والعلانية، قليلها وكثيرها، مبيّنا أن الذين يعملون الآثام- سواء كانت ظاهرة أو خفية- سيجزيهم على أعمالهم، وفي ذكر هذه الآية في هذا السياق تهديد لمن يضلّون بأهوائهم، ولمن يخالفون أمر الله في أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. - ثمّ نهى الله- عزّ وجل- نهيا جازما عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح، وعن أكل ما لم يذبح أصلا من أنواع الميتات، مبيّنا أنّ ذلك فسوق عن أمر الله، ومخالفة لأمره، وإذ يكثر جدال الكافرين في هذا المقام؛ لأنهم لا يفرقون بين ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر، ولا يفرّقون بين الميتة والذبيحة، متناسين أنّه لا فارق بين الإنسان وبين الحيوان من حيث إن لكل روحا، وأنّ الله الذي أباح للإنسان أن يزهق روح الحيوان أباح ذلك له بشرط ذكر اسمه عليه، فإذ يكثر جدال الكافرين في هذا المقام بيّن الله- عزّ وجل- أنّ الشياطين يوحون إلى من يطيعونهم بمختلف الحجج من أجل أن يجادلوا المسلمين، ثمّ هدّد الله المسلمين أنّهم إن أطاعوهم في ما يريدونهم عليه فإنهم مشركون حين يعدلون عن أمر الله إلى قول غيره، ويقدمونه عليه. ولو أنّنا تأمّلنا قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإننا نجد الصلة بين مجموعة الآيات التي بين أيدينا وبين التي قبلها. كما نرى أن هذه المجموعة نموذج ومثال على مجموعة أمور لها علاقة في السياق الجزئي. فهي نموذج على وساوس الشيطان وأوليائه فيما يخالف شرع الله والرضا بحكمه، وهي نموذج على ما تقتضيه العبودية لله الذي خلق لنا ما في الأرض جميعا، فاقتضى ذلك أن نلتزم أمره في الانتفاع بما خلق بالطريق الذي حدده. ولنعد إلى السياق: فبعد هذه الجولة في موضوع الهداية والضلال وبعض متعلقاتهما يضرب الله مثلا للمؤمن الذي كان ميتا- اي في الضلالة هالكا- فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان، وهداه له، ووفّقه لاتّباع رسله، وجعل له نورا يمشي به في النّاس فيهتدي كيف يسلك وكيف

يتصرف بين الناس على ضوء هذا القرآن، وللكافر الغارق في الظلمات والجهالات والأهواء والضّلالات المتفرقة لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص ممّا هو فيه هل يستوي هذا مع هذا؟ لا يستويان، ومع ذلك فإن الكافر يستحسن ما هو عليه، لأن الله زيّن له ما هو فيه قدرا من الله، وحكمة بالغة منه لا إله إلا هو ولا شريك له، ومن خلال العرض نعرف حكمة أخرى من حكم الإضلال: فقد بيّن الله- عزّ وجل- بعد أن ضرب المثل السابق للمهتدي والضال أنه كما جعل في مكة أكابر من المجرمين، ودعاة إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله، وإلى مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعداوته كذلك جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليدعوا إلى الضلالة بزخرف من القول والفعل، وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، وهم لا يشعرون بذلك، وإذن فإجرامهم هو سبب ضلالهم، هؤلاء المجرمون الكبار إذا جاءتهم آية وبرهان وحجّة قاطعة رفضوا الإيمان حتى تأتيهم الملائكة من الله بالرّسالة كما تأتي إلى الرسل، وإذا فما أقسموا عليه في أول الفقرة من كونهم إذا جاءتهم آية يؤمنون بها محض كذب؛ فإنّ الدوافع الأصلية لكفرهم هو حسدهم أن يبعث الله رسولا غيرهم، وهنا يبيّن الله أنّه هو الأعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه، ثمّ أوعد الله هؤلاء المجرمين بأنه ستصيبهم يوم القيامة ذلّة دائمة، لقد استكبروا في الدنيا فأعقبهم ذلك ذلا يوم القيامة، ومع الذلة عذاب أليم شديد بسبب مكرهم، ولما كان المكر في الغالب إنما يكون خفيا: وهو التلطف في التّحيّل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة؛ جزاء وفاقا، وبعد إذ تقرّر أنّ الهدى من الله، والضلال من الله، وأن الضلال له أسباب، ذكر الله- عزّ وجل- علامة من يريد هدايته، ومن يريد ضلاله، فأما علامة من يريد هدايته فهو شرح صدره للإسلام بأن ييسّره للإسلام، وينشّطه ويسهّله لذلك، وأمّا علامة من يريد إضلاله فهو جعل صدره ضيقا بلا إله إلا الله حتى لا يستطيع أن تدخل قلبه؛ حتى إنّه من شدة ضيقه بها ليصل إلى درجة الاختناق كشأن الذي يصعّد في السماء، فإنه يضيق صدره لدرجة الاختناق ثم يختنق، وكما جعل الله صدر من أراد إضلاله ضيّقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه فيغويه ويصدّه عن سبيل الله، ولما ذكر علامة من يريد إضلاله، بيّن أنّ هذا القرآن وهذا الدّين هو صراط الله المستقيم، وقد وضّح الله فيه الآيات وبيّنها وفسّرها لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء قد أعدّ الله لهم دار السلام وهي الجنة يوم القيامة، وإنّما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام إشعارا بأن سلوكهم الصراط المستقيم حقق لهم السلامة، فكما سلموا من آفات

الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام، والله حافظهم وناصرهم ومؤيّدهم جزاء على أعمالهم الصالحة، ويجمع لهم مع الولاية الجنّة بمنّه وكرمه، وبعد إذ وصل السياق إلى هذا المعنى فإنّه يحدثنا عن حشر شياطين الجنّ والإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، الذين ذكروا في أوائل هذه الفقرة: فيذكر يوم يحشر الجنّ وأولياؤهم من الإنس، الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، يومذاك يقال للجنّ إنّكم قد استكثرتم من إغواء الإنس وإضلالهم، ويعترف أولياؤهم من الإنس في هذا المقام بأنّ كلا من الجن والإنس قد استمتع بعضهم بالآخر حتى بلغوا الموت، فيكون الجواب أن النار مأواهم ومنزلهم جميعا أبدا بمشيئة الله وحكمه وعلمه، ثمّ بيّن الله سنته في خلقه بأنّه إنما يولي النّاس بعضهم بعضا بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، فليس الإيمان بالتمنيّ، وفي ذلك تعليل لتولّي هؤلاء الكافرين لبعضهم بعضا، أن ذلك ما كان لولا كسبهم السيئ، والكسب السيئ هو أداة الوصول إلى النّار، ثمّ يذكر الله- عزّ وجل- شيئا آخر مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة، حيث يسألهم- وهو أعلم-: هل بلّغتهم الرسل رسالاته؟ وهل قصّوا عليهم آياته؟ وهل أنذروهم لقاء اليوم الآخر؟ فيقرّون بأنّ هذا كله قد كان، ولكنّهم اغترّوا بالحياة الدنيا، وفرّطوا بها، وشهدوا على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين، فالحجّة إذن قائمة عليهم في الدنيا والآخرة، لأنّ سنة الله أنه لا يعاجل النّاس بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولا ينبههم ويقيم حجج الله عليهم، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن الله ليأخذهم على غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وأنّ سنته أنّ لكل عامل في طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلّغه إياها ويجزيه بسببها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وما الله بغافل عن عمل عامل، ويحصي عليه وله أعماله ويثبتها عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه، ثم يختم الله- عزّ وجل- هذه الفقرة الطويلة بتقرير أنه الغني عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وهو مع ذلك رحيم بخلقه، وأنه إن شاء أن يذهبنا إن خالفنا أمره ويستخلف بدلنا قوما آخرين يعملون بطاعته، فإنّه قادر على ذلك، سهل عليه، يسير لديه، كما أذهب القرون الأولى، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين، وعلى كل حال فإن أمر القيامة آت، وما أحد بمعجز الله بل هو القادر على الإعادة وإن صرنا ترابا ورفاتا، وفي الختام يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن

يقول لقومه استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنّون أنّكم على هدى، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي، وسوف تعلمون لمن تكون عاقبة الدار، أتكون لي أو لكم، مع العلم أن الظالمين لا يفلحون وأنتم كذلك. وفي هذا الإعلان تهديد شديد، ووعيد لهم، وقد أنجز الله وعده لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا وهو منجز له وعده في الآخرة، وبهذا تنتهي الفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الثاني. في مقدمة المقطع كان الكلام عن الله وقدرته وعنايته بخلقه. وفي الفقرة الأولى قصّ الله علينا كيف أنه مع كل هذا فقد جعلوا له شركاء. وفي الفقرة الثانية بيّن لنا أنّ الكافرين أقسموا إن جاءتهم آية ليؤمننّ بها. وتأتي الآن الفقرة الثالثة لتقصّ علينا من أفعال الكافرين وهي مبدوءة ب وَجَعَلُوا .... الفقرة الأولى مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ .... والفقرة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ .... والفقرة الثالثة وهي الأخيرة في هذا المقطع مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً .... لقد بيّن الله- عزّ وجل- في الفقرة الأخيرة كيف أنّ المشركين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا، وجعلوا لله شريكا من خلقه وهو خالق كل شئ. فجعلوا لله مما خلق وبرأ من الزروع والثمار والأنعام جزءا وقسما، وجعلوا لشركائهم قسما وحظا فما كان من حرث أو ثمرة أو شئ من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه- وما كان لله- في زعمهم- لم يحصوه ولم يحفظوه بل يجعلوه للوثن، فحقوق شركائهم محفوظة- وحق الله الذي ابتدعوه له ولم يشرعه لهم ضائع مع أنّهم هم الذين اخترعوه، فما أسوأ أحكامهم، وما أجهلهم بخالقهم وحقوقه! لم يعرفوا أنّ الله خالق كل شئ وهو مالكه، ولم يتصرفوا بملكه على الوجه الذي يرضيه، ولم يجعلوا له ما شرعه وأشركوا معه غيره، ثم حفظوا حق غيره وضيّعوا ما أعطوه من حقوق ابتدعوها، فأي جهل بالله أكبر، وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا على طريقتهم التي رأيناها، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، وزينوا لهم وأد البنات خشية العار؛ ليهلكوهم بذلك؛ وليخلطوا عليهم دين الله الذي هو دين الفطرة،

كلمة في السياق

وكل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته، وله الحكمة التامة في ذلك كله؛ إذ الأمر أمره، والقهر قهره، ولا يكون شئ في ملكه إلا بمشيئته، وإذ كان الأمر كذلك فدع يا محمد، ثم يا مسلم هؤلاء واجتنبهم وما هم عليه، واحمد الله على الهدى، فسيحكم الله بينك وبينهم، وكما أخطئوا في ما مرّ أخطئوا كذلك بأن شرعوا لأنفسهم فجعلوا أنعاما وحرثا محرّمة إلا على من شاءوا، وجعلوا أنعاما محرّمة على الرّكوب، وجعلوا أنعاما لا يذكر عليها اسم الله لا إن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا أن حملوا، ولا إن نتجوا، وكل ذلك افتراء على الله وكذب عليه منهم في إسنادهم ذلك إلى شرع الله ودينه، فإنّه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم، ولذلك هدّدهم بأنّه سيجزيهم بما كانوا يفترون عليه ويسندونه إليه فيعذبهم. وكما أخطئوا في هذا كله فقد أخطئوا في تشريعهم لأنفسهم تحريم اللبن على الإناث وتحليله للذكور، وجعل ولد الشاة إن كان ذكرا للذكور فقط، يذبحونه ويأكلونه، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء، وكل ذلك من عند أنفسهم، وسيجزيهم الله على هذا الكذب، ومجازاته لهم هي عين الحكمة وهو العليم بأعمال عباده، من خير وشر، وسيجزيهم عليها أتم الجزاء، وبهذا تمّ المقطع معرّفا على الله، مبيّنا عقائد وأفعالا للكافرين ورادّا عليها. كلمة في السياق: يتألف هذا المقطع من مقدمة وثلاث فقرات، كل فقرة مبدوءة بفعل ماض يتكلم عن الكافرين: وَجَعَلُوا، وَأَقْسَمُوا، وَجَعَلُوا. المقدمة تحدثت عما فعله الله لهذا الإنسان، والفقرة الأولى تحدثت عن اتخاذ الإنسان شريكا لله، والفقرة الثانية تحدثت عن دعوى الكافرين أنهم يؤمنون لو جاءتهم آية، والفقرة الثالثة تحدثت عن بعض ما شرعه الكافرون لأنفسهم في اثنتين من أكبر نعم الله على الإنسان: الأنعام والحرث. فالمقطع في سياقه شديد الصلة ببعضه، وهو شديد الصلة كذلك بمحوره من سورة البقرة- كما رأينا وكما سنرى- شديد الصلة فيما قبله وما بعده من سورة الأنعام. المعنى الحرفي: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى الفلق: الشّقّ، والمعنى: فلق الحب عن السنبلة، والنواة عن النخلة. فهو فالق الحب والنوى بالنّبات والشجر يُخْرِجُ الْحَيَ

[سورة الأنعام (6): آية 96]

مِنَ الْمَيِّتِ. أي: يخرج النبات الغض النامي من الأرض الميتة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ كما هو مشاهد، ويمكن أن نفهم النصّ على أنّه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر. وهذا لفت نظر إلى قدرته على بعثهم؛ فالذي خلق هذه الأشياء قادر على بعثهم ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. أي: ذلكم المحيي المميت القادر هو الذي تحقّ له الربوبيّة فكيف تصرفون عنه وعن الإيمان به وعن توليه بعد وضوح الأمر فالِقُ الْإِصْباحِ. أي: شاقّ عمود الصبح عن سواد الليل، أو خالق نور النهار وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً. أي: مسكونا فيه، يسكن فيه الخلق عن كدّ المعيشة إلى نوم الغفلة، ويسكن فيه أحبابه عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. أي: وجعل الشمس والقمر علمي حسبان أي علمين على نوع من الحساب؛ لأن حساب الأوقات يعلم بحركتهما ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم تقدير العزيز الذي قهرهما وسخّرهما، العليم بتدبيرهما وتسييرهما وبكل شئ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ. أي: خلقها لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. أي: في ظلمات الليل في البر والبحر، أو في مشتبهات طرق البر والبحر قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. أي: قد بيّنّا الآيات الدالّة على التوحيد لقوم يعلمون وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. أي: نفس آدم فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. أي: فلكم مستقر في الرّحم، ومستودع في ظهور الآباء، أو مستقر فوق الأرض، ومستودع تحتها، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الفقه يفيد تدقيق النظر، فهو معنى أوسع من العلم، وإنما ذكر العلم في الآية السابقة، والفقه هنا لأن الدلالة هناك أظهر، وهنا أدقّ، لأنّ إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدقّ، فكان ذكر الفقه هنا والعلم هناك أوفق وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قال النسفي: من السحاب مطرا فَأَخْرَجْنا بِهِ. أي: بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ. أي: أنبت كل صنف من أصناف النبات، فالسبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة فَأَخْرَجْنا مِنْهُ. أي: من النبات خَضِراً. أي: شيئا أخضر وهو ما تشعّب من أصل النّبات الخارج من الحبّة نُخْرِجُ مِنْهُ. أي: من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل الذي تراكب حبّه وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ القنوان جمع قنو: وهو العذق، والدانية القريبة من المجتني إما لثقل حملها، أو لقصر ساقها، وذكره ذكر لما يقابله، وهو غير الدانية، والمعنى: وقنوان دانية حاصلة من النّخل من طلعها

وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ. أي: وأخرجنا كذلك بالمطر جنات من أعناب وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ. أي: وأخرجنا بالمطر الزيتون والرّمّان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. أي: متشابها وغير متشابه يعني أنّ الزّيتون والرّمّان بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللّون والطّعم، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ. أي: إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفا لا ينتفع به وَيَنْعِهِ. أي: ونضجه. ومعنى الأمر: انظروا إليه ساعة خروجه، وإلى حال نضجه نظر اعتبار واستدلال على قدرة مدبّرة ومقدّرة وناقلة من حال إلى حال إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي: لآيات دالة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المفترقة من أصل واحد، لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها، ويرجّح ما تقتضيه حكمته، ولا يعوقه عن فعله ندّ يعارضه، أو ضد يعانده، وبهذا تنتهي مقدمة المقطع وتعليقا على هذه المقدمة يقول صاحب الظلال: «وبعد، فنحن- في هذا الدرس- أمام كتاب الكون المفتوح، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة، فلا يقفون أمام خوارقه وآياته، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه .. وها هو ذا النّسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود، كأنما نهبط إليه اللحظة، فيقفنا أمام معالمه العجيبة، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين! ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار .. خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموت الهامد .. لا ندري كيف انبثقت، ولا ندري من أين جاءت- إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله. لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها! وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة .. الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة .. وهي خارقة لا يعدلها شئ مما يطلبونه من الخوارق .. وهي تتم في كل يوم وليلة بل تتم في كل ثانية ولحظة .. وها هو ذا يقف بنا أمام الحياة البشرية .. من نفس واحدة .. وأمام تكاثرها بتلك الطريقة وها هو ذا يقف أمام نشأة الحياة في النبات .. وأمام مشاهد الأمطار الهائلة والزروع

فوائد: حول الآيتين (96، 97)

النامية، والثمار اليانعة. وهي حشد من الحيوانات والمشاهد، ومجال للتأمل والزيادة. لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتّح. وها هو ذا الوجود كله، جديدا كأنما نراه أول مرة. حيا يعاطفنا ونعاطفه، متحركا تدب الحركة في أوصاله، عجيبا يشده الحواس والمشاعر. ناطقا بذاته عن خالقه. دالا بآياته على تفرده وقدرته .. وعندئذ يبدو الشرك بالله- والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض- غريبا غريبا على فطرة هذا الوجود وطبيعته. وشأنها في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله. وتسقط حجة الشرك والمشركين في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجال الوجود العجيب». فوائد: [حول الآيتين (96، 97)] 1 - قال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره: إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه. رواه ابن أبي حاتم. 2 - قال ابن كثير: قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أنّ الله جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر. 3 - إن هداية الإنسان بالنجوم لا يفقهها إلا عالم، فلولا النجوم لما أمكن للإنسان أن يهتدي في ظلمات البر والبحر، ويكفي أن نشير إلى أن خطوط الطول والعرض مبينة بشكل ما على وضع نجم القطب، وأن ذلك كله أساس في اهتداء الإنسان في طيارته أو باخرته في عصرنا. كلمة في السياق: 1 - بدأ القسم الأول من سورة الأنعام بقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ويبدأ القسم الثاني بمقدمة تتحدث عن مظاهر قدرة الله: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى .. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. هُوَ

"الفقرة الأولى"

الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ... ثمّ تأتي بعد هذه المقدمة فقرة مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ... لاحظ كلمة (يعدلون) في الآية الأولى من السورة، والكلام عن الشركاء في الفقرة الأولى من القسم الثاني، لترى كيف أنّ السورة ذات سياق واحد، ولترى صحة ما اتجهنا إليه في تقسيم السورة إلى قسمين رئيسيين. 2 - رأينا أن محور سورة الأنعام هو قوله تعالى في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ... أنكر عليهم كفرهم مع ظاهرة الإحياء والإماتة، وأقام عليهم الحجة بظاهرة العناية، وفي مقدمة هذا المقطع تفصيل لمظاهر من خلق كل شئ لصالح الإنسان، وتدليل على القدرة بمظاهر من آثارها، فليتأمل ذلك. ولننتقل إلى الفقرة الأولى في المقطع. «الفقرة الأولى» وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ بأن أطاعوا الشياطين فيما سوّلت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله بدلا من التوحيد والإخلاص والعبادة والشّكر التي تقتضيها عناية الله التي رأينا مظاهرها قبل هذه الآية وَخَلَقَهُمْ الضمير (هم) إما أن يعود على الجن، وإما أن يعود على الجاعلين لله شركاء. والمعنى على الأول: وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكا. وعلى الثاني: والله هو الذي خلق هؤلاء المشركين فكيف يعبدون معه غيره وهو وحده الذي خلقهم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ. أي: واختلقوا له فنسبوا إليه بنين كالنّصارى، وبنات كقول بعض العرب في الملائكة إنهم بنات الله بِغَيْرِ عِلْمٍ. أي: جاهلين بما قالوا أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب. ولكن رميا بقول عن جهالة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ. أي: تنزّه وتقدّس وتعاظم عما يصفونه به من الشريك والوالد بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أي: مبدعهما على غير مثال سبق والمعنى: أن الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون له ولد أو مثل أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وهذا دليل آخر على استحالة أن يكون له ولد، إذ الولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شئ من خلقه؛ لأنّه خالق كل شئ، فلا صاحبة له ولا ولد وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِ

[سورة الأنعام (6): آية 102]

شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي: ما من شئ إلا وهو خالقه والعليم به، ومن كان كذلك كان غنيا عن كل شئ، والولد إنما يطلبه المحتاج ذلِكُمُ. أي: المستجمع للصفات السابقة اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ. أي: من اجتمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه خلقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. أي: وهو مع تلك الصفات مالك لكل شئ من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. أي: لا تحيط به وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. أي: يحيط بها وَهُوَ اللَّطِيفُ. أي: العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها الْخَبِيرُ. أي: العليم بظواهر الأشياء وخفياتها قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب، كما أن البصر أثر جهاز العين الذي به تبصر، والمعنى: قد جاءكم من الوحي والتنبيه بهذا القرآن ما هو للقلوب كالبصائر من الله- عزّ وجل- فَمَنْ أَبْصَرَ فعرف الحق وآمن به وعمل فَلِنَفْسِهِ أبصر وإياها نفع وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها. أي: ومن عمي عن الحق وضلّ فعلى نفسه عمي، وإياها ضرّ بالعمى وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. أي: بحافظ يحفظ أعمالكم، ويجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ. أي: نصرّف الآيات تصريفا مثل ما تلونا عليك فنكرّرها ونؤكّدها ونوضّحها ونبيّنها وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ. أي: وليقولوا درست نصرّفها، ومعنى درست: قرأت كتب أهل الكتاب وَلِنُبَيِّنَهُ. أي: القرآن أو الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الحق من الباطل اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن ولا تتبع أهواءهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولهذا فلا يجوز اتّباع غير وحيه وأمره وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بالعفو والصفح واحتمال الأذى والهجران الجميل حتى يفتح الله وينصر بقتال أو بغيره، فتقيم فيهم حكم الله وقتذاك بما يناسب ذلك الحال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا هذا بيان أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله، ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه، ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. أي: مراعيا لأعمالهم مأخوذا بجرائمهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. أي: بموكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة لئلا يكون سبّهم سببا لسبّ الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً. أي: ظلما وعدوانا بِغَيْرِ عِلْمٍ. أي: على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ

عَمَلَهُمْ. أي: مثل ذلك التزيين الواضح البطلان، زينّا لكل أمة من أمم الكفار ما هم عليه من العمل ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ. أي: مصيرهم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. أي: فيخبرهم بما عملوا، ويجزيهم عليه. قال الألوسي بمناسبة هذه الآية: «واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها، فإن ما يؤدي إلى الشر شر، وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها، وكثيرا ما يشتبهان، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن قائلا: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا» للفرق بينهما. ونقل الشهاب عن المقدسي أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة، كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي، وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع، وإلا صبر، وهذا إذا لم يقتد به وإلا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه- أنه ابتلي به- كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي منصور أنه قال: كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه، وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا، وقتل المؤمن بغير حق منكر، وكذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه. وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض، وقتالهم فرض، وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه. وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ بالمتولد منه، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها». أقول: يفهم من كلام الألوسي وبعض الأقوال التي نقلها أن الطاعة إذ كانت مفروضة أو واجبة أو سنة أو مندوبة فإننا نفعلها ولا نبالي بما يترتب على ذلك، أما إذا كان أمر من الأمور مباحا ولو فعل ترتّب على ذلك مفسدة أو مصلحة فإنّه عندئذ يتردّد في هذا الأمر فإن وجدت المصلحة أقدم وهو مأجور، وإن وجدت المفسدة أحجم وهو مأجور، وإن كثيرا من الأمور تحتاج إلى موازنات كثيرة قبل الإقدام على شئ منها.

فوائد

فوائد: 1 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ] بمناسبة قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقول صاحب الظلال: إن الذين يطلبون في سذاجة أن يروا الله، كالذين يطلبون في سماجة دليلا ماديّا على الله! هؤلاء لا يدركون ماذا يقولون! إن أبصار البشر وحواسّهم وإدراكهم الذهني كذلك .. كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون، والقيام بالخلافة في الأرض .. وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق .. فأما ذات الله- سبحانه- فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها. لأنه لا طاقة للحادث أن يرى الأزلي الأبدي. فضلا عن أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض. وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها .. وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين. ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين! إن هؤلاء يتحدثون عن «الذرة» وعن «الكهرب» وعن «البروتون» وعن «النيوترون» .. وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهربا ولا بروتونا في حياته قط. فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات .. ولكنها مسلّمة من هؤلاء، كفرض، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثارا معينة تقع لوجود هذه الكائنات، فإذا وقعت هذه الآثار (جزموا) بوجود الكائنات التي أحدثتها! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو «احتمال» وجود هذه الكائنات على الصفة التي ارتضوها! .. ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله- سبحانه- عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضا على العقول! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويطلبون دليلا ماديا تراه الأعين .. كأن هذا الوجود بجملته، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل». 2 - [قضية كلامية حول قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ] وحول قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ تدور معركة كلامية كبيرة بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة. فالمعتزلة يحتجون بهذه الآية على نفي رؤية الله في الدنيا وفي الآخرة، وأهل السنة يرفضون هذا الفهم ويعتبرونه ضلالا؛ لما تواترت به الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات، كما تدور المعركة بين أهل السنة أنفسهم حول رؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ربه يوم المعراج.

3 - قراءات ثلاث متواترة لقوله تعالى وليقولوا درست

فعائشة رضي الله عنها تستدل بهذه الآية على نفي الرؤية، وابن عباس يثبتها روى الترمذي والحاكم وغيرهما عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى، فقلت: أليس الله يقول لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الآية، فقال لي: لا أمّ لك ذلك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شئ، وفي رواية: لا يقوم له شئ. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار حجابه النور- أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». وإن للمؤمنين لأشواقا إلى ربهم ومحبة له، وما أوجد الله الشوق للقائه وما افترض محبته على خلقه، وما جعل لذلك طريقه إلا وله مراد- عزّ وجل- في أن يذيقهم لذة النّظر إلى وجهه. وقد ردّ النسفي على المعتزلة قولهم بنفي الرؤية في الآخرة بقوله: وتشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب، لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده، وما يستحيل عليه الحدود والجهات يستحيل إدراكه لا رؤيته، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم. ونفي الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به، فهكذا هذا، على أن مورد الآية وهو التمدّح يوجب ثبوت الرؤية، إذ نفي إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدّح فيه، لأن كل ما لا يرى لا يدرك. وإنما التمدّح بنفي الإدراك مع تحقّق الرؤية، إذ انتفاؤه مع تحقّق الرؤية دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم.» اه. أقول: والدّخول إلى عالم الإيمانيات بجدل الفلسفات مفسد للعقل وللقلب وللفطرة. فعالم الإيمان عالم تسليم بعد أن تقوم الحجة على صحة النقل وصحة الفهم وفي ذلك راحة العقل والقلب. 3 - [قراءات ثلاث متواترة لقوله تعالى وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ] في قوله تعالى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ثلاث قراءات متواترة: درست، ودارست، ودرست، وكل واحدة تعطي معنى يقوله الكافرون. أما الأولى:

4 - كلام ابن كثير بمناسبة آية ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ..

فواضحة. وأما الثانية: فهي من المدارسة وهي واضحة. وأما الثالثة فمعناها: أي مضت هذه الآيات، وانتهت، وانمحت، وتقادمت، وهي من باب الأساطير، وكل من الأقوال الثلاثة تسمعه من الكافرين في عصرنا، الأول والثاني يقوله أهل الكتاب، والثالث يقوله الملاحدة: أن الدين كله مرحلة من مراحل الحياة البشرية انتهت وانقضت. وفي هذا مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، إن في عرضه لاتجاهات النّاس بأخصر الأقوال أو لاختياره الكلمة التي لا يحل غيرها محلها، وممّا ذكرناه نفهم الحكمة في تعدّد القراءات المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ في ذلك توسعة على الأمّة بما يسع لهجات العرب، وفي ذلك معان جديدة، وإنّما اقتصرنا في هذا التفسير على رواية حفص ذكرا وشرحا لأنّها القراءة الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي. 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ .. ] قال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي أنّه قال في تفسير هذه الآية: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعهم، فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأميّة، وأبيّ ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له «المطّلب» قالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه، فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإنّ محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه، فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه. فدعاه فجاء النّبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما تريدون؟» قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « .... ، هل أنتم معطيّ كلمة، إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدّت لكم الخراج؟» قال أبو جهل: وأبيك لنعطيكها وعشرة أمثالها. قالوا: فما هي؟ قال «قولوا لا إله إلا الله» فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب: يا ابن أخي قل غيرها، فإن قومك فزعوا منها، قال: «يا عم: ما أنا بالذي يقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها» إرادة أن يؤيسهم، فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو

كلمة في الفقرة الأولى

لنشتمنّك ونشتمنّ من يأمرك، فذلك قوله: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. ومن هذا القبيل، وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها. ما جاء في الصحيح: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ملعون من سب والديه». قالوا: يا رسول الله، وكيف يسبّ الرجل والديه؟ قال: «يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه». أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم». ومن ثم فإن الداعية إلى الله عليه أن يكون دقيقا جدا في طرق الخطاب وفي مواقفه وفي مناقشاته. ففي كثير من الأحيان لا يؤدي التجريح المباشر والمواجهة به إلى خير في نقل الإنسان من حالة إلى حالة أطيب وأكرم، ووضع الأمور في مواضعها هو الحكمة، والحكمة معنى زائد على العلم، ومعرفة الحكم الشرعي. كلمة في الفقرة الأولى: 1 - مرّت معنا مقدمة المقطع الأول، وفيها عرض لمظاهر قدرة الله، وعرض لبعض ما سخّره الله للإنسان، ثمّ جاءت الفقرة الأولى تحدثنا عن شرك المشركين، فكأن السياق يقول: إنه مع كل مظاهر القدرة ومظاهر العناية يوجد مشركون، وهذا يذكّرنا بالآية الأولى من سورة الأنعام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فالسورة إذن سائرة على نسق واحد وسياق واحد. 2 - رأينا أن محور سورة الأنعام هو قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وقد رأينا كيف أن الفقرة ناقشت الكافرين بظاهرة الخلق: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ فالفقرة إذن تفصّل في محور السورة من البقرة. 3 - ووحدة الفقرة واضحة في كونها تقيم الحجة على الكافرين، وتثبّت أهل الإيمان على اليقين، وتأمرهم باتباع وحي الله والإعراض عن الجاهلين وتنهاهم أن يتسببوا بإيذاء الله ولو بسبّ آلهة المشركين، وإذا عرفنا أن الفقرة بدأت بالحديث عن الشرك وهو إيذاء لله- عزّ وجل- وانتهت بالنهي عن سب آلهة المشركين إذا تسبّب عن ذلك سبّ لله وإيذاء له، أدركنا الصلة بين بداية الفقرة ونهايتها. 4 - يلاحظ أن الفقرة أقامت الحجة على الكافرين والمشركين بصور متعدّدة من خلال ظاهرة الخلق، ومن خلال الحديث المدهش عن الكمال والجلال والجمال للذات

بين يدي الفقرة الثانية

الإلهية، ومن خلال التذكير بالوحي، وكماله وإحاطته، وبهذا كله تقوم الحجة على الكافرين مرة بعد مرّة، وصلة ذلك بمحور السورة لا تخفى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ؟!. 5 - وبعد أن قامت على الكافرين الحجة بعد الحجة، ولم يبق أمامهم ما يواجهون به، نجدهم يفرون إلى طلب الخوارق، ولذلك فإن الفقرة الثانية في المقطع أولها وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها. فلننتقل إذن إلى الفقرة الثانية في المقطع: ولنبدأ بكلمة بين يديها. بين يدي الفقرة الثانية: 1 - بدأت الفقرة الأولى بقوله تعالى: وَجَعَلُوا وتبدأ الفقرة الثانية بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا وتستمر هذه الفقرة حتى تأتي الفقرة الثالثة وهي مبدوءة بقوله تعالى: وَجَعَلُوا وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. ومن الكلمة الأولى في الفقرات الثلاث ندرك أن الكلام ينصبّ على مواقف للكافرين ومناقشتها، وسنرى أن النقاش له صلة بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وبقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ... لقد رأينا ذلك من قبل وسنراه فيما يأتي. 2 - تبدأ الفقرة بذكر دعوى الكافرين أنهم إذا جاءتهم آية يؤمنون، فكأنهم يدّعون أن سبب كفرهم هو عدم وجود الآية، ومن هاهنا يبدأ الحوار، فليست العلّة في عدم الآية بل العلّة فيهم: فقد قامت عليهم الحجة ابتداء فلم يؤمنوا، إن العلّة في آثامهم وضعف يقينهم بالآخرة وإصغائهم لإيحاءات الشياطين ولزخرف أقوالهم. هذا ما تقرره الفقرة في أولها ونجد في وسطها قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ونجد في أواخرها قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها

"الفقرة الثانية"

غافِلُونَ مما يدّل على أن السياق الرئيسي للفقرة مناقشة الكافرين في دعواهم أن عدم وجود الآيات هو سبب عدم إيمانهم. 3 - والملاحظ أن الفقرة تبدأ بثلاث آيات: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ* وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ. فهذه الآيات الثلاث تعرض علينا طلبهم الآية وتردّ وتعلّل، ثمّ بعد ذلك تأتي آية تقول: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ ثمّ بعد آيات كثيرة تأتي آية تقول: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها ثمّ بعد آيات تأتي آية تقول: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ... من هذه الآيات الثلاث ندرك أن الفقرة لا تعرض علينا موقفا واحدا للكافرين، هو تعنتهم في طلب الآيات، وادّعاؤهم أنهّم يؤمنون لو جاءتهم، بل تعرض علينا مواقف أخرى لهم وتعالجها: عداوة الأنبياء ... المكر بالدعوة ... موالاة الظالمين لبعضهم بعضا فالفقرة في سياقها الرئيسي تعرض وتردّ، وتعالج قضية بعينها، وهي مع علاجها لهذه القضية تعالج مواقف للكافرين لها صلة بالقضية الرئيسية، ولذلك فإننا سنعرض الفقرة على أنّها مقدمة ومجموعات ثلاث، المقدمة هي الآيات الثلاث الأولى، والمجموعات الثلاث كلّ منها مبدوء بقوله تعالى: وَكَذلِكَ*. «الفقرة الثانية» مقدمة الفقرة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. أي: حلفوا بالله جاهدين بأن أتوا بأوكد الأيمان لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ. أي: خارق من مقترحاتهم التي اقترحوا مجيئها أو يقترحون لَيُؤْمِنُنَّ بِها. أي: بالآية أو ليؤمننّ بالله ورسوله بسببها، علّقوا الإيمان على مجئ الآيات المقترحة كأنّ الآيات التي أنزلت لا تكفيهم قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ. أي: وهو قادر عليها أي ليست عندي فكيف آتيكم بها وَما يُشْعِرُكُمْ.

[سورة الأنعام (6): آية 110]

أي: وما يدريكم أيها المؤمنون أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. أي: أن الآية المقترحة إذا جاءت لا يؤمنون بها، والمعنى: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنون مجيئها، فقال الله تعالى وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن قبول الحق وَأَبْصارَهُمْ عن رؤية الحق عند نزول الآية التي اقترحوها فلا يؤمنون بها، ويمكن أن يكون المعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم أنّا نقلّب أفئدتهم وأبصارهم، فلا يفقهون، ولا يبصرون الحق كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. أي: كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها فكذلك إذا جاءتهم الآيات كما اقترحوا وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أي: وندعهم في ظلمهم وما هم عليه يتحيّرون ويمكن أن يكون المعنى: وما يشعركم أنّا نذرهم في طغيانهم يعمهون وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ حسب اقتراحهم بقولهم لولا أنزل علينا الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى حسب اقتراح آخر قالوا: فأتوا بآبائنا وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ أي: وجمعنا عليهم كل شئ قُبُلًا. أي: كفلاء بصحة ما بشّرنا به وأنذرنا، وهي جمع قبيل والقبيل الكفيل وفسر الألوسي (قبلا) بقوله: أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روى عن ابن عباس وقتادة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم فيؤمنوا وهذا جواب لقول المؤمنين لعلهم يؤمنون بنزول الآية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنّ هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة. فائدة: [حول سبب نزول آية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ... ] - يروي ابن جرير سبب نزول قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ .. عن محمد بن كعب القرظيّ قال: كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريش فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدّقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّ شئ تحبون أن آتيكم به؟» قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا، فقال لهم: «فإن فعلت تصدقوني؟» قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنّك أجمعون، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو، فجاء جبريل عليه السلام فقال له: ما شئت، إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذّبهم، وإن شئت

كلمة في مقدمة الفقرة

فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ. كلمة في مقدمة الفقرة: قلنا إن هذه الآيات الثلاث هي مقدمة الفقرة الثانية في المقطع الأول من القسم الثاني من سورة الأنعام، وقد عرضت علينا الآيات دعوى الكافرين أنهم إذا جاءتهم آية يؤمنون، وبينت أن الأمر ليس كذلك، فقد تأتي الآية ولا يؤمنون إذا لم يشإ الله إيمانهم، ومشيئة الله لا تنفك عن الحكمة؛ فلله سنن ولله حكم، ومن سنن الله أن يقلب أفئدة وأبصار الكافرين فلا يؤمنون، ولو كثرت عليهم الآيات؛ عقوبة لهم؛ لأن قلوبهم رفضت الإيمان مع قيام الحجة ابتداء، فهم وقفوا موقفا يستحقون به عقوبة استمرارهم على الكفر، فليبكوا على أنفسهم إذن بدلا من أن يقترحوا ويتعنّتوا، إنّهم محكومون بالمشيئة الإلهية، والمشيئة الإلهية مطلقة فليراجعوا أنفسهم. ولننتقل إلى المجموعة الأولي في الفقرة. «المجموعة الأولى» وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا. أي وكما جعلنا لك أعداء من المشركين جعلنا لمن تقدّمك من الأنبياء أعداء؛ لما فيه من الابتلاء الذي هو سبب ظهور الثّبات والصبر وكثرة الثّواب والأجر شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً زخرف القول أي: المزوّق من القول وهو ما زيّنوه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي، والغرور هو ما يغتر به صاحبه، أو هو القول الخادع الذي يأخذ على غرّة والمعنى: يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض الكلام المزخرف الخادع وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ. أي: هذا الإيحاء، يعني: ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ولكنه امتحن بما يعلم أنّه أجزل في الثواب للمؤمنين فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. أي: فدعهم وما يفترونه عليك وعلى الله فإنّ الله يجازيهم وينصرك ويخزيهم وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. أي: ولتميل إلى زخرف القول قلوب الكفار، والمعنى إن الشياطين يوحون زخرف القول ليغروا ولتميل إليه قلوب الكافرين بالآخرة

وَلِيَرْضَوْهُ. أي: الكافرون بالآخرة لأنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ. أي: وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام. يقول صاحب الظلال بمناسبة الكلام عن شياطين الإنس والجن في الآية: وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان فأما شياطين الجن- والجن كله- فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به من عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان، وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء .. نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها. فأما أولئك الذين يتترسون «العلم» لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن؛ فلا ندري علام يرتكنون؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء، في هذا الكوكب الأرضي، كما أن علمهم هذا لا «يعلم» ماذا في الأجرام الأخرى، وكل ما يمكن أن «يفترضه» أن نوع الحياة الموجودة في الأرض يمكن أو لا يمكن في بعض الكواكب والنجوم .. وهذا لا يمكن أن ينفي- حتى لو تأكدت الفروض- أن أنواعا أخرى من الحياة وأجناسا أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا «العلم» عنها شيئا. فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم «العلم» وجود هذه العوالم الحية الأخرى. وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن؛ والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية- كإبليس وذريته- كما يتشيطن بعض الإنس .. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن، نحن لا نعلم إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله- سبحانه- وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار. وأنه مزوّد بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن وفي خارج الأرض أيضا. وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر. وأن منه الصالحين المؤمنين، ومنه الشياطين المتمردين. وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه- في هيئته الأصلية- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان. وأن الشياطين منه مسلّطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم وهم قادرون على الوسوسة لهم، والإيحاء بطريقة لا نعلمها. وأن هؤلاء

كلمة في الآيتين

الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين. وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذ غفل برز فوسوس له، وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف. وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس؛ ويحاسب؛ ويجازى بالجنة وبالنار، كالجنس الإنساني. وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقا ضعيفا لا حول لهم ولا قوة». كلمة في الآيتين: الآيتان اللتان مرّتا معناهما الآيتان الأوليان في مجموعتهما وهما ترتبطان بما قبلهما بروابط شتى: 1 - فهما تكمّلان ذكر سنن الله في الصوارف عن الهداية: ففي مقدمة الفقرة عرفنا أن من سنن الله أن يقلّب قلوب وأبصار الذين تقوم عليهم الحجة ابتداء ويرفضونها، وفي هاتين الآيتين يبين الله- عزّ وجل- أن من الصوارف عن الإيمان إيحاءات الإنس والجن، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة والذين يقترفون المعاصي يسمعون لهذه الإيحاءات، وإذن فليست قلة الآيات سبب عدم الإيمان، وإنما هي المعاصي والكفر بالآخرة والتمرّد على الله ورفض الحجة. 2 - يرى بعضهم أن كلمة (وكذلك) في الآية الأولى من المجموعة معطوفة على قوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ في الآية السابقة على الفقرة، ذكر ذلك الألوسي، فالآية على هذا ترتبط بما قبلها من حيث إنّها تعرض بعض سنن الله- عزّ وجل- كما عرضت آية سابقة والألوسي يرجح أن (وكذلك) في الآية كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمّا يشاهد» فهي تعزية له على طلب الآيات من الكافرين وتعليقهم الإيمان عليها فوائد: [حول آية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ .. ] 1 - وصف الله- عزّ وجل- ما يوحي به شياطين الجن والإنس ب (زخرف القول غرورا) ولو أنك تأملت ما تقذف به المطابع في العالم وما يقوله الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من فلسفات وآراء، لوجدته كلاما مزخرفا فارغا، ظاهره غرور وباطنه فراغ، فليحذر المسلم أن يصغي بقلبه لكلام الذين لا يؤمنون بالآخرة. 2 - بمناسبة قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ... يذكر ابن كثير حديثا

ولنعد إلى سياق المجموعة وسياق الفقرة

عن أبي ذرّ حول هذا الموضوع ويذكر روايات كثيرة له ثم يقول: فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته، ونحن نجتزئ بذكر رواية منه: روى ابن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر تعوّذت من شياطين الجنّ والإنس»؟ قال: يا رسول الله، وهل للإنس شياطين؟ قال: «نعم شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً». أقول: وبعد كلام كثير قال ابن كثير: وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر للإنس شياطين منهم. وشيطان كل شئ ما رده، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «الكلب الأسود شيطان». ومعناه- والله أعلم- شيطان في الكلاب. وقال ابن جريج: قال مجاهد في تفسير هذه الآية: كفّار الجنّ شياطين يوحون إلى شياطين الإنس- كفار الإنس- زخرف القول غرورا. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار (أي ابن أبي عبيد الثقفي) فأكرمني وأنزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل. قال لي: اخرج إلى الناس فحدثهم، قال: فخرجت، فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان: قال الله تعالى: بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وقال تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً قال: فهمّوا بي أن يأخذوني، فقلت لهم: ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم، فتركوني، وإنّما عرّض عكرمة بالمختار وهو ابن أبي عبيد- قبّحه الله-، وكان يزعم أنّه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفيّة تحت عبد الله بن عمر، وكانت من الصالحات، ولمّا أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ». ولنعد إلى سياق المجموعة وسياق الفقرة: الكافرون يطلبون آيات، وشياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وأنت أيها المسلم أين محلك؟ وما هو موقفك؟ وهل صحيح أنّه لم تنزل آيات؟ وما دام للشياطين إيحاءات فليحذر المسلم منها؟ إن الآيات اللاحقة في المجموعة تبيّن هذا كله:

[سورة الأنعام (6): آية 114]

فالمسلم لا يقبل حكما إلا الله، والقرآن كلام الله صدق وعدل، والمسلم يعلم أن أكثر أهل الأرض ضالون، ولذلك فإنّه لا يطيع أحدا في معصية الله: ولنر الآيات: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً أي: قل يا محمد أفغير الله أطلب حاكما يحكم بيني وبينكم ويفصل المحقّ منّا من المبطل وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ. أي: القرآن المعجز مُفَصَّلًا. أي: مبيّنا فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصدق وعلى الكافر بالافتراء وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. أي: كعبد الله بن سلام وأمثاله يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ عضّد الدّلالة على أنّ القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنّه حقّ لتصديقه ما عندهم وموافقته له فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. أي: من الشاكّين فيه أيها السامع، أو فلا تكوننّ من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق، ولا يشكّك جحود أكثرهم وكفرهم به وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. أي: ما تكلم به، أي تمّ كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد صِدْقاً وَعَدْلًا صدقا في وعده ووعيده وإخباره، وعدلا في أمره ونهيه وتشريعه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ. لا أحد يبدّل شيئا من ذلك وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أي: السّميع لإقرار من أقرّ، العليم بإصرار من أصرّ، أو السميع لما يقولون، العليم بما يضمرون وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ. أي: الكفار لأنهم الأكثرون يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أي: عن دينه إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فيما هم فيه فليسوا على علم ولا عقل وإن ادّعوا ذلك وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أي: يكذبون على الله فيما يدّعونه من ادّعاءات يمدحون بها أنفسهم فيما هم عليه إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. أي: هو يعلم الكفار والمؤمنين، وهو أعلم بالمهتدي والضال، فلا تفيد عنده الدعاوى. كلمة في السياق: حدّدت هذه الآيات موقف المسلم من اقتراحات الكافرين ومن وساوس الشياطين، وبينت أنه إن أطاع أكثر أهل الأرض فإنّه يضل، وأن الكفر لا يقوم على شئ يقيني أبدا بل مبناه على الظنون والأوهام وفي هذا السياق يأتي كلام عن أكل ما ذكر اسم الله عليه فما محلّ ذلك في السياق: إن الآيات السابقة على هذه الآيات ذكرت: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي

[سورة الأنعام (6): آية 118]

بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وتأتي الآن آيات فيها: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. فالآيات اللاحقة إذن تقدم لنا نماذج على وساوس الشياطين التي لا يصح لمسلم أن يصغي إليها أو يطيعها. هذه واحدة: والآيات السابقة تبين أن الله- عزّ وجل- قد أنزل إلينا الكتاب مفصلا، وأن هذا الكتاب عدل وصدق، وفي هذا السياق يأتي نموذج على ما يأمر به هذا الكتاب من صدق وعدل وعلى ما فيه من تفصيل ولذلك نجد في الآيات قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. ثمّ إن سورة الأنعام محورها من سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ... هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ... فالآيات هنا تأتي لتحدّد لنا الكيفية المشروعة لنوع من أنواع الاستفادة من بعض ما خلقه الله لنا. إن السّورة التي تناقش الكافرين بالله في كفرهم تبين في الوقت نفسه مقتضيات الإيمان الحق بالله، ومن ذلك أن يذكر اسم الله على الذبائح، ولذلك نجد أن الآية الأولى فيما يأتي تقول فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فلنر الآيات: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ. أي: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه خاصة، أي على ذبحه، دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم المزعومة، أو مات حتف أنفه، أو لم يذكر اسم الله عليه، دلّ ذلك على أن مقتضى الإيمان بالله الالتزام بشرعه في موضوع الذبائح وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. أي: وأي غرض لكم في ألّا تأكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ. أي: بيّن لكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مما لم يحرّم إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ. أي: إلا ما اضطررتم إلى أكله مما حرّم عليكم، فإنه حلال لكم في حال الضرورة، والاضطرار شدّة الحاجة إلى الأكل وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. أي: يضلّون فيحرّمون ويحلّلون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلّق بشريعة، وعن غير علم أيّ علم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. أي: المتجاوزين الحق إلى الباطل وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ. أي: علانيته وسرّه، ومن علانيته الزّنا بالمحلّات العمومية، ومن سرّه الزنا السريّ في البيوت، أو المراد بالظاهر الشرك الجلي، وبالباطن الشرك الخفي، أو المعاصي الظاهرة كلها، والمعاصي الباطنة

[سورة الأنعام (6): آية 121]

كلها كالحسد وغيره إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ. أي: يوم القيامة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. أي: بما كانوا يكتسبون في الدنيا وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. أي: عند الذبح وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ. أي: وإنّ أكله لفسق وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ. أي: ليوسوسون إلى أوليائهم من الكافرين والمشركين لِيُجادِلُوكُمْ. أي: ليناقشوكم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرّمه الله إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لأنّ من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به. تعليق: [على قوله تعالى وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ .. ] إن هذه الآيات توضح كيف أن الإيمان بالله له مستلزماته وله مقتضياته، وأن الإيمان بالله يقتضي إيمانا بشريعته وتسليما لها، ورفضا لشرائع غيره لاحظ قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ هذا النص كما سنرى في الفوائد نزل في مناقشة الكافرين للمسلمين في شأن شريعة الذبائح، فإذا كان هذا هو الشأن فأي غفلة غفلها المسلمون حتى استطاع أعداؤهم أن يخدعوهم عن شريعة الله تحت شعارات العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، وإبعاد الدين عن السياسة؟ أي خديعة هذه الخديعة؟ حتى أصبحت الدساتير والقوانين والأعراف والقيم والتصورات وغير ذلك لا تنضبط بإسلام، ولا تحكم به، ولا تبالي. ألا ما أكثر الدوائر التي تسهر على هذا وتعمل له، وما أكثر الذين يساعدون هذه الأوضاع على الاستمرار، وما أكثر الذين يبررون لأنفسهم القعود عن العمل لتغيير هذه الأوضاع، بل ما أكثر الذين يبررون لأنفسهم مسايرة هذه الأوضاع والتعاون معها. وفي كثير من الأحيان تتظاهر الدوائر الماكرة- وهي تجهد لتعطيل الإسلام وإحلال غيره محله- أنها تحترم الدين ولا تحاربه، وهو أسلوب أثبت قدرته على إنهاء الدين وتجميده بحيث لم يفقه في ذلك إلا الأسلوب الشيوعي حديثا، وأسلوب محاكم التفتيش قديما. يقول صاحب الظلال: «وإن كان ينبغي أن ندرك دائما أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاما أرضيا، الحاكمية فيه للبشر لا لله ثم تزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية .. أن ندرك أن هذا الأسلوب من أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما تحكم بشريعة الله بعد ما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه

فوائد

هناك! .. لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجا يؤثر في بقية المنطقة. لقد انخلعت من الدين فأصبحت أجنبية عن الجميع، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم .. ومن ثم غيّرت الصليبية والصهيونية في التجارب الكمالية التركية اللاحقة. فوضعت على هذه التجارب ستارا من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه الصفة، سواء بالدعاية المباشرة، أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده الإنس والجن لهذا الدين .. على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة، وبكل تضامنها وتجمعها، وبكل تجاربها وخبرتها، تحاول أن تستر الغلطة في التجربة التركية ذاتها، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها (علمانية) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلا! ويجهد المستشرقون (وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهدا كبيرا .. ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدودا .. وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض .. ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر- الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة- من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية! ومن تبديل الدين باسم الدين! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصلية باسم الدين أيضا! ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة، وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية .. الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام، من الكيد للإسلام!». فوائد: 1 - [بمناسبة قوله تعالى وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ] بمناسبة قوله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، وغيره عن النّواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الإثم فقال: «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه».

2 - أحكام تتعلق بالميتة وبالمذبوح

2 - [أحكام تتعلق بالميتة وبالمذبوح] الميتة حرام إلا للمضطر، وما ذبحه المشركون حرام، وما ذبحه مسلم فذكر غير اسم الله عليه فهو حرام، وقد رأينا في سورة المائدة حلّ ذبيحة اليهودي والنصراني للمسلم، وهناك قضية خلافية هي ما الحكم في ذبيحة المسلم إذا نسي أن يذكر اسم الله عليها؟ أو ترك التسمية عمدا؟ في هذه القضية ثلاثة اتجاهات ذكرها ابن كثير: الاتجاه الأول: أن الذبيحة لا تحل سواء في ذلك متروك التسمية سهوا، أو عمدا، وعلى ذلك الكثير وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، واختاره بعض متأخري الشافعية. الاتجاه الثاني: أنّ المسلم لا يشترط التسمية في حقه بل هي مستحبة لأن المسلم يذبح على اسم الله سمّى أو لم يسمّ، فإن تركت التسمية عمدا، أو نسيانا لا يضر وهو مذهب الشافعي وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام مالك، وعن الإمام أحمد ... الاتجاه الثالث: إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضرّ، وإن تركها عمدا لم تحلّ. هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك، وأحمد، وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وكثير من السلف. وكل من ذهب إلى اتجاه من هذه الاتجاهات وجّه النصوص إليها. قال النّسفي: ومن حق المتديّن أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لما في الآية من التشديد العظيم. 3 - [سبب نزول آية وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ .. ] وفي سبب نزول الآية: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ يذكر ابن كثير رواية ويردّها ثم ذكر اتجاها آخر، وآخر ما قاله في هذا الموضوع: وقال ابن جريج: قال عمرو بن دينار .. عن عكرمة: إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم، وكاتبتهم فارس. وكتبت فارس إلى مشركي قريش: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتّبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكلونه، وما ذبحوه هم يأكلونه. فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شئ، فأنزل الله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ونزلت يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. وقال السّدي: في تفسير هذه الآية: إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتّبعون مرضاة الله وما ذبح الله فلا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فأكلتم الميتة إِنَّكُمْ

عودة إلى السياق

لَمُشْرِكُونَ وهكذا قال مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف رحمهم الله. وقوله تعالى وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أى: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدّمتم عليه غيره. فهذا هو الشرك كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية (التوبة: 31). وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم. فقال: «بلى، إنّهم أحلّوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم». اه كلام ابن كثير. فإذا كان اتّباع رجال الدين إذا أحلّوا الحرام أو حرّموا الحلال شركا فكيف بطاعة الزعماء والساسة والمجالس التشريعية وغير ذلك في تعطيل شريعة الله أو في إلغائها، أو في سنّ التشريعات المخالفة لها مع التأييد لهم والدّفاع عنهم واعتقاد أنّ ما فعلوه هو الحق. 4 - اتضح من الآيات الأخيرة أن الإيمان بالله يقتضي إيمانا بشرعه وتسليما له، وأن عدم الإيمان والتسليم بشرعه، وطاعة الكافرين في الانحراف عنه ورفضه شرك كبقية أنواع الشرك، وهذا يؤكد لنا أن سورة الأنعام تفنّد الكفر، وما يقوم على الكفر، وتبني الإيمان بالله وما يقوم على هذا الإيمان. عودة إلى السياق: بعد أن عرفنا أنّه لا إيمان إلا بمشيئة الله، وعرفنا حكمة الله وسننه في إضلال من يضل، ورأينا نموذجا على الهداية والضلال في موضوع الذبائح، وعرفنا أن هذا القرآن حق وعدل، بعد أن عرفنا هذا كله؛ فاستقرّت في القلب قيمة الهداية الربانية، تأتي الآن آية تبيّن فضل الله على من هداه؛ وبذلك تنتهي المجموعة الأولى من الفقرة: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ. أي: أو من كان كافرا فهديناه لأن الإيمان حياة القلوب وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. أي مستضيئا به والمراد به اليقين كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ. أي: كمن صفته في الظلمات يخبط فيها لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها. أي: لا يفارقها ولا يتخلّص منها. والآية عامّة في كلّ من هداه الله، وفي كل من أضلّه الله، فبيّن أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيئا يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات لا يتخلص منها كَذلِكَ. أي: كما زين للمؤمن إيمانه زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ. أي: بتزيين الله ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: أعمالهم.

فائدة

فائدة: - بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يروي ابن كثير هذا الحديث يقول: وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ». تعليق: [لصاحب الظلال حول آية وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ .. ] بمناسبة هذه الآية يقول صاحب الظلال: (إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت، وتطلق فيه نورا بعد الظلمات. حياة يعود بها تذوق كل شئ، وتصور كل شئ تحت أشعته وفي مجاله جديدا كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوّره الإيمان. هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ. يعرفها فقط من ذاقها .. والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة؛ لأنها تصوّرها بألوان من جنسها ومن طبيعتها. إن هذا الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب. فهو موت .. وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله .. فهو موت .. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية .. فهو موت .. والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة .. فهو حياة .. إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع .. فهو ظلمة .. وختم على الجوارح والمشاعر .. فهو ظلمة .. وتيه في التيه وضلال .. فهو ظلمة .. وإن الإيمان تفتح ورؤية، وإدراك واستقامة .. فهو نور بكل مقومات النور. إن الكفر انكماش وتحجّر .. فهو ضيق .. وشرود عن الطريق الفطري الميسر .. فهو عسر .. وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن .. فهو قلق .. وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود .. وما الكافر؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور .. إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود. لا تربطه به إلا

روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود. في أضيق الحدود. في الحدود التي تعيش فيها البهيمة. حدود الحس وما يدركه الحس من مظاهر هذا الوجود! إن الصلة بالله، والصلة في الله، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد. ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة .. ثم تصله بموكب الإيمان، والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان، الموصولة على مدار الزمان .. فهو في ثراء من الوشائج وفي ثراء من الروابط. وفي ثراء من «الوجود» الزاخر الممتد اللاحب الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود. ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق هذا الدين، ومنهجه في العمل والحركة، تكشفا عجيبا .. إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور .. مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه. ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته. إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات .. إنما يبدو «تصميما» واحدا متداخلا متراكبا متناسقا .. متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة، وفي حب ودود! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛ فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس .. تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر .. مشهد السنّة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر .. ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنّة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة .. ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضا. ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته، ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة. ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله كأنه يقرأ من كتاب. ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه.

كلمة في السياق

ويجد الراحة في باله وحاله ومآله. ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها. ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين). كلمة في السياق: 1 - بالآية التي مرّت معنا أخيرا تنتهي المجموعة الأولى من الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الثاني من سورة الأنعام: بدأت المجموعة بآية مبدوءة بكلمة (وكذلك) وستأتي مجموعة أخرى مبدوءة بكلمة (وكذلك) فكأن (وكذلك) الثانية معطوفة على (وكذلك) الأولى فيكون السياق الخاص للفقرة على الشكل التالي: يقسم الكافرون أنّه لو جاءتهم آية ليؤمننّ بها، وليس هذا صحيحا بل هذا جزء من مكر وخداع، وصد عن سبيل الله بزخرف من القول، وهذا ليس مستغربا منهم، فإن كل نبي كان له عدو من شياطين الإنس والجن، وكل قرية فيها أكابر مجرميها ليمكروا فيها بهذا المعنى الأخير تبدأ المجموعة الثانية. والدّليل على أن السياق لا زال استمرارا لموضوع طلب الكافرين آية أن الآية الثانية من هذه المجموعة هي قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ودليل آخر وهو أن الله- عزّ وجل- قال في مقدمة هذه الفقرة: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ وسيأتي في هذه المجموعة قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ .... 2 - يلاحظ أن الآية الأخيرة من المجموعة السابقة ختمت بقوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ثمّ جاءت الآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها مما يوحي بالصلة القوية بين بداية المجموعة اللاحقة ونهاية المجموعة السابقة ويجعل لاحتمال العطف القريب وجها قويا. 3 - يلاحظ أن المجموعة اللاحقة تنتهي بقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وهذا يذكرنا بالآية الأولى في المجموعة السابقة شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. 4 - وسنرى أن المجموعة اللاحقة تكمّل ذكر أسباب الضلال فلنرها:

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية وَكَذلِكَ أي: وكما جعلنا في مكة مجرمين كبارا ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها. أي: ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي وخص الأكابر- وهم الرؤساء- لأن ما فيهم من الرئاسة والسّعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن مكرهم يحيق بهم وفي ذلك تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين ووعد لهم بالنّصرة وَما يَشْعُرُونَ أنّه يحيق بهم وبال مكرهم وَإِذا جاءَتْهُمْ. أي: هؤلاء الأكابر آيَةٌ. أي: معجزة أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. أي: مثل ما أعطوا من الوحي والرسالة والآيات اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. أي: هو أعلم بمن يصلح للرّسالة والنّبوة سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ. أي: ذلّ وهوان يوم القيامة وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من القتل والأسر وعذاب النّار بِما كانُوا يَمْكُرُونَ. أي: في الدنيا فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. أي: يوسّعه وينور قلبه وَمَنْ يُرِدْ الله أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً. أي: بالغا في الضيق كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. أي: كما يضيق صدر الذي يصّعّد في السماء حتى ليصل إلى درجة الاختناق كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ. أي: العذاب في الآخرة واللعنة في الدنيا عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. أي: على الكافرين وَهذا صِراطُ رَبِّكَ. أي: طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنته في شرح صدر من أراد هدايته، وجعله ضيقا لمن أراد ضلاله أو: وهذا الدين أو وهذا القرآن طريق ربك مُسْتَقِيماً أي عادلا مطّردا لا عوج فيه قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي لقوم يتعظون لَهُمْ. أي: لهؤلاء الذين يذّكّرون دارُ السَّلامِ. أي: دار الله يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيما لها أو دار السلامة من كل آفة وكدر أو المراد بالسلام التحية فهي دار السلام لأن التحية فيها السلام عِنْدَ رَبِّهِمْ. أي: فى ضمانه وَهُوَ وَلِيُّهُمْ. أي: محبهم أو ناصرهم على أعدائهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. أي: بأعمالهم أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون، أو هو وليّنا في الدنيا بتوفيق الأعمال، وفي العقبى بتحقيق الآمال وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ. أي: أضللتم منهم كثيرا وجعلتموهم أتباعكم وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ. أي: الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ. أي: انتفع الجنّ

كلمة في السياق

بالإنس حيث دلّوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشّياطين، واتّباع الهوى، والتكذيب بالبعث، وتحسّر على حالهم قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ. أي: منزلكم خالِدِينَ فِيها أي يخلدون في عذاب النار الأبد كله إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السّعير إلى عذاب الزمهرير أو إلى الحميم يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعل بأوليائه وأعدائه عَلِيمٌ بأعمالهم فيجزي كلا على وفق عمله. كلمة في السياق: في مقدمة الفقرة التي نحن فيها، عرفنا من أسباب الضلال الرفض لدعوة الله ابتداء مع قيام الحجة، وعرفنا في المجموعة الأولى من أسباب الضلال إيحاءات شياطين الإنس والجن، والكفر بالآخرة، وارتكاب الآثام، واتباع الظنون، وعرفنا في هذه المجموعة أن من أسباب الضلال الكبر، ومنافسة الأنبياء، والمكر برسل الله وبالمؤمنين، وعدم التذكر والاتعاظ، وختمت المجموعة بذكر سبب آخر وهو استمتاع شياطين الإنس والجن ببعضهم بعضا، إنّ المتعة النفسية المحرّمة سبب من أسباب الضلال. وإذن فليست العلّة في ضلال الضالين هو قلة الآيات، بل العلّة في العقلية الكافرة، والنفسية الكافرة، والسلوك المجرم الكافر، فإذا ما استقر السياق على ذلك تأتي المجموعة الثالثة في الفقرة لتبين أن موالاة الشياطين لبعضهم بعضا سببها الكسب السيئ لهؤلاء وهؤلاء، فهناك صفة مشتركة تجمع بين الجميع ثمّ يسير السياق كما سنراه، وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الثالثة في الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الثاني من سورة الأنعام فلنر بعض الفوائد المتعلقة بالمجموعة التي مرّت معنا. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ] بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ يقول ابن كثير في شأن رسولنا عليه الصلاة والسلام: (هذا وهم يعترفون بفضله، وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه- صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه- حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين»، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار «أبو سفيان» حين سأله «هرقل» ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال:

هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، الحديث بطوله الذي استدلّ به ملك الروم بطهارة صفاته عليه الصلاة والسلام على صدق نبوته وصحّة ما جاء به. وروى الإمام أحمد .. عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.». انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه». وروى الإمام أحمد عن المطّلب بن أبي وداعة قال: قال العبّاس: بلغه صلّى الله عليه وسلّم بعض ما يقول النّاس، فصعد المنبر فقال: «من أنا؟» قالوا: أنت رسول الله، قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» صدق صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث أيضا المرويّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال لي جبريل: قلّبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم». رواه الحاكم والبيهقي. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيّئا فهو عند الله سيئ» وروى الإمام أحمد أيضا عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك» قلت: يا رسول كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال: «تبغض العرب فتبغضني». وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية .. عن أبي حسين قال: أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد، فلمّا نظر إليه راعه، فقال: من هذا؟ قالوا: ابن عباس ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وفي مقدمة كتابنا (الرسول) شرحنا موضوع (التلقي عن الله) وكونه يحتاج إلى استعداد خاص ليس كل إنسان مرشحا له، وكيف أن الاتصال بعالم الغيب لا يتحمّله كلّ عقل وكلّ قلب، ومن ثم فإن الله

2، 3 - روايات وتعليق بمناسبة آية فمن يرد الله أن يهديه ..

اصطفى من البشر رسلا عنه إلى خلقه، وجعل لهم علامات تدلّ على صدقهم، وقد كان كتابنا (الرسول) كله نموذجا وشرحا وتطبيقا لهذه العلامات في رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام، الذي لم يجعل الله قلبا كقلبه، ولا روحا كروحه. [2، 3 - روايات وتعليق بمناسبة آية فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ .. ] 2 - وبمناسبة قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. يذكر ابن كثير روايات متعدّدة لحديث ثم يقول فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا. ونحن نجتزئ منها برواية هي: روى عبد الرزاق عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادا» قال: وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه، فينشرح له وينفسح». قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت». فهذه علامة إسلام المرء وعلامة إرادة الله به خيرا، ومن تأمّل رأى ضعف هذا المعاني في عصرنا فلا حول ولا قوة إلا بالله. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ نقول: اختلفت عبارات المفسرين القدماء في شرح هذه الآية، لعدم وضوح ما اتّضح في عصرنا من أمرها، وأحقّ الحقّ فيها ما قاله ابن كثير: (وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقا حرجا بلا إله إلا الله، حتى لا يستطيع أن تدخله، كأنما يصّعّد في السماء من شدة ذلك عليه .... وقال السّدي: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ من ضيق صدره). أقول: وفي هذا النصّ معجزة من أبلغ المعجزات القرآنية، وذلك أنّه تبيّن في عصرنا أنّ الضغط الجوي يخف كلما ارتفع الإنسان في الجو حتى يتلاشى، وأن الإنسان كلما صعد في السماء ضاق صدره حتى يصل لدرجة الاختناق، فتشبيه الحالة المعنوية بهذه الحالة الحسية التي لم تكن معروفة يوم نزول القرآن، ولم تعرف إلا بعد ثلاثة عشر قرنا ونيف، إن هذا لمعجزة عظيمة تشهد على أن هذا القرآن أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض). وإن مجئ هذه المعجزة في سياق الفقرة التي بدأت بذكر طلب الكافرين آية، وفي سياق الفقرة التي وصفت القرآن بالتفصيل والعدل والصدق لقضية ذات دلالة.

بين يدي المجموعة الثالثة

بين يدي المجموعة الثالثة: ختمت المجموعة الثانية بقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ ... لقد كان بين شياطين الإنس والجن في الدنيا صلة ووئام فما الذي جمعهم؟ لقد جمعهم الكسب السيئ والغرور بالدنيا. بهذا المعنى تبدأ المجموعة الثالثة، وهي الأخيرة في فقرتها، ثمّ تسير المجموعة في تقرير بعض سنن الله، وفي التعريف على الله، وتنتهي المجموعة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وتختم المجموعة بذلك، لاحظ الصلة بين أول آية في المجموعة، وآخر آية، من خلال كلمة الظالمين: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فلنر المجموعة. المجموعة الثالثة وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً. أي: نجعل بعضهم أولياء بعض، أو نتبع بعضهم بعضا في النار، أو نسلّط بعضهم على بعض بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. أي: بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. أي: يقال لهم يوم القيامة هذا على جهة التوبيخ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي. أي: يقرءون كتبي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا. أي: يوم القيامة قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا. أي: بوجوب الحجة علينا، وتبليغ الرّسل إلينا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فشغلتهم عن اليوم الآخر، ومنعتهم عن الإيمان وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ. أي: بالله ورسله ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل، وقراءة الآيات أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ أي: إن شأن الله أنّه لم يكن مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه، إلا بعد إقامة الحجة، أو إنه لم يكن ليهلك القرى ظالما بمعنى أنّه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبّهوا برسول وكتاب، لكان ظالما وهو متعال عن الظلم وَلِكُلٍّ. أي: من المكلفين دَرَجاتٌ. أي: منازل مِمَّا عَمِلُوا. أي: من جرّاء أعمالهم وبهذه الآية استدل أبو يوسف ومحمد- رحمها الله- على أنّ للجنّ الثواب بالطاعة فيدخلون الجنة لأنّه ذكر هذا النص عقيب ذكر الثقلين

[سورة الأنعام (6): آية 133]

الإنس والجن وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. أي: بساه عن عملهم وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن عباده وعن عبادتهم ذُو الرَّحْمَةِ عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع الدائمة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها الظلمة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ. أي: من الخلق المطيع كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ. أي: من أولاد قوم آخرين إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ. أي: إن الذي توعدونه من البعث والحساب والثّواب والعقاب لكائن وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. أي: بفائتين لنا بل سنحشركم، وهذا ردّ لقولهم من مات فقد فات قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ. أي: اعملوا على تمكّنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم، وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها إِنِّي عامِلٌ. أي: على مكانتي التي أنا عليها أي: اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإنّي ثابت على الإسلام، وعلى مصابرتكم، وهو أمر تهديد ووعيد، ودليل ذلك ما بعده فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. أي: فسوف تعلمون أيّنا تكون له العاقبة المحمودة، وهذا طريق في الإنذار إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. أي: الكافرون. وبهذا انتهت الفقرة الثانية من المقطع الأول من القسم الثاني من سورة الأنعام. فوائد: [حول الآيتين (130، 134)] 1 - عند قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ .... تثور معركة كلامية حول هل أرسل الله رسلا للجن منهم أو أن الرسل جميعا من الإنس؟ قال ابن كثير: (والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل كما قد نص على ذلك مجاهد، وابن جريج، وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف، وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلا، واحتج بهذه الآية الكريمة وفيه نظر لأنها محتملة وليست بصريحة .... ). 2 - وعند قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين». كلمة في السّياق: قلنا: إن الفقرة الثانية في هذا المقطع تتألف من مقدمة، وثلاث مجموعات، ولقد رأينا

بين يدي الفقرة الثالثة

تلاحم آياتها، ونحب هنا أن نشير إلى الصلة بين مقدمتها وبين المجموعة الأخيرة: بدأت الفقرة بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها. ونلاحظ أنّه في المجموعة الأخيرة قد جاء قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ مما يفهم منه أن الله لا يعذّب حتى تقوم الحجة؛ وإذ كان هؤلاء الكافرون يستحقون العذاب، فإن الحجة عليهم قائمة، وبالتالي فإن اقتراحهم الآيات لا محلّ له، وقبل هذه الآية جاء قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا .. ولذلك صلته بمقدمة الفقرة، فإذا تذكرنا ما مرّ معنا من قبل حول السياق أدركنا شدة التلاحم بين آيات الفقرة. تذكير ببعض معاني الفقرة: إن من جملة ما رأيناه في الفقرة أن علّة الضلال والكفر ليست قلة الآيات، بل سبب ذلك الطغيان، والافتراء على الله، والكفر بالآخرة، والعمل السيئ، وفي الفقرة بيان أن أكثرية أهل الأرض ضالة، وأن الحكم العادل والصادق هو حكم الله في كتابه، وفيها بيان أن الالتزام بشريعة الله هو مقتضى الإيمان، وأن الانحراف عن شريعته شرك، وأن الكفر موت، والإيمان حياة، وأن الله هو الأعلم حيث يضع رسالته، وأن أكابر المجرمين يقفون ضد الرسل، وفيها بيان علامة من يريد الله هدايته، ومن يريد إضلاله، وأن الهدى هداه وفيها بيان سنة الله في الإهلاك الدنيوي والأخروي، وفيها بيان لمظاهر من قدرة الله فيها تحد لمن لا يتّبعون شريعة الله، وكل ذلك يأتي ضمن نسق محاورة الكفر وأهله، والرد على أهله، وتبيان مقتضيات الإيمان بالله، وذلك محور سورة الأنعام كما رأينا، ولننتقل إلى الفقرة الثالثة والأخيرة في المقطع الأول، من القسم الثاني من سورة الأنعام: بين يدي الفقرة الثالثة: بدأ القسم الثاني بذكر مظاهر تدل على قدرة الله، وعلى عناية الله بالإنسان، ثمّ جاءت الفقرة الأولى تحدثنا عن شرك المشركين، وفي المقدمة والفقرة تعجيب من شرك المشركين أفبعد كل الآيات التي تدلّ على الله، أفبعد كلّ ما صنع الله للإنسان، يشرك به المشركون وسارت الفقرة الأولى في سياقها. ثمّ جاءت الفقرة الثانية ورأينا الصّلة بينها وبين ما قبلها، فما الصلة بينها وبين مقدمة المقطع؟ لقد جاء في مقدمة المقطع:

"الفقرة الثالثة"

قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لاحظ الصلة بين هذه الآيات وبين بداية الفقرة الثانية: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها لقد لفتت مقدمة المقطع النظر إلى الآيات قبل أن يعرض المقطع طلبهم للآيات وسار السياق حتى أوصلنا إلى الفقرة الثالثة: الفقرة الأولى بدأت بقوله تعالى وَجَعَلُوا والفقرة الثانية بدأت بقوله تعالى وَأَقْسَمُوا والفقرة الثالثة تبدأ بقوله تعالى: وَجَعَلُوا ثم لاحظ الصلة بين آخر آية في مقدمة المقطع. وأول آية في الفقرة الأخيرة: آخر آية في مقدمة المقطع هي: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً ... لقد خلق الله- عزّ وجلّ- هذا للإنسان فماذا فعل الإنسان: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً .... لاحظ أن الآية الأخيرة في مقدمة المقطع تتحدث عن الحرث، والآية الأولى في الفقرة الأخيرة تتحدث عن الحرث. فلنر الفقرة الثالثة في المقطع. «الفقرة الثالثة» وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. أي: جعلوا لله نصيبا مما خلق ولأصنامهم نصيبا، دل على ذلك ما بعده فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ. أي: زعموا أنه لله، والله لم يأمرهم بذلك، ولا شرع لهم تلك القسمة وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ. أي: لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان، والتصدق على المساكين وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بإنفاقهم عليها، والإجراء على سنتها ساءَ ما يَحْكُمُونَ. أي: ساء حكما حكمهم، في إيثار آلهتهم على الله، وعملهم ما لم يشرع لهم. وفي قوله تعالى مِمَّا ذَرَأَ إشارة إلى أن الله كان أولى ألا يكون لغيره شئ، وأن يكون له الذرء كله؛ لأنه هو الذي ذرأه وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. أي: كما زين لهم تجزئة المال زين لهم وأد البنات قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ. أي: ليهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ. أي: وليخلطوا عليهم دينهم،

[سورة الأنعام (6): آية 138]

ويشوهوه، ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل، حتى زلّوا عنه إلى الشرك وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ لأن شيئا ما لا يكون إلا بمشيئة الله، فالكائنات كلها بمشيئته فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. أي: فدعهم وما يختلقونه من الإفك، أو فدعهم وافتراءهم، لأنّ ضرر ذلك الافتراء عليهم، لا عليك ولا علينا وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ. أي: للأصنام حِجْرٌ أي حرام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ الزعم: قول بالظن يشوبه الكذب، وكانوا إذا عيّنوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: لا يطعمها إلا من نشاء، ثم لا يطعمونها إلا خدم الأوثان، والرجال دون النساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها هي البحائر، والسوائب، والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا حالة الذبح، وفي حالات أخرى، وإنما يذكرون- إن ذكروا- أسماء الأصنام افْتِراءً عَلَيْهِ. أي: قسّموا أنعامهم فقسم حجر، وقسم لا يركب، وقسم لا يذكر اسم الله عليها، ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ هذا وعيد لهم وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور لا يأكل منه الإناث، وما ولد ميتا اشترك فيه الذكور والإناث فهذا معنى قوله تعالى وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ. أي: سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ في جزائهم عَلِيمٌ باعتقادهم قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ إشارة إلى الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم لا هم وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب وغيرها افْتِراءً عَلَى اللَّهِ إذ نسبوا ذلك إليه قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الصواب في تحريمهم، وبهذا انتهت الفقرة الثالثة، وبها انتهى المقطع. فوائد: [حول آيات الفقرة الثالثة] 1 - روى ابن مردويه في تفسير الآية الأخيرة عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وهكذا رواه البخاري في صحيحه.

2 - من الأقوال التي تعين على فهم آيات هذه الفقرة ما ننقله فيما يلي: ا- روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ ... إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شئ من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شئ فيما سمّي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شئ من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقي ما سمي للوثن، تركوه للوثن، وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرّمونه قربة لله، فقال الله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الآية وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدّي وغير واحد، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية كل شئ يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة، وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ ساءَ ما يَحْكُمُونَ. ب- قال أبو بكر بن عيّاش عن عاصم بن أبي النّجود: قال لي أبو وائل: أتدري ما في قوله وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا قلت: لا، قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجّون عليها. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها، في شئ من شأنها، لا إن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا إن حملوا، ولا إن نتجوا، ولا إن عملت شيئا. ج- قال العوفي في قوله تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ... عن ابن عباس: فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء، فنهى الله عن ذلك. وكذا قال السدي. وقال الشعبي: «البحيرة» لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شئ أكله الرجال والنّساء. وكذا قال عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. أقول: إن الإنسان عند ما يشرّع لنفسه تخرج منه الأعاجيب فالحمد الله الذي جعلنا مسلمين لا نتلقى إلا عن الله ورسوله.

كلمة في سياق الفقرة الأخيرة

3 - لاحظنا من خلال الفقرة الأخيرة أن استقلال الإنسان بالتشريع غير وارد أصلا. فالإنسان عبد لله وعليه أن يبقى في دائرة ما شرعه الله، وألا يخرج عن ذلك، وأي خروج سلبي أو إيجابي، في الترك، أو في الفعل، إنما هو كذب على الله، يستأهل به الإنسان عقوبة الله. كلمة في سياق الفقرة الأخيرة: كنّا ذكرنا من قبل أن لكل سورة محورها من سورة البقرة، وأن السورة عند ما تفصّل في محورها من سورة البقرة. إنّما تفصّل في المحور، وامتداداته، ومحلّه من سياق سورة البقرة. وقلنا من قبل: إن من امتدادات محور سورة الأنعام في سورة البقرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فلهذه الآية من سورة البقرة صلة بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. وقد جاءت الفقرة الأخيرة لتبين لنا فعل الجاهليين في تحريم ما لم يحرم الله فهي تفصل إذن في محور السورة من سورة البقرة، وفي امتدادات معانيه من السورة نفسها. ولقد رأينا من قبل محلّ الفقرة في مقطعها، ومحلّ المقطع في سياق سورة الأنعام، ومحلّ سورة الأنعام في السياق القرآني العام، وللتذكير فقط نكتب كلمة مختصرة عن المقطع: كلمة في سياق المقطع: لقد تحدثنا كثيرا من خلال عرضنا لهذا المقطع الطويل عن سياق هذا المقطع وارتباطه بالمحور العام للسورة، فمقدمة المقطع عرّفتنا على الله بما ينفي الكفر. والفقرة الثانية: عرّفتنا على موقف من مواقف المشركين والكافرين وردّته، والفقرة الثانية عرفتنا على دعوى للكافرين وردّتها، والفقرة الثالثة عرفتنا على أعمال للكافرين وردّتها، وكل ذلك ضمن نسق واحد: الإيمان بالله يقتضي كذا وكذا. والكفر بالله ينبع منه كذا وكذا، ثم تسفيه الكفر وما ينبع عنه، والتعجيب منه، والردّ على أهله، وتحذيرهم، وتبشير أهل الإيمان وتحذيرهم، وكل ذلك بما ينسجم مع محور السورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. لقد رأينا ذلك وعرضناه، ورأينا كيف أن السورة في سياقها الخاص تعالج الشرك

والامتراء، وأن كلّ مقطع منها يضيف جديدا على هذا الموضوع، مع كونه يفصل في المحور، وسيأتي المقطع الثاني من القسم الثاني وهو نموذج كامل على وحدة المقطع، وعلى محلّ المقطع في سياق السّورة، وعلى صلة السورة بمحورها فلنره: ***

المقطع الثاني من القسم الثاني من سورة الأنعام وهو المقطع الأخير يمتد هذا المقطع من الآية (141) إلى نهاية الآية (165) وهي نهاية السورة وهذا هو

المقطع الثاني من القسم الثاني من سورة الأنعام وهو المقطع الأخير يمتد هذا المقطع من الآية (141) إلى نهاية الآية (165) وهي نهاية السورة وهذا هو: 6/ 144 - 141

6/ 151 - 145

6/ 160 - 152

كلمة في المقطع

6/ 165 - 161 كلمة في المقطع: رأينا أن من امتدادات قوله تعالى في سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. وهاهنا يبدأ هذا المقطع بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ثم تأتي الآيات بعد ذلك تناقش الكافرين فيما حرّموا: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وبعد مناقشات يأتي قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً

المعنى العام

مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا .... ثم يأتي حوار مع المشركين في دعواهم أن التحريم بأمر الله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ .... قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا .... ثم بيّن الله- عزّ وجل- المحرّمات الحقيقية: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... ثم يسير السياق ليصل إلى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن إعلانات ثلاثة ثم تنتهي السورة بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ... إن صلة ذلك كله بقوله تعالى من سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وفي الآية بعدها وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وفي قوله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ .. إن صلات هذا المقطع بذلك كله واضحة لا تكاد تخفى. فالمقطع يفصّل في محوره، وفي امتدادات محوره من سورة البقرة، والمقطع مع هذا استمرار لما قبله، إذ سبقه مباشرة الكلام عمّا حرّم المشركون من الأنعام. وهكذا سارت السورة تفصّل فيما أنعم الله على الإنسان، وكيف ينبغي أن يقابل الإنسان ذلك، وكيف سار الكافرون في طرق أخرى. المعنى العام: يبدأ المقطع بتبيان أنّ الله هو الخالق لكل شئ من الزروع، والثمار، والأنعام، فيذكر الجنّات المخدومة وغير المخدومة، وكلها من خلق الله، ويذكر النّخل والزرع المختلف الأكل، ويذكر الزّيتون والرمّان المتشابه في المطعم، وكيف أنّه أباح لنا الأكل من ثمره، وأمرنا أن نؤدي حقّه يوم حصاده وأن لا نسرف في الإعطاء فنعطي فوق المعروف، وكلّ ذلك تذكير بنعمه، ثمّ يذكر أنّه أنشأ الأنعام كلها لنا، فمنه ما نركب ونحمل عليه، ومنه ما نأكل ونحلب ونستفيد من صوفها لحافا وفراشا، ومن أوبارها ما نستعمله لكثير من الاستعمالات. وتعقيبا على ذكره هذه النعمة أمرنا أن نأكل مما رزقنا، وألا نتّبع خطوات الشيطان باتّباع طريقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين

حرّموا ما رزقهم الله، ثم ذكر نموذجا على اتّباع خطوات الشيطان، بذكر ما فعله العرب في جاهليّتهم، وما يفعله غيرهم أو بعضهم وما يزال. فالعرب حرّموا الأنعام، وجعلوها أجزاء وأنواعا، بحيرة، وسائبة، ووصيلة، وحاميا، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام، ثمّ ذكر أصناف الأنعام غنما، وما عزا، وبقرا، وإبلا، وأنّه لم يحرّم من ذلك لا ذكرا ولا أنثى، ولا شيئا من أولادها، وقد حرّم العرب من الذكور والإناث، وحرّموا الذكور في بعض الأحوال على إناثهم، وحرّم الهندوس على أنفسهم ذبح البقر وأكل لحمه، ولا تزال طوائف من الناس تحرّم لحم الأنثى من الغنم والماعز والبقر، ولا تزال طوائف تحرّم أكل الإبل، وكل ذلك من اتّباع خطوات الشيطان، ومن ثمّ ذكر الله- عزّ وجل- في هذا السياق الأصناف الثمانية: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين. فمن يدّعي على الله أنّه حرّم الذكرين، أو الأنثيين أو ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فليخبر كيف حرّم الله عليهم ما زعموا. وكذلك خلق الله من الإبل ذكرا وأنثى، ومن البقر ذكرا وأنثى، فمن يدّعي أنّ الذّكرين محرمان، أو الأنثيين محرمان، أو ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فإنّه يكذب على الله، ولا أحد أظلم ممّن يفتري على الله كذبا، وقد جرت سنة الله أنّه لا يهدي القوم الظالمين. فتقرّر بهذا أنّ الثمار، والزروع، والأنعام، كلها خلق الله، وأنّه خلقها لهذا الإنسان، وأن الهجوم على التحريم بغير علم كذب على الله، وهو أبلغ الظلم، وهذا كله يذكّرنا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .... التي هي محور هذه السورة، وبامتدادات هذا المحور في سورة البقرة: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وبعد هذا التقرير المذكّر بما خلق الله لنا من الزروع والثمار والأنعام، والمفنّد للهجوم على التحريم بغير علم، تأتي ثلاث مجموعات مبدوءة بكلمة (قل) وبعضها مبدوءة ب (قل) ومنتهية كذلك بآية بدايتها (قل). تبدأ المجموعة الأولى بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهؤلاء الذين حرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله، أنّه لا يجد في الوحي المنزّل عليه حراما على آكل يأكله إلا الميتات، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله، والمراد من سياق هذه الآية الكريمة الردّ على المشركين وأمثالهم ممّن يحرّمون- بآرائهم الفاسدة- ما لم يحرّمه الله، ثمّ بيّن تعالى أنّه حتى هذه المحرّمات أباحها الله عند الاضطرار، إذا لم يتلبس آكلها

ببغي وعدوان؛ وذلك من كمال غفرانه ورحمته، هذا في كتاب الله الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا في الكتاب الذي أنزله الله من قبل فقد ذكر الله- عزّ وجل- أنّه حرّم على اليهود كل ذي ظفر من البهائم والطير، ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل، والنّعام، والإوز، والبطّ، وغير ذلك مما سيأتي، كما حرّم عليهم شحوم البقر، والغنم، والماعز، إلا ما كان شحما في ظهر، أو شحما في حوية، وسيأتي معناها، أو شحما مختلطا بعظم فهذا مباح لهم، وتحريم هذه الأشياء لم يكن لضرر فيها، وإنما كان عقوبة لهم على بغيهم ومخالفتهم أوامر الله، من أجل ذلك كان التضييق. إذن فذاك الذي حرّم الله في القرآن، وهذا الذي حرّم في التوراة من قبل. فمن ادّعى أنّ الله حرّم غير هذا المذكور فأين دليله؟ وقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم في حالة التكذيب أن يذكر بأنّ رحمة الله واسعة، ولكنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، فلا يطمعنّ أحد من هؤلاء المجرمين برحمته، ولا شكّ أنّ المشركين ليس لهم دليل على أنّ الله حرّم شيئا مما حرموا ولذلك فإنهم يفرون إلى المشيئة، ولذلك فهم يدّعون أن ما هم عليه من الشرك ومن تحريم ما حرموا إنما هو بمشيئة الله، وكونه بمشيئة الله فذلك علامة رضاه وتشريعه، وهذا ذروة التكذيب، إذ بهذا الزعم يكون كل ما فعله البشر شرعا لله، وبالتالي فليس هناك حاجة للرسل، وفي هذا تكذيب للرسل في كل ما جاءوا به. ولذلك بيّن الله تعالى- بعد أن ذكر شبهتهم هذه- أن تكذيبهم هذا ليس جديدا، بل إنّ من قبلهم كذبوا مثل تكذيبهم حتى جاءهم العذاب. ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يسألهم: هل عندكم علم بأن ما فعلتموه هو محلّ الرضى من الله؟ فإن كان فأظهروه وبيّنوه وأبرزوه، وما دام ليس عندهم علم فهم إذن لا يتّبعون إلا الوهم والخيال والاعتقاد الفاسد، وهم كذبة على الله فيما ادّعوه، وإذ قامت عليهم الحجة فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن أن لله الحجة البالغة، فلو شاء لهدى الجميع، ولكن له حكمه، وله المشيئة المطلقة، ولا يسأل عما يفعل، وإذا لم يثبت التحريم، لا في الوحي الجديد، ولا في الوحي القديم، وليس عند هؤلاء علم يدلّ على أن ما حرّموه فيه مرضاة الله، لم يبق إلا أن يطالبوا بإحضار الشهداء الذين يشهدون أنّ الله حرّم ما حرّموه، ولنفرض أنهم قدّموا شهودا فماذا يكون الموقف؟ الموقف أن يرفض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادتهم لأنهم شهود زور كذبة، وألا يشهد معهم، وألا يتّبع أهواء المكذبين لآيات الله، الكافرين بالآخرة، الذين يجعلون لله عديلا وشريكا. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من هذا المقطع. ومن النقاش الطويل لموضوع تحريم بعض الأنعام ندرك كم لقضية التحريم من

الأهمية في هذا الدين، وندرك موضع هذا المقطع ضمن السياق العام الدائر حول محور قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإن يدّعي أحد حق التشريع المطلق فذلك صرف للأمور عن مواضعها وانحراف. ثم تأتي المجموعة الثانية المصدّرة بكلمة (قل) وإذا كانت المجموعة الأولى تناقشهم فيما حرّموه ممّا لم يحرم، فإن المجموعة الثانية تفصّل ما حرّم الله، فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعدّد لهؤلاء المشركين وغيرهم المحرمات- حقيقة- عند الله في كتابه القرآن، وفي دينه الإسلام، وفي وحيه الذي أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم: 1 - الشرك 2 - عقوق الوالدين 3 - قتل الأولاد خشية الفقر 4 - قربان الفاحشة ما ظهر منها وما بطن ويدخل في ذلك الزنا 5 - قتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحق 6 - أكل مال اليتيم 7 - بخس المكيال والميزان 8 - شهادة الزور 9 - نكث العهد 10 - الانحراف عن صراط الله. وبعد أن فصّل الله عزّ وجل المحرّمات، عطف بالثناء على التوراة ورسولها، واصفا موسى عليه السلام بالإحسان، وواصفا التوراة بالكمال والإحاطة رحمة بمن أنزلت عليهم، وهداية لهم؛ من أجل أن يؤمنوا حق الإيمان، وذكر التوراة في هذا السياق يشعر أن ما حرّمه الله على هذه الأمة في هذا المقام كان محرّما في التوراة. وبعد أن أثنى على التوراة، ورسولها، أثنى على هذا القرآن الذي أنزله، ووصفه بالبركة، وأمر عباده باتّباعه، وبتقوى الله؛ لعلهم يستحقون رحمة الله، ثمّ خاطب العرب خاصّة، مبينا لهم أنّه أنزل هذا القرآن عليهم، وبلغتهم؛ لينقطع عذرهم؛ ولئلا يقولوا إن كتب الله قد أنزلت على اليهود والنصارى من قبل، وما كنا نفهم ما يقولون، لأنهم ليسوا بلساننا، ونحن في غفلة وشغل عمّا هم فيه، فبهذا الإنزال قطع الطريق على تعلّلهم أن يقولوا: لو أنّا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنّا أهدى منهم فيما أوتوه، فها قد جاءهم من الله على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم النبي العربي، قرآن عظيم فيه بيان للحلال والحرام، وهدى للقلوب، ورحمة من الله لعباده، فمن أظلم بعد ذلك ممن اجتمع له تكذيب آيات الله، والعزوف عنها، وصدّ الناس عنها. هؤلاء سيجزيهم الله على فعلهم أشدّ العذاب. وبهذا البيان لم تبق حجة لتحريم ما لم يحرّمه الله. وبهذا التّهديد بالعذاب ندرك خطورة التحريم القائم على الهوى؛ لأنّه لا يعني إلا التكذيب لله ولرسوله ولكتابه، وإلا الصدّ عن سبيل الله، وحتى لا يستبطئوا العذاب ذكّرهم بالساعة وأشراطها، وأنّهم يوم يشاهدون القيامة، أو بعض أشراط يوم القيامة، لا ينفع الإنسان الإيمان وقتذاك أي: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه، فأمّا من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير

المعنى الحرفي

عظيم وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته. ثمّ هدّد الكافرين وأوعدهم بأن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: انتظروا إنا منتظرون. ثم هدد الله تعالى من فارق دين الله وخالفه، وتفرّق فيه كأهل الملل، والنّحل، والأهواء، والضلالات، ممن تركوا ما أحلّ الله، أو حرموا ما أحل، أو انحرفوا في الفهم، كل هؤلاء أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يبرأ منهم ويتبرأ، وأن يكل أمرهم إلى الله، والله هو الذي سينبئهم بما كانوا يفعلونه. وختمت هذه المجموعة بتبيان فضل الله، وعدله، إذ جعل الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، ليقبل عباده على الحسنات، وليعرفوا عدله، وأنّه يعاقب على السيئات، وبهذا المعنى انتهت المجموعة الثانية من هذا المقطع، وفيها بيّن الله المحرمات الرئيسية، ورد على الضالّين ووعظهم وهدّدهم. وتأتي المجموعة الثالثة وهي تأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر بما أنعم الله به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف. وهو الدين القائم الثابت. دين إبراهيم الحنيف عن كل باطل، والمستقيم على أمر الله، والطاهر من الشرك. ثم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن لهؤلاء المشركين إخلاصه لله، وأنه لا يطلب ربّا سواه، وكيف يفعل والله رب كل شئ؟ وهو الذي سيحاسب كل نفس على عملها، وهو الذي لا يحمّل نفسا إثم نفس أخرى، ثم أمره أن يبلغهم أن إلى الله المرجع، وأن الله سيحكم بين الجميع فيما اختلفوا فيه. ثم يختم المقطع وتختم السورة بما يذكرنا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً .. بتقرير أن الله قد جعلنا خلائف في الأرض، وجعل الأرض لنا، ولكي يتم إعمار الأرض، رفع بعضنا فوق بعض درجات، وأن في ذلك ابتلاء للجميع، هل يلتزم كل منهم بحكم الله فيما آتاه. ثم ختمت السّورة بالتذكير أنّ حسابه وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله، وأنه غفور رحيم لمن والاه واتّبع رسله فيما جاءوا به، وبهذا تنتهي السورة. وسنعرض المقطع على أنه مقدمة ومجموعات ثلاث وخاتمة. المعنى الحرفي: «مقدمة المقطع» وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ. أي: خلق جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ. أي: مسموكات

[سورة الأنعام (6): آية 142]

مرفوعات وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ. أي: متروكات على وجه الأرض لم تعرش، يقال عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان ويمكن أن يسمى كل ما استنبته الناس من أشجار وأصلحوه وخدموه معروشا، وكل ما خرج في البر والجبال مما لم يخدم غير معروش وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللون والطعم، والحجم والرائحة والأكل والثمر، والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه، أو لكل منهما، فإنّ النّخل يبلغ أنواع تمره المئات، ولكل منها حجم ولون وطعم. والزّرع منه القمح والفول والحمّص والعدس والبطاطا وغير ذلك، ومع أن الكثير منها يجمعها أنّها من النّشويات فإن لكلّ لونا وطعما ومنفعة ونكهة وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في اللون وفي الطعم كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ. أي: من ثمر كل واحد مما مر، والأمر للإباحة، وذكر أول الإثمار لا يعني أنه لا يباح إلا إذا أدرك، بل إباحة الاستفادة موجودة قبل وبعد، ولكن عمليا تبدأ الاستفادة منه في الطعام وقت الإثمار وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ. أي: زكاته أو صدقته وسيأتي في الفوائد ما له علاقة بها وَلا تُسْرِفُوا. أي: بإعطاء الكل وتضييع العيال إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لأنهم يضيّعون الحقوق ويتجاوزون الحدود وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً. أي: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفترش للتريّح، أو الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها، أو الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون، فالشاة لا تحمل ولكن تأكلون لحمها وتشربون لبنها وتتخذون من صوفها لحافا وفرشا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. أي: كلوا ما أحل الله لكم منها ولا تحرّموها كما فعل الجاهليون من عرب وغيرهم وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. أي: طرقه في التحريم والتحليل إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. أي: واضح العداوة فاتهموه على دينكم ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ. أي أنشأ لكم حمولة وفرشا ثمانية أزواج. أي أنشأ لكم ثمانية أزواج مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. أي: زوجين اثنين، والواحد إذا كان وحده فهو فرد، وإذا كان معه غيره من جنسه سمّي كل واحد منهما زوجا وهما زوجان، والضأن جمع ضائن، والمعز جمع ماعز قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ المراد بالاستفهام هنا الإنكار، والمراد بالذكرين الذكر من الضأن، والذكر من المعز، وبالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز. والنص إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها أو مما تحمل الإناث

[سورة الأنعام (6): آية 144]

وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها طورا، وأولادهما كيفما كانت ذكورا أو إناثا، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون: قد حرّمها الله فأنكر الله ذلك عليهم نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ. أي: أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدلّ على تحريم ما حرّمتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّ الله حرّمه وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. أي: زوجين من هذا وزوجين من هذا قُلْ آلذَّكَرَيْنِ منهما حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ. أي: أم ما تحمل إناثها أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم، ولما كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون: الله حرّم هذا الذي نحرمه، فإنه سألهم على أسلوب العرب في التهكم أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنّكم لا تؤمنون بالرّسل؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أي: الذين في علمه أنّهم يموتون على الكفر بسبب ما اجترحوه من الظلم وبهذا انتهت مقدمة المقطع. كلمة في السياق: 1 - ذكر الله- عزّ وجل- في هذه المقدمة بعض ما خلقه للإنسان من جنات وأعناب وزروع وثمار ولذلك صلته بقوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. 2 - ناقشت المقدّمة تحريم الكافرين لبعض الأنعام ولذلك صلته بامتدادات المحور في سورة البقرة كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ والملاحظ أن قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ قد جاءت بنصها في الآية وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لاحظ كذلك الصلة بين كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وبين كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. 3 - وإذن فالمقدمة قرّرت أن الله خلق أشياء للإنسان، وأن الإنسان حرّم بعضها بدون علم، وبعد ذلك تأتي المجموعة الأولى، وفيها تحديد لبعض ما حرّمه الله، ومناقشة للكافرين فيما حرّموه. وقبل أن نعرض المجموعة فلنذكر بعض الفوائد التي لها صلة بمقدمة المقطع.

فوائد: حول الآية (141)

فوائد: [حول الآية (141)] 1 - حرّم العرب في جاهليتهم أنواعا من الأنعام كما رأينا ذلك في سورة المائدة، وكما رأينا قبيل هذا المقطع من سورة الأنعام نفسها، والكلام هاهنا موجّه لهم أولا، ولكلّ من يشبههم على مدى الزمان في حالهم ثانيا كالهندوس الذين يحرّمون البقر، وكبعض الطوائف التي تحرّم الإبل، وكبعض الطوائف التي تحرّم الإناث من الغنم والبقر والماعز، ولا شك أن كل من حرّم ما أحل الله كافر، لأنّه مكذّب لله، والآيات واضحة في هذا. 2 - عند قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ تنشأ معركة فقهية ذات جوانب أصولية وفرعية كثيرة، فأبو حنيفة يستدلّ بهذه الآية على وجوب العشر، أو نصف العشر زكاة، من كل ما أخرجته الأرض، قليلا أو كثيرا، مطعوما أو غير مطعوم، يصلح للتخزين أو لا يصلح، ولا يقبل الأحاديث الصحيحة التي تقيّد هذا الإطلاق، لأنه يعتبر أن أحاديث الآحاد- ولو كانت صحيحة- لا تقوى على تخصيص القرآن، لأن ذلك نسخ، وأحاديث الآحاد لا تستطيع نسخ المتواتر لاحتمال الوهم عند رواتها، وفسّر عطاء النّص فقال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسّر وليس بالزّكاة. وقال مجاهد في تفسيرها: وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم فيتّبعون آثار الصرام. وقال ابن كثير: «وقد كان شيئا واجبا في الأصل ثم إنّه فصّل بيانه وبيّن مقدار المخرج وكميته». قال هذا ردا على من زعم أن الآية منسوخة والشافعية- وابن كثير منهم- لا يوجبون زكاة الزروع والثمار إلا إذا كانت مما يزرعه الآدميون، وأن يكون قوتا يصلح للادخار وأن يبلغ نصابه خمسة أوسق أي ما يعادل 617 كيلو غراما فلا زكاة عندهم على الكمّون والقثّاء والبطيخ والقطن، ولا على أمثال ذلك، ولا على ما كان قليلا وفي الآية كلام كثير، فليراجع فى المطولات. 3 - قال أبو العالية في سبب نزول قوله: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ: «كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله وَلا تُسْرِفُوا. وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس جذّ نخلا له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته- فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة- فأنزل الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ رواه ابن جرير عنه.

بين يدي المجموعة الأولى من المقطع

ولابن كثير فهم لطيف للنهي في قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قال ابن كثير: إن النهي في قوله تعالى وَلا تُسْرِفُوا يعود على الإسراف في الأكل قال: أي لا تسرفوا في الأكل لما به من مضرّة العقل والبدن». بين يدي المجموعة الأولى من المقطع: تأتي بعد مقدمة المقطع المجموعة الأولى وهي مبدوءة بآية تبدأ بكلمة (قل) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ... وتنتهي بآية مبدوءة بكلمة (قل) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فبعد مقدمة المقطع التي ناقشت التحريم بغير علم، تأتي هذه المجموعة لتبين ما حرّم الله من الأنعام في شريعتنا وفي الشريعة الموسوية، وتناقشهم في الطريقة التي اعتمدوها إلى آخر ما عرضته المجموعة فلنرها: المجموعة الأولى من المقطع قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ. أي في ساعة نزول هذه الآية لأنّه حرّم شيء آخر بعد ذلك، أو في القرآن لأن وحي السنّة قد حرم غيره، أو في الأنعام لأن الآية في ردّ البحيرة وأخواتها، وأما الموقوذة، والمتردّية، والنطيحة التي ذكرت في سورة المائدة فهي من الميتة، وفيه تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله وشرعه، لا بهوى الأنفس مُحَرَّماً. أي: حيوانا حرم أكله عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ. أي: على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً. أي: إلا أن يكون الشئ المحرّم ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً. أي: مصبوبا سائلا، فلا يحرم الدم الذي في اللحم، والكبد، والطحال، وبقايا العروق، ومكان الذبح أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ. أي: نجس أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. أي: ما رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وسمّي فسقا لتوغله في باب الفسق فَمَنِ اضْطُرَّ. أي: فمن دعته الضرورة إلى أكل شئ من هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ غير ظالم لمضطر مثله، تارك لمواساته وَلا عادٍ. أي: متجاوز قدر حاجته من تناوله فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلا يؤاخذ المضطر بل يغفر له؛ وذلك من آثار رحمته وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. أي: ما له إصبع من دابّة أو طائر، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما. أي:

[سورة الأنعام (6): آية 147]

حرّمنا عليهم لحم كلّ ذي ظفر وشحمه وكل شئ منه، ولم يحرّم من البقر والغنم إلا الشحوم، إلا ما استثني منها بقوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما. أي: ما اشتمل على الظهور والجنوب أَوِ الْحَوايا. هي ما اشتمل على الأمعاء فشحم الخاصرة مباح لهم أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ كالشحم الذي يخالط عظم الظهر، ومعنى هذا أنّه حرّم عليهم من الشحوم- شحوم الكلى وشحوم الألية- والأمعاء، أما الشحم الذي في الظهر، أو الشحم المختلط مع الخاصرتين والبطن، مما تكون الأمعاء داخلها، فكل هذه مباحة لهم، وسنرى في الفوائد بعض عبارات كتب اليهود ممّا يستأنس به في هذا المقام ما دام لا يعارض نصا ذلِكَ. أي: هذا التضييق عليهم جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ. أي: بسبب ظلمهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرنا به فَإِنْ كَذَّبُوكَ. أي: فيما أوحيت إليك من هذا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ بها يمهل المكذّبين ولا يعاجلهم بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. أي: فإنّه مع سعة رحمته فإنّ عذابه إذا جاء لا يردّ عن القوم المجرمين، فلا يغترّ المكذّبون بسعة رحمته عن خوف نقمته. وبعد أن بين الله- عزّ وجل- ما حرّمه في هذه الشريعة وما حرّمه في شريعة سابقة، وبعد أن قرّر في المقدمة أنهم حرّموا ما حرّموا من الأنعام بلا علم، فإنه في الآية اللاحقة يقيم الحجّة عليهم في دعواهم أن التحريم كان بمشيئته، وبناء عليه فإن ما حرّموه وما فعلوه هو محض الحق في زعمهم، إن الآية اللاحقة تقيم عليهم الحجة في هذا الشأن، وهكذا نجد أن الآيات تلاحق قضايا التحريم ملاحقة دقيقة حتى تنهي باطلها. سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا احتجاجا لشركهم وما حرّموه لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ولكن شاء فهذا عذرنا، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شئ من ذلك؛ وإذا شاء فقد رضي، فذلك دليل عندهم على أنّ ما فعلوه صحيح. جعلوا المشيئة تشريعا ورضا، ولا شكّ أن كل شئ بمشيئة الله، لأنّه لا يكون شئ إلا بمشيئته وقدرته، ولكنّه أرسل رسله بأمره، ورضاه لا يكون إلا بتنفيذ أمره وهم قد جعلوا المشيئة عين الرضا، فكذّبوا رسل الله ولذلك قال الله كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. أي: كتكذيبهم إيّاك، كذّب المتقدمون رسلهم، وتشبّثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. أي: حتى أنزلنا عليهم العذاب قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ. أي: من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم فَتُخْرِجُوهُ لَنا أي: فتظهروه لنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ.

[سورة الأنعام (6): آية 149]

أي: الوهم والخيال والاعتقادات الفاسدة وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. أي: تكذبون على الله فيما ادّعيتموه قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. أي: التامّة الكاملة عليكم بأوامره ونواهيه، ولا حجة لكم على الله بمشيئته فَلَوْ شاءَ. هدايتكم لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولكن له الحكمة في أن يعلق الهداية على أسبابها، والضلال على أسبابه، فخلق الهداية عند من يستحقّها بتوفيقه، وخلق الضّلال عند من يستحقه بعدله قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ. أي: هاتوا شهداءكم وقرّبوهم الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. أي: ما زعموه محرّما فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. أي: فلا تسلّم لهم ما شهدوا به، ولا تصدّقهم، لأنّه إذا سلّم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم؛ فكان واحدا منهم- وحاشاه- فإنهم شهود الزور الكذبة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا دلّ هذا على أن من كذّب بآيات الله فهو متبع للهوى إذ لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدّقا بالآيات موحّدا لله وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فهم ملحدون بها وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. أي: يسوون به مخلوقاته، فمن اجتمع له التكذيب بالآيات، والكفر بالآخرة، والشرك، ما كان ليكون إلا متبعا للهوى، وبهذا تمّت المجموعة الأولى من هذا المقطع، وقد ردّ بها على أولئك الذين يحرّمون ما أحلّ الله. كلمة في السياق: 1 - قرّرت الآيات أن هؤلاء الذين يحرّمون ما لم يحرمه الله كذبة مكذبون بآيات الله، كافرون بالآخرة، مشركون بالله، متبعون للهوى، متّبعون للظنون، وهذه أبشع صفات يمكن أن يتصف بها إنسان، ومن هنا ندرك خطورة قضية التحريم والتحليل، والهجوم عليها بلا علم، وتلخيصا لما مرّ معنا في المقطع نقول: بدأ المقطع بذكر ما خلق للإنسان، وما حرّم الإنسان على نفسه بلا علم، ثمّ بيّن حقيقة ما حرّمه الله، ثمّ ناقش الكافرين في الأساس الذي اعتمدوه في موضوع التحريم، وبعد نقاش وإقامة حجة، ووصف لهؤلاء بما هم فيه، يصل السياق إلى المجموعة الثانية، وفيها تفصيل للمحرمات الأساسية في دين الله. 2 - لاحظ أن الآية الأخيرة في المجموعة ورد فيها قوله تعالى: وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وتذكّر أن أول آية في سورة الأنعام ختمت بقوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فالسّورة سياقها واحد

فوائد: حول الآيتين (145 - 146)

فوائد: [حول الآيتين (145 - 146)] 1 - فسر علماؤنا قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ بأنه ما له إصبع من دابّة، أو طائر، ليدخل فيه الإبل، وذلك مفهوم من قوله تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إذ ذكرهما ولم يذكر الإبل؛ فدلّ ذلك على دخول الإبل في ذوات الظفر المذكورة سابقا، وقد تتبعنا ما يسمونها التوراة حاليا فرأينا فيها ما يلى: في الإصحاح الثالث من سفر «اللاويين» «الشحم الذي يغشى الأحشاء وسائر الشحم الذي على الأحشاء والكليتين والشحم الذي عليهما الذي على الخاصرتين وزيادة الكبد مع الكليتين ينزعها ويوقدهما بنو هارون على المذبح على المحرقة التى فوق الحطب الذي على النار» ويتكرّر هذا الكلام مرات، وفي آخر هذا الإصحاح هذا الكلام «كل الشحم للرب فريضة دهرية في أجيالكم في جميع مساكنكم لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا من الدّم». وفي الإصحاح السابع (لاويين) أثناء الكلام عن شريعة ذبيحة الإثم: ويقرب منها كل شحمها الألية والشحم الذي يغشى الأحشاء والكليتين والشحم الذي عليهما الذي على الخاصرتين وزيادة الكبد مع الكليتين ينزعها ويوقدهن الكاهن على المذبح وقودا ... » وفي الإصحاح نفسه «كل شحم ثور أو كبش أو ماعز لا تأكلوا وأما شحم الميتة وشحم المفترسة فيستعمل لكل عمل ولكن أكلا لا تأكلوه» أقول: لنا عودة على هذا النص، وفي هذا الإصحاح الحادي عشر «كل ما شقّ ظلفا وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون إلا هذه فلا تأكلوها مما يجتر ومما يشق الظلف الجمل لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم، والوبر لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم، والأرنب لأنه يجتر لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم، والخنزير لأنه يشق ظلفا ويقسم ظلفين لكنه لا يجتر فهو نجس لكم، من لحمها لا تأكلوا، وجثتها لا تلمسوا إنّها نجسة لكم» وبعد أن يتحدث عن حيوانات البحار والمياه يتحدث عن الطيور يقول: «وهذه تكرهونها من الطيور لا تؤكل إنها مكروهة النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق على أجناسه وكل غراب على أجناسه والنّعامة والظليم والسأف والباز على أجناسه، والبوم والغوّاص والكركي والبجع والرّخم واللقلق والببغا على أجناسه، والهدهد والخفاش وكل دبيب الطير الماشي على أربع فهو مكروه لكم» ثم يذكر حيوانات تباح ثم يذكر حيوانات أخرى محرّمة كابن عرس والفأر والضبّ والجرذون والورل والوزغة والعظاية والحرباء». وفي الإصحاح الثاني عشر من سفر التثنية: «وأما الدم فلا تأكله

على الأرض تسفكه كالماء» وفيه كذلك «احترز أن لا تأكل الدم لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم، لا تأكله، على الأرض تسفكه كالماء، لا تأكله لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إذا عملت الحق في عيني الرب» وفي الإصحاح الرابع عشر من سفر التثنية كلام عن المحرمات والمحللات من الدوابّ. ونحن نقلنا ما نقلناه هنا لنستأنس ببعض ما فيه على فهم النّص القرآني أو لترجيح فهم من الفهوم، والملاحظ أن الشحم الذي على الخاصرتين، داخل في التحريم على حسب النصوص التي ذكرناها، فإذا صح هذا فإن البطن، والخاصرتين، هي الحوايا، والشحم المختلط فيهما هو المباح، لا ما كان على الخاصرتين، والملاحظ أن بعضا مما حرّم عليهم قد أبيح لنا من مثل الإبل والأرانب، وتفصيل ما يؤكل وما لا يؤكل من الحيوانات موجود في كتب الفقه فلتراجع وسنذكرها في كتاب الأساس في السنة. 2 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا ... يروي ابن كثير هذا الحديث عن ابن عباس وقد رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي قال ابن عباس: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة- تعني الشاة- قال: «فلولا أخذتم مسكها»؟ قالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما قال الله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ. وإنكم لا تطعمونه، أن تدبغوه فتنتفعوا به». فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرّقت عندها. رواه أحمد والبخاري والنسائي. 3 - وبمناسبة تحريم الشحوم على بني إسرائيل يروي ابن كثير مجموعة أحاديث بمعنى واحد نكتفي منها بما يحيط بمعناها: روى الجماعة ... عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عام الفتح: «إنّ الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة. فإنها يدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها النّاس (يستضيئون بها)، فقال: «لا، هو حرام». ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «قاتل الله اليهود، إن الله لمّا حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه». وروى ابن مردويه عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قاعدا خلف المقام فرفع بصره إلى السماء فقال: «لعن الله اليهود- ثلاثا- إنّ

بين يدي المجموعة الثانية

الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله لم يحرم على قوم أكل شئ إلا حرّم عليهم ثمنه». 4 - يلفت النسفي النظر عند قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ إلى أن الذنب كان يرتّب عليه تشديد على بني إسرائيل بينما كانت بعض الهفوات سببا في التخفيف على هذه الأمّة، فمثلا ترتب على المخالفة يوم كان الصوم يمتدّ من بعد النوم إلى نهاية اليوم الثاني أن خفّف الله عن المسلمين حكم الصوم حتى جعله من الفجر إلى المغرب، فما أكثر رحمة الله بهذه الأمة، وكم تحتاج هذه الأمة إلى شكر، وقد عبر عن هذا كله بقوله: «وكيف نشكر من سبّب معصيتهم لتحريم الحلال ومعصية سالفنا لتحليل الحرام حيث قال: وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. 5 - وينبغي أن نتذكر أن ما ذكره الله تعالى من المحرمات في الآية من ميتة، أو دم مسفوح، أو لحم خنزير، أو ما أهل به لغير الله، قد أضافت لها السّنة محرمات أخرى من ذلك مثلا قوله عليه الصلاة والسلام: «حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السّباع وكل ذي مخلب من الطير» رواه النسائي وأبو داود وفي كتب السّنّة وفي كتب الفقه تفصيلات ذلك. ولننتقل للكلام عن المجموعة الثانية: بين يدي المجموعة الثانية: تبدأ المجموعة الثانية بذكر المحرّمات الرئيسية في هذا الدين، بل في كل شريعة لله- عزّ وجل- ثمّ تذكّر العرب خاصة بفضل الله عليهم بإنزاله الإسلام عليهم ثمّ تذكّر وتعظ وتعمق في النفس لوازم الالتزام. والملاحظ أن الآيات الأولى التي تفصل في المحرّمات تنتهي بقوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ وأنه في آخر المجموعة يأتي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .. وهذا يؤكد وحدة المجموعة، وأن المجموعة بعد أن بدأت بتفصيل المحرمات ذكرت ما يستنهض الهمم ويؤكد الالتزام. فلنر المجموعة: «المجموعة الثانية» تبدأ المجموعة بكلمة «قل» موجّهة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كي يبيّن للمسلمين ولغيرهم المحرّمات الرئيسية في هذا الدين، وقد يتوهّم متوهم أنّ هذا الأمر وجّه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم

[سورة الأنعام (6): آية 151]

كي يقوله لليهود وهو خطأ سببه فهم خاطئ لما بعد الآيات التي ذكرت المحرمات فليلاحظ ذلك. قُلْ. أي: للذين حرّموا الحرث والأنعام، أو لكل الناس تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. أي: تعالوا أتل الذي حرّمه ربكم عليكم أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً هذا أوّل المحرمات وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لتركه ذكر في المحرّمات، فالمحرّم الثاني ترك الإحسان إلى الوالدين، فمن باب أولى العقوق وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ. أي: من أجل فقر، أي من خشيته نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأن رزق العبيد على مولاهم. فالمحرّم الثالث قتل الأولاد وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ. أي: الآثام ما ظَهَرَ مِنْها أي: ما بينك وبين الخلق وَما بَطَنَ. أي: ما بينك وبين الله فهذا المحرم الرابع الفواحش الظاهرة كالزنا الجهري وغيره، والباطنة كالزنا السري وغيره وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وقتلها قصاصا قتل بحق، والقتل على الردّة والرجم للزاني المحصن، قتل بحق، فالمحرّم الخامس قتل النفس بغير الحق ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. أي: المذكورات السابقات، المفصّلات، أمركم ربكم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. أي: لتعقلوا عظمها عند الله وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن: وهي حفظه وتثميره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. أي: حتى يبلغ مبلغ حلمه فادفعوه إليه، فأكل مال اليتيم هو المحرّم السادس وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ. أي: بالسوية والعدل، فالمحرّم السابع إنقاص المكيال والميزان لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. أي: إلا ما يسعها، ولا تعجز عنه، وإنّما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأنّ مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ممّا فيه حرج فأمر ببلوغ الوسع، وأن ما وراءه معفوّ عنه وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا. أي: فاصدقوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. أي: ولو كان المقول له، أو عليه، في شهادة، أو غيرها، من أهل قرابة القائل، فالمحرّم الثامن الكذب وشهادة الزور وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ويدخل بعهد الله عهده على الاعتراف بربوبيته، وعهده على طاعته في الأمر والنهي، وعهده بما التزم به الإنسان نحوه، من نذر، أو يمين، وعهده الذي عاهد الإنسان عليه الآخرين، فيما يجوز فيه العهد، أو يلزم، فعلى الإنسان الالتزام به، فالمحرم التاسع نقض العهد ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. أي: ما مرّ أمركم به

[سورة الأنعام (6): آية 153]

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. أي: لعلكم تتعظون وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ. أي: الطرق المختلفة في الدّين، من اليهوديّة، والنّصرانيّة، والمجوسيّة، وسائر البدع، والضلالات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. أي: فتفرّقكم عن صراط الله المستقيم: وهو دين الإسلام، فهذا هو المحرّم العاشر، اتّباع غير سبيل الله ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أي: لتكونوا على رجاء إصابة التقوى ذكر أولا (تعقلون) ثم (تذكّرون) ثم (تتقون) لأنّهم إذا عقلوا تفكّروا ثمّ تذكّروا فاتّعظوا فاتقوا المحارم. هذه هي المحرّمات في شريعتنا وفي كل شريعة لله بما في ذلك شريعة التوراة ثمّ جاء بعد ذلك في المجموعة ما يهيج على الالتزام ويبعث عليه: فلنر تتمّة المجموعة: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال ابن جرير تقديره: ثم قل يا محمد مخبرا عنّا: أنا آتينا موسى الكتاب. وردّ هذا ابن كثير واعتبر أنّ (ثمّ) هنا جاءت لتفيد مطلق العطف فإنّه لما ذكر القرآن وأثنى عليه، ناسب أن يعطف بالثناء على التوراة مذكّرا بأن القرآن والتوراة كل من عند الله، وفيهما من التوافق بالأصول الكمال. تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ. أي: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كلّ ما أمر به وقام بطاعة ربه قياما كاملا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ. وبيانا مفصّلا لكل ما يحتاجون إليه في دينهم وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ. أي: بني إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. أي: يصدّقون بالبعث والحساب، وبالرؤية، دلّ هذا على أن كتب الله تعمّق الإيمان بالآخرة وَهذا كِتابٌ. أي: القرآن أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ. أي: كثير الخير والمنافع فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا الله في مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. أي: لترحموا باتّباعه وبتقوى الله أَنْ تَقُولُوا. أي: كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيّها العرب إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا. أي: أهل التوراة والإنجيل وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ. أي: عن تلاوة كتبهم لَغافِلِينَ. أي: لا علم لنا بشيء من ذلك، والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ كيلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا، وكنا غافلين عمّا فيهما أَوْ تَقُولُوا أو كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ. أي: لحدة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ. أي: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من

[سورة الأنعام (6): آية 158]

أنفسكم، فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع، والبرهان القاطع، مع الهدى والرحمة ففوا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ. أي: لا أحد أظلم من مثل هذا وَصَدَفَ عَنْها. أي: أعرض سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ وهو النّهاية في النّكاية بِما كانُوا يَصْدِفُونَ. أي: بسبب إعراضهم هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ. أي: أقمنا حجج الوحدانية، وثبوت الرسالة، وأبطلنا ما يعتقدون من الضّلالة، فما ينتظرون في ترك الضلالة بعدها، إلا إن تأتيهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ. أي: أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابّة، وهو موضوع سيأتي يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لأنّه وقتذاك لم يعد إيمانا بغيب، وليس إيمانا اختياريا، بل هو إيمان لدفع العذاب والبأس عن أنفسهم لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً. أي: إخلاصا، فكما لا يقبل إيمان الكافر بعد طلوع الشمس من مغربها، لا يقبل إخلاص المنافق أيضا أو توبته، وتقديره لا ينفع إيمان من لم يؤمن، ولا توبة من لم يتب من قبل قُلِ انْتَظِرُوا إحدى الثلاث المذكورة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ بكم إحداها إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. أي: اختلفوا فيه، وصاروا فرقا، كما اختلف اليهود والنصارى، أو فرّقوا دينهم، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وفي قراءة حمزة والكسائي (فارقوا دينهم). أي: تركوه وَكانُوا شِيَعاً أي: فرقا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. أي: أنت منهم برئ ولا تسأل عنهم ولا عن تفرقهم ولست من عقابهم في شئ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فيجازيهم على ذلك. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها. أي: عشر حسنات أمثالها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب. وبهذا تمت المجموعة الثانية التي فيها تقرير المحرمات الرئيسية في شريعة الله، وتهييج العرب الذين هم المخاطبون الأول بهذه الرسالة على حملها، وتحذيرهم من تركها، وترغيب الخلق بالحسنات، وتخويفهم من السيئات. كلمة في السياق: بعد أن ناقشت مقدمة المقطع الذين يحرمون بغير علم، وبعد أن ذكرت المجموعة الأولى المحرمات من الحيوانات في شريعتنا وشريعة موسى عليه السلام وهي منسوخة بشريعتنا في كل ما تعارض مع هذه الشريعة، وناقشت الذين يحرمون غير ذلك، وبعد

فوائد: حول الآيات التي أنزل الله فيها ما حرم علينا

أن ذكرت المجموعة الثانية المحرمات الرئيسية، وهيّجت على الالتزام بأسلوبي الترهيب والترغيب، بعد هذا كله تأتي المجموعة الثالثة لتحدّد الطريق. وقبل أن نعرضها نحب أن نذكر مجموعة فوائد مما له صلة بالمجموعة الثانية: فوائد: [حول الآيات التي أنزل الله فيها ما حرم علينا] 1 - روى داود الأودي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وروى الحاكم في مستدركه أن عبد الله بن خليفة سمع ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيات. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. وروى الحاكم أيضا .. عن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّكم يبايعني على ثلاث؟» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حتى فرغ من الآيات فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخّر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه» ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فلنحاول أن نعرض أنفسنا على هذه الآيات فإن العلم بلا محاسبة للنّفس على العمل لا يكفي. 2 - في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» ثمّ تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ الآية. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» وقال سعد بن عبادة: لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتعجبون من غيرة سعد. والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم

الفواحش ما ظهر منها وما بطن» وجاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله الله وأنّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثّيب الزاني، والنّفس بالنفس، والتّارك لدينه المفارق للجماعة». وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمدا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب الله ورسوله فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض». وروى الإمام أحمد والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنّه قال وهو محصور: (سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس» فو الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنّيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، فبم تقتلونني؟» وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد: وهو المستأمن من أهل الحرب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل معاهدا له ذمّة الله وذمّة رسوله فقد أخفر بذمّة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا» رواه ابن ماجه والتّرمذي وقال: حسن صحيح. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم ولّيتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم». وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطا بيده ثمّ قال: «هذا سبيل الله مستقيما»، وخط عن يمينه وشماله، ثمّ قال: «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. وكذا رواه الحاكم وقال: صحيح، ولم يخرجاه. وروى الإمام أحمد عن النّوّاس بن سمعان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، هلمّوا ادخلوا الصّراط المستقيم جميعا ولا تتفرّقوا، وداع يدعو من فوق الصّراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنّك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتّحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس

الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» ورواه الترمذي والنسائي أيضا. 3 - قال كعب الأحبار: «إن هذه الآيات لأول شئ في التوراة» أي: هذه الوصايا العشر مذكورة في أوائل التوراة، وقد تتبعت ما يسمّونه الآن بالتوراة فوجدت في الإصحاح العشرين من سفر الخروج وهو السفر الثاني من أسفار التوراة: «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ... » وهذا وما بعده يقابل (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) «أكرم أباك وأمك .... » وهذا يقابل وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «لا تقتل» وهذا يقابل: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ .... وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ..... «لا تزن» وهذا يقابل: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «لا تسرق» وهذا يقابل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ. «لا تشهد على قريبك شهادة زور» وهذا يقابل: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا .... وفي الإصحاح الخامس من سفر التثنية هذه الفقرات: «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا صورة ما، فما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور .... ». «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، لأن الرب لا يبرّئ من نطق باسمه باطلا ... » «أكرم أباك وأمك أوصاك الرب إلهك .... ». «لا تقتل ولا تزن ولا تسرق ولا تشهد على قريبك شهادة زور ولا تشته امرأة قريبك». وخلال ذلك وصية بحفظ السبت فهل تقابل هذه أمر الله لنا بالوفاء بعهد الله؟ ولو أننا نظرنا إلى هذه الوصايا في التوراة، لوجدناها تقابل بشكل ما الوصايا العشر في ديننا، مع الاختلاف في محتوى بعض الألفاظ مما خالفت فيه شريعتنا شريعتهم بأمر الله ونسختها؟. 4 - رأينا أن قوله تعالى في القرآن: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يقابل في التوراة الحالية «ولا تزن» وقد قال تعالى عن الزنا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فهذا كله يجعل الزنا يدخل دخولا أوليا في النهي وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ... ، ولصاحب الظلال كلام طيب في هذا المقام: يقول: «والفواحش: كل ما أفحش- أي تجاوز الحد- وإن كانت أحيانا تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا. ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا

الموضوع. لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها، فتكون هذه واحدة منها بعينها. وإلا فقتل النفس فاحشة، وأكل مال اليتيم فاحشة، والشرك بالله فاحشة الفواحش. فتخصيص «الفواحش» هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق. وصيغة الجمع. لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها: فالتبرج، والتهتك، والاختلاط المثير، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة، والإغراء والتزين والاستثارة ... كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة. وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن. منها المستتر في الضمائر ومنها البادي على الجوارح. منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف وكلها مما يحطم قوام الأسرة، وينخر في جسم الجماعة، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد، ويحقر من اهتماماتهم، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد. ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية، كان التعبير: وَلا تَقْرَبُوا .. للنهي عن مجرد الاقتراب، سدا للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة. لذلك حرمت النظرة الثانية- بعد الأولى غير المتعمّدة- ولذلك كان الاختلاط ضرورة تباح بقدر الضرورة. ولذلك كان التبرج- حتى بالتعطر في الطريق- حراما، وكانت الحركات المثيرة، والضحكات المثيرة، والإشارات المثيرة، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة .. فهذا الدين لا يريد أن يعرّض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة. فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود، ويوقع العقوبات. وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة، من يزيّنون للناس الشهوات، ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام»! 5 - بمناسبة قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ نحب أن نتحدّث عن قضيتين: الأولى حول تأويل قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ والقضية الثانية حول المراد ببعض آيات الله في هذا المقام؟ ولنتكلم عن القضيتين واحدة بعد أخرى: ا- فسّر بعضهم قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بأن المراد منه: أو يأتي أمر ربك، بدعوى أنّ هذه الآية تشبه آية في سورة النّحل تتكلم عن نفس المقام هي قوله

تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ قال النّسفي: وَجاءَ رَبُّكَ. أي: أمر ربك وهو العذاب أو القيامة وهذا لأن الإتيان متشابه، وإتيان أمره منصوص عليه محكم فيردّ إليه» والذين ردّوا التأويل قالوا: إن المقامين مختلفان. ب- والقضية الثانية هي التي تشير إليها النصوص التالية: ا- روى البخاري في تفسير هذه الآية ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها». فذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ. ب- روى ابن جرير ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدّجال، ودابّة الأرض». ج- روي في الصحيحين وغيرهما ... عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟» قلت: لا أدري، قال: «إنها تنتهي دون العرش فتخرّ ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها: ارجعي، فيوشك يا أبا ذرّ أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت، وذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ». د- روى الإمام أحمد ... عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدّخان، والدابّة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج الدّجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق- أو تحشر- النّاس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا». وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح. هـ- روى الإمام أحمد ... عن ابن السعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل». فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو ابن العاص: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر

السّيئات، والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبّلت التوبة، ولا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل». وهذا الحديث حسن الإسناد. و- روى ابن مردويه ... عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، ما آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين فبينما الذين كانوا يصلون فيها، يعملون كما كانوا يعملون قبلها، والنّجوم لا ترى، قد غابت مكانها، ثمّ يرقدون، ثمّ يقومون فيصلّون، ثم يرقدون، ثمّ يقومون تبطل عليهم جنوبهم، حتى يتطاول عليهم الليل، فيفزع الناس ولا يصبحون فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها، فإذا رآها الناس آمنوا، ولا ينفعهم إيمانهم». ز- روى ابن مردويه ... عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم هذه، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون؛ يقوم أحدكم يقرأ حزبه، ثمّ ينام، ثمّ يقوم فيقرأ حزبه، ثمّ ينام، فبينما هم كذلك، إذ صاح الناس بعضهم في بعض، فقالوا: ما هذا؟ فيفزعون إلى المساجد، فإذا هم بالشمس قد طلعت، حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت من مطلعها- قال حينئذ- لا ينفع نفسا إيمانها». قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه. والذي نحب أن نلفت إليه النظر في هذا الموضوع هو: 1 - إن الشمس في كل لحظة في شروق وغروب بالنسبة لمجموع الأرض، ومن أجل هذا فإن حديث أبي ذرّ: «تدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟» قلت لا أدري قال: إنها تنتهي دون العرش فتخرّ ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها: ارجعي» يمكن حمله على أن الشمس دائما تحت العرش وأنها في كل لحظة ساجدة، وأنها في كل لحظة تستأذن ربها في الاستمرار استئذانا الله أعلم بكيفيّته، فهي مستمرة على سنتها هذه، وقانونها الذي فطرها الله عليه حتى تأتى اللحظة التي يريد الله بها أن يحدث الأحداث الكبرى من أشراط الساعة، كمقدمة لقيام الساعة، عندئذ يأمرها بتغيير سنّتها. ويحتمل أن يكون المراد من الحديث غروبا خاصا لها، بالنسبة لمجموع الكرة الأرضية، تصبح فيه أقرب ما تكون إلى العرش في حالة الله أعلم بها، إذ إن موضوع دوران

الأرض، وحركة الشمس، وصلة ذلك بالعرش، وارتباط هذا العالم بالعالم الغيبي، لا نعرف عنه إلا القليل. 2 - إن رؤية الشمس من مغربها آية لكل الأرض، وليست لقطر دون قطر، وهذا هو سرّ غيابها ليلتين عن بعض الأقطار، وثلاث عن بعضها الآخر، كما في بعض الآثار إذ عملية الرجوع تقتضي هذا الغياب الطويل عن بعض الأقطار. 3 - وهل هناك لحظة وقوف تستمر فترة زمنية ما؟ إنّ النّصوص التي تذكر استمرار الظلمة ثلاثة ليال تشعر بذلك. 4 - هل نستطيع أن نقرب هذه القضية على ضوء معلومات العصر؟ نقول: إن للشمس ثلاث دورات- أو حركات- حركة حول نفسها، وحركة مع مجموعتها الشمسية باتجاه كوكبة الجاثي، وحركة مع مجرتها، وفي عملية صعود الشمس نحو كوكبة الجاثي فإنها تجر معها أسرتها الشمسية كلها، وبعض علماء الكون يرون أن الشمس إذا وصلت إلى نقطة ما، يعتبرونها رأس الموشور بالنسبة لسير الشمس في هذا الاتجاه، فإن شيئا ما سيحدث، فلنفترض أنها وصلت إلى نقطة ما، وأمرت بالرّجوع منها فماذا يحتمل أن يكون في لحظة الأمر؟ التوقف، والعودة إلى المسار الجديد؟ ويكون ما ورد فى الأحاديث هو من مظاهر ما سيحدث، ولعلنا نستطيع أن نفهم حديث أبي ذر على مثل هذا «تدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟» إذا عرفنا أن كل لحظة هي في غروب يصبح السؤال هكذا: «أتدري أين تذهب الشمس» الجواب: «إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة، ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي، فيوشك يا أبا ذرّ أن يقال لها ارجعي من حيث جئت» فوصولها إلى ما دون العرش، وصولها إلى رأس الموشور، والأمر لها بالرجوع هو لحظة التغيّر للمسار الذي يترتب عليه ما ورد في الآثار. وإني وإن قررت هذا التقرير للتقريب لكن الذي ألقى عليه الله هو الإيمان، مع التسليم، وترك الأمر لحين الوقوع، فإذا وقع كما مرّ في الآثار المنقولة، فذلك يثبت صدق النّقلة، وعدم توهّمهم، وإن حدث خلاف شئ من ذلك يكون بعض النقلة قد وهم، لأن كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الحق الذي لا ينقضه شئ. 5 - إن آية مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها مفصّلة لما أجمل في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها* وقد وردت الأحاديث مبينة لهذا الموضوع:

روى الإمام أحمد ... عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إنّ ربكم- عزّ وجل- رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة، أو يمحوها الله- عزّ وجل- ولا يهلك على الله إلا هالك» ورواه البخاري ومسلم والنسائي. وروى الإمام أحمد أيضا ... عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله- عزّ وجل-: من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤه مثلها أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا، ومن اقترب إليّ ذراعا، اقتربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» رواه مسلم وابن ماجه أيضا. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيّئة فلم يعملها لم يكتب عليه شئ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة». واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام: تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في صحيح مسلم «فإذا تركها من جرّائي». أي: من أجلي- وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها، فهذا لا له، ولا عليه، لأنّه لم ينو خيرا ولا فعل شرا- وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها، بعد السعي في أسبابها، والتلبّس بما يقرّب منها، فهذا بمنزلة فاعلها، كما جاء في الحديث الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنّه كان حريصا على قتل صاحبه» وروى الإمام أبو يعلى الموصلي أيضا .. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من همّ بحسنة كتب الله له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها كتبت عليه سيّئة، فإن تركها كتبت له حسنة، يقول الله تعالى: إنما تركها من مخافتي» وروى الإمام أحمد .. عن خريم بن فاتك الأسدي: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ النّاس أربعة، والأعمال ستة، فالناس:

كلمة في المجموعة الثانية

موسّع له في الدنيا والآخرة. وموسّع له في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسّع له في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة والأعمال: موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف، فالموجبتان: من مات مسلما مؤمنا لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة، ومن مات كافرا وجبت له النار، ومن همّ بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها ومن أنفق في سبيل الله- عزّ وجل- كانت بسبعمائة ضعف» ورواه الترمذي والنسائي أيضا وروى ابن أبي حاتم ... عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحضر الجمعة ثلاثة نفر، رجل حضرها بلغو فهو حظّه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، فإن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخطّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا فهي كفّارة له إلى الجمعة التى تليها، وزيادة ثلاثة أيّام، وذلك لأنّ الله- عزّ وجل- يقول: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وروى الطبراني .. عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك لأن الله تعالى قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» وروى الإمام أحمد ... عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله». ورواه النسائي وابن ماجه والترمذي وزاد: «فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها اليوم بعشرة أيام» ثم قال: هذا حديث حسن. كلمة في المجموعة الثانية: قصّ الله- عزّ وجل- علينا في هذه المجموعة ما حرّمه علينا، وأشعرنا أن هذه المحرمات محرّمة عنده في كل شريعة، وبيّن لنا حكمة إنزال القرآن على العرب، ووعظ الناس جميعا، وخوّفهم بالموت، وبالقيامة، وأشراطها، ثمّ رغّبهم بالطاعة، وكرّه إليهم المعصية، وأراهم فضله في الطاعة، وعدله بالمعصية. ثم تأتي المجموعة الثالثة وهي مجموعة أوامر موجهة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ لأمته، تحدّد الطريق، ثم تأتي الخاتمة وهذه هي المجموعة الثالثة في هذا المقطع فلنرها:

"المجموعة الثالثة"

«المجموعة الثالثة» قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو دينه القويم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف دِيناً قِيَماً. أي: قائما ثابتا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي: مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي. أي: عبادتي أو ذبحي أو حجي وَمَحْيايَ وَمَماتِي. أي: وما أتيته في حياتي، وأموت عليه، من الإيمان، والعمل الصالح لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. أي: خالصة لوجهه لا شَرِيكَ لَهُ. أي: في شئ من ذلك وَبِذلِكَ. أي: بالإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي. أي: أطلب رَبًّا والاستفهام للإنكار أي هذا مستحيل وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. أي: وكل من دونه مربوب، ليس في الوجود من له الربوبية غيره، فكيف أبتغي ربا سواه وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها. أي: كسب كل نفس عليها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. أي: لا تؤخذ نفس آثمة، بذنب نفس أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ. أي: مآلكم ومصيركم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الأديان التي فرّقتموها، ومن كان هذا شأنه، ومن كان هذا عدله، ومن كان المصير إليه كيف يعبد سواه؟! فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ... (النحل: 120) قال ابن كثير: وليس يلزم من كونه صلّى الله عليه وسلّم أمر باتباع ملّة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها، لأنه عليه السلام قام بها قياما عظيما، وأكملت له إكمالا تامّا، لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال، ولهذا كان خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام. وقد روى ابن مردويه ... عن ابن أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح قال: «أصبحنا على ملّة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين» وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الأديان أحبّ إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة». وروى الإمام أحمد أيضا ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذقني على منكبه، لأنظر إلى زفن الحبشة أي إلى رقصهم، حتى

كلمة في المجموعة الثالثة وسياقها

كنت التي مللت فانصرفت عنه، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة» وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين، والزيادة بعد قولها: (انصرفت عنه) لها شواهد من طرق عدة. 2 - روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال: ضحّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم عيد بكبشين وقال حين ذبحهما: «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين». 3 - روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا كبّر أي في الصلاة استفتح ثمّ قال: «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين» إلى آخر الآية. «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد، وقد رواه مسلم في صحيحه. كلمة في المجموعة الثالثة وسياقها: في آخر أمر في الوصايا العشر جاء قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وفي أواخر المجموعة الثانية جاء قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وأول أمر يأتي في المجموعة الثالثة هو: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. لاحظ صلة ذلك ببعضه، ولاحظ ذكر ملة إبراهيم، وتذكّر أن آخر مقطع في القسم الأول من سورة الأنعام كان فيه حديث عن إبراهيم عليه السلام والتوحيد. ثمّ لاحظ أن الآية الثالثة، والرابعة في المجموعة الثالثة، تلقننا التوحيد الخالص وهو الموضوع الرئيسى في سورة الأنعام. ثم لاحظ أن الآية الخامسة تقول: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ

خاتمة السورة

لاحظ صلة هذه الآية بموضوع الإيمان بالله وموضوع الرجوع إليه وتذكر محور السورة في البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ... ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لاحظ الصلة بين ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ وبين ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثمّ تذكّر أن الآية الثانية في المحور هي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وأن خاتمة المقطع وخاتمة سورة الأنعام هي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ إذا تذكرت هذا أدركت كيف أن لسورة الأنعام سياقها الخاص، وأنها مع ذلك تفصّل في محورها. وإذا لم يبق في السورة إلا آية واحدة هي خاتمتها، وهي في الوقت نفسه خاتمة المقطع فلنرها: خاتمة السورة وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ تملكونها وتتصرفون فيها والخلائف إما لأن بعضهم يخلف بعضا، أو هم خلفاء الله في أرضه وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف، والرّزق، والعقل وغير ذلك لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ. أي: ليختبركم فيما أعطاكم من نعمة الجاه، والمال، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والغني بالفقير، والحاكم بالمحكوم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن قام بشكره. ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يذكر ابن كثير الأحاديث الآتية: أ- روى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بالجنة أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة، خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها، وعند الله تسعة وتسعون» ورواه مسلم والترمذي. ب- وعن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما خلق الله الخلق كتب

كلمة في المقطع الأخير

في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي». ج- وروى مسلم ... عن أبي هريرة أيضا قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابّة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه». كلمة في المقطع الأخير: رأينا كيف أن المقطع ذكّر بنعمة الله على الإنسان في خلقه له النبات، والأنعام، وكيف أن بعض الخلق يحرّمون ما خلق الله لهم بدون علم. ثم إن المقطع بعد أن ردّ هذا التحريم، بيّن ما حرّم الله، وردّ على المشركين زعمهم من أن عقائدهم وأفعالهم دليل على رضا الله، ثم بين المحرمات الرئيسية. ثم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن عن مجموعة من القضايا والالتزامات. ثم ذكّر الله البشر بنعمته عليهم، إذ جعلهم خلائف في الأرض؛ فسخّرها لهم، وجعلهم يتصرفون بها، ويملكونها، وما ينبغي أن يقابل ذلك بالقيام بحق الله. وكل هذا سائر على النسق العام للسورة، بما يخدم سياقها الخاص، وبما يفصّل في محورها، وكلّ ذلك قد رأيناه. ملاحظة: نلاحظ أن السورة تنقسم إلى قسمين كبيرين. القسم الأول من بدايتها إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى والقسم الثاني من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى إلى خاتمتها. والملاحظ أن القسمين يكادان يكونان متساويين، من حيث الحجم، وهذه الملاحظة نلاحظها في كثير من السور. ولعلّ القارئ لحظ هذا فيما مر، وسيلحظه فيما يأتي، وإنما نبّهنا عليه هنا لوضوح ذلك في هذه السورة. وقد يكون من حكمة ذلك أنه لو قرأ الإنسان في صلاة واحدة ركعتين مثلا، فإنه يستطيع أن يقف في الركعة الأولى عند القسم الأول، ليأخذ حظه في الركعة الثانية بتلاوة القسم الثاني. وفي ذلك نوع من التنسيق بين العقل، والقلب، والعبادة، ونوع من الترتيب، والتنظيم يتفق مع ما أراده الله لهذه الأمة من الكمال؛ بما أنزله عليها من هذا القرآن الكامل. كلمة في سورة الأنعام: كرّرنا كثيرا أن محور سورة الأنعام هو قوله تعالى في سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ

لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وأن هذا المحور هو جزء من محور سورة النساء، والمائدة، والأنعام، والمبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ... وقد لاحظنا كيف أن سورة الأنعام سفّهت الكفر بالله، وسفّهت صنيع أهله، وفضحت كل مظاهره، وذكّرت بالرجوع إلى الله، وفصّلت كيف أنّ الله خلق هذه الأرض للإنسان بكل ما فيها، وفصّلت فيما فعله الكافرون مما ينافي ذلك، وناقشتهم، وتتبعت مسارب الضلال في قلوبهم، وعقولهم، ولاحقتها، وعرّفت الخلق على الله حقّ المعرفة، ليتقوه حق التقوى، فكمّلت بذلك عمل سورة النساء، والمائدة، وأدت حق محورها، وتسلسلت المعاني فيها، معنى وراء معنى، يكمّل اللاحق السابق، وينسجم السابق مع اللاحق، وكل ذلك على مستوى من البيان عجيب، ومن الإعجاز عظيم، ومن تأمل مثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ومثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. علم أن مثل هذا البيان لا يمكن أن يكون إلا من عند الله، ومن تأمل مثل قوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ومثل ما رأيناه من تلخيص لما في الكتب السابقة، عرف كيف أنّ الكمال في هذا القرآن لا يتناهى، وأنّ الإعجاز فيه لا يتناهى، وعرف نعمة الله على هذه الأمّة؛ إذ أنزل عليها هذا القرآن، وعرف نعمة الله على البشرية بأن كان القرآن كذلك، وحمد الله على نعمة الإيمان، فالحمد لله أولا وآخرا، وله الثناء الحسن على ما أنعم به علينا، وتفضّل من نعمة الإيمان بهذا القرآن والإسلام. وإذا كانت سورة الأنعام قد فصلت في محورها الذي رأيناه، فإنّ سورا أخرى كثيرة ستفصل في المحور نفسه، مع امتداداته ومحله في السياق، وكل ذلك على طريقة لم يألفها البشر، ولا يستطيعوها، وهذه إحدى مظاهر الإعجاز في القرآن، وحسبنا أن نشير في هذا الكتاب إشارات.

كلمة في آفاق الوحدة القرآنية بين يدي المجلد الرابع

كلمة في آفاق الوحدة القرآنية بين يدي المجلد الرابع نعرض في هذا المجلد سور: الأعراف والأنفال وبراءة، وكما رأينا فإن القسم الأول من أقسام القرآن والذي هو قسم السبع الطوال ينتهي بنهاية سورة براءة وإذن فبنهاية هذا المجلد ينتهي عرض القسم الأول من أقسام القرآن ليأتي بعد ذلك القسم الثاني والذي يسميه الحديث الشريف الحسن الذي مر معنا في قسم المئين. لقد رأينا فيما مضى أن لسورة البقرة سياقها الخاص بها، ثم رأينا أن كل سورة جاءت بعدها لها محورها من سورة البقرة، وأن كل سورة جاءت بعد سورة البقرة تفصل في محور من سورة البقرة، وفي امتدادات هذا المحور من السورة نفسها، فسورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة، وفي امتدادات هذه المقدمة، أي: في المعاني التي هي أكثر لصوقا بها، ثم جاءت سورة النساء ففصلت في الآيات الخمس الآتية بعد المقدمة وفي امتدادات هذه الآيات، ثم جاءت سورة المائدة ففصلت في الآيتين اللتين جاءتا بعد الآيات الخمس وفي امتدادات معانيهما، ثم جاءت سورة الأنعام ففصلت في آخر آيتين في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، وفي امتدادات معانيهما، وتأتي بعد ذلك سورة الأعراف، وهي تفصل في المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة، وهو المقطع الذي يتحدث عن قصة آدم عليه السلام كما تفصل في امتدادات هذا المقطع. وبتفصيل السور الخمس الآتية بعد سورة البقرة لمحاورها وامتدادات هذه المحاور تكون أكثر معاني سورة البقرة قد أصابها التفصيل الأول في القسم الأول من أقسام القرآن وتأتي بعد سورة الأعراف سورتا الأنفال وبراءة، ونلاحظ أنهما تفصلان في محور يأتي بعد آيات كثيرة من قصة آدم فهما تفصلان في قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ فلماذا جاء محورا سورتي الأنفال وبراءة بعيدين عن محور سورة الأعراف؟ إن السور الخمس الآتية بعد سورة البقرة مباشرة فصلت في الآيات التسعة والثلاثين

الأولى من سورة البقرة وفي امتدادات معاني هذه الآيات من سورة البقرة؛ ولذلك فإن ما بين الآية (40) من سورة البقرة وما بين الآية (21) التي هي محور سورة الأنفال تكاد تكون امتدادات مباشرة للآيات الأولى، فلم تشكل أي منها محورا خاصا لسورة حتى جاءت الآيات (216، 217، 218) لتشكل محورا خاصا لسورتي الأنفال وبراءة، وجاءت سورتا الأنفال وبراءة لتفصل في هذا المحور وامتداداته، فتم بذلك التفصيل الأول لسورة البقرة ليأتي بعد ذلك في قسم المئين التفصيل الثاني. وبما مر في المجلدات الثلاثة السابقة على هذا المجلد، ومما سيمر معنا في هذا المجلد سنرى: أن كل سورة تأتي بعد سورة البقرة لها محورها من سورة البقرة، وأن كل سورة تأتي بعد سورة البقرة تفصل في محور من سورة البقرة، وفي امتداد من امتداداته، وهكذا يتكرر التفصيل ولكنه في كل مرة يأتي بشكل جديد وبمعان جديدة. إنه بنهاية سورة براءة ينتهي قسم السبع الطوال وقد رأينا وسنرى كيف أن هذا القسم تترابط معانيه وتتكامل سوره، ورأينا أكثر من صورة من صور الربط بين هذا القسم، كما رأينا كيف أن كل سورة تأتي بعد سورة البقرة تفصل في محور من سورة البقرة، على نفس الترتيب الموجود في سورة البقرة، دون اشتراط التعاقب المباشر فقد يأتي محور السورة اللاحقة بعد آيات كثيرة من محور السورة السابقة كما سنرى ذلك في سورتي الأنفال وبراءة. ولكن يلاحظ أنه ولو لم تكن المحاور متعاقبة إلا أنك لو جمعتها مع بعضها فإنك تجد ترابطا فيما بينها فلو أنك وضعت الآيات التي تشكل محاور السور السبع التي جاءت بعد سورة البقرة بجانب بعضها فإنك تخرج بموضوع متكامل مترابط، وهذا معنى سنراه فيما بعد وسنبرهن عليه كثيرا. إنه ليس كل آية في سورة البقرة هي محورا لسورة مستقلة لأن كثيرا من آياتها تعتبر امتدادا لمعاني آيات أخرى وهذا هو السر في أن تفصيل السور مع أنه يأتي على ترتيب

الآيات في سورة البقرة ولكن لا يأتي على ترتيب متعاقب، غير أنك لا تخرج من قسم من أقسام القرآن إلا وقد أخذت تفصيلا جديدا لمعاني سورة البقرة على نوع من أنواع الترتيب ستراه كلما جاءت مناسبة. ومع احتياطنا أن لا نكثر التكرار لكنه لكون الميزة الأولى لهذا التفسير هو العرض لوجهة نظر جديدة في موضوع الوحدة القرآنية فإننا نرى أنفسنا مضطرين لتكرار نرجو ألا يأخذنا القارئ عليه ولنبدأ عرض سورة الأعراف:

سورة الأعراف

سورة الأعراف وهي السورة السابعة بحسب الرسم القرآني وهي السورة السادسة من قسم الطوال وآياتها مائتان وست وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة الأعراف ومحلها في السياق القرآني ومحورها

كلمة في سورة الأعراف ومحلها في السياق القرآني ومحورها: رأينا أن سورة آل عمران فصلت في العشرين آية الأولى من سورة البقرة، ورأينا أن سور: النساء والمائدة والأنعام فصلت فيما بعد ذلك إلى نهاية الآية (29). من سورة البقرة، وفصلت كل واحدة منها في محور خاص بها مع كونها ثلاثتها تخدم ذلك المقطع بالتكامل، ونلاحظ أن آخر آية في سورة الأنعام قالت: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ. وهي تلفت النظر إلى الآية الثانية في محورها من سورة البقرة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مع الآية التي بعدها وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وإذن فإن سورة الأنعام أوصلتنا إلى مقطع جديد في سورة البقرة، وهو الذي فيه الحديث عن قصة آدم، ولقد استقرت قصة آدم في سورة البقرة على قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وتأتي بعد سورة الأنعام سورة الأعراف المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .... لاحظ قوله تعالى في سورة البقرة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ وقوله تعالى في الآية الثالثة في سورة الأعراف اتَّبِعُوا. والناظر إلى سورة الأعراف يرى أنها تتألف من مقدمة، ثم قصة آدم، وبناء عليها، ثم قصص قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، ثم بناء عليها. ثم قصة موسى مع فرعون. ثم قصة بني إسرائيل بعد الخروج من مصر. ثم مواجهة مع بني إسرائيل. ومن تأمل هذه المعاني يجد باختصار أنها نماذج من الهدى الذي أنزله الله خلال العصور على أمم؛ وموقف هذه الأمم من هذا الهدى وما عوقبت به، وكل ذلك بمثابة درس لهذه الأمة، فالسورة تفصيل إذن لمحور خاص هو قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وإذ كان ما قبل هذا في سورة البقرة قصة آدم، وما بعده قصة بني إسرائيل ضمن السياق الخاص لسورة البقرة، فإن قصة آدم وبني إسرائيل ترد هنا بما يخدم المحور الخاص لسورة الأعراف.

في سورة البقرة ذكرت قصة آدم، وهاهنا تذكر، ثم بعد ذلك توجه نداءات لبني آدم يا بَنِي آدَمَ* ليأخذوا هاهنا دروس القصة. وفي سورة البقرة تختم قصة آدم بالقاعدة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ثم تأتي هناك قصة بني إسرائيل- كنموذج على أمة أنزل عليها وحي- وهاهنا تأتي قصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب كنماذج على أمم أنزل عليها وحي، ثم تأتي بعد ذلك قصة بني إسرائيل كأمة أنزل عليها وحي، وفي هذا السياق يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً فمن خلال دروس الماضين يتوجه الخطاب إلى الناس أن يتبعوا الهدى الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وتعطى هذه الأمة دروسا وتوجيهات وقد جاءت قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة في سياق القسم الذي ابتدأ بأمر ونهي اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ أندادا وجاءت قصة آدم هناك، وفيها ذكر لعقوبة من خالف الأمر والنهي وفي الأعراف تفصيلات ذلك؛ ولذلك يأخذ الكلام عن التوحيد والعبادة المحل الأكبر في السورة ويكاد القسم الأخير منها يختص بذلك إن محور سورة الأعراف من سورة البقرة هو قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ولهذا المحور ارتباطاته في سورة البقرة، وامتداداته، وتبدأ سورة الأعراف فتأمر هذه الأمة باتباع ما أنزل إليها، وتخاطب الناس جميعا أن يتبعوا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعد من يتبع وتنذر من يخالف وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ .. فسورة الأعراف تفصل في المحور وامتداداته وارتباطاته، وتبني عليه في سياقها الخاص الآخذ بعضه برقاب بعض ضمن ترابط وتلاحم كاملين يستطيع المتأمل- أدنى تأمل- أن يراهما، وسنرى تفصيل ذلك.

نقول

وسورة الأعراف تبدأ بالأحرف (المص) فهي تبدأ بالأحرف نفسها التي ابتدئت بها سورتا البقرة وآل عمران، مع زيادة (ص) وكنا ذكرنا من قبل أن فواتح السور تؤدي خدمات متعددة منها أنها تعتبر مفاتيح من مفاتيح الفهم للوحدة القرآنية، وسيتضح هذا الموضوع معنا شيئا فشيئا وسنرى أن الحرف (ص) إذا وجد في سورة يكون علامة على شئ له صلة بهذا الموضوع. وكل ما نقوله هنا: إن مجئ الأحرف الثلاثة التي بدئت بها سورة البقرة مع زيادة الحرف (ص) في قسم واحد يشير إلى انطلاقة جديدة بعد جولات: لنتذكر أن سورة البقرة بدأت بقوله تعالى الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثم سارت حتى وصلت إلى قصة آدم التي انتهت بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ والصلة واضحة بين الآيتين هناك، فإذ تأتي سورة الأعراف مبدوءة بنفس الأحرف مع زيادة حرف الصاد، فكأنها تشير إلى ذلك الربط للانطلاق منه إلى تفصيل جديد، إن مجئ سورة الأعراف وابتداءها بقوله تعالى المص أي بالأحرف التي بدأت بها سورة البقرة مع زيادة «ص» التي فهم منها ابن عباس أنها تشير إلى التفصيل كما سنرى، والتي تفصل آية فيها حرف الصاد أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* كل ذلك فيه إشارات لمن تأمل. وسنرى أن لمجئ الصاد هنا زيادة على «الم» معنى خاصا له صلة في الدلالة على السياق القرآني العام، وهو شئ سنراه عند سورة «مريم» وسورة «ص» وهو مرتبط بذكر «ص» هنا، ومن ثم فإننا نؤخر الكلام عنه إلى هناك. نقول: 1 - قال الألوسي في تقديمه لسورة الأعراف: أخرج أبو الشيخ وابن حبان عن قتادة قال: هي مكية إلا آية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وقال غيره إن هذا إلى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مدني. وأخرج غير واحد عن ابن عباس وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا ...... وكلها محكم، وقيل: إلا موضعين، الأول وَأُمْلِي لَهُمْ فإنه نسخ بآية السيف، والثاني خُذِ الْعَفْوَ فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد، وادعى أيضا وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ كذلك وفيما ذكر نظر» 2 - ذكرنا من قبل أن الذين تكلموا عن الوحدة القرآنية، والمناسبات بين السور

إما أنهم تكلموا عن هذا الموضوع من خلال صلة أوائل السورة اللاحقة بأواخر السورة السابقة، أو من خلال الوحدة الموضوعية للقرآن بمعنى: أن المعاني القرآنية تتكامل شيئا فشيئا في هذا القرآن، وكنموذج على الشيئين معا نذكر ما قاله السيوطي في المناسبة بين سورة الأعراف وسورة الأنعام: قال: ومناسبتها لما قبلها أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وأشير إلى ذكر المرسلين، وتعداد الكثير منهم، وكان ما ذكر على وجه الإجمال جئ بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحها وتفصيله، فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة، وقال سبحانه في قصة عاد جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وأيضا قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهو كلام موجز، وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الخ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ قال جل شأنه في مفتتح هذه فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الخ، وذلك من شرح التنبئة المذكورة، وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية، وذلك لا يظهر إلا في الميزان؛ افتتح هذه بذكر الوزن فقال عزّ من قائل وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ثم من ثقلت موازينه: وهو من زادت حسناته على سيئاته، ثم من خفت وهو على العكس، ثم ذكر سبحانه أصحاب الأعراف وهم- على أحد الأقوال-: من استوت حسناتهم وسيئاتهم). وكما ترى فإن في هذه اللفتات معاني صحيحة فالوحدة القرآنية لها أكثر من مظهر 3 - ومما قدم به صاحب الظلال لسورة الأعراف هذه المقتطفات: إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة. وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة .. ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها؛ وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها؛ وتواجه الجاهلية العربية في حينها- وكل جاهلية أخرى كذلك. مواجهة صاحب الحق

الذي يصدع بالحق، وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالا وتفصيلا ونحن نقدم السورة ونستعرضها ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف .. بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج، وتسلك في الطريق .. نجد سورة الأعراف- وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك- تأخذ طريقا آخر، وتعرض موضوعها في مجال آخر. إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري .. في مجال رحلة البشرية كلها من الجنة والملأ الأعلى، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها .. وفي هذا المدى المتطاول تعرض «موكب الإيمان» من لدن آدم «عليه السلام» إلى محمد عليه الصلاة والسلام- تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ. يواجه بها البشرية جيلا بعد جيل، وقبيلا بعد قبيل .. ويرسم سياق السورة في تتابعه: كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب. وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد، وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة؟ إنها رحلة طويلة .. ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة وتقف منها عند معظم المعالم البارزة، في الطريق المرسوم. ملامحه واضحة ومعالمه قائمة، ومبدؤه معلوم، ونهايته مرسومة .. والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة. ثم تقطعه راجعة .. إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى .. لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء، ممثلة في شخصين اثنين .. آدم وزوجه .. أبوي البشر .. وانطلق معهما الشيطان. [ممهلا] من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما، ومأخوذ عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك ومبتلى كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار، ليأخذوا عهد الله بقوة، أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة؛ وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم!. انطلقت البشرية من هناك .. من عند ربها سبحانه .. انطلقت إلى الأرض تعمل وتسعى، وتكد وتشقى، وتصلح وتفسد، وتعمر وتخرب، وتتنافس وتتقاتل، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد .. ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال .. ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال

الرحلة المرسومة .. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص، ومن ثمين وزهيد، ومن خير وشر، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم .. فقد انطلقت في مطلعه! .. وها نحن أولا نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال- أيا كانت هذه الأحمال- ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها. تطلع في الطريق، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان، ووقف يرتقب في خشية ووجل .. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا .. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ويلقى جزاءه .. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية فوجا فوجا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنا لك في هذه الأرض مغتربين: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .. ومع الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر؛ والمصائر المتشابهة. وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها، وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير .. وهذه الوقفات تجئ وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو وكما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة: كلمة تعقيب للإنذار والتذكير .. ثم يمضي. إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول .. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأول .. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام- وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود. ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة وبينما تبلغ المشاهد دائما

كلمة في أقسام سورة الأعراف ومقاطعها

درجة اللألاء والتوهج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع .. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحيانا في مواقف التعقيب؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب! .. وهما- بعد- سورتان مكيتان من القرآن .. !!!. كلمة في أقسام سورة الأعراف ومقاطعها تتألف سورة الأعراف من ثلاثة أقسام، القسم الأول: ويتألف من مقدمة السورة ومقطع واحد، والقسم الثاني: ويتألف من أربعة مقاطع، والقسم الثالث: ويتألف من مقطعين، وسنرى تفصيلات ذلك وأدلته.

القسم الاول

[القسم الاول] مقدمة السورة تبدأ السورة بمقدمة مؤلفة من تسع آيات تحدد مضمون السورة على ضوء محورها وهذه هي: بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) المعنى العام: يذكر الله عزّ وجل في هذه المقدمة أنه أنزل هذا القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن على رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يتحرج في إبلاغه، والإنذار به، وأن الله أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من

المعنى الحرفي

أجل أن ينذر الكافرين وأن يذكر المؤمنين. ثم أمر الله عزّ وجل الناس أن يقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءهم بكتاب من عند الله رب كل شئ ومليكه. ثم نهاهم عن أن يخرجوا عما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غيره، فيكونوا قد عدلوا عن حكم الله إلى حكم غيره، ثم بين أن التذكر قليل، والغفلة كثيرة. ثم هدد الله عزّ وجل هؤلاء الغافلين، مذكرا بعقابه في الدنيا والآخرة، فبين أن كثيرا من القرى أهلكها الله بمخالفة رسله وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة، وأن هذه القرى الهالكة منهم من جاءهم أمر الله وبأسه ونقمته ليلا، ومنهم من جاءهم بأسه في قيلولتهم ووقت استراحتهم وسط النهار، وكلا الوقتين المذكورين وقت غفلة ولهو، فما كان قول هؤلاء المكذبين عند مجئ العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا، ثم بين تعالى أنه سيسأل الجميع، الرسل والمرسل إليهم، ويسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به. ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته. ويخبر الله الجميع بما قالوا وما عملوا من قليل وكثير، وجليل وحقير، لأنه تعالى الشهيد على كل شئ، لا يغيب عنه شئ، ولا يغفل عن شئ بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. مع الإعلام بكون الوزن للأعمال بالحق، فلا يظلم تعالى أحدا، والوزن يتحدد به الفلاح والخسران، فالمفلح من ثقلت موازينه، والخاسر من خفت موازينه، بسبب ظلمهم في مواقفهم من آيات الله. المعنى الحرفي: المص نقل ابن كثير هنا ما رواه ابن جرير عن ابن عباس في معناها (أنا الله أفصل) ونقل كذلك هذا القول عن سعيد بن جبير. وقال النسفي: (قال الزجاج: المختار في تفسيره ما قال ابن عباس رضي الله عنه: أنا الله أعلم وأفصل) وأقول: إن هذه الأحرف ليس في تفسيرها نص، وكل ما قاله المفسرون هو ملاحظات لاحظوها ففهموا منها فهما، وقد رأينا في أول تفسير سورة البقرة مجموعة ملاحظات حول هذه الأحرف، ونلاحظ هنا أن ابن عباس قد فهم أن كل حرف من هذه الأحرف هو جزء كلمة يتشكل من المجموع جملة تنسجم مع معنى السورة كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي هذا كتاب وهو القرآن فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي شك فيه، وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه، أو المراد: فلا يكن صدرك حرج منه بتبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم

[سورة الأعراف (7): آية 3]

عنه وأذاهم فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينشط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم والنهي متوجه إلى الحرج. والمعنى: هذا الكتاب أنزلته إليك فلا يكن بعد إنزاله حرج في صدرك لِتُنْذِرَ بِهِ أي: أنزل إليك لإنذارك به وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: لتنذر به الكافرين، وتذكر به المؤمنين، فهذا الكتاب للإنذار والذكرى اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: الكتاب والسنة لأن كليهما وحي منزل. فما قصه الله علينا في كتابه، أو قصه علينا رسوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الماضين، وما أمر الله به في القرآن أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك وغيره من الكتاب والسنة وحي وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله، أو لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غيره؛ فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره أَوْلِياءَ أي ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره والمعنى: تتذكرون تذكرا قليلا؛ ومن ثم، فالذكر الكثير والتذكر الكثير هما طريق الهداية من الانحراف وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كثير من القرى أردنا إهلاكها فَجاءَها بَأْسُنا أي فجاء أهلها عذابنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ أي بائتين في الليل، أو قائلين في النهار، من القيلولة، وخص هذان الوقتان لأنهما وقتا الغفلة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع. قال النسفي: (وقوم لوط عليه السلام أهلكوا بالليل وقت السحر، وقوم شعيب عليه السلام وقت القيلولة) فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاؤهم وتضرعهم إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا أي لما جاءهم أوائل العذاب إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي فلنسألن المرسل إليهم وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أي عما أجيبوا به فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي فلنقصن على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بِعِلْمٍ أي عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة، وأقوالهم وأفعالهم وَما كُنَّا غائِبِينَ أي عنهم وعما وجد منهم وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ أي: ووزن الأعمال يوم يسأل الله الأمم ورسلهم العدل. قال النسفي: (ثم قيل: توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان إظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة) وقيل هو عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، والله أعلم بالكيفية التي يتم بها ذلك وسيأتي كلام على هذا الموضوع في الفوائد فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر- وهي الحسنات- أو ما توزن به حسناتهم فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون وَمَنْ خَفَّتْ

نقول

مَوازِينُهُ أي هم الكفار فإنه لا إيمان لهم ليعتبر معه عمل. فلا يكون في ميزانهم خير فتخف موازينهم فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي يجحدون بالآيات الحجج، والظلم بها وضعها في غير موضعها أي جحودها وترك الانقياد لها. نقول: وقف صاحب الظلال وقفات كثيرة عند الآيات التي مرت معنا والتي تشكل مقدمة سورة الأعراف، فأطنب وأجاد- رحمه الله- وهذه مقتطفات من كلامه عن الآيات، وخاصة عند قوله تعالى كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ .. قال رحمه الله: «كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير .. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة لا يدرك ذلك- إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها، وفي مظاهرها وفروعها، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة- صلى الله عليه وسلم- ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها .. وهذا الموقف ليس مقصورا على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك، وما كان في الأرض من حولها .. إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة ... وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة: إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها- وهذه هي «الرجعية» البائسة المرذولة- وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه «الرجعية» مرة أخرى كذلك؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول- صلى الله عليه وسلم- وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية، والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات. وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام

العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضا! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. ويعلم- من طبيعة الواقع- من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار. ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهادا كبيرا .. والبشرية اليوم فى موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب، مأمورا من ربه أن ينذر به ويذكر؛ وألا يكون في صدره حرج منه وهو يواجه الجاهلية، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق .. لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر والسطوح والأعماق». وقول الله- سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ .. يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام، ويعلم أنه إنما يستهدف أمرا هائلا ثقيلا، دونه صعاب جسام .. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور، وقيم وموازين، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام مغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس، ومن تصورات الجاهلية في العقول، ومن قيم الجاهلية، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الحق التي يحملها، غريبة على البيئة، ثقيلة على النفوس، مستنكرة في القلوب، كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم في التصورات والأفكار، والقيم والموازين، والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد، والأوضاع والارتباطات .. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل الحرج الذي يدعو الله- سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شئ منه، وأن يمضي به ينذر ويذكر، ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء .

فوائد

ولأن الأمر كذلك من الثقل، ومن الغرابة، ومن النفرة، ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم، ويذكرهم بمصائر المكذبين. ويعرض عليهم مصارع الغابرين .. جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ* فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ* فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ* وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ «وفي الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كان الكتاب منزلا إليه بشخصه كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ .. وفي الخطاب للبشر كان الكتاب- كذلك- منزلا إليهم من ربهم: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .. فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فالكتاب منزل إليه ليؤمن به وينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره .. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتخصيص والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتابا، ويختاره لهذا الأمر. ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر، وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر .. » فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ قال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» حدثنا بذلك ابن حميد ... عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» قال: قلت لعبد الملك بن ميسرة (راوي الحديث عن ابن مسعود): كيف يكون ذلك؟ قال فقرأ هذه الآية فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ 2 - بمناسبة قوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم

مسئول عن رعيته، فالإمام يسأل عن رعيته، والرجل يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده» قال الليث: وحدثني ابن طاوس مثله، ثم قرأ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة. وبمناسبة الآية نفسها قال الألوسي فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بيان- كما قال الطبرسي- لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي. وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ماذا أجيبوا، والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم، والمنفي في قوله تعالى في سورة الرحمن فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سؤال الاستعلام فلا منافاة بين الآيتين ..... «وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه يقال للذين أرسل إليهم: هل بلغكم الرسل؟ ويقال: للمرسلين ماذا ردوا عليكم. وأخرج أيضا عن أبي عبد الرحمن أنه تلا هذه الآية فقال: يسأل العبد يوم القيامة عن أربع خصال يقول ربك: ألم أجعل لك جسدا ففيم أبليته؟ ألم أجعل لك علما ففيم عملت بما علمت؟ ألم أجعل لك مالا ففيم أنفقته في طاعتي أم في معصيتي؟ ألم أجعل لك عمرا ففيم أفنيته؟. وأخرج هو وغيره عن طاوس أنه قرأ ذلك فقال: الإمام يسأل عن الناس، والرجل يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده» ولعل الظاهر أن سؤال كل من المرسل إليهم والمرسلين هنا عن أمر يتعلق بصاحبه، ولا يأبى هذا أن المكلفين يسألون عن أمور أخر، والمواقف يوم القيامة شتى، ويسأل السيد ذو الجلال عباده فيها عن مقاصد عديدة فطوبى لمن أخذ بعضده السعد فأجاب بما ينجيه. وتخصيص سؤال المرسلين عليهم السلام بما ذكرنا هو الذي تشهد به الأخبار وتدل عليه الآثار وفي القرآن ما يؤيد ذلك فقد قال سبحانه يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ. (المائدة: 109) 3 - بمناسبة قوله تعالى وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ قال الألوسي عن هذا الموضوع: «والوزن- كما قال الراغب- معرفة قدر الشئ يقال: وزنته وزنا وزنة، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان. واختلف في كيفيته يوم القيامة. والجمهور- كما قال القاضي- على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة، وقطعا للمعذرة، كما يسألون عن أعمالهم

فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم، ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها. ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه. والبيهقي وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون فيقول: لا يا رب فيقول سبحانه: أفلك عذر وحسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب فيقول جل شأنه: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة من هذه السجلات؟ فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شئ» وهذه الشهادة- على ما قاله القرطبي نقلا عن الحكيم الترمذي- ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شئ وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ومن المستحيل أن يؤتي لعبد واحد بكفر وإيمان معا، فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات. وأيد ذلك بقوله جل وعلا في الحديث «إن لك عندنا حسنة» دون أن يقول سبحانه: إيمانا. «وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض. وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة، كما ورد في حق أبي طالب. وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين. وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ولا يخفف بها عنهم من العذاب شئ، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي أن المعتمد أنه مخصوص به، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية» «وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسع فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وفي رواية ابن المبارك

واللالكائي عنه قال: يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة. من يزن هذا؟ الحديث، اه كلام الألوسي قال ابن كثير بمناسبة ذكر المؤمنين في الآية: (فصل) والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال، وإن كانت أعراضا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما قال البغوي: «يروى هذا عن ابن عباس» كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان- أو غيايتان- أو فرقان من طير صواف. ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الروح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح» وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق. وقيل: يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله: فيقول يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم، فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة» رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه. وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث «يؤتي يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ثم قرأ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد» وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا. فتارة توزن الأعمال. وتارة محالها، وتارة يوزن فاعلها. والله أعلم» أقول: لقد تسرع بعضهم في المقام إذ أنكر على أهل العلم تحقيقاتهم، فما كل من حقق في مثل هذه الشئون حقق بعقلية غير إسلامية، ولا كل من تكلم تكلم ليجادل، إن هناك كثيرا من الأمور لا بد فيها من التحقيق، وإذا ترك أهل الحق الكلام فيها فإن ذلك يعطي فرصا لأهل الضلال أن يشككوا أو ينتقدوا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: لاحظنا أن محور سورة الأعراف هو قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ولاحظنا أن المقدمة ذكرت أن هذا القرآن هدى الله، وأن الله أنزله وأمر باتباعه، ثم بين ما فعل بالقرى التي رفضت هديه، وماذا سيكون حال الجميع يوم القيامة. والصلة واضحة بين مقدمة السورة وبين محورها، ومن أجل زيادة الإيضاح نقول: 1 - في محور السورة من البقرة نجد قوله تعالى قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً وفي مقدمة سورة الأعراف نجد قوله تعالى كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وبينهما اتصال واضح. 2 - في محور السورة نجد قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ وفي مقدمة سورة الأعراف نجد اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وبينهما اتصال واضح. 3 - في محور السورة نجد قوله تعالى فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وفي مقدمة السورة نجد قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ والصلات بين ما ورد في المحور وبين هذه المعاني واضحة. فالمقدمة عرضت معاني المحور، وقدمت للسياق الخاص لسورة الأعراف بما يناسب معانيها- كما سنرى- فلننتقل إلى المقطع الأول: *** المقطع الأول ويمتد من الآية العاشرة إلى نهاية الآية (58) ويبدأ المقطع بالحديث عن قصة الإنسان، وعن قصة آدم عليه السلام، ثم تأتي نداءات للجنس البشري مبدوءة بقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ*! يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يا بَنِي آدَمَ لا

يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ... يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ويختم المقطع بفقرة مبدوءة بقوله تعالى وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ والملاحظ أن المقطع يبدأ بآية فيها كلمة الشكر: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وينتهي بآية فيها كلمة الشكر: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ إن وحدة معاني المقطع وكون المقطع اللاحق يبدأ بعرض قصص أقوام مما يشير إلى بدء جديد كل ذلك دلنا على بداية المقطع ونهايته ومن أدنى تأمل للمقطع نرى أنه يتألف من ثلاث فقرات وهذا هو المقطع: [سورة الأعراف (7): الآيات 10 الى 58] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

"الفقرة الأولى"

«الفقرة الأولى» المعنى العام للمقطع: يبدأ المقطع بذكر امتنان الله على عبيده فيما مكن لهم من أنه جعل الأرض قرارا وجعل فيها رواسي وأنهارا، وجعل فيها منازل وبيوتا، وأباح لهم منافعها، وسخر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش أي مكاسب وأسبابا يكسبون منها، ويتجرون ويتسببون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر. ثم نبه الله عزّ وجل بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، مبينا لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم؛ ليحذروه، ولا يتبعوا طرائقه، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين، وصوره بشرا سويا، ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود تعظيما لشأن الله تعالى، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن مع الساجدين. ثم يقص الله ما كان بعد ذلك، إذ سأل إبليس عما أحرجه وألزمه واضطره ألا يسجد وقد أمره بالسجود، فكان اعتذاره بأنه خير من آدم، وهذا هو الذي منعه من السجود- في زعمه- وهو اعتذار أكبر من الذنب، كأنه امتنع عن الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه: أنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؛ ثم بين بأنه خير منه بأنه خلق من نار والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص، فشذ من بين الملائكة لترك السجود، فلهذا أبلس من الرحمة أي: أويس من الرحمة، فأخطأ، قبحه الله في قياسه، ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضا فإن الطين

من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة لهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره بالرجوع، والإنابة، والاستكانة، والانقياد، والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة، وأصر إبليس- عليه اللعنة- على المعصية، فأصدر الله أمره الضرورى الكوني لإبليس بالخروج من الجنة؛ بسبب عصيانه الأمر، وخروجه عن الطاعة؛ لأنه ما كان له أن يبقى فيها مع كبره وعصيانه، أمره أن يخرج صاغرا ذليلا حقيرا؛ معاملة له بنقيض قصده، ومكافأة لمراده، فعند ذلك استدرك اللعين، وسأل النظرة إلى يوم الدين، فأجابه تعالى إلى ما سأل؛ لماله في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، فلما استوثق اللعين من النظرة، أخذ في المعاندة والتمرد، معلنا بعد أن أمن أخذ الله السريع أنه كما أضله الله وأغواه فإنه سيضل عباد الله ويغويهم وسيقعد لذرية آدم- الذي أبعد بسببه- على طريق الحق، وسبيل النجاة- صراط الله- ليضلهم فلا يعبدوا الله ولا يوحدوه، وأعلن أنه سيشككهم في آخرتهم، ويرغبهم في الدنيا، ويسفه عليهم أمر دينهم، ويشهي لهم المعاصي، وبالجملة فإنه أعلن أنه سيأتي الإنسان من كل طريق، فالخير يصدهم عنه، والشر يحسنه لهم، حتى لا يكون أكثر الخلق موحدين. هذه هي المعاني التي أعلنها إبليس يوم طرده الله من رحمته، وكان إعلانه هذا أثرا عن توهمه وظنه وتقديره، وقد تحقق ذلك على أرض الواقع، فأكد الله تعالى اللعنة على إبليس والطرد والإبعاد، والنفي عن كل الملأ الأعلى، وقد أوعد إبليس ومن تبعه بأن تملأ جهنم منهم أجمعين؛ على تمردهم وعصيانهم، ثم ذكر الله تعالى كيف أنه أباح لآدم عليه السلام ولزوجته حواء الجنة أن يأكلا منها، من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة، فعند ذلك حسدهما الشيطان، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة؛ ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، وقال كذبا وافتراء لهما: إن الله ما نهاكما عن هذه الشجرة إلا لئلا تكونا ملكين أو خالدين في الجنة. ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما، وحلف لهما بالله أنه ناصح لهما، كيف لا وهو أقدم منهما بالمكان، وأعلم بما فيه، فخدعهما فصدقاه لأنه حلف لهما بالله؛ فانخدعا فأكلا من الشجرة، فعوقبا مباشرة بكشف العورات فأخذا يتستران بورق الجنة، وأنبههما الله عزّ وجل كيف يتركان الأمر، ويخالفان النهي، وينسيان التحذير، فاعترفا لله وطلبا المغفرة فغفر، ولكن الذنب لا يمر. فأمر الجميع بالهبوط إلى الأرض، وأعلمهم أنهم فيها متعادون؛ جند الله وجند الشيطان، وأن لهم في الأرض

قرارا- وأعمارا مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم وأحصاها القدر، وأن الأرض لهم دار مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم، وقبورهم، ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ويجازي كلا بعمله. وهكذا فبعد مقدمة السورة الآمرة الناهية، الواعظة المذكرة، المنذرة للإنسان تبدأ القصة قصة الجنس البشري يقول صاحب الظلال: تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض .. وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض. وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات مع الكون، ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها. والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ .. وليس هذا الا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة. ويعرض قصة النشأة ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية ومؤثرات عميقة ...... وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها، ومصائر المرتحلين جميعا .. وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة بين هذا العدو الجاهر بالعداوة، وبني آدم جميعا. كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة، ومنافذ الشيطان إليه منها. ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل وللإنذار والتحذير .. تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد .. وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر. وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم، ويذكرهم وينذرهم، ويحذرهم مصيرا كهذا المصير ..... »

وبمناسبة عرض قصة آدم عليه السلام وما جرى تأتي بعد ذلك نداءات لبني آدم، أولها نداء بترك العري وصلة ذلك بما حدث لآدم وحواء من انكشاف عورتيهما بعد ما أكلا من الشجرة واضحة، وثانيها نداء بالتحذير من فتنة الشيطان وصلة ذلك بما حدث لآدم من فتنة الشيطان واضحة، وثالثها نداء بأخذ الزينة للعبادة وترك الإسراف في الطعام والشراب، وصلة ذلك بما حدث لآدم بسبب الطعام واضحة. وهكذا تأتي التعقيبات والتوجيهات والدروس المبنية على قصة آدم عليه السلام فالصلات واضحة بين ما مر وما سيأتي: يقول صاحب الظلال: ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور، والخصف من ورق الجنة، ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم .. لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة، والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك، حيث كانوا تحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا، ويحرمون أنواعا من الثياب، وأنواعا من الطعام في فترة الحج، ويزعمون أن هذا من شرع الله، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم .. ومن ثم يجئ في استعراض قصة البشرية، أو في التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية .. وفي كل جاهلية في الحقيقة .. أليست سمة كل جاهلية هي العري، والكشف، وقلة الحياء من الله، وقلة التقوى؟ .... ) ولنعد إلى عرض المعاني العامة: فبعد عرض قصة بداية الوجود الإنساني على الأرض ومقدماتها وحيثياتها وقواعدها وقوانينها، ها نحن الآن على الأرض، تجري علينا أحكام هذه المقدمة وقواعدها وقوانينها، فإذا استقرت هذه المعاني يتوجه الله عزّ وجل بأربعة نداءات لبني آدم: النداء الأول يذكرهم الله عزّ وجل بما امتن عليهم به مما جعل لهم من اللباس والريش. فاللباس لستر العورات وهي السوءات، والريش ما يتجمل به. فالأول من

الضروريات، والريش من التكميلات والزيادات، ثم بين لهم أن لباس التقوى- الذي هو الإيمان والعمل الصالح وسمت ذلك- خير وأفضل وأحسن، وأن هذا وهذا من آيات الله التي تدل على وجوده وقد جعل الله هذه الآية لمن يتذكر ويتعظ. فإذا اتضح للمتذكرين هذا وهذا: نعمة الله عليهم باللباس والزينة، ونعمة الله بلباس التقوى الذي هو أفخر ما يزين الإنسان. يوجه الله عزّ وجل النداء الثاني لبني آدم، محذرا لهم من إبليس وقبيله، مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والفساد، والتسبب في هتك عورته، بعد ما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، فلا يكن سببا لفتنتنا نحن بني آدم، فينزع عنا اللباس الحسي، واللباس المعنوي، فتظهر العورات كلها، وقد فعل عليه لعنة الله. فخلعت البشرية- إلا قليلا- اللباس الحسي والمعنوي. ثم بين تعالى أن الشيطان وجنده يروننا ولا نراهم، وأن سنة الله أن يجعل الشياطين أولياء للكافرين؛ يطيعونهم ويتبعون أوامرهم، وهذا هو الواقع، فحيثما كان إيمان كان لباس حسي ومعنوي، وحيثما كان الكفر لم يبق هذا ولا هذا، وبين ذلك ناس يخلعون أو يلبسون على قدر قربهم من الكفر أو الإيمان. ثم بين تعالى كيف أن كثيرين يفعلون الفواحش التي لا تتفق مع اللباس الحسي والمعنوي، ويدعون أنهم يفعلون ذلك تقليدا للآباء، وأنهم يفعلون ذلك طاعة لله، وكذبوا؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان ولا يأمر بالفحشاء، وما يقولون إلا جهلا بالله وشرعه وأوامر دينه، وفي هذا المقام أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين أن الله يأمر بالعدل والاستقامة في عبادته بأن تكون في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات، فيما أخبروا به عن الله، وما جاءوا به من الشرائع. وبالإخلاص له في عبادته؛ فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك، بمثل هذا يأمر الله ولكن كما كان في البدء ضلال وهدى، فسيبقى ضلال وسيبقى ناس يتخذون الشياطين أولياء من دون الله، ويظنون أنهم على هدى، كما نرى الآن المنحرفين عن أمر الله فما من واحد منهم إلا ويظن أنه النموذج الأعظم للإنسان العظيم المحيط بكل شئ، وإنما قد نفخ الشيطان فيه من الغرور. ثم يوجه الله عزّ وجل النداء الثالث لبني آدم أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد، بستر العورات، ولبس الجميل، وأن يأكلوا ويشربوا بلا سرف، لأن الله لا يحب

المسرفين. تلك شريعة الله التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعلان عنها، إباحة الزينة، والطيبات وكيف لا والله خلقها للمؤمنين في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسا في الدنيا فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يشركهم فيها أحد من الكفار؛ فإن الجنة محرمة على الكافرين. فشريعة الله إذن إباحة الزينة والطيبات، وإنما نهى الله- عزّ وجل- عن الخبائث، وحرم وضع الزينة في غير موضعها، فما أحلى شريعة الله، وما أجمل آياتها، وكم فصل الله هذه الآيات للعالمين، ثم حدد الله- عزّ وجل- ما حرمه، وهي الفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم، والبغي، والشرك، والافتراء على الله، فأما الإثم فالمعصية، وأما البغي: فإن تعتدي على الناس بغير حق، وأما الشرك: فإن تعبد مع الله غيره، وأما القول على الله بغير علم: فإن تصفه بغير صفته، أو تنسب له ما لم يقله ولم يحكم به. ثم أنذر تعالى أن لكل قرن ميقاتهم المقدر لهم، لا يستأخرون عن الأجل المحدد لهم ساعة ولا يستقدمون؛ لعل الناس يتعظون فيبقوا عند ما أحل الله، ويتركوا ما حرم. ثم يوجه الله عزّ وجل النداء الرابع لبني آدم: أنه في حالة بعثته رسولا يقص على الناس آياته فإن سنته أن من ترك المحرمات وفعل الطاعات فلا خوف عليه فيما يستقبله، ولا هو يحزن على ما خلفه، وأن من كذب بآيات الله واستكبر عن العمل بها فإنه من أصحاب النار خالدا فيها أبدا. هذه معاني النداءات الأربعة لبني آدم وهي المعاني الفطرية التي ينبغي أن يعيها كل إنسان عقل قصة أبيه آدم، وعقل قصة البداية كلها. وختمت النداءات بقوله تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وهي نفس المعاني التي تدور حولها سورة الأعراف التي محورها في سورة البقرة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ثم يتجه السياق فيتكلم بمجموعة آيات عن الذين كذبوا بآيات الله، وبمجموعة آيات عن المؤمنين، فبين بالمجموعة الأولى أنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله

الكذب، أو يكذب بآيات الله المنزلة، وأن هؤلاء يأخذون ما كتب لهم في الدنيا من خير وشر، ورزق وجاه، وسعادة أو شقاء، ثم تبدأ شقاوتهم الحقيقية من لحظة الموت إذ تدعوهم الملائكة عند الموت، وعند قبض أرواحهم إلى النار، فتؤنبهم وتقرعهم، سائلة عن آلهتهم التي عبدوها وأخلصوا لها من دون الله أين هي، تأتيهم وتخلصهم، فلم يكن عندهم جواب إلا الاعتراف بأن هذه الآلهة المزعومة لا نفع عندها ولا ضر، وإلا الاعتراف بأنهم كافرون. هؤلاء يقال لهم يوم القيامة ادخلوا مع أمثالكم من الأمم السالفة، الكافرة من الجن والإنس في النار، التي كلما دخلت فيها أمة لعنت هذه الأمة أختها، ثم إذا اجتمعوا فيها جميعا قال المتأخرون- شاكين إلى الله- أن المتقدمين هم سبب ضلالهم، ودعوا الله أن يذيق هؤلاء ضعف العذاب على ما ورطوهم في الكفر، فيكون الجواب: أن الجميع يستحقون ضعف العذاب ولكنهم لجهلهم- حتى بعد دخول النار- لم يعلموا هذا، وعندئذ يقول المتقدمون للمتأخرين شامتين بالمتأخرين: فذوقوا العذاب بسبب كسبكم، وإن ادعاءكم الفضل علينا لم ينفعكم شيئا، ثم يقرر الله عزّ وجل أن المكذبين بآياته المستكبرين عنها لا يرفع لهم عمل صالح، ولا يتقبل منهم دعاء ولا تفتح لأرواحهم- يوم يتوفون- أبواب السماء، وأن الجنة عليهم حرام؛ وذلك جزاء إجرامهم، ولهم زيادة على هذا، جهنم هي فراشهم، وهي لحافهم وذلك جزاء ظلمهم. وبعد أن ذكر حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء: الذين آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم، وما أسهل هذا وأطيبه، وكيف لا ولم يكلفهم الله إلا ما يستطيعونه. هؤلاء لهم الجنة خالدين فيها أبدا- وما أطيبها من دار، لا غل في صدور أهلها وتجري من تحتهم الأنهار، وإذ نالوا هذه الكرامة فإنهم يحمدون الله الذي هداهم لطريق الجنة، معترفين بأنه لولا الله ما اهتدوا، ذاكرين أن ما جاءتهم الرسل به حق، وكافأهم الله على هذا الاعتراف بأن أعلمهم أن هذه الجنة قد أورثهم الله إياها بعملهم، فبسبب أعمالهم نالتهم الرحمة، فدخلوا الجنة وتبوءوا منازلهم، وكل ذلك بفضل الله. هم اعترفوا لله بفضله، وهو جل جلاله شكر لهم عملهم زيادة في إكرامهم. وإذ نال المكذبون ما يستحقون، ونال المؤمنون ما يستحقون، وإذ عرض الله لنا عاقبة المكذبين والمصدقين، قص علينا ما جرى من حوار بين أهل الجنة وأهل النار،

وبين أهل الأعراف وأهل الجنة وأهل النار، ومن هذا الحوار نعرف عاقبة الكبر والكفر، وعاقبة الإيمان والعمل الصالح. يخبر تعالى أن أهل الجنة يخاطبون أهل النار على جهة التقريع والتوبيخ إذ استقروا في منازلهم فيقولون لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قالوا: نعم فنادى مناد أن لعنة الله مستقرة على الظالمين، الذين صدوا الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه، وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبل معوجة غير مستقيمة، وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون، يكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به؛ فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل، لأنهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس أقوالا وأعمالا، ولما ذكر الله تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبه أن بين الجنة والنار حجابا: وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة، وهو السور الذي وصفه الله في سورة الحديد فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهو الأعراف جمع عرف، وفي الأصل فكل مرتفع من الأرض تسميه العرب عرفا، وحاصل الكلام في أهل الأعراف: أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم هؤلاء أهل الأعراف يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه، يحبون أهل الجنة ويطمعون أن يدخلوا الجنة، وهم داخلوها إن شاء الله. فإن الله ما جعل الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم. هؤلاء أصحاب الأعراف يحبون أهل الجنة كما رأينا، وإذا رأوا أصحاب النار تعوذوا بالله أن يجعلهم معهم، وكما أن أهل الجنة يقرعون أهل النار فإن أهل الأعراف يقرعون أهل النار، فينادون رجالا يعرفونهم من أهل النار بسيماهم: ما أغنى عنكم جمعكم (أي كثرتكم) واستكباركم من عذاب الله شيئا بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال. وعند ما يقول أهل الأعراف ما يقولونه يقول الله لأهل التكبر والأموال أي: لأهل النار عن أهل الأعراف أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته ثم يأمر بإدخال أهل الأعراف الجنة فما أكثر حسرة أهل النار. ثم يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك، ينادي الرجل أباه أو أمه فيقول له: قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال لهم

أجيبوهم، فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين؛ بما كانوا يعملونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهوا ولعبا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها، عما أمروا به من العمل للآخرة، ولذلك فإنهم يعاقبون يوم القيامة بأن يعاملهم الله معاملة المنسي من الخير، يتركهم في النار كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم ذاك وبسبب جحودهم بآيات الله. وبعد أن بين لنا حال أهل الجنة وأهل النار من خلال هذا الحوار ختم المقطع بفقرة طويلة: بدأها بالإخبار عن إعذاره إلى الكافرين، بإرسال الرسول إليهم بالكتاب وأنه كتاب مفصل مبين فضله الله على علم. فكلما ازداد الخلق علما بهذا الكتاب ازدادوا إيمانا به، لأن فيه ما يعجز ويبهر وتقوم به الحجة على الخلق أجمعين، ومع كونه فى غاية التفصيل، ومع كونه مظهر علم الله المحيط والشامل والكامل والمنزه عن الجهل والخطأ وقد جعل فيه الهداية والرحمة للمؤمنين تركوا العمل به. هذا الكتاب تحدث عن كل شئ ومما تحدث عنه أمر الدنيا والآخرة ولا يزال يجئ من تأويله أمر حتى يتم يوم الحساب، وحتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. فيتم تأويله يومئذ أي يوم القيامة، وعندئذ يعترف الذين تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا أن رسل الله قد جاءوا بالحق، ويطلبون وقتذاك من يشفع لهم، ويتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، زاعمين أنهم لو عادوا لعملوا غير عملهم الأول وأنى لهم هذا وهذا؟ فقد خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها وذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، فلا يشفعون لهم ولا ينصرونهم ولا ينقذونهم مما هم فيه. إنها النهاية العادلة لهؤلاء المجرمين المكذبين المستكبرين. وفي هذا السياق تأتي آية هي نموذج على هذا الكتاب الذي أنزله الله بعلم والذي فصل فيه بعلم. وهي تذكر بالله وقدرته وتعطي ما لله لله، وسنؤجل الكثير مما فيها إلى التفسير الحرفي وفوائده. يخبر الله تعالى في هذه الآية أنه خالق العالم. سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام. قال ابن كثير (واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس) أو هو يوم آخر؟ ثم يذكر تعالى استواءه على العرش، ثم يذكر أنه يغشي الليل النهار يطلبه سريعا، وأن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره،

فالجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته فهو الذي له الخلق، ومن كان هذا شأنه فله الأمر، وليس لأحد أن ينازعه حق الأمر فهو الإله والخلق عبيد، وليس من أحد له حق الأمر معه إلا بإذنه ويختم الله عزّ وجل الآية بالثناء على نفسه تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وفي هذا السياق يرشدنا تعالى بعد أن عرفنا على قدرته وعلمه إلى دعائه الذي فيه صلاحنا في دنيانا وأخرانا، ويرشدنا أن يكون هذا الدعاء على حال التذلل والاستكانة والخشوع بأن يجتمع فيه التضرع والخفية وقد فسر ابن جرير تضرعا فقال: تذللا واستكانة لطاعته. وفسر خفية: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهارا مراءاة. وقد بين تعالى أنه لا يحب المعتدين لا في الدعاء ولا في غيره. ثم نهى عن الإفساد في الأرض وخاصة بعد الإصلاح، فإنه إذا كانت الأمور سائرة على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل إليه خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب مبينا أن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره. وبعد أن ذكر أنه خالق السموات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر، يعود السياق ليعرفنا تعالى على ذاته من خلال عنايته ورعايته ورحمته بعباده، ويذكرنا في الوقت نفسه باليوم الآخر، فأخبر أنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي المطر الذي هو مظهر من مظاهر رحمته العظمى بخلقه، حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا أي من كثرة ما تحمل من الماء يسوقه الله إلى أرض مجدبة ميتة لا نبات فيها فيخرج به من كل الثمرات، فكما يحيي الله هذه الأرض بعد موتها كذلك يحيي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة، فمن كان له قلب فإنه يتذكر، ثم ضرب الله مثلا للمؤمن، والكافر بالبلد الطيب، والبلد الخبيث، فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه سريعا وحسنا وطيبا ومباركا، وأما البلد الخبيث كالسباخ وغيرها فإن نباته لا يخرج إلا خبيثا لا خير فيه، فكذلك المؤمن ينزل على قلبه القرآن فينمو إيمانه وينمو الخير في قلبه، وأما الكافر فلا يزيده الوحي إلا عنادا، ويختم الله المقطع بالتذكير أنه يصرف الآيات لقوم يشكرون. ذكرنا في بداية المقطع بتمكيننا في الأرض، وجعله لنا فيها معايش لنشكر، وذكرنا بما أنعم علينا من نعمة الوحي في آخر المقطع لنشكر، فمن لم تستجلب نعمة الله في الكون

كلمة في السياق

شكره، ومن لم تستجلب آيات الله في كتابه شكره فأي قلب عاق قلبه؟. كلمة في السياق: 1 - في سورة البقرة جاءت قصة آدم بعد قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وفي سورة الأعراف جاءت قصة آدم بعد قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وفي سورة البقرة جاءت قصة آدم، وبعدها مباشرة خطاب لبني إسرائيل، وهاهنا تأتي قصة آدم وبعدها خطابات لبني آدم، ثم عرض لقصص أقوام انحرفوا عن أمر الله ثم تأتي قصة بني إسرائيل، فههنا تفصيل لمحور السورة وامتداداته وارتباطاته، وهاهنا بناء عليه ودروس في شأنه. 2 - بدأت السورة آمرة باتباع ما أنزل الله، ناهية عن اتخاذ غيره وليا من دونه، وأنذرت وذكرت بما فعل بالأقوام الذين اتخذوا من دون الله أولياء، ثم ذكرت بأن حكمة الله في استخلاف الإنسان والتمكين له هى استخراج شكره. ثم قصت علينا قصة آدم وفيها على لسان الشيطان وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ثم انتهى المقطع بقوله تعالى كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ فما خلق الله للإنسان فمن أجل استخراج شكره، وما أنزل عليه من آيات فمن أجل استخراج شكره، ومقدمة السورة والمقطع الأول فيها يبينان طريق الشكر، وما يتنافى معه. 3 - في بداية المقطع حديث عن الخروج من الجنة وأسباب ذلك، وفي أواسط المقطع حديث عن العودة إلى الجنة، وحديث عن النار، وفيما بين ذلك وبعده حديث عن طريق ذلك. فالمقطع له وحدته وله صلاته بمقدمة السورة، وهو والمقدمة كالمقدمة لما يأتي بعد ذلك من السورة، ولنا عودة إلى السياق فلنبدأ بعرض المعنى الحرفي للمقطع: المعنى الحرفي للفقرة الأولى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو أقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ المعايش جميع معيشة وهي ما يعاش به من

[سورة الأعراف (7): آية 11]

المطاعم والمشارب وغيرهما قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي شكركم قليل، أي تشكرون شكرا قليلا. وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه بعد ذلك، أو خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء، أو الخلق لآدم والتصوير للذرية. ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي لم يكن ممن سجد لآدم عليه السلام. قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي أي شئ منعك من السجود إِذْ أَمَرْتُكَ السؤال عن المانع من السجود- مع علمه به- للتوبيخ، ولإظهار معاندته، وكفره، وكبره، وافتخاره بأصله، وتحقيره أصل آدم، وفي الآية دليل لمن ذهب من الأصوليين إلى أن الأمر يفيد الوجوب قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وهي جوهر نوراني وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي وهو ظلماني، وفي الفوائد كلام عن هذا. قالَ فَاهْبِطْ مِنْها أي إن كنت تتكبر فاهبط من الجنة أو من السماء لأنه كان فيها وهي مكان المطيعين والمتواضعين فَما يَكُونُ لَكَ أي فما يصح لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها- أي وتعصي فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أي من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه، يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان لتكبرك، وبه يعلم أن الصغار ملازم للاستكبار قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أمهلني إلى يوم البعث، والبعث وقت النفخة الأخيرة قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلى النفخة الأولى، وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسيئني فكيف بمن يحبني، وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي أضللتني. أي فبسبب إغوائك إياي أقسم لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام، مترصدا للرد، متعرضا للصد، كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ بأن أشككهم بالآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ بأن أرغبهم في الدنيا وَعَنْ أَيْمانِهِمْ أي من قبل الحسنات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من قبل السيئات، ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة: واستعمال عن حين الكلام عن الأيمان والشمائل لأنها تدل على الانحراف وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أي مؤمنين، قال ظنا فأصاب ظنه. قال تعالي في سورة سبأ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قالَ اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو السماء مَذْؤُماً أي معيبا مَدْحُوراً أي مطرودا مبعدا من رحمة الله أقسم لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أي منك وممن تبعك أَجْمَعِينَ بدون

[سورة الأعراف (7): آية 19]

استثناء وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ قال الله هذا لآدم بعد إخراج إبليس من الجنة، اتخذ أنت وزوجك الجنة مسكنا فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا أي فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ بمعصيتكما الله إن خالفتما أمره فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي ألقى إليهما الوسوسة، والوسوسة الكلام الخفي المكرر الملقى بغير اتئاد أى بعجلة لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي يكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما، وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل سترها مستقيما في الطباع والعقول وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين وَقاسَمَهُما أي وأقسم لهما وصدقاه فشاركاه في القسم بتحقيق ما يراد القسم له ولذلك استعملت صيغة المفاعلة للدلالة على هذا المعنى إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فإني من قبلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي فزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله، وإنما يخدع المؤمن بالله ولم يكونا يظنان أن أحدا يحلف بالله كاذبا فوقعا في المعصية، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي وجدا طعمها آخذين في الأكل منها بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي: ظهرت لهما عوراتهما؛ لتهافت اللباس عنهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وَطَفِقا أى جعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يجعلان على عورتهما من ورق الجنة ورقة فوق ورقة ليستترا بها كما تخصف النعل أي ترقع وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وكان في هذا توبتهما قال النسفي (وفيه دليل على المعتزلة لأن الصغائر عندهم مغفورة أى بلا توبة) وهذا يعني أنه اعتبر فعل آدم صغيرة قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل، ويحتمل أنه هبط إلى السماء ثم هبطوا جميعا إلى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار وَمَتاعٌ أي: وانتفاع عيش إِلى حِينٍ أي إلى انقضاء آجالكم قالَ فِيها أي في الأرض تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ مبعوثين للثواب والعقاب. وبهذا تمت الفقرة الأولى من هذا المقطع وفيها كما قال صاحب

نقول وفصول

الظلال: (ثلاثة نماذج من خلق الله: نموذج في الطاعة المطلقة والتسليم العميق، ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت، وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية). نقول وفصول: بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ يقول صاحب الظلال: «من هنا تبدأ الرحلة الكبرى .. تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض، كحقيقة مطلقة، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلا وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ: إن خالق الأرض وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض. هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش، هو الذي جعلها مقرا صالحا لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر، ودورتها حول الشمس، وميلها على محورها. وسرعة دورتها. إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها. وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته، وبنمو هذه الحياة ورقيها معا .. وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض، قادرا على تطويعها واستخدامها؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته .. ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن «يقهر الطبيعة» كما يعبر أهل الجاهلية قديما وحديثا! ولا كان بقوته الذاتية قادرا على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة! إن التصورات الجاهلية هي التي تصور الكون عدوا للإنسان، وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى- بجهده وحده وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية، وكل تسخير لها «قهرا للطبيعة» في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني! إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة!

لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له، تتربص به، وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إرادة مدبرة- كما يزعمون- ما نشأ هذا الإنسان أصلا! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي بزعمهم- التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟ إن التصور الإسلامي وحده وهو الذي يمضي وراء هذه الجزيئات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق .. إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته .. وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شئ خلقه ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة!. وفي ظل هذا التصور يعيش «الإنسان» في كون مأنوس صديق؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة .. يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة، ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته، وتيسر له قدرا جديدا من الرقي والراحة والمتاع. إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه .. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة .. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه .. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله!. إن مأساة «الوجودية» الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث .. تصور الوجود الكوني- بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها- معاكسا في طبيعته للوجود الفردي الإنساني متجها بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني، والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم .. وهما سواء، ..

فصل: في مظاهر من الكبر

وهي ليست مأسأة «الوجودية» وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله- بكل مذاهبه واتجاهاته- بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها. المأساة التي يضع الإسلام حدا لها بعقيدته الشاملة التي تنشئ في الإدراك البشري تصورا صحيحا لهذا الوجود، وما وراءه من قوة مدبرة. إن «الإنسان» هو ابن هذه الأرض؛ وهو ابن هذا الكون. لقد أنشأه الله من هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقا ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان، تساعده- حين يتعرف إليها على بصيرة- وتيسر حياته .. ولكن الناس قليلا ما يشكرون- ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون .. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون، وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فصل: في مظاهر من الكبر: في قصة آدم عليه السلام عبر كثيرة ودروس كثيرة: لقد امتنع إبليس من السجود لآدم بدعوى الخيرية، وما أكثر ما كانت دعوى الخيرية حائلا دون وجود الصف الإسلامي الواحد، وما أكثر ما كانت دعوى الخيرية عاملا من عوامل تفرق صف المسلمين، إن الصف الإسلامي من حقه أن يخرج قياداته بالشورى ومن قدمه الصف، ومن قدمته الشورى فعلى الجميع أن يلتزموا بإمرته، ولكن كم من الناس يمنعهم من ذلك الكبر مهما لبسوا لبوس التواضع؟ إن كثيرين لا يبدءون البداية الصحيحة، مع أن البدايات الصحيحة وحدها هي التي توصل إلى نتائج صحيحة، فإذا ما بدأت تظهر ثمرات البدايات الصحيحة يريد الكثيرون أن يتقدموا، وإذا لم يتقدموا يستكبرون عن السير في الطريق الصحيح، إن ذلك من نزغات الشيطان فليحاسب كل منا نفسه.

فصل: في التواضع

فصل: في التواضع: قال الألوسي: أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله تعالى ومن تكبر وضعه الله عزّ وجل» ومن حديثه رضي الله تعالى عنه: «من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال: انتعش نعشك الله، ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله تعالى إلى الأرض». وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار. أخرج الترمذي، عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار» فصل: في مناقشة التطوريين: عند قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ يناقش صاحب الظلال بعض الاتجاهات المنحرفة فيقول (إن الخلق قد يكون معناه: الإنشاء. والتصوير قد يكون معناه: إعطاء الصورة والخصائص .. وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان .. فإن «ثم» قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للترقي المعنوي. والتصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود. فالوجود يكون للمادة الخامة، ولكن التصوير- بمعنى إعطاء الصور- أرقى من درجات الوجود. فكأنه قال: إننا لم نمنحكم مجرد الوجود ولكن جعلناه وجودا ذا خصائص راقية. وذلك كقوله تعالى: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى فإن كل شئ أعطي خصائصه ووظائفه وهدي إلى أدائها عند خلقه. ولم تكن هناك فترة زمنية بين الخلق وإعطاء الخصائص والوظائف والهداية إلى أدائها. والمعنى لا يختلف إذا كان معنى «هدى»: هداه إلى ربه. فإنه هدي إلى ربه عند خلقه وكذلك آدم صور وأعطي خصائصه الإنسانية عند خلقه ... «وثم» .. للترقي في الرتبة، لا للتراخي في الزمن. وعلى آية حال فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام. وفي نشأة الجنس البشري، تؤكد أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقيا في

فصل: في حكمة إنظار إبليس

«وجود» الإنسان. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان. كما تقول الداروينية. ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيا- بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء- هو مجرد نظرية «ظنية» وليست «يقينية» لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها. على أنه- على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور- ليس هناك ما يمنع من وجود «أنواع» من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض بفعل الظروف السائدة في الأرض، ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة، ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة .. ولكن هذا لا «يحتم» أن يكون بعضها «متطورا» من بعض .. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا .. لا تستطيع أن تثبت- في يقين مقطوع به- أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية- وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها- ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا .. وهذا يمكن تعليله كما قلنا .. أن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى فانقرض. وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع. وهذا ما تؤكده مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية. وتفرد «الإنسان» من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون- وفيهم الملحدون بالله كلية- للاعتراف به، دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية، وعدم تداخلها مع الأنواع في تطور عضوي) فصل: في حكمة إنظار إبليس: - لقد سأل إبليس النظرة قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وقد أجيب إلى طلبه فما الحكمة في ذلك؟ في هذا الموضوع يقول صاحب الظلال: (لقد أجيب إبليس إلى ملتمسه. لأن مشيئة الله- سبحانه- اقتضت أن يترك

فصل: في تعقيبات على قصة آدم

الكائن البشري يشق طريقه؛ بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر؛ وبما وهبه من عقل مرجح، وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل؛ ومن الضبط والتقويم بهذا الدين، كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية؛ وأن يصطرع في كيانه الخير والشر؛ وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين، فتحق عليه سنة الله، وتتحقق مشيئته بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضل، فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة يتحقق الهدى أو الضلال) فصل: في تعقيبات على قصة آدم: مما عقب به صاحب الظلال على قصة آدم هذه القطوف التي ننقلها استكمالا لأخذ عبر هذه الفقرة من المقطع: إن الحقيقة الأولى التي نستلمها من قصة النشأة الإنسانية هي- كما قلنا من قبل- التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني، والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان والذي يجعل هذه النشأة قدرا مرسوما لا فلتة عارضة، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة. ... والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية: هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية؛ وضخامة دوره المنوط به؛ وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها؛ وتنوع العوالم التي يتعامل معها- في حدود عبوديته لله وحده- مما يتناقض تماما مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدد قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون، حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية. ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل بخصائصه الإنسانية المتميزة، أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقا في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه! .. إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد لا تجعل من الإنسان «إلها» كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول، إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم. والحقيقة الثالثة: أن هذا الكائن- على كل تفرده هذا- أو بسبب تفرده هذا- ضعيف في بعض جوانب تكوينه، حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل، من خطام شهواته .. وفي أولها ضعفه تجاه حب البقاء. وضعفه تجاه حب

الملك .. وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه، في جهد ناصب، لا يكل ولا يدع وسيلة من الوسائل!. وقد اقتضت رحمة الله به- من ثم- ألا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير- كما سيجئ في آية تالية في معرض التعقيب على القصة- وهذه هي صخرة النجاة بالنسبة له ... النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله. والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه .. وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته .. وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض «المحظور» عليه؛ لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف. وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى، فقد كانت هذه التجربة رصيدا له فيما سيأتي. ... والحقيقة الرابعة: هي جدية المعركة مع الشيطان وأصالتها، واستمرارها وضراوتها. لقد بدا من سياق القصة إصرار هذا العدو العنيد على ملاحقة الإنسان في كل حالة، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة، وعلى اتباعه في كل ساعة ولحظة: قالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. لقد اختار اللعين أن يزاول هذا الكيد، وأن ينظر لمزاولته على المدى الطويل .. اختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عيانا وقد سمع أمره مواجهة! ثم بين أنه سيقعد لهم على طريق الله، لا يمكنهم من سلوكه وأنه سيأتيهم من كل جهة يصرفهم عن هداه. وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم ومداخل الشهوة. ولا عاصم لهم منه إلا بالتقوي بالإيمان والذكر، والتقوي على إغوائه ووسوسته، والاستعلاء على الشهوات وإخضاع الهوى لهدى الله.». «وأخيرا فإن القصة والتعقيبات عليها- كما سيجئ- تشير إلى شئ مركوز في طبع الإنسان وفطرته. وهو الحياء من التعري وانكشاف سوأته:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ .. يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ. يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما. وكلها توحي بأهمية هذه المسألة، وعمقها في الفطرة البشرية. فاللباس وستر العورة زينة للإنسان وستر لعوراته الجسدية. كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية. والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها .. والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس. وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله ومن الناس، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة- في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة- هم الذين يريدون سلب «الإنسان» خصائص فطرته، وخصائص «إنسانيته» التي بها صار إنسانا. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته! وهم الذين ينفذون المخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة. وقد فقدت مقوماتها الإنسانية. إن العري فطرة حيوانية. ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان. وإن رؤية العري جمالا هو انتكاس في الذوق البشري قطعا. والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة. والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة، فأما في الجاهلية الحديثة «التقدمية» فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها، وينقلهم إلى مستوى «الحضارة» بمفهومها الإسلامي الذى يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها. والعري النفسي من الحياء والتقوى- وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام- هو النكسة والردة إلى الجاهلية. وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس).

فوائد

فوائد: 1 - قال النسفي تعليقا على ادعاء إبليس أنه خير من آدم: وقد أخطأ الخبيث: بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ومنه الحلم والحياء والصبر، وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار، وفي النار الطيش والحدة والترفع، وذلك دعاه إلى الاستكبار. والتراب عدة الممالك، والنار عدة المهالك، والنار مظنة الخيانة والإفناء، والتراب مئنة الأمانة والإنماء. والطين يطفئ النار ويتلفها، والنار لا تتلفه، وهذه فضائل غفل عنها إبليس. حتى زل بفاسد من المقاييس. وقول نافي القياس: أول من قاس إبليس، قياس. على أن القياس عن مثبته مردود عند وجود النص: وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص. وكان الجواب لما منعك أن يقول: منعني كذا. وإنما قال أنا خير منه، لأنه قد استأنف قصته وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه السلام وبعلة فضله عليه فعلم منها الجواب- كأنه قال: منعني من السجود فضلي عليه- وزيادة عليه وهي إنكار الأمر واستبعاد أن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله. إذ سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب) في الزعم الإبليسي. 2 - في صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح «وخلقت الحور العين من الزعفران». 3 - وفي إسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: قاس إبليس وهو أول من قاس. وقال ابن سيرين «أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس» والإسناد إليه صحيح. والملاحظ أن قياس إبليس كان مع النص ولا قياس مع النص. 4 - روى الإمام أحمد عن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال: فعصاه وأسلم» قال: «وقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك. وإنما المهاجر كمثل الفرس في الطول (أي الحبل)، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد؛ وهو جهاد النفس والمال فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه وجاهد» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «فمن فعل ذلك منهم

فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة». 5 - لما كان الشيطان قد أقسم أن يتسلط على الإنسان من جهاته كلها، فقد ورد في الأحاديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها فقد روى البزار بإسناد حسن عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم إني أسالك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلى ومالي: اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي». وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صححه الحاكم عن عبد الله ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». قال وكيع: من تحتي يعني الخسف. 6 - قال ابن كثير: وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها. ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى في كتابه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم. 7 - يروي المفسرون كلاما كثيرا عند قصة آدم وليس في الكثير منه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرجح أن أكثر الروايات هذه عن بني إسرائيل، ومرجع ذلك إلى التوراة، ونحن لا نستطيع اعتماد نقول التوراة الحالية لتأكدنا من وجهة النظر العلمية القطعية أن التوراة الحالية ليست هي التوراة التي أنزلها الله على موسى، بل حدث فيها تغيير وتبديل كثيران؛ إذ هي جمع روايات شعبية بعد عصور متطاولة، فإذا عرفنا هذا أدركنا أن كل نقل عن التوراة إنما هو للاستئناس فقط ولا نبني عليه شيئا، والتوراة الحالية تقص قصة آدم في سفر التكوين الإصحاح الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، وفيها (فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر) وفيها أن آدم وحواء كانا عريانين في الأصل ولكنهما ما كانا يريان عوراتهما، فلما أكلا من الشجرة انفتحت أعينهما على أنهما عريانان (والرواية الصحيحة عن وهب بن منبه- وهو ممن أسلم من علماء أهل الكتاب- قال: كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما لا يرى هذا

عورة هذه ولا هذه عورة هذا ... ) وتذكر التوراة أن الحية هي التي قامت بدور الموسوس وأثر هذا على كلام المفسرين المسلمين؛ فجعلوا للحية دورا في عملية الوسوسة، بأن دخل الشيطان بواسطتها إلى الجنة بعد أن أخرج منها، وكان على بابها في الأمر الأول بالخروج، وليس في تفصيل شئ من ذلك منفعة تعود على المخاطب، ولذلك لم يفصل الله بها ولا رسوله؛ فلا نقف كثيرا عند هذه القضايا، والتوراة الحالية في هذا القسم منها واضحة التناقض، فبينما تشعر في مكان منها بأن الجنة كانت على الأرض تقول في آخر القصة (فطرد الإنسان وأقام شرقي عدن (أي جنة عدن) الكروبيم (أي العرش) ولهيب سيف فتقلب لحراسة طريق شجرة الحياة، وهذا يقابل جعل السماء رجوما للشياطين) فبينما ترى هنا كلاما عن جنة فوقها عرش الرحمن، وبينها وبين سكان الأرض ما بينها، تجد ما يشعر بغير ذلك، في مكان آخر، وكما قلنا فليس في التوراة الحالية ما نأخذ منه إلا للاستئناس، وفيما يوافق الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الكتاب والسنة، وقد لاحظنا أن كثيرا مما روي عن ابن عباس، وأبي بن كعب وغيرهما في هذا المقام، له أصل في التوراة 8 - إن من أهم ما ينبغي أن نلاحظه في قصة آدم عليه السلام أن المذنب لا يمر بدون نوع عقوبة، ولو رافقته توبة، ونسأل الله العفو والعافية وحسن الختام. 9 - من المعلوم أن هناك صراعا عنيفا بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة حول خلق أفعال العباد، فالمعتزلة يزعمون أن العبد يخلق أفعاله، وأهل السنة يقولون بما قرره القرآن اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ* وبمناسبة قوله تعالى فَبِما أَغْوَيْتَنِي التي هي من حجج أهل السنة والجماعة، يروي النسفي قصة عن طاوس (أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدري. [أي لا يؤمن بالقدر» فقال طاوس: تقوم أو تقام؟ فقام الحرام فجاء رجل قدري- أي لا يؤمن بالقدر- فقال طاوس: تقوم أو تقام؟ فقام أغويتني. وهو يقول: أنا أغوي نفسي. 10 - عند ما أمر الله آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض تذكر التوراة في سفر التكوين الإصحاح الثالث أن الله قال: (وقال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم، لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك وتأكل عشب

الحقل بعرق وجهك، تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب إلى تراب تعود). 11 - الملاحظ أن إبليس لم ينكر صفات الله ولا وجوده، ومع ذلك فقد كفر، وفي هذا أكبر رد على من يتصور أن مجرد الإيمان بوجود الله يدخل صاحبه في عداد المسلمين المؤمنين، بل لا بد من الإيمان والتسليم وفي هذا يقول صاحب الظلال: (لقد جعل إبليس له رأيا مع النص. وجعل لنفسه حقا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر .. وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر. ويبطل التفكر وتتعين الطاعة، ويتحتم التنفيذ .. وهذا إبليس- لعنه الله- لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر، الذي لا يقع في هذا الوجود شئ إلا بإذنه وقدره .. ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه .. بمنطق من عند نفسه: قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. إن علمه بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه .. وكذلك كل من يتلقى أمر الله؛ ثم يجعل لنفسه نظرا في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل، يرد بها قضاء الله في هذه القضية .. إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد. فإبليس لم يكن ينقصه العلم. ولم ينقصه الاعتقاد!). 12 - إن قصة آدم وردت في سورة البقرة كما رأينا، وترد هنا الآن مرة ثانية. وقصة بني إسرائيل وردت في سورة البقرة، وترد هنا مرة ثانية، ولكنهما تردان هنا ضمن السياق الخاص لسورة الأعراف، وبما يخدم هذا السياق، وهناك وردتا ضمن السياق الخاص لسورة البقرة بما يخدم ذلك، ومن ثم نفهم حكمة من حكم تكرار القصة القرآنية، إننا نلاحظ أن معاني من القصة ترد في مكان، ومعاني أخرى ترد في مكان. وقد تشترك المعاني أحيانا، وتفترق أحيانا وكل ذلك لتؤدي في سياقها الخاص والعام ما يخدم السورة التي هي فيها ضمن سياقها ومحلها ومكانها. فمثلا قصة آدم في سورة البقرة تخدم سياقها الخاص الذي هو سياق الأمر اعْبُدُوا فهي نموذج للانحراف عن الأمر، وما يترتب عليه، وكيف ينبغي أن يفعل الإنسان ليتخلص من مخالفته. أما قصة آدم في سورة الأعراف فهي تخدم موضوع الاتباع وما يترتب عليه، والكفر وما يترتب عليه.

الفقرة الثانية

[الفقرة الثانية] ولننتقل إلى الفقرة الثانية في هذا المقطع وهي مجموعتان: المجموعة الأولى يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ أي يستر عوراتكم، وعبر بكلمة الإنزال لأن الماء وراء كل منتفع به، إما مباشرة وإما بالواسطة، ويدخل في ذلك اللباس، والماء من السماء أي من السحاب وَرِيشاً أي ولباس زينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته، والمعنى: أنزلنا عليكم لباسين، لباسا يواري سوءاتكم، ولباسا يزينكم وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ أي ولباس الورع الذي يقي العقاب هو خير ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي: إنزال اللباس من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفوا عظيم النعمة فيه، وهذه الآية واردة عقيب ذكر بدو السوءات، وخصف الورق على آدم وحواء عليهما السلام- إظهارا للنعمة فيما خلق من اللباس، ولما في العري من الفضيحة، وإشعار بأن التستر من التقوى، وتذكير بما أعطي آدم وبما سلب، لأنه عصى، حتى لا نقع في خداع الشيطان. يقول صاحب الظلال: «هذا النداء يجئ في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة .. مشهد العري وتكشف السوءات والخصف من ورق الجنة .. لقد كان هذا ثمرة للخطيئة .. والخطيئة كانت في معصية أمر الله، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله .. وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير (الكتاب المقدس!) والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات «فرويد» المسمومة .. لم تكن هي الأكل من «شجرة المعرفة» - كما تقول أساطير العهد القديم. وغيرة الله- سبحانه وتعالى- من «الإنسان» وخوفه- تعالى عن وصفهم علوا كبيرا- من أن يأكل من شجرة الحياة أيضا فيصبح كواحد من الآلهة! كما تزعم تلك الأساطير. ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائما حول مستنقع الوحل الجنسي، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي! .. ). ويقول الألوسي: (قوله تعالى لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ «سوءاتكم» أي التي قصد إبليس- عليه اللعنة- إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روى غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لا نطوف بثياب

كلمة في السياق

عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية، وقيل: إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم). كلمة في السياق: تتألف هذه المجموعة من أربعة نداءات تتوجه إلى بني آدم وهى كما قال صاحب الظلال (وقفة من وقفات التعقيب في سياق السورة، وهي وقفة طويلة بعد المشهد الأول في قصة البشرية الكبرى. وفي سياق السورة وقفات كهذه عند كل مرحلة. كأنما ليقال: قفوا هنا لتدبر ما في هذه المرحلة من عبرة قبل أن تمضوا قدما في الرحلة الكبرى. وهي وقفة في مواجهة المعركة التي بانت طلائعها بين الشيطان والبشرية وقفة للتحذير من أساليب الشيطان ومداخله؛ ولكشف خطته ما كان منها وما يكون متمثلا في صور وأشكال شتى .. ولكن المنهج القرآني لا يعرض توجيها إلا لمواجهة حالة قائمة؛ ولا يقص قصصا إلا لأن له موقعا في واقع الحركة الإسلامية .. إنه كما قلنا لا يعرض قصصا لمجرد المتاع الفني! ولا يقرر حقيقة لمجرد عرضها النظري .. إن واقعية الإسلام وجديته تجعلان توجيهاته وتقريراته، لمواجهة حالات واقعة بالفعل في مواجهة الحركة الإسلامية). فائدة: الملاحظ أن الآية ذكرت نعمة الله علينا باللباس الحسي، وذكرتنا بلباس التقوى، وهناك تلازم بين اللباسين يقول صاحب الظلال: (فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة، وبين التقوى .. كلاهما لباس. هذا يستر عورات القلب ويزينه. وذاك يستر عورات الجسم ويزينه. وهما متلازمان. فعن شعور التقوى لله، والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري ... العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة. إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي- كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم لتدمير إنسانيتهم، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون- إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان؛ ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر؛ وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق.

[سورة الأعراف (7): آية 27]

وبعد النداء الأول الذي جاء تعقيبا على قصة آدم عليه الصلاة والسلام يأتي النداء الثاني: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي لا يخدعنكم ولا يضلنكم بألا تدخلوا الجنة، كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها، والمعنى: يا بني آدم لا تتبعوا الشيطان فيفتنكم. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما أي: أخرجهما نازعا عنهما لباسهما بأن كان سببا في أن نزع عنهما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي عوراتهم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي إنه يراكم هو وذريته، أو هو وجنوده من حيث لا ترونهم، هذا تعليل للنهي وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدو المداجي، يكيدكم من حيث لا تشعرون. قال ذو النون: إن كان هو يراك من حيث لا تراه؛ فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه، وهو الله الكريم الستار، الرحيم الغفار إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي نصراء وموجهين، ومربين ومتسلطين على الكافرين، وقد نجح الشيطان- عليه اللعنة- بأن جعل أكثر أهل الأرض يخلعون اللباسين: اللباس الحسي، والمعنوي؛ حتى أصبح الظهور بالعري الكامل غير مستنكر، ولا مستفظع، ولا مستغرب، في كثير من أنحاء العالم، وتعليقا على هذه الآية يقول صاحب الظلال: (إنه النداء الثاني لبني آدم، في وقفة التعقيب على قصة أبويهم، وما جرى لهما مع الشيطان؛ وعلى مشهد العري الذي أوقفهما فيه عدوهما بسبب نسيانهما أمر ربهما والاستماع إلى وسوسة عدوهما. وهذا النداء يصبح مفهوما بما قدمناه من الحديث عن تقاليد الجاهلية العربية في حكاية العري عند الطواف بالبيت. وزعمهم أن ما وجدوا عليه آباءهم هو من أمر الله وشرعه لقد كان النداء الأول تذكيرا لبني آدم بذلك المشهد الذى عاناه أبواهم، وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة، والرياش الذى يتجمل به .. أما هذا النداء الثاني فهو التحذير لبني آدم عامة، وللمشركين، فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد؛ فيسلمهم إلى الفتنة- كما فعل مع أبويهم من قبل، إذ أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما- فالعري والتكشف الذي يزاولونه- والذي هو طابع كل جاهلية قديما وحديثا- هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية، وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه؛ وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه. فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم؛ وأن ينتصر في هذه المعركة، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف)

ولنعد إلى التفسير

وعند قوله تعالى في الآية إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يذكر الألوسي تحقيقا حول إمكانية رؤية الجن فيقول: (والقضية مطلقة لا دائمة، فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون. ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لمقدمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته، فأمكنه الله تعالى منه، وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة، فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين. وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن، محمول- كما قال البعض- على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها؛ إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة، وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه من الريبة في الدين، ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور» «وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلى الله عليه وسلم للجن على صورهم التي خلقوا عليها؛ فقد رأى جبريل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين، وليست رؤيتهم بأبعد من رؤية الجن. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها، ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها [أقول: وقد ثبتت رؤيتهم متشكلين رؤيتهم لأكثر من صحابي]. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة، وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة، ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر). هـ كلام الألوسي ولنعد إلى التفسير: بعد الآيتين اللتين نادتا بني آدم في شأن اللباس الحسي والمعنوي: لباس الجسد، ولباس التقوى، يبين الله عزّ وجل كيف أن المنحرفين عن أمره ينحرفون ويبررون لانحرافاتهم بأنواع من التبريرات، كلها خاطئ وظالم فقال: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الفاحشة: ما يبالغ في قبحه من الذنوب كالطواف بالبيت عراة فعل أهل الجاهلية، وكالشرك والزنى ومن السياق نعرف أن ترك الستر فاحشة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا

[سورة الأعراف (7): آية 29]

وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها أي إذا فعلوا الفاحشة اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها حيث أقرنا عليها؛ إذ لو كرهها لنقلنا عنها، وهما باطلان لأن أحدهما تقليد للجهال، والثاني افتراء على ذي الجلال قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ إذ المأمور به لا بد أن يكون حسنا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ هذا استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالعدل وبما هو حسن عند كل عاقل فكيف يأمر بالفحشاء وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي واعبدوه مخلصين له الطاعة مبتغين بها وجهه خالصا كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أي كما أنشاكم ابتداء يعيدكم. احتج عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى: أنه يعيدكم فيجازيكم عن أعمالكم فأخلصوا له العبادة فَرِيقاً هَدى وهم المسلمون وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وهم الكافرون إِنَّهُمُ أي الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أنصارا فهذا سبب ضلالهم وإضلالهم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وهذا حال كل كافر يكون على غاية الضلال ويظن أنه على غاية الهدى، ومنتهى الصواب، وعلى الذروة فى رجاحة العقل، وحسن التصرف، وغير ذلك مما يمليه الغرور فى ادعاء ألقاب وأوصاف، وإنما هي الضلال والضياع والعمى. كلمة في السياق: بعد أن بين الله عزّ وجل ما يبرر به الكافرون لأنفسهم ارتكابهم الفواحش، ورد عليهم، وكان من جملة الرد ما بينه في وصفه لنوعية أوامره من كونها من نوع القسط والعبادة والإخلاص والدعاء وكان من جملة ما يأمر به وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بعد هذا كله يأتي النداء الثالث في المجموعة: آمرا بأخذ الزينة عند كل مسجد، وناهيا عن الإسراف في الطعام والشراب، فإذا كان ستر العورة مطلوبا خارج المسجد وخارج الصلاة. فمن باب أولى أن يكون مطلوبا في المسجد، وفي الصلاة، وإذا كان الطعام هو الذي جر أبانا إلى المعصية فعلينا ألا نسرف في الطعام والشراب؛ لأن الإسراف نفسه معصية، ويجر إلى المعاصي كذلك، وهكذا يأتي الأمر الثالث بعد أن سبق بكثير من الموطئات التي توصل إليه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِ

[سورة الأعراف (7): آية 32]

مَسْجِدٍ أي خذوا لباس زينتكم كلما صليتم، وأقل ذلك ستر العورة، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئاته للصلاة؛ لأن الصلاة مناجاة الرب فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر قال الألوسي في تفسير قوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ: أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد. وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أنه كان أناس من الأعراب، يطوفون بالبيت عراة، حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة، فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله … وما بدا منه فلا أحله فأنزل الله تعالى هذه الآية، وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر- رضي الله تعالى عنه- وروي عن الحسن السبط- رضي الله تعالى عنه- أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، فأتجمل لربي وهو يقول: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأحب أن ألبس أجمل ثيابي، ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب. «وأخرج ابن عساكر وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله سبحانه: خُذُوا زِينَتَكُمْ الخ «صلوا في نعالكم». أقول: تسن الصلاة في النعال إذا كانت طاهرة، ولم يكن مكان الصلاة مفروشا، ولقد غلا ناس في هذا الشأن سلبا أو إيجابا، فلم يراع بعضهم ضرورة أن يكون المسجد نظيفا، ولم يراع بعضهم تغير الزمان، وتغير حال المساجد، وغاب عن بعضهم السنة حيث ينبغي تطبيقها. ثم قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا أي بالشروع في الحرام، أو مجاوزة الشبع، أو بتحريم الحلال إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ أي من الثياب وكل ما يتجمل به، وفي الاستفهام إنكار على محرم الحلال الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي سخرها لهم بخلق أصلها كالقطن من الأرض والقز من الدود وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي والمستلذات من المآكل والمشارب قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشركهم فيها أحد، وقد نبه الله

[سورة الأعراف (7): آية 33]

تعالى بهذا أن طيبات الحياة الدنيا خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، والكفار لهم تبع كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ ليتميز الحلال من الحرام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أنه لا شريك له قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي ما تفاحش قبحه أي تزايد ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي سرها وعلانيتها وَالْإِثْمَ أي الذنب وهو المخالفة لأمر الله وَالْبَغْيَ أي الظلم والكبر بِغَيْرِ الْحَقِّ أما رد البغي بمثله فهو وإن كان- لولا الابتداء من الظالم بغيا- فإنه مأذون فيه شرعا وَأَنْ تُشْرِكُوا أي وحرم الشرك بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً والله لا ينزل برهانا أبدا على أن يشرك به غيره، ولكنه رد لزعمهم أنهم أشركوا بأمر الله وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي وحرم عليكم أن تتقولوا على الله بوصفه بغير صفاته، وأن تفتروا الكذب عليه بتحريم ما أحل، أو تحليل ما حرم وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي وقت معين يأتيهم فيه عذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا، وهو وعيد لمن يرفض هذا الدين بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ذكر الساعة في هذا المقام لأنها أقل ما يستعمل في الإمهال والمعنى لا يمهلون لحظة واحدة. تعليقات: رأينا أنه يدخل في أخذ المسلم زينته عند كل مسجد أن يصلي ويطوف وهو ساتر عورته وهذا شئ اعترضت عليه الجاهلية وتعليقا على ذلك يقول صاحب الظلال: «ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة؛ ووجه إليهم هذا الاستنكار الوراد في قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ... ما رواه الكلبي قال: «لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها. فنزلت الآية .. » فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها! ناس يطوفون ببيت الله عرايا؛ فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ .. فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين، في زينة الله التي أنعم بها على البشر، لإرادته بهم الكرامة والستر؛ ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري؛ وليتميزوا عن العري الحيواني .. الجسمي والنفسي .. إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله «عيروهم».

إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس .. هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟ ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقيا وحضارة وتجديدا؛ ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن «رجعيات» «تقليديات». «ريفيات». المسخ هو المسخ. والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس. وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين. والتبجح بعد ذلك هو التبجح أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ!. وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله؟ لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذاك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم لضمان السيادة لها في الجزيرة .. ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء ... فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك .. ولا يملكون لأمرهم ردا .. إن بيوت الأزياء ومصمميها، وأساتذة التجميل ودكاكينها، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية. وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي تطيع صاغرة .. تطيع تلك الأرباب. وإلا «عيرت» من بقية البهائم المغلوبة على أمرها. ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص، والمجلات والصحف، التي تقود هذه الحملة المسعورة .. وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخورا متنقلا للدعارة؟!. من الذي يقبع وراء هذا كله؟. الذي يقبع وراء هذه الأجهزة كلها، في العالم كله .. يهود .. يهود يقومون

بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها، ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان .. أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار؛ وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه. إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة. ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق. إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى: إنها تتعلق- قبل كل شئ- بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة. كذلك تتعلق بإبراز خصائص «الإنسان» في الجنس البشري، وتغليب الطابع «الإنساني» في هذا الجنس على الطابع الحيواني. والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق، وتجعل العري- الحيواني- تقدما ورقيا. والستر- الإنساني- تأخرا ورجعية! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان. وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء؟ وما للدين والتجميل؟ .. إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وكل مكان!!! ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية، لها هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام، لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك، ولارتباطها ثانيا بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته، أو بفساد هذا كله .. فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر، يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة .. إنه يعقب بتنبيه بني آدم، إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم؛ وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة، غير الذاكرة ولا الشاكرة، لتستيقظ فلا يغرها امتداد الحياة.

والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها .. وسواء هذا أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون». أقول: إن التذكير بنهايات الأمم فى سياق النهي عن الإسراف، وفي سياق ذكر المحرمات واضح الصلة، فالأمم التي تبطر وتنحرف عن أمر الله بارتكاب الفواحش والآثام تغفل عن مصيرها، فجاءت الآية الأخيرة في هذا السياق تذكر بالمصير. *** وقد لاحظ صاحب الظلال من خلال الآيات التي مرت هنا من سورة الأعراف أن هناك تشابها وتكاملا بين سورتي الأعراف والأنعام فسجله بقوله: (وقبل أن نترك هذه الجولة نسجل ما لاحظناه من التشابه العجيب في مراجعة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح والنذور والتحليل فيها والتحريم- في سورة الأنعام- ومواجهته للجاهلية- هنا في شأن اللباس والطعام .. ففي شأن الذبائح والنذور في الأنعام والثمار، بدأ أولا بالحديث عما تزاوله الجاهلية فعلا من هذه التقاليد؛ وعما تزعمه- افتراء على الله- من أن هذا الذي تزاوله من شرع الله. ثم طلب إليهم الدليل الذي يستندون إليه في أن الله حرم هذا الذي يحرمونه، وأحل هذا الذي يحلونه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .. ثم واجه هروبهم من هذه المواجهة بإحالة الأمر إلى قدر الله وإلى أمره لهم بهذا الشرك الممثل في مزاولة الحاكمية وهي من خصائص الألوهية: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ! كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ: قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ حتى إذا انتهى من تفنيد هذا الباطل الذي يدعونه ويفترونه، قال لهم: تعالوا لأبين لكم حقيقة ما حرم الله عليكم وحقيقة ما أمركم به: عن المصدر الصحيح الوحيد المعتمد في هذا الشأن؛ والذي لا يجوز الأخذ عن غيره: قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً .. الخ ..

كلمة فى السياق

وهنا كذلك سار على نفس النسق، وعلى ذات الخطوات .. ذكر ما هم عليه من فاحشة العري ومن الشرك في مزاولة الحاكمية في التحريم والتحليل في اللباس والطعام. وحذرهم ما هم عليه من الفاحشة والشرك، وذكرهم مأساة العري التي واجهها أبواهما في الجنة بفعل الشيطان وكيده؛ ونعمة الله عليهم في إنزال اللباس والرياش .. ثم استنكر دعواهم أن ما يزاولونه من التحريم والتحليل هو من شرع الله وأوامره: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ مشيرا هنا إلى العلم اليقيني لا الظن والخرص الذي يبنون عليه دينهم وشعائرهم وعباداتهم وشرائعهم .. حتى إذا أبطل دعواهم فيما يزاولون عاد ليقرر لهم ما حرمه ربهم عليهم فعلا: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ- ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ- وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .. كما أنه قد بين لهم من قبل حقيقة ما أمر الله به في شأن اللباس والطعام- لا ما يدعونه هم وينسبونه إلى الله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وفي كلتا المواجهتين علق القضية كلها بقضية الإيمان والشرك. لأنها في صميمها هي قضية الحاكمية، ومن الذي يزاولها في حياة البشر. وقضية عبودية الناس ولمن تكون! ذات القضية وذات المنهج في مواجهتها. وذات الخطوات. وصدق الله العظيم: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وهذه الوحدة في المنهج تبدو أهميتها ويزداد بروزها حين نذكر طبيعة سورة الأنعام وطبيعة سورة الأعراف والمجالين المختلفين اللذين تعالجان فيهما قضية العقيدة .. فإن اختلاف المجال لم يمنع وحدة المنهج في مواجهة الجاهلية في القضايا الأساسية .. وسبحان منزل هذا القرآن .. كلمة فى السياق: مرت معنا في المجموعة ثلاثة نداءات موجهة لبني آدم واستقر النداء الأخير على قوله تعالى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فالأمم كلها ستنتهي وترجع إلى الله. ومن ثم يأتي النداء الرابع لبني آدم وهو يواجههم بحجة الله عليهم أنه أرسل لهم رسلا فلم تبق لهم حجة ألا يستقيموا وألا يتقوا، والصلة بين النداء الرابع وبين ما سبقه في المجموعة، وبين ما سبقه في السورة كلها واضحة وسنتحدث عنها فيما بعد:

[سورة الأعراف (7): آية 35]

فإلى النداء الرابع: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي أي يقرءون عليكم كتبي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ أي فمن اتقى الشر منكم وأصلح العمل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلونه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوه، أو لا خوف عليهم أصلا لأن الله يرعاهم في شأنهم كله، ولا هم يحزنون لأنهم متوكلون على الله في كل شئونهم وَالَّذِينَ كَذَّبُوا أي منكم يا بني آدم بِآياتِنا أي بوحينا وكتبنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي تعظموا عن الإيمان بها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون فيها أبدا وبهذا تنتهي المجموعة الأولى من الفقرة الثانية من المقطع وقد انتهت بالمعنى الذى تدور حوله السورة كلها وهو محور السورة في سورة البقرة. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ نذكر هذين الحديثين أ- روى الإمام أحمد عن أبي العلاء الشامي قال: لبس أبو أمامة ثوبا جديدا، فلما بلغ ترقوته قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استجد ثوبا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا» ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه. ب- وروى الإمام أحمد أيضا ... عن أبي مطر أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ولبسه، ما بين الرسغين إلى الكعبين يقول حين لبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شئ ترويه عن نفسك أو عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذا شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة: «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي» 2 - وبمناسبة قوله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (قال

مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قبلها النسعة (¬1) أو الشئ فتقول: اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله فأنزل الله وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها الآية، قلت القائل ابن كثير-: كانت العرب ما عدا قريشا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش- وهم الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه: ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر فتقول: اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله. وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من شرع الله، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ روى ابن جرير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. 4 - هناك اتجاه في فهم قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ هذا الاتجاه يفسره قولهم: بدأ خلقكم كفارا ومؤمنين وسيبعثكم كفارا ومؤمنين، وبعد أن ذكر ابن كثير بعض الأحاديث منها: «يبعث كل نفس على ما كانت عليه» رواه مسلم وابن ماجة ولفظه «يبعث كل عبد على ما مات عليه» قال: ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد وبين قوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله ¬

_ (¬1) النسعة: قطعة من جلد مضفورة عريضة توضع على صدر البعير

تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» الحديث ووجه الجمع على هذا: أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا وهو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وفي الحديث: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». وفدر الله نافذ في بريته، فإنه هو الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وفي الصحيحين، «فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة». ولهذا قال تعالى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ثم علل ذلك فقال: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة له اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيرتكبها عنادا منه لربه، لأنه لو كان كذلك لم تكن بين فريق الضلالة الذى ضل وهو يحسب أنه مهتد أو فريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائها وأحكامها في هذه الآية) أقول إننا نرجح الاتجاه الأول في التفسير لأنه الأقرب إلى الفهم الفطري البادي وتدل عليه النصوص. 5 - وفي سبب نزول قوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ روى مسلم والنسائي وابن جرير واللفظ له عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله … وما بدا منه فلا أحله فقال الله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وقال العوفي عن ابن عباس في قوله خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الآية، قال: كان الرجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة. هذا فعل الجاهلية القديمة، ربطوا بين العري والعبادة، وفعل الجاهلية الحديثة عري وكفر، وبعد عن كل عبادة. فالحمد الذي جعلنا مسلمين متجملين بالستر، ومن آداب المسلم في صلاته ما ورد في معناها من السنة: يستحب عند الصلاة- ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد- الطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك. ومن أفضل اللباس البياض، كما روى الإمام أحمد في حديث جيد الإسناد ... عن ابن عباس مرفوعا قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير

ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر» ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. وللإمام أحمد أيضا وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم». وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميما الداري اشترى رداء بألف، وكان يصلى فيه، والحد المفروض من ستر العورة في العبادة هو ستر ما بين السرة والركبة، على خلاف في السرة والركبة هل هما عورة؟ وعلى خلاف هل يجب فوق ذلك أولا في الأحوال غير الاستثنائية؟ 6 - وبمناسبة قوله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا قال بعض السلف: جمع الله الطب. كله في نصف آية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا وروى البخاري .. عن ابن عباس أنه قال: وكل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. وروى ابن جرير بإسناد صحيح ... عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشراب ما لم يكن سرفا أو مخيلة. وروى الإمام أحمد ... عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا والبسوا، وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ورواه النسائي وابن ماجه أيضا. وروى الإمام أحمد. عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلا لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه». ورواه النسائي والترمذي قال: حسن صحيح. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ... عن أنس بن مالك قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» ورواه الدارقطني في الأفراد وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية. ولا شك أن مراعاة عدم الإسراف في الطعام والشراب عامل رئيسي في الصحة، وقليلا من يراعي ذلك لغموض موضوع السرف، ولكونه نسبيا، ولا شك أن ما فوق الشبع سرف. وبمناسبة هذه الآية قال النسفي: (وكان للرشيد طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسن بن واقد: ليس في كتابكم في علم الطب شئ، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان؟ فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، وهو قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا. فقال النصراني: ولم يرو عن رسولكم شئ في

كلمة في سياق المجموعة

الطب فقال: قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة وهي قوله عليه السلام: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء. وأعط كل بدن ما عودته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا) وقد خص بعض المؤلفين الطب النبوي بالتأليف والجمع هذا مع ملاحظة أن الرسالة لم تأت لتفصل في مثل هذه القضايا ويكفي أنها وجهت للتداوي وفرضت صناعة الأدوية، والحديث الذي ذكره النسفي لا يصح رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام بعض الحكماء. 7 - وبمناسبة قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ نذكر ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله» أخرجاه في الصحيحين. كلمة في سياق المجموعة: هذه المجموعة تحدثت عن مجمل ما ينبغي أن يلاحظه بنو آدم بعد إذ أهبطهم الله إلى الأرض، ففيها خلاصة الهدى الذي يطالب به بنو آدم في كل عصر وفي كل مصر، وعلى لسان كل رسول. والمجموعة كما بينت هذا فإنها بينت ما رتب الله على الطاعة والمعصية في هذه التوجيهات، فهي بهذا بينت عاقبة ترك الهدى، كما بينت حسن اتباعه. والمجموعة كلها تكاد تكون تعقيبا على قصة آدم عليه السلام فإذا اتضح هذا فلنلاحظ. 1 - أن المجموعة ختمت بقوله تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وهى المعاني نفسها التي ختمت بها قصة آدم فى سورة البقرة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ... وهذا يؤكد أن محور سورة الأعراف هو ما ذكرنا من سورة البقرة. 2 - نلاحظ أن مقدمة السورة ختمت بقوله تعالى وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ لاحظ كلمة الظلم، ثم جاءت قصة آدم وورد فيها فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا لاحظ كذلك

الاشتقاق من كلمة الظلم، ثم جاءت المجموعة الأولى من فقرة نداءات بني آدم، والآن تأتي المجموعة الثانية وتبدأ بقوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ .. مما يشير إلى تلاحم مقدمة السورة مع المقطع الأول فيها، وهذا يؤكد أن مقدمة السورة مع المقطع الأول فيها يشكلان قسما واحدا، ولنا عودة على هذا الموضوع 3 - نلاحظ أن الفقرة الأولى في المقطع والتي تحدثت عن قصة آدم قد ذكرت قصة الخروج من الجنة، ثم جاءت المجموعة الأولى: فذكرت بني آدم في أرضهم، وذكرتهم بمصير الأمم على الأرض، وذكرتهم بعاقبة الأمر وأنه جنة أو نار. ثم تأتي الآن المجموعة الثانية من الفقرة الثانية: وفيها أطول عرض لمشهد من مشاهد الآخرة، ابتداء من الموت الذي هو بداية الرجعة إلى ما بعد ذلك، الفقرة الأولى في المقطع فيها قصة الخروج، والفقرة الثانية فيها قصة الرحلة وقصة العودة، يقول صاحب الظلال: (وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه. فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى، على مشهد من الملائكة- يوم أن خلق الله آدم وزوجه وأسكنهما الجنة، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة، وأخرجهما من الجنة- وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة .. فيتصل البدء بالنهاية. ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها. وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق) 4 - وإذن تأتي المجموعة الثانية من الفقرة الثانية وفيها قصة العودة والحساب والعقاب والجزاء، وقد سبقت مباشرة بقوله تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها وتأتي الآية الأولى منها فتذكر أن أظلم الظالمين من افترى على أن الله كذبا أو كذب بآياته. ثم تستمر المجموعة فتذكر مشهد الوفاة وماذا يجري لأرواح الكفار: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ثم مآلهم بعد ذلك إلى النار. كما تذكر مآل أهل الإيمان، ثم تتحدث عما يجري بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وعن حال أهل الأعراف، وتذكر ما يكون من حوار، وخلال ذلك نرى قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً .... لاحظ كلمة الظالمين، ونرى قوله تعالى على لسان أهل الأعراف رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إن صلة ذلك بالآية الأولى من المجموعة فَمَنْ أَظْلَمُ .... لا تخفى

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

5 - إنه لمشهد واعظ، هذا المشهد الذي نراه في المجموعة الثانية يأتي بعد النداءات التي وجهت لبني آدم لتعميق معنى الالتزام بوحي الله، ولتعمق معنى الفرار عما يخالف ذلك. 6 - والمجموعة كذلك تفصل في موضوع المحور، فتعطينا تصورا عن مآل من يتابع الوحي وتصورا عن مآل من يكفر، وتصورا عن مآل من يقتصد ولننتقل الآن إلى المجموعة الثانية من الفقرة الثانية في المقطع، فإنه بعد ما قرر الله تعالى قصة آدم في الفقرة الأولى، ونادى بني آدم النداءات الأربعة التي ختمت ببيان ما أعد الله لأهل الجنة، وما أعده للمكذبين المستكبرين في المجموعة الأولى من الفقرة الثانية، تأتي المجموعة الثانية في الفقرة الثانية ومحلها من السياق ما رأيناه: تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي لا أحد أشنع ظلما ممن تقول على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والسعادة والشقاوة في الدنيا حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يقبضون أرواحهم والآية تفيد أن نيلهم حظهم في الدنيا مستمر حتى ساعة التوفي فإن الملائكة تقول تقريعا قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة الذين كنتم تعبدونهم من دون الله ليذبوا عنكم قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا عنا فلا نراهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ أي اعترفوا بكفرهم بلفظ الشهادة التي تفيد تحقيق الكلام قالَ أي يقول الله يوم القيامة لهؤلاء الكفار ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ أي ادخلوا كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم قد مضت من كفار الجن والإنس في النار كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها أي كلما دخلت أمة النار لعنت شبيهتها وشكلها في الدين، أي لعنت التي ضلت بالاقتداء بها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أي حتى إذا تلاحقوا واجتمعوا في النار كلهم السابقون واللاحقون والسادة والأتباع قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ تحتمل أن تكون الأخرى منزلة والأولى منزلة أي: قال الأتباع والسفلة للسادة والرءوس، أي عنهم؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم، وتحتمل أن يكون المتأخرون قالوا للمتقدمين، لأن ضلال المتأخرين كان بسبب الاقتداء بمن قبلهم، ويرجح هذا قوله تعالى: مِنْ قَبْلِكُمْ.

[سورة الأعراف (7): آية 39]

قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أي يا ربنا هؤلاء القادة، أو هؤلاء السابقون المتقدمون علينا قد أضلونا بالغواية والإغواء؛ فضاعف لهم العذاب في النار. قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي للقادة ضعف لغوايتهم وإغوائهم، لضلالهم وإضلالهم، وللأتباع ضعف لكفرهم ولاقتدائهم ولتقويتهم أمر القادة، فلولا الأتباع ما كان للقادة سلطان. أو للمستقدمين ضعف بضلالهم وإضلالهم، وللمتأخرين ضعف بضلالهم ومتابعتهم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أي ما لكل فريق منكم من العذاب، أو لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ أي وقال القادة عن الأتباع، أو وقال السابقون عن اللاحقين فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ هذا يحتمل فما كان لكم علينا من نصرة، أو يحتمل أن لا فضل لكم علينا وإنا متساوون في استحقاق الضعف، أو يحتمل أن هذا من كلام الأمم السابقة لمن بعدها لأن المتأخرين كانوا يرون أنفسهم خيرا وأحسن وأرقى من المتقدمين فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي بكسبكم وكفركم وهو من قول الأولين للآخرين. فائدة: في عصرنا تسمع عبارات كثيرة كلها تعبر عن شعور المعاصرين أنهم خير من السابقين من مثل: عصرنا عصر النور، عصر المدنية، عصر التقدم، عصر حضارة القرن العشرين، عصر التحرر، وأمثال ذلك، كما تسمع عن الماضين: متأخرين جهلة، عصور الظلام، عصور الوحشية، وغير ذلك مما يفيد أن المعاصرين يحتقرون الماضين، مع ملاحظة أن كفر المعاصرين استمرار لكفر الماضين، والذي نرجحه في فهم الآية أن الآيتين السابقتين سجلتا هذا المعنى بشكاية المتأخرين للمتقدمين أنهم سبب ضلالهم، وشماتة الأولين بالآخرين إذ كانوا يدعون أن لهم فضلا على السابقين، فشمتوا بهم أن فضلهم ما حال بينهم وبين العذاب المضاعف، وفي مثل هذا التصوير، وفي تعدد المعاني الصحيحة التي يعطيها النص أحيانا تظهر بعض مظاهر الإعجاز في القرآن، وكيف أن منزله لا بد أن يكون هو الذي يعلم الحاضر والمستقبل، هو رب العالمين ولنعد إلى السياق: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ بعد أن ذكر ما تقول الملائكة للكافرين عند الموت، وذكر ما يقول الله لهم يوم القيامة، عاد السياق ليحدثنا عما يكون للكافر عند الموت، على قول في فهم الآية، وما يكون للكافر يوم القيامة على فهم، فقوله تعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يحتمل أن يعني: ألا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنة،

[سورة الأعراف (7): آية 41]

إذ هي في السماء، أو لا يصعد لهم عمل صالح، ولا تنزل عليهم البركة، أو لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين إلى السماء، ويشهد لهذا الفهم الأخير النصوص، كما سنرى في الفوائد، فالآية على الفهم الأخير عودة إلى الحديث عما يكون للكافرين عند الموت وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الخياط والمخيط ما يخاط به: وهو الإبرة، وسم الخياط أي ثقب الإبرة، والجمل البعير أو الحبل الغليظ: وعلى هذا وهذا كثير من أئمة التفسير والمعنى: كما أنه لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدا، كذلك هؤلاء لا يدخلون الجنة أبدا وتشبيه دخول الجنة بالدخول في سم الخياط يشير إلى أن دخول الجنة يحتاج إلى تواضع، وأن الطريق إلى الجنة دقيق وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين وجريمتهم التكذيب بآيات الله، والاستكبار عنها لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي أغطية جمع غاشية وهي الغطاء وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أنفسهم بالكفر، وبعد أن فصل في مصير المكذبين المستكبرين بدأ يفصل في أمر المؤمنين وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي إلا طاقتها. والتكليف: إلزام ما فيه كلفة ومشقة، فمن ظن أن الإسلام راحة جسد مطلقة فقد أخطأ الفهم ووهم، وذكر التكليف بقدر الطاقة بعد ذكر الإيمان والعمل الصالح؛ حتى لا يفهم فاهم أن دخول الجنة متوقف على ما لا يمكن عمله أُولئِكَ أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون فيها أبدا وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي من حقد كان بينهم في الدنيا، فلم يبتق بينهم إلا التواد والتعاطف، وهذا من تمام السعادة في الجنة، أنه ليس فيها إلا سلام حسي ومعنوي، ظاهري وباطني تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لتتم لهم سعادة المنظر وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لولا هداية الله لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ يقولون ذلك سرورا بما نالوا، وإظهارا لما اعتقدوا، وفي كلامهم إشارة إلى أن إرسال الرسل لطف من الله بخلقه، واعتراف منهم بالفضل لأصحاب الفضل وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي ونودوا بأنه تلكم الجنة أُورِثْتُمُوها أي أعطيتموها، سماها ميراثا لأنها لا تستحق بالعمل، بل هي محض فضل الله، ووعده على الطاعات، كالميراث ليس بعوض بل هو صلة خالصة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالكم الصالحة، وفي الفوائد كلام عن هذا المقام، ومن تمام النعمة أن ترى خصم العقيدة في النار، وأن يراك في الجنة، وأن يطمع فيما أنت فيه الطامعون، ويأتي الآن حوار فيه مزيد من التفصيل عن حال أهل النار وأهل الجنة، وفيه عرض لنوع آخر من العذاب للكافرين، ونوع آخر من النعيم لأهل

[سورة الأعراف (7): آية 44]

الإيمان وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا من الثواب فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب النار، واعترافا بنعم الله قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أي فنادى مناد وهو مالك يسمع أهل الجنة والنار أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ أي يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه. وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويطلبون لها الاعوجاج والتناقض وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة كافِرُونَ اجتمع لهم الصد عن سبيل الله، وإرادتهم الإفساد، والكفر باليوم الآخر وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي وبين الجنة والنار، أو بين الفريقين حجاب هو السور المذكور في قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ. وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ أي على أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار والأعراف هي أعاليه جمع عرف، استعير من عرف الفرس وعرف الديك رِجالٌ من آخر المسلمين دخولا في الجنة، لاستواء حسناتهم وسيئاتهم، وفي الفوائد كلام. يَعْرِفُونَ كُلًّا أي من زمرة السعداء والأشقياء بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم. قيل سيما المؤمنين بياض الوجوه ونضارتها، وسيما الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون وَنادَوْا أي أصحاب الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هي تحية، وهي تهنئة منهم لأهل الجنة ولا شك أن الإنسان يتساءل عن مصير أصحاب الأعراف ومن ثم جاء الجواب دون ذكر السؤال لكونه متوقعا لَمْ يَدْخُلُوها أي أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ في دخولها وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي أبصار أصحاب الأعراف وكأن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي ناحيتهم ورأوا ما هم فيه من العذاب قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ استعاذوا بالله، وفزعوا إلى رحمته، ألا يجعلهم معهم وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من رءوس الكفرة يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي جمعكم المال، أو المراد به الكثرة والاجتماع وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم على الحق وعلى الناس، لقد زال كل شئ ولم يبق لهم إلا الذل والعار والنار أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يحتمل أن هذا من خطاب الله ويحتمل أنه من كلام أهل الأعراف والمشار إليهم هم الفقراء والمستضعفون الذين دخلوا الجنة من قبل أو أهل الأعراف، ومعنى أقسمتم: حلفتم، والمعنى أقسمتم عليهم بأن لا يصيبهم الله برحمته أي لا يدخلهم الجنة، وذلك من احتقارهم إياهم لفقرهم. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ هذا من كلام الله لأهل الأعراف. أي يقال لأصحاب الأعراف بعد أن نظروا إلى الفريقين وعرفوهم بسيماهم وقالوا ما قالوا. وَنادى أَصْحابُ النَّارِ

[سورة الأعراف (7): آية 51]

أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة، أو من الطعام والفاكهة على تقدير. أو ألقوا علينا مما رزقكم الله، وإنما سألوا ذلك مع يأسهم عن الإجابة لأن المتحير ينطق بما يفيد وبما لا يفيد، وذكر الإفاضة يدل على أن الجنة فوق النار قالُوا أي أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ تحريم منع كما في قوله تعالى وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ (القصص: 12) ثم وصف الكافرين بالصفات التي أوبقتهم؛ وجعلتهم يستحقون هذا العذاب الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً فحرموا وأحلوا ما شاءوا، أو اتخذوا اللعب واللهو دينا لهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فنسوا الآخرة واغتروا بطول البقاء فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم في العذاب كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي كنسيانهم اليوم الآخر وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي وكما كانوا بالوحي يجحدون، فهذه هي الصفات التي أوبقتهم: حب الدنيا، ونسيان الآخرة، والتكذيب بآيات الله. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يروي ابن كثير مجموعة أحاديث نذكرها مع حذف الأسانيد: (روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين أو ثلاثة، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط؛ ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون- يعني- بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة، فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها،

حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول الله عزّ وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذى بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له: وما عملك؟ فيقول له: قرأت كتاب الله؛ فآمنت به، وصدقت، فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة، سود الوجود، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول .. فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة، وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا. فيستفتح فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فيقول الله عزّ وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء، أن كذب فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومهما، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي

يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر؟ فيقول أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة». وروى الإمام أحمد أيضا ... عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة فذكر نحوه. وفيه: حتى إذا خرج روحه (أي المؤمن) صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء. وفتحت له أبواب السماء، وليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عزّ وجل أن يعرج بروحه من قبلهم وفي آخره: ثم يقيض له (أي للكافر) أعمى أصم أبكم، في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا، فيضربه ضربة فيصير ترابا، ثم يعيده الله عزّ وجل كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعها كل شئ إلا الثقلين. قال البراء: ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فرش من النار. وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن جرير واللفظ له ... عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون فلان، فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة، التي كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. فيقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عزّ وجل، وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بجحيم وغساق وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لم تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى القبر) اه ابن كثير. وعند قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يقول الألوسي: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أي لأرواحهم إذا ماتوا أَبْوابُ السَّماءِ كما تفتح لأرواح المؤمنين. أخرج أحمد. والنسائي. والحاكم وصححه. والبيهقي. وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة

وأبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان ابن فلان. فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، وإذا كان الرجل السوء قالت: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان ابن فلان. فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل من بين السماء والأرض ثم تصير إلى القبر» والأخبار في ذلك كثيرة. وقيل: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء. وروي ذلك عن الحسن. وقيل: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج وقيل: المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم بركة) 2 - وبمناسبة قوله تعالى وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ نذكر ما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. فو الذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا» وقال السدي في قوله وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدا. وقد روى أبو إسحاق ... عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوا من هذا، وروى ابن جرير عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ وقال عبد الرزاق ... أن عليا رضي الله عنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ فالجنة إذن سلام في الباطن وفي الظاهر، وسلام في التعامل، وسلام في الحال وفي المآل، فهي دار السلام نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.

3 - وبمناسبة قوله تعالى تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال ابن كثير (روى النسائي وابن مردويه واللفظ له ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني: فيكون له شكرا، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون له حسرة». ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة، فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم؛ وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) اهـ كلام ابن كثير. وعن قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ يقول صاحب الظلال: (هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم لا يكلفون إلا طاقتهم .. هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم إنهم أصحابها- بإذن الله وفضله- ورثها لهم- برحمته- بعملهم الصالح مع الايمان؛ جزاء ما اتبعوا رسل الله، وعصوا الشيطان، وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم، ولولا رحمة الله ما كفى عملهم- في حدود طاقتهم- وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وليس هنا لك تناقض ولا اختلاف بين قوله الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى .. وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى، فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة، ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا؛ فكتب على نفسه الرحمة، وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف، وكتب لهم به الجنة فضلا منه ورحمة؛ فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة .. وبعد فإذا كان أولئك المغترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار ويتخاصمون، وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء .. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون، متصافون متوادون يرف عليهم السلام والولاء: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ

فهم بشر وهم عاشوا بشرا. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه وغل يغالبونه ويغلبونه .. ولكن تبقى في القلب منه آثار. قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين). 4 - بمناسبة قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ نقل النسفي كلاما يحتج به على المعتزلة في موضوع خلق الأفعال عن الشيخ أبي منصور الماتريدي قال: (إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبر، ونوحا عليه السلام، وأهل الجنة والنار، وإبليس لأنه قال الله تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ* وقال نوح عليه السلام: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وقال أهل الجنة: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وقال أهل النار: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وقال إبليس: فَبِما أَغْوَيْتَنِي. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يقول ابن كثير: وكذلك قرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر فنادى: «يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة- وسمى رءوسهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعد ربي حقا». وقال عمر: يا رسول الله تخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا». أقول: فلنقبل: على الله بالعمل والإخلاص والمحبة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والبغض لأعدائه، فلعل الله يوقفنا الموقف الأكرم فنكون من أهل الدرجات العلى وما ذلك على الله بعزيز، وإن أملنا به كبير، ورجاءنا له لعظيم على تقصير في العمل واتهام للنفس. 6 - وعند قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً يقول صاحب الظلال: (وفي هذا الوصف: وَيَبْغُونَها عِوَجاً إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله إنهم يريدون الطريق العوجاء؛ ولا يريدون الطريق المستقيم. يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة. فالاستقامة لها صورة واحدة: صورة المضي على طريق الله ومنهجه وشرعه. وكل ما عداه فهو أعوج؛ وهو إرادة للعوج. وهذه الإرادة تلتقي مع

الكفر بالآخرة. فما يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه؛ ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه .. وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعا غير شرع الله، التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الصحيح). 7 - وقد حكى القرطبي وغيره في أهل الأعراف اثني عشر قولا وأقوى الأقوال ما ذكرنا، ويشهد له الحديث المرسل الحسن عن عمرو بن جرير قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال: «هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم» ومما روي في شأن الأعراف ما روي عن حذيفة فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم: اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم. ومن الأقوال فيهم ما رواه الحافظ بن عساكر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم فقال: على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فسألناه: وما الأعراف؟ فقال: حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار. وأقوى الأقوال فيهم ما اعتمدناه ومما ذكره ابن كثير بمناسبة الكلام عن أهل الأعراف دون أن يذكر من أخرجه قال: وقال حذيفة: إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة، وقصرت بهم سيئاتهم عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم، فلما قضى الله بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة. فأتوا آدم فقالوا: يا آدم، أنت أبونا، فاشفع لنا عند ربك، فقال: هل تعلمون أن أحدا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبه، وسجدت له الملائكة غيري؟ فيقولون: لا، فيقول: ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم. فيأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم فيقول: هل تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أن أحدا أحرقه قومه بالنار في الله غيري؟ فيقولون: لا، فيقول: ما علمت كنهه ما

أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني موسى، فيأتون موسى عليه السلام فيقول: هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليما وقربه نجيا غيري؟ فيقولون: لا، فيقول: ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا عيسى، فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون له: اشفع لنا عند ربك فيقول: هل تعلمون أحدا خلقه الله من غير أب غيري؟ فيقولون: لا، فيقول: هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال: فيقولون: لا. فيقول: أنا حجيج نفسي، ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيأتوني، فأضرب بيدي على صدري. ثم أقول: أنالها، ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش فآتي ربي عزّ وجل فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: ربي أمتي فيقول: هم لك. فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا غبطني بذلك المقام: وهو المقام المحمود، فآتي بهم الجنة، فاستفتح فيفتح لي ولهم، فيذهب بهم إلى نهر يقال له نهر الحيوان حافتاه قصب فكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة، وريح أهل الجنة فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها يقال لهم: مساكين أهل الجنة.» قال الألوسي في قوله تعالى: وَعَلَى الْأَعْرافِ (أي أعراف الحجاب أي أعاليه وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل: العرف ما ارتفع من الشئ أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه. وقيل: ذاك جبل أحد. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم «أحد يحبنا ونحبه، وأنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار، يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم، وهم- إن شاء الله تعالى- من أهل الجنة» وقيل: هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل. وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال: المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار «رجال» والحق أنه مكان، والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربهم فقال لهم: قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم، أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة. وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب

كلمة في السياق

الأعراف: «ما تنتظرون؟» قالوا: ننتظر أمرك فيقال: «إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي» وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم). 8 - وبمناسبة قوله تعالى على لسان أهل النار: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ ذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الصفار قال: سألت ابن عباس- أو سئل- أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله» وأخرج أيضا .. عن أبي صالح قال: لما مرض أبو طالب قالوا له: لو أرسلت إلى ابن أخيك هذا فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به؟ فجاءه الرسول، وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: إن الله حرمهما على الكافرين. 9 - وبمناسبة قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا قال ابن كثير: وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني. كلمة في السياق: انتهينا من الكلام عن المجموعة الثانية من الفقرة الثانية في المقطع الأول، ولم يبق في هذا المقطع إلا الفقرة الثالثة، وهي فقرة تقيم الحجة على الناس، وتطالبهم بالعبادة والدعاء، وتنهاهم عن الفساد في الأرض، وتذكر ببعض السنن، وهذه الفقرة بمثابة الخاتمة للمقطع الأول: تفسير الفقرة الثالثة: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ أي بينا وميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه عَلى عِلْمٍ أي عالمين بكيفية تفصيل أحكامه هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فهو مع كونه مفصلا وبعلم فإنه هدى ورحمة ولكن للمؤمنين هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل

[سورة الأعراف (7): آية 54]

ينتظرون إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد قال الربيع: لا يزال يجئ من تأويله أمر حتى يتم يوم الحساب حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أي يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه وأعرضوا عنه مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي تبين وصح أنهم جاءوا بالحق فأقروا حين لا ينفعهم فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي هل يشفع لنا شافع، أو هل نرد فنعمل على حسب الأمر ونترك ما كنا عليه قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ما كانوا يعبدونه من الأصنام إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ والحكمة في كون الخلق في ستة أيام، مع قدرة الله على خلقها دفعة واحدة، للإعلام بالتأني في الأمور، ولأن لكل عمل يوما، ولأن إنشاء شئ بعد شئ أدل على عالم، مدبر، مريد، يصرفه على اختياره، ويجريه على مشيئته، ومر معنا في المعني العام الخلاف في كون الستة أيام من أيامنا أو من أيام الله، ومر معنا في سورة البقرة كلام حول موضوع خلق السموات والأرض، وسنتحدث في سورة هود عن هذا المعنى بتفصيل أكثر إن شاء الله، وتفصيله النهائي في سورة فصلت والنازعات. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يجعل الليل يلحق النهار فيغطيه يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي سريعا. قال النسفي: والطالب هو الليل، وهذا موضوع مهم فيه معجزة كما سنرى في الفوائد وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ أي وخلق الشمس والقمر والنجوم مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي مذللات بأمره التكويني أَلا لَهُ الْخَلْقُ أي هو الذي خلق الأشياء كلها وهو الخالق وحده وَالْأَمْرُ فمن حقه التشريع والتكليف وليس لأحد معه حق في الأمر إلا بإذنه تَبارَكَ اللَّهُ أي كثر خيره أو دام بره رَبُّ الْعالَمِينَ خالقهم وسيدهم والمهيمن عليهم، والمسيطر المسخر ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي وأنتم ذو وتضرع وخفية، والتضرع من الضراعة وهي الذل، والخفية الإسرار، والمعنى: ادعوا ربكم تذللا وتملقا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المجاوزين ما أمروا به في كل شئ من الدعاء وغيره، وعن ابن جريج: الرافعين أصواتهم بالدعاء، وعنه: الصياح في الدعاء مكروه وبدعة. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أي بالمعصية بعد الطاعة، أو بالشرك بعد التوحيد، أو بالظلم بعد العدل، أو بالبدعة بعد السنة، أو بتعطيل الشريعة بعد إقامتها، أو هذا كله وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: ادعوه خائفين من الرد، طامعين في الإجابة. أو خائفين من النيران، طامعين في الجنان. أو خائفين من الفراق،

[سورة الأعراف (7): آية 57]

طامعين في التلاق. أو خائفين من غيب العاقبة طامعين في ظاهر الهداية. أو خائفين من العدل طامعين في الفضل إن رحمة الله قريب من المحسنين أي قريبة ممن اتصفوا بالإحسان. وذكر النسفي خمسة أوجه لتذكير كلمة قريب في هذا المقام وليس من غرضنا في هذا الكتاب مثل هذا وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً أي مبشرة بالمطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام نعمته وهو الغيث الذي هو من أجل النعم حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي حملت ورفعت سَحاباً ثِقالًا أي بالماء سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجل بلد ميت ليس فيه مطر لسقيه فَأَنْزَلْنا بِهِ أي بالسحاب أو بالسوق الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي بالماء كَذلِكَ. أي مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فيؤديكم التذكر إلى الإيمان بالبعث، إذ لا فرق بين الإخراجين؛ لأن كل واحد منهما إعادة الشئ بعد إماتته، والآية صريحة في رد الخرافة القائلة بأن المطر ليس من السحاب الناتج عن بخار الماء. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي والأرض الطيبة التراب يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بتيسيره كأنه قيل يخرج نباته حسنا وافيا وَالَّذِي خَبُثَ أي والبلد الخبيث لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً أي لا يخرج نباته إلا نكدا، والنكد: هو الذي لا خير فيه. وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ، وهو المؤمن، ولمن لا يؤثر فيه شئ من ذلك، وهو الكافر، وهذا التمثيل واقع على أثر مثل ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد في علم البلاغة كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ مثل ذلك التصريف نردد الآيات ونكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله وهم المؤمنون ليتفكروا ويعتبروا فيها وبهذا تم المقطع. فوائد: 1 - قال الألوسي: في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ شرع في بيان مبدأ الفطرة أثر بيان معاد الكفرة، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه، احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه، ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ أي خالقكم ومالككم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ السبع وَالْأَرْضَ بما فيها.

ثم قال الألوسي: (فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ. نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء). ثم قال الألوسي. (وإلى حمله على اللغوي، وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا: كان مقدار كل يوم ألف سنة، وروي ذلك عن زيد بن أرقم). وقال صاحب الظلال في الستة أيام التي تم فيها الخلق: (فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعا: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ .. وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن. إنها قد تكون ست مراحل. وقد تكون ستة أطوار. وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان! .. وقد تكون شيئا آخر .. فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد .. وكل حمل لهذا النص ومثله على «تخمينات» البشرية لا يتجاوز مرتبة الفرض والظن- باسم «العلم!» الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض). 2 - قال ابن كثير: (وأما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا: وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شئ من خلقه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات القديمة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى) 3 - في قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً معجزة كبرى إذ فيها تقرير

لمبدأ دوران الأرض بما لا يقبل الجدل، وكونها كذلك في الوقت الذي لم تستقر فيه البشرية على مبدأ الدوران إلا بعد قرون طويلة فذلك دليل على أن هذا الكتاب أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض وقد فصلنا ذلك في كتابنا «الرسول» صلى الله عليه وسلم من سلسلة الأصول الثلاثة، وخلاصة ما نقوله هنا: إن فقه اللغة يفرض علينا أن يكون الطالب في قوله تعالى يَطْلُبُهُ حَثِيثاً هو الليل ولو كانت الأرض ثابتة لكان النهار هو الذي يطلب الليل لأن المنبع الضوئي وقتذاك هو الطالب، أما والقرآن يذكر أن الليل هو الطالب فذلك لا يكون إلا إذا كانت الأرض هي الدائرة على محورها، ولا يفهم من ذلك أن الشمس ثابتة، إذ ليس في هذا الكون شئ إلا وهو في حالة حركة ما، فالشمس لها ثلاث حركات على ما قرره علماء الكون في عصرنا، وسيمر هذا معنا كثيرا، ولا تعني حركة الأرض ثبات الشمس. ولا حركة الشمس ثبات الأرض، بل الكل في فلك يسبحون على غاية الإتقان. فسبحان الله ما أعظمه. 4 - وبمناسبة قوله تعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ يذكر ابن كثير: (قال ابن جرير ... عن عبد العزيز الشامي عن أبيه- وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروي مرفوعا «اللهم لك الملك كله ولك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله). 5 - قال الألوسي في تفسير التسخير من قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ (أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه، كأنهن مميزات أمرن فانقدن، فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيه والاستعارة ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته). 6 - وقال الألوسي: في شرح قوله تعالى تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وفي مناسبة ذلك للآية بعدها ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً: (وقال البيضاوي: المعني: تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه، ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد، وأخبر أنه

المتفرد بالخلق والأمر، أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عزّ من قائل ادْعُوا رَبَّكُمْ. 7 - في تفسير قوله «خفية» في قوله تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً يقول الألوسي: («وخفية» أي سرا. أخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أنه تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا وفي رواية عنه أنه قال: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. وجاء فى حديث أبي موسى الأشعري أنه قال صلى الله عليه وسلم لقوم يجهرون: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا، وهو معكم، وهو أقرب من أحدكم من عنق راحلته» والمعني: ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء). 8 - وفي آداب الدعاء يقول الألوسي: (وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم، وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي، كرتبة الأنبياء عليهم السلام، والصعود إلى السماء، وأن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر، كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة، وطلب نزول الوحي والتنبي ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول وعمل، ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وفصل آخرون فقالوا: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء، والإظهار أفضل عند عدم خوفه، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء، أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل، أو نائم، أو قارئ، أو مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك، وكان فيه قصد تعليم جاهل، أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش، أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه، أو إدخال سرور على قلب مؤمن، أو تنفير مبتدع عن بدعة، أو نحو ذلك).

وقال الألوسي كذلك: (وذكروا للدعاء آدابا كثيرة منها الكون على طهارة، واستقبال القبلة، وتخلية القلب من الشواغل، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع اليدين نحو السماء، وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإجابة، ومنها يوم الجمعة- عند كثير- ساعة الخطبة، ويدعو فيها بقلبه، كما نص عليه أفضل متأخري عصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار، فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي، ووقت نزول الغيث، والإفطار، وثلث الليل الأخير، وبعد ختم القرآن، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله). وقال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعون سميع قريب». وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا وقال ابن جريح: يكره رفع الصوت، والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء ولا في غيره وقال أبو مجلز: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ لا يسأل منازل الأنبياء. وروى أحمد ... عن مولى لسعد: أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وفي لفظ- يعتدون في الطهور والدعاء- وقرأ هذه الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً الآية- وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل».

وروى الإمام أحمد أيضا ... عن أبي أمامة: أن عبد الله بن المغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة، وعذبه من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور». وأخرجه أبو داود بإسناد حسن لا بأس به، والله أعلم. 9 - وبمناسبة الأمر بالدعاء نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء مخ العبادة» (¬1) وفي رواية «الدعاء هو العبادة» (¬2) وسنرى في هذه السورة حضا كثيرا على الدعاء وطلبا شديدا له، حتى إن الحكمة في الابتلاء إنما هي من أجل التضرع، والتضرع دعاء، وإنما كان للدعاء أهميته الكبرى والعظيمة لأنه المظهر الأعظم للعبودية والافتقار إلى الله، وهو مع هذا عنوان معرفة الله، فنحن عند ما نرفع أيدينا في الدعاء وندعو، يكون ذلك اعترافا منا بأن الله موجود، وسميع وقادر على كل شئ. وهو الذى يرفع الكربات، ويجيب الدعوات. والدعاء مع ذلك رمز الخضوع والتذلل والافتقار فلنكثر من الدعاء. 10 - وبمناسبة قوله تعالى: إن رحمة الله قريب من المحسنين قال ابن كثير: (وقال قريب ولم يقل قريبة لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قريب من المحسنين). وقال مطر الوراق: استنجزوا موعود الله بطاعته فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. رواه ابن أبي حاتم). 11 - وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً: (هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وعند هذه الآية يروى ابن كثير حديث البخاري التالي بما يشير به إلى أن الحديث في معنى ما تعرضت له الآية: روى البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكانت منها نقية، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وهو ضعيف. (¬2) أخرجه أصحاب السنن وصححه وحسنه الترمذي.

كلمة في السياق

فعلم وعلم، ومثل من لم برفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذين أرسلت به» ورواه مسلم والنسائي). 12 - وعند قوله تعالى كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يقول الألوسي: (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعم الله تعالى، ومنها تصريف الآيات، وشكر ذلك بالتفكر فيها، والاعتبار بها وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك، وقال الطيبي: ذكر «لقوم يشكرون» بعد «لعلكم تذكرون» من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر، وهذا كما قال- غير واحد-: مثل لمن ينجح فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شئ من ذلك. أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الخ مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين يقول: هو طيب وعمله طيب والذي خبث إلى آخره مثل للكافر يقول هو خبيث وعمله خبيث. وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشاف، وفيه إشارة إلى معنى ما ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عزّ وجل «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وفي هذا المقطع رأينا ثلاث فقرات: في الفقرة الأولى قصة آدم، وفي الفقرة الثانية التوجيهات الرئيسية الأربعة لبني آدم، والتي تذكرنا بالعبرة من قصة آدم، وفي آخر هذه التوجيهات الإشارة إلى القاعدة التي هي محور سورة الأعراف. وفيها تفصيل لما أعده الله للكافرين والمؤمنين بما يتفق مع محور السورة، وفي الفقرة الأخيرة تذكير بهذا القرآن وبوجوه من الإعجاز فيه، وهو الصيغة النهائية الأخيرة للهدى المنزل من الله على البشرية وتذكير بالله ونعمه، وأمر للإنسان بالتضرع والتذلل والعبادة، وترك الإفساد في الأرض، ومثل للناس في موقفهم من الهدى المنزل عليهم، وكل ما في هذا المقطع يستجيش الإنسان ويهيجه لاتباع ما أنزل الله، ويخوفه من الكفر بما أنزل،

القسم الثاني

والاستكبار على من أنزل عليهم من الرسل بمعان متعددة، وبطرق من العرض هدفها واحد، وإذا ما استخرج هذا أطيب الاستعداد عند الإنسان لاتباع هذا القرآن الذي هو- كما ذكرنا- الصيغة النهائية والأخيرة لهدى الله، فإن السورة تبدأ تقص علينا قصص أمم أنزل عليها هدى، وكيف كان موقفها من هذا الهدى، وكيف عوقبت عند ما رفضت هذا الهدى، وقبل أن نبدأ نحب أن نذكر بما قلناه من قبل وهو أن ذكر القصة في سورة من سور القرآن إنما يخدم غرضها فإذا ما تكررت القصة فإنها في كل مرة تخدم غرضا خاصا، ومن ثم تجد أحيانا القصة يذكر طرف منها في مكان وطرف منها في مكان، وذلك لأن قسما منها يخدم غرض السورة الأولى، والقسم الآخر يخدم غرض السورة الثانية، وقد تتكرر القصة والمعاني متقاربة أو واحدة ولكن شيئا ما منها هو سبب التكرار، فإذا عرفنا أن ما قصه الله علينا من قصص يستوعب كل النماذج للحياة البشرية، وأنه مهما حدث تكرار فلمراد خاص، وضمن محور خاص، وبأسلوب خاص، وطريقة عرض خاصة، عرفناكم في هذا القرآن من إعجاز لا يحاط به. وعرفنا رشحة من معنى قوله تعالى الذي مر معنا في هذا المقطع وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. [القسم الثاني] فصل في أقسام السورة: مر معنا حتى الآن مقدمة سورة الأعراف، والمقطع الأول منها، وقلنا إن المقدمة والمقطع تشكلان القسم الأول من السورة، وهذا القسم تتكامل معانيه كما رأينا، يبدأ بقوله تعالى كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وينتهي بالفقرة المبدوءة بقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ والمنتهية بقوله تعالى وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وبعد ذلك يأتي القسم الثاني: وفيه قصص أقوام: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، ثم تعقيب عليها، ثم يستمر القسم بالحديث عن موسى عليه السلام وقومه والدليل على أن قصة موسى استمرار لما قبلها استعمال كلمة «ثم» في بدايتها ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى ... وتنتهي قصة موسى وقومه بقوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ .... وتستغرق أكبر قطاع من السورة. ويأتي بعد ذلك القسم الأخير من السورة وبدايته

قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى .... فالسورة تتألف من ثلاثة أقسام، ونحن الآن سنبدأ عرض القسم الثاني، والمقطع الأول فيه يتحدث- كما قلنا- عن قصص أقوام: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وفيه كذلك تعقيب على قصص هؤلاء الأقوام، وفي هذا التعقيب عرض لبعض سنن الله في الأمم التي ينزل عليها وحيا وصلة المقطع في سياق السورة أنه يقص علينا قصص أقوام أنزل عليهم وحي، وكيف كان موقفهم من هذا الوحي، وكيف فعل الله عزّ وجل بهم، وصلة ذلك بمحور السورة من البقرة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إن صلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة لا تخفى. يأتي إذن المقطع الأول من القسم الثاني وفيه قصص: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، عليهم السلام وكل منهم قد دعا قومه إلى الله عزّ وجل، ولذلك صلة بما تقدمه من معان وفي ذلك يقول صاحب الظلال: «إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وإن الدينونة لهذا الإله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي استوى على العرش، والذى يحرك الليل ليطلب النهار، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والذي له الخلق والأمر. إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها، كلما قعد لها الشيطان على صراط الله فأضلها عنه؛ وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى؛ ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية، والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله. ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه؛ والإسلام لله الذي

المقطع الأول من القسم الثاني

أسلم له الكون كله؛ والذي يتحرك مسخرا بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزا؛ وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة؛ فلا يكون هو وحده نشازا في نظام الوجود كله. إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ؛ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله؛ وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود .. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر، والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيدا عن حقيقتها، وهذه هي اللمسة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به). ولنبدأ بعرض المقطع الأول من القسم الثاني. المقطع الأول من القسم الثاني ويمتد من الآية (59) إلى نهاية الآية (102) وهذا هو: [سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 102] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)

المعنى العام

المعنى العام: يبدأ السياق في هذا المقطع بعرض قصة نوح عليه السلام وقومه ثم هود عليه السلام وقومه، ثم قصة صالح عليه السلام وقومه، ثم قصة لوط عليه السلام وقومه ثم قصة شعيب عليه السلام وقومه، ثم تأتي مجموعة آيات فيها مجموعة قواعد وسنن، ثم بعد ذلك يأتي مقطع جديد هو استمرار لهذا المقطع، وفيه قصة موسى مع فرعون ... ومن خلال هذا العرض نرى أن الله عزّ وجل قد أنزل هدى بواسطة رسل فكيف كان موقف الناس من هذا الهدى؟ وماذا كان العقاب؟، فأما نوح فقد دعا قومه إلى عبادة الله والالتزام برسالاته واتباع رسوله، فكان موقفهم منه هو اتهامه بالضلال وتكذيبه والتعجب من أن ينزل الله على أحد من خلقه وحيا فعوقبوا بالغرق، ونجى الله نوحا وأهل الإيمان. وأما هود فقد: دعا قومه إلى عبادة الله وتقواه وتذكر نعم الله عليهم؛ فاتهموه بالسفه والطيش، وكذبوه وتعجبوا أن ينزل الله عليه وحيا، وأصروا على ما هم عليه من الشرك، فعاقبهم الله بتسليط ريح عليهم استأصلتهم ونجى الله هودا والمؤمنين.

وأما صالح فكذلك: دعا قومه إلى عبادة الله وتذكر نعمه، وأتاهم بالمعجزة الشاهدة على صحة رسالته وهي الناقة؛ فأصروا على الكفر والاستكبار والصد عن سبيل الله وقتلوا الناقة، فعاقبهم الله بالزلزال والصيحة فماتوا أجمعون ونجى الله صالحا والمؤمنين. وأما لوط: فقد دعا قومه إلى ترك إتيان الرجال- وهي الفاحشة التي لم تعرفها البشرية قبلهم- فكان موقف قومه تكذيبه وتهديده بالإخراج من قريتهم؛ فعاقبهم الله فأمطر الله عزّ وجل عليهم حجارة من السماء أهلكتهم، وخسف بقراهم وأنجى الله لوطا والمؤمنين. وأما شعيب: فقد دعا قومه إلى عبادة الله، والوفاء بالكيل والميزان، وألا يخونوا الناس في أموالهم، وأن يتركوا الفساد في الأرض، وألا يصدوا عن سبيل الله، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم، فكان موقفهم أن هددوه بالنفي من أرضهم هو ومن معه؛ فعاقبهم الله بأن أهلكهم بزلزال رافقته صيحة وصاعقة من السماء ونجى الله شعيبا والمؤمنين. وبعد أن بين الله عزّ وجل مواقف هذه الأمم من الهدى المنزل عليها بواسطة رسلها وما عاقبهم به في الدنيا وكيف نجى المؤمنين، يذكر الله عزّ وجل ما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء، بأن سلط عليهم البأساء فأصابهم في أبدانهم. والضراء فأصابهم بالفقر والحاجة، وكل ذلك من أجل أن يتضرعوا إليه فيدعوه ويخشوه ويبتهلوا إليه في كشف ما نزل بهم. ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما عقلوا شيئا من الذي أراد منهم؛ فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه، فحول الحال عليهم من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك فما فعلوا واستمر حالهم على الكفر حتى كثرت الأموال والأولاد، واعتبروا كلا الحالين عاديا لا علاقة لله فيه، ولا علاقة لما هم فيه من الكفر بكلا الحالين. ابتلاهم الله بهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتبهوا بهذا ولا هذا. وقالوا قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر. وإنما هو الدهر تارات وتارات. فلم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء والضراء، هذا كله والرسل بين أظهرهم تدعوهم إلى الله، وتقيم عليهم الحجج

ويظهر الله على أيديهم المعجزات وهم غافلون لا يتعظون بكلام نبي ولا بعقوبة ربانية واعظة، حتى إذا أعذروا من أنفسهم أخذهم الله بالعقوبة فجأة وبغتة، وعلى غير شعور منهم أو مقدمات، مع أنهم لو آمنوا بما جاءت به الرسل وصدقوا واتبعوا واتقوا الله بفعل الطاعات وترك المحرمات لفتح الله عليهم الدنيا، بإنزال المطر، وإنبات الأرض، ولكنهم كذبوا رسل الله فعاقبهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم. وبعد أن ذكر- عزّ وجل- سنته في الأمم التي ينزل عليها هدى، ويرسل لها رسلا، من خلال ذكر النماذج السابقة في القصص الخمس. ومن خلال ذكر القاعدة الكلية بعد ذلك، وإذ كان هذا كله من أجل أن يعقل هذا العالم الذي بعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد، فإن الله عزّ وجل يعقب على ما مضى كله بالوعظ والتحذير، فخوف وحذر البلاد والأمم أن ينزل بهم عذابه في ليل أو نهار، وهم غافلون، وحذرهم أن يأتيهم بأسه ونقمته وأخذه لهم، فإنه لا يأمن أحد من بأس الله إلا خاسر وغافل، وإنما تستحق البلاد والأمم ذلك في حالة كفرها وتمردها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته ودينه. ثم عجب الله من حال الذين يستخلفون في أرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، ثم يسيرون بسيرة الهالكين، فكيف لا يتعظون، والله قادر على أن يصيبهم بما أصاب السابقين، ولكنه الكفر والكبر والتكذيب الذي يستحق به أصحابه عمى القلب فلا يتعظون. وبعد أن قص الله تعالى خبر قوم: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وما كان من إهلاكه الكافرين، وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم، بأن بين لهم الحق على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين، وبعد أن بين الله سنته في الإهلاك بعد الإعذار وتقليب الأحوال، وبعد أن حذر العالم من عقابه، وبعد أن عجب من الغفلة بعد رؤية ما حدث للأمم أنهى هذا المقطع بأن بين لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه يقص عليه من أخبار الأمم السابقة، وأن هذه الأمم الهالكة قد جاءتهم رسلهم بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، وأنهم لم يؤمنوا بما جاءتهم به الرسل؛ بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم كبرا فاستحقوا أن يطبع الله على قلوبهم، ثم بين تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن أكثر الأمم السابقة لم يكن عندها وفاء لعهد الله الذي أخذه عليهم، بما جبلهم عليه وفطرهم، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك وشهدوا

على أنفسهم به، ثم هم خالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا من شرع، بل في الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عنه، ومع ذلك فقد نقضت أكثر الأمم عهد الله هذا، ثم بين تعالى أن أكثر الأمم السابقة فاسقة، خارجة عن الطاعة والامتثال. وبتقرير هذا المعنى ينتهي المقطع، بعد أن استقر من خلاله ضرورة اتباع هدى الله المنزل ومآل العاصين والطائعين، وسنة الله في هؤلاء وهؤلاء، ومنها نفهم أن أكثرية الخلق لا تتبع الهدى، حتى لا يكون استغراب ولا تعليق للهدى بأكثرية أو أقلية. فالحق حق قبله الأكثرون أو رفضوه. وأهل الحق ناجون قلة كانوا أو كثرة. وأهل الباطل هالكون مهما كثروا. ويجئ المقطع بما يحقق محور السورة ويعمقه، وعلى خطه وسياقه، ولا يحتاج إدراك ذلك إلى بذل جهد قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فالمقطع قص علينا من نبإ الهدى الذي أنزله الله عزّ وجل ومآل من اتبعوه في الدنيا، ومآل من صد، ومن قبل حدثتنا السورة عن مآل المؤمنين والكافرين في الآخرة. يقول صاحب الظلال في عرضه لهذا المقطع: (نحن مع موكب الإيمان .. هذه أعلامه وهذه علائمه وهذه هي معالم طريقه .. وهو يواجه البشرية في رحلتها الطويلة على هذا الكوكب الأرضي .. يواجهها كلما التوت بها الطريق، وكلما انحرفت عن صراط الله المستقيم، وكلما تفرقت بها السبل تحت ضغط الشهوات التي يقودها الشيطان من خطامها، محاولا أن يرضي حقده وأن ينفذ وعيده وأن يمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم فاذا الموكب الكريم يواجه البشرية بالهدى ويلوح لها بالنور ويستروح بها روح الجنة ويحذرها لفحات السموم ونزغات الشيطان الرجيم عدوها القديم ..

إنه مشهد رائع .. مشهد الصراع العميق في خضم الحياة على طول الطريق. إن التاريخ البشري يمضي في تشابك معقد كل التعقيد، إن هذا الكائن المزدوج الطبيعة المعقد التركيب الذي يتألف كيانه من أبعد عنصرين تؤلف بينهما قدرة الله وقدره- عنصر الطين الذي نشأ منه وعنصر النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الطين إنسانا- إن هذا الكائن ليمضي في تاريخه مع عوامل متشابكة كل التشابك، معقدة كل التعقيد .. يمضي بطبيعته هذه يتعامل مع تلك الآفاق والعوامل التي أسلفنا في قصة آدم الحديث عنها يتعامل مع (الذات) الإلهية مشيئتها وقدرها وجبروتها ورحمتها وفضلها .. الخ .. ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكته، ويتعامل مع إبليس وقبيلته، ويتعامل مع هذا الكون المشهود ونواميسه وسنن الله فيه، ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض، ويتعامل مع بعضه البعض يتعامل مع الآفاق والعوالم بطبيعته تلك وباستعداداته المتوافقة والمتعارضة مع هذه الآفاق والعوالم .. وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط: يجري تاريخه من القوة في كيانه والضعف ومن التقوى والهدى، ومن الالتقاء بعالم الغيب وعالم الشهود ومن التعامل مع العناصر المادية في الكون والقوى الروحية ومن التعامل مع قدر الله في النهاية ... من هذا كله يتكون تاريخه .. وفي ضوء هذا التعقيد الشديد يفسر تاريخه. والذين يفسرون التاريخ الإنساني تفسيرا «اقتصاديا» أو «سياسيا» والذين يفسرونه تفسيرا «بيولوجيا» والذين يفسرونه تفسيرا «روحيا» أو «نفسيا» والذين يفسرونه تفسيرا «عقليا» كل أولئك ينظرون نظرة ساذجة إلى جانب واحد من جوانب العوامل المتشابكة والعوالم المتباعدة التي يتعامل معها الإنسان، ويتألف من تعامله معها تاريخه، والتفسير الإسلامي للتاريخ هو وحده الذي يلم بهذا الخضم الواسع ويحيط به وينظر إلى التاريخ الإنساني من خلاله. ونحن هنا أمام مشاهد صادقة لقد شهدنا مشهد النشأة البشرية، وقد تجمعت في المشهد كل العوالم والآفاق والعناصر- الظاهرة والخفية- التي يتعامل معها هذا الكائن منذ اللحظة الأولى، ولقد شهدنا هذا الكائن. باستعداداته الأساسية، شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى وإسجاد الملائكة له، والبارئ العظيم يعلن ميلاده، وشهدنا ضعفه بعد ذلك وكيف قاده منه عدوه، وشهدنا مهبطه إلى الأرض، وانطلاقه في التعامل مع عناصرها

المعنى الحرفي

ونواميسها الكونية، ولقد شهدناه يهبط إلى الأرض مؤمنا بربه مستغفرا لذنبه مأخوذا عليه عهد الخلافة أن يتبع ما يأتيه من ربه ولا يتبع الشيطان ولا الهوى، مزودا بتلك التجربة الأولى في حياته ثم مضى به الزمن وتقاذفته الأمواج في الخضم، وتفاعلت تلك العوامل المعقدة المتشابكة في كيانه ذاته وفي الوجود من حوله، تفاعلت في واقعه وفي ضميره، ثم ها نحن أولاء في هذا الدرس نشهد كيف صارت به هذه العوامل المعقدة المتشابكة إلى الجاهلية!!! إنه نسي .. وقد نسي .. إنه يضعف وقد يضعف .. إن الشيطان يغلبه .. وقد غلبه .. ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى!!! لقد هبط إلى هذه الأرض مهتديا تائبا موحدا .. ولكن ها نحن أولاء نلتقي به ضالا مغتربا مشركا، لقد تقاذفته الأمواج في الخضم، ولكن هنا لك معلما في طريقه .. هنا لك الرسالة ترده إلى ربه. فمن رحمة ربه به أنه لا يتركه وحده وها نحن أولاء في هذه السورة نلتقي بموكب الإيمان يرفع أعلامه رسل الله الكرام: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى ومحمد- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ونشهد كيف يحاول هذا الرهط الكريم- بتوجيه الله وتعليمه- إنقاذ الركب البشري من الهاوية التي يقوده إليها الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان. كما نشهد مواقف الصراع بين الهدى والضلال وبين الحق والباطل وبين الرسل الكرام وشياطين الجن والإنس ثم نشهد مصارع المكذبين في نهاية كل مرحلة ونجاة المؤمنين. بعد الإنذار والتذكير .. والقصص في القرآن لا يتبع دائما ذلك الخط التاريخي ولكنه في هذه السورة يتبع هذا الخط، ذلك أنه يعرض سير الركب البشري منذ النشأة الأولى، ويعرض موكب الإيمان وهو يحاول هداية هذا الركب واستنقاذه كلما ضل تماما عن معالم الطريق وقاده الشيطان كلية إلى المهلكة ليسلمه في نهايتها إلى الجحيم). المعنى الحرفي: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أي والله لقد أرسلنا فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وحده. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ

[سورة الأعراف (7): آية 60]

عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف والسادة إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في ذهاب من طريق الصواب بين، والرؤية هنا رؤية القلب والعقل في زعمهم، وهكذا في كل عصر يزعم الكافرون أن أهل الهدى على ضلال، وأن حكمهم عليهم بهذا إنما هو حكم عقلي علمي أو ما يسمونه الآن موضوعيا قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي ليس بي شئ من الضلال ولم يقل ضلال كما قالوا بل قال ضلالة لأن الضلالة أخص من الضلال فإذا لم يكن عنده ضلالة من الضلالات فمن باب أولى ألا يكون ضالا وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا تأكيد لنفي الضلالة لأن كونه رسولا من الله مبلغا لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم، فكان في الغاية القصوى من الهدى، وهذا الذي يفيده ابتداء التعبير بلكن التي تفيد الاستدراك أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي هذا بيان لكونه رسول رب العالمين ومن ثم يقوم بالبلاغ، والمراد برسالات الله هنا ما أوحي إليه في الأوقات المتطاولة أو في المعاني المتعددة من الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والمذكرات وَأَنْصَحُ لَكُمْ أي وأقصد صلاحكم بإخلاص وقال وأنصح لكم ولم يقل وأنصحكم ليفيد مبالغته في تمحيضهم النصيحة. وحقيقة النصح: إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك، أو النهاية في صدق العناية وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي من صفاته يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ الاستفهام للإنكار والمراد بالذكر الموعظة، والمراد على رجل منكم أي على لسان رجل منكم أي من جنسكم، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ* يعنون إرسال البشر ويقولون لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ثم بين حكمة الإرسال لِيُنْذِرَكُمْ عاقبة الكفر وَلِتَتَّقُوا أي ولتوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم فَكَذَّبُوهُ أي فنسبوه إلى الكذب فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي والذين آمنوا معه فِي الْفُلْكِ أي في السفينة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي عن الحق يقال: أعمى في البصر وعم في البصيرة. نقول: بمناسبة قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ

إِلهٍ غَيْرُهُ يقول صاحب الظلال: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول: فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره. وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد. إن دين الله منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله. وهذا هو معنى عبادة الله وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبيره أمره بقدرة الله وقدره، وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده. كلها حزمة واحدة غير قابلة للتجزئة. وإلا فهو الشرك، وهو عبادة غير الله معه، أو من دونه). وبمناسبة رد قوم نوح على نوح عليه السلام بقولهم: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قال صاحب الظلال: (كما قال مشركو العرب لمحمد- صلى الله عليه وسلم- إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم، وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعد ما يبلغ المسخ في الفطر! .. تنقلب الموازين وتبطل الضوابط. ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل. وماذا تقول الجاهلية عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين وتدعو من يهتدي منهم إلى المستنقع الكريه. وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه. وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمى ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما «رجعية» وتخلفا وجمودا وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما وتطهرهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه! وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة، وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول

فوائد

عنه: إنه «جامد». ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته .. إن الجاهلية هي الجاهلية .. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف. وينفي نوح عليه السلام عن نفسه الضلال، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه. إنما هو رسول من رب العالمين. يحمل لهم الرسالة. ومعها النصح والأمانة. ويعلم من الله ما لا يعلمون. فهو يجده في نفسه، وهو موصول به، وهم عنه محجوبون: قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. فوائد: 1 - في سفر التكوين من أسفار العهد القديم المعتمدة عند اليهود والنصارى، على ما فيها من جهالات وضلالات. في الإصحاح الخامس منه حديث عن نوح عليه السلام وأنه نوح بن لامك بن متوشالح بن أخنوخ (وهو إدريس- عليه السلام- بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام) ذكر هذا في الإصحاح الخامس بأن ذكرت هذه السلسلة واحدا فواحدا مع عمر كل وما ولد، وهذا المذكور هنا هو الذي ذكره ابن كثير عن ابن إسحاق مع اختلاف بسيط في رسمه بعض الأسماء مما يدل على أن ابن إسحاق أخذ هذا الكلام من هاهنا، والنقل عن كتب أهل الكتاب ليس فيه بأس على ألا يأخذ أكبر من حجمه، بمعنى: ألا يعطى من الثقة أكثر مما يستأهل، فمجموع ما بأيدينا من كتب العهدين- الجديد والقديم- إذا سلطت عليها سهام النقد العلمي فإنها لا تعدل عندنا الحديث الضعيف. بل إن قسما كبيرا منها من الموضوع المكذوب حتما بموازين النقد العلمي. فما سننقله منها مما لا نص فيه من كتابنا أو سنة رسولنا عليه الصلاة والسلام لا يعدو أن يكون المراد بذكره الاستئناس. لا ندافع عنه إن ثبت بطلانه، ولا نتحمل مسئولية ما فيه، ولا نعتبره جزءا من ديننا، وإن ما في سفر التكوين من تهافت أو تناقض أو كذب صريح يجعل حكمنا عليه أقسى من حكمنا على ما بعده من أسفار العهد القديم الخمسة الأولى، والتي يسمونها التوراة. ولنا أثناء عرضنا هذه السورة جولة سنراها حول التوراة، كما أن لنا كرات على معان في قصة نوح عليه السلام.

ولنعد إلى التفسير

2 - قال ابن كثير (وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام. قاله ابن عباس وغير واحد من علماء التفسير: وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى- وله الحمد والمنة- رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله لا شريك له.) 3 - وبمناسبة قوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا عالما بالله لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة- وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا- «يا أيها الناس إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد). ولنعد إلى التفسير: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحا عليه السلام كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، والمراد بقوله تعالى «أخاهم» أي واحدا منهم، وإنما جعل واحدا منهم لأنهم عن رجل منهم أفهم، فكانت الحجة عليهم ألزم قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده وحضهم على التقوى التي طريقها التوحيد والعبادة قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف والسادة ممن كفر، وقد فهم بعضهم من وصف ملأ قوم هود بالذين كفروا، وعدم وصف قوم نوح بذلك، أن بعضا من أشراف عاد أسلموا، ولم يوجد من أشراف قوم نوح من أسلم إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر واستعمال «في» قبل كلمة «سفاهة» تفيد أنهم بالغوا في وصفه بالسفاهة حتى إنها محيطة به وهو متمكن فيها غير منفك عنها وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي في ادعائك الرسالة قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أي لكم فيما أدعوكم إليه قَوَّامِينَ* على ما أقول لكم، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من ينسبهم إلى

[سورة الأعراف (7): آية 69]

الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، أدب حسن، وخلق عظيم، وإخبار الله عن ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ هذا يحتمل أن عادا خلفوا قوم نوح في الأرض، ويحتمل أنهم خلفوهم في مساكنهم، وهذا يفيد أن سلطان قوم عاد امتد إلى مناطق قوم نوح، مع ملاحظة أن هناك اتجاهين في كون قوم نوح هم سكان الأرض وحدهم، أو أنهم سكان منطقة محددة منها وهي مواضيع ستأتي في محلها وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي طولا وعرضا والمعنى: زاد طولكم على الناس بسطة أي جعلكم أطول من أبناء جنسكم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه ومنته عليكم في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بطاعة رسول الله فيما أنذركم به، وتذكركم نعمة الله فتشكرونه قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه؛ حبا لما نشئوا عليه؛ وقولهم أجئتنا يحتمل أن يكون لهود عليه السلام، مكان منعزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أن العذاب نازل بنا قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ الرجس: العذاب. والسخط: الغضب. وقوله قد وقع أي قد نزل، جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي من حجة. وقوله فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي: في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات لأنكم تسمون الأصنام آلهة وهي خالية من معني الألوهية فَانْتَظِرُوا أي نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ذلك. يقول صاحب الظلال: والتعبير المتكرر في القرآن: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ (هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة .. إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله، خفيف الوزن، قليل الأثر، سريع الزوال .. إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه.

[سورة الأعراف (7): آية 72]

وكم من كلمات براقة، وكم من مذاهب ونظريات، وكم من تصورات مزوقة، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين .. ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله، فيها من سلطانه- سبحانه- سلطان. وفي ثقة المطمئن، وقوة المتمكن، يواجه هود قومه بالتحدي: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله .. إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال. كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله). فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي من آمن به بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدابر: الأصل أو الكائن خلف الظهر وقطع دابرهم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ نفى الإيمان عنهم وأثبت التكذيب؛ ليؤكد أن الاستئصال كان في محله. يقول صاحب الظلال: فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد. وهو ما عبر عنه بقطع الدابر. والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم! وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين. وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى على لسان هود اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يقول صاحب الظلال: (إنها نفس الرسالة، ونفس الحوار، ونفس العاقبة .. إنها السنة الماضية، والناموس الجاري، والقانون الواحد .. إن قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة، وقيل: كان عددهم ثلاثة عشر .. وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح عليه السلام- وهو الإسلام- كانوا يعبدون الله وحده، ما لهم من إله غيره، وكانوا يعتقدون أنه رب العالمين. فهكذا قال لهم نوح: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. فلما طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم- وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع، وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد)

2 - وبمناسبة رد قوم هود على هود عليه السلام واتهامهم إياه بالسفاهة يقول صاحب الظلال: (وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة، وتجاوزا للحد، وسوء تقدير للمقام! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعا في غير تحرج ولا حياء: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ .. هكذا جزافا بلا ترو ولا تدبر ولا دليل.) 3 - قال محمد بن إسحاق عن عاد: هم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وفي سفر التكوين في الإصحاح العاشر أن من أولاد سام أرام ومن أولاد أرام عوص ولم يذكر من ولد عوص فهذا الذي أغفله السفر ذكره ابن إسحاق أن عادا بن عوص ويلاحظ أن إرم ذكره سفر التكوين باسم أرام قال ابن كثير: هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وذلك لشدة بأسهم وقوتهم .... وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف: وهي جبال الرمل قال محمد بن إسحاق ... عن أبي الطفيل عامر بن واثلة سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة (¬1) حمراء ذات أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه. قال: لا: ولكني قد حدثت عنه، فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين قال: فيه قبر هود عليه السلام. رواه ابن جرير. (أقول ولا زال أهل حضرموت يعرفون قبرا عندهم أنه قبر هود عليه السلام). والله أعلم. قال ابن كثير: وهذا (إشارة إلى ما ساقه) فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن وأن هودا عليه السلام دفن هناك وقد كان من أشرف قومه نسبا، لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شدد الله خلقهم شدد على قلوبهم ... (أقول: المراد باليمن هنا اليمن كله الذي يشمل جنوبي الجزيرة العربية كلها. قال محمد بن إسحاق: كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله. ¬

_ (¬1) المدرة: هو الطين الذي لا رمل فيه

4 - والعرب يتناقلون كلاما كثيرا عن عاد، فلم يزالوا يتوارثون ما حدث لعاد فيزيدون وينقصون، وما قصه الله عنهم فيه كفاية للعبرة، وأجود ما نستطيع نقله ونطمئن إليه في هذا الباب ما رواه الإمام أحمد وغيره عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، هل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها، قال فجلست، فدخل منزله- أو قال: رحله- فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت وسلمت، فقال: هل بينكم وبين تميم شئ؟ قلت: نعم وكانت لنا الدبرة (¬1) عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله، فإلى أين يضطرك مضطرك؟ قال قلت: إن مثلي ما قال الأول: معزى حملت حتفها (¬2)، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد. قال هيه، «وما وافد عاد!» - وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه- قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له: قيل. فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما: الجرادتان. فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها: اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا قال: فما بلغني أنه بعث الله عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا. قال أبو وائل (أحد رجال سند الحديث) وصدق، قال: وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدهم قالوا: لا تكن كوافد عاد هكذا رواه الإمام، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير أيضا. هذا الحديث يبين أن قصة عاد كانت معروفة لدى العرب مألوفة لديهم لا بكل تفصيلاتها ولكن لم تكن غريبة عنهم، وكانوا يتناقلون خبرها جيلا بعد جيل ولكنا لم ننقل كل ما يقولونه لاحتمال الوهم فيه. ¬

_ (¬1) الهزيمة لهم، والانتصار للآخرين. (¬2) مثل يضرب لمن يحمل ما فيه حتفه.

[سورة الأعراف (7): آية 73]

ولنا كلام سيأتي عن عاد إذا جاء محله فلنكتف الآن بما ذكرنا وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوة صالح عليه السلام هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ أضيفت الناقة إلى الله لأنها بتكوينه تعالى المباشر بلا صلب ولا رحم لَكُمْ آيَةً هذا بيان لمن هي له آية وهم ثمود لأنهم عايشوها فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ لأن الأرض أرضه، والناقة ناقته، فاتركوها تأكل في أرض ربها من نبات ربها فليس عليكم مئونتها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بأذى فلا تطردوها ولا تعقروها إكراما لآية الله فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إن مسستموها بسوء وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ يوحي هذا بأنه كان لثمود السلطان في أرض العرب بعد عاد وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي وأنزلكم في الأرض التي أنتم فيها وهي أرضهم المعروفة حتى الآن بآثارها منهم ما بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي غرفا للصيف وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي للشتاء فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بمعصيتكم لله ورسوله قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي قال المستكبرون للمستضعفين لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ دل على أن المستضعفين كانوا كافرين ومؤمنين، وكلام المستكبرين للمستضعفين المؤمنين أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ سألوهم هذا السؤال على سبيل السخرية قالُوا أي المؤمنون إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ سألهم المستكبرون عن العلم بإرساله فجعلوا إرساله أمرا معلوما مسلما، كأنهم قالوا العلم بإرساله وبما أرسل به لا شبهة فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون. يقول صاحب الظلال في قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ (وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف ولاستنكار إيمانهم به وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه. ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافا لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم والثقة في نفوسهم والاطمئنان في منطقهم .. إنهم على يقين من أمرهم فماذا يجدي التهديد والتخويف، وماذا تجدي السخرية والاستنكار ... من الملأ المستكبرين؟: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ.

[سورة الأعراف (7): آية 76]

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ أي برسالة صالح كافِرُونَ قالوا هذا مع وضوح الآية وظهور الحجة- فعليهم اللعنة- فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي قتلوها وذبحوها ومع أن العاقر واحد منهم فإنه قد نسب الفعل إلى جميعهم لأنه كان برضاهم. قال قتادة: بلغني أن من قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان جميعهم وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي وتولوا عن دين ربهم واستكبروا عنه، ويمكن أن يكون المراد بأمر الله أمره لهم في أمر الناقة أن يذروها تأكل في أرض الله وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في بلادهم أو مساكنهم جاثِمِينَ أي ميتين يقال: الناس جثم أي: قعود لا حراك بهم ولا يتكلمون فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي لما عقروا الناقة وَقالَ عند فراقه إياهم يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي الآمرين بالهدى وسبب عدم حب الناصح استحلاء الهوى، ولم يزل الناس قديما وحديثا هذا دأبهم يستثقلون النصيحة حتى المؤمنون منهم إلا الصديقون فما بالك بالكافرين. قال النسفي: والنصيحة منيحة تدرأ الفضيحة، ولكنها وخيمة تورث السخيمة. أقول: إلا إذا كان المنصوح صديقا والناصح مخلصا. فوائد: 1 - قال صاحب الظلال: (ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر- وهي بين الحجاز والشام- ونلمح من تذكير صالح لهم أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود، كما نلمح طبيعة المكان الذي يعيشون فيه فهو سهل وجبل، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور، وينحتون في الجبال البيوت فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير، وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضا وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض محكمين فيها وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد اغترارا بالقوة والتمكين وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين). 2 - قال ابن كثير: (قال علماء التفسير والنسب ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طسم، كل هؤلاء كانوا أحياء من

العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى وما حوله) أقول: وعاثر المذكور في النسب يسميه سفر التكوين «جاثر» والمساكن التي ذكرها ابن كثير لا زالت موجودة وهي تثير دهشة الناظر للجهد الذي بذل فيها ولبقائها هذه الآلاف من السنين، وكأنها الآن منحوتة، والرحلة إليها سهلة وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون أدب المسلم. إذا رأى ديار الظالمين الهالكين أو مر بها. فقد روى الإمام أحمد ... عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا لها القدور، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل. ثم أرتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم». وروى الإمام أحمد أيضا ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو بالحجر «ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين .. وله أيضا .... عن أبي كبشة الأنماري عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس: «الصلاة جامعة» قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعنزة وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل منهم: نعجب منهم يا رسول الله قال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك: رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا. وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا». وأقول: إن بعض الناس يتشددون في المنع عن رؤية أثار هؤلاء الأقوام والذى يبدو لي- والله أعلم- أن رسولنا عليه الصلاة والسلام منع من النظرة التي لا يرافقها اعتبار كيف وإن معرفة هذه الآثار والكلام عنها- خاصة في عصرنا- فيه معنى التصديق لكتاب الله أمام المشككين الذين لم يتركوا شيئا إلا شككوا فيه. 3 - ويعلمنا عليه الصلاة والسلام بمناسبة قصة ثمود ألا نسأل الله آية، فقد روى الإمام أحمد عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تسألوا الله

ولنعد إلى السياق

الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله» فقالوا من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» وهذا الحديث على شرط مسلم. وقد روى عبد الرزاق عن معمر قال أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا قبر أبي رغال من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن». وقبر أبي رغال معروف مشهور عند العرب، والعرب تروي قصته بأشكال متعددة، فإما أن الرجل متعدد، أو بعض الروايات غير ثابتة، وإذا ورد عن رسولنا صلى الله عليه وسلم شئ، وثبت، لا نلتفت إلى غيره. ولنا كلام على ثمود، وبلادهم؛ سيأتي في محله. ولنعد إلى السياق: فبعد أن قص الله عزّ وجل علينا قصة ثمود، يقص علينا بعدها قصة لوط، ولا يحدثنا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، مع أن لوطا عليه الصلاة والسلام من المستجيبين لدعوة إبراهيم، وفي حكمة طي قصة إبراهيم هاهنا والحديث عن لوط عليه السلام في هذا السياق يقول صاحب الظلال: (وتمضي عجلة التاريخ فيظلنا عهد إبراهيم- عليه السلام- ولكن السياق لا يتعرض هنا لقصة إبراهيم؛ ذلك أن السياق يتحرى مصارع المكذبين متناسقا مع ما جاء في أول السورة وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ وهذا القصص إنما هو تفصيل لهذا الإجمال في إهلاك القرى التي كذبت بالنذير، وقوم إبراهيم لم يهلكوا لأن إبراهيم عليه السلام لم يطلب من ربه هلاكهم بل اعتزلهم وما يدعون من دون الله، إنما تجئ هنا قصة قوم لوط ابن أخي إبراهيم ومعاصره بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك يتمشى مع ظلال السياق على طريقة القرآن). وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي تفعلون السيئة المتمادية في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها أي ما عملها قبلكم مِنْ أَحَدٍ أي أحدا أبدا مِنَ الْعالَمِينَ أنكر

[سورة الأعراف (7): آية 81]

عليهم ثم وبخهم فقال: أنتم أول من عملها ثم بين لهم فاحشتهم إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تجامعونهم- نعوذ بالله من سخطه- شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ أي شهوة لا من النساء اللاتي هن محل الشهوة الحقيقي، وقوله شهوة أي اشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ بعد أن أنكر عليهم تخلى عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي أدت بهم إلى ارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شئ. فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي لوطا ومن معه يعني أنهم ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط من إنكار الفاحشة، ووصفهم بصفة الإسراف الذي هو أصل الشر ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين، ثم عللوا سبب الإخراج بما ليس عيبا بل هو مدح وثناء فقالوا إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يدعون الطهارة ويتنزهون عما نفعل قال مجاهد: إنهم أناس يتطهرون من أدبار الرجال، وأدبار النساء. فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من المهلكين بالعذاب وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا أهلكناهم به فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين. نقول: - يقول صاحب الظلال: (وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من انحراف الفطرة وعن قضية أخرى غير قضية الألوهية والتوحيد التي كانت مدار القصص السابق ولكنها في الواقع ليست بعيدة عن قضية الألوهية والتوحيد .. إن الاعتقاد في الله الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه، وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكرا وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما، وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء مجهزين عضويا ونفسيا لهذا الالتقاء وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة والرغبة في إتيانها أصيلة وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية من حمل ووضع ورضاعة، ومن نفقة وتربية وكفالة ثم لتكون كذلك ضمانا لبقائهما ملتصقين في أسرة تكفل الأطفال الناشئين الذين تطول فترة

حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلا بالانحراف عن العقيدة وعن منهج الله للحياة ويبدو انحراف الفطرة واضحا في قصة قوم لوط حتى إن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو: الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب فهي مجرد «شهوة» شاذة لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية فإذا وجدت نفس لذتها فى نقيض هذه السنة فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري قبل أن يكون فساد الأخلاق ولا فرق في الحقيقة فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية بلا انحراف ولا فساد، إن التكوين العضوي للأنثى- كالتكوين النفسي- هو الذي يجعل لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء الذي لا يقصد به مجرد الشهوة إنما هذه الشهوة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة مصحوبا بلذة تعادل مشقة التكليف، فأما التكوين العضوي للذكر- بالنسبة للذكر- فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة. وطبيعة التصور الاعتقادي ونظام الحياة الذي يقوم عليه ذو أثر حاسم في هذا الشأن فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوروبا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشارا ذريعا بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي، كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات، ولكن شهادة الواقع تخرق العيون ففي أروبا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى- كما في عالم البهائم- وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء

فوائد

ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ «السلوك الجنسي عند الرجال» و «والسلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة وتسندها إلى حجاب المرأة لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون ووصايا مؤتمرات المبشرين ونعود إلى قوم لوط فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يا عجبا أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجا ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية- وتسميه تقدمية وتحطيما للأغلال عن المرأة وغير المرأة- أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ولا تطيق أن تراهم يتطهرون لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟ إنه منطق الجاهلية في كل حين؟؟ وتعرض الخاتمة سريعا بلا تفصيل ولا تطويل: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ- إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ- وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. فوائد: 1 - قال ابن كثير: (ولوط هو ابن هاران بن آزر) وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم عليه السلام، وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى الله عزّ وجل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإناث وهذا شئ لم يكن بنو آدم تعهده، ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل سدوم- عليهم لعائن الله- قال عمرو بن دينار في قوله ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ قال: ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. وقال الوليد بن عبد الملك- الخليفة الأموي باني جامع دمشق- لولا أن الله عزّ وجل قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا» أقول: إنه ما من شهوة أظهر بطلانا في العقل وانحرافا عن سنة الفطرة كهذه الشهوة التي لا تنتج إلا مقتا. فالشهوة الجنسية ركبها الله في الإنسان لدفع الذكر نحو الأنثى؛ ليبقى الجنس البشري، فعند ما تصرف هذه الشهوة عن طريقها بذلك فذلك منتهى الجهل. قدر لو اكتفى الرجال بالرجال كم يبقى الجنس البشري؟

[سورة الأعراف (7): آية 85]

وفي سفر التكوين من أسفار العهد القديم الإصحاح الحادي عشر (ولد تارح ابرام وناحور وهاران، وولد هاران لوطا) وتارح هو آزر وعلى هذا فإن رواية سفر التكوين متفقة مع ما ذكره ابن كثير. وقد ذكر انتقال لوط إلى سدوم في الإصحاح الثالث عشر من سفر التكوين، وذكر في الإصحاح التاسع عشر قصة إهلاك سدوم وعمورة، وفي هذا الإصحاح (وإذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من قلب السماء وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح) وفي هذا الإصحاح غير ما ذكرنا من السخف والجرأة على الأنبياء ما لا يفعله إلا اليهود- عليهم لعنة الله- تجرءوا على قتل الأنبياء واتهامهم بكل نقيصة فاختلطت كتبهم بشيء من الحق مع زيف كثير. 2 - وفي العقوبة التشريعية في الإسلام لمن يعمل عمل قوم لوط يقول ابن كثير: «وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط. وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنا أو غير محصن وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، والحجة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الدراوردي ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به». وقال آخرون: هو كالزاني، فإن كان محصنا رجم وإن لم يكن محصنا جلد مائة جلدة وهو القول الآخر للشافعي، وأما إتيان النساء في الأدبار فهو اللوطية الصغرى، وهو حرام بإجماع العلماء، إلا قولا شاذا لبعض السلف، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنا كلام على قصة قوم لوط وقراهم سيأتي في محله إن شاء الله. وبعد قصة قوم لوط تأتي قصة قوم شعيب: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة كما سنرى. أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا ويسميه العلماء خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دعاهم إلى الله وتوحيده وتلك دعوة كل رسول قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي معجزة ولم يذكر القرآن ما هي معجزته فدل ذلك على أنه ما من رسول إلا وله معجزة بها تقوم الحجة على قومه، ذكر ذلك أو لم يذكر بينت أو لم تبين فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ

[سورة الأعراف (7): آية 86]

أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوا حقوقهم بتطفيف الكيل ونقصان الوزن وكانوا يبخسون الناس كل شئ في مبايعتهم، أو لا تخونوا الناس في أموالهم وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أي لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء والأولياء ذلِكُمْ أي ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان، وترك البخس، والإفساد في الأرض خَيْرٌ لَكُمْ قال النسفي: في الإنسانية وحسن الأحدوثة. وأقول: في الدنيا والآخرة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين لي في قولي وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي بكل طريق تُوعِدُونَ أي من آمن بشعيب بالعذاب وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن عبادته ودينه وطريقه مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالله وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون لسبيل الله العوج أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة؛ لمنعهم عن سلوكها أو تطلبون الطريقة المعوجة. والمعنى: لا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله وباغين عوجا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم فكثركم الله ووفر عددكم وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي كيف كان آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا أي فانتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين، ويظهرهم عليهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأن حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الجور، وفي الآية بيان أن الدعوة إلى الله تقسم الناس قسمين: أهل حق، وأهل باطل، وفي الآية وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، وحث للمؤمنين على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم، ويحتمل أن تكون الآية خطابا للفريقين حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ والاستكبار على الأنبياء ودعوتهم كفر فالذين استكبروا هم الذين كفروا لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم وإما عودكم في الكفر قالَ أي شعيب أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، أو مع كوننا كارهين قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي بعد أن خلصنا الله منها، فإن قال قائل كيف يقول شعيب إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ والكفر على الأنبياء محال؟ فالجواب: أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب

[سورة الأعراف (7): آية 90]

وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أي وما ينبغي لنا وما يصح إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي إلا أن يكون سبق في مشيئته أن نعود فيها إذ الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى خيرها وشرها وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي هو عالم بكل شئ فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويوفقنا لازدياد الإيقان، ويحمينا من مراد الأعداء رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي احكم، والفتاحة الحكومة، والقضاء بالحق يفتح الأمر المغلق، فلذا سمي فتحا، وكان أهل عمان يسمون القاضي فتاحا. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي خير الحاكمين. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي مغبونون لفوات فوائد البخس والتطفيف باتباعه لأنه ينهاكم عنها ويحملكم على الإيفاء والتسوية فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي ميتين الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي كأن لم يقيموا فيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ لا من اتبعه- كما زعم الكافرون- وفي التعبير ما يفيد: الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا كأن لم يقيموا في دارهم؛ لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه فهم الرابحون، وفي التكرار مبالغة واستعظام لتكذيبهم ولما جرى عليهم فَتَوَلَّى عَنْهُمْ بعد ما نزل بهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى أي أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ويحتمل أنه يريد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير مما حل بكم، فلم تصدقوني فكيف آسى عليكم. كما يحتمل أنه حزن على قومه ثم أنكر على نفسه فقال: كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم؛ لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم. نقول: قال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. لقد دعاهم إلى أعدل خطة. ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة ... نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى وترك كل وما اعتنق من دين. حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من

الناس لا تدين للطاغوت. إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا لله، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكم في حياتها شرعا إلا شرعه، ولا تتبع في حياتها منهجا إلا منهجه .. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت- حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها وتركت الطواغيت لحكم الله حتى يأتي موعده. إن الطاغوت يفرض المعركة فرضا على الجماعة المسلمة- حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة- إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل .. إنها سنة الله لا بد أن تجري .. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. هكذا في تبجح سافر، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش! إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد .. لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة .. نقطة المسالمة والتعايش- على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء، وأن يدين للسلطان الذي يشاء: في انتظار فتح الله وحكمه بين الفريقين- وما يملك النبي أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت .. وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله .. فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم، صدع شعيب بالحق، مستمسكا بملته، كارها أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله: قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان، ومذاقه في نفوس أهله، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه. كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع .. مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه. قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟. يستنكر تلك القولة الفاجرة: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا .. يقول لهم: أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي أنجانا الله

منها!! قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت الجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أربابا من دون الله يقرون لهم بسلطان الله .. إن الذي يعود إلى هذه الملة- بعد إذ قسم الله له الخير وكشف له الطريق، وهداه إلى الحق، وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه، شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيرا فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت! وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله .. وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى، ولم يرفع راية الإسلام. شهادة الاعتراف براية الطغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة. وكذلك يستنكر شعيب- عليه السلام- ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم الله منها: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها. وما من شأننا أصلا: وما ينبغي لنا قطعا أن نعود فيها .. يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة، والتي تعلن خروجها عن سلطانه، ودينونتها لله وحده بلا شريك معه أو من دونه. إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده- مهما عظمت وشقت- أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة- مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته. فهذه «الإنسانية» لا توجد، والإنسان عبد للإنسان- وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! .. وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟! على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة .. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس- في حكم الطواغيت- أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج. كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها، فيذبحهم على مذبح هواه ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم

فائدة

يكلفهم أعراضهم في النهاية .. حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر- كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ- أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبا مباحا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار .. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله. إنما يعيش في وهم أو يفقد الإحساس بالواقع!. إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال .. ومهما تكن تكاليف العبودية لله فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة. فضلا على وزنها في ميزان الله. أقول: في شريعتنا الإكراه الملجئ يبيح للإنسان أن يقول كلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وهو موضوع سيمر معنا في سورة النحل فائدة: قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق عن مدين: هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال: واسمه بالسريانية يثرون، (قلت): مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة، وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ (القصص: 23) وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة. وفي سفر التكوين الإصحاح السابع والثلاثين في قصة يوسف يرد ذكر الإسماعيليين ويبدو أن المراد بهم العرب، ثم يرد ذكر المديانيين فيقول: (واجتاز رجال مديانيون تجار). فالمديانيون غير العرب وغير الفلسطينيين وعلى حسب خريطة ما يسمى بالكتاب المقدس فإن مدين تمتد شرقي وغربي خليج العقبة. وبعد أن قص الله علينا ما فعله بأقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب فإن تعقيبا على هذا كله يأتي في هذا المقطع: يقول صاحب الظلال: «ثم يقف سياق السورة وقفة للتعقيب على ذلك القصص- وفق منهج السورة- فيكشف في هذا التعقيب عن خطوات قدر الله بالمكذبين .. كيف يأخذهم بالبأساء والضراء لعل قلوبهم تصحو وترق، وتلجأ إلى الله وتتضرع إليه، فإذا لم تستيقظ هذه القلوب ولم تنتفع بالابتلاء، أخذهم الله بالسراء- وهي أشد في الابتلاء- حتى يزدادوا عن قدر الله غفلة ويظنون

الحياة لهوا ولعبا. وعندئذ يأخذهم الله بغتة على حين غفلة: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ! فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وهنا يكشف السياق كذلك عن العلاقة بين القيم الإيمانية وسنن الله في أخذ الناس، حيث لا انفصال في خطوات قدر الله بين هذه السنن وتلك القيم. هذه العلاقة التي تخفى على الغافلين لأن آثارها قد لا تبدو في المدى القريب؛ ولكنها لا بد واقعة في المدى الطويل. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. ويعقب الكشف عن خطوات قدر الله بالمكذبين؛ وسننه وعلاقتها بالقيم الإيمانية في حياة البشر، لمسات من التهديد تهز القلوب، ولفتات إلى مصارع المكذبين توقظ الغافلين: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وينتهي هذا التعقيب بلفتة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذا القصص؛ وتلخيص لأمر الأقوام التي كذبت من قبل؛ ووصف لحقيقة حالهم ونسيانهم لعهد الله معهم على الاعتراف بألوهيته ووحدانيته؛ وعدم جدوى الآيات والبينات والخوارق التي جاءهم بها رسلهم بسبب تعطل فطرتهم وغفلة قلوبهم: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ.

[سورة الأعراف (7): آية 94]

ولنعرض التفسير الحرفي لهذا التعقيب الذي يأتي كدرس بين قصص من ذكر وقصة موسى وفرعون: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ يقال لكل مدينة قرية إذ المعروف أن الأنبياء ترسل في الحواضر إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ أي: بالبؤس والفقر وَالضَّرَّاءِ أي: الضر والمرض وهذا الأخذ لاستكبارهم عن اتباع نبيهم فعاقبهم الله بنقصان النفس والمال لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة الرخاء والسعة والصحة حَتَّى عَفَوْا أي حتى كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم: عفا النبات إذا كثر وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي قالوا هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك، وما هو بعقوبة الذنب، ولا رب ولا رسول، فكونوا على ما أنتم عليه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بنزول العذاب وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى المذكورة أو كل قرية مطلقا آمَنُوا وَاتَّقَوْا آمنوا بالله ورسله، واتقوا الشرك والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي المطر والنبات، أو لآتيناهم بالخير من كل وجه وَلكِنْ كَذَّبُوا بالله وآياته ورسله فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بكفرهم وسوء كسبهم. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي الكافرون منهم أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا أي وقت بيات وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا والضحى في الأصل ضوء الشمس إذا أشرقت وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي وهم يشتغلون بما لا يجدي عليهم. والاستفهام في الآيتين للإنكار والمعنى إنكار الأمن من أحد هذين الوجهين من إتيان العذاب ليلا، أو ضحى أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي: أخذه العبد من حيث لا يشعر، وقال بعضهم: مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه ثم أخذهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم حتى صاروا إلى النار أَوَلَمْ يَهْدِ أي: يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي: أو لم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي ونحن نختم على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الوعظ تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها أي تلك القرى المذكورة من قوم نوح إلى قوم شعيب نقص عليك بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها

[سورة الأعراف (7): آية 102]

لم نقصها عليك وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي عند مجئ الرسل والبينات بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ بما كذبوا من قبل مجيء الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل أي: استمروا على التكذيب من لدن مجئ الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين مع تتابع الآيات كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ لما علم منهم أنهم يختارون الثبات على الكفر وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي لأكثر الناس مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ أي وإنه أي: وإن الشأن والحديث وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي لخارجين عن الطاعة ومعنى ما وجدنا هنا ما علمنا وهل المراد بأكثرهم الأمم المذكورون- فإنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة لئن أنجاهم ليؤمنن ثم أنجاهم ولم يفوا- أو المعنى: إن أكثر الناس نقضوا عهد الله وميثاقه في الإيمان؟. قال الألوسي: والكلام على تقدير مضاف أي: ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم، فإنهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، وإلى هذا ذهب قتادة، وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعاهدون ولا يوفون، وقيل المراد بالعهد: ما وقع يوم أخذ الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب، وأبي العالية، وقيل المراد به: ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى، بنصب الدلائل والحجج، وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى: مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وقيل: هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم. وقال صاحب الظلال في الآية الأخيرة: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ... «والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا ... وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف، كما يقع في كل جاهلية. إذ تظل الأجيال تنحرف شيئا فشيئا حتى تخرج من

عهد الإيمان وترتد إلى الجاهلية. وأيا كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. وإنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ منحرفين عن دين الله وعهده القديم .. وهذه ثمرة التقلب .. ونقض العهد، واتباع الهوى ... ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيما على طريقته، مسترشدا بهداه، فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق .. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف.». وتعليقا على هذا التعقيب الذي جاء بعد قصص أقوام عذبوا والذي جاء خاتمة للمقطع الأول من القسم الثاني في السورة، والذي يأتي بين يدي قصة موسى وفرعون، وقصة موسى مع قومه تعليقا على هذا التعقيب يقول صاحب الظلال: «هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب .. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين، ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل .. أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء، لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله وتعرف ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون ... كل ذلك للابتلاء .. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافا بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء. ولم يتدبروا حكمته في هذه الغفلة في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله .. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار.

نقول

ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها .. يحذرهم الغفلة والغرة ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى .. ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون. وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها .. لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالات الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها ... ». نقول: 1 - في الربط بين العقيدة والحياة الاقتصادية للأمم يقول صاحب الظلال: «إن العقيدة الإيمانية في الله، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان. إن الإيمان بالله وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من الله. ومن أوفى بعهده من الله؟ ونحن- المؤمنين بالله- نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله، نحن نؤمن بالله- بالغيب- ونصدق بوعده بمقتضى الإيمان .. ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر- كما يأمرنا إيماننا كذلك- فنجد علته وسببه. إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية وصدق في الإدراك الإنساني وحيوية في البنية البشرية ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود ... وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية. والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة من العبيد للهوى ولبعضهم بعضا. وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور في دفعة الحركة ودفعة الحياة وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج فلا يعتدي ولا يتهور ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح.

وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح عاملة في الأرض متطلعة إلى السماء متحررة من الهوى والطغيان البشري عابدة خاشعة تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه فلا جرم تحفها البركة ويعمها الخير ويظلها الفلاح- والمسألة- من هذا الجانب- مسألة واقع منظور- إلى جانب لطف الله المستور- واقع له علله وأسبابه الظاهرة إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود. والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها. وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد، ولا تفصيل ولا بيان. فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال. والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة. وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله- سبحانه- وكفى بالله شهيدا. ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمما- يقولون: إنهم مسلمون- مضيقا عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق! ... ويرى أمما لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحا عليهم في الرزق والقوة والنفوذ .. فيتساءل: وأين إذن هذه السنة التي لا تتخلف!. ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال. إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون .. هم في الغالب لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم يتألهون عليهم، ويشرعون لهم- سواء القوانين أو القيم أو التقاليد- وما أولئك بالمؤمنين. فالمؤمن لا يدع عبدا من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبدا من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره .. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقا. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله».

2 - وفي شرح سنة الله بالإملاء للظالمين يقول صاحب الظلال عند قوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة: ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجا من شئ يعملونه، ولا تخوفا من أمر يصنعونه .. والتعبير: «عفوا» - إلى جانب دلالته على الكثرة- يوحي بحالة نفسية خاصة. حالة قلة المبالاة. حالة الاستخفاف والاستهتار. حالة استسهال كل أمر، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء .. وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء- أفرادا وأمما- كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئا، أو تحسب حسابا لشئ. فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار. ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان في يسر واطمئنان. وهم لا يتقون غضب الله ولا لوم الناس، فكل شئ يصدر منهم عفوا بلا تحرج ولا مبالاة، وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس. ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافا، بلا سبب معلوم، وبلا قصد مرسوم: وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ .. وقد أخذنا دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء. وها هي ذي ماضية بلا عاقبة، فهي تمضي هكذا خبط عشواء. عندئذ .. وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان، تجئ العاقبة وفق السنة الجارية. فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله وأطلقوا لشهواتهم العنان فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال. هكذا تمضي سنة الله أبدا. وفق مشيئته في عباده. وهكذا تحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله- في إطار سنة الله ومشيئته وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة، ويحذرهم الفتنة ... فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء .. وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف، جزاء وفاقا على اتجاههم وكسبهم. فمن لم يتيقظ ومن لم يتحرج، ومن لم يتق، فهو الذي يظلم نفسه ويعرضها

فوائد

لبأس الله الذي لا يرد. ولن تظلم نفس شيئا. «فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق .. فهذه هي السنة: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره وهو أخطر من الابتلاء بالشدة- وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح .. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن. وهو متاع بلا رضى وهي وفرة بلا صلاح. وهو حاضر زاه يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال. إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة .. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال .. ». فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً قال ابن كثير: وفي الحديث «موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر». 2 - بمناسبة عدم اعتبار الكافرين بالبأساء والضراء يقول ابن كثير: وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين: «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له». فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به في الضراء والسراء. فلهذا جاء في الحديث: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه». أو كما قال. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً يذكر النسفي أن ابنة الربيع بن خيثم قالت لأبيها: «ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات». أراد ما حذرت منه الآية وهكذا فإن المؤمن هو الذي يخاف ما أوعد الله به، أما الكافر فإنه لا يسمع ولا يعقل.

كلمة في السياق

4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ نقول: دلت الآية على أن الرخاء الاقتصادي طريقه الإيمان والتقوى، طريقه طاعة الله والالتزام بشرعه، لا كما توسوس شياطين الإنس والجن، موجهة بزخرف قولها أن الرخاء في تطبيق مبادئ أمم الكفر الاقتصادية مما يلغي شرع الله، أو يعطله، أو يخالفه. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ قال الألوسي: «واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو- كما في جمع الجوامع- الاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو الله تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك. وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم سئل ما الكبائر؟ فقال الشرك بالله تعالى، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله.» وهذا أكبر الكبائر قالوا: وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس الخ كقوله تعالى: الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قول. وقال بعض المحققين: إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه، وكذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك، فذلك مما لا ريب في أنه كفر، وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى، فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين». كلمة في السياق: 1 - رأينا أن محور سورة الأعراف هو ضرورة اتباع هدى الله المنزل، وما أعد الله لمن اتبع هذا الهدى وما جزاء من خالفه فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقد رأينا في هذا المقطع كيف أن أهل الإيمان نجاهم الله، وكيف أن أهل الكفر- ممن رفضوا هدى الله- أهلكهم الله، وعذبهم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فالمقطع إذن واضح في كونه ضمن السياق العام الذي يفصل محور السورة، ومما فصله أن أهل الإيمان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بتولي الله إياهم. 2 - ولقد رأينا أن السورة تتألف من ثلاثة أقسام، القسم الأول يتألف من مقدمة

بين يدي الكلام عن المقاطع الثلاثة الآتية بالسورة

السورة ومقطع، والقسم الثاني يتألف من أربعة مقاطع، المقطع الأول في قصص أقوام نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، والتعقيب عليها، وقد مر معنا، وسيأتي بعد المقطع الأول من القسم الثاني ثلاثة مقاطع كلها في بني إسرائيل. المقطع الأول: فيه قصة موسى مع فرعون. المقطع الثاني: فيه قصة موسى مع قومه. المقطع الثالث: في بني إسرائيل: ما فعل الله لهم وبهم. وكل من المقاطع الثلاثة يرينا كيف استقبلت الأمم هدى الله، وكيف عوقبت، ولو أننا تذكرنا مقدمة السورة التي جاء فيها: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها. ولو أننا تذكرنا المقطع الأول وما جاء فيه من نداءات لبني آدم لرأينا ارتباط وتلاحم مقاطع هذا القسم مع القسم الأول، فإذا عرفنا أن القسم الثالث يبدأ بالحديث عن أخذ الله العهد على بني آدم. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وأن القسم الأخير كله في تفصيل قضية العبودية والربوبية، وإذا ما تذكرنا ما جاء في نهاية المقطع الذي مر معنا. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ إذا تذكرنا هذا كله أدركنا تلاحم أقسام السورة ومقاطعها. 3 - وفيما بين يدي المقاطع الثلاثة الآتية بعد التعقيب على مصارع أقوام ننقل ما قاله صاحب الظلال ونضعه تحت عنوان: بين يدي الكلام عن المقاطع الثلاثة الآتية بالسورة «وبعد الوقفة للتعقيب على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب تجئ قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه أولا، ثم مع قومه بني إسرائيل أخيرا .. وتشغل قصة موسى في هذه السورة أوسع مساحة وأكبر قدر شغلته في سورة واحدة من سور القرآن كلها، وقد وردت حلقات من قصة بني إسرائيل في مواضع كثيرة، وذلك عدا الإشارات القصيرة إليها في مواضع من القرآن أخرى .. وكانت أكثر القصص ورودا في القرآن كله- ولعل ذلك التفصيل في قصة هذه الأمة كان للحكمة التي أشرنا إليها من قبل- في هذه الظلال- في الجزء السادس في صحفتي (124 - 125) على النحو التالي: «من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء

والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها، فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول، هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة، وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا، وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة، وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم، كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة، وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة، فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها: ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم؟ ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله، كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ووسائلهم كلها مكشوفة. «ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير. وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة، ووقعت الانحرافات في عقيدتهم، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم ... فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة- وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ، وتعرف مزالق الطريق وعواقبها، ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم؛ لتضم هذه التجربة- في حقل العقيدة والحياة- إلى حصيلة تجاربها، وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون. ولتتقي- بصفة خاصة- مزالق الطريق ومداخل الشيطان وبوادر الانحراف على هدي التجارب الأولى. «ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل، وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها وتنحرف أجيال منها، وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فترات من حياة بني إسرائيل، فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته. ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي التي عرفت ثم انحرفت، فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة؛ لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها. وينفض عنها الركام لجدته عليها وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول

مرة. فأما القلوب التي نوديت من قبل فالنداء الثاني لا تكون له جدته ولا تكون له هزته ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف وإلى الصبر الطويل!» .... الخ. وقد وردت حلقات من قصة موسى- عليه السلام- وبني إسرائيل من قبل في هذه الظلال المرتبة وفق ترتيب السور في المصحف- لا وفق ترتيب النزول- في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام .. ولكن إذا اعتبرنا ترتيب النزول فإن هذه الحلقات الواردة منها هنا في سورة الأعراف المكية تكون سابقة على ما ورد منها في السور المدنية، وذلك ظاهر من طبيعة عرضها هنا وطبيعة عرضها هناك. فهي هنا تعرض على طريق الحكاية والقصص، وهناك تعرض على سبيل مواجهة بني إسرائيل بها وتذكيرهم بأحداثها ووقائعها ومواقفهم فيها. ولقد وردت القصة في أكثر من ثلاثين موضعا في القرآن كله- مكية ومدنيه- ولكن ورودها مفصلة اقتصر على عشرة مواضع في عشر سور منها ستة مواضع هي أكثرها تفصيلا. والذي ورد منها في سورة الأعراف كان هو أول تفصيل .. كما أنه هو أوسع مساحة وإن تكن الحلقات التي وردت في هذه المساحة أقل مما ورد منها في سورة طه. وهي تبدأ هنا من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة. بينما تبدأ في سورة طه من حلقة النداء لموسى عليه السلام في جانب الطور، وتبدأ في سورة القصص من حلقة مولد موسى في فترة اضطهاد بني إسرائيل .. ويبدأ عرضها .. متناسقا مع جو السورة وأهدافها- بالتوجيه إلى عاقبة تكذيب فرعون وملئه وذلك منذ اللحظة الأولى في عرضها ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. ثم تمضي حلقات القصة ومشاهدها .. أولا .. في مواجهة فرعون وملئه .. وأخيرا في مواجهة بني إسرائيل والتوائهم وزيفهم وانحرافهم. ولما كنا سنستعرض القصة- فيما بعد- بالتفصيل فإننا نكتفي هنا بالوقوف أمام معالمها البارزة وموحياتها الكلية: إن موسى- عليه السلام- يواجه فرعون وملأه بأنه رسول من رب العالمين:

وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ كذلك حين تقع المباراة بينه وبين سحرة فرعون فيغلبون ويؤمنون فإنهم يؤمنون برب العالمين. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وحين يهددهم فرعون بالعذاب الرهيب فإنهم يتوجهون إلى ربهم ويعلنون أنهم عائدون إليه في حياتهم ومماتهم وبعثهم وفي أمرهم كله: قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ. ثم إن موسى عليه السلام وهو يعلم قومه في مواضع كثيرة يعرفهم بربهم الحق فعند ما أعلن فرعون أنه سيعيد اضطهاد بني إسرائيل بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قالُوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وعند ما جاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وطلبوا إلى موسى أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. فهذه النصوص القرآنية في القصة تثبت حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليه السلام، وحقيقة التصور الاعتقادي الذي تنشئه هذه الحقيقة وهو التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام وتضمنه دين الله في جميع الرسالات، كما أنها تثبت زيف النظريات والتكهنات التي يدلي بها الباحثون في تاريخ الأديان من الغربيين ومن يأخذ بمنهجهم وتقريراتهم ممن يكتبون عن تطور العقيدة. كذلك تثبت هذه النصوص ألوان الانحراف التي صاحبت تاريخ بني إسرائيل وجبلتهم الملتوية- حتى بعد بعثة موسى عليه السلام ذلك من مثل قولهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ومثل اتخاذهم العجل في غيبة موسى على الجبل لميقاته مع ربه، ومثل طلبهم رؤية الله جهرة، وإلا فإنهم لا يؤمنون ولكن هذه الانحرافات لا تمثل حقيقة العقيدة التي جاء بها موسى من ربه، إنما هي انحرافات عن هذه العقيدة فكيف تحسب الانحرافات إذن على العقيدة ذاتها؟ ويقال إنها «تطورت» إلى التوحيد؟!. كذلك تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله

وبين الجاهلية كلها، وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين، وكيف يحس فيه الخطر على وجوده، كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت: إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ تبين مدلول هذه الدعوة إلى رَبِّ الْعالَمِينَ إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين، وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل، فإنه إذا كان الله رب العالمين فما يكون لعبد من عبيده- وهو فرعون المتجبر الطاغي- أن يعبدهم لنفسه فهم ليسوا عبيدا إلا لرب العالمين، إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس- وهم من العالمين- وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده، فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده وإلا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية، أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره لا يحكمهم بشرعه. ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى رَبِّ الْعالَمِينَ وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون- وسلطانهم المستمد منه- فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ وما أرادوا، إلا أن هذه الدعوة إلى رب العالمين لا تحمل إلا مدلولا واحدا هو انتزاع السلطان من يد العبيد- الطواغيت- ورده إلى صاحبه- سبحانه- وهذا معناه- من وجهة نظرهم- الإفساد في الأرض أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية التي تغتصب سلطان الله- أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان، يكون هذا «قلبا» لنظام الحكم لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد، لبقية العبيد بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان: إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم وهددهم بأبشع العذاب والنكال. قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَ

لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. ومن الجانب الآخر كان هؤلاء السحرة الذين آمنوا برب العالمين. وأسلموا لله وحده وأعلنوا الخروج من العبودية الزائفة للطاغوت المغتصب للربوبية واختصاصاتها كانوا يعلمون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت، إنها المعركة على العقيدة لأن هذه العقيدة تهدد سلطان الطواغيت بمجرد أن عبوديتهم خالصة لرب العالمين، بل بمجرد إعلان أن الله رب العالمين، ومن ثم قالوا لفرعون ردا على اتهامه لهم بأن هذا مكر مكروه في المدينة ليخرجوا منها أهلها وهو مرادف للاتهام في الجاهليات الحديثة لكل من يعلن ربوبية الله للعالمين بمعناها الجاد بأنه يعمل على قلب نظام الحكم وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ثم لجئوا إلى ربهم الذي آمنوا به فتمردوا على العبودية لغيره قائلين رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فكان هذا فرقانا جعله الله في قلوبهم حين استقرت حقيقة الإسلام لله فيها. ومن خلال عرض الآيات التي جاء بها موسى لفرعون وملئه وما أخذهم الله به من السنين ونقص الثمرات وما أرسله عليهم من الآفات ومواجهتهم لهذا كله بالعناء والمراوغة والإصرار في النهاية على ما هم فيه حتى أهلكهم الله كما يقول تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ* فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ من خلال عرض هذا كله تبين مدى إصرار الطاغوت على الباطل في وجه الحق، ومدى مقاومته للدعوة إلى رب العالمين ذلك أنه يعلم علم اليقين أن هذه الدعوة بذاتها هي حرب عليه بإنكار شرعية قيامه من أساسه، وما يمكن أن يسمح الطاغوت بإعلان لا إله إلا الله، أو أن الله هو رب العالمين إلا حين تفقد هذه الكلمات مدلولها الحقيقي وتصبح مجرد كلمات لا مدلول لها وهي في مثل هذه الحالة لا تؤذيه لأنها لا تعنيه، فأما حين تأخذ عصبة من الناس هذه الكلمات

جدا بمدلولها الحقيقي فإن الطاغوت الذي يزاول الربوبية- بمزاولته للحاكمية بغير شرع الله وتعبيد الناس له بهذه الحاكمية وعدم إرسالهم لله- لا يطيق هذه العصبة كما لم يطق فرعون دعوة موسى إلى رب العالمين، وإعلان السحرة المؤمنين أنهم آمنوا برب العالمين، وكما ظل هو والملأ من قومه مصرين على رد هذه الدعوة والآيات تتوالى عليهم، والنكبات كذلك تتوالى عليهم من الجدب والآفات والجوع والبلاء ولكن هذا كله كان عندهم أيسر وأهون من التسليم بربوبية الله للعالمين لما تحويه من مدلول صريح بعزلهم هم عن مزاولة هذا السلطان المغتصب الذي يعبدون به الناس لغير رب العالمين. كذلك تتجلى من خلال عرض هذه الآيات خطوات قدر الله بالمكذبين من أخذهم بالبأساء والضراء، ثم أخذهم بالرخاء والسراء، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية المطاف، والتمكين للمؤمنين الذين كانوا يستضعفون وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ. ولكن بني إسرائيل غلبت عليهم جبلتهم الملتوية الخبيثة ففسقوا عن أمر الله- كما يجلو السياق القرآني ذلك- وراوغوا موسى نبيهم وزعيمهم ومنقذهم مراوغة مؤذية وعصوا وبطروا النعمة ولم يستقيموا ولم يشكروا، وتكرر منهم ذلك كله بعد مغفرة الله لهم وقبولهم- مرة بعد مرة- إلى أن حقت عليهم كلمة الله في النهاية وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. لقد صدق وعيد الله، ولا بد أن يصدق في مقبل الأيام، وإنما هي دورات لهم في التاريخ حتى إذا عتوا وأفسدوا وتجبروا واشتد أذاهم، بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة. وأخيرا فإن هذه السورة مكية وقد ورد فيها عن التواء بني اسرائيل ومعصيتهم وسوء جبلتهم الكثير .. بينما يزعم المستشرقون- اليهود والصليبيون سواء- أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يهاجم اليهود- بزعمهم- بهذا القرآن إلا بعد أن يئس في المدينة من استجابتهم له، وأنه كان يحاسنهم في مكة وفي أول عهده بالمدينة فيقول- بزعمهم- قرآنا لا يهاجمهم فيه إنما يحدثهم عن التقاء العرب بهم في النسب إلى جدهم إبراهيم، طمعا في إسلامهم له، فلما يئس منهم هاجمهم هذا الهجوم ... وكذبوا فهذه سورة مكية تصف الحق في

المقطع الثاني من القسم الثاني

شأنهم لا فرق بين ما جاء فيها وما جاء في سورة البقرة المدنية في هذا الحق الذي لا يتبدل، وإذا نحن تجاوزنا عن الآيات من (163 - 170) في هذه السورة بوصفها مدنية وهي التي ورد فيها تأذن الله- سبحانه- بأن يرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، فإن الآيات التي قبلها والتي بعدها والتي لا شك في أنها مكية تضمنت الحق في جبلة بني إسرائيل، وفيها ذكر عبادتهم للعجل، وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها صنما، بينما هم خارجون من مصر باسم الله الواحد، وأخذ الرجفة لهم لأنهم أبوا الإيمان إلا أن يروا الله جهره، وتبديلهم قول الله لهم وهم يدخلون القرية ... الخ مما يدفع أولئك الزاعمين من المستشرقين بالافتراء على التاريخ بعد الافتراء على الله ورسوله، وهؤلاء هم الذين يتخذهم بعض من يكتبون عن الإسلام أساتذة لهم فيما يكتبون». «وإذا كانت القصة بطولها مسوقة في هذه السورة- في استعراض موكب الإيمان- لتدل على خطوات قدر الله مع المكذبين، ولتصور العلاقة بين القيم الإيمانية وسنة الله في الحياة البشرية، فإنها مسوقة كذلك لبيان طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، ممثلتين في شخوص القصة وأطرافها، وقد ختمت بمشهد أخذ الميثاق على بني إسرائيل، تحت المعاينة الكاملة لبأس الله الشديد: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ..... ) وبعد هذا التقديم لمعاني المقاطع الثلاثة في القسم الثاني نبدأ عرض المقطع الأول منها وهو المقطع الثاني من القسم الثاني: المقطع الثاني من القسم الثاني تتألف سورة الأعراف من ثلاثة أقسام، والقسم الثاني منها يتألف من أربعة مقاطع، تشغل قصة موسى وقومه منها ثلاثة مقاطع: والقسم الثاني بمقاطعه الأربعة يقص علينا قصص أقوام أنزل عليهم هدى وكيف كان موقفهم من هذا الهدى. ولقد كان المقطع الأول حديثا عن قوم: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وسيأتي المقطع الثاني وينصب الكلام فيه عن موسى عليه السلام وفرعون، وكيف كان عاقبة فرعون وقومه، ثم يأتي المقطع الثالث وينصب الكلام فيه عن بني إسرائيل

وانحرافاتهم. ونحن الآن في المقطع الثاني من هذا القسم. وفيه نموذج على الهدى المنزل، وموقف الناس منه والناس هنا شعب مستضعف ودولة ظالمة على رأسها قائد متغطرس متأله. والمقطع يمتد من الآية (103) إلى نهاية الآية (137) وهو نموذج على ما ذكرنا ومثال عملي، وشرح للقواعد والآيات التي ختم بها المقطع السابق وهذا هو المقطع: [سورة الأعراف (7): الآيات 103 الى 137] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

تلخيص لمعاني المقطع

تلخيص لمعاني المقطع: يقول صاحب الظلال ملخصا معاني هذا المقطع: (يتضمن هذا الدرس قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه. من حلقة مواجهتهم بربوبية الله للعالمين، إلى حلقة إغراقهم أجمعين. وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة. وغلبة الحق على الباطل. وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل. واستعلاء الحق في نفوسهم على هذا التوعد، وانتصار العقيدة في قلوبهم على حب الحياة. ثم ما تلا ذلك من التنكيل ببني إسرائيل. وأخذ الله لفرعون وملئه بالسنين ونقص من الثمرات. ثم أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وهم يستغيثون بموسى في كل مرة أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب. حتى إذا رفع عنهم عادوا لما كانوا فيه، وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات. حتى حقت عليهم كلمة الله في النهاية فأغرقوا في اليم بتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن حكمة

المعنى العام

ابتلائه- وفق السنة الجارية في أخذ المكذبين بالضراء والسراء قبل أخذهم بالدمار والهلاك- ثم إعطاء الخلافة في الأرض لقوم موسى جزاء على صبرهم واجتيازهم ابتلاء الشدة ... لتعقبها فتنة الرخاء .. ) .. المعنى العام: يخبر تعالى أنه بعد الرسل الذين مر ذكرهم وهم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب- عليهم السلام- قد أرسل بالمعجزات والحجج الدامغات والدلائل البينات إلى فرعون مصر وقومه في زمنه، فكان موقفهم الجحود لها والكفر بها؛ ظلما منهم وعنادا؛ فأصابهم ما أصاب المفسدين نتيجة لذلك، ومن ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعتبر بهذه العاقبة والنهاية التي كانت لهؤلاء المفسدين، الذين صدوا عن سبيل الله، وكذبوا رسله، فأغرقهم الله عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله. ومن الآية الأولى التي تنتهي بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأمته بالاعتبار بما كان لفرعون نعلم أن السياق كله من أجلنا، فما يقص الله علينا من قصص في هذه السورة إلا من أجل أن نأخذ عبرة فنزداد تمسكا بالوحي الذي أنزله الله على هذه الأمة. ومن الآية الأولى في هذا المقطع ندرك محتوى المقطع: إرسال موسى إلى فرعون وقومه، وخلق الآيات الكثيرة على يده، واستكبار فرعون وقومه، واستحقاقهم العذاب بذلك ونزوله بهم، وهذا الذي نرى تفصيله، وأول ما نراه في المقطع ما جرى من حوار بين موسى عليه السلام وفرعون، يعلن موسى لفرعون أنه رسول الله، أرسله رب العالمين خالق كل شئ وربه ومليكه، ومن كان شأنه التبليغ عن الله فإنه حري به وجدير على ألا يقول على الله إلا الحق، ثم أخبره أن معه الحجة القاطعة التي تشهد على أنه رسول الله، وتدل على صدقه فيما جاء به؛ وبناء على ذلك فإنه يطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل مطلقا سراحهم من أسره وقهره، تاركا إياهم ليعبدوا ربهم، وعندئذ أظهر فرعون تشككه وعدم تصديقه ورفضه لما طلب منه؛ وطلب من موسى إن كانت معه حجة أن يظهرها إن كان صادقا فيما ادعى، وعندئذ أظهر موسى معجزتيه الرئيسيتين إلى فرعون: إلقاء العصا فتتحول حية عظيمة بإذن الله، وإخراج يده من ثوبه بعد ما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض يراها كل من نظر إليها.

وعندئذ اتفق هو ومن حوله من بطانته على اعتبار أن ما صدر عن موسى سحر، وأن الهدف من هذا السحر هو إخراج المصريين من أرضهم، وتشاوروا في أمرهم كيف يصنعون، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره، وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائه، وتخوفوا أن يستميل الناس فيما أظهره، فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم. وإخراجه إياهم من أرضهم، ومن ثم استقر رأيهم أن يتركه وأخاه مرجئا أمرهم، وأن يرسل في أقاليم ملكه من أجل أن يجمع له السحرة من سائر البلاد، وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا، واعتقد من اعتقد منهم أن ما جاء به موسى سحر، فلهذا قرروا أن يجمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، وقد كان ذلك. وجمع السحرة، وتشارط السحرة وفرعون: أنهم إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا، فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، أو يجعلهم من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون بدأت المبارزة بينهم وبين موسى فعرضوا على موسى أن يبدأ هو أو يبدءوا هم، فطلب منهم موسى أن يبدءوا ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلع له، والانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس، وكذلك كان إذ ألقى السحرة سحرهم الذي يشبه في الظاهر عمل موسى. ألقوا الحبال والعصي فخيلوا إلى الأبصار أنها أصبحت حيات حقيقية، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، ولكنه سحر عظيم مبهر. وعندئذ أوحى الله إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الوقت العظيم الذي فرق الله تعالى فيه الحق والباطل أن يلقي عصاه؛ فإذا هي تنقلب حية وتأكل كل ما ألقوه وما أوهموا به. قال ابن عباس: فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشبهم إلا التقمته؛ فعرفت السحرة أن هذا شئ من السماء ليس بسحر فخروا سجدا وأعلنوا إيمانهم برب العالمين رب موسى وهارون، فما كان من فرعون إلا أن توعد السحرة لما آمنوا بموسى، مدعيا أن غلبة موسى عليهم إنما كانت لتآمر بينهم وبين موسى، بسبب أن موسى هو معلمهم السحر، وهو يعلم- عليه لعنة الله- وكل من له لب يعلم أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل، فإن موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة، والحجج القاطعة على صدق ما جاء به، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاقل سلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده، ووعدهم بالعطاء الجزيل، ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك، والتقدم عند فرعون،

وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك. وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم. ثم ادعى أن سبب هذا التآمر أن السحرة- بالتعاون مع موسى- يريدون أن يصلوا إلى الدولة والسلطان، ويسلبوها من الأكابر والرؤساء- أي منه ومن أعوانه- وبناء عليه فإنه سيقطع أيديهم وأرجلهم، من كل واحد منهم يدا ورجلا، متعاكستين يمينا بشمال أو شمالا بيمين، وأنه سيصلبهم جميعا، فكان أن أعلنوا أنهم قد تحققوا أنهم راجعون إلى الله، وأن عذاب الله أشد من عذاب فرعون ونكاله، وأنهم سيصبرون على عذاب فرعون ليتخلصوا من عذاب الله، ثم دعوا الله تعالى أن يعمهم بالصبر على دينه والثبات عليه، وأن يقبضهم إليه مسلمين متابعين لرسوله عليه السلام، فكانوا في أول النهار سحرة فصاروا في آخره شهداء بررة. وبعد هذه الجولة الخاسرة مع موسى عليه السلام، وبدلا من أن يؤمن فرعون وملؤه بعد تسليم أهل الاختصاص بالسحر أن موسى رسول الله وليس بساحر، يذكر لنا الله- عزّ وجل- ما تآمر به فرعون وقومه، وما تمالئوا به على موسى، وما أضمروه له ولقومه من الأذى والبغضة، إذ يقص علينا أن حاشية فرعون حرضت فرعون على موسى. وما هو بحاجة إلى تحريض، ولكنه نفاق البطانة، ومسارعتها إلى إرضاء نفس الحاكم، مدعية أن موسى وقومه مفسدون في الأرض، إذ هم تاركون لآلهة فرعون، عابدون غيرها داعون لعبادة الله رب العالمين. وهكذا الشأن دائما أن المفسدين الحقيقيين يسمون المصلحين الحقيقيين بالإفساد، وهنا أعلن فرعون قراره بإحياء سنته اللعينة القديمة وهي قتل أبناء بني إسرائيل، واستحياء نسائهم؛ قهرا لهم وإذلالا، وأمام هذا الطغيان الرهيب لم يكن من موسى إلا أن أمر قومه- وهم المستضعفون- بالاستعانة بالله والصبر. وهكذا تمر لحظات صعبة على أهل الله، ليس أمامهم إلا هذا. ووعدهم موسى بالعاقبة وأن الدار ستصير لهم ولكنهم- وهم من هم في اللجاج والمخالفة- قالوا شاكين متذمرين أن هذا الأذى قد نزل بهم من قبل مجئ موسى ومن بعد، فقال منبها لهم عن حالهم الحاضر وما يصيرون إليه من مآلهم عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وهذا تحضيض لهم على الصبر وحسن الرجاء، وعلى العزم على الشكر عند حلول النعم وزوال النقم، وبدأت العقوبات تتوالى على فرعون وقومه انتصارا لموسى وقومه، وعظة لفرعون وقومه، وتلك سنة الله التي رأيناها من قبل، أن يأخذ بالبأساء والضراء ابتداء من لم يؤمن برسله، وهكذا فعل بفرعون وقومه، ابتلاهم بالجوع والقحط، فلا ثمر ولا زرع؛ من

أجل أن يتعظوا فكان موقفهم كموقف الأمم السابقة، إن جاءهم الخصب والسعة ادعوا أن هذا لهم حق ومستحق، وإن جاءهم الجدب والقحط ادعوا أن هذا بسبب موسى وقومه وما جاءوا به، ناسين أن هذا كله من عند الله؛ ولكنهم جهلة بالله وسننه؛ ومع ما ابتلاهم الله به ومع كل ما رأوا من الآيات؛ فإنهم عبروا عن تمردهم وعتوهم وعنادهم للحق، وإصرارهم على الباطل بإعلانهم بأن أي آية يجيئهم بها موسى، وأي حجة يقيمها عليهم، فإنهم سيردونها ولا يقبلونها، وأنهم لن يؤمنوا به ولا بما جاء به. فسلط الله عليهم البرد والأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، والموت، والجراد، والقمل، والضفادع، وفي كل واحدة من هذه آية واضحة مفصلة، ومع ذلك أصروا على الاستكبار، وأصروا على التلبس بالإجرام، وكان من دأبهم أنهم إذا وقع بهم العذاب طلبوا من موسى أن يدعو الله ليرفع العذاب، معاهدين الله أنهم سيؤمنون بموسى ويرسلون معه بني إسرائيل، وفي كل مرة كانوا ينكثون إذا رفع عنهم العذاب، ثم إنهم لما أصروا على العتو والتمرد مع ابتلاء الله إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة، انتقم الله منهم بإغراقه إياهم في البحر الذي فرقه الله لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها، ثم أخذ الله بيد بني إسرائيل بعد ذلك ناقلا إياهم من حال إلى حال، حتى أورثهم مشارق الأرض ومغاربها، والمراد بالأرض التي أورثوها فلسطين تحقيقا لوعد الله لهم ودمر الله ما صنع فرعون وما بناه. وبهذه المعاني ينتهي هذا المقطع، وهو كما قلنا من قبل نموذج على سنن الله التي ذكرها قبيل هذا المقطع من كونه يمتحن الذين يبعث إليهم رسولا- فيرفضون رسالته- بالبأساء والضراء، ثم يعطيهم خصبا ليتعظوا بهذا وهذا، ولكن جرت العادة أن يستكبروا ولا يتعظوا في الحالين وعندئذ يكون الأخذ. وهذا ما كان لفرعون وقومه. وكذلك رأينا أن الله قرر أن أكثر الناس ليس لهم عهد وأكثرهم فاسقون. وهكذا رأينا في قصة فرعون مع موسى في هذا المقطع كيف أن فرعون وقومه كانوا ينكثون في كل مرة. وقد رأينا كيف أن الله يتولى الفئة المؤمنة إما بتثبيتها حتى تقتل لتكون شهيدة، وإما بنصرها والانتصار لها والانتقام من عدوها وإنجائها. وهي معان كلها تجري على نسق واحد، عاقبة اتباع الهدى المنزل، وعاقبة رفضه، وذلك هو محور هذه السورة. ونلاحظ أنه في هذه السورة قد قص الله علينا مقطعا في قصة فرعون هو ما رأينا

المعنى الحرفي

معانيه، وفي سور أخرى سيقص الله علينا جوانب أخرى من قصة فرعون مع موسى أو يكرر معنى من المعاني المذكورة هنا، وفي كل مرة تأتي القصة أو جزء منها، إنما تأتي لتخدم غرضا في السورة وفي السياق بما ينسجم مع موضوع السورة ومحورها، وبما يشكل في النهاية عرضا كاملا للقصة من كل جوانبها دون أن يخل هذا بوحدة السورة القرآنية، وبما يحقق المظهر الأعلى من التكامل القرآني، وكل ذلك يبرز مدى الكمال في هذا القرآن، وكيف لا ومنزله هو الله الذي له المثل الأعلى في كل شئ تبارك وتعالى وهذا الذي قلناه مظهر من مظاهر الكمال والتكامل في هذا القرآن، وإن كل ما قاله ويقوله أحد في شأن هذا القرآن إنما هو قطرة من بحار الكمال الذي لا يحيط به إلا الله. المعنى الحرفي: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل المذكورين، أو من بعد الأمم المذكورة، وظاهر النص أن موسى جاء بعد هذه الأمم، وبعد هؤلاء الرسل، وهذا يؤكد الاتجاه الذي يقول بأن الرجل الذي آوى إليه موسى من مدين ليس هو شعيبا عليه السلام إذ بين شعيب وموسى زمن طويل كما سنرى ذلك في سورة القصص مُوسى بِآياتِنا أي بالمعجزات الواضحات إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد، ويمكن أن يراد بقوله فَظَلَمُوا بِها أي فظلموا الناس بسببها حين آذوا من آمن. أو أن كلمة الظلم استعملت بدل الكفر لأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلما حيث وضعوا الكفر موضع الإيمان فَانْظُرْ يا محمد ويا من يقتدي به ويتابعه كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله حيث كانت نهايتهم الغرق وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ يقال لملوك مصر الفراعنة كما يقال لملوك فارس الأكاسرة فليست كلمة فرعون اسمه بل لقبه إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك. حَقِيقٌ أي خليق وجدير عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي الصدق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بما يبين رسالتي وهي المعجزات فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فخلهم يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ أي من عند من أرسلك فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فأتني بها لتصح دعواك ويثبت صدقك فيها. فَأَلْقى أي موسى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية عظيمة مُبِينٌ أي ظاهر أمره أنه ثعبان وَنَزَعَ يَدَهُ أي من جيبه

[سورة الأعراف (7): آية 109]

فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضا عجيبا خارجا عن العادة يجذب الناس للنظر إليه قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي عالم بالسحر ماهر فيه قد خيل إلى الناس العصا حية والآدم أبيض، وهذا الكلام ذكر على لسان فرعون في سورة الشعراء، وهنا ذكر على لسان الملأ فإما أن كلا منهم قاله فحكى قوله ثمة وقولهم هنا، أو قاله ابتداء فتلقفه الملأ منه بعد أن أوحى إليهم به وتبنوه يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي مصر فَماذا تَأْمُرُونَ أي فماذا تشيرون وهو- أي السؤال الأخير- من كلام فرعون قاله للملإ بعد أن قالوا ما قالوه وفي ذلك إشعار أن الطاغية يشعر من حوله أنه منفذ لأوامرهم قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر واحبس أي: أخر أمره ولا تعجل، فكأنه هم بقتله فقالوا أخر أمره واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق والمراد بأخيه هارون عليهما السلام وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي مثله في المهارة أو بخير منه وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ يفهم من ذلك أنه أرسل إليهم فحضروا قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي لجعلا عظيما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ أي إن غلبنا موسى في سحره قالَ نَعَمْ أي إن لكم لأجرا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي عندي فتكونون أول من يدخل وآخر من يخرج قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي عصاك. وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما معنا ويظهر أن رغبتهم كانت في أن يلقوا قبله، فهم هذا من طريقة خطابهم وذكرهم أنفسهم بضمير نحن قالَ موسى أَلْقُوا ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، واعتمادا على أن المعجزة لن يغلبها شئ، وليظهر للناس بطلان سحرهم بعد أن يندهش الناس به. ولا شك أن تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل المتناظرون قبل أن يتخاوضوا في الجدال. وقد خدمهم حسن الأدب هذا فالحسنة تأتي بالحسنة. بدءوا معه بحسن الأدب، وانتهوا مؤمنين به فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أي أروا أعين الناس بالحيل والشعوذة وخيلوا إليهم ما الحقيقة بخلافه كما سيأتي تفصيل ذلك في سورة طه وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم استدعوا رهبتهم بالحيلة. وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي في باب السحر أو في عين من رآه وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع. ما يَأْفِكُونَ أي ما يقلبونه من الحق إلى الباطل ويزورونه. فَوَقَعَ الْحَقُّ أي فثبت وحصل وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من السحر.

فائدة

فائدة: بمناسبة قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ يقول الألوسي: (واستدل بالآية من قال- كالمعتزلة- إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه، وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة، كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله عنه حين ذهب ليخرص تمرهم، وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل، والري على الشرب، والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى، نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع، وفلق الحجر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر). وبمناسبة الكلام عن انقلاب عصا موسى ثعبانا قال الألوسي: والآية من أقوى الأدلة على جواز انقلاب الشئ عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب، إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الإعجاز، ولم يكن لذكر «مبين» أي في فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل كذلك أيضا أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له، والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا غير مقبول، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشئ في الزمن الواحد نحاسا وذهبا وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا ... ). أقول: في عصرنا استطاع علماء الكون أن يحولوا العنصر إلى عنصر آخر من خلال تغيير عدد الألكترونات والبروتونات في الذرة فالقول باستحالة ذلك لم يعد واردا، أما موضوع السحر فلم يزل ولن يزال النقاش فيه قائما، والفارق بينه وبين المعجزة واضح، فالسحر جزء من عالم الأسباب، والمعجزة خرق لعالم الأسباب.

وبمناسبة الكلام عن السحر في قصة موسى وفرعون ننقل فقرة من كتاب «الطبيعة الخارقة» لمؤلفه ليل واطسون تحت عنوان السحر: (قام العالم التشيكي ميلان ديزل بتجارب حول التوارد الذهني وفي هذه التجارب كان المرسل يدعي أعراضا مرضية أو عاطفية، وكان المستقبل لهذه المعلومات على الفور يتأثر بهذه الأعراض وكأنه أصيب بالمرض حقا فلو ركز المرسل ذهنه على إرسال معلومات عن إصابته بالاختناق فإن المستقبل يسعل بشدة ويبدو عليه أنه فعلا قد أصيب بالاختناق. وهذه الظاهرة تلقي الضوء حول كيفية عمل المشعوذين والسحرة. فهم يقومون بدور المرسل الذي يفكر نيابة عن المريض ويعطيه المعلومات عن مرضه وشفائه. يروي «وليام سيبروك» الذي عاش بين القبائل البدائية في غرب أفريقيا الفرنسية قصة عن رجل بلجيكي قتل أحد أفراد هذه القبائل، فما كان من هذه الأخيرة إلا أن أحضرته لأعوانه بواسطة السحر: وضع الرجل على رأس جبل .. وعلى الجبل المقابل جاء الساحر ومعه القتيل وألبسه ثياب القاتل وبدأ بالتمتمة، وبدأت الطبول بالقرع، وبدأ الرجال بالتمتمة أيضا ولم يلبث البلجيكي القاتل أن توفي فورا. والنظرية الراجحة أنه مات بعد الإيحاء له بذلك عن طريق العقل الباطني. ولكن الاكتشاف بأن العواطف تتوارد أيضا قد يعني أن الاحتفال الديني عند مقتل الرجل كان له علاقة بموته، وأن الجو المشحون بالكراهية من حوله يعطي نفس التأثير كالتنويم المغناطيسي الذي قد يكون السبب في مقتل الرجل عن طريق تركيز عواطف الكره والتي يصدرها الساحر ورفاقه باتجاهه. لا شك بأن الطقوس التي تصاحب السحر تؤدي أحيانا للهلوسة. والمعروف عن السحرة أنهم يحضرون أدويتهم الشافية كما يهيئون أجواءهم الخاصة. وليس كل السحر شعوذة. لغاية الآن لم يكتشف الإنسان دواء شافيا للسرطان إلا أن هناك طريقة قديمة في علاجه باستعمال أعشاب معينة، يعتمد تأثيرها على الوقت الذي تقطف فيه. ومن بين حوالى سبعين ألف تجربة أجريت على الأوقات المختلفة لقطف النبتة، هناك وقت واحد ولحظة معينة تكون فيه النبتة تتأثر بحركة النجوم والشمس كما تتأثر بالخسوف والكسوف. مما سبق شرحه، فأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن المادة والعقل والسحر كلها مرتبطة برباط واحد في هذا الكون) اه. من كتاب الطبيعة الخارقة. وقال صاحب الظلال بمناسبة الكلام عن السحر بالآيات:

[سورة الأعراف (7): آية 119]

«وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد، وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر. ففى الوثنيات كلها تقريبا يقترن الدين بالسحر، ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة! وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها «علماء الأديان» فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة ويقول الملحدون منهم: إن الدين سيبطل كما بطل السحر، وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر: إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه «العلم». ولنعد إلى التفسير الحرفي فَغُلِبُوا أي فرعون وجنوده والسحرة هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي وصاروا أذلاء مبهوتين. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي وخروا سجدا لله فكأنما ألقوا إلقاء لشدة خرورهم. أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا إلقاء ومن ثم عبر بقوله أُلْقِيَ. قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ عرفوا أن فعل موسى ليس سحرا ولا يمكن أن يكون من صنع بشر فآمنوا بالله وبرسوليه موسى وهارون قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ هذا توبيخ منه لهم قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل إذني لكم إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الصحراء لغرض لكم وهو أن تخرجوا من مصر القبط وتسكنوا بني إسرائيل أو لتكون لكم الدولة والسلطان أنتم وموسى وتخرجوا أهل الدولة والسلطان الحقيقيين منها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا وعيد مجمل فصله بما بعده لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل شق طرفا، من شق يد ومن شق رجل ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بدون استثناء قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي فلا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته أو إنا جميعا- يعنون أنفسهم وفرعون- ننقلب إلى الله فيحكم بيننا وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر وهو الإيمان رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي اصبب علينا الصبر صبا ذريعا، أي هب لنا صبرا واسعا وأكثره علينا حتى يفيض علينا ويغمرنا كما يفرغ الماء إفراغا. وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على الإسلام وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ أي أتترك مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بالاستعلاء فيها وتغيير دين أهلها وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ أي ويتركك وما تعبد من آلهة. ولقد كان لفرعون آلهة مزعومة وتروي أوراق البردى أن رعمسيس الثاني أصدر منشورا يدعو فيه إلى عبادة نفسه كما هو ثابت في الوثائق التاريخية والآثار المحفوظة، فهل

[سورة الأعراف (7): آية 128]

رعمسيس الثاني هو فرعون موسى؟ الأمر فيه خلاف كثير قالَ أي فرعون مجيبا للملإ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي سنجدد عادة قتل الأبناء ليعلموا أنا على ما كنا عليه في الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وقتل الأبناء واستحياء النساء فيه معان خسيسة كثيرة فعليه لعنة الله وقد فعل قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا قال لهم ذلك حين جزعوا من قول فرعون وتهديده تسلية لهم ووعدا بالنصر عليهم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ كلها ومنها أرض مصر والشام يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ مناهم بأن يرثوا الأرض وهذا يساعد على الصبر وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ هذه بشارة لهم بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم وفيه حض لهم من أجل أن يكونوا متقين قالُوا متذمرين شاكين أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى إلى أن استنبئ وإعادته عليهم بعد ذلك مع أنواع أخرى من الأذى، وفيه مع التذمر استبطاء لوعد النصر قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ هذا تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم في الأرض الموعودين باستخلافها وهي الشام فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي فيرى الله ما يكون منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ بالقحط والجدب. وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ حتى لا تعطي أرضهم ثمارها ويحتمل أن القحط لأهل البوادي ونقص الثمرات لأهل الحواضر والأمصار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ليتعظوا فينتبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر، ولأن الناس في حال الشدة أضرع خدودا وأرق أفئدة. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي الصحة والخصب قالُوا لَنا هذِهِ أي هذه التي نستحقها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب ومرض يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي يتشاءمون بهم ويقولون هذه بشؤمهم ولولا مكانهم لما أصابتنا أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي هو سبب خيرهم وشرهم عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه ومشيئته والله هو الذي يقدر ما يصيبهم من الحسنة والسيئة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ سموها آية على سبيل الاستهزاء، أو أنهم قالوا إعلانا للاستكبار، أو لأن موسى يسميها آية لِتَسْحَرَنا بِها هذا من تمام وقاحتهم وإصرارهم على أن موسى ساحر فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ يحتمل أنه ما طاف بهم وعليهم من مطر أو سيل، ويحتمل أنه الجدري، ويحتمل أنه الطاعون،

[سورة الأعراف (7): آية 134]

ويحتمل أنه الموت، ولكل ذلك وجه في اللغة. وكل من ذلك قال به أحد المفسرين وَالْجَرادَ تأكل زروعهم وثمارهم وَالْقُمَّلَ يحتمل أن المراد به أولاد الجراد الصغار قبل نبات أجنحتها، ويحتمل أنها كبار القردان، ويحتمل أنه القمل المعروف وهو الدواب السود الصغار، ويحتمل أنه البراغيث ولكل ذلك وجه في اللغة وَالضَّفادِعَ سلطت عليهم كذلك وَالدَّمَ عذبوا به كما سنرى آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات عن بعضها بحيث تظهر السابقة عن اللاحقة فَاسْتَكْبَرُوا أي عن الإيمان بموسى وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ بكفرهم وعتوهم وإيذائهم لله ورسوله والمؤمنين وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب وهل المراد به آخر المذكورات السابقات الدم، أو العذاب المذكور واحدا بعد واحد، والراجح الثاني قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك وهو النبوة. قال النسفي: ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ أي إلى حد من الزمان هُمْ بالِغُوهُ هم واصلون إليه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي فلما كشفنا عنهم العذاب فاجئوا بالنكث ولم يؤخروه فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ الانتقام ضد الإنعام كما أن العقاب هو ضد الثواب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي في البحر، واليم: البحر العميق، وقد يراد بهذه الكلمة لجة البحر ومعظم مائه بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة تفكرهم فيها وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي بني إسرائيل الذين كانوا يستضعفهم فرعون وقومه بالقتل والاستخدام مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها أي فلسطين إذ المراد بالأرض الأرض المعهودة الموعودون بها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى أي مضت واستمرت والحسنى تأنيث الأحسن عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ والكلمة الحسنى هي وعد الله لهم بإهلاك عدوهم واستخلافهم بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج وَدَمَّرْنا أي وأهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من العمارات والقصور والصناعات وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي يرفعونه من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من الأبنية المشيدة، ولقد أعطى الله بني

كلمة في السياق

إسرائيل فلسطين. عند ما كانوا مسلمين وأعطانا إياها لأننا مسلمون، وهي اليوم والأمس وغدا للمسلمين، وعلى المسلمين أن يستردوها من الكافرين. كلمة في السياق: كما انتهت قصة قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب في المقطع الأول من القسم الثاني، تنتهي قصة فرعون: وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ ولذلك قلنا إن هذا الجزء من قصة موسى يعتبر مقطعا مستقلا ليأتي بعد ذلك مقطع يرينا موقف بني إسرائيل أنفسهم من الوحي الذي أنزل عليهم. إن في هذا القسم دروسا، دروسا للكافرين، ودروسا للمؤمنين. نقول: 1 - بمناسبة قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ يقول صاحب الظلال: «إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة .. إنها الخروج من الأرض .. إنها ذهاب السلطان .. إنها إبطال شرعية الحكم .. أو .. محاولة قلب نظام الحكم! بالتعبير العصري الحديث! إن الأرض لله. والعباد لله. فإذا ردت الحاكمية في أرض لله، فقد خرج منها الطغاة الحاكمون بغير شرع الله! أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم. وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب!. هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة ... وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة .. لقد قال الرجل العربي- بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله يدعو الناس إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: «هذا أمر تكرهه الملوك!» .. وقال له رجل عربي آخر بفطرته وسليقته «إذن تحاربك العرب والعجم» لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عربا كانوا أو عجما كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حس هؤلاء

العرب لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيدا فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة، شهادة أن لا إله إلا الله مع الحكم بغير شرع الله فيكون هناك آلهة مع الله، ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم بعض من يدعون أنفسهم «مسلمين». 2 - وبمناسبة إيمان السحرة وتحديهم لفرعون يقول صاحب الظلال: «ويقف الطغيان عاجزا أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان .. يقف الطغيان عاجزا أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب، ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام. فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله .. وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان؟!. إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية. هذا الذي كان بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة .. السابقين .. إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار «الإنسان على الشيطان»، إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة. والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب. إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز وتمنى بالقرب من السلطان .. هي ذاتها التي تستعلي على فرعون؛ وتستهين بالتهديد والوعيد، وتقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب. وما تغير في حياتها شئ، ولا تغير من حولها شئ. في عالم المادة. إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى، وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد .. وقعت اللمسة التي تحول الإبرة، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة ويتسمع الضمير أصداء الهداية، وتتلقى البصيرة إشراقات النور .. وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي، ولكنها

هي تغير الواقع المادي، وترفع «الإنسان» في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال! ويذهب التهديد. ويتلاشى الوعيد. ويمضي الإيمان في طريقه. لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد. ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد .. إن روعة الموقف تبلغ ذروتها، وتنتهي إلى غايتها. وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض؛ مع الهدف النفسي للقصة على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن. ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ .. نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون، يمثل خطرا على نظام ملكهم وحكمهم، لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان، مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان، وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل .. ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها إنه لا يجتمع في قلب واحد، ولا في بلد واحد، ولا في نظام حكم واحد أن يكون الله رب العالمين، وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد يباشره بتشريع من عنده وقوانين .. فهذا دين وذلك دين .. ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة. بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وجعل لهم فرقانا في تصورهم أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة، وإنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين. فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه، ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون .. أو بتعبير آخر مرادف: من ربوبية فرعون، ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله .. وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده. فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله .. إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين، وأن عدوهم على دين غير دينهم، لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين .. فهو إذن من الكافرين .. وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل إلا بمثل هذا اليقين بشقيه: أنهم هم المؤمنون، وأن أعداءهم هم الكافرون، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين، ولا ينقمون منهم إلا الدين.

ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار الإنسان على الشيطان. وهو مشهد بالغ الروعة .. نعترف أننا نعجز عن القول فيه فندعه كما صوره النص القرآني الكريم). 3 - وبمناسبة قول الملأ من قوم فرعون لفرعون: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ .. يقول صاحب الظلال: (فالإفساد في الأرض- من وجهة نظرهم- هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده حيث يترتب عليها- تلقائيا- بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره- أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه- وإذن فهو- بزعمهم- الإفساد في الأرض، بقلب نظام الحكم وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر، وإنشاء وضع آخر مخالف تماما لهذه الأوضاع الربوبية فيه لله لا للبشر. ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه .. ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة .. بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة وهي بنوة ليست حسية! فلقد كان الناس يعرفون جيدا أن الفرعون مولود من أب وأم بشرين. إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته. فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين، وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف، الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح .. وذلك كما يقول الله سبحانه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ... إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ .. وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله .. فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت ولا يمكن أن يطيع له أمرا وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله ومن هنا كان يجئ التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى- عليه السلام- إلى بِرَبِّ الْعالَمِينَ وإيمان السحرة بهذا الدين وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين .. ومن هنا يجئ التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده .. أو من شهادة أن لا إله إلا الله .. حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام. ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون. وشعر بالخطر الحقيقي على نظامه

كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع: قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ: 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ .. قال صاحب الظلال: (إنها إشارة التحذير الأول .. الجدب ونقص الثمرات .. و «السنين» تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط وهي في أرض مصر، المخصبة المثمرة المعطاء تبدو ظاهرة تلفت النظر وتهز القلب، وتثير القلق، وتدعو إلى اليقظة والتفكر لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت- بفسقهم عن دين الله فيطيعونه- لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا، ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات، ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده، ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية .. لأن هذه العلاقة من عالم الغيب .. وهم أغلظ حسا وأجهل قلبا من أن يروا وراء الواقع المحسوس الذي تراه البهائم وتحسه- شيئا! وإذا رأوا شيئا من عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة، وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة، التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة. وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده- حتى وهم يكفرون ويفجرون- كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون كما تصرف حياة الناس والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيمانا صحيحا ... الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى ولا يمضي عبثا، إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة .. وهذه هي «العقلية العلمية» الحقيقية وهي عقلية لا تنكر «غيب الله» لأنه لا تعارض بين «العلمية» الحقيقية و «الغيبية» ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة لأن وراءها الله الفعال لما يريد الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض .. لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله وبغيهم وظلمهم لعباد الله ... وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات .. في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون!.

لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم. ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقا طبيعيا لهم وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ .. وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى يده- سبحانه- في تصريف هذا الوجود ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة لا صلة بينها ولا قاعدة ترابط، وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة ولا تجتمع وفق نظام- وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية «العلمية» عن معاكسة «الطبيعة» لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات- وكما يقول الذين يمضون مع هذه «العلمية» المدعاة في تعليل مثل هذه الأحداث .. وهم ينكرون قدر الله .. وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه «مسلم» وهو ينكر أصول الإيمان بالله!. وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث .. الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم ومن تحت رأسهم، وأصل التطير في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه .. فقد كان الرجل منهم إذا أراد أمرا جاء إلى عش طائر فهيجه عنه فإذا طار عن يمينه- وهو السانح- استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده. وإذا طار الطائر عن شماله- وهو البارح- تشاءم به ورجع عما عزم عليه! فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي وأحل محله التفكير «العلمي» - العلمي الصحيح- وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها وأقام الأمور على أسس «علمية» يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده وتوضع في موضعها الصحيح، في إطار المشيئة الإلهية الطليقة وقدره النافذ المحيط: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .. إن ما يقع لهم مصدره كله واحد .. إنه من أمر الله .. ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء وتصيبهم السيئة للابتلاء: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ ويصيبهم النكال للجزاء .. ولكن أكثرهم لا يعلمون .. كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم «العقلية العلمية» وكالذين ينسبون إلى الطبيعة

فوائد

المعاكسة باسم «الاشتراكية العلمية» كذلك!!! وكلهم جهال .. وكلهم لا يعلمون! ويمضي آل فرعون في عتوهم، تأخذهم العزة بالإثم، ويزيدهم الابتلاء شماسا وعنادا: وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ولا يرده برهان، ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان- قطعا للطريق على البرهان- وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدفعهم الحق وتجبههم البينة ويطاردهم الدليل ... بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم .. كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل.). فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ يذكر النسفي هذه القصة: وعن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان. وطلب المنصور زيادة لعمرو فلم توجد، فقرأ عمرو هذه الآية. ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك: وقال: قد بقي فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. 2 - في الإصحاح الثاني عشر في سفر الخروج: وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربعمائة وثلاثين سنة. 3 - يذكر المفسرون عند آيات كثيرة من هذا المقطع كلاما منقولا عن أهل الكتاب ليس فيه شئ عن رسولنا صلى الله عليه وسلم- في الغالب- وبعضه غريب جدا وقد رأينا التفسير الحرفي للمقطع واحتمالاته، ولو رجعنا إلى ما عند أهل الكتاب في هذا الموضع فإننا نجد أن الإصحاحات: الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من سفر الخروج لها علاقة في هذا الموضوع ونحن ننقل من هذه الإصحاحات نقولا ونختار منها اختيارات مع احتراساتنا التي نبديها دائما أن هذه الكتب اختلط فيها الحق بالباطل فلا تصلح أساسا للاعتماد بل يصلح بعضها للاستئناس: ففي الإصحاح الخامس: (وبعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله إسرائيل أطلق شعبي ليعبدوا لي في البرية (قالوا) أي بنو إسرائيل (لهما) لموسى وهارون أنتما انتنتما رائحتنا في عيني فرعون وفي عيون عبيده حتى تعطيا سيفا في

أيديهم ليقتلونا). وفي الإصحاح السادس: (أنا الرب وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة ... وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وأعطيكم إياها ميراثا أنا الرب ... ) وفي الإصحاح السابع: (فدخل موسى وهارون إلى فرعون، وفعلا هكذا كما أمر الرب. طرح هارون عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانا. فدعا فرعون أيضا الحكماء والسحرة. ففعل عرافو مصر أيضا بسحرهم كذلك طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين. ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم، فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب). لاحظ أن الطارح في النص هو هارون وهو كذب وافتراء ويتناقض مع عامة الروايات والتصرفات في الإصحاحات نفسها فضلا عن تناقضه مع الوحي الصادق. (ففعل هكذا موسى وهارون كما أمر الرب. رفع العصا وضرب الماء الذي في النهر أمام عيني فرعون وأمام عيون عبيده. فتحول كل الماء الذي في النهر دما، ومات السمك الذي في النهر وأنتن النهر. فلم يقدر المصريون أن يشربوا ماء من النهر. وكان الدم في كل أرض مصر) ... (وحفر جميع المصريين حوالي النهر لأجل ماء ليشربوا. لأنهم لم يقدروا أن يشربوا من ماء النهر). وفي الإصحاح الثامن: (ولما كملت سبعة أيام بعد ما ضرب الرب النهر قال الرب لموسى: ادخل إلى فرعون وقل له هكذا يقول الرب أطلق شعبي ليعبدوني. وإن كنت تأبى أن تطلقهم منها أنا أضرب جميع تخومك بالضفادع فيفيض النهر ضفادع. فتصعد وتدخل إلى بيتك وإلى مخدع فراشك وعلى سريرك وإلى بيوت عبيدك وعلى شعبك وإلى تنانيرك وإلى معاجنك. عليك وعلى شعبك وعبيدك تصدع الضفادع). (فدعا فرعون موسى وهارون وقال صليا إلى الرب ليرفع الضفادع عني وعن الشعب ليذبحوا للرب). (ثم خرج موسى وهارون من لدن فرعون وصرخ موسى إلى الرب من أجل الضفادع التي جعلها على فرعون. ففعل الرب كقول موسى. فماتت الضفادع من البيوت والدور والحقول. وجمعوها كوما كثيرة حتى أنتنت الأرض. فلما رأى فرعون

أنه قد حصل الفرج أغلظ قلبه ولم يسمع لهما كما تكلم الرب). (وضرب تراب الأرض فصار البعوض على الناس وعلى البهائم. كل تراب الأرض صار بعوضا في جميع أرض مصر). (وقل له هكذا يقول الرب أطلق شعبي ليعبدوني فإنه إن كنت لا تطلق شعبي ها أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان فتمتلئ بيوت المصريين ذبانا. وأيضا الأرض التي هم عليها. ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم حتى لا يكون هناك ذبان. لكي تعلم أني أنا الرب في الأرض. وأجعل فرقا بين شعبي وشعبك. غدا تكون هذه الآية. ففعل الرب هكذا فدخلت ذبان كثيرة إلى بيت فرعون وبيوت عبيده. وفي كل أرض مصر خربت الأرض من الذبان). (فقال فرعون أنا أطلقكم لتذبحوا للرب إلهكم في البرية. ولكن لا تذهبوا بعيدا. صليا لأجلي. فقال: موسى ها أنا أخرج من لدنك وأصلي إلى الرب. فترتفع الذبان عن فرعون وعبيده وشعبه غدا. ولكن لا يعد فرعون يخاتل حتى لا يطلق الشعب ليذبح للرب. فخرج موسى من لدن فرعون وصلى إلى الرب. ففعل الرب كقول موسى. فارتفع الذبان عن فرعون وعبيده وشعبه. لم تبق واحدة ولكن أغلظ فرعون قلبه هذه المرة أيضا فلم يطلق الشعب). وفي الإصحاح التاسع: (ثم قال الرب لموسى ادخل إلى فرعون وقل له هكذا يقول الرب إله العبرانيين أطلق شعبي ليعبدوني فإنه إن كنت تأبى أن تطلقهم وكنت تمسكهم بعد فها يد الرب تكون على مواشيك التي في الحقل على الخيل والحمير والجمال والبقر والغنم وباء ثقيلا جدا. ويميز الرب بين مواشي إسرائيل ومواشي المصريين فلا يموت من كل ما لبني إسرائيل شئ. وعين الرب وقتا قائلا غدا يفعل الرب هذا الأمر في الأرض. ففعل الرب هذا الأمر في الغد. فماتت جميع مواشي المصريين. وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها أحدا وأرسل فرعون وإذا مواشي إسرائيل لم يمت منها ولا واحد. ولكن غلظ قلب فرعون فلم يطلق الشعب). (ثم قال الرب لموسى وهارون خذا ملء أيديكما من رماد الأتون. وليذره موسى نحو السماء أمام عيني فرعون ليصير غبارا على كل أرض مصر فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور في كل أرض مصر. فأخذا رماد الأتون ووقفا أمام فرعون وذراه موسى نحو السماء. فصار دمامل بثور طالعة في الناس وفي البهائم).

(وها أنا غدا مثل الآن أمطر بردا عظيما جدا، لم يكن مثله في مصر منذ يوم تأسيسها إلى الآن، فالآن أرسل أهم مواشيك وكل مالك في الحقل. جميع الناس والبهائم الذين يوجدون في الحقل ولا يجمعون إلى البيوت ينزل عليهم البرد فيموتون. فالذي خاف كلمة الرب من عبيد فرعون هرب بعبيده ومواشيه إلى البيت. وأما الذي لم يوجه قلبه إلى كلمة الرب فترك عبيده ومواشيه في الحقل. ثم قال الرب لموسى مد يدك نحو السماء ليكون برد في كل أرض مصر على الناس وعلى البهائم وعلى كل عشب الحقل في أرض مصر. فمد موسى عصاه نحو السماء. فأعطى الرب رعودا وبردا وجرت نار على الأرض وأمطر الرب بردا على أرض مصر. فكان برد ونار متواصلة في وسط البرد، شئ عظيم جدا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمة. فضرب البرد في كل أرض مصر جميع ما في الحقل من الناس والبهائم. وضرب البرد جميع عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل إلا أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل فلم يكن فيها برد. فأرسل فرعون ودعا موسى وهارون فقال لهما أخطأت في هذه المرة. الرب هو البار وأنا وشعبي الأشرار. صليا إلى الرب وكفى حدوث رعود الله والبرد فأطلقكم ولا تعودون تلبثون. فقال له موسى عند خروجي في المدينة أبسط يدي إلى الرب فتنقطع الرعود ولا يكون البرد أيضا لكي تعرف أن للرب الأرض. وأما أنت وعبيدك فأنا أعلم أنكم لم تخشوا بعد من الرب الإله. فالكتان والشعير ضربا. لأن الشعير كان مسبلا والكتان مبزرا وأما الحنطة والقطاني فلم تضرب لأنها كانت متأخرة. فخرج موسى في المدينة من لدن فرعون وبسط يديه إلى الرب فانقطعت الرعود والبرق ولم ينصب المطر على الأرض. ولكن فرعون لما رأى أن المطر والبرد والرعود انقطعت عاد يخطئ وأغلظ قلبه هو وعبيده فاشتد قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل كما تكلم الرب عن يد موسى). وفي الإصحاح العاشر: (فدخل موسى وهارون وقالا له هكذا يقول الرب إله العبرانيين إلى متى تأبى أن تخضع لي أطلق شعبي ليعبدوني. فإنه إن كنت تأبى أن تطلق شعبي ها أنا أفاجئ غدا بجراد على تخومك فيغطي وجه الأرض حتى لا يستطاع نظر الأرض. ويأكل الفضلة السالمة الباقية لكم من البرد. ويأكل جميع الشجر النابت لكم في الحقل ويملأ بيوتك وبيوت جميع عبيدك وبيوت جميع المصريين. الأمر الذي لم يره آباؤك ولا آباء آبائك منذ يوم وجدوا على الأرض إلى هذا اليوم. ثم تحول وخرج من لدن فرعون).

(ثم قال الرب لموسى مد يدك على أرض مصر لأجل الجراد. ليصعد على أرض مصر ويأكل كل عشب الأرض كل ما تركه البرد. فمد موسى عصاه على أرض مصر. فجلب الرب على الأرض ريحا شرقية كل ذلك النهار وكل الليل ولما كان الصباح حملت الريح الشرقية الجراد. فصعد الجراد على كل أرض مصر وحل في جميع تخوم مصر شئ ثقيل جدا لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك وغطى وجه كل الأرض حتى أظلمت الأرض. وأكل جميع عشب الأرض وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرد. حتى لم يبق شئ أخضر في الشجر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر. فدعا فرعون موسى وهارون مسرعا وقال أخطأت إلى الرب إلهكما وإليكما. والآن اصفحا عني خطيئتي هذه المرة فقط. وصليا إلى الرب إلهكما ليرفع عني هذا الموت فقط فخرج موسى من لدن فرعون وصلى إلى الرب فرد الرب ريحا غربية شديدة جدا. فحملت الجراد وطرحته إلى بحر سوف. لم تبق جرادة واحدة في كل تخوم مصر. ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل). (ثم قال الرب لموسى مد يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر. حتى يلمس الظلام. فمد موسى يده نحو السماء فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام. لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام. ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم). وفي الإصحاح الحادي عشر: (قال موسى هكذا يقول الرب إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر. فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة. ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضا). وفي الإصحاح الرابع عشر: (فدفع الرب المصريين في وسط البحر. فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر. لم يبق منهم ولا واحدة. وأما بنو إسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم. فخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين. ونظر إسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر).

ملاحظات على هذه النقول

ملاحظات على هذه النقول: 1 - لاحظنا في الآيات القرآنية أن الله عزّ وجل أخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات وقد رأينا فيما نقلناه من نصوص سفر الخروج تسليط البرد والجراد، ورأينا هلاك الماشية والزروع والثمار، فهل المراد بالنص القرآني هذا المذكور في سفر الخروج، أو المراد معنى أوسع لم يذكر؟ ليس عندنا نص عن رسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع فالمسألة تحتمل وتحتمل. 2 - لاحظنا أن الله عزّ وجل ذكر في القرآن أنه أرسل على فرعون وقومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع وقد رأينا فيما نقلناه موضوع الجراد والضفادع، أما الطوفان فقد رأينا البرد والمطر الكثير الذي لم يسبق أن نزل في مصر فهل هو الطوفان المذكور في القرآن؟ لاحظنا بأن كلام علماء التفسير أن الطوفان هنا يحتمل أن يكون الطاعون، ويحتمل أن يكون الموت، وقد رأينا أنه قد سلط على المصريين موت البكور، والبرد، والمطر، والطاعون، فهل هذه كلها دخلت تحت كلمة الطوفان ويكون المراد بالطوفان معناه اللغوي، وهو كل ما طاف وأحاط، هذا محتمل وعلى هذا الاحتمال تكون آية الظلام- في حالة صحة وقوعها- داخلة في هذا المعنى. ولاحظنا أن المفسرين مختلفون في تفسير القمل في الآية هل هو صغار الجراد أو هو صغار القراد، وقد لاحظنا أنه قد ذكر في سفر الخروج تسليط البعوض والذباب ولم يذكر سفر الخروج كيف رفع البعوض، ولكنهم ذكروا كيف رفع الذباب فهل الآية واحدة عبروا عنها مرة بلفظ البعوض ومرة بلفظ الذبان، والملاحظ أنه أثناء الكلام عن البعوض قال السفر (وكان البعوض على الناس وعلى البهائم) فهل المراد بالقمل المذكور في القرآن هو البعوض والذبان أو هل المترجمون توسعوا في الترجمة. أو ليس المراد هذا أو هذا، والمراد شئ آخر وكتبة هذه الأسفار أخطئوا في النقل؟ ولولا أن المفسرين المسلمين ذكروا أكثر من معنى لكلمة القمل، ولولا أن اللغة العربية تحتمل، ما توقفنا في تحديد موقف مما ذكره سفر الخروج لأن الخلل واضح في كثير من مواطن هذا السفر وأظهر ما ترى الخلل في الإصحاحات التي نقلناها عند ما يتحدث عن موقف العرافين من الآيات التي يظهرها الله على يد موسى: فمثلا: أثناء الكلام عن آية الدم يقول الإصحاح السابع: (وفعل عرافو مصر كذلك بسحرهم)، فهل فعلوا مثل آية الدم، أو أنهم عجزوا- كما هو العادة- في

عدم مقابلة السحر للمعجزة؟ وفي الإصحاح الثامن يقول السفر أثناء الكلام عن آية البعوض (وفعل كذلك العرافون بسحرهم ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا) فههنا نجد نفس التعبير السابق مع زيادة (ليخرجوا البعوض فلم يستطيعوا) ولا شك أن منطق المسألة أن يكون المذكور الأخير هو نفسه الذي حدث أولا فلماذا كان التعبير قاصرا؟ لا شك أنه الخلل. وقد كررنا أكثر من مرة: أننا لا نعطي الثقة لنقلة هذه الأسفار ولا لطريقة وصولها إلينا وبعد هذا الذي نقلناه. نقول: إنه يمكن أن يدخل في تعبير القمل البعوض والذباب. فهذه ست آيات أو سبع، ثم الضفادع والدم والجراد، فمجموع هذه الآيات التي ذكرت في سفر الخروج قد استوعبها النص القرآني بكلماته القليلة، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن الذي أحاطت كلماته بكل شئ، واستوعبت كل شئ بمثل هذا البيان والتفصيل، وهذا العدد المحدود من الكلمات. 3 - نحن لم نعتبر ولا نعتبر أن شيئا من كتب أهل الكتاب صالحا لأن يفسر به كتاب الله إلا حيث يحتمل اللفظ القرآني ذلك فعندئذ يستأنس به استئناسا. ومن ثم لم نعتبر كلام سفر الخروج الذي نقلناه مفسرا لكتاب الله؛ والسر في ذلك يعود إلى عدم ثقتنا- كما قلنا- بنقلة هذه الأسفار، ولا بطريقة نقلها، وعدم الثقة هذا دليلنا فيه واضح حتى من هذه الأسفار ولنأت بشيء من هذا الدليل وهو موضوع سنطرقه فيما بعد: إن الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم يسمونها التوراة، والمفروض أن تكون التوراة منقولة نقلا صحيحا ومتواترا، ومميزة عن غيرها، فاقرأ معي هذا النص في آخر صفحة من صفحات هذه التي يسمونها التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية: (فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب، ودفن في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم). ماذا نستطيع أن نستنتجه من هذا النص؟. 1 - أن هذا النص ليس من التوراة لأن التوراة نزلت على موسى قبل وفاته فوجود هذا النص يدل حتما على أن هذه الأسفار ليست هي التوراة بل التوراة جزء منها. 2 - أن هذه الأسفار كتبت بعد أزمان متطاولة إذ كاتبها يقول: (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، أي يوم؟ اليوم الذي جمع فيه جامع هذه الأسفار أسفاره وحتما

كان ذلك اليوم متأخرا جدا، إذ الجيل الأول المعاصر لموسى ما كان لينسى قبر موسى، ولا مكانه، ولا الجيل الثاني ولا الثالث. فمتى كانت هذه الكتابة لهذه الأسفار؟ حتما بعد المئات الكثيرة من السنين كما سنرى ومن الروايات الشفهية، فكتب هذا شأنها لا تصلح أن تكون حاكمة على الكتاب الذي أنزله الله رب العالمين، العليم بكل شئ، المحيط بكل شئ. وإذا كان الأمر كذلك فإننا سنحتاط في النقل عنه ونحترس ولولا أن المفسرين القدامى ملئوا كتبهم بما مرجعه كتب أهل الكتاب، والقصاصون زادوا واختلقوا من عند أنفسهم الكثير، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمح لنا بالتحديث عن أهل الكتاب ما تجشمنا مشقة البحث في هذه الكتب ولكنا بين أمرين: إما أن ننقل عن الأصل مباشرة أو نسكت، وسكوننا لا يلغي ما كتبه المفسرون، ورجوعنا إلى الأصل يعرف القارئ على أصل ما نقله المفسرون، نفعل هذا مع التذكير بالقيمة الحقيقية لهذه النقول. ونحب هنا أن نذكر بأن ما ذكره القرآن هو الحكم الفصل في كل قضية من القضايا التي تحدث عنها في أمر الزمان والمكان والخلق والتاريخ، والاجتماع والسياسة وغير ذلك، فإذا استقر هذا نقول: إن المقطع الذي مر معنا وهو جزء من سورة الأعراف ذات المحور الذي بين فرضية اتباع الهدى المنزل وعاقبة ذلك سلبا أو إيجابيا، هذا المقطع عرض لقصة فرعون مع موسى، وكيف كان موقفه من الهدى المنزل، وعاقبة ذلك بما هو الحكم الفصل في كل قضية تعرض لها والقلب المؤمن والمستضعفون، وحملة الحق، يعطيهم هذا السياق نفحات لا تنتهي، وكون المقطع مرتبطا بمحور السورة وضمن سياقها العام لا يحتاج إلى إيضاح، ولذلك فإننا لا نحتاج أن نقف عند ذلك. ***

المقطع الثالث من القسم الثاني

المقطع الثالث من القسم الثاني انصب الكلام في المقطع الثاني على المجابهة بين موسى وفرعون، وعلى عاقبة فرعون وقومه بما خالفوا أمر الله ورسله، وينصب الكلام في هذا المقطع عن بني إسرائيل في حياة موسى. فههنا أمة استجابت لدعوة الله. فما هي الأخطاء الكبرى التي وقعت بها وكيف قوم موسى عليه الصلاة والسلام هذه الأخطاء؟. وهاهنا أمة فعل الله من أجلها ما فعل فكيف كان موقفها من هدى الله الذي أنزل عليها؟. وهاهنا أمة بعث لها رسول واستجابت لهذا الرسول ومع ذلك والرسول لا زال بين الأظهر، يتسلل الشرك مرة بعد مرة إليها، والمقطع ينتهي بإعلام بني إسرائيل بأن أعلام الرسالة ستنتقل منهم إلى أمة أخرى، ومن ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعلن في ختام المقطع عن رسالته إلى الناس جميعا. هذا المقطع يمتد من الآية (138) إلى نهاية الآية (159) وهذا هو: [سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 159] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

كلمة في السياق

كلمة في السياق: يأتي هذا المقطع ليحدثنا عن الأمة التي فعل الله من أجلها ما فعل، كيف كان موقفها من الهدى المنزل إليها، وإذ كان السياق عن بني إسرائيل في هذا المقطع قد انتهى بالبشارة بالنبي الأمي عليه الصلاة والسلام فإن السياق يتوجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعلن أنه رسول الله إلى الناس جميعا، وبعد هذا الإعلان يعود السياق إلى الكلام عن بني إسرائيل، وإذ قد أرانا السياق في المقطع مظاهر من مواقفهم الظالمة فإن الآية الأخيرة تذكر أن هناك من بني إسرائيل أمة يهدون بالحق وبه يعدلون حتى لا يفهم فاهم أن كل بني إسرائيل كانوا على وتيرة واحدة، وليعرف العارفون أن من أجل أمثال هؤلاء يفعل الله الكثير ويعطي الكثير. قال صاحب الظلال بين يدي هذا الدرس وامتداداته: (في هذا الدرس تمضي قصة موسى- عليه السلام- في حلقة أخرى .. مع قومه بني إسرائيل، بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم، وأغرق فرعون وملأه، ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون .. إن موسى عليه السلام لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه، فقد انتهت المعركة مع الطاغوت .. ولكنه يواجه معركة أخرى- لعلها أشد وأقسى وأطول أمدا- إنه يواجه المعركة مع «النفس البشرية» يواجهها مع رواسب

الجاهلية في هذه النفس، ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعا. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل، والخضوع للطغيان طويلا، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء. ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلا، عاشوا في ظل الإرهاب وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك. عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال. وفسدت نفوسهم، وفسدت طبيعتهم، والتوت فطرتهم وانحرفت تصوراتهم، وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر .. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلا للإرهاب والطغيان .. لقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها، وهو يقول لعماله على الأمصار موصيا لهم بالناس: «ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم» .. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء، وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيدا للحكام. إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله .. ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني .. ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر .. فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر- لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه. من ابن فاتح مصر وحاكمها وسافر شهرا على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب- الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه، وكان هو يصبر على السياط منذ

المعنى العام

سنوات قلائل في عهد الرومان. وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر وللنفوس في كل مكان- حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام- كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم، وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح. عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة- بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر- وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل، وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية، وتواجه موسى عليه السلام بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على مر الزمن الطويل. وسنرى من خلال متاعب موسى عليه السلام متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوسا طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلا لا روح فيه. إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفا كذلك .. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقل الطبائع وتفاهة الاهتمامات، ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة. ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة- لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل- وإن فيها زادا لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل». المعنى العام: يبدأ المقطع بالإخبار عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، عند ما مروا على عباد أصنام إذ طلبوا من موسى أن يجعل لهم أصناما يعبدونها كما يعبد هؤلاء أصنامهم، فرد عليهم

واصفا إياهم بالجهل. وأي جهل أفظع من الجهل بعظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل. ثم بين لهم أن هذا الذي عليه هؤلاء هالك وعملهم باطل. ثم ذكرهم موسى بنعم الله عليهم من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة والاستعلاء على عدوهم، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره. وما أكرمهم به من تفضيل على عالمي زمانهم، فكيف يطلب لهم ربا غير الله، وقد فعل لهم كل هذا؟ ذكرهم بأقرب الأشياء إليهم لأنها أقرب الحجج عليهم. وإلا فمثل موسى لا يطلب ربا سوى الله، ولا يدعوهم إلى رب سوى الله. فضلهم أو لم يفضلهم. أنجاهم من ظلم فرعون. أو أبقاهم. فله الأمر من قبل ومن بعد. ومن بداية المقطع نشعر كيف يتسرب الانحراف، وكيف يبدأ وكيف يكون. فها هي أمة ترى المعجزات التي رأتها، ومع ذلك فإنها تطلب أن يكون لها أصنام تعبدها من دون الله. ورسولها بين أظهرها، وأرجلها لم تكد تجاوز البحر الذي رأت في سيرها فيه وانشقاقه لها أعظم معجزة. ثم يقص الله عزّ وجل علينا ما أتم به النعمة على موسى وقومه، إذ أنزل عليهم الألواح في خلوة موسى مع ربه على الطور. وماذا فعلوه من الانحراف الجديد خلال غيبته. فذكر تعالى ممتنا على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية، بتكليمه موسى عليه السلام، وإعطائه الألواح، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم. فذكر أنه واعد موسى ثلاثين ليلة. ثم أمره تعالى أن يكمل بعشر أربعين. فلما عزم موسى على الذهاب إلى الطور، استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد، من باب تحقيق التواصي، وإلا فإن هارون رسول ونبي شأنه الإصلاح وعدم الإفساد. فلما جاء موسى لميقات الله وحصل له التكليم من الله، سأل الله تعالى أن ينظر إليه. فبين الله له أنه لا يمكن أن يراه في الدنيا، وعوضه عن الرؤية بأن أمره أن ينظر إلى الجبل فإذا رأى الجبل مستقرا عند تجلي الله على الجبل فعندئذ يمكن أن يراه، فلما تجلى الله للجبل ساخ الجبل وانهد، وخر موسى مغشيا عليه من هول ما رأى، فلما أفاق من صعقه بدأ يسبح الله وينزهه، والتسبيح في هذا المقام يفيد تنزيه الله عن أن يراه أحد في الدنيا. ثم ثنى بالتوبة مما سأل. وثلث بالإعلان عن نفسه أنه أول المؤمنين من قومه، أو أول المؤمنين بأنه لا يرى الله أحد من خلقه. فقال الله لموسى في هذا المقام مذكرا إياه بنعمه عليه إذ اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه، آمرا إياه أن يأخذ ما آتاه الله من الكلام والوحي والمناجاة، وأن يكون من الشاكرين على ذلك، وألا يطلب ما

لا طاقة له به. ثم أخبر تعالى بعد أن أمره بأخذ ما آتاه بأنه قد أعطاه الألواح التي كتب له فيها من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ. وهناك اتجاهان للمفسرين المسلمين في هذه الألواح: الاتجاه الأول الذي يقول: إن هذه الألواح هي التوراة. فالتوراة متضمنة فيها، والاتجاه الثاني: أن الألواح أوتيها موسى قبل التوراة، وعلى كل فإنها كانت كالتعويض له عما سأله من الرؤية ومنع منه. وبعد أن أعطاه إياها أمره أن يأخذها بعزم على الطاعة، فيأخذ نفسه بأشد ما يأمر به قومه. وأمره أن يأمر قومه أن يعملوا بها. وبعد ذلك قال له: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ التي تحتمل وعيدا، كما يقول الواعظ لمن يخاطبه: سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. فيكون المعنى: سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب. وتحتمل أن تكون وعدا بإعطائهم أرض الشام وهو أقوى ما تحمل عليه الآية. ثم بين الله عزّ وجل سنته في أنه يحول بين قلوب أهل الكبر وبين آياته فلا يرونها، بأن يمنع قلوب هؤلاء أن تفهم الحجج، والأدلة الدالة على عظمته وشريعته وأحكامه؛ بسبب كبرهم عن طاعة الله وتكبرهم على الناس بغير حق. فبسبب ذلك يعاقب الله هؤلاء بصرفهم عن فهم أسراره حتى إنهم لو رأوا كل آية لا يؤمنون، وإن يظهر لهم سبيل الرشد- سبيل النجاة- لا يسلكونها. وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا. تلك سنته تعالى في المتكبرين في كل عصر ومصر أن يصرفهم عن رؤية آياته. وما ذلك إلا بسبب تكذيبهم لهذه الآيات وغفلتهم عنها، ثم بين تعالى جزاء من كذب بآياته واستمر على ذلك حتى الممات، كيف أن الله يحبط عمله وذلك جزاؤه على ما أسلفه من كفر. وبينما موسى عليه السلام يتلقى هداية ربه ويناجيه، كان قومه يسيرون في طريق الكفر. ومن ثم أخبرنا الله في هذا السياق عما فعلوه في حال غيبته، إذ أخبرنا عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا بالغا حد الروعة في الصنعة، حتى إنه ليصوت إذا دخلت فيه الريح كالبقر فافتتنوا به، ورقصوا حوله، وجعلوه إلها، ذاهلين عن خالق السموات والأرض، ورب كل شئ ومليكه، بأن عبدوا معه عجلا جسدا له خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير، ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال وقد أدركوا فيما بعد عظيم خطئهم، وندموا على ما فعلوا، وعرفوا أنه

إن لم يتداركهم الله برحمته ومغفرته فإنهم سيكونون من الهالكين. ثم قص الله عزّ وجل علينا ما كان من موسى مع قومه عند ما رجع إليهم، فأخبرنا تعالى أنه رجع إلى قومه وهو في أشد حالات الغضب، فلما قابلهم خاطبهم بأنه بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم، ثم أنكر عليهم استبطاءهم له، واستعجالهم مجيئه، وهو في أمر الله وقدره، فسارعوا إلى ارتكاب ما ارتكبوه، ولم ينتظروا موسى، ثم أخبرنا تعالى كيف أنه حمي الغضب بموسى لما رأى ما رأى منهم؛ فألقى الألواح التي أعطاه الله إياها، وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه، خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم، فاعتذر هارون وخاطبه بأرق الخطاب، ألا يسوقه مساقهم، ولا يخلطه معهم، وأنه ما قصر في نصحهم، وإنما أخر مفارقتهم حتى عودة موسى، فلما علم موسى عدم تقصير أخيه استغفر لنفسه واستغفر لأخيه، وسأل الله أن يدخله وأخاه في رحمته، مثنيا على الله بأنه أرحم الراحمين. ثم بين لقومه أن الذين عبدوا العجل منهم سيصيبهم غضب من الله، وذلة في الحياة الدنيا، وذلك جزاء من يفتري على الله. ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان، حتى لو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق، فإنه تعالى من بعد الفعل والتوبة غفور رحيم. ولكن الذنب لا يمر بلا نوع عقوبة، ومن ثم فقد عوقب من عبد العجل بأن أمرهم الله أن يقتل بعضهم بعضا. كما مر في سورة البقرة، وعاقبهم بذلة قريبة وهم في الصحراء في أكثر من موطن. ثم أخبر تعالى أن موسى قد اختار من قومه سبعين رجلا ليعتذروا عن عبادة العجل ويدعوه فأخذتهم الرجفة، فأخذ موسى يستغيث الله، ألا يهلكهم بذنوب السفهاء، داعيا الله عزّ وجل أن يرحم ويغفر وأن يعطي، سأله دفع المحذور، ثم سأله العطاء في الدنيا والآخرة له ولقومه، معلنا توبته وتوبة قومه، وفي هذا المقام بين الله لموسى سنته وطلاقة مشيئته بتعذيب من يشاء، ورحمة من يشاء، وبين له سعة رحمته، وأنه خص أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالخصوصيات العظمى والرحمة التامة، بما اجتمع لهم من التقوى، وإيتاء الزكاة، والإيمان، واتباع رسولهم النبي الأمي الذي سجل صفته في التوراة والإنجيل، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، محلا للطيبات، محرما للخبائث، آتيا بالحنيفية السمحة، وبالدين اليسر، يرفع فيه عن الأمم أثقالها وأغلالها، ثم بين تعالى أن من آمن بهذا الرسول، وعظمه، ووقره، واتبع الوحي الذي أنزله معه فهو المفلح، والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام الذي ظهرت به إساءة بني إسرائيل وانحرافهم بعبادة العجل

المعنى الحرفي

فيه من الحكمة ما فيه، وفيه وضع الأساس للمستقبل في امتحان بني إسرائيل باتباع وحي الله، سواء نزل على رسول منهم أو من غيرهم. وفي هذا المقطع بيان لموقف أمة موسى من التوحيد وعبادة الله، وهو ما طالب به كل رسول قومه وكيف أنهم انحرفوا أول مرة بالمطالبة باعتماد الشرك، ثم انحرفوا ثانيا بممارسة الشرك. فالمقطع قرر كيف كان موقف أمة من الهدى المنزل عليها، وكيف عالج رسولها هذا الانحراف أول مرة وثاني مرة. وخلال ذلك أخبرنا الله بما أنزل من هدى على موسى. وبما بشر به بأنه سينزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف أن ما أنزله واجب الاتباع، كما بين لنا بعض سننه في الهداية والإضلال، والعقوبة والمكافأة، كما عرفنا على ذاته بمزيد من المعرفة، وكل ذلك سائر على سنن السورة ومحورها العام، وسنرى في المعنى الحرفي والفوائد والنقول التي سننقلها من أسفار موسى من كتب العهد القديم والملاحظات عليها، والكلمة الأخيرة في السياق، ما يزيدنا تعرفا على هذا المقطع وصلته بالسياق العام. وبعد أن استقر المقطع على التبشير بالرسالة الخاتمة، والأمة الأخيرة، والدعوة الكاملة. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، صاحب هذه الرسالة، وإمام هذه الأمة، وقائد هذه الدعوة، أن يعلن للناس، أحمرهم وأسودهم، وعربهم وعجمهم، أنه رسول الله إليهم جميعا. الله مالك السموات والأرض. الإله الأوحد، الذي بيده الحياة والموت. وإذا كان الأمر كذلك فإن الله يأمرهم باتباعه والإيمان به. كيف وهو النبي الأمي الذي وعدوا به، وبشروا في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم. هذا النبي الذي يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه. فاسلكوا طريقه أيها الناس، واقتفوا أثره لعلكم تهتدون إلى الصراط المستقيم. وإذ كان اليهود هم أصحاب الكتاب الأول، وهم الذين بشر الله في كتابهم برسول هذه الأمة، فهم مدعوون للدخول بهذا الدين. ومن ثم اتجه السياق للكلام عنهم. فبين تعالى أن بني إسرائيل طائفتان: طائفة منهم عندها استعداد للحق وقبوله واتباعه والعمل به، ويفهم من ذلك، أن الطائفة الأخرى وهي الأكبر والأعظم ليست كذلك. ومجئ هذه الآية في نهاية المقطع يشير إلى شئ آخر، وهو أن بني إسرائيل الذين مر معنا شئ عن انحرافاتهم لم ينحرفوا جميعا. ولم يكونوا على سواء. المعنى الحرفي: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي فمروا بهم. يَعْكُفُونَ عَلى

[سورة الأعراف (7): آية 139]

أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادتها قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي صنما نعكف عليه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أي أصنام يعكفون عليها. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لما كان هذا عجيبا منهم بعد ما رأوا من الآيات العظمى، وصفهم بالجهل المطلق وأكده إِنَّ هؤُلاءِ أي: عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ أي مهلك من التبار ما هُمْ فِيهِ أي ما هم فيه هالك ومهدوم وأنا أول من يريد إهلاكه فكيف أقلدهم فيه وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما عملوه من عبادة الأصنام باطل مضمحل قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي واذكروا إنجاء الله إياكم من فرعون وقومه فكيف تشركون معه غيره يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يبغونكم شدة العذاب من سام السلعة إذا طلبها يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ أي: في الإنجاء أو في العذاب بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي نعمة أو محنة، لأن كلمة بلاء من أسماء الأضداد، فإذا أعدنا الإشارة على الإنجاء كان المراد بها النعمة، وإذا أعدناها على العذاب كان المراد بها المحنة. فوائد: 1 - روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون (أي يعلقون) سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم». 2 - وبمناسبة هذه الآية يذكر النسفي أن يهوديا قال لعلي رضي الله عنه: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه (يظهر أن المراد ماء القبر الذي يرش عليه حين الدفن لتسويته) فقال ردا عليه: قلتم: اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم. وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أي ما وقت له من الوقت وضرب له أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أي تم بالغا هذا العدد وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ أي عند ما ذهب لميقات ربه اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ أي ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.

قال صاحب الظلال تعليقا على هذه الآية: «لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه، وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة، في طريقهم إلى الأرض المقدسة .. ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى .. مهمة الخلافة في الأرض بدين الله .. ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم. ولم يمض إلا القليل! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم، وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه. وكانت هذه المواعدة إعدادا لموسى لنفسه، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم، ويستعد لتلقيه. وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيفت إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود، وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء، ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل، وتصفو روحه وتشرق وتستضئ، وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة. وألقى موسى إلى أخيه هارون قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه- بوصيته تلك: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه، ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم، ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل .. وقد تلقى هارون النصيحة لم تثقل على نفسه، فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه، وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار الذين يحسون في النصيحة تنقصا لأقدارهم ... إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ليظهر أنه كبير!!! فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير: «فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون. فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين».

[سورة الأعراف (7): آية 143]

ولنعد إلى استعراض المعنى الحرفي: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا، فالكلام عن المجئ المخصوص بميقات الله وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي بلا واسطة ولا كيفية. فكلام الله الأزلى ليس كمثله شئ. وقال بعضهم إنه كان يسمع الكلام من كل جهاته. قال النسفي: وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتا تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسبا لأحد من الخلق. قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال النسفي لما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية والمعنى أرني ذاتك انظر إليك أي: مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك. قال النسفي: وهو دليل لأهل السنة (أي ضد المعتزلة) على جواز الرؤية (أي لله تعالى) فإن موسى (وهو الأعلم بالله) اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله، واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر. قالَ لَنْ تَرانِي أي بالعين الفانية في هذه الدنيا الفانية بل بعين باقية في الدار الباقية قال النسفي: وهو دليل لنا أيضا (أي لأهل السنة على المعتزلة في موضع رؤية الله في الدار الآخرة) لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفيا للجواز ولو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرأى إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ أي فإن بقي على حاله فَسَوْفَ تَرانِي قال النسفي: وهو دليل لنا أيضا لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن. وتعليق الشئ بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه. والدليل على أنه ممكن قوله جَعَلَهُ دَكًّا ولم يقل اندك، وما أوجده تعالى كان جائزا أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله، ولأنه تعالى ما آيسه عن ذلك ولا عاتبه عليه. ولو كان ذلك محالا لعاتبه كما عاتب نوحا عليه السلام بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ حين سأل إنجاء ابنه من الغرق. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قال النسفي: أي ظهر وبان ظهورا بلا كيف، قال الشيخ أبو منصور رحمه الله معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري: إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلما ورؤية حتى رأى به. وهذا نص في إثبات كونه مرئيا. وبهذه الوجوه يتبين جهل منكري الرؤية، وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالما بأنه لا يرى، ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي، باطل، إذ لو كان كما زعموا لقال: أرهم

[سورة الأعراف (7): آية 144]

ينظروا إليك، ثم يقول له: لن يروني، لأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم. بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سمعه- لما فيه من التقرير على الكفر، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره ألا ترى أنهم لما قالوا له اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا: والدق والدك أخوان في المعنى وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي وسقط مغشيا عليه فَلَمَّا أَفاقَ أي من صعقه قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ أي من سؤالي رؤيتك في الدنيا وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي بعظمتك وجلالك وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها. قال أبو العالية: قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنك لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة قال النسفي: وهذا قول حسن له اتجاه. قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ أي اخترتك على أهل زمانك بِرِسالاتِي أي بما أوحيه إليك لتبلغه عني كالتوراة وَبِكَلامِي أي وبتكليمي إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة أو من الكلام والمناجاة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة في ذلك. فهي من أجل النعم وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ هل المراد بها التوراة هنا أو ألواح أعطيها موسى قبل التوراة؟ قولان للعلماء والراجح أنها التوراة لوصفها بما توصف به التوراة عادة مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي كتبنا له في الألواح كل شئ كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي فخذ الألواح بقوة أوخذ أحكامها بقوة. أي بجد وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي فيها ما هو حسن وأحسن، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر والمعنى: فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر في الثواب سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي دار من ظلم وهذا وعد لهم بأن ينزلهم منازل الظالمين في بلاد الشام التي وعدوها. وفي الوقت نفسه فيه طلب للاعتبار، أي لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. قال صاحب الظلال: «وتختلف الروايات والمفسرون في شأن الألواح، ويصفها بعضهم أوصافا مفصلة- نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير- ولا نجد في هذا كله شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه. وما تزيد تلك الأوصاف شيئا أو تنقص من حقيقة هذه الألواح، أما ما هي

وكيف كتبت؟ فلا يعنينا هذا في شئ بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شئ يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء». وفي الآية التي مرت معنا أمر ووعد أما الأمر فهو قوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها وأما الوعد فهو قوله تعالى سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ. وقد قال صاحب الظلال في هذا وهذا: قال عند قوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. (والأمر الإلهي الجليل لموسى عليه السلام أن يأخذ الألواح بقوة وعزم، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم .. هذا الأمر على هذا النحو فضلا على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية التي أفسدها الذل وطول الأمد، بالعزم والجد، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه كذلك يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها .. إن العقيدة أمر كبير عند الله سبحانه وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ «الإنسان» وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك .. والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله- سبحانه- وعبودية البشر لربوبيته وحده، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة. وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ الإنسان. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه، ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخيص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلا على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر .. وليس معنى هذا- بطبيعة الحال- هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض. فهذا ليس من طبيعة دين الله .. ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة .. وهي صفات

[سورة الأعراف (7): آية 146]

أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض. ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل- بصفة خاصة- بعد ما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر، تحتاج إلى هذا التوجيه لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة .. ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل، والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنبا للمشقة .. كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع، لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئا.». وقال عند قوله تعالى سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ: (وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت- في ذلك الزمان- في قبضة الوثنيين وإنها بشارة لهم بدخولها .. وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى- عليه السلام- لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قومت فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ... ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله في الدخول والاقتحام. أجابوا موسى بتوقح الجبان- كالدابة التي ترفس سائقها: قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ... مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأمر هذا الأمر الإلهي الجليل أن يأخذها بقوة، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة.). ولنعد إلى التفسير الحرفي: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فهم بعضهم أن هذا الخطاب لهذه الأمة. وقال ابن كثير: ليس هذا بلازم لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، وأقول: هو لبني إسرائيل كما أنه لكل إنسان فهي سنة من سنن الله عزّ وجل. والصرف عن الآيات المنع عن فهمها،

[سورة الأعراف (7): آية 147]

والتكبر في الأرض معناه: التطاول على الخلق والأنفة عن قبول الحق، وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته، ومعنى قوله تعالى يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون غير محقين لأن التكبر للحق وحده. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من الآيات المنزلة عليهم لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي طريق صلاح الأمر وطريق الهدى لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي طريقا مع رؤيته أنه رشد وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يسيرون فيه ذلِكَ أي الصرف عن آيات الله بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بسبب تكذيبهم بآيات الله. وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ غفلة عناد وإعراض لا غفلة سهو وجهل وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فلا يقبل الله منهم عملا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعملهم الذي أحبط كل عمل هو تكذيب الرسل. فوائد: 1 - قال بعض السلف «لا ينال العلم حيي ولا مستكبر» وقال آخر: من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال ذو النون: (أبى الله أن يكرم قلوب البطالين بمكنون حكمة القرآن). 2 - قال السعدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر. وروى ابن جرير عن أنس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال هكذا بأصبعه ووضع النبي إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل. 3 - روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه وقال: يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي، قال: «ادعوه» فدعوه، قال: «لم لطمت وجهه؟» قال: يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فقلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته فقال: «لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق. فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي. أم جوزي بصعقة الطور». قال ابن كثير (والكلام في قوله عليه السلام: «لا تخيروني على موسى» كالكلام على

[سورة الأعراف (7): آية 148]

قوله «لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى». قيل من باب التواضع وقيل: قبل أن يعلم بذلك. وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب. وقيل على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي، والله أعلم، وقوله «فإن الناس يصعقون يوم القيامة». الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه، والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان، كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى، ولهذا قال عليه السلام: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور». 4 - قال ابن كثير: عند قوله تعالى: لَنْ تَرانِي. وقد أشكل حرف «لن» هاهنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وقوله تعالى إخبارا عن الكفار كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعا بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة، وقيل إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد ذهابه إلى الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ من الحلي التي كانوا استعاروها من المصريين ليلة هروبهم. قال النسفي: وفيه دليل على أن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها» والمتخذ هو السامري ولكنهم رضوا به. فأسند الفعل إليهم. والحلي جمع حلى وهو اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة .. عِجْلًا جَسَداً أي بدنا كاملا في صفته. لَهُ خُوارٌ. الخوار صوت البقر ويظهر أن صانعه كان متقنا لفن الصياغة. وهذا يدل على تقدم هذا الفن عند المصريين، ثم عجب الله من عقولهم السخيفة حين اتخذوه إلها أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي ألم يروا أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل فكيف لا يختارونه على من لو كان البحر مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته وهو الذي هدى الخلق إلى سبيل الحق بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في الكتب اتَّخَذُوهُ أي اتخذوه إلها فأقدموا على هذا المنكر وَكانُوا ظالِمِينَ وأي

[سورة الأعراف (7): آية 149]

ظلم أكبر من الشرك وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل وذلك بعد مجئ موسى. وأصله أن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها؛ لأن ما ناله وقع فيها. وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد ويرى بالعين وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي وتبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي من المغبونين في الدنيا والآخرة. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى من الطور إِلى قَوْمِهِ بني إسرائيل غَضْبانَ أَسِفاً أي حزينا، وقيل الأسف أشد الغضب قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي قال بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي، والخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لهارون ومن معه من المؤمنين؛ والمعنى على الأول: بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، وعلى الثاني: بئسما خلفتموني حيث لم تكفوا من عبد غير الله. والمعنى الدقيق: بئس خلافة خلفتموني فيها من بعدي خلافتكم مِنْ بَعْدِي أي من بعد ذهابي أو من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الشركاء عنه، أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن عبادة غير الله، ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أسبقتم بعبادة العجل أمر ربكم وهو إتياني لكم بالتوراة بعد أربعين ليلة، فبدلا من أن يكون استقبالكم لما آتيكم به وأنتم على أكمل حال تعجلتم أسوأ حال تستقبلون به أمر الله، وقيل أعجلتم أمر ربكم معناها أتركتم أمر ربكم بالتوحيد ولكن مما يشهد للأول أن أصل العجلة طلب الشئ قبل حينه وَأَلْقَى الْأَلْواحَ ضجرا عند استماعه حديث العجل غضبا لله. وكان في نفسه شديد الحدة، شديد الغضب لله. وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان محببا لبني إسرائيل. وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس أخيه غضبا عليه حيث لم يمنعهم من عبادة العجل يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أي يشده نحوه، وهو أخذ عتاب له لا هوانا عليه قالَ ابْنَ أُمَّ وكان هارون ابن أمه وأبيه، وإنما ذكر الأم لأن ذكرها أدعى إلى العطف إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي أي إني لم آل جهدا في كفهم بالوعظ والإنذار ولكنهم استضعفونني وهموا بقتلي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي الذين عبدوا العجل، أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلي وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قرينا لهم بغضبك علي، فلما اتضح له عذر أخيه قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي

[سورة الأعراف (7): آية 152]

وَلِأَخِي. أي اغفر لي ما فرط مني في حق أخي، ولأخي إن كان قد فرط في حسن الخلافة، وفي هذا إرضاء لأخيه لينفي الشماتة عنه بإشراكه معه في الدعاء وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أي في عصمتك في الدنيا وجنتك في الآخرة وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فاعطنا رحمتك إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم ليقبل توبتهم، كما مر في سورة البقرة وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إما بمزيد التغرب وإما بمواقف ذلة في الأرض التي هم فيها وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي الكاذبين على الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي من الكفر والمعاصي ثُمَّ تابُوا أي رجعوا إلى الله مِنْ بَعْدِها أي من بعد فعل السيئات وَآمَنُوا أي أخلصوا الإيمان لله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد السيئات أو التوبة لَغَفُورٌ أي لستور عليهم محاء لما كان منهم رَحِيمٌ أي منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل وغيرهم، عظم جنايتهم أولا ثم أردفها بتعظيم رحمته ليعلم أن الذنوب وإن عظمت فعفوه أعظم، ولما كان الغضب لشدته كأنه هو الآمر لموسى بما فعل جاءت الآية بعد ذلك تقول: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أي ولما سكن غضب موسى أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها. وَفِي نُسْخَتِها أي وفيما نسخ منها وعنها أو في النسخة التي استبدلت بها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ. أي يخشونه ويخضعون له وقد ضمن الرهبة معنى الخضوع ولهذا عداها باللام. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ يقول ابن كثير: ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبي داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبك الشئ يعمي ويصم». 2 - أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عزّ وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح». 3 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال سفيان بن عيينة: «كل صاحب بدعة ذليل» قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات

[سورة الأعراف (7): آية 155]

وطقطقت بهم البراذين. 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها. فتلا هذه الآية: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، فتلاها عبد الله عشر مرات فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها. ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا من أجل أن يعتذروا عن عبادة العجل فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. أي الزلزلة الشديدة قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ بما كان منهم من عبادة العجل وَإِيَّايَ لقتلي القبطي أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي أتهلكنا عقوبة بما فعل الجهال منا وهم أصحاب العجل إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ قال ابن كثير: أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قال ابن عباس. وسعيد بن جبير، وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف ولا معنى له غير ذلك يقول: إن الأمر إلا أمرك وإن الحكم إلا حكمك. فما شئت كان. تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لمن منعت، ولا مانع لما أعطيت؛ فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ أي تضل بالفتنة من تشاء. أي من علمت منهم اختيار الضلال وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أي وتهدي بالفتنة من تشاء من علمت منهم اختيار الهدى أَنْتَ وَلِيُّنا. أي مولانا القائم بأمورنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا أي وأثبت لنا واقسم فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً. أي عافية وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة وَفِي الْآخِرَةِ الجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ. ممن لا أريد العفو عنه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي ومن صفة رحمتي أنها واسعة تبلغ كل شئ. فما من مسلم ولا كافر إلا وعليه أثر رحمة الله في الدنيا فَسَأَكْتُبُها أي هذه الرحمة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل ما بعده وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي بجميع كتبنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشيء منها. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي نوحي إليه كتابا مختصا به وهو القرآن النَّبِيَّ صاحب المعجزات الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ أي يجدون نعته مَكْتُوباً

[سورة الأعراف (7): آية 158]

عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بخلع الأنداد وإنصاف العباد وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ كعبادة الأصنام وقطيعة الأرحام وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مما طاب في الشريعة مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلا كسبه من السحت وما حرم على بني إسرائيل من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها. وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أي: ما يستخبث كالدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة ونحوهما من المكاسب الخبيثة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحراك لثقله والمراد التكاليف الصعبة كقتل النفس في توبتهم، والتعامل مع الحائض وطقوس البرص والحكم على صاحبه. وأشياء أخرى كثيرة موجودة في أسفار موسى وغيره وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وَعَزَّرُوهُ أي وعظموه أو منعوه من العدو حتى لا يقوى عليه عدو، وأصل العزر المنع ومنه التعزير لأنه منع عن معاودة القبيح كالحد فهو المنع وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي القرآن فاجتمع لهم اتباع القرآن المنزل مع اتباع النبي المرسل، والعمل بسنته أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بكل خير والناجون من كل شر. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ جميعا من عرب وعجم وأبيض وأسود وأصفر إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بلا استثناء الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ هذا هو شأن الإله الحق فمن ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة ومن كان يقدر على الإحياء والإماتة كان هو الإله على الحقيقة، وهذا الإله هو الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا ومن ثم أمر الله الناس جميعا. بقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وذلك من أعظم أدلة رسالته أن يكون من لا يقرأ ولا يكتب صاحب هذه الرسالة الجديدة وما فيها من الهدى والإعجاز الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي النبي الذي يصدق بالله وبكتبه المنزلة وفي هذا الالتفات من الحاضر إلى الغائب كثير من دقائق البلاغة لا يعرفها إلا العالمون، فمثلا لم يقل فآمنوا بالله وبي مع أن ما قبله إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه ولما في الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان أنا أو غيري؛ إظهارا للنصفة وتفاديا من العصبية لنفسه وَاتَّبِعُوهُ أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره أي: اجمعوا ما بين الإيمان به والاتباع له لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي إلى الصراط المستقيم.

فوائد حول الآية

فوائد حول الآية: 1 - إن من أظهر أدلة رسولنا- عليه الصلاة والسلام- كونه أميا، ومع أميته رافق نبوته هذا القرآن الذي لا تنتهي عجائبه، ورافق نبوته هذه السنة العظيمة التي لا تحصى جوانب الكمال فيها، فإذا ما كانت هذه كلها مرافقة لأميته، وإذا كان هذا يصدق الكتب السابقة- بل يستوعبها كلها ويزيد عليها- فإن إنسانا عاقلا لا يشك بعد ذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن هذا كله، مع ما مكن الله لرسوله ما كان ليكون لولا أن الله المحيط علما بكل شئ، والقادر على كل شئ، هو الذي بعث هذا الرسول الكريم. 2 - وبمناسبة هذه الآية يذكر ابن كثير بعض الأحاديث ننقل منها ما يكفي عن مجموعها، ننقلها بعد مقدمة من كلامه قال: وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم. قال البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية: عن أبي الدرداء: كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة. فأغضب أبو بكر عمر. فانصرف عنه عمر مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه. فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال أبو الدرداء ونحن عنده- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما صاحبكم هذا فقد غامر» أي غاضب وحاقد، قال: وندم عمر علي ما كان منه فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت» وروى الإمام أحمد بإسناد قوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لمليء مني رعبا. وأحلت لي الغنائم آكلها. وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا

ولنعد إلى التفسير الحرفي

يصلون في بيعهم وكنائسهم. والخامسة هي ما هي. قيل لي: سل فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله» وفي صحيح مسلم ... عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار.» ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أي من بني إسرائيل. أُمَّةٌ أي طائفة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس محقين أو بسبب الحق الذي هم عليه وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي وبالحق يعدلون بينهم في الحكم كعبد الله بن سلام وأضرابه. وبعض المفسرين يغربون في هذا المقام، والحق ما ذكرناه في تفسيرها. فوائد حول المقطع: 1 - التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، وموسى والسبعون يعتذرون عن عبادة العجل إشعار لهم: بأن أمة خيرا منكم هي التي تستحق رحمته الشاملة، وقد تم هذا التبليغ في موقف ليس فيه أمامهم ما يرون أنهم جديرون بهذه الرحمة الشاملة بعد إذ انحرفوا هذا الانحراف الفظيع. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يذكر ابن كثير ما رواه الإمام أحمد عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا: بلى قال: «لقد حظرت رحمة واسعة، إن الله عزّ وجل خلق مائة رحمة، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق، جنها وإنسها وبهائمها، وأخر عنده تسعا وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟». 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ. قال ابن كثير: قال بعض العلماء: فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين، وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له، وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها. وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته، وفيه

كلام طويل أيضا. 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: أي أنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة». قال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا، ويسّرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا» وقال صاحبه: أبو برزة الأسلمي: «إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره»، وقد كانت الأمم الذين قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل». وقال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». 5 - وبمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يذكر ابن كثير كلاما كثيرا ننقل منه ما يحقق الغرض، قال ابن كثير: وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء، بشروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم. كما قال الإمام أحمد .. عن أبي صخر العقيلي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعتي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه. قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود، ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟». فقال برأسه هكذا، أي لا. فقال ابنه: أي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» ثم ولي كفنه والصلاة عليه. هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس. وقال الحاكم صاحب المستدرك: عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة- يعني غوطة دمشق- فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولا، وإنما بعثنا إلى الملك، فإذا أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلم الرسول. فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال: تكلموا. فكلمة هشام بن العاص، ودعاه إلى

الإسلام، فإذا عليه ثياب سود، فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، قلنا ومجلسك هذا، والله لنأخذنه منك، ملك الملك الأعظم إن شاء الله. أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه فملئ وجهه سوادا فقال: قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال. قلنا والله لا ندخل إلا عليها. فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك فأمرهم أن ندخل على رواحلنا، فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق، تصفقه الرياح فأرسل إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا أن ادخلوا. فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شئ في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو حييتمونا بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيى بها لا تحل لنا أن نحييك بها، قال: كيف تحيتكم فيما بينك؟ قلنا: السلام عليك. قال وكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر فلما تكلمنا بها- والله يعلم- لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها قال فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك قال: لوددت أنكم كلما قلتم تنفض كل شئ عليكم، وإني قد خرجت من نصف ملكي، قلنا: لم؟ قال لأنه أيسر لشأنها، وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة، وأنها تكون من حيل الناس، ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا فقمنا فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا، فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله، فقال أتعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا آدم عليه السلام، وإذ هو أكثر الناس شعرا. ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها

صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا نوح عليه السلام ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين أي واسع الجبين طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال هذا إبراهيم عليه السلام، ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتعرف هذا؟ قلنا: نعم: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وبكينا. قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم. ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء، وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، متقلص الشفة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال: هذا موسى عليه السلام، وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس أي: دهين الشعر عريض الجبين في عينيه قبل هو إقبال السواد على الأنف. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال: هذا هارون بن عمران عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان. فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا لوط عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة، أقنى [أي: طويل الأنف محدودب في وسطه] خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا إسحاق عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟: قلنا: لا قال: هذا يعقوب عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة. قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا إسماعيل جد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا يعقوب عليه السلام، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا بها صورة كصورة آدم، كأن وجهه الشمس فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا يونس عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حمش الساقين،

أخفش العينين، ضخم البطن، ربعة متقلد سيفا فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا داود عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسا فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال هذا: سليمان بن داود عليهما السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شاب شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا عيسى بن مريم عليه السلام، قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء عليهم السلام لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله، فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم فكانت في خزانة آدم عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعها إلى دانيال ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدا لأشركم ملكة، حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا وبما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم. وهكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتاب دلائل النبوة عن الحاكم إجازة فذكره، وإسناده لا بأس به. وروى ابن جرير .. عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله ابن عمر فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به قلوبا غلفا، وآذانا صما، وأعينا عميا. قال عطاء: ثم لقيت كعبا (أي كعب الأحبار) فسألته عن ذلك فما اختلف حرفا إلا أن كعبا قال بلغته، قلوبا غلوفيا، وآذانا صموميا، وأعينا عموميا. وقد رواه البخاري في صحيحه، وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويصفح، وذكر حديث عبد الله بن عمرو ثم قال: ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا. والله أعلم. 6 - علمنا من الآيات الأخيرة في المقطع صفة أمتنا التي استحقت بها الرحمة، وصفة

نظرة في كتاب العهد القديم فيما يخص المقطع

رسولنا في التوراة والإنجيل، فإذا ما أردنا أن ننال ما كتبه الله لنا من الرحمة، فعلينا بالتقوى والزكاة والإيمان والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيره ونصرته وتعظيمه وفي كتابنا الرسول في فصل البشارات، نقلنا ما له علاقة في التبشير برسولنا في كتب أهل الكتاب فلا نعيده هنا. نظرة في كتاب العهد القديم فيما يخص المقطع: موضوعات هذا المقطع موجودة في سفر الخروج- تقريبا- هي في موضوع هذا المقطع الذي مر معنا مع زيادات حول بعض التعليمات وبعض التوصيات، وخاصة في موضوع صناعة اللوازم الضرورية لإقامة الطقوس الدينية، والتي تستغرق صفاتها كثيرا من إصحاحات سفر الخروج. وفي السفر كلام مضطرب جدا حول الموضوعات التي ذكرها المقطع القرآني، والتحريف فيه والاضطراب واضحان، ويكفيك لإدراك هذا الاضطراب دراسة هذين النصين منه: في الإصحاح الرابع والعشرين في سفر الخروج: (ثم أصعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا). وفي الإصحاح الثالث والثلاثين أي بعد تسعة إصحاحات. هذا النص: (فقال- أي موسى- أرني مجدك فقال أجيز كل جودتي قدامك وأنادي باسم الرب قدامك وأتراءف على من أتراءف وأرحم من أرحم وقال: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش، وقال الرب هو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة في الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يرى) من هذين النصين ندرك التناقض السافر. ففي النص الأول تجد أن موسى وهارون ... قد رأوا الله، وهاهنا يطلب موسى الرؤية، فيقال له لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. فلم يبق في هذه الكتب ما يستطيع الإنسان أن يعتمده كمرجع أو حتى يستأنس به إلا في أمور، ومن فضل الله على البشرية كلها أن أنزل كتابه الحق ليبين للناس الحق، وإن مما في هذا القرآن من إعجاز أنك ترى- تقريبا- كل أسفار موسى الخمسة، وكل ما في العهد القديم تقريبا، وكثيرا مما في العهد الجديد قد عرض القرآن الحق فيه. فعند ما تقرأ

العهد القديم والجديد نادرا ما تجد غريبا عليك، إذا كنت قد قرأت القرآن، هذا مع البعد عن التناقض، ومع العرض العظيم الذي لا تنتهي عجائبه، مما يحقق مجموعة أهداف بآن واحد، ومع كون القرآن هو الصيغة الكاملة للحق، والصيغة الوحيدة للأحداث كما هي، محررة مما طرأ عليها من عوادي التحريف. ذكر معجم لاروس في اللغة الفرنسية كلاما كثيرا عما يسمى الكتاب المقدس بقسميه العهد القديم والعهد الجديد، ومما يقوله عن العهد القديم أن أول ترجمة إلى الإغريقية كانت ترجمة اشترك فيها (72) عالما عبريا، وعرفت ترجمتهم باسم الترجمة السبعينية. ثم قال: وفي القرن الرابع الميلادي ترجم العهد القديم إلى اللاتينية من قبل القديس جيروم بعد أن صحح الترجمة السبعينية، ثم قال عن ترجمة جيروم: أنها اعتبرت مزيفة من قبل اليهود والبروتستانت ثم يقول: إن مصلحي القرن السادس عشر رفضوها مع ملاحظة أن هذه الترجمة هي الأصل المعتمد لدى الكنيسة خلال العصور حتى ظهور البروتستانت، ولا زالت معتمدة لدى الكاثوليك حتى الآن، فإذا عرفنا هذا، وعرفنا أن ما يعتمده يهود السامرة غير ما يعتمده بقية اليهود في التوراة وغيرها. وعرفنا أن هذه الأسفار كلها هي كتابة المتأخرين من اليهود، وأن كثيرا من التوراة الأصلية قد ضاع من اليهود، حتى في زمن دولتهم وسلطانهم. ثم عثروا عليها في زعمهم في أواخر دولتهم كما سنرى. وإذا عرفنا أن هذه الأسفار كتبت من المحفوظات في أواخر أيام السبي البابلي، أدركنا القيمة الحقيقية لهذه الكتب، فإذا ما رأينا هذا القرآن يقدم لنا الحق الخالص، بالوضوح الكامل لكل ما يلزم الإنسان أن يعرفه من وحي الله القديم، أو قصص السابقين، أدركنا عظمة هذا القرآن، وعرفنا كيف أن الله أغنانا بهذا القرآن، وبما أوحاه لنا عن كل وحي سابق، وعن كل كتاب سابق، ولولا فتنة عصرنا، وإذن رسولنا أن نتحدث عن بني إسرائيل، ولولا أننا نجد أحيانا بقايا من الحق في كتبهم لما سمحنا لأنفسنا أن ننظر أو أن نكتب أو أن ننقل. ولنرجع إلى موضوع المقطع: إن أواخر سفر الخروج لها علاقة في مقطعنا: من خروج موسى إلى الجبل لميقات ربه، وذهاب السبعين، وأخذ الألواح، وعبادة العجل، وكسر الألواح أول مرة، وكتابة نسخة ثانية بدلا عنها، وطلبه النظر إلى وجه الله. ولكن كل ذلك باضطراب، وعدم وضوح، وكذب كثير، ونقص كثير، ففي هذا السفر ينسبون إلى هارون- كذبا- أنه هو الذي صنع لهم عجل الذهب، وعبده معهم، ولكنهم يذكرون كيف أنهم قتلوا أنفسهم توبة، والموقف الذي فيه ما حدث

للسبعين كله محذوف هاهنا مع ذكر السبعين في مكان آخر، وصعودهم إلى الجبل. ويظهر أنهم تعمدوا حذف هذا الموقف وتغيير موقعه؛ لأن فيه البشارة بالنبوة الأخيرة، وما نقلناه من كلام كعب الأحبار، وكلام عبد الله بن عمرو، وقصة الغلام اليهودي، وما نعرفه عن سبب قصة إسلام عبد الله بن سلام، كل ذلك يدل على أنه كانت هناك نسخ من التوراة قديمة ليس فيها هذا الحذف، ثم الملاحظ أن المكتوب على اللوحين لم تذكر ماهيته ولكن في فقرة سننقلها قريبا: (فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر) فإذا صح هذا فهذا يرجح الوجه الثاني مما ذهب إليه المفسرون: أن الألواح غير التوراة، وأن التوراة نزلت متأخرة على نزول اللوحين، فإذا كانت التوراة هي ما نراه مبثوثا خلال الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم. مما ذكر فيه أنه أوامر الله لموسى من أجل أن يبلغها بني إسرائيل، مع ملاحظة ما حدث لها من تحريف، فحتما تكون الألواح غير التوراة والله أعلم. وبعد ذكر هذه الملاحظات كلها أصبح باستطاعتنا أن ننقل بعض النقول من سفر الخروج مما له علاقة بغرضنا: في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج: (وقال الرب لموسى اصعد إلي إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم. فقام موسى ويشوع خادمه وصعد موسى إلى جبل الله. وأما الشيوخ فقال لهم: اجلسوا هاهنا حتى نرجع إليكم وهو ذا هارون وحور معكم، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما. فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل. وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام، وفي اليوم السابع دعي موسى من وسط السحاب. وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل. ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل. وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة). وفي الإصحاح الحادي والثلاثين: (ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة لوحي حجر مكتوبين بأصبع الله). وفي الإصحاح الثاني والثلاثين: (فقال الرب لموسى: اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته في أرض مصر: زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به. صنعوا لهم عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك في

أرض مصر. وقال الرب لموسى رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة). وفي الإصحاح نفسه: (فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما. من هنا ومن هنا كانا مكتوبين. واللوحان هما صنعة الله والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين. وسمع يشوع صوت الشعب في هتافه. فقال لموسى صوت قتال في المحلة: فقال ليس صوت صياح النعرة ولا صوت صياح الكسرة. بل صوت غناء أنا سامع. وكان عند ما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص. فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل، ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل). ثم يأتي في هذا الإصحاح كلام عن اعتراف هارون بصناعة العجل وحكمة ذلك، وحاشا هارون الرسول أن يكون عابد عجل أو صانع عجل للعبادة ولكنه دأب اليهود عليهم اللعنة في تخليطهم على الأنبياء، وعدم معرفة عصمتهم ثم في الإصحاح نفسه: (وقف موسى في باب المحلة: وقال من للرب فإلي. فاجتمع إليه جميع بني لاوي: فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة واقتلوا كل واحد أخاه صاحبه وكل واحد قريبه، ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى. ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل. وقال موسى املئوا أيديكم اليوم للرب. حتى كل واحد بابنه وبأخيه، فيعطيكم اليوم بركة. وكان في الغد أن موسى قال للشعب أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة. فاصعد الآن إلى الرب لعلي أكفر خطيئتكم. وفي هذا المقام يأتي دور السبعين الذين ذكروا في موقف سابق كذبا وزورا ولكنه الاضطراب في النقل والكذب فيه. ثم في الإصحاح الثالث والثلاثين يذكر فيه طلب موسى من الله أن يراه مع أن الطلب كان قبل ذلك في اللقاء الذي دام أربعين يوما وليلة وقد نقلنا النص من قبل. وفي الإصحاح الرابع والثلاثين: (ثم قال الرب لموسى انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين

فصل: في البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم

كسرتهما)، فهل هذا هو المراد بنسخة الألواح التي ذكرها القرآن وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يمكن أن تكون المسألة كذلك. وفي الإصحاح نفسه: (وقال الرب لموسى اكتب لنفسك هذه الكلمات. لأنني بحسب هذه الكلمات قطعت عهدا معك ومع إسرائيل وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء. فكتب على اللوح كلمات العهد الكلمات العشر. وكان لما نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة في يد موسى عند نزوله من الجبل أن موسى لم يعلم أن جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه. فنظر هارون وجميع بني إسرائيل. وإذا جلد وجهه يلمع فخافوا أن يقتربوا إليه. فدعاهم موسى فرجع إليه هارون وجميع الرؤساء في الجماعة، فكلمهم موسى. وبعد ذلك اقترب جميع بني إسرائيل فأوصاهم بكل ما تكلم به الرب معه في جبل سيناء. ولما فرغ موسى من الكلام معهم جعل على وجهه برقعا. وكان موسى عند دخوله أمام الرب ليتكلم معه ينزع البرقع حتى يخرج. ثم يخرج ويكلم بني إسرائيل بما يوصي. فإذا رأى بنو إسرائيل وجه موسى أن جلده يلمع كان يرد البرقع على وجهه حتى يدخل ليتكلم معه). ومن تتبع كتب أهل الكتاب يجد أن ما يرد في كتبهم إنما هو خليط ومضطرب ومتناقض، ولا ينم عن صدق النقلة، ولا عن صحة المنقول، وستأتيك وثائق ذلك شيئا فشيئا في هذا الكتاب. وإنما ننقل بعض النقول عنهم إما للرد وإما للاستئناس. فصل: في البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم: رأينا في المقطع الذي مر معنا أن البشارة برسولنا عليه الصلاة والسلام قد جاءت على الجبل، وموسى والسبعون في موقف الاعتذار، وقد وردت قصة السبعين في أكثر من مكان من الأسفار الخمسة التي يدعى أنها توراة موسى، وفي مكان واحد، تذكر البشارة بالرسول القادم. وإن هذا وحده لمعجزة. فإذ تجد الأسفار الخمسة تغفل هذا المعنى أحيانا، وتذكره أحيانا في ذلك المقام، فذلك حجة على أن هذا القرآن من عند الله، فالمقطع السابق استقر على التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته وأن هذا التبشير كان في جبل سيناء، إذ كان موسى مع السبعين من قومه في موقف الاعتذار عن عبادة العجل. والملاحظ أن سفر الخروج لم يتعرض لهذا الموضوع إطلاقا، وإنما الذي تعرض لذلك هو سفر التثنية، فقد ذكر البشارة بالرسول القادم،

كلمة في السياق

وذكر أن هذه البشارة كانت على جبل سيناء. أي في حوريب. وهذه هي البشارة التي وردت في سفر التثنية في الإصحاح الثامن عشر. (يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون. حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلا لا أعود أسمع صوت الرب إلهي، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت. قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به بأنني أنا أطالبه. وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي. وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب. فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه.). هذه البشارة حتما قد تلوعب بها كثيرا. ومع كثرة التلاعب بها فإنها لا تنطبق إلا على رسولنا عليه الصلاة والسلام فهو الذي جعل الله كلامه في فمه وهو القرآن. وهو الذي كان من إخوة بني إسرائيل. أي من أبناء إسماعيل، وهو الذي كان مثل موسى، ذا شريعة مستقلة. وكتاب مستقل. وهو الذي أخبر عن غيوب كثيرة. ووقعت كما أخبر، وهي علامة الرسول الصادق بحسب هذه البشارة. وفي كتابنا (الرسول) التفصيلات الكافية فليراجع. ونكتفي هنا بالقول: إن ذكر القرآن أن التبشير بالرسول القادم وأمته كان على جبل الطور بمثل هذه الدقة نموذج يدلك على أن هذا الإعجاز في هذا القرآن لا يتناهى. فمن أين نظرت إليه وجدت معجزة وإعجازا. كلمة في السياق: في هذا المقطع نرى أمة من الأمم، فعل الله لها ما لم يفعل لغيرها، ومع ذلك فإنها تسارع إلى الشرك الذي هو الانحراف الأعظم عن الهدى المنزل. وفي هذا المقطع نرى البشارة بالرسالة الخاتمة التي ستأتي بالصيغة النهائية للحق الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. وفي هذا المقطع بيان أن الفلاح بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم معلق باتباعه ونصرته. وكل ذلك ماض على سنن السورة في تفصيل محورها. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

المقطع الرابع في القسم الثاني

ومحل المقطع في سياق السورة الخاص ومحله في السياق القرآني العام لا يكاد يخفى فلننتقل إلى المقطع الرابع وهو الأخير من القسم الثاني من سورة الاعراف. *** المقطع الرابع في القسم الثاني يمتد هذا المقطع من الآية (160) إلى نهاية (171) حيث ينتهي القسم الثاني في السورة ليأتي القسم الثالث وهذا هو المقطع: [سورة الأعراف (7): الآيات 160 الى 171] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

كلمة في سياق المقطع

كلمة في سياق المقطع: يبدأ المقطع بفقرة بدايتها وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً وينتهي بفقرة بدايتها وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً .. وقد سبق هذا المقطع بآية هي: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وهي تأتي بعد البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد دعوة الناس للإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لتعيد السياق إلى موضوعه الرئيسي عن بني إسرائيل،

المعنى العام

فالمقطع هنا بمثابة الاستمرار للكلام عن بني إسرائيل في عهد موسى، وفيما بعد موسى، وكيف أن الانحراف قد استقر في النهاية عند بني إسرائيل حتى استحقوا العقوبة الدائمة، هذا مع أنه أخذت عليهم أغلظ المواثيق في أشد الحالات، ومن أول آية في الكلام عن بني إسرائيل في السورة رأينا قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وفي المقطع الثاني رأينا قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ وفي هذا المقطع نرى قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ .. مما يفيد أن عرض قصة بني إسرائيل يهدف إلى إعطاء دروس لهذه الأمة. وهذا المقطع كغيره من المقاطع يرينا أمة أنزل عليها وحي، فانحرفت، فعوقبت، وارتباط ذلك بمحور السورة واضح. المعنى العام: يخبر تعالى عن بني إسرائيل أنه قطعهم اثنتي عشرة سبطا، وأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا. لكل سبط عين، وأكرمهم بتظليل الغمام عليهم، وأكرمهم بإنزال المن وإرسال السلوى ليأكلوا حلوى ولحما من فضله، ومع ذلك ظلموا أنفسهم بالشرك وغيره. ثم فتح لهم البلاد التي وعدهم إياها، وبدلا من أن يشكروا الله بطاعته على الفتح، حرفوا وبدلوا فعذبوا. فناس هذا شأنهم يرون المعجزات، ويعيشون بالنعم، ويتقلبون بالعناية والرعاية، ثم لا يكون من الكثير منهم إلا الظلم. أمة هذا شأنها لا يستغرب ألا تستجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه لا يستغرب أن تعذب. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عن قرية من قراهم، كيف كانت تحتال على أمر الله لتحرفه، متظاهرة بالطاعة صورة، ومخالفة معنى، كيف فعل الله، بالظالمين منهم والساكتين عن المنكر فيهم. وفي ذلك توكيد أن هذه الأمة قسمان: قسم مهتد، وقسم ضال. فلا عجب أن يكفر الكثير منهم بالدعوة الجديدة، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بما هددهم به إن انحرفوا أن يسلط عليهم من يعذبهم إلى يوم القيامة، وقد انحرفوا وقد فعل، وهذا تذكير لهم بأن عليهم أن يدخلوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم. ثم أخبر تعالى كيف أنه فرقهم في الأرض كلها طوائف مشتتة ممزعة، وكيف أنه اختبرهم بالرخاء، والشدة، والرغبة، والرهبة، والعافية، والبلاء من أجل أن يرجعوا إلى الله. وأنه خلف من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح خلف آخر، لا خير فيهم، قد ورثوا دراسة الكتاب، ومع ذلك فهم يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة

المعنى الحرفي

الدنيا ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة، وكلما لاح لهم عرض دنيوي تراموا عليه، فلا يتاح لهم شئ من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما، يتمنون المغفرة، ولا يتوبون التوبة النصوح مع أن الله أخذ عليهم الميثاق ليبينن الحق للناس ولا يكتمونه، ولكنهم لا عقل لهم. ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، مع إقام الصلاة، فهذا هو المصلح الحقيقي ومن هذه الجولة ندرك أن أمة هذا شأنها في كونها تغلب أمر الدنيا على الآخرة شئ عادي أن ترفض الدعوة الجديدة. ثم أمرهم تعالى أن يتذكروا إذ رفع فوقهم الجبل من أجل أن يأخذوا بأحكام التوراة ويعملوا بما فيها ليكونوا من المتقين. وفي هذا التذكير دعوة للدخول في الدين الجديد وتهديد لهم إن لم يفعلوا. وهذا المقطع بسياقه هذا يحقق ثلاثة أهداف. الهدف الأول: أنه يتمم الكلام عن بني إسرائيل، ومواقفهم من الهدى المنزل عليهم، وانحرافهم عنه، وما عوقبوا به نتيجة لذلك. وفي هذا درس لهذه الأمة من هذه الحيثية. والهدف الثاني: أن هذه المعاني عرضت في سياق الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس لدينه واليهود من المدعوين وفي الكلام عنهم بهذا العرض لا يستغرب رفضهم للدعوة الجديدة، وهذا مهم جدا، إذ إن اليهود هم شهود على صدق هذه الرسالة، فموقف الرفض منهم قد يؤثر على مواقف الناس، فإن يذكر من أخلاقهم ما لا يستغرب معه كفرهم بالدعوة الجديدة، فذلك شئ مهم في التمكين لهذه الدعوة. والهدف الآخر هو الهدف المباشر من هذا النص وهو هذه الأمة أن تترفع عما وقعت فيه الأمم من انحراف وأن يرتفع أفراد هذه الأمة عما وقع فيه أفراد من أمم أخرى. المعنى الحرفي: وَقَطَّعْناهُمُ أي وصيرناهم مميزين بعضهم عن بعض اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كقولك اثنتي عشرة قبيلة والأسباط: أولاد الولد والمراد هنا وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط فوضع أسباط موضع قبيلة أُمَماً أي وقطعناهم أمما لأن كل سبط كان أمة عظيمة وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ أي فانفجرت مِنْهُ

فوائد

اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ أي لكل سبط مشربه وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ أي وجعلناه ظليلا عليهم في التيه وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى المن: حلوى. والسلوى: طير وسيأتي الكلام عن ذلك كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي قلنا لهم ذلك وَما ظَلَمُونا أي وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ولكن كانوا يضرون أنفسهم ويرجع وبال ظلمهم إليهم، دل ذلك على أنهم قابلوا نعم الله عليهم بالكفران، وقوم هذا شأنهم- حتى مع رسولهم ومع كثرة الآيات أمامهم- هل يستغرب أن يرفضوا الدعوة الجديدة، والدين الجديد، ويظلموا أنفسهم بالكفر بالرسول الجديد للإنسانية كلها، فيا أيتها الأمة لا تستغربي مواقفهم، وإياك أن تظلمي مثل ظلمهم. فوائد: - في سفر العدد- وهو السفر الرابع من أسفار العهد القديم- في الإصحاح الأول منه. أمر الله لموسى (أحصوا كل جماعة بني إسرائيل بعشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء كل ذكر برأسه .. ويكون معكما رجل لكل سبط رجل هو رأس لبيت آبائه ... ) وفي الإصحاح الثاني (وكلم الرب موسى وهارون قائلا ينزل بنو إسرائيل كل عند رايته) ثم يحدد الإصحاح موقف كل سبط، فلعل هذا ما ذكرته الآية بتقطيع بني إسرائيل إلى اثني عشر سبطا. وفي سفر العدد في الإصحاح العشرين منه كلام عن ضرب موسى الصخرة وانفجار الماء منها. وفي سفر الخروج الإصحاح الخامس عشر: (ثم جاء إلى إيليم وهناك اثنتا عشرة عين ماء، وسبعون نخلة فنزلوا هناك عند الماء)، وفي الإصحاح السابع عشر: (وعطش هناك الشعب إلى الماء وتذمر الشعب على موسى ... فقال الرب لموسى مر قدام الشعب وخذ معك من شيوخ بني إسرائيل وعصاك التي ضربت بها خذها في يدك واذهب ها أنا أقف أمامك هنال على الصخرة في حوريب فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ بني إسرائيل ... ). وفي الإصحاح السادس عشر من سفر الخروج كلام عن المن والسلوى. (وفي الصباح كان سقيط الندى حول المحلة ولما ارتفع سقيط الندى إذا على وجه البرية شئ دقيق مثل قشور دقيق كالجليد على الأرض ودعا بيت إسرائيل اسمه منا وهو

[سورة الأعراف (7): آية 161]

كبزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وكانوا يلتقطونه صباحا فصباحا كل واحد على حسب أكله وإذا حميت الشمس كان يذوب) وأما السلوى فقد ذكرت الإصحاح نفسه (فكلم الرب موسى قائلا سمعت تذمر بني إسرائيل كلمهم قائلا في العشية تأكلون لحما وفي الصباح تشبعون خبزا .... فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة) وليس في الأسفار وصف للسلوى والمعروف أن السلوى طير صغير أكبر من العصفور قليلا وقد مر الكلام عنه (في سورة البقرة) بأنه السماني. وفي الإصحاح السادس عشر (وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى جاءوا إلى أرض عامرة). والقرآن يذكر هذه الحوادث في هذا السياق للتدليل على أن هذا الشعب كان يرى الآيات، وتتوالى عليه النعم المباشرة من الله، ومع ذلك كان يظلم، من أجل ألا تستغرب هذه الأمة كفر اليهود بدعوة الله الجديدة. وهي في الوقت إقامة حجة على هؤلاء، ودعوة لهم وموعظة، كيلا يسلكوا الطريق الخاطئ طريق آبائهم. ثم هي درس للمسلمين في ألا يسلكوا طريق هؤلاء. وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ أي واذكر إذ قيل لهم. اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ مر معنا في سورة البقرة الخلاف في المراد بهذه القرية، لأن الله قد فتح لهم بلادا كثيرة، والراجح أنها بيت المقدس وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ أثناء الدخول وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي خاضعين راكعين نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ هذان وعدان وعد للجميع بالغفران إن أطاعوا، ووعد للمحسنين خاصة بالزيادة فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ. أي بسبب ظلمهم، وفي هذا كذلك إشعار لهذه الأمة بألا تستغرب رفض اليهود لدعوة الله، وفي هاتين الآيتين وما قبلهما تذكير لهذه الأمة بألا تظلم نفسها بمعصية ربها، وترك شكره، وعدم تنفيذ أوامره. وفي هذه الآيات كلها نماذج على مواقف فاسدة من الهدى الرباني المنزل على أمة من الأمم. فائدة: يبدو أن الأمر بدخول البلدة التي أمروا بالدخول إليها كان في زمن يشوع خليفة موسى عليهما السلام، وسفر يشوع الذي بين أيدينا الآن لا نستطيع الاعتماد على ما فيه كغيره، لأن فيه العبارة التقليدية التي تفيد أن هذه الأسفار كتبت متأخرة وهي- إلى هذا اليوم- ففي الإصحاح السابع منه (فقال يشوع كيف كدرتنا يكدرك الرب في

ولنعد إلى السياق

هذا اليوم فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة وأحرقوه بالنار ورموه بالحجارة وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم فرجع الرب عن حمو غضبه). وأبرز ما يركز عليه هذا السفر ويوضحه فتح أريحا وقد رأينا الاختلاف في القرية التي ذكرها النص القرآني. هل هي أريحا أو القدس ولو كان في تعيينها فائدة عملية لذكرها الله. والحكمة في ذكر هذه البلدة هي العبرة في أن الله أنعم على أمة بنعمة عظيمة، باستخلافها والفتح عليها. وكيف أنها تقابل ذلك بالمعصية بدل الشكر. وعلى كل حال فإن سفر يشوع يحدثنا: أن يشوع بعد أن سيطر على الأرض التي وعدها الله بني إسرائيل قسمها بين بني إسرائيل حسب أسباطهم، وأمرهم أن يسكن كل سبط في المكان المحدد له. ويظهر أن وباء ما قد أصاب بني إسرائيل عقب فتح أريحا. يدل على ذلك ما ورد في الإصحاح الثاني والعشرين في سفر يشوع (أقليل لنا إثم فغور الذي لم نتطهر منه إلى هذا اليوم وكان الوباء في جماعة الرب) وإثم فغور إثم حدث بسبب غلول غله بعض بني إسرائيل بعد فتح أريحا وعاقب يشوع أصحابه ولكن الوباء لم ينزل بهذا السبب حتما وإنما لشئ آخر ارتكبته الجماعة كلها والله أعلم. ولنعد إلى السياق: وَسْئَلْهُمْ أي واسأل اليهود وهذا السؤال للتقريع والتذكير فهو تقريع لهم وتذكير بعقاب الله لمن خالف أمره. وتذكير لهذه الأمة بألا تتحايل على أمر الله فتستحل محارمه بحيلة ما، وهو تذكير عام بعاقبة من يخالف أمر الله، ويتنكر لهداه. عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي قريبة منه أو على ساحله وأكثر المفسرين على أنها أيلة على خليج العقبة. وقد أحيا اليهود اسمها حاليا فسموا مدينتهم على خليج العقبة إيلات إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عن العمل فيه فهتكوا حرمته. والمراد بالقرية أهلها. والمعنى واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء وذلك امتحان من الله لهم والمراد بيوم سبتهم يوم السبت الذي كلفهم الله بتعظيمه بترك الصيد والعمل، وبالاشتغال بالتعبد حيث يظهر لهم السمك على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، ويختفي عنهم في اليوم المحلل لهم صيده وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي: مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي: بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي: جماعة

[سورة الأعراف (7): آية 165]

من صلحاء القرية الذين أيسوا من وعظهم بعد ما ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، الآخرين لا يقلعون عن وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي نحن نفعل ذلك تقديما للعذر إلى الله لئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى التفريط أي وعظناهم ليعذرنا الله وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي ولطمعنا في أن يتقوا فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي أهل القرية لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أي من العذاب الشديد والذين قالوا (لم تعظون) من الناجين. فعن الحسن نجت فرقتان، وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الراكبين للمنكر بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بخروجهم عن طاعة الله وأمره فَلَمَّا عَتَوْا أي تمردوا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ عن الاعتداء في السبت قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي جعلناهم قردة أذلاء مبعدين. فهذا هو العذاب البئيس الذي أخذوا به وهو المسخ. فوائد: 1 - روى الإمام ابن بطة عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». 2 - عن ابن عباس روايتان في هلاك الساكتين إحداهما: قال: «كانوا أثلاثا ثلث نهوا وثلث قالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. قال ابن كثير هذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى رأي عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم بعد ذلك. 3 - أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن هذه القرية كما قلنا للتقريع والتذكير وإلا فقد أعلم الله رسوله بحالهم، ويبدو أن القصة مشهورة متداولة عند اليهود، ولذلك كان التذكير بها يؤدي غرضه في قلوبهم، إن كان لهم قلوب وليس في أسفار العهد القديم الموجودة بين أيدينا إشارة إلى هذه الحادثة. فلعل شهرتها عندهم ترجع إما لأنها متوارثة فيهم، أو لأنها مذكورة في كتبهم الأخرى. وقد ذكرنا في سورة البقرة النصوص التي تدل على أن من مسخ منهم مات بعد ثلاثة أيام. ولنذكر هنا ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس في شأن هذه القرية. قال عكرمة: جئت

ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ قال: فقال. هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في سورة الأعراف. قال: تعرف أيلة؟ قلت: نعم. قال. فإنه كان بها حي من اليهود، وسبقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومئونة شديدة، كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر إذ الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت، فكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت وقال الأيمنون: ويلكم الله نهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله وقال الأيسرون: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قال الأيمنون مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي ينتهون فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون فقد فعلتم يا أعداء الله، والله لنأتينكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا، فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله قردة، والله تعاوى لها أذناب قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم عن كذا فتقول برأسها أي نعم، ثم قرأ ابن عباس فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها. قال: قلت: جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ قال فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين. وكذا روى مجاهد عنه. 4 - مجئ هذه القصة هنا درس لمن خالف أمر الله بحيلة من الحيل فإذا فهمنا هذا الدرس على ضوء محور السورة نفهم أن هدى الله المنزل يجب أن يطبق بقوة. فليس الله كغيره. ولا أمر الله كأمر غيره.

ولنعد إلى السياق

5 - يلاحظ في هذه القصة كيف أن الله كان مشددا على بني إسرائيل في أمر تعظيم السبت وحرمة العمل فيه. وهذا الذي نراه في هذه القصة نجده في أسفار موسى الخمسة بشكل واضح وفي أكثر من مكان مع التهديد العظيم لمن خالف ذلك. ومن ذلك ما ورد في الإصحاح العشرين سفر الخروج (أذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك). وفي الإصحاح التاسع عشر سفر اللاويين (وتحفظون سبوتي أنا الرب إلهكم). وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر العدد (ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلا يحتطب حطبا في يوم السبت. فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطبا إلى موسى وهارون وكل الجماعة. فوضعوه في المحرس لأنه لم يعلن ماذا يفعل به. فقال الرب لموسى قتلا يقتل الرجل. يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة. فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة ورجموه بحجارة فمات كما أمر الرب موسى). ولنعد إلى السياق: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي أعلم قال ابن كثير وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ليسلطن على اليهود مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي إذا عصوا وخالفوا أوامره وشرعه وقد فعلوا إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ أي للكفار وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي للمؤمنين. ومع عذاب التسليط عليهم فقد عذبوا بالتشتيت وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ كلها أُمَماً أي فرقا أي وفرقناهم فيها فلا تخلو بلد عن فرقة مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ أي في التفريق الأول، أما بعد بعثة عيسى فلا صالح إلا من اتبعه، وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فلا صالح إلا من اتبعه وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الفسقة. أي ومنهم ناس منحطون عن الصلاح وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي بالنعم والنقم والخصب والجدب كسنتنا في كل أمة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي ينتهون عن المعصية فينيبون إلى الله بالطاعة فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد ذلك الجيل الذي تمت عليه عقوبة التشتيت والتسليط فَخَلَفَ أي: جيل آخر، أو أجيال أخرى، والخلف بدل السوء بخلاف الخلف فهو الصالح وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة ودققوا على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولم يعملوا بها

[سورة الأعراف (7): آية 170]

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى العرض: المتاع. أي يأخذون حطام هذا الشئ الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا أي لا يؤاخذنا الله بما أخذنا وتمتعنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين. ومن شروط التوبة العزم على عدم العودة، وهؤلاء يرجون المغفرة ولا يقلعون عن ذنب أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي الميثاق المذكور في الكتاب أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي إلا الصدق وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي وقرءوا ما في الكتاب وعلموا ما أخذ عليهم من ميثاق ومع ذلك كانوا يخونون حكم الله من أجل الدنيا وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ أي من ذلك العرض الخسيس لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الله بالكف عما حرم وفعل ما أمر أَفَلا تَعْقِلُونَ أي فليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يعتصمون به ويتعلقون به وَأَقامُوا الصَّلاةَ خص الصلاة مع أن التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة لأهميتها إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ أي إنا لا نضيع أجرهم، ويحتمل أن يكون المعنى أن من أقام الصلاة ودعا إلى كتاب الله فإنه هو المصلح والله لا يضيع أجره. نقول: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ يقول صاحب الظلال: (لا شئ يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى إلا اليقين في الآخرة، وإنها خير للذين يتقون، ويعفون، ويترفعون، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن، ويمضون في الطريق لا يلتفتون ... مطمئنين واثقين ملء قلوبهم اليقين. وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة «الاشتراكية العلمية» أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا ويحلوا محله تصورا كافرا جاهلا مطموسا يسمونه «العلمية». ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة وتفسد النفوس وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلا ذلك اليقين ... ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان. وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال ..

إن «العلمية» التي تناقض «الغيبية» جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. جهالة يرجع عنها العلم البشري، ذاته، ولا يبقى من يرددها في القرن العشرين الذي يهدد البشرية بالدمار، ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها، ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف والذي تردده الببغاوات هنا وهناك بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك. ولأن قضية الآخرة وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة، يحيل السباق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى .. عرض الحياة الدنيا .. إلى العقل: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ .. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟. ولو كان العقل هو الذي يحكم الهوى .. ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هو الذي يقضي .. لكانت الدار الآخرة خيرا من عرض هذا الأدنى. ولكانت التقوى زادا للدين والدنيا جميعا). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ. يقول صاحب الظلال: (وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه، ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم ولا في سلوكهم وحياتهم .. غير أن الآية تبقى- من وراء ذلك التعريض- مطلقة، تعطي مدلولها كاملا، لكل جيل ولكل حالة. إن الصيغة اللفظية: «يمسكون» .. تصور مدلولا يكاد يحس ويرى .. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة .. الصورة التي يحب الله أن يأخذ بها كتابه وما فيه .. في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت .. فالجد والقوة والصرامة شئ والتعنت والتنطع والتزمت شئ آخر .. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون «الواقع» هو الحكم في شريعة الله فهو الذي يجب أن يظل محكوما بشريعة الله. والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة، وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة .. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونا إلى الشعائر يعني مدلولا معينا .. إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة،

فوائد

مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ. يشير إلى هذه الحقيقة .. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملا وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين. وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي المنهج الرباني .. ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص كالذي يصنعه أهل الكتاب وكالذي يصنعه أهل كل كتاب حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله .. إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب ويقيم القلب على أساس العبادة ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب، فتصلح القلوب وتصلح الحياة. إنه منهج الله لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجا آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب). فوائد: 1 - عرفنا من هذه الآيات عقوبة من عقوبات الانحراف عن أمر الله وهديه المنزل أن يسلط على الأمة التي تنحرف عن أمره غيرها يسومها سوء العذاب ويشتتها ويفرقها. وهذا ما حدث لليهود، ما مر جيل إلا وقد سلط الله عليه من يسومه سوء العذاب، وما جرى على يد هتلر لهم ليس بعيدا وما سيجري لهم على أرض فلسطين بإذن الله، سيكون استمرارا لهذه السنة وهذه بشارة عظيمة لنا إذا أقمنا أمر الله. ولم نكن مثلهم بالانحراف عن أمر الله. وما سلطوا علينا الآن إلا لأننا ماثلناهم في الانحراف عن أمر الله. 2 - ومن قوله تعالى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ نفهم أن هذا العقاب لهم كان معلوما لديهم بإعلام الله لهم، ومن مراجعة الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم- أسفار موسى- نجد هذا الإعلام واضحا في أكثر من مكان، ومن ذلك ما ورد في الإصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين، وتكاد الآيات التي مرت معنا أن تحصي الكثير منه وهذا هو (لكن إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كل هذه الوصايا.

وإن رفضتم فرائضي وكرهت أنفسكم أحكامي فما عملتم كل وصاياي بل نكثتم ميثاقي. فإني أعمل هذه بكم، أسلط عليكم رعبا وسلا وحمى تفني العينين وتتلف النفس وتزرعون باطلا زرعكم فيأكله أعداؤكم، وأجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعدائكم ويتسلط عليكم مبغضوكم وتهربون وليس من يطردكم. وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. فأحطم فخار عزكم، وأصير سماءكم كالحديد وأرضكم كالنحاس فتفرغ باطلا قوتكم وأرضكم ولا تعطي غلتها وأشجار الأرض لا تعطي أثمارها وإن سلكتم معي بالخلاف ولم تشاءوا أن تسمعوا لي أزيد عليكم ضربات سبعة أضعاف حسب خطاياكم أطلق عليكم وحوش البرية فتعدمكم الأولاد وتقرض بهائمكم وتقللكم فتوحش طرقكم. وإن لم تتأدبوا مني بذلك بل سلكتم معي بالخلاف. فإني أنا أسلك معكم بالخلاف وأضربكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. أجلب عليكم سيفا ينتقم نقمة الميثاق فتجتمعون إلى مدنكم وأرسل في وسطكم الوباء فتدفعون بيد العدو. بكسري لكم عصا الخبز تخبز عشر نساء خبزكم في تنور واحد ويرددن خبزكم بالوزن فتأكلون ولا تشبعون. وإن كنتم بذلك لا تسمعون لي بل سلكتم معي بالخلاف فأنا أسلك معكم بالخلاف ساخطا وأؤدبكم سبعة أضعاف حسب خطاياكم. فتأكلون لحم بنيكم. ولحم بناتكم تأكلون. وأخرب مرتفعاتكم، وأقطع شمساتكم وألقي جثثكم على جثث أصنامكم وترذلكم نفسي. وأصير مدنكم خربة ومقادسكم موحشة ولا أشتم رائحة سروركم. وأوحش الأرض فيستوحش منها أعداؤكم الساكنون فيها. وأذريكم بين الأمم وأجرد وراءكم السيف فتصير أرضكم موحشة ومدنكم تصير خربة. حينئذ تستوفي الأرض سبوتها كل أيام وحشتها وأنتم في أرض أعدائكم. حينئذ تسبت الأرض وتستوفي سبوتها. كل أيام وحشتها تسبت ما لم تسبته من سبوتكم في سكنكم عليها. والباقون منكم ألقي الجبانة في قلوبهم في أراضي أعدائهم، فيهزمهم صوت ورقة مندفعة فيهربون كالهرب من السيف ويسقطون وليس طارد، ويعثر بعضهم ببعض كما من أمام السيف وليس طارد ولا يكون لكم قيام أمام أعدائكم. فتهلكون بين الشعوب وتأكلكم أرض أعدائكم. والباقون منكم يفنون بذنوبهم في أراضي أعدائكم. وأيضا بذنوب آبائهم معهم يفنون. لكن إن أقروا بذنوبهم وذنوب آبائهم في خيانتهم التي خانوني بها وسلوكهم معي الذي سلكوا بالخلاف. وإني أيضا سلكت معهم بالخلاف وأتيت بهم إلى أرض أعدائهم إلا أن تخضع حينئذ قلوبهم الغلف ويستوفوا حينئذ عن ذنوبهم. أذكر

ولنعد إلى التفسير الحرفي

ميثاقي مع يعقوب وأذكر أيضا ميثاقي مع إسحاق وميثاقي مع إبراهيم وأذكر الأرض. والأرض تترك منهم وتستوفي سبوتها في وحشتها منهم، وهم يستوفون عن ذنوبهم لأنهم قد أبوا أحكامي وكرهت أنفسهم فرائضي. ولكن مع ذلك أيضا متى كانوا في أرض أعدائهم ما أبيتهم ولا كرهتهم حتى أبيدهم وأنكث ميثاقي معهم، لأني أنا الرب إلههم. بل أذكر لهم الميثاق مع الأولين الذين أخرجتهم من أرض مصر أمام أعين الشعوب لأكون لهم إلها. أنا الرب». ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي واذكروا إذ قلعناه ورفعناه كقوله تعالى في سورة البقرة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ* كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ الظلة: كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي أنه ساقط عليهم. قال المفسرون المسلمون: وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رءوسهم وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لا نرى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هي السجدة التي رفعت عنابها العقوبة خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بجد وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر والنواهي ولا تنسوه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لعلكم تتحققون بالتقوى. وإذن فقد أخذت عليهم المواثيق ووضعوا في كل الظروف التي كان ينبغي- بناء عليها- ألا ينحرفوا ومع ذلك انحرفوا، وكان المفروض في الأصل ألا ينحرفوا لما ركب الله في فطرهم كغيرهم من العبودية له وهذا الذي قررته الآية اللاحقة في أول القسم اللاحق. كلمة في السياق: بالآية التي مرت معنا ينتهي المقطع الرابع من القسم الثاني وبانتهائه ينتهي الحديث عن بني إسرائيل كما ينتهي القسم الثاني الذي قص الله علينا به قصص أقوام خالفت شرعه ووحيه فأصابها بسبب ذلك ما أصابها وصلة ذلك بمحور السورة في سورة البقرة لا تخفى. وقد بقي عندنا من السورة القسم الثالث ويبدأ بالحديث عن أخذ الله العهد على بني آدم بالعبودية وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة وهو القاعدة التي ختمت بها

قصة آدم عليه السلام لا تخفى. إن صلة أقسام السورة ببعضها واضحة، وصلة السورة بمحورها واضحة، كذلك فلننتقل إلى القسم الثالث. ***

القسم الثالث من سورة الأعراف

القسم الثالث من سورة الأعراف بعد أن تنتهي قصة موسى وقصة قومه بذكر أخذ الله الميثاق منهم يأتي القسم الأخير في السورة وهو مبدوء بذكر الميثاق المأخوذ على البشرية كلها بالعبودية لله رب العالمين. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى. وينتهي بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ومن بداية القسم ونهايته ندرك مضمونه وأنه في موضوع الربوبية والتوحيد، والعبودية والشرك، وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة الذي هو قصة آدم والقاعدة التي ختمت بها لا تخفى. يتألف القسم من مقطعين: المقطع الأول يبدأ بالآية (172) وينتهي بالآية (188) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا المقطع الثاني ويبدأ بالآية (189) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وينتهي بنهاية السورة (206) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ. ولتلاحم القسم في مقطعيه فسنعرضه كله مع بعضه وكأنه مقطع واحد: وهذا هو القسم: [سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 206] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

استعراض لمعاني القسم

استعراض لمعاني القسم: يأتي هذا القسم بعد قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ. خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فبعد هذا المشهد مباشرة يأتي هذا القسم الذي يبدأ بالتذكير بأخذ الله العهد على بني آدم. قال صاحب الظلال في ذلك وهو يستعرض معاني هذا القسم من السورة: لذلك أعقب هذا المشهد مشهد أخذ الميثاق على فطرة البشر كافة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى! شَهِدْنا .. أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أو تقولوا:

إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟. وأعقب هذا المشهد مشهد الذي ينسلخ من هذا العهد، كما ينسلخ من العلم بآيات الله بعد إذ أراه إياها .. وهو مشهد مثير .. وفيه لمسات قوية للتنفير من هذا الانسلاخ والتحذير من مآله المنظور: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ* ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ. ثم بيان لطبيعة الهدى وطبيعة الكفر. يكشف عن أن الكفر إذا تعطل في أجهزة الفطرة يحول دون تلقي هدى الله، وينتهي بالخسارة المطلقة: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. تعقب هذا البيان لفتة إلى المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام في مكة بالتكذيب، ويلحدون في أسماء الله فيشتقون منها أسماء الآلهة المفتراة. وتهديد لهم باستدراج الله. ودعوة لهم كذلك أن يتفكروا تفكرا عميقا بعيدا عن الهوى في أمر صاحبهم الذي يدعوهم إلى الهدى صلى الله عليه وسلم فينبزونه بأن به جنة! وإلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما في صفحات الوجود من موحيات الهدى؛ ولمسة لهم بالموت الذى يترقبهم وهم عنه غافلون: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ. سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ* مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. ومواجهة كذلك لهؤلاء المشركين في تكذيبهم بالساعة، وسؤالهم عن موعدها ..

مواجهة بضخامة هذا الشأن الذي يسألون عنه مستهينين، وهول هذا الأمر الذي يتناولونه مستخفين. وجلاء كذلك لطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول؛ وتقرير لحقيقة الألوهية وتفرد الله سبحانه بكل خصائصها. ومنها علم الغيب؛ وتجلية الساعة؛ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وفي سياق مواجهة المشركين يجئ بيان عن طبيعة الشرك وقصة الانحراف عن عهد الفطرة بتوحيد الله، وكيف يقع في النفس هذا الانحراف وكأنما هو تصوير لانحراف جيل المشركين بعد أن كان أسلافهم الأولون على دين إبراهيم الحنيف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ .. إنه تمثيل للأجيال المتلاحقة بصورة الحالات المتتابعة في النفس الواحدة وهو تصوير ذو دلالات عجيبة في صدقها وفي جمالها جميعا. ولأن المقصود هو تمثيل حالة المشركين الذين كان هذا القرآن يواجههم فإن السياق ينتقل مباشرة من المثل إلى مخاطبتهم مواجهة، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تحديهم وآلهتهم: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ* إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ* إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ* وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وفي نهاية السورة يتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الأمة المسلمة. يوجهه إلى

المعنى العام للقسم

اليسر في أخذ الناس في هذه الدعوة، ونهنهة النفس عن الغضب مما يبدر منهم من تقاعس واعتراض، والاستعاذة من الشيطان الذي يثير الغضب ويحنق الصدر: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ* وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ* وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وهذا التوجيه يذكرنا بما ورد في مطلع السورة: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. فهو يشي بثقل هذا العبء- عبء دعوة الناس- ومواجهة ما في نفوسهم من رواسب وركام وعقابيل، والتواءات وأغراض وشهوات، وغفلة وثقلة وتقاعس. وضرورة الصبر .. وضرورة اليسر. وضرورة السير أيضا في الطريق. ثم توجيه إلى الزاد المعين على مشاق الطريق .. الاستماع والإنصات إلى القرآن .. وذكر الله في كل آن وفي كل حال. والحذر من الغفلة والاقتداء بالمقربين من الملائكة في الذكر والعبادة: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ* إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ. المعنى العام للقسم: يبدأ القسم بأمر الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر إذ استخرج الله ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، وإنما فعل ذلك ربنا حتى لا يحتجوا عليه بغفلتهم أو باتباعهم لشرك آبائهم. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم خبر من أكرمه الله بتعريفه بآياته فكان أن تركها وتخلى عنها وخالفها واستحوذ عليه الشيطان، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ فكان من الهالكين الحائرين البائرين. ولو أن الله أراد أن يرفعه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتاه إياها لفعل. ولكنه مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها

ونعيمها، وغرته كما غرت غيره، فأصبح كالكلب في لهثه في كلتا حالتيه، إن زجر وإن ترك، وهذا مثل كل من كذب بآيات الله، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص هذه القصص من أجل أن يتفكروا، ثم ذكر الله- عزّ وجل- أن من هداه الله فإنه مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة وهو من الخاسرين. ثم يذكر القسم أن الله جلت حكمته قد خلق جهنم وخلق لها أهلها وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. وأهل النار هؤلاء المهيئون لدخولها، قلوبهم لا تفقه الحق ولا تعقله، وأعينهم لا تبصر الآيات، وأسماعهم لا تسمع الموعظة، فهم لا يسمعون الحق ولا يعونه، ولا يبصرون الهدى، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في ما يقيتها. بل هم أضل من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا ناداها ودعاها، وإن لم تفقه كلامه ولأنها تفعل ما خلقت له، إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به، ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده. ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه، وهؤلاء هم أهل الغفلة عن الله وآياته ودينه وشريعته. ولكي لا نكون كهؤلاء الغافلين عن آيات الله التي تدل على أسمائه الحسنى. ذكرنا الله عزّ وجل بأن له الأسماء الحسنى، وأمرنا أن نسميه بها، وأن نترك الملحدين بأسمائه، بالإعراض عنهم، وانتظار ما أعد الله لهم من عذاب جزاء أعمالهم. ثم بين الله عزّ وجل أنه إذا كان قد خلق للنار أهلها- وهم من لا عقول لهم- فإنه قد خلق كذلك ناسا قائمين بالحق قولا وعملا. يقولون الحق ويدعون إليه، وبالحق يعملون وبه يقضون، والحق: هو ما أنزله الله، هو آياته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء إذن هم المؤمنون بآيات الله العاملون بها، وفي مقابل هؤلاء يوجد المكذبون بآيات الله. فهؤلاء من سنة الله بهم أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، والتقلب في الجاه، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شئ، ثم يزيدهم الله إملاء لهم واستدراجا وهم يجهلون سنة الله هذه، ولا يعلمون أن هذا من إملاء الله لهم، وأن الله سيضربهم الضربة القاصمة. وهو القوي الشديد، الفعال لما يريد. وإذا استقرت في القلب معرفة صفات الكافرين واستدراج الله لهم، دعاهم الله عزّ وجل إلى التفكر في وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنهم سيهديهم التفكر إلى أنه ليس مجنونا، بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، ثم دعاهم إلى النظر في ملك الله وسلطانه في السموات والأرض، وفيما

خلق من شئ فيهما، ليتدبروا ذلك ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه. ومن فعله لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له. فيجب أن يؤمنوا به، ويصدقوا رسوله، وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان. ويعترفوا بالله وآياته وحاكميته، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله، وأليم عقابه، فإذا لم يهدهم التفكر والنظر إلى هذا وهذا، ولم يهدهم هذا القرآن إلى الإيمان فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد هذا التحذير وهذا الترهيب الذي جاءهم من عند الله يؤمنون؟ وبأي كتاب يصدقون إذا لم يصدقوا بهذا، الحديث، وهذا القرآن الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله؟ ولما كان من مثار العجب أن يبقى إنسان كافرا مع وضوح أن محمدا رسول الله، ومع وضوح الآيات التي تدل على الله في هذا الكون، فقد بين الله عزّ وجل أن الأمر أمره، فإن من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد، ولا يضل الله إلا من يستحق الضلال، فذلك الذي يتركه الله متخبطا في ظلمات الضلال، ثم بين الله لنا سخف هؤلاء إذ يتركون التفكير فيما ينبغي، ويتركون العمل فيما ينبغي، ويسألون عما لا تقدم أو تؤخر معرفته، فهم يسألون عن الساعة، عن وقت وقوعها، وهم في الأصل مكذبون، فسؤالهم في الحقيقة استبعاد لوقوعها وتكذيب بوجودها، ومع أنهم مستبعدون ومكذبون فهم يتساءلون عن محطها، وأول وقتها، يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كأنه هو من المتكلفين لمعرفة ما لم يرد الله أن يعرفه عليه، وهنا يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جوابين: الجواب الأول: أن الساعة لا يعرف علمها أحد إلا الله، والجواب الثاني أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بل هو مفوض أموره كلها إلى الله، وهو تحت مشيئته، وأنه لا يعلم المستقبل ولا اطلاع له على شئ منه، إلا بما أطلعه الله عليه، وأنه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير، فإذا اشترى شيئا لا يشتري إلا ما يربح به، ولا يبيع إلا في ذروة الربح. ولأعد للسنة المجدبة من الخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص، ولأجتنب ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقاه، فإذا لم يكن كذلك فذلك دليل على أنه لا يعلم الغيب. ثم أمره أن يخبر أنما هو نذير للكافرين من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات، وهذا الإعلان في هذا المقام دليل على أن محمدا رسول الله، وهو الذي فات الكافرين التفكر فيه للوصول إليه. لفت نظرهم إلى التفكر في وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أعطاهم دليلا من خلال إعلاناته عن نفسه بما يدل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكما لفت نظرهم إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض، مما يوصل إلى التوحيد فكذلك يلفت نظرهم مرة أخرى إلى ما يوصل إلى التوحيد، وكيف أن ما يوصل إلى التوحيد وصل ببعض الناس إلى الشرك. فذكر أنه هو الذي خلق جميع الناس من آدم، وأنه خلق منه زوجه حواء. وأنه خلق منهما كل الأزواج. وأن هؤلاء الأزواج إذا مارسوا ما خلقه الله فيهم وما هيأهم له مما فيه بقاء الجنس أنهم في شوقهم إلى الولد، وفي حالة رهبهم من مسخه أو حظره، كانوا يطلبون من الله ويعدون الله من أنفسهم الشكر، فإذا ما أعطاهما الله ما أرادا قابلاه بالشرك. وتعالى الله أن يكون له شريك في ملكه وسلطانه وفي ألوهيته وربوبيته. ومن خلال ما مر ويمر نلاحظ أن هذا القسم يعرض قضية الضلال والهداية بلغة العزة وجبروت الجلال، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، أنك تشعر أن هذا القرآن يعرض ما يعرض ويظهر لك في كل ما يعرض آثار عزة الذات العلية القاهرة، فلا تحس فيه آثار الضعف البشري لا في الدفاع ولا في الهجوم. ولنعد إلى عرض معاني القسم: فبعد أن بين الله عزّ وجل أن الإنسان يشرك مع وجود ما يستدعي منه التوحيد، يناقش هؤلاء المشركين وينكر عليهم أن يشركوا معه غيره من مخلوقاته المربوبة له، المصنوعة بقدرته، التي لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر. وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم، سواء في ذلك الأصنام آلهة الوثنيين القدامى، وكثير من المعاصرين، أو الطبيعة كلها آلهة الملحدين، ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى هؤلاء المشركين بأن تستطيع آلهتهم أن تكيده شيئا، ثم أمره أن يعلن أن الله الذي أنزل عليه الكتاب هو يتولاه، ويتولى الصالحين، ومن تولاه الله فإن كل الخليقة لا تستطيع ضره إلا إذا شاء الله شيئا من ذلك؛ لحكمة هو يعلمها، ومن كان هذا شأنه في الغلبة والقهر والنصر فهو الإله الحق، لا هذه الآلهة المزعومة التي لا تستطيع نصرا لأنفسها ولا لعابديها، ولا تعي ولا تسمع ولا تبصر، وبعد هذا النقاش للمشركين، وإقامة الحجة عليهم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه أربعة أوامر: الأمر الأول بالعفو، والثاني فعل المعروف، والأمر الثالث الإعراض عن الجاهلين، والأمر الرابع الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وذكر الشيطان في آخر السورة تذكير ببدايتها. ثم بين الله تعالى أنه من رحمته بعباده المؤمنين المتقين، أنه إذا وسوس لهم الشيطان شيئا فإنه

المعنى الحرفي

يجعلهم يتذكرون ما كانوا عنه غافلين، فمهما وسوس الشيطان للمتقين فإن ذلك يذوب أمام رعاية الله لهم. فبينما المشركون في عماهم يقترحون الآيات استهزاء وكبرا، فإن المتقين على بصيرة من نور الله، وهذا القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة للمؤمنين، فالمؤمنون على بصيرة في قلوبهم من الله، وعلى بصيرة من ربهم بهذا القرآن، ومن اجتمعت له بصيرتان فأنى يضل. أما المشركون فلا بصيرة لهم، وقياما بالشكر على نعمة الله بهذا القرآن فإن الله يأمر عباده أن يستمعوا إلى كتابه إذا تلي عليهم وهم في صلاتهم من أجل أن تصيبهم رحمة ربهم، ثم يأمر الله رسوله والمؤمنين أن يذكروا الله ربهم في أول نهارهم وآخره، مع الخشوع والإخلاص بالإسرار بذلك، ونهاهم أن يكونوا من الغافلين، وذكرهم بالملائكة في دوام عبادتهم لله، وخضوعهم له، وتسبيحهم له، وسجودهم للاقتداء بهم في هذا المقام. وبهذا المعنى ينتهي القسم وتنتهى السورة. هذه هي المعاني العامة للقسم وفيها: توضيح لقضية الهدى والضلال، ومناقشة للضالين، ومناقشة أهل الشرك الذي هو البداية لكل ضلال، وتحديد معالم البداية للهداية، من معرفة لله، وتفكر في شأن رسوله، ونظر في خلقه، وشكر له لا يخالطه شرك، ومعرفة، بسخافة الشرك، وتخلق بمكارم الأخلاق، واستعاذة من الشيطان، وأدب مع القرآن. وذكر دائم للرحمن، وتخلق بأخلاق الملائكة. وما بين بداية السورة ونهايتها ترابط. فالسورة تبدأ بالتحذير من الشيطان، وتنتهي بالمعاني الأولية التي ينبغي أن يراعيها أو يرفضها المسلم، كما تحدد معالم الطريق للسير إلى الله، وتحدد معالم أدب الدعاة، بهذا كانت السورة كلها تفصيلا لقوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ومن ثم فإن سالكي الطريق إلى الله عليهم أن يتأملوا هذه السورة ويعملوا بما فيها، وأن يرجوا، وأن يحذروا، وأن يتحققوا. المعنى الحرفي: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم، ومعني أخذ ذريتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلاب آبائهم كما سنرى وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا للمفسرين في تفسير هذا النص اتجاهان:

[سورة الأعراف (7): آية 173]

الاتجاه الأول: أن هذا من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الهدى والضلالة، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. الاتجاه الثاني: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهر آدم مثل الذر، وأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم بقوله. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فأجابوه ببلى قالوا: وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وقال النسفي والحجة للأولين أنه قال مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهر آدم، ولأنا لا نتذكر ذلك فأنى يصير حجة؟ أَنْ تَقُولُوا أي: فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، وأخذ شهادة الأرواح كراهة أن تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أي لم ننبه عليه أَوْ تَقُولُوا أي: أو كراهة أن تقولوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أي فاقتدينا بهم فذلك لا حجة فيه لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك، وأدلة التوحيد منصوبة لهم أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أي لولا ما قامت عليهم به الحجة لقالوا هذا الكلام محتجين به على الله. والمعنى أنهم لولا ذاك لقالوا إن آباءنا كانوا السبب في شركنا. لتأسيسهم الشرك وتركه سنة لنا. ومن ثم أخذ الله من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على ربوبيته وعبوديتهم وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي هذا التفصيل البليغ من أجل أن يرجعوا إلى مقامهم الأصيل مقام العبودية لله. ومن هاتين الآيتين نفهم أن الله لم يترك لأحد حجة عليه في الفرار من عبوديته، والعبودية إنما تكون باتباع وحيه ورسله. فوائد: رأينا أن للمفسرين اتجاهين في تفسير قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ وابن كثير لم ير أن أيا من التفسيرين يعارض الآخر من حيث المبدأ: فقد جبل الله الفطرة على التوحيد، كما استخرج ذرية آدم من ظهورهم

وأشهدهم على أنفسهم، ومن كلامه: «يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة- وفي رواية: على هذه الملة- فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء». وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم». وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله ... عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات. قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال. «ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ فقال رجل: يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: «إن خياركم أبناء المشركين؟ ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها». قال الحسن- أحد رجال سند الحديث- والله لقد قال الله في كتابه وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الآية وقد رواه الإمام أحمد وأخرجه النسائي في سننه ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم. روى الإمام أحمد ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شئ أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي» أخرجاه في الصحيحين وروى الإمام أحمد أيضا ... عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان- يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. وقد روى هذا الحديث النسائي، وابن جرير وابن أبي حاتم، وأخرجه الحاكم في

مستدركه وقال صحيح الإسناد. وروى الإمام أحمد أيضا ... عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى. الآية فقال عمر ابن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: «إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية. قال خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون .. ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، قال خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون». فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار» وهكذا رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن. وروى الترمذي عند تفسيره هذه الآية ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عين كل إنسان منهم وبيصا (بريقا) من نور، ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال هذا رجل من آخر الأمم في ذريتك، يقال له داود، قال رب وكم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى من عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته». ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: «ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم هؤلاء ذريتك وإذا فيهم الأجذم، والأبرص، والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم يا رب لم فعلت هذا بذريتي؟ قال كي تشكر نعمتي. وقال آدم يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا؟ قال هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم. وروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من علماء السلف سياقات توافق هذه الأحاديث، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك

ولنعد إلى التفسير الحرفي

الآثار كلها والله المستعان، فهذه الأحاديث دالة على أن الله- عزّ وجل- استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن عمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. ولم يقل من آدم. وقال مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره وقال ذُرِّيَّتَهُمْ. أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن.» ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ. على اليهود أو على الناس نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا. أي أعطيناه كرامات وفتحنا عليه في فهم آياتنا فَانْسَلَخَ مِنْها. أي فخرج من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ. أي فلحقه الشيطان وصار قرينا له فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. أي فصار من الضالين الكافرين وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ. إلى منازل الأبرار من العلماء بِها أي بالآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. أي: مال إلى الدنيا ورغب فيها وَاتَّبَعَ هَواهُ. أي: فى إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة ونعيمها فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ أي إن تزجره وتطرده يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ غير مطرود يَلْهَثْ. والمعنى فصفته التي هي مثل في الخسة، هي صفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به سواء حمل عليه أي شد عليه وهيج فطرد، أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا حرك، أما الكلب فيلهث فى الحالين. وسياق الكلام يفهم منه أنه قد حط أبلغ حط حتى أصبح كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. أي من الكافرين فَاقْصُصِ الْقَصَصَ. أي هذه القصة وغيرها مما فيه العظة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته ساءَ مَثَلًا أي ساء المثل مثلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ. أي الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم أو المعنى: أنهم بتكذيب الآيات خصوا أنفسهم بالظلم مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ

فوائد

الْمُهْتَدِي فلا هداية إلا بتوفيق الله وخلقه وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يضلله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والآية رد على ما ذهب إليه المعتزلة من كون الهدى هو البيان، لأن البيان يستوي به الكافر والمؤمن، إذ البيان ثابت في حق الفريقين، فدل هذا على أن الهدى من الله يراد به توفيقه وعصمته ومعونته، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن. فوائد: 1 - أكثر المفسرين- ومن ذلك عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس- على أن المراد بهذا الرجل النموذج بلعام بن باعوراء، وهو رجل من غير بني إسرائيل، كان مجاب الدعوة، فطالبه قومه أن يدعو على موسى فرفض أولا، ثم استجاب لهم فدعا فعوقب. وفي عرض هذا النموذج هنا تحذير وتذكير. فهو تذكير لبني إسرائيل ألا يكونوا مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان بلعام بن باعوراء مع موسى، كما هو تحذير لكل إنسان أن يكون كهذا الرجل المنحرف، وهو نموذج يقتضيه السياق الخاص، والسياق العام في سورة تفصل موضوع الهدى المنزل، وموقف الناس منه، فهو نموذج لعالم كان مهتديا ثم زل وكفر فعوقب. 2 - وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك» قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: «بل الرامي». وإسناد هذا الحديث جيد. 3 - وقصة بلعام بن باعوراء واردة في سفر العدد الإصحاح الثاني والعشرين. والثالث والعشرين والرابع والعشرين ثم تنقطع القصة، ثم يرد ذكر بلعام بن باعور في الإصحاح الحادي والثلاثين إذ يقال فيه (وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف). ويرد ذكر قتله كذلك في سفر يشوع في الإصحاح الثالث عشر (وبلعام بن بعور العراف قتله بنو إسرائيل بالسيف مع قتلاهم). وإذا اقتصر الإنسان على رواية سفر العدد في قصة بلعام لا يجد مبررا لقتل بلعام. وما رواه علماء المسلمين في هذا الموضوع- ويبدو أن روايتهم منقولة عن نسخة قديمة لهذه الأسفار- هو الذي يعطي التصور الأكمل في هذا الموضوع، وهو الذي يوجد الربط ما بين الإصحاح الرابع والعشرين والإصحاح الخامس والعشرين

في سفر العدد كما سنرى، وأجود ما ننقله من روايات علماء المسلمين في هذا الباب ما ذكره محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر: أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم قال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان: فلما سار عليها غير كثير ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة؟ أما تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟؟ فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك، فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك. هذا شئ قد غلب الله عليه، قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهب مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن من السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إذا زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها: كسبتي- ابنة صور رأس أمته- برجل من عظماء بني إسرائيل وهو: زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فلما رآها أعجبته، فقام، فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال: إني أظنك ستقول هذا حرام عليك لا تقربها. قال: أجل هذا حرام عليك. قال: فو الله لا أطيعك في هذا. فدخل بها قبته فوقع عليها، وأرسل الله عزّ وجل الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء،

والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته، وكان بكر العيزار، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون- فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص- فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا. والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة النهار، فمن هنا لك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى، والبكر من كل أموالهم وأنفسها، لأنه كان بكر أبيه العيزار، ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. فإذا استوعبنا هذه الرواية مع تحفظنا على بعض ما ورد فيها فلننظر بعض ما ورد في الإصحاحات المذكورة لتكتمل في أذهاننا القصة ورواية ابن إسحاق هي التي تفسر ما ورد بعد من قتل بلعام، كما أنها تخلص من التناقضات الكثيرة الموجودة في الأسفار، فهي تارة تزعم أن الله سمح لبلعام أن ينطلق مع وفد الملك، وتارة تزعم أن الله غضب لأنه انطلق معهم، في الإصحاح الثاني والعشرين (فأتى الله إلى بلعام ليلا وقال له إن أتى الرجال ليدعوك فقم اذهب معهم إنما تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط. فقام بلعام صباحا وشد على أتانه وانطلق مع رؤساء موآب فحمي غضب الله لأنه منطلق) فكيف يأمره الله بالذهاب ثم يغضب لذهابه، وفي الإصحاحات نجد أن الله لا يجري على لسان بلعام إلا الدعاء لموسى ومن معه، والتبشير بانتصاره، فلماذا يقتل إذن من قبل موسى وجنده بعد ذلك. إن رواية ابن إسحاق- وهي حتما مأخوذة عن نسخ قديمة للأسفار- هي التي تعطي تعليلا لمقتل بلعام، لولا أن فيها مبالغة أن فنحاص قد رفع الزانية والزاني على رمحه، هذا مع ملاحظة أن ما ذكره ابن إسحاق هو تلخيص واقعي للإصحاحات، ولنكتف بنقل رواية الإصحاح الخامس والعشرين من سفر العدد لأنها تؤيد رواية ابن إسحاق. وندلل على أن نقل ابن إسحاق كان من نسخة أخرى لهذه الأسفار للمطابقة بين ما فيه وفيها دون الربط بين قصة بلعام وانتشار الزنى، الذي تمتاز به رواية ابن إسحاق، ومجريات الحوادث بعد ذلك تؤكد رواية ابن إسحاق وتصدقها. قال الإصحاح الخامس والعشرون: وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع

ولنعد إلى التفسير الحرفي

بنات موآب، فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن: فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن. وتعلق إسرائيل ببعل فغور. فحمي غضب الرب على إسرائيل. فقال الرب لموسى خذ جميع رءوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو غضب الرب عن إسرائيل. فقال موسى لقضاة إسرائيل اقتلوا كل واحد فوق المتعلقين ببعل فغور، وإذا رجل من بني إسرائيل جاء فقدم إلى إخوته المديانية أمام عيني موسى وأعين كل جماعة بني إسرائيل، وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع. فلما رأى ذلك فينحاس بن العازار بن هارون الكاهن، قام من وسط الجماعة وأخذ رمحا بيده ودخل وراء الرجل الإسرائيلي، إلى القبة وطعن كليهما الرجل الإسرائيلي والمرأة في بطنها، فامتنع الوباء عن بني إسرائيل. وكان الذين ماتوا بالوباء أربعة وعشرون ألفا. فكلم الرب موسى قائلا: فينحاس بن العازار بن هارون الكاهن قد رد سخطي عن بني إسرائيل بكونه غار غيرتي في وسطهم حتى لم أفن بني إسرائيل بغيرتي لذلك قل ها أنا ذا أعطيه ميثاقي. ميثاق السلام. فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي، لأجل أنه غار لله، وكفر عن بني إسرائيل. وكان اسم الرجل الإسرائيلي المقتول الذي قتل مع المديانية زمري بن شلوم رئيس بيت آب من الشمعونيين. واسم المرأة المديانية المقتولة كزبي بنت صور. هو رئيس قبائل بيت آب في مديان. ثم كلم الرب موسى قائلا: ضايقوا المديانيين واضربوهم، لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التي كادوكم بها في أمر فغور وأمر كزبي أختهم بنت رئيس لمديان التي قتلت يوم الوباء بسبب فغور. 4 - تشبيه المنسلخ عن آيات الله بالكلب وذم ذلك يعطيك معنى سنوضحه فيما بعد وهو أن الإسلام تطهير للإنسان من الأخلاق الحيوانية كلها، وصبغه بالأخلاق الربانية ومن ذلك ما ورد في الحديث الصحيح «ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا وجعلنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. هم الكفار من الفريقين المعرضون عن تدبر آيات الله، والله تعالى علم منهم اختيار الكفر، فشاء منهم الكفر، وخلق فيهم ذلك، وجعل مصيرهم جهنم لذلك لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي لا يعقلون بها الحق ولا يتفكرون فيه وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها

[سورة الأعراف (7): آية 180]

الرشد وآيات الله وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الوعظ أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتفكر بَلْ هُمْ أَضَلُّ أي من الأنعام لأنهم كابروا العقول، وعاندوا الرسول، وارتكبوا الفضول، فالأنعام تطلب منافعها وتهرب عن مضارها، وهم لا يعلمون مضارهم حيث اختاروا النار. قال النسفي: كيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور، فالآدمي روحاني شهواني، سماوي أرضي، فإن غلب روحه هواه فاق ملائكة السموات. وإن غلب هواه روحه فاقته بهائم الأرض أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عن الله وآياته وشريعته، وعما أعد لأهل طاعته ومعصيته وفي هذا السياق- سياق الكلام عن خلق الكافرين للنار والكلام عن غفلة هؤلاء- يذكرنا الله عزّ وجل بأسمائه وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معان حسنة فَادْعُوهُ بِها أي فسموه بتلك الأسماء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي واتركوا الذين يكذبون في أسمائه سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هذا تهديد لهم على إلحادهم وفي مقابلة من خلق لجهنم وَمِمَّنْ خَلَقْنا أي للجنة فكما خلق للنار أهلها فقد خلق للجنة أهلها أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يدعون إليه وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي وبالحق يحكمون فيعدلون في أحكامهم، ولا شك أنه يدخل في هؤلاء العلماء العاملون، والدعاة المخلصون. قال النسفي: وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجة. وبمناسبة هذه الآيتين التاليتين يقول صاحب الظلال: (وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائما- وفي أحلك الظروف- تلك الجماعة التي يسميها الله «أمة» بالمصطلح الإسلامي للأمة ... فهذه الأمة الثابتة على الحق، العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس، التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل. ونقف لحظة أمام صفة هذه الأمة: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ .. إن صفة هذه الأمة التي لا ينقطع وجودها من الأرض- أيا كان عددها- أنهم يَهْدُونَ بِالْحَقِّ فهم دعاة إلى الحق لا يسكتون عن الدعوة به وإليه، ولا يتقوقعون على أنفسهم، ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه، ولكنهم يهدون به غيرهم، من الضالين عن هذا الحق، المتنكرين لذلك العهد، ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق إنما

يتجاوزه إلى الهداية والدعوة إليه .. باسمه. وَبِهِ يَعْدِلُونَ .. فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم تحقيقا للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق .. فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس. ولا مجرد وعظ يهدى به ويعرف! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله. يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه. ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه. ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه، ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة، ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه. ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه ... وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق .. وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به .. إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس. صلبة لا تقبل التمييع. والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة .. وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودا لا تكل وحملات لا تنقطع ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته، كل الوسائل وكل الأجهزة وكل التجارب .. هم يسحقون سحقا وحشيا كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض، عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض، وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، ويباركون الفجور والفاحشة، ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه، وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع، ورفع شعاراتها أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها، وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثا تاريخيا مضى ولا يمكن إعادته، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين ثم ليقولوا لهم- في ظل هذا التخدير- إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة لا شريعة ونظاما، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم هذا وإلا فإن على هذا الدين أن «يتطور» فيصبح محكوما بواقع البشر يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين، وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم- الذي كان

ولنعد إلى التفسير الحرفي

إسلاميا- نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين، لتحل محل ذلك الدين القديم- كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين كوسيلة أخيرة حتى لا يجد هذا الدين قلوبا تصلح للهداية به فيحولون المجتمعات إلى فئات غارقة في وحل الجنس والفاحشة والفجور مشغولة بلقمة العيش لا تجدها إلا بالكد والعسر والجهد كيلا تفيق بعد اللقمة والجنس لتستمع إلى هدى، أو يفئ إلى دين. إن المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به .. المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج وجميع الوسائل بلا حساب والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية، والتي توجد من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوما واحدا لولا هذه الكفالة العالمية؟ ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية. والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق- على قلة العدد وضعف العدة- ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية .. والله غالب على أمره. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته .. هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله .. إنهم لا يتصورون أبدا إنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون، ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين .. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين، إنهم يتولى بعضهم بعضا ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى .. إنها سنة الله مع المكذبين .. يرخي لهم العنان ويملي لهم في المعصية والطغيان استدراجا لهم في طريق الهلكة وإمعانا في الكيد لهم والتدبير. ومن الذي يكيد؟ إنه الجبار ذو القوة المتين. ولكنهم غافلون والعاقبة للمتقين. والذين يهدون بالحق وبه يعدلون). ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنستدرجهم قليلا قليلا وذلك بأن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الفحشاء، فكلما جدد الله عليهم نعمه ازدادوا بطرا وجددوا معصيته فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن ترادف النعم

[سورة الأعراف (7): آية 183]

أثرة من الله وتقريب وإنما هو خذلان وتبعيد، وصيغة الاستدراج في اللغة مشتقة من الدرجة وتفيد إما الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي ما يراد بهم وَأُمْلِي لَهُمْ أي وأمهلهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي أخذي قوي شديد سماه كيدا لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فإنه ليس مجنونا حاشاه ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجنون وما به جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ أي منذر من الله مُبِينٌ أي موضح إنذاره أَوَلَمْ يَنْظُرُوا نظرا استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في هذا الملك العظيم وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي وفيما خلق الله وما يقع عليه اسم الشئ من أجناس لا يحصرها العدد وَأَنْ عَسى أي وأنه عسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ولعلهم يموتون عما قريب فليسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي شئ يمكن أن يؤمنوا والقرآن هو الغاية فى الهداية والمعنى: لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به؟ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي من يضلله فَلا هادِيَ لَهُ أي لا يهديه أحد وَيَذَرُهُمْ أي وهو يتركهم فِي طُغْيانِهِمْ أي في كفرهم يَعْمَهُونَ أي يتحيرون يَسْئَلُونَكَ السائلون هم اليهود أو قريش عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لسرعة ما يجزى فيها، أو لأنها عند الله على بعدها كساعة من الساعات عند الخلق أَيَّانَ مُرْساها أي وقت إرسائها أي متى إثباتها والمعنى متى يرسيها الله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ولا نبي مرسل ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أي لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كل من أهلهما من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ويتمنى أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه، أو ثقلت فيهما لأن أهلهما يخافون شدائدها، وأهوالها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة على غفلة منكم يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرر (يسألونك وعلمها

[سورة الأعراف (7): آية 188]

عند الله) للتأكيد ولزيادة: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهذا أصل في تكرير العلماء في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة، ومعنى (كأنك حفي عنها) أي كأنك مبالغ في السؤال عنها لأن من بالغ في المسألة عن الشئ أو التنفير عنه استحكم علمه فيه، وأصل هذا التركيب المبالغة. ومنه إحفاء الشارب. والمعنى الدقيق يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها. وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتكلف وهو في ذروة الأدب مع الله في شئ لا يعلمه إلا الله، واقتضت حكمته ألا يطلع عليه أحدا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه المختص بالعلم بها قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ هذا أمر لرسول الله أن يظهر العبودية والبراءة عن دعوى ما يختص بالذات الإلهية من علم الغيب. والمعنى قل أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء الله مالكي من النفع لي والدفع عني وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي المستقبل لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شئ منها، ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب، ولأعددت من الخصب إلى الجدب وأمثال ذلك إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي إن أنا إلا عبد أرسلت نذيرا وبشيرا وما من شأني أن أعلم الغيب فأنا بشير ونذير لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم وحدهم تنفع فيهم النذارة والبشارة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي نفس آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليطمئن ويميل لأن الجنس إلى الجنس أميل خصوصا إذا كان بعضا منه، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من الكرب والأذى ولم تستثقله كما يستثقلنه فَمَرَّتْ بِهِ أي فمضت به واستمرت إلى وقت ميلاده من غير نقصان ولا إجهاض. ويمكن أن يكون المراد بالحمل الخفيف النطفة، وبمرورها به قيامها وقعودها فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي فلما حان وقت ثقل حملها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أي دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي لئن وهبت لنا ولدا سويا قد صلح بدنه، أو ولدا ذكرا، أو ولدا متصفا بصفة الصلاح لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك نحن وهو ومن يتناسل من ذرياتنا فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أي أعطاهما ما طلباه من الولد الصالح السوي جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ الكلام هنا انتقل عن آدم وزوجه إلى ذريتهما رجلا وامرأة والمعنى

[سورة الأعراف (7): آية 191]

جعل أولادهما له شركاء فِيما آتاهُما أي فيما آتى أولادهما، وآدم وحواء بريئان من الشرك، وهذا المكان من القرآن مما تدور حول تفسيره معارك كلامية كثيرة وللكلام تتمة، ويمكن أن يكون الخطاب من ابتداء الآية لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصي، أي هو الذي خلقكم من نفس واحدة قصي، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة: بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد الدار فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أن تعاظم وتنزه أن يكون له شريك أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً كالأصنام والطبيعة أو أجزائها وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي هذه الآلهة المزعومة هي نفسها مخلوقة. والمعنى أيشركون ما لا يقدر على خلق شئ وهم يخلقون لأن الله خالقهم. أو أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم مخلوقو الله فليعبدوا خالقهم، أو أيشركون ما لا يخلق شيئا، والجميع من عابدين ومعبودين مخلوقون لله فأين عقولهم؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي لعبدتهم وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما ينوبها من الحوادث كالكسر وغيره، بل عبدتهم الذين يدفعون عنهم وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أي وإن تدعوا هذه الأصنام إِلَى الْهُدى أي إلى ما هو هدى ورشاد، أو إلى أن يهدوكم أي وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى لا يَتَّبِعُوكُمْ أي إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ عن دعائهم، فدعوتكم وصمتكم سواء في أنه لا فلاح معهم ولا يجيبونكم. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي مخلوقون مملوكون أمثالكم فَادْعُوهُمْ لجلب نفع أو دفع ضر فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي فليجيبوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في زعمكم أنهم آلهة، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم فضلا عن أن يكونوا آلهة فقال أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أي مثل مشيكم أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أي يتناولون بها مثل تناولكم أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها مثل إبصاركم أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها مثل سمعكم فلم تعبدون ما هو دونكم قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي واستعينوا بهم في عدواني فإني لا أبالي بكم ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي ابذلوا جهدكم في الكيد لي أنتم وشركاؤكم جميعا دون أن تعطوني أي مهلة إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي إن ناصري عليكم هو الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي الذي أوحى إلي وأعزني برسالته وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي ومن سنته أن ينصر الصالحين من عبادة ولا يخذلهم وَالَّذِينَ تَدْعُونَ

[سورة الأعراف (7): آية 198]

مِنْ دُونِهِ أي والذين تعبدون من دون الله لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا أي لا نصرة عندهم لا لأنفسهم ولا لعبادهم ولا استجابة لهدى، لأنهم لا عقل عندهم ولا حياة وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي وترى هذه الأصنام ناظرة إليك أي يشبهون من ينظر لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من يحدد نظره إلى الشئ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي المرئيات خُذِ الْعَفْوَ أي ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم، أو ضم العفو كله إليك، وأنفق منه على الناس بالعفو عنهم وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف والجميل من الأفعال. أو وأمر بكل فعلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي وإما ينخسنك منه نخس أي فإن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به فالنزغ النخس كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي، ويدخل في نزغ الشيطان اعتراء الغضب فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فاستجر به بذكر الاستعاذة إِنَّهُ سَمِيعٌ لنزغه عَلِيمٌ بدفعه فإذا التجأت إليه فاستعذت علم ذلك وفعل كرما منه واستجاب إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي لمسة ووسوسة تَذَكَّرُوا ما أمر الله به ونهى عنه فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ أي فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته. بأن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإن الشياطين يمدونهم في الغي أي يكونون مددا لهم فيه ويعضونهم، وجاز أن يكون المراد والشياطين يمدون الجاهلين ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي ثم لا يمسكون عن إغوائهم ليصروا ولا يرجعوا وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من الآيات التي يقترحونها قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي لولا اجتمعتها أي اختلقتها كما اختلقت ما قبلها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فأنا متبع ولست متكلفا ولا أقترح على ربي شيئا هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي هذا القرآن دلائل وآيات تبصركم وجوه الحق وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي بهذا القرآن وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وذهب بعضهم أن المعنى أنه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له، وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على أنه في استماع المؤتم في الصلاة، وحملها بعضهم على استماع خطبة الجمعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي من أجل أن تنالكم الرحمة وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ هو عام في

[سورة الأعراف (7): آية 206]

الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي ومتكلما كلاما دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي بالصباح والمساء لفضل هذين الوقتين. ومعنى بالغدو أي بأوقات الغدو وهو الصباح، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشي وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ أي من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يتعظمون عنها وَيُسَبِّحُونَهُ أي وينزهونه عما لا يليق به وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره. نقول: 1 - بمناسبة قوله تعالى هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قال صاحب الظلال: «إنه هذا القرآن .. بصائر تهدي، ورحمة تفيض .. لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم .. إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب- في جاهليتهم- يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة. إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه .. من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان .. لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان. فهذا جانبه التعبيري .. ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه- بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني، ويتفاخرون به في أسواقهم! - ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزا لا يتطاول إليه أحد من البشر. تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائما. والذين يزاولون فن التعبير من البشر، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز .. سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون .. فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس

موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون .. وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن- في جاهليتهم- ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم. وهم جاحدون كارهون- كذلك يجد اليوم وغدا كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون. ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد .. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة- متى خلي بينها وبينه لحظة- وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحيانا؛ وهم يستمعون إلى هذا القرآن. إن الذين يقولون كثيرون .. وقد يقولون كلاما يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكارا واتجاهات .. ولكن هذا القرآن يتفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب! .. ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم ويقولون لأنفسهم في الحقيقة .. لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .. لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل- مع ذلك كله- غلابا .. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحى ما عداها من قول البشر المحبر الذي تعب فيه القائلون. ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه .. وما تتسع صفحات عابرة- في ظلال القرآن- للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه .. فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد! وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟! منهج هذا القرآن العجيب، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود .. وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها، لا يدع جانبا واحدا منها لا يخاطبه في السياق الواحد. ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها؛ ولا يدع خاطرا فيها لا يجاوبه ولا يدع هاتفا فيها لا يلبيه. منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه وعقله بالتسليم المطلق. والتجاوب الحي والرؤية الواضحة. وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة. منهج هذا القرآن العجيب، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، ويصعد بها- في هينة ورفق، وفي حيوية كذلك وحرارة،

وفي وضوح وعلى بصيرة- درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة .. في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة ... إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة. منهج هذا القرآن العجيب، وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة، أو أن يكون هذا وتر استجابة فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب. ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق وهو أقرب إليه من حبل الوريد. ذلك المنهج؟ .. أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئا .. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً .. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ. إن الذي يكتب هذه الكلمات، قضى .. - ولله الحمد والمنة- في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاما. يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب. في شتى حقول المعرفة الإنسانية- ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه- ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب .. ويرى .. يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن؛ وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة، وتلك النقرة الصغيرة .. وتلك المستنقعات الآسنة أيضا: في النظرة الكلية في هذا الوجود، وطبيعته، وحقيقته، وجوانبه، وأصله، ونشأته، وما وراءه من أسرار؛ وما في كيانه من خبايا ومكنونات، وما يضمه من أحياء وأشياء .. الموضوعات التي تطرق جوانب منها «فلسفة» البشر. في النظرة الكلية إلى «الإنسان» ونفسه، وأصله، ونشأته، ومكنونات طاقته، ومجالات نشاطه، وطبيعة تركيبه، وانفعالاته، واستجاباته، وأحواله، وأسراره،. الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع والعقائد والأديان. في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية وجوانب النشاط الواقعي فيها، ومجالات الارتباط والاحتكاك، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات، الموضوعات التي تطرق

جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها، فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة. إننى لم أجد نفسي مرة واحدة- في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية- في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن. فيما عدا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو من آثار هذا القرآن- بل إن أي قول آخر ليبدو هزيلا- حتى لو كان صحيحا- إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب. إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات؛ والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات .. وما بي أن أثني على هذا الكتاب .. ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعا ليضيفوا إلى كتاب الله شيئا بما يملكون من هذا الثناء. لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد .. جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية- لا من قبل ولا من بعد- جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممجد، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن. لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ- بمشيئة الله وقدره- هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر. وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعا .. وهي معجزة واقعة مشهودة .. أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة. ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام، تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه وتوجيهاته وإيحاءاته كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية. حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية، التي تفوقه في الامكانيات المادية- بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة- ولكنها لا تطاوله في «الحضارة الإنسانية». إن الناس اليوم،- في الجاهلية الحديثة- يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا

القرآن! .. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة وجهالتهم العميقة- كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك- دون رؤية الخارقة الهائلة في هذا الكتاب العجيب! .. فأما أهل الجاهلية الحاضرة فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور «العلم البشري» الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة. وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل. وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب وتجدد الحاجات- وتعقدها كذلك- كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرنا من الحقد اليهودي، والصليبي، الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم وعن محاولة إلهاء أهله عنه وإبعادهم عن توجيهه المباشر بعد ما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة: أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب عكوف الجيل الأول لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته، هو كيد مطرد مصر لئيم خبيث .. ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين- وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان، للتعفية على آثار هذا الدين ولتدارس قرآن غير قرآنه يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشئون!!!. إنه هذا القرآن الذى يجهله أهله اليوم لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم بعد ما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم ومن الجهل المزري ومن التعالم المغرور ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث. إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. بصائر تكشف وتنير وهدى يرشد ويهدي ورحمة تغمر وتفيض لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم». 2 - .. وبمناسبة قوله تعالى وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ

تُرْحَمُونَ. قال الألوسي وهو من الحنفية: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية؛ لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها؛ وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه يقرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم. والبيهقي في سننه عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنزلت وإذا قرئ القرآن الخ. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناسا يقرءون خلفه فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا، أما آن لكم أن تعقلوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كما أمركم الله تعالى. وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: لا قراءة خلف الإمام. وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بقراءة» على طريقة الخصم مطلقا فيخرج المقتدي، وعلى طريقتنا أيضا، لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعا فجاز التخصيص بعده بالمقتدي بالحديث المذكور، وكذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام للمسيئ صلاته: «فكبر ثم اقرأ ما معك من القرآن» على غير حالة الاقتداء جمعا بين الأدلة، بل قد يقال: إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعا فإن قراءة الإمام قراءة له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع. بقي الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعا عن جابر رضي الله عنه، عنه عليه الصلاة والسلام وقد ضعف. واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني. والبيهقي. وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفاظ كالسفيانين. وأبي الأحوص وشعبة. وإسرائيل. وشريك. وجرير. وأبي الزبير. وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما يرجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا، وعلى تقدير التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح.

روى محمد بن الحسن في موطئه قال: أنبأنا أبو حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة». وقولهم: إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح. فقد قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة». ثم قال: وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم- فذكره ولم يذكر جابرا- ورواه عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان وشريك. وجرير. وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر ابن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى ذكرا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» وفي رواية لأبي حنيفة: «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر فأومأ إليه رجل فنهاه فلما انصرف قال: أتنهاني الحديث. نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض بما روي في بعض روايات حديث «ما لي أنازع في القرآن» أنه قال: أنه لا بد ففي الفاتحة، وكذا ما رواه أبو داود. والترمذي عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم هذا، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها؛ ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض

فوائد

ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى أنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه، على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت وابن مسعود. وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله عنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص وروي عن علي كرم الله وجهه إلا أن فيه مقالا أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم، وإلا ففيه نظر وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضا.». أقول: نقلت هذا النقل الطويل في مناقشة هذا الموضوع الفرعي من باب التعريف على مناقشات الفقهاء ومن باب التعويد على أسلوبهم. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قال النسفي: (ولا تنافي بين هذا وبين قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لأنه إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده، وأما من علم أنه يكفر به فإنما خلقه لما علم أنه يكون منه فالحاصل أن من علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة. ومن علم منه أنه يكون منه الكفر خلقه لذلك. وبمناسبة هذه الآية يقول ابن كثير: فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق على ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء». وفي صحيح مسلم أيضا .. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله

طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو غير ذلك يا عائشة. إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم». وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود: «ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد». وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال: «هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي». والأحاديث في هذا كثيرة ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها. أقول: إن قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الآية التي بعد الآية السابقة هي التي تبين الحكمة من الآية السابقة عليها وذلك أن مظاهر الكون بما فيه هي التي تدل على أسماء الله الحسنى، وأسماؤه تدل على صفاته ثم على ذاته، وكون الكون فيه ذنب وفيه خطيئة وفيه كفر وفيه وفيه. فإنه بذلك تعرف أسماء الله، ويعرف الله، فمن أين يعرف أن الله صبور لولا كفر الكافرين؟ ومن أين يعلم أنه غفور لولا توبة التائبين؟ وهكذا فخلق الخلق على ما هم عليه، به نتعرف على ذاته حق المعرفة ومن عرف الله حق المعرفة عبده حق العبادة على أن وجود الكفر والذنب من الخلق باختيارهم وكون الله أراده وأبرزه بقدرته، فليس ذلك ظلما لهم ينفي اختيارهم بل إنه علم ما هم فاعلون فأراده فأبرزه. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ننقل ما يلي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما. مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» أخرجاه في الصحيحين وأخرجه الترمذي في جامعه. وزاد بعد قوله: «يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، العليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق،

الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، الغفور، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور». ثم قال الترمذي هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء. إلا في هذا الحديث. والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسع وتسعين، بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده .. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا» فقيل يا رسول الله أفلا نتعلمها؟ فقال: «بل ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها». وذكر الفقيه الإمام أبو بكر ابن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم فالله أعلم. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ يقول ابن كثير: وقد جاء في الآثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية هي هذه الأمة المحمدية، قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل». وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة» وفي رواية «حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك». وفي رواية «بالشام». وبهذه المناسبة أقول: إن من اجتمع له الدعوة إلى الله ودينه، وإذا حكم في أمر

صغيرا كان أو كبيرا في القضايا العادية وغير العادية في أهله وأولاده وجيرانه وأسرته حكم بالعدل الذي هو حكم الله دون تحيز فذلك من هذه الأمة فلنحرص على ذلك. 4 - وفي سبب نزول قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يقول قتادة بن دعامة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الصفا فدعا قريشا فجعل يفخذهم فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان فحذرهم بأس الله ووقائع الله فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا المجنون بات يصوت إلى الصباح- أو حتى أصبح- فأنزل الله تعالى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. 5 - وبمناسبة قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ نقول: إن رسولنا عليه الصلاة والسلام كان يسأل عن الساعة من كافر ومؤمن وكان إذا سأله المؤمنون عن ذلك ينفي علمه أو يلفت نظر السائل إلى ساعته أي موته، أو موت جيله. ويروي ابن كثير بمناسبة هذه الآية أحاديث كثيرة ويعلق على بعضها فلننقل من كلامه بما يتفق مع عادتنا فى التصرف ضمن ما لا يخل بالمعني: روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون. فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها». ولما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد وسأله عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ثم قال: فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل». أي لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. الآية. وفي رواية: فسأله عن أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة، ثم قال: «في خمسة لا يعلمهن إلا الله» وقرأ هذه الآية، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب صدقت. ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم». وفى رواية قال: «وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه». ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال يا محمد. قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم «هاؤم» على نحو من صوته قال: يا محمد متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب» فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث. ففي هذا الحديث أنه عليه الصلاة السلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم، وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله، وإن لم يعرفوا تعيين وقته ولهذا قال مسلم في صحيحة وحدثنا .... عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول: «إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم». يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة. وروى ابن جريج ما رواه مسلم .... أن جابر بن عبد الله سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: «تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة عام». وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله. قال ابن عمر: وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة» قال فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى. فقال عيسى: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عزّ وجل، وفيما عهد إلي ربي عزّ وجل أن الدجال خارج. وقال. فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال فيهلكه الله عزّ وجل إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله. قال: «فيهلكهم الله عزّ وجل ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم. قال: فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. فيطئون بلادهم لا يأتون على شئ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه. قال: ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عزّ وجل فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم (أي تنتن) قال: فينزل الله عزّ وجل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ثم قال: ففيما عهد إلي ربي عزّ وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلا أو نهارا، فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام فتكلم على أشراطها لأنه

ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتل المسيح الدجال ويجعل الله هلاك يأجوج ببركة دعائه، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به، وروى الإمام أحمد ... عن حذيفة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: «علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو، ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها: إن بين يديها فتنة وهرجا» قالوا يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما الهرج؟ قال: «بلسان الحبشة القتل» قال «ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدا». وروى وكيع بإسناد جيد قوي .... عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر «من شأن الساعة حتى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قال ابن كثير: فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه، نبي الرحمة، ونبي التوبة ونبي الملحمة، والعاقب والمقفي والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما «بعثت أنا والساعة كهاتين» وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها، ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها، فقال: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. 6 - وبمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ..... يرد ابن كثير كل اتجاه يزعم أن الشرك قد وقع من آدم عليه السلام وزوجه لأن ذلك يتنافى مع العصمة، ويعتبر أن كل ما ورد في ذلك- حتى مما ظنه الناس حديثا إنما هو مروي عن أهل الكتاب، ويطعن في صحة الحديث المروي في ذلك ثم يقول كلاما من أنفس الكلام ينتظم مجموعة موضوعات كلها نفيس منها الموقف من روايات أهل الكتاب وهذا هو كلامه. قال: (وهذه الآثار يظهر عليها- والله أعلم- أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»، ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام: فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله، ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله: «فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم». وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر. فأما من حدث به

من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد في هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد في ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال الله فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم قال: فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس كقوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ الآية، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها، وإنما استطرد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن. والله أعلم). ونقول تعليقا على الجزء من كلام ابن كثير الذي له علاقة في الإسرائيليات: أن ما ذكره يدل على جواز دراسة كتبهم لنقدها، من قبل من عنده علم يميز بين ما هو حق وما هو باطل وما هو محتمل، كما جاز النقل عن كتبهم مع البيان وهذا الذي درجنا عليه في هذا الكتاب. 7 - وبمناسبة قوله تعالى عن الأصنام وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يذكر ابن كثير هذه القصة (وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما- وكانا شابين، قد أسلما- لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح- وكان سيدا في قومه- صنم يعبده ويطيبه فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجئ عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر. ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك. فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل وقال: تالله لو كنت إلها مستدن … لم تك والكلب جميعا في قرن ثم أسلم فحسن إسلامه وقتل يوم أحد شهيدا رضى الله عنه وأرضاه وجعل جنة الفردوس مأواه. 8 - وبمناسبة قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ نذكر هذه الروايات. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة عن أبي قال: لما أنزل الله عزّ وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا جبريل؟» قال: «إن الله أمرك أن تعفو عمن

ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا. كما روي له شواهد من وجوه أخر، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد ابن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد ... عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته، فأخذت بيده. فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: «يا عقبة صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك» وروى الترمذي نحوه وقال حسن صحيح. وروى البخاري ... أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس- وكان من النفر الذين يدنيهم عمر- وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر. فلما دخل عليه، قال هي يا ابن الخطاب فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وإن هذا من الجاهلين. والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عزّ وجل. وقال بعض العلماء: الناس رجلان، فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وإما سيئ فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده. 9 - بمناسبة قوله تعالى وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ... يلاحظ ابن كثير أنه ما من مرة ورد الأمر بالاستعاذة من شيطان الجن إلا وكان في سياقها الإرشاد، إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف أي بالتي هي أحسن، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى. ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجن فإنه لا يكفه عنك الإحسان وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية؛ فإنه عدو لك ولأبيك من قبلك. ويذكر ابن كثير بهذه المناسبة ما ذكره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: لما نزلت خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال يا رب كيف بالغضب فأنزل الله وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ثم ذكر حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقيل له فقال: ما بي من جنون.

10 - وبمناسبة قوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا .. أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها طيف، فقالت يا رسول ادع الله أن يشفيني فقال: «إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك» فقالت بل أصبر ولا حساب علي. ورواه غير واحد من أهل السنن. وعندهم قالت: يا رسول الله إني أصرع وأتكشف فادع الله أن يشفيني فقال: «إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت صبرت ولك الجنة» فقالت: بل أصبر ولي الجنة. ولكن ادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها فكانت لا تتكشف. وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شابا كان يتعبد في المسجد فهويته امرأة فدعته إلى نفسها فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل فذكر هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فخر مغشيا عليه ثم أفاق فأعادها فمات، فجاء عمرو فعزى فيه أباه وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ثم ناداه عمرو فقال يا فتى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فأجابه الفتى من داخل القبر يا عمرو قد أعطانيهما ربي عزّ وجل في الجنة مرتين.» ذكر هذه القصة ابن كثير فإن صحت فهي كرامة لعمرو أن يسمع صوت ميت 11 - وعند قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يدور نقاش كثير بين العلماء حول ما نصت عليه، إذ استدل بها الحنفية على ما ذهبوا إليه أنه يكره للمأموم أن يقرأ وراء الإمام مطلقا. واستدل من ذهب إلى أن المأموم لا يقرأ وراء الإمام في الجهرية ويقرأ في السرية. وقد عرض ابن كثير وهو شافعي المذهب هذه الاتجاهات وغيرها في فهم الآية وأشعر بما يفيد أنه يرجح مذهب الشافعية في هذا الموضوع ولكل من الأئمة وجهة نظره التي تقوم عليها الأدلة، والأمر فيه سعة، وهذا كلام ابن كثير وهو شافعي ننقله مع حذف الأسانيد وكنا من قبل نقلنا كلام الألوسي من الحنفية: (لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاما له واحتراما، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الآية ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا اقرأ

فأنصتوا» وكذا رواه أهل السنن. وروى إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة فلما نزلت هذه الآية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا والآية الأخرى أمروا بالإنصات. وروى ابن جرير ... أن ابن مسعود قال: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فجاء القرآن وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وروى ابن جرير أيضا ... عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود فسمع ناسا يقرءون مع الإمام، فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا، أما آن لكم أن تعقلوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كما أمركم الله. وروى أيضا ... عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه فنزلت وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن ... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من «صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟» قال رجل نعم يا رسول الله. قال: «إني أقول ما لي أنازع القرآن» قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي هذا حديث حسن وصححه أبو حاتم الرازي وروى عبد الله بن المبارك .... عن الزهري قال: لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام، تكفيهم قراءة الإمام، وإن لم يسمعهم صوته ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سرا في أنفسهم، ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرا ولا علانية فإن الله تعالى قال وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قلت:- القائل ابن كثير- هذا مذهب طائفة من العلماء، أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر به الإمام الفاتحة ولا غيرها. وهو أحد قولي الشافعى، وهو القديم كمذهب مالك ورواية عن أحمد بن حنبل كما ذكرناه من الأدلة المتقدمة. وقال في الجديد: يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا الجهرية بما ورد في الحديث: «من كان له إمام فقراءته قراءة له» وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعا، وهو في موطأ مالك عن جابر موقوفا، وهذا أصح. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفا على حدة واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضا والله أعلم. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قوله

وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا يعني في الصلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد الله بن المفضل. وروى ابن جرير .... عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقص. فقلت ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما، قال: فأعدت الثالثة. قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. وكذا روى سفيان الثوري ... عن مجاهد في قوله وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال: في الصلاة. وكذا رواه غير واحد عن مجاهد، وروى عبد الرزاق ... عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم. وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بذلك في الصلاة، وروى شعبة ... أن مجاهدا كان يقول في هذه الآية وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء مثله، وروى هشيم ... عن الحسن قال: في الصلاة وعند الذكر، وروى ابن المبارك ... أن سعيد بن جبير كان يقول في قوله وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال: الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة. وهذا اختيار ابن جرير أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة كما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة. وروى عبد الرزاق ... عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا. قال: السكوت. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن: إذا جلست إلى القرآن فأنصت له. وروى الإمام أحمد .... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة». 12 - ومن كلام ابن كثير عند الآية قبل الأخيرة في هذه السورة وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً .... وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء وجهرا بليغا، لهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عزّ وجل وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم

كلمة في سياق هذا القسم

لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به، فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم وليتخذ بين الجهر والإسرار، وكذا قال في هذه الآية الكريمة وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ثم قال ابن كثير في تبيان المراد من الآية: بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال؛ لئلا يكونوا من الغافلين. ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون. فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ الآية، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله عزّ وجل كما جاء في الحديث: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف» وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع، وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن. كلمة في سياق هذا القسم: اتضح لنا من خلال عرض المعنى العام ارتباط هذا القسم ببقية السورة في سياقها الخاص وضمن محورها العام والشئ الذي يمكن أن نذكره هنا. هو أن هذا القسم وضح أن موضوع الهداية والضلال مرتبط بمشيئة الله، فالضلال بإرادته والهداية بإرادته. غير إن للهداية سننا وللضلال سننا. فنقطة البداية في الضلال ترك النظر والتدبر والتفكر والاعتبار والإعراض عن الاستماع للحق والخير. وأن الشرك هو مرتكز الضلال. وأن منطلقات الهداية معرفة الله بأسمائه الحسنى والإعراض عن الكافرين به، والتوكل عليه، والتخلق بمكارم الأخلاق والالتجاء إليه، والفرار إليه من كيد الشيطان والإنصات إلى كتابه، وكثرة ذكره وعبادته. كما أن القسم بين أنه لا حجة لكفر كما لا حجة لشرك، بل الحجة قائمة على الكافرين بأنواعهم. كما أن القسم أعطانا نموذجا على أنواع من الضلال والضالين. وعرفنا على أن الهدى

كلمة في سورة الأعراف

مستقر في الفطرة وأن رسالة الرسل مستجمعة لأسباب الهدى مع ما أودعه الله عزّ وجل في أصل الفطرة وهكذا انطلقت سورة الأعراف آمرة باتباع الكتاب، ووصلت إلى أن بينت أن هذا هو أصل الفطرة، ودلتنا على البدايات والنهايات في السير إلى الله. كلمة في سورة الأعراف: رأينا أن محور سورة الأعراف هو قوله تعالى في سورة البقرة: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وقد رأينا أن سورة الأعراف تفصيل لهذا المحور: فقد جاءت السورة مفصلة للأمر من بدايته. ضاربة في أعماق التاريخ حتى الرسالة الخاتمة. عارضة أصل المسألة وقاعدتها بداية القصة والتعليقات عليها، والتطبيقات لها، والنماذج عليها حتى أوصلت إلى الرسالة الخاتمة، فحذرت وأنذرت، ثم قبحت الغفلة وأهلها، وأقامت الحجة على المعرضين. وحددت معالم الطريق لأهل الهداية. والآية اللاحقة فيها تكمل السابقة، وجميع الآيات تبني صرح اليقين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه، واتباع الهدى المنزل عليه، واتباع دعوته ودينه وشريعته. ولنلاحظ الصلات ما بين أول السورة وخاتمها: في أول السورة كلام عن اتباع القرآن والتحذير من الشيطان، ووصف ملائكة الرحمن بالطاعة المطلقة. وفي آخر السورة أمر بالاستماع للقرآن، وأمر بالاستعاذة من الشيطان، وثناء على ملائكة الرحمن لترتفع الهمم للعودة إلى الجنان، فيا رب العرش العظيم: أكرمنا بالفردوس الأعلى، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ***

سورتا الأنفال وبراءة

سورتا الأنفال وبراءة وهما السورتان الثامنة والتاسعة بحسب رسم القرآن وهما بمثابة السورة الواحدة ولذلك فقد اعتبرهما بعضهم أنهما السورة السابعة من قسم السبع الطوال

كلمة في محل السورتين ضمن السياق القرآني العام

كلمة في محل السورتين ضمن السياق القرآني العام تحدث الألوسي عن وجه مناسبة سورة الأنفال للأعراف فقال: «ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها «وأمر بالعرف» وفي هذه كثير من أفراد المأمور به، وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، وفي هذه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم، وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وبين جل شأنه فيما تقدم أن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له، والأمر بذكره تعالى، وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته، وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عزّ من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إلى غير ذلك من المناسبات، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات). وتحدث الألوسي كذلك عن وجه مناسبة سورة [براءة] للأنفال فقال: (ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف- على ما علمت- وفي هذه قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف- على ما ستعلم إن شاء الله تعالى- وفي الأولى أيضا ذكر العهود، وهنا نبذها، وأنه تعالى أمر في الأولى بالإعداد فقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله عزّ وجل: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً. وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة). وقال الألوسي: في الأنفال وبراءة: «وعن قتادة، وغيره أنها (سورة التوبة) مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة وقيل: في وجه عدم كتابتها أن

الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة، ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان، ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما رواه أبو الشيخ. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن علي كرم الله وجهه من أن البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ومثله عن محمد بن الحنفية وسفيان بن عيينة، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر.» أقول: إن الأنفال وبراءة سورتان ولكنهما في حكم السورة الواحدة، فالأنفال تفصيل لفرضية القتال وما يحيط به، والثانية هي منشور القتال في الإسلام. فبعد إذ تستقر أحكام القتال ولوازمه وأسبابه وما يترتب عليه وما يحتاجه في سورة الأنفال، تأتي سورة التوبة وكأنها منشور مبني علي ذلك. وقد لاحظنا من خلال كلام الألوسي عن وجه مناسبة سورة الأنفال والأعراف، وعن وجه سورة براءة للأنفال أنه نظر إلى الصلة بين السور من خلال ما عبر عنه في عصرنا بالوحدة الموضوعية للقرآن، فقد رأى أن مواضيع طرقتها السورة السابقة أكملتها السورة اللاحقة. ونحن نضيف إلى ذلك ما له صلة بما فتح الله به من نظريتنا في الوحدة القرآنية. فنقول عارضين الأمر من بدايته: رأينا أن سورة آل عمران كانت تفصيلا لمقدمة سورة البقرة. أي للعشرين آية الأولى فيها، وأن سور: النساء والمائدة والأنعام كانت تفصيلا للتسع الآيات التالية. وأن سورة الأعراف كانت تفصيلا للقاعدة التي استقرت عليها قصة آدم التي جاءت في سورة البقرة بعد الآيات التسع السابقة، ثم نجد في سورتي الأنفال وبراءة تفصيلا لموضوع طرقته سورة البقرة في آياتها (216) - (217) - (218). فكأن ما بين ذلك كان تفصيلا يقتضيه سياق سورة البقرة، وكأنه امتداد لمعاني الآيات التي جاءت من قبل، ففصلت في السور السابقة، ولم تعد تحتاج إلى تفصيل في القسم الأول من أقسام القرآن، ومثل ذلك الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات الثلاث، ولذلك فبانتهاء سورتي الأنفال وبراءة يأتي القسم الثاني من أقسام القرآن ليفصل ما أجمل في سورة البقرة تفصيلا جديدا، على نفس النسق والتسلسل الوارد في سورة البقرة، مما يدل على

أن ما يأتي ثانيا مبني على ما جاء أولا، وما يأتي ثالثا مبني على ما ورد ثانيا، كما يدل على أهمية التفصيل المتجدد والجديد. والمهم أن نعرف هنا أن التفصيل الأول لسورة البقرة يتم بانتهاء سورتي الأنفال وبراءة. في عصرنا هذا تعتمد الدول ذات العقائد الخاصة نظرية غسيل المخ، وتعتمد وسائل التربية ومدارسها فكرة الإجمال، ثم التفصيل، وتقديم البدهيات على غيرها، والتدرج في التربية والتعليم، وكلها معان أوصلت إليها التجربة والاستقراء، فإن تجد القرآن يصنع النفس البشرية بالحق، من خلال البناء المتدرج تدرك شيئا من عظمة هذا القرآن، وشيئا من كماله وإعجازه. في الدول الديكتاتورية ذات العقائد الخاصة تقوم عملية غسيل المخ على وضع الإنسان أو الشعب في ظروف صعبة تجعل عنده استعدادا لتقبل ما يلقى إليه، ثم تبدأ عملية الإلقاء المتكرر المتجدد، حتى تصاغ نفسية الفرد أو الشعب بالشكل الذي يريده الحاكم، وفي نظم التربية المعاصرة ينقل الإنسان من طور إلى طور أوسع منه حتى يكمل وفي الصورة الأولى تجد باطلا بربى عليه الإنسان، وفي الصورة الثانية نجد خطأ أو قصورا في تربية الإنسان، والقرآن وضع الإنسان في الظرف الذي ينبغي أن يكون فيه، ظرف العبودية لله، ثم أجمل وفصل وعرض الموضوع الواحد على طرائق شتى من العرض، وكرر الموضوع الواحد بشكل متجدد، وكل ذلك بما لا يشبه شيئا مما ألفه الناس وعرفوه، وكل ذلك بمستوى رفيع من البيان والإحاطة، فإذا ما وسع هذا القرآن مع هذا كل شئ. وإذا كان كل شئ فيه حقا، فإن هذا كله يدلنا على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كما هو عليه إلا إذا كان منزله رب السموات والأرض ومن فيهن. *** إن سورتي الأنفال وبراءة تكملان بعضهما، ومن ثم نلاحظ أنه لم يفصل الصحابة بين السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم. والسورتان موضوعهما القتال والجهاد وما يتعلق به. وسنرى بأكثر من دليل أنهما تفصيل للآيات الثلاثة التي ذكرنا أرقامها من سورة البقرة. فلنر الآيات الثلاثة:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فههنا أمر بالقتال وإعلام بفرضيته وسؤال عن حالة من حالاته، ثم تقرير لما يرجو أهله من مغفرة الله ورحمته. الآية الأولى: كُتِبَ .... الآية الثانية: يَسْئَلُونَكَ ... الآية الثالثة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا ... ولا شك أن فرضية القتال ترتبط بها موضوعات متعددة، منها النفسي، ومنها المادي، ومنها غير ذلك، ومن ثم نلاحظ أن سورة الأنفال تبدأ ب يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... تبدأ بنفس الكلمة التي صدرت بها الآية التي جاءت بعد آية القتال مباشرة من سورة البقرة، ثم تستمر سورة الأنفال في تفصيل قضايا متعلقة بالقتال، ثم تأتي سورة براءة في نفس الاتجاه، وعلى نفس المحور، فهما تفصيل لهذا الجزء من سورة البقرة، ولكنه ليس تفصيل المناطقة، ولا تفصيل القانونيين، ولا تفصيل الشعراء، وإنما تفصيل العليم الخبير المحيط علما بكل شئ، يفصل ما يحتاج إلى تفصيل بما يستوعب التربية والتشريع والتعليم، وحالات النفس وحاجاتها، وغير ذلك، مما لا يحيط به إلا الله. وسنحاول أثناء عرض السورتين أن نبرهن على أن السورتين تفصيل للآيات الثلاثة التي ذكرناها ولكنا هنا نكتفي بإشارات سريعة: أول الآيات الثلاث هي قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وبعد مقدمة سورة الأنفال مباشرة يأتي قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ

بِالْحَقِّ .. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ لاحظ الصلة بين قوله تعالى وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وبين قوله تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. ويأتي في الآيات الثلاث قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وفي وسط سورة الأنفال يأتي قوله تعالى. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لاحظ كلمة الفتنة في الآيتين ثم إن الآية الثانية تبدأ بكلمة «يسألونك» وسورة الأنفال تبدأ بكلمة «يسألونك». وثالث الآيات في سورة البقرة هي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وآخر صفحة في سورة الأنفال تبدأ بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ... والآيتان الأخيرتان في السورة هما: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ألا ترى أن سورة الأنفال تفصيل للآيات الثلاث بشكل واضح وبعد أن تفصل سورة الأنفال الآيات الثلاث، وموضوعات القتال وما يحيط به، تأتي سورة براءة كمنشور قتال، وإن على كل مسلم أن يعرف سورة الأنفال لمعرفة فرضية القتال وأن يعرف سورة براءة لاستيعاب منشور القتال ولإدراك الصلة بين سورة براءة والآيات الثلاث التي ذكرناها يكفي: أن نذكر أن في الآيات الثلاث يرد قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وفي سورة براءة يرد قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ وفى الآيات الثلاث يرد قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ وفي سورة براءة يرد قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وفي الآيات الثلاث يرد قوله تعالى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفي سورة براءة يرد قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...

إن هذه الاختيارات كافية للإشارة إلى ما ذكرنا من كون سورتي الأنفال وبراءة تفصيلا للآيات الثلاث من سورة البقرة، وسيأتي مزيد بيان أثناء عرضنا للسورتين. إن هذا القرآن يتألف من أربعة أقسام- كما نص على ذلك الحديث- والقسم الأول ينتهي بنهاية سورة براءة، وإن كل سورة جاءت بعد سورة البقرة لها محورها في سورة البقرة، وهي إذ تفصل في هذا المحور، تفصل فيه، وفي امتداداته، وفي ارتباطاته، وهكذا فإن كل سورة من السور السبع التي جاءت بعد سورة البقرة من هذا القسم فصلت في أكثر من المحور، فكأن كل محور جذب إليه المعاني الأكثر لصوقا، ثم جاءت سورة تفصل في ذلك كله، وبهذا الذي قلناه ندرك لم كان تباعد بين محور سورتي الأنفال وبراءة، وبين محور سورة الأعراف، كما ندرك لم لم تأت سورة بعد براءة سور تفصل في محاور أخرى تأتي بعد الآيات الثلاث، وما ذلك- والله أعلم- إلا لأن معاني سورة البقرة قد فصلت التفصيل الأول في سور القسم، لأن كل سورة- كما قلنا- جذبت إلى محورها امتدادات هذا المحور وفصلت فيه وقد رأينا براهين ذلك، وهذه واحدة لا ينقضي منها العجب في شأن هذا القرآن ولكنها واحدة من كثير، إن قلبا لا يؤمن بهذا القرآن أعمى، وإن قلبا لا ينصت لهذا القرآن غافل، وإن قلبا لا يتدبر معاني هذا القرآن مريض، ولننتقل إلى عرض سورة الأنفال: ***

سورة الأنفال

سورة الأنفال وهي السورة الثامنة بحسب الرسم القرآني وهي مع سورة التوبة تعتبران السورة السابعة من قسم الطوال وآياتها خمس وسبعون وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

سورة الأنفال مدنية، آياتها خمس وسبعون، وكلماتها ألف وستمائة وإحدى وثلاثون كلمة، وحروفها خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا، وقد رأينا في الصفحات السابقة محل السورة في السياق القرآني العام ومحورها. وككل سورة في القرآن فإن لسورة الأنفال سياقها الخاص، ووحدتها الخاصة، زيادة على ارتباطها في السياق العام للقرآن، ولذلك فإننا نلاحظ أن مقدمة السورة تقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لاحظ قوله تعالى: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ثم تسير السورة لنرى في خاتمتها- وذلك قبل الآية الأخيرة- قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لاحظ كذلك قوله تعالى: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا من هذا وأمثاله ندرك وحدة السورة، وترابط آياتها، وترابط فقراتها ومقاطعها، وترابط مقدماتها مع خاتمتها، وهذا كله سيتضح لنا أثناء العرض. ولقد قدم صاحب الظلال لهذه السورة بعشرات الصفحات، ونجد أنفسنا أسرى كلماته ولذلك فسننقل مقتطفات من كلامه الذي قدم فيه لهذه السورة، مع نقل عنه من مكان آخر نرى أنه من المناسب أن ندخله في هذه المقتطفات: قال رحمه الله: «نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة .. نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهرا من الهجرة على الأرجح .. ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية. فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة، بل إن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد. وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين؛ وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة؛ تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين، وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي.» «هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى .. وغزوة بدر- بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة- تقوم معلما في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ.

وقد سمى الله سبحانه .. يومها يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ .. كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك، لا في هذه الأرض وحدها؛ ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها. فقال سبحانه: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها .. مِنْ غَمٍّ .. أُعِيدُوا فِيها، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ* وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ .. الحج (19 - 24) وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر .. يوم الفرقان .. لا في الدنيا وحدها ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها؛ ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل .. وتكفي هذه الشهادة من الجليل- سبحانه- لتصوير ذلك اليوم وتقديره .. «لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي فقد سبقتها عدة سرايا، لم يقع قتال إلا في واحدة منها، هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .. وكانت كلها تمشيا مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام .. نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمسلمين الكرام؛ ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام. ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي. إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله وبتقرير ألوهية الله في الأرض؛ وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس، وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده .. وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده؛ والدخول في سلطانه وحده. فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت، تمشيا مع خطته العامة؛ وانتصافا- في الوقت ذاته- من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام؛ ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان .. وإن كان ينبغي دائما ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر- ولا ننسى- طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه. وهي ألا يترك في الأرض طاغوتا يغتصب سلطان الله؛ ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال»

«في هذه الغزوة .. نزلت سورة الأنفال نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة، وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله؛ وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز.» أقول: وفي هذه الغزوة ينكشف للإنسان أن هناك قوانين وسننا أوسع مما يظنه الجاهلون وأن لله قدرا وأن لله تدبيرا فوق كل تدبير. يقول صاحب الظلال: «ولقد ظلت الجاهلية «العلمية» الحديثة تلج فيما تسميه «حتمية القوانين الطبيعية». وذلك لتنفي «قدر الله» وتنفي «غيب الله». حتى وقفت في النهاية- عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها- أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي! ولجأت إلى نظرية «الاحتمالات» في عالم المادة. فكل ما كان حتميا صار احتماليا. وبقي «الغيب» سرا محترما. وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة، وبقي قول الله- سبحانه- لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً هو القانون الحتمي الوحيد، الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون، بقدره النافذ الطليق. يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات. «لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا، وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وأن لا مناص من أن الحالة (ا) تتبعها الحالة (ب) .. أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن، هو أن الحالة (ا) يحتمل أن تتبعها الحالة (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر احتمالا من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالا من (د) وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و (ج) و (د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى. لأنه يتحدث دائما عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث، فأمره موكول إلى الأقدار، مهما تكن حقيقة هذه الأقدار». وقال صاحب الظلال: «ولأن المعركة- كل معركة- يخوضها المؤمنون .. من صنع الله وتدبيره. بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده. وقدره. له وفي سبيله. تتكرر الدعوة

في السورة إلى الثبات فيها، والمضي معها، والاستعداد لها، والاطمئنان إلى تولي الله فيها، والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد، والاستمساك بآدابها، وعدم الخروج لها بطرا ورئاء الناس. ويؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بتحريض المؤمنين عليها». «وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها. فلا تبقى الأوامر معلقة في الفراغ، وإنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق: «ا» في مسألة الأنفال يردون إلى تقوى الله، والوجل عند ذكره، وتعلق الإيمان بطاعة الله وطاعة رسوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. «ب» وفي خطة المعركة يردون إلى قدرة الله وتدبيره، وتصريفه لمراحلها جميعا: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا .. «ج» وفي أحداثها ونتائجها يردون إلى قيادة الله لها، ومدده وعونه فيها: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً .... «د» وفي الأمر بالثبات فيها يردون إلى ما يريده الله لهم بها من حياة، وإلى قدرته على الحيلولة بينهم وبين قلوبهم، وإلى تكفله بنصر من يتوكل عليه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. «هـ» وفي تحديد الهدف من وراء المعركة يقرر: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ .. ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ .. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ

لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. «و» وفي تنظيم العلاقات في المجتمع المسلم بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى تبرز العقيدة قاعدة للتجمع وللتميز، وتجعل القيم العقيدية هي التي تقدم في الصف أو تؤخر .. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ... «ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة- إلى جانب العقيدة- خط آخر وهو خط الجهاد، وبيان قيمته الإيمانية والحركية. وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية، وإعطاؤه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان.» «وأخيرا فإن السورة تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة كما أسلفنا؛ وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم وأحكام الغنائم والمعاهدات، وتضع خطوطا أصلية في تنظيم تلك الروابط وهذه الأحكام.» «هذا مجمل لخطوط السورة الرئيسية .. فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر، وفي التعقيب عليها، فإننا ندرك من هذا طرفا من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة، وإعدادها لقيادة البشرية وجانبا من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجرى في الأرض وفي حياة البشرية؛ مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة:

لقد كانت هذه الغزوة هي أول وقعة كبيرة لقى فيها المسلمون أعداءهم من المشركين، فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة .. ولكن المسلمين لم يكونوا قد خرجوا لهذه الغاية .. لقد كانوا إنما خرجوا ليأخذوا الطريق على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأموالهم فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة .. أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بعد ما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى. لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة فرقانا بين الحق والباطل؛ وفرقانا في خط سير التاريخ الإسلامي. ومن ثم فرقانا في خط سير التاريخ الإنساني .. وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم. وتدبير رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر وعوامل الهزيمة، وتتلقاها مباشرة من يدربها، وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها. وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة؛ وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة. كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب والغنائم والأسرى، والمعاهدات والمواثيق، وعوامل النصر وعوامل الهزيمة كلها مصنوعة في أسلوب التوجيه المربي، الذي ينشئ التصور الاعتقادي ويجعله هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني .. وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها. ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة، ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدها .. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها؛ كأن قارئ القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوبا عميقا. واستطرد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول. صلى الله عليه وسلم .. وحياة أصحابه في مكة، وهم قلة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس. ذلك ليذكروا فضل الله عليهم في ساعة النصر، ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر الله، وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة. وإلى صور من حياة المشركين قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعدها. وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، لتقرير سنة الله التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه»

أقول: وهذه الإشارات التي أشارت إليها السورة مما له صلة بالعهد المكي جعلت بعض العلماء يتجهون إلى أن بعض آيات السورة مكية وقد رد هذا الاتجاه صاحب الظلال مستدلا ومبرهنا فقال: (وقد ذكر ابن إسحاق. عن عبد الله بن أبي نجيح. عن مجاهد. عن ابن عباس- وعنه كذلك من طريق آخر- حديثا طويلا عن تبييت قريش ومكرهم هذا، جاء في نهايته قوله: « .. وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه- بعد قدومه المدينة- «الأنفال» يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وهذه الرواية عن ابن عباس. رضي الله عنهما. هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها. من تذكير الله سبحانه لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله؛ في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه، والثبات يوم الزحف .. إلى آخر ما تعالجه السورة من هذا الأمر كما سنبين .. والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى ... ) وقد آن الأوان للبدء في عرض السورة: تتألف سورة الأنفال من قسمين رئيسيين: القسم الأول: ويتألف من مقدمة السورة ومقطعين، القسم الثاني: ويتألف من مقطعين، وخاتمة للسورة، وتتألف مقدمة السورة من أربع آيات، ثم يأتي المقطع الأول فيعرض علينا صفحة من غزوة بدر، ويبدأ بقوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وبعد أن يعرض علينا المقطع الأول صفحة من صفحات بدر، يأتي المقطع الثاني وفيه خمسة نداءات للمؤمنين كل منها بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* ثم يأتي القسم الثاني: ويبدأ المقطع الأول منه بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما بدأ المقطع الأول في القسم الأول- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... وكما عرض علينا القسم الأول صفحة من صفحات بدر، وكما كان في القسم الأول كلام عن الغنائم، فإن المقطع الأول من القسم الثاني يحدثنا عن أفعال الكافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، وينتهي بالكلام عن بدر، ثم يأتي المقطع الثاني في القسم الثاني وهو يشبه المقطع الثاني في القسم الأول، إذ فيه مجموعة نداءات ولكنها في

هذه المرة متنوعة، فمنها ما هو بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* ومنها ما هو بصيغة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* ثم تأتي الخاتمة وفيها مجموعة تقريرات ولنبدأ بعرض مقدمة السورة. ***

القسم الاول

[القسم الاول] مقدمة السورة وهي أربع آيات وهذه هي: [سورة الأنفال (8): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) المعنى العام: تبدأ السورة بتبيان حكم أثر من آثار القتال وهو الغنائم، فتبين أن المرجع في هذه الغنائم لله والرسول، فالله هو مالك كل شئ، ورسوله هو خليفته، ثم أمر الله المؤمنين ثلاثة أوامر: بالتقوى، وإصلاح ذات البين، والطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أوامر مهمة جدا في موضوع الجهاد. فالجهاد إذا لم ينشأ عن تقوى فليس جهادا، والجهاد يحتاج إلى وحدة صف، ومن ثم فلا بد من إصلاح ذات البين، والانضباط هو الأساس في الجهاد. إذ لا جهاد بلا انضباط. ثم بين الله عزّ وجل أن الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم علامة الإيمان. ثم حدد الله عزّ وجل صفات المؤمنين الحقيقيين، وهذا الوصف والتحديد مهمان في موضوع الجهاد الإسلامي، لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يقوم به الجهاد الإسلامي، لقد حدد الله عزّ وجل صفات المؤمنين، بأنهم الذين إذا ذكر الله فزعت قلوبهم،

المعنى الحرفي

وخافت وفرقت. وإذا قرئ عليهم القرآن ازداد إيمانهم ونما. والصفة الثالثة: هي التوكل على الله، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الخلق وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان. والصفة الرابعة: إقامة الصلاة، بالمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ومن ذلك إسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والصفة الخامسة: الإنفاق مما رزقهم الله، وذلك يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عباد الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه، ثم بين الله عزّ وجل أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، وأن لهم عند الله منازل ومقامات ودرجات في الجنات، وأن الله سيغفر لهم السيئات، ويشكر الحسنات، وسيجزيهم على الخيرات. وبهذا تنتهي مقدمة السورة بعد أن رفعت الهمم لكل لوازم الجهاد، ونفت كل عوامل الخذلان، من اختلاف على غنائم، أو خلاف بسبب شئ. داعية إلى الطاعة، والارتفاع إلى منازل الإيمان الكامل. المعنى الحرفي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أي عن الغنائم، فالنفل: الغنيمة لأنها من فضل الله وعطائه، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي قل حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأي أحد فَاتَّقُوا اللَّهَ في تنفيذ أوامره واجتناب مناهيه، ومن ذلك الاختلاف والتخاصم والتدابر والطمع والجشع والغول وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي وأصلحوا بينكم. أي وأصلحوا حقيقة وصلكم حتى تكون ما بينكم من الأحوال، أحوال ألفة ومحبة واتفاق، والمعنى فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما يأمر به الله ورسوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إذ كمال الإيمان ومقتضاه كمال الطاعة لله ورسوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون في إيمانهم الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت لذكره استعظاما له وتهيبا من جلاله وعزه وسلطانه وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي ازدادوا بها يقينا وطمأنينة لأن تظاهر الأدلة أقوى للاستشعار بالمدلول عليه وَعَلى رَبِّهِمْ

[سورة الأنفال (8): آية 3]

يَتَوَكَّلُونَ أي يعتمدون عليه ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يجمعون بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا. أو أولئك هم المؤمنون إيمانا لا شك فيه ولا تردد لَهُمْ دَرَجاتٌ أي مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ أي وتجاوز لسيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة صاف عن كد الاكتساب وخوف الحساب فوائد: 1 - عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال. قال: نزلت في بدر، رواه البخاري. وقد حدث كثير من الصحابة عن واقعة حدثت له أو لغيره في موضوع الغنائم يوم بدر وكل ذلك له علاقة في سبب نزول الآية الأولى من سورة الأنفال. وهذه مجموعة من الآثار في هذا الموضوع ا- قال مجاهد في سبب نزولها إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... ب- روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فخذ سلبك» وروى الإمام أحمد ... عن سعيد بن مالك قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه» قال: فوضعته فقلت عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي قال: قلت قد أنزل الله في شيئا؟ قال كنت سألتني السيف وليس هو لي وإنه قد وهب لي فهو لك، قال: وأنزل الله هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح. وروى الإمام أحمد ... عن أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه

أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء (يقول عن سواء). وروى الإمام أحمد أيضا عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض. قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق بها منا؛ نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به. فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعا نفل الثلث. وكان يكره الأنفال. ورواه الترمذي وقال: حديث صحيح، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له. وابن حبان والحاكم ... عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا» فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا، فتنازعوا. فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إلى قوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وروى الثوري ... عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا» فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال يا رسول الله صلى الله عليك أنت وعدتنا، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك، فتشاجروا ونزل القرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قال: ونزل القرآن وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ إلى آخر الآية. قال صاحب الظلال تعليقا على ما حدث من خلاف بسبب الغنائم يوم بدر: «ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم؛ وهم إما من

المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شئ، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شئ من أعراض هذه الحياة الدنيا؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن لبلاء في المعركة وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء؛ وكان الناس- يومئذ- حريصين على هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومن الله سبحانه وتعالى في أول وقعة يشفي الله فيها صدورهم من المشركين! .. ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكرهم الله سبحانه به، وردهم إليه .. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر؛ حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت- رضي الله عنه .. «فينا أصحاب بدر- نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. » ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولا وعملا .. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقا لهم يتنازعون عليه؛ إنما أصبح فضلا من الله عليهم، يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه ... ». أقول: وصف الله النفس البشرية بقوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وهو وصف معجز فالنفس البشرية شحها حاضر عند كل تصرف من تصرفاتها، والمسلم الذي أخذ حظه من التزكية يتغلب على شحه بمجاهدته نفسه وبحملها على الحق، ولم يكن الحق في شأن الغنائم واضحا، وإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أكثر خلق الله فيئة فبمجرد أن وضح الله لهم من هو صاحب الحق في الغنائم فاءوا. 2 - رأينا أن الأنفال في الآية فسرت بالغنائم، إلا أن كلمة نفل تستعمل في هذا الباب أكثر من استعمال وقد نقل ابن كثير عن أبي عبيد في كتاب الأموال ( ... والأنفال أصلها جماع الغنائم، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة، ومعنى الأنفال في كلام العرب كل إحسان فعله فاعل تفضلا، من غير أن يجب

ذلك عليه، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم، وإنما هو شئ خصهم الله به تفضلا منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله تعالى هذه الأمة، فهذا أصل النفل. قلت: شاهد هذا ما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي- فذكر الحديث إلى أن قال- وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي». وذكر تمام الحديث، ثم قال أبو عبيد: ولهذا سمي ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا، وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الفناء عن الإسلام والنكاية في العدو، وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع، لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى (فإحداهن) في النفل لا خمس فيه وذلك السلب (والثانية) النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس (الثالثة) في النفل من الخمس نفسه وهو أن تحاز الغنيمة كلها ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى (والرابعة) في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شئ، وهو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسواق منها، وفي كل ذلك اختلاف. قال الربيع: قال الشافعي: الأنفال أن لا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شئ غير السلب. قال أبو عبيد: والوجه الثاني من النفل: هو شئ زيدوه غير الذي كان لهم، وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له خمس الخمس من كل غنيمة، فينبغي للإمام أن يجتهد، فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائه من المسلمين نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن ذلك لم ينفل والوجه الثالث من النفل: إذا بعث الإمام سرية أو جيشا فقال لهم قبل اللقاء: من غنم شيئا فهو له بعد الخمس فهو لهم على ما شرط الإمام لأنهم على ذلك غزوا وبه رضوا. وقال ابن مسعود ومسروق: لا نفل يوم الزحف إنما النفل قبل التقاء الصفوف. «وهذا يفيد أن مذهبهما أن للإمام أن يشجع بإعطاء النفل قبل المعركة كالتشجيع على المبارزة والاستطلاع» .. ويرى الشعبي للإمام أن ينفل بعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش) أقول: إن للقيادة الإسلامية أن تأخذ بقول أي إمام مجتهد إذا رأت المصلحة في ذلك 3 - بمناسبة قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ يذكر ابن كثير قصة يرويها عبد الرزاق وفيها آداب فليفطن لها القارئ: روى عبد الرزاق عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سئل عن شئ قال لا آمرك ولا

أنهاك. ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرا آمرا محللا محرما، قال القاسم: فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه، فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك، ثم عاد عليه حتى أغضبه فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه، فقال الرجل. أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس» أقول: يفهم من هذه القصة أن ابن عباس يرى أن السلب الذي يعطى للمقاتل المجاهد هو فرس القتيل وسلاحه فقط، وهي قضية خلافية كما رأينا: والشافعية يرون أن السلب للقاتل ولو لم يشترطه الإمام، والحنفية لا يرون ذلك إلا إذا قاله القائد للجندي أو أعلن عنه. 4 - وبمناسبة قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ يذكر ابن كثير حديثا رواه أبو يعلى في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: اعط أخاك مظلمته. قال: يا رب لم يبق من حسناتي شئ، قال: رب فليحمل عني من أوزاري» قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: «إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك في الجنان، فرفع رأسه، فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ. لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه، قال رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه، قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك قال: يا رب فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك، فأدخله الجنة» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة. 5 - هناك خلاف لفظي حول زيادة الإيمان ونقصه، وإنما قلنا لفظي لأنه ما من أحد يشك أن عدم الجزم بالإيمان كفر، ولا أحد يشك أن المشاعر الإيمانية تزيد وتنقص، وهناك خلاف كذلك حول جواز أن يقول الإنسان أنا مؤمن إن شاء الله، ولا شك كذلك أن الخلاف حولها لفظي إذ الجميع متفقون على أن التردد في الإيمان كفر، ولا أحد يستطيع الجزم بأنه من أهل الجنة أو أهل النار إلا بإخبار قطعي عن الله ورسوله،

وبمناسبة قوله تعالى وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً قال ابن كثير- وهو شافعي-: (وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد). وقال النسفي وهو حنفي: (وعن الحسن رحمه الله أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ قال إن كنت تسألني عن الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، والجنة، والنار، والبعث، والحساب، فأنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية فلا أدري أنا منهم أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية. أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا فلا يقطع بأنه مؤمن حقا، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله، وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يقول ذلك. وقال لقتادة لم تستثني في إيمانك؟ قال اتباعا لإبراهيم في قوله والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين. فقال هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وعن إبراهيم التيمي: قل أنا مؤمن حقا فإن صدقت أثبت عليه، وإن كذبت فكفرك أشد من كذبك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقا. وقد احتج عبد الله على أحمد فقال: أيش اسمك؟ فقال: أحمد، فقال: أتقول أنا أحمد حقا؟ أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال: أنا أحمد حقا. فقال: حيث سماك والداك لا تستثني وقد سماك الله في القرآن مؤمنا تستثني!). ومن خلال هذين النقلين نعرف وجهة نظر المتجادلين في القضيتين اللتين ذكرناهما. 6 - وبمناسبة قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يذكر ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف أصبحت يا حارث؟» قال أصبحت مؤمنا حقا. قال: «انظر ما تقول فإن لكل شئ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني انظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني انظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا. 7 - وبمناسبة قوله تعالى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال ابن كثير: وقال الضحاك في قوله لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد،

كلمة في السياق

ولهذا جاء في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء» قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال: «بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ... عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء. وإن أبا بكر وعمر منهما» 8 - من المهم جدا فقه قضية الأنفال والغنائم في القتال، وقضية التربية الإيمانية، إن فقه الغنائم وفقه التصرف فيها، والترغيب في الجهاد من خلالها، قضية مهمة في عملية الجهاد واستمراريته. فالجهاد والتفرغ له، والاستمرارية فيه، يحتاج إلى مال. وفقه الأمير، والقائد، والإمام للحدود المستطاعة له، والتي يستطيع على ضوئها أن يتصرف في أموال الكافرين شئ رئيسى لاستمرار عملية الجهاد، كما أن التربية الإيمانية العالية هي الطريق الوحيد للقدرة على الجهاد وتحمل تبعاته، واستسهال آثاره، واحتسابه. ومن ثم نلاحظ أن هذه السورة- وهي سورة الجهاد- حوت مقدمتها هاتين القضيتين كما حوت غيرهما مما يحتاجه الجهاد في سبيل الله كلمة في السياق: لاحظنا أن سورة الأنفال تأتي تفصيلا لقوله تعالى في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... فكما جاءت بعد آية فريضة القتال سؤال حول موضوع من مواضيع القتال فإن سورة الأنفال بدأت هذه البداءة التي رأيناها في ذكر مجموعة قضايا رئيسية لها علاقة في القتال، فإذا ما استقرت هذه القضايا الرئيسية فإنه يأتينا الآن مقطع. هذا المقطع يعطينا نموذجا عمليا واقعيا لكراهة المؤمنين للقتال، وكيف أن الخير كان فيه، ومن تأمل هذا المقطع أدرك إدراكا تاما صلة سورة الأنفال بمحورها الذي ذكرناه من سورة البقرة. واستأنس بهذا على صحة ما ذهبنا إليه في موضوع الوحدة القرآنية: التي لا ندرك منها إلا القليل، ولكنه قليل كاف ليرى الإنسان آيات الله في هذا القرآن، بما يشبه آيات الله في هذا الكون من حيث إن آيات الله في هذا الكون تربط بينها وحدة كبرى وارتباط واضح. يدرك أبعاده العلماء على قدر علومهم. وهكذا كتاب الله ولله المثل الأعلى ولكتابه

المقطع الأول من القسم الأول

كذلك. ولنر المقطع الأول ولنقف بعد ذلك عنده وقفات المقطع الأول من القسم الأول ويمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (14) وهذا هو: [سورة الأنفال (8): الآيات 5 الى 14] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

المعنى العام

فائدة: هناك خلاف حول الكاف في قوله تعالى كَما أَخْرَجَكَ ونقدم بين يدي المعني العام نقلين عن الألوسي في هذه الكاف كمقدمة للدخول إلى معاني المقطع. قال الألوسي: (والكاف يستدعي مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء، ومن هنا اختلفوا في بيانه، وكذا في إعرابه على وجوه، فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه، أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال: الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه صلى الله عليه وسلم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم، أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في «لله والرسول» أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات إخراجك وضعف هذا ابن الشجري». «وقال أبو حيان: خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك، والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لإعزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ الآيات ولو قيل: إن هذا مرتبط بقوله سبحانه رِزْقٌ كَرِيمٌ على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه). المعنى العام: يذكر الله عزّ وجل في هذا المقطع نموذجا لكيفية كون القتال فيه الخير للمسلمين، وإن كانت الأنفس في الأصل تكره القتال، هذا النموذج هو ما حدث يوم بدر؛ إذ كره بعض المسلمين الخروج لقتال الأعداء أصحاب الشوكة وهم النفير الذين خرجوا لنصرة الكفر وإحراز عيرهم، فكان أن قدر الله القتال، وجمع به بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، فكان عاقبة ذلك رشدا وهدى، ونصرا وفتحا، وآثارا قريبة لصالح الإسلام والمسلمين، وآثارا بعيدة فيها صالح الإسلام والمسلمين، وذلك أن المسلمين بعد بدر كانت بدر هي قدوتهم، وهي التي تجرّئهم على القتال، وإن قل العدد وقلت العدد.

بدأ المقطع بالتذكير بكراهية المؤمنين للقتال قبيل بدر؛ لأنهم كانوا يطمعون بعير قريش فلما فاتتهم العير، وأيقنوا القتال مع الجيش المشرك الذي جاء لإنقاذ قافلة قريش، وتيقن المسلمون القتال، كرهوا ذلك وأخذوا يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوع القتال، محتجين أنهم ليسوا على استعداد له، وهالهم القتال لدرجة أنهم ظنوا القتال هو الموت بعينه، وإذا بالمسألة خلاف ذلك، فكان قتال وكان نصر، وكانت هزيمة للمشركين. وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون، ولم يقتل من المسلمين إلا القليل على قلة العدد والعدد، وكان في ذلك عز الإسلام والمسلمين والانطلاقة الأولى لمجد الإسلام والمسلمين. وفي هذا السياق نفسه ذكر الله عزّ وجل المسلمين كيف أنه وعد رسوله صلى الله عليه وسلم والجماعة المؤمنة أحد شيئين في خروجهم ذلك، إما أن يعطيهم قافلة المشركين بما فيها، وإما أن ينصرهم على جيش المشركين، وقد رغبت أنفس المسلمين بالقافلة إذ لا قتال ولا مشقة ولا مخاطرة، فهم يحبون إذن أن يكون لقاؤهم مع الطائفة التي لا حول لها ولا منعة ولا قتال، وهي القافلة التي فيها عير قريش وتجارتها، ولكن مراد الله كان غير ذلك، فالله أراد أن يجمع بينهم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال لينصر المسلمين عليهم، فيظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله عاليا على الأديان. وهو أعلم بعواقب الأمور. وهو الذي يدبر للمسلمين فيحسن التدبير. وإن كان العباد يحبون السلامة فيما يظهر لهم؛ وكان أن تحقق بمراد الله إلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتحصيل الهيبة للمسلمين، وتشجيع المسلمين على خوض غمار كل حرب، واستئصال شوكة الشرك، وقتل زعمائه، وفتح الطريق للفتوحات العسكرية الكبرى فيما بعد. فهل الخير كان في القتال يوم بدر أو في غيره؟ هل الخير كان فيما أحبوه أو كرهوه؟ إذن فالقتال في سبيل الله هو الذي يجب أن يألفه المسلمون، وأن يحملوا أنفسهم عليه. ثم ذكر الله المسلمين بموقف من مواقف بدر، كيف أنه استجاب دعاء المسلمين وأمدهم بالملائكة، وأنزل عليهم النعاس ليلة المعركة، وأنزل المطر صبيحة المعركة، وكان ذلك لصالحهم. وألقى في قلوب الكافرين الرعب بسبب حربهم لله ورسوله، وكان من آثار ذلك كله النصر للمؤمنين، والهزيمة للكافرين؛ عقوبة لهم، ولعقوبة الله يوم القيامة أكبر. وبالتذكير بهذه المعاني تظهر حكمة أخرى من حكم فرضية القتال، وهي تحقيق النصر للإسلام والمسلمين، وإنزال الهزيمة بالكفر والكافرين، وتعذيب الكافرين بأيدي

المؤمنين؛ جزاء لهم على مواقفهم من دعوة الله ودينه، وفي كل ذلك خير لا يحصل بدون القتال، فأنت ترى أنه من خلال استعراض هذه المعاني المرتبطة بقضية بدر تظهر حكمة فرضية القتال، وكيف أن الخير فيها رغم كراهية الأنفس للقتال، لما فيه من مخاطرة ومغامرة. وفي المقطع معان أخرى ستظهر من خلال ما يأتي من أسباب نزول، أو تفسير حرفي، أو فوائد، وقبل أن نبدأ بذكر المعنى الحرفي نحب أن نذكر رواية ابن إسحاق في الكلام عن المرحلة التي سبقت موقعة بدر. رواية ابن إسحاق: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم. وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم. وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهله مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد، (مدينة في الحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشيروا علي أيها الناس». وإنما يريد الأنصار. وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال

المعنى الحرفي

رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل» فقال: لقد أمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علي ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك ثم قال: «سيروا على بركة الله، وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم» .. المعنى الحرفي: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ أي من دارك في المدينة، أو من المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنه فهي في اختصاصها كاختصاص البيت بساكنه بِالْحَقِّ أي إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ أي: أخرجك في حال كراهتهم، وإنما كانت كراهتهم كراهة طبع، لأنهم غير مستعدين نفسيا، ولهم ظاهر حجة، وهي أنهم غير متأهبين يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي الجيش لإيثارهم عليه تلقي العير والقافلة، وجدالهم من مثل قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد، وذلك لكراهتهم للقتال بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي يجادلونك بعد إعلامك إياهم بأنهم ينصرون، أي بعد ما تبين لهم الحق في القتال، ووعدوا النصرة فيه بقوا يجادلون كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، بحال من يحمل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت، وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليه لا يشك فيها، وإنما كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة، وما كان فيهم إلا فارسان، فهذه حالة كره فيها المسلمون القتال، وكان في القتال كل الخير للإسلام والمسلمين. فوائد: 1 - كنا ألقينا في المدينة المنورة محاضرة تحت عنوان «عبرة بدر» بينا فيها قوانين النصر المادي، وقوانين النصر الرباني، ورأينا كيف أن الله ينصر المؤمنين إذا شاء على تخلف بعض أسباب النصر المادية، من تكافؤ بالعدة والعدد، وكيف أن معركة بدر هي

كلمة في السياق

النموذج على النصر الرباني، ولو تخلفت بعض أسباب النصر المادية، كما بينا كيف أن معركة بدر قد تركت آثارها البعيدة على عقلية المسلمين القتالية من يومها حتى هذه اللحظة، فمن يومها لم يعد المسلمون يكترثون بعدة أو عدد، مع بذلهم الجهد لتحصيل العدة والعدد؛ ثقة بنصر الله، فانظر أي خير للإسلام والمسلمين تولد عن هذه الغزوة، مع كراهة المسلمين يومها لدخولها. 2 - في فن الحرب يقال: أنك إذا أردت أن ترفع معنويات الجند، فاجعلهم أول معركة يدخلونها يحققون نصرا، ولو كان نصرا بسيطا، فإن ذلك يرفع معنوياتهم، والملاحظ أن الله قد رزق المسلمين نصرا عظيما في أول معاركهم، وكان في ذلك ارتفاع لمعنويات هذه الأمة، ليس فقط في جيلها الأول، بل في كل أجيالها، فليلاحظ المجاهدون هذا المعنى. 3 - وكنموذج على الجدال الدال على كراهة القتال يوم بدر يروي ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها؟» فقلنا: نعم، فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: «ما ترون في قتال القوم؟ فإنهم قد أخبروا بخروجكم؟ فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير، ثم قال ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم. قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وذكر تمام الحديث. كلمة في السياق: من أعظم ما يدل على صواب ما اتجهنا إليه في سيرنا هذا في ربط القرآن بعضه ببعض، وإظهار وحدته الكبرى مجئ الكاف في قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وبيان ما قلناه: أن ننظر ما قاله المفسرون عند هذه الكاف وما نقوله.

قال ابن جرير- كما نقله ابن كثير-: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم لله ورسوله، ثم روى عن عكرمة نحو هذا. قال ابن كثير: ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم، وجعلها إلى قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة- وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم- فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره، لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد؛ رشدا وهدى، ونصرا وفتحا، كما قال تعالى في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وقال النسفي في تقدير هذه الكاف: والتقدير قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. وذكر ابن كثير عن ابن جرير أقوالا أخرى لتخريج هذه الكاف. وأقول: لو أنك قرأت الآيات هكذا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ ... ألا ترى الربط على أتمه وأحكمه، فهذه الآيات مثل على ما يحب وهو شر، وعلى ما يكره وهو خير، وفي شأن القتال بالذات، وعلى هذا الاتجاه أقول: إن المحذوف الذي ترتبط به الكاف في الآية هو ما تتعلق به الكاف لو أن آية البقرة قد سبقتها. إن من أبغض الأمور إلى نفسي أن أتكلف أو أتعسف في فهم القرآن، أو أن أحمل كتاب الله ما لا يحتمل، وهذا الذي اتجهت إليه في إبراز الوحدة في السورة الواحدة، وإبراز الوحدة ما بين سور القرآن كلها على نسق واحد، ونظام واحد، وإن لم أسبق إليه فإني أسأل الله ألا أكون متعسفا أو متكلفا.

ولنعد إلى التفسير الحرفي

ولنعد إلى التفسير الحرفي: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أي العير أو النفير، القافلة أو الجيش، الكسب المادي أو النصر العسكري وما يستتبعه أَنَّها لَكُمْ التقدير واذكروا إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم وَتَوَدُّونَ أي وترغبون وتريدون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي غير ذات السلاح أي العير أي القافلة تَكُونُ لَكُمْ أي تتمنون أن تكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا سلاح لها، ولا تريدون الطائفة الأخرى ذات الشوكة، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبته ويعليه بِكَلِماتِهِ أي بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من قتل المشركين وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي آخرهم وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني إنكم تريدون الفائدة العاجلة، وسفساف الأمور والله تعالى يريد معالي الأمور، ونصرة الحق، وعلو الكلمة. وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وأعزكم وأذلهم لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي يريد قطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل، أو ما فعل الله ذلك إلا لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإحقاق الحق إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الباطل إبطال الكفر ومحقه، ميز في الآية السابقة بين إرادته تعالى وإرادتهم، وبين في هذه الآية حكمته فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرهم عليها وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي ولو كره المشركون والكافرون، إحقاق الحق وإبطال الباطل. فوائد: 1 - في سياق الكلام عن غزوة بدر ومواقفها بين الله تعالى حكمته في فرضية القتال على المسلمين، وكون الخير كله في ذلك، إذ أن الحق لا يثبت بلا قتال، وأن الباطل لا يضمحل بلا قتال. وأن الكافرين لا يستأصلون ولا يذلون إلا بجهاد، وإذ كان الأمر كذلك فالخير كل الخير في القتال، والشر كل الشر في النكوص عما فرضه الله من جهاد، وما أسخف الذين يتعللون في عصرنا لترك القتال بدلا من أن يرتفعوا ويرفعوا أممهم إلى مستوى القتال على مستوى العصر.

ولنعد إلى السياق

2 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ .. يذكر ابن كثير ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس بإسناد جيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شئ، فناداه العباس بن عبد المطلب- قال عبد الرزاق- وهو أسير في وثاقه-: إنه لا يصلح لك، قال: «ولم؟» قال: لأن الله عزّ وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك الله ما وعدك. ويظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدث عمه بما وعده الله، أو أن عمه عرف بطريقة ما فاستبق القوم إلى تبيان هذا المعنى، وهو جدير به أليس من آل هاشم في حدة ذكائهم وجودة رأيهم. ولنعد إلى السياق إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ الاستغاثة: طلب الغوث، وهو التخلص من المكروه لما علموا أنه لا بد من القتال استغاثوا لعلمهم بضعفهم وقوة خصمهم. وهو أدب المسلم في كل حال، ولكن السياق يبين من خلال هذا العرض أنه مع كونهم في منتهى الضعف كان النصر، فالخير في القتال، فإن الله الذي شرع القتال لعباده لا يخذلهم إذا لم يرتكبوا أسباب الخذلان فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي استغثتموه فأجاب. ومن استجابته ما أمدهم به من الملائكة كما ذكر ذلك بقوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي لكم، أي نجدة لكم، أو بعضهم على أثر بعض متتابعين وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى أي وما جعل الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ أي ولتسكن قلوبكم. والمعنى: إنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم، فكان الإمداد بشارة لكم بالنصر، وتسكينا لكم وربطا على قلوبكم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي لا تحسبوا النصر بعدة أو عدد، ولا تحسبوا النصر من الملائكة أو غيرهم، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة، أو ما النصر الذي أيدكم به بسبب الملائكة وغيرها إلا من عند الله، فإن المنصور من نصره هو جل جلاله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ينصر أولياءه حَكِيمٌ إذ شرع الجهاد لقهر أعدائه.

فوائد

فوائد: 1 - من خلال هذه الآيات نفهم أن علينا أن نقاتل، وأن النصر من عند الله، وأن من أدب القتال الدعاء، وأن الله يستجيب. ولكن ما أكثر الذين يتركون القتال، ويهملون الجهاد، وهو مفروض عليهم، ويكتفون بالدعاء، ألا ما أجهل هؤلاء ولو ظهروا بغير مظهر الجهل. 2 - روى الإمام أحمد وغيره حديثا طويلا فيه ذكر استغاثة الرسول عليه الصلاة والسلام ربه يوم بدر وهذه هي القطعة من الحديث في ذلك: عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال، «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض أبدا». قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عزّ وجل إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فلما كان يومئذ التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا». وجاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم، ثم استيقظ مبتسما فقال: أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع، ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. 3 - وفي شأن حضور الملائكة يوم بدر قال ابن كثير: (والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة» وروى الإمام أبو جعفر ابن جرير ومسلم .. عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم ثم قال أبو زميل (أحد رجال سند الحديث): حدثني ابن عباس قال: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط

ولنعد إلى التفسير الحرفي

فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا. قال: فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة». فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وروى البخاري في باب شهود الملائكة بدرا .. عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ فقال: «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة). ولنعد إلى التفسير الحرفي: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ النعاس: النوم. والأمنة: الأمن، يذكرهم الله تعالى بما أنعم عليهم من إلقائه عليهم أمانا، وأمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فالنوم يزيح الرعب ويريح النفس إذا لم يؤد إلى غرة. وإذا قام المقاتل ليلة المعركة فإن ذلك أقوى له، وأنشط وأروح وأكثر إعانة على الجلاد في المعركة، إذ لم يكن تفريط من قبل الحرس والمراقبين، بحيث يؤخذ الجيش على غرة، روى أبو يعلى عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً أي مطرا لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي ليطهركم بالماء من الحدث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش، ويمكن أن يراد بالرجز الجنابة من الاحتلام لأنه من الشيطان وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي ويثبت بالماء الأقدام لأن الأقدام تسوخ في الرمل، أو يثبت بالربط الأقدام، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر يثبت القدم في مواطن القتال، قد كان هذا كله لمن دخل معركة بدر، وفي هذا تذكير للمسلمين الذين فرض الله عليهم القتال بما يمكن أن يفعله الله لهم إن قاتلوا فليقاتلوا في سبيله، وليتوكلوا عليه. فائدة: روى ابن إسحاق عن عروة في وصف ما حدث قبيل معركة بدر. قال بعث الله السماء، وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض، ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه. وقال مجاهد: أنزل

[سورة الأنفال (8): آية 12]

الله عليهم المطر قبيل النعاس، فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم، وثبتت به أقدامهم. وروى ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر- يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر، فانطلقنا تحت الشجرة والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وبعد أن ذكر الله عزّ وجل ما فعل للمسلمين قبيل المعركة ذكرهم بنعمة أخرى خفية أظهرها الله لهم ليشكروه عليها، ولتتذكرها الأجيال، فيتقاتلوا ويتوكلوا على الله، واثقين بنصره وتأييده. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ أي بالتأييد والنصرة فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا إما بتقوية قلوبهم بما يلقونه فيها، وإما بتكثير سوادهم، وإما بتبشيرهم بأن يتمثل الملك للصحابي رجلا يقول له ما يثبت به فؤاده سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الرعب هو: امتلاء القلب من الخوف، ولا شئ أقتل للجيوش من الرعب، إذ لا سلاح ولا عتاد ولا كثرة تنفع معه، وما من سلاح أقوى من هذا السلاح في نصرة الله عباده، إذ يقذفه في قلوب أعدائهم، ولذلك كان رسولنا عليه السلام يقول: نصرت بالرعب مسيرة شهر فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي ضربوا الهام ففلقوها واحتزوا الرقاب فقطعوها وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ البنان الإصبع، والمراد هنا الأطراف، ويضرب الأطراف يشل المقاتل، وبشله يضعف صفه، وهل هذا الأمر للمؤمنين، أو للملائكة. قولان، والراجح أنه للملائكة لأنهم قاتلوا يوم بدر. قال الربيع بن أنس كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم، بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به ذلِكَ أي ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم أي مخالفتهم ومعاداتهم ومخاصمتهم لله ورسوله ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ أي ذوقوا هذا العذاب العاجل وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ في الآخرة. وبهذا ينتهي المقطع بعد أن بين الله عزّ وجل فيه أن الخير في القتال ولو كرهته الأنفس، وبعد أن بين حكمته في تشريع القتال، وبعد أن بين سبب تسليط الله جنده على الكافرين، فالمقطع تفصيل لشئون لها علاقة بالقتال الذي هو الموضوع الرئيسي في سورتي الأنفال وبراءة.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ... ينقل ابن كثير عن مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول: نفلق هاما .. فيقول أبو بكر مكملا البيت: من رجال أعزة علينا … وهم كانوا أعق وأظلما 2 - ذكر ابن كثير أن ما عوقب به المشركون يوم بدر هو من نوع عقوبات الله للمكذبين بل هو أشفى: كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا الأولى بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، والقلب، وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم، ثم أنزل على موسى التوراة، وشرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان. فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك. كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة (¬1) بحيث لم يقربه أحد من أقاربه وإنما غسلوه بالماء قذفا من بعيد ورجموه حتى دفنوه. كلمة في السياق: رأينا أن محور هذه السورة آية القتال في البقرة والآيتين بعدها، وكما رأينا في كل سورة من قبل من أن لها سياقها الخاص، فهذه السورة كذلك. فها نحن رأينا مقدمة السورة ترفع همم المؤمنين إلى الكمال، ثم رأينا هذا المقطع يرفع همم المؤمنين إلى القتال من خلال تذكيرهم بما فعل لهم في غزوة بدر، ومن خلال إثارة البغضاء في قلوبهم لأعدائه، ومن خلال استجاشة حب الموت من أجل إحقاق الحق وغير ذلك. وهذه المعاني وغيرها مما مر معنا يخدم السياق العام للقرآن؛ إذ تفصل هذه السورة بمقدمتها ¬

_ (¬1) العدسة: بثرة تشبه العدسة، تخرج في مواضع من الجسد، تقتل صاحبها غالبا.

المقطع الثاني من القسم الأول

وبمقطعها هذا وبمقاطعها الآتية ما له علاقة بالقتال في سبيل الله، وإذ بينت المقدمة صفات المؤمنين، وعرف المؤمنون ضرورة القتال، واستوثقوا من نصر الله إذا أدوا ثمنه، فإن المقطع الثاني يوجه المؤمنين توجيهات مباشرة بنداءات مباشرة نحو ما ينبغي أن يعلموه، وأن يلتزموه، ويعملوه ليحققوا فريضة القتال وهكذا يأتي المقطع الثاني. ولقد جاءت مقدمة السورة لتبين حقيقة الإيمان، ثم جاء المقطع الأول ليعرض علينا صفحة عما حدث يوم بدر، ثم يأتي المقطع الثاني وفيه خمسة نداءات لأهل الإيمان بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* آخرها نداء فيه معنى الوعد بأن يجعل الله لنا في كل مرة بدرا جديدة إذا اتقينا. إنه مقطع ذو نداءات توجيهية لأهل الإيمان، تستند إلى أرضية دروس بدر، ولكنها في الوقت نفسه تضع دستور الحركة الجهادية المفروضة على المسلمين، وتضع دستور النجاح في هذه الحركة، وتحدد الأساسيات التي تحتاجها إقامة فريضة الجهاد: الثبات في المعركة، الطاعة، الاستجابة المباشرة للأمر، الحذر من الخيانة، التقوى. ولنر المقطع: *** المقطع الثاني من القسم الأول: ويمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (29) وهذا هو: [سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

المعنى العام

المعنى العام: بعد أن استقر معنا في المقطع السابق ضرورة القتال، وأن فيه الخير، وتبينت لنا حكمته من خلال ما حدث في غزوة بدر. بدأ المقطع الثاني بتوجيه الذين آمنوا أولا إلى عدم الفرار من الزحف، وتوعد الفارين من الزحف بغضب الله، ونار جهنم، ولا

يرخص في الفرار إلا في حالتين: الفرار الذي تقتضيه حيلة القتال، والفرار الذي يلتحق به المسلم بفئته وجيشه، ومما يشجع على الثبات، وترك الفرار أن يعلم الإنسان أن الله هو الفاعل، وأن من سننه أن ينعم على المؤمنين، وأن من سننه أن يوهن كيد الكافرين. فإذا علم المسلم هذا ثبت في القتال ثقة بالله، وانتظارا لموعوده. وقد عرض الله عزّ وجل هذه المعاني الثلاثة من خلال قصة بدر، إذ بين في آيتين أنه خالق أفعال العباد، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه، ومن ذلك ما حدث من رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب يوم بدر، وما كان من آثار ذلك، ومن ذلك قتل المشركين يوم بدر، فإنه ليس بحول المسلمين ولا قوتهم قتلوا أعداءهم مع كثرة عددهم، بل هو الله الذي أظفرهم عليهم ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته. ثم بشر الله المؤمنين بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، ومصغر أمرهم، وأنهم إلى تبار ودمار، ولزيادة تمتين الثقة عند المسلمين ليثبتوا، خاطب الله الكافرين مبينا لهم أنهم إن يستنصروا الله ويطلبوا قضاءه وحكمه أن يفصل بينهم وبين أعدائهم المؤمنين فقد حكم الله، بأن نصر المؤمنين وهزم الكافرين. ثم بين للكافرين أنهم إن ينتهوا عن الكفر فإن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، وأنهم إن عادوا إلى كفرهم وضلالتهم، يعود الله عليهم بالخذلان والهزيمة، وعلى المؤمنين بالنصر. وهذا الخطاب من الله للكافرين في هذا المقام بيان للمؤمنين ألا يؤثر في معنوياتهم دعاء الكافرين الله، فإن الله ليس مع الكافرين بل هو خاذلهم، ولو جمعوا من الجموع ما عسى أن يجمعوا؛ فإن من كان الله معه فلا غالب له، والله مع المؤمنين فهم حزبه وأهله. ثم يأتي التوجيه الثاني في هذا المقطع، وفيه يأمر الله عزّ وجل المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ويزجرهم عن مخالفته، والتشبه بالكافرين المعاندين له، ثم ينهاهم أن يتركوا طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وهم يعلمونها ويسمعونها وتصلهم، ثم نهاهم أن يكونوا كالمنافقين الذين يتظاهرون بالسماع والاستجابة وليسوا كذلك. ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من الناس هم شر الخلق والخليقة؛ لأنهم صم عن سماع الحق، بكم عن فهمه غير عقلاء، فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة سواهم مطيعة لله فيما خلقها له، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا؛ ولذلك عاقبهم الله بصرف قلوبهم وأسماعهم عن

الحق؛ لأنه لا خير فيهم. ولذلك فلم يرزقهم بفهم لأنه تعالى يعلم منهم أنه لو أسمعهم وأفهمهم لتولوا عن الحق قصدا وعنادا. وهذا التوجيه الثاني في هذا المقطع له أهميته الخاصة في موضوع الجهاد والقتال، فقتال المسلمين إنما هو طاعة لله ورسوله. فإذا لم يكن المسلم مطيعا لله ورسوله لم يعد للقتال صفته الإسلامية، والانضباط والطاعة في القتال شرطان رئيسيان لدخول معركة منتصرة، كما رأينا ذلك في عبرة أحد من سورة آل عمران، وهذا شئ يجمع عليه كل عسكريي العالم، فلا جيش ولا قتال إلا بطاعة وانضباط، ومن ثم ركز الله في هذا التوجيه على الطاعة له ولرسوله، وصور الذين لا يسمعون بأنهم شر دواب الأرض، ولم يذكر هنا إلا طاعة الله ورسوله، مع أن طاعة الأمير المسلم في كل قتال ضرورية، لأن المهم هو طاعة الله ورسوله من قبل الجميع، وطاعة المسلمين لأمرائهم جزء من طاعة الله والرسول، عند ما يكون الجميع مطيعين لله والرسول. في التوجيه الأول طالب بالثبات، وفي التوجيه الثاني طالب بالطاعة، وكلاهما ضروري للقتال، ثم يجئ التوجيه الثالث في هذا المقطع، وفيه الأمر للمؤمنين بالاستجابة لله والرسول، لأن الاستجابة لله والرسول فيها حياة هذه الأمة، ومما دعانا إليه الله والرسول وفيه حياتنا: الإسلام والقتال. فلا حياة إلا بإسلام، ولا حياة للإسلام والمسلمين إلا بقتال. ثم أمرهم أن يعلموا أن القلوب بيد الله. وأن المرجع إليه فليحذروا أن يتركوا الاستجابة لله والرسول؛ حذرا من أن يفتنوا؛ وخشية أن يصيبهم العذاب يوم القيامة، ثم يحذر الله عزّ وجل المؤمنين جميعا أن ينزل بهم فتنة أي: اختبارا ومحنة، يعم بها المسئ وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي، ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع المعاصي ولم ترفع. وأمرهم أن يعلموا أن الله شديد العقاب. وهذه المعاني في هذا السياق يفهم منها أنه لا بد من تطبيق الإسلام كله بالاستجابة لله ورسوله، ولا بد من قتال، وإذ لا يكون استجابة ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا قتال من أجل الإسلام فإن المسلمين جميعا معرضون لكارثة، ثم يأمر الله عزّ وجل عباده المؤمنين أن يتذكروا نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات. وطالبهم بالشكر فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم؛ فكافأهم، ومجئ هذه الآية فيه تذكير لهذه الأمة بأن طريقها هو الاستجابة لله والرسول، ففيه القوة، وفيه الرزق والرفاه، فإذا فكرت هذه الأمة في غير هذا فقد انحرفت وهذا حال الناس اليوم، وفي هذا التوجيه ما يشعر بضرورة التجاوب السريع مع الأمر القتالي.

المعنى الحرفي

ثم يأتي التوجيه الرابع في هذا المقطع؛ وفيه نهي المؤمنين عن أن يخونوا الله والرسول، ويخونوا ما ائتمنوا عليه، وخيانة الله والرسول تكون بمعصيتهما بالذنوب الصغيرة والكبيرة، وخيانة الأمانة تكون بإفشاء الأسرار. وقد أمر الله المسلم أن يعلم في هذا المقام أن المال والأولاد فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم. والتذكير في هذا المقام بهذا المعنى، لأنه في الغالب لا يدفع الإنسان إلى ترك القتال، أو إلى المعصية، أو إلى إفشاء السر إلا رجاء مال، أو خشية على العيال، أو حبا للأولاد، أو نسيانا لما عند الله، وهكذا ذكر المقطع حتى التوجيه الرابع أربعة معان تحتاجها المعركة. 1 - الثبات في المعركة 2 - السمع والطاعة 3 - الاستجابة لداعي الله في تطبيق الإسلام كله وفي القتال 4 - كتمان السر. وقد جاء كل ذلك ضمن سياق حوى معاني كثيرة كلها تخدم هذه المعاني. ثم يأتي التوجيه الخامس: وفيه أمر بالتقوى، ووعد للمؤمنين إذا اتقوا الله فإن الله سيجعل لهم مخرجا ونجاة ونصرا، وفصلا بين الحق والباطل، ووعدهم مع هذا أن يعطيهم من فضله العظيم، فالمهم إذن أن يتحقق المسلمون بالتقوى، والله عزّ وجل هو الذي يأخذ بيدهم في مسارب الطريق، ولكنها التقوى في مفهومها القرآني، وليست في مفهومها العامي الذي عليه الكثيرون من الناس، ولقد كان الوعد بصيغة يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ولقد سميت معركة بدر في القرآن بيوم الفرقان، ومن ثم فهمنا أنه يدخل في الوعد أن يجعل الله لنا كل زمن بدرا إذا ما اتقينا. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي متزاحفين أنتم وهم، أو المعنى إذا لقيتم الذين كفروا وهم زاحفون، والزحف: الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيبا. فصار المعنى إذا لقيتم الكافرين للقتال وهم كثير وأنتم قليل فلا تفروا، فكيف إذا كنتم مثلهم أو أكثر منهم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي فلا تنصرفوا عنهم منهزمين بإعطائكم إياهم ظهوركم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً أي مائلا لِقِتالٍ كأن يكر ليفر؛ ليخيل لعدوه أنه منهزم، ثم يعطف عليه، وغير ذلك من خدع الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي أو منضما إلى جماعة من المسلمين، فئته أو فئة أخرى فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي رجع بغضب من ربه وَمَأْواهُ

[سورة الأنفال (8): آية 17]

جَهَنَّمُ أي هي منقلبه ومصيره يوم معاده وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هذا المصير الذي صار إليه بسبب توليه يوم الزحف، وإذ استقر وجوب عدم الفرار إلا في حالتين: حالة المخادعة. وحالة الالتحاق. فقد بين الله بعد ذلك أنه هو الفاعل من خلال ما حدث يوم بدر، ليعطي المسلم ثقة وطمأنينة بالثبات فقال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ رميتك التي فعلت ما فعلت وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وفي هذا والذي قبله في هذه الآية دليل لأهل السنة والجماعة على أن كل شئ بقدرة الله وفعله كما هو بإرادته وعلمه وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أي وليعطيهم منه بَلاءً حَسَناً أي عطاء جميلا والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعل ما فعل إلا لذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعاء المؤمنين وشكرهم عَلِيمٌ بما عليه الخلق أجمعون، ثم بشر الله عزّ وجل المؤمنين بقوله ذلِكُمْ أي البلاء الحسن للمؤمنين وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ أي مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ أي حقدهم وتخطيطهم، دل هذا والذي قبله على أن سنة الله عزّ وجل إبلاء المؤمنين أي إعطاؤهم، وتوهين كيد الكافرين، ولترتفع معنويات المؤمنين فيثبتوا، خاطب الله الكافرين ليعلم المؤمنين إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر عليكم وَإِنْ تَنْتَهُوا عن عداوة الإسلام وأهله فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالانتهاء خير لكم وأسلم وَإِنْ تَعُودُوا لمحاربة الإسلام وأهله نَعُدْ أي لنصرة الإسلام وأهله عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً أي جمعكم مهما جمعتم شيئا وَلَوْ كَثُرَتْ أي عددا وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولأن الله مع المؤمنين بالنصر كان ذلك. مسألة مهمة: من المسائل التي ينبغي أن يعرفها كل مسلم مسألة «متى يجوز للمسلم أن يولي الكافرين ظهره» فالآية ذكرت حالتين: حالة التحرف للقتال من باب خديعة العدو، وحالة التحيز إلى فئة، وهذه الحالة من أكثر القضايا غموضا، ولذلك فإننا سنذكر في شأنها مختصرا ثم ننقل ما نقله صاحب الظلال عن الجصاص ثم نكر على هذا الموضوع في الفوائد ليتضح: لنفرض أن للمسلمين دولة وإماما، وأن لهم عاصمة، ولنفرض أن جيشا للمسلمين لا يبلغ اثني عشر ألفا، ووجه بما لا طاقة له به، كأن كان عدده خمسة آلاف، وكان عدد الخصم أحد عشر ألفا، وكان القتال يدور بعيدا عن عاصمة المسلمين، ففي هذه

قال الجصاص عند قوله تعالى

الحالة يجوز للجيش المسلم أن ينسحب؛ لأن عاصمة المسلمين تعتبر في حقه فئة، يجوز له أن يتحيز إليها، أما إذا أصبحت العاصمة نفسها مستهدفة، ولم يعد وراءها معقل يتحيز إليه الإمام، أو أصبح المسلمون في المعقل الأخير، فعليهم أن يقاتلوا حتى الشهادة، ولا يصح لأحد منهم أن يفر، لأنه يفر إلى غير فئة، وهناك اتجاه يقول: إذا بلغ الجيش المسلم اثني عشر ألفا فلا يجوز له الفرار مهما كثر عدد المقاتلين. وفيما يلي كلام للجصاص نقله صاحب الظلال نرى من خلاله بعض فهوم الفقهاء لآية: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ... قال الجصاص عند قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ (روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر. قال أبو نضرة: لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم .. وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار، ولم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالخروج، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم، وإنهم لو انحازوا لانحازوا إلى المشركين، غلط لما وصفنا .. وقد قيل: إنه لم يكن جائزا لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن الانحياز جائزا لهم عنه، قال الله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ: فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه ويسلموه، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وكان ذلك فرضا عليهم، قلت أعداؤهم أو كثروا، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان فئة المسلمين يومئذ، ومن كان ينحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم فئتهم يومئذ، ولم تكن فئة غيره، قال ابن عمر: كنت في جيش فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة، فقلنا: نحن الفرارون. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «أنا فئتكم». فمن كان بالبعد من النبي صلى الله عليه وسلم إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه، فلم يكن يجوز لهم الفرار. وقال الحسن في قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ. قال: شددت على أهل بدر وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ

الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وذلك لأنهم فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يوم حنين فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم فعاتبهم الله على ذلك في قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قل العدو أو كثر، وقال الله تعالى في آية أخرى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذا- والله أعلم- في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ فروي عن ابن عباس أنه قال: كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة: ثم قلت: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً .. الآية. فكتب عليكم ألا يفر مائة من مائتين. وقال ابن عباس: إن فر رجل من رجلين فقد فر، وإن فر من ثلاثة فلم يفر- قال الشيخ يعني بقوله: فقد فر. الفرار من الزحف المراد بالآية، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا فئة كل مسلم». وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الحشر حتى قتل ولم ينهزم: «رحم الله أبا عبيد! لو انحاز إلي لكنت له فئة». فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيدة قال: «أنا فئة لكم». ولم يعنفهم ... وهذا الحكم عندنا (يعني عند الحنفية) ثابت، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا، لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال: وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم، ونحو ذلك، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم. فإذا بلغوا اثني عشر ألفا فإن محمدا بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر عددهم، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه (يعني الحنفية) واحتج بحديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن ابن

فوائد

عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب أربعة. وخير السرايا أربع مائة. وخير الجيوش أربعة آلاف. ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة ولن يغلبوا». وفي بعضها «ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم». وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؟ فقال مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف: وإلا فأنت في سعة من التخلف، وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن. والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب، وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله: «إذا اجتمعت كلمتهم». وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم). انتهى. ذكرنا هذا الكلام هنا لتعرف بعض اتجاهات الفقهاء في هذا الشأن، ونحب هنا أن نلفت النظر إلى كلمة الإمام مالك مجيبا على السؤال «أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيره؟» إن هذا السؤال الذي وجه للإمام مالك من قرون هو واقعة عصرنا، ففي كل قطر من أقطار هذه الأمة تقريبا يحكم بغير ما أنزل الله، ولذلك فإن السؤال مهم، والجواب عليه مهم كذلك، فماذا كان جواب الإمام مالك؟ قال: «إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف» وهذا هو الأصل الذي اعتمده الأستاذ البنا رحمه الله، أنه متى وجد هذا العدد فلا بد من إقامة حكم الله، ومنابذة كل من يقف في وجه ذلك، ولننتقل إلى ذكر بعض الفوائد حول التوجيه الذي مر معنا وهو التوجيه الأول في المقطع الثاني. فوائد: 1 - هذا هو التوجيه الأول في هذا المقطع في شأن القتال، وهذا التوجيه يقتضي أن لا نفر إلا لخدعة أو لالتحاق بفئة. وقد ذكر الله عزّ وجل في هذا التوجيه المعاني التي تساعد على الثبات وتبعد عن الفرار. أ- حذر من الفرار حذار سخط الله في الآخرة. ب- ثم بين أنه هو الفاعل لا غيره، وأن سنته نصر المؤمنين وتوهين الكافرين، فليثبت المؤمن ليحقق الله به سنته، ثم بين أنه هازم الكافرين ولو دعوه، وأنه سيعود عليهم

بالهزيمة كلما عادوا للكيد لأوليائه، وفي ذلك ما يثبت المؤمنين، ويستدعي منهم الثبات انتظارا لتحقيق الله موعوده فيهم وفي الكافرين. 2 - روي البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وقد استدل ابن كثير بهذا الحديث على أن قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ عامة في بدر وغيرها؛ دفعا لمن قال إنها في أهل بدر خاصة. قال بعد ذكر كل الأقوال. وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم، من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير. 3 - إن التحيز إلى فئة يختلف باختلاف الأحوال، فهناك حالات الاضطرار، وقد يصل الاضطرار إلى درجة يعتبر فيها التحيز إلى الإمام الأعظم- أي إلى عاصمة المسلمين- تحيزا إلى فئة، وبعده ليس تحيزا، إلا إلى حيث يكون الإمام، أو يأمر به، فإذا ما أصبحت المسألة كذلك لم يعد إلا القتال حتى الموت، والدليل أن التحيز إذا كان هناك اضطرار يمكن أن يكون بالتراجع إلى حيث يكون أميره أو الإمام الأعظم ما يلي: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة ثم تبنا: ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لنا توبة، وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: «من القوم؟» فقلنا: نحن الفرارون فقال: «لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين». قال: فأتيناه حتى قبلنا يده. وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن ورواه ابن أبي حاتم وزاد في آخره وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ قال أهل العلم: معنى قوله «العكارون» أي العرافون، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس؛ لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيز إلي لكنت له فئة. هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر، وفي رواية أبي عثمان النهدي عن

عمر قال: لما قتل أبو عبيد: قال عمر: أيها الناس أنا فئتكم. وقال مجاهد: قال عمر: أنا فئة كل مسلم. 4 - وفي سبب نزول قوله تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه- يعني يوم بدر- فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في أرض أبدا». فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم. فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه وفمه تراب من تلك القبضة؛ فولوا مدبرين. وقال السدي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر: «أعطني حصبا من الأرض» فناوله حصبا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ. ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وروى أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» فدخلت في أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى قال: هذا يوم بدر، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصبات ميمنة القوم، وحصيات في ميسرة القوم، وحصيات بين أظهرهم وقال: «شاهت الوجوه»، فانهزموا. وقد روي في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا. أقول: وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من رمية فيها معجزة، ولكن الآية نزلت في حادثة بدر. وقد غلط من ظن أن هذا لم يكن إلا يوم حنين. 5 - وفي سبب نزول قوله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ نذكر ما يلي: روى الإمام أحمد .. عن عبد الله بن ثعلبة: أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة. فكان المستفتح. وأخرجه النسائي

ولنعد إلى التفسير الحرفي

وكذا رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين. وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال الله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ يقول: قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ولنعد إلى التفسير الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل شئ ومن ذلك القتال وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ولا تتولوا عنه أي ولا تعرضوا عن طاعته وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي وأنتم تسمعونه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أي ادعوا السمع والطاعة وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ولا يطيعون في الحقيقة كالمنافقين والمعنى: أنكم أيها المؤمنون تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول- وخاصة في القتال الذي هو موضوع السورة أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي إن شر من يدب على وجه الأرض البهائم، وإن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه، خرس عن الحق لا ينطقون به، ولا يتكلمون فيه، ولا يدعون إليه، جعلهم من جنس البهائم ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم وكابروا بعد العقل وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أي صدقا ورغبة لَأَسْمَعَهُمْ أي لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا أي ولو أسمعهم وصدقوا لارتدوا بعد ذلك ولم يستقيموا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي عن الإيمان. فائدة: هذا هو التوجيه الثاني في هذا المقطع. وهو أمر بالطاعة المطلقة لله والرسول، وأمر بالسماع الدقيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن القتال وغيره في الظاهر والباطن. وبدون ذلك لا يكون نصره رباني. فالنصر الرباني مفتاحه، وشرطه وسببه الطاعة الكاملة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان هذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحا، وأما بعد وفاته عليه الصلاة السلام، فالطاعة لله ورسوله تكون بالتزام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من قبل المسلمين أمراء وجند، ومن ثم طاعة الأمراء في الله، وبدون ذلك لا يقوم قتال ولا جهاد رباني.

[سورة الأنفال (8): آية 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ الاستجابة: الطاعة والامتثال، والدعوة: البعث والتحريض لِما يُحْيِيكُمْ اختلف المفسرون في المراد بما يحيي هنا هل هو كل ما أنزل الله من وحي، أو هو الجهاد، لأنه بدون جهاد يتغلب الكافرون فيقتلون المسلمين ويذلونهم ويحرفونهم، ولأن الجهاد هو طريق الشهادة التي هي طريق الحياة؟ والذي أرجحه أن المراد بذلك الاستجابة المطلقة، ومنها الاستجابة إلى الحرب خاصة، وما الفارق بين هذا التوجيه والتوجيه السابق؟ الذي يبدو أن الاستجابة تدخل فيها حالات خاصة فهي جزء من الطاعة، ولكن لها مضمونها، فالاستجابة تفيد قوة التجاوب مع الاستنفار للحرب وغيره، ومما يؤكد أن الاستجابة في الآية يدخل فيها الاستجابة لأمر الحرب ما رواه محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير في تفسير قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قال أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم. اه. وإذن فالآية تحض حضا خاصا على الاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن القتال، مع ملاحظة وجوب الاستجابة لله والرسول في كل شئ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إما بتقليب قلبه عقوبة له، وإما بفرار قلبه عن المعاني الإيمانية الصالحة لعدم استقامة الجوارح، وإما بتفويت الفرصة على الإنسان حتى يصل إلى التمكن من إخلاص القلب لله بالموت أو بالصوارف، ومن ثم فعليكم بالاستجابة لله والرسول ليوفق قلوبكم إلى الخير وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: واعلموا أنكم تحشرون إليه فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة، وكما يترتب على عدم الاستجابة لله والرسول صرف القلب عن الخير أو الإيمان فإنه يترتب على ذلك نزول عذاب وَاتَّقُوا فِتْنَةً أي اختبارا ومحنة يعم بها المسئ وغيره، ولا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع المعاصي وترفع لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إذا عاقب، ولكي تكون الاستجابة كاملة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال وما يشبهه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، ذكرهم بحالهم قبل بدر وحالهم بعده وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي واذكروا وقت كونكم قلة أذلة مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ لأن الناس كلهم كانوا لهم أعداء مضادين فَآواكُمْ أي في المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ كالغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم فتستجيبون لله

فوائد

وللرسول في كل شئ، وصف الله حالهم الأول- حال مقامهم بمكة- قليلين مستخفين مضطهدين، يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله، من مشرك ومجوسي ورومي، وكلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة، فآواهم إليها، وقيض لهم أهلها أووا ونصروا يوم بدر وغيره، وواسوا بأموالهم، وبذلوا مهجهم في طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض قال: (كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار. يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كان أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد. ووسع به في الرزق. وجعل به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر. وأهل الشكر في مزيد من الله» يفهم من هذا أن قتادة اعتبر هذا الخطاب خطابا عاما للعرب، وهو اتجاه طيب إذا أريد به العرب المؤمنون يوم لم يكن غيرهم يحمل هذا الإسلام، على أن الخطاب فيما يبدو لأهل الإيمان بعد بدر، وهو خطاب يشمل كل حالة مشابهة إلى قيام الساعة. فوائد: 1 - الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيهما حياة الإسلام وحياة المسلمين. وقد جاء هذا التوجيه حاضا على الجهاد، مخوفا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مذكرا بحال المؤمنين قبل القتال، وحالهم بعده، والإشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً يشير إلى أن مما يكمل الأمر بالقتال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) بيان هذا وتفصيله، وفي هذا التوجيه- الذي هو التوجيه الثالث في هذا المقطع- رأينا كيف أن على المسلمين أن يسارعوا إذا دعوا للقتال من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا دعوا من قبل الأئمة من بعده، أو الأمراء، وبهذا نكون قد أدركنا محل هذا التوجيه ضمن هذا المقطع بما يتفق مع السياق، ولكنا كنا ذكرنا أن وجوب الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم ليس في هذا الشأن فقط. بل هو في كل شئ، وإن كنا فهمنا من السياق خصوصية هذا النداء في شأن القتال، ولذلك نلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد استشهد بهذه الآية في مقام آخر كدليل على

وجوب الاستجابة له في كل شئ، كما في هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته، فقال: «ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج» فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له .. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يذكر ابن كثير مجموعة أحاديث كلها تدور حول معنى واحد نجتزئ منها ثلاثة أحاديث: أ- روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قال: فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها». وهكذا رواه الترمذي في كتاب (القدر) من جامعه ثم قال: حسن. ب- وروى الإمام أحمد أيضا ... أن أم سلمة كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالت: فقلت: يا رسول الله أو إن القلوب لتقلب؟ قال: «نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب» قالت: فقلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني». ج- وروى الإمام أحمد أيضا .. عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك». 3 - وبمناسبة قوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ننقل هذه الأحاديث والآثار:

روى الإمام أحمد عن مطرف قال: «قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت». وقد رواه البزار وروى النسائي نحوه. وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب». قال ابن كثير: وهذا تفسير حسن جدا. ثم قال ابن كثير: ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه .. ثم ذكر مجموعة روايات وأحاديث نكتفي منها بما لا يؤدي إلى التكرار: روى الإمام أحمد .. عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم». ورواه عن أبي سعيد عن إسماعيل بن جعفر وقال: «أو ليبعثن عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم». وروى الإمام أحمد أيضا .. عن أبي الرقاد قال: «خرجت مع مولاي فدفعت إلى حذيفة وهو يقول: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير، أو ليسحتكم الله جميعا بعذاب، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. وروى الإمام أحمد أيضا .. عن عامر رضي الله عنه قال: سمعت النعمان ابن بشير رضي الله عنه يخطب يقول- وأومأ بأصبعين إلى إذنه يقول: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها- والمدهن فيها- كمثل قوم ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم؛ فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا». انفرد بإخراجه البخاري والترمذي. وروى الإمام أحمد أيضا .. عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده» فقلت يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: «بلى» قالت: فكيف يصنع أولئكم؟ قال: «يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان» .. وروى الإمام أحمد أيضا .. عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال

[سورة الأنفال (8): آية 27]

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يعملون بالمعاصي، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع، لا يغيره، إلا عمهم الله بعقاب، أو أصابهم العقاب». رواه أبو داود أيضا. وروى الإمام أحمد أيضا .. عن عبيد الله بن جرير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر فمن يعملون، ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب». وأخرجه ابن ماجه أيضا. ولنلاحظ أن الحديث الأخير جعل استحقاق العذاب للجميع إذا وجدت القدرة في العزة والكثرة عند أهل الخير ثم لا يمنعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا شك أنه في كل زمان ومكان إذا كان بالإمكان أن يجتمع أهل الحق على حقهم، ويتغلبوا على الباطل وأهله فعليهم أن يفعلوا. ولننتقل إلى التوجيه الرابع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ بترك الطاعة وارتكاب المعصية وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ بإفشاء أسرار المؤمنين للكافرين والمنافقين. قال السدي في هذه الآية: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين أي: فهذه خيانة فلا ترتكبوها، وهذه قضية مهمة جدا في موضوع القتال. فمن المعروف أن العدو يستفيد من أي كلمة تقال، فعلى المسلم أن يعتبر كل أسرار المؤمنين، ودولتهم، وجماعتهم أمانة عنده، فلا يفشيها، ولا ينقلها، ولا يحدث بها وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تبعة ذلك الإفشاء ووباله، أو وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعني: أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو، أو وأنتم علماء تعلمون حسن الحسن، وقبح القبيح، والخيانة لله والرسول، وخيانة الأمانة، كل ذلك قبيح تعرفونه وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي سبب الوقوع في الفتنة: وهي الإثم والعذاب، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده، فاعلموا هذا حتى لا يستجركم مال، أو ولد، إلى خيانة لله والرسول، والأمانة وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي اعلموا ذلك من أجل أن تحرصوا على طلب ذلك، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال، وحب الولد، فيخرجكم ذلكم عن الأمانة إلى الخيانة. فإن ثواب الله وعطاءه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو وأكثرهم لا يغني عنكم من الله شيئا .. فوائد: 1 - لاحظنا أن هذا التوجيه الذي هو التوجيه الرابع في سياقه ينصب على قضية رئيسية

في شئون القتال، وهي عدم الخيانة لله ورسوله، وعدم الخيانة لأسرار المسلمين ولكنا كنا تحدثنا أن النص القرآني يعطينا من خلال سياقه الجزئي مدلولا، ومن خلال سياقه العام مدلولا، ومن خلال ما تحتمله ألفاظه مدلولا، كل منهم يكمل الآخر ولا يناقضه، وهذا ما نجده في هذه الآيات، فإذا كان السياق يفهمنا ألا نفشي أسرار المسلمين العسكرية، فإن لفظ الأمانة أوسع من هذا، ومن ثم فإن غيره يدخل فيه، فكل سر ائتمنك عليه أخوك ما لم يكن في كتمانه إثم فهو أمانة، وما ائتمنك عليه الله من تكليف أمانة وعليك ألا تخون. 2 - القول الأقوى في سبب نزول هاتين الآيتين أنهما نزلتا في أبي لبابة بن عبد المنذر هذا ما ذكره عبد الرزاق عن قتادة والزهري قالا: أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك، وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح. ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه، فمكث كذلك تسعة أيام، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد، حتى أنزل الله توبته على رسوله صلى الله عليه وسلم، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله، فقال: يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة فقال: «يجزيك الثلث أن تصدق به». 3 - ومما يدل على أن الخيانة للأمانة يدخل فيها إفشاء أسرار المؤمنين، الحوار الوارد في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى قريش يعلمها بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبعث في إثر الكتاب، فاسترجعه، واستحضر حاطبا، فأقر بما صنع، وفيها: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؛ فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال: «دعه فإنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». قال ابن كثير: والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ

[سورة الأنفال (8): آية 29]

عَظِيمٌ قال ابن كثير: وفي الأثر يقول الله تعالى: يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شئ، وإن فتك فاتك كل شئ، وأنا أحب إليك من كل شئ» وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذا انقذه الله منه». بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين». ولننتقل إلى التوجيه الخامس: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي نصرا لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله، أو بيانا وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، أو مخرجا من الشبهات، وشرحا للصدور، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة أو هذا كله، ولوجود هذه الأقوال كلها فسرنا الآية بأنه وعد ببدر كل حين وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يمحوها وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم فيسترها عن أعين الناس وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على عباده. كلمة في السياق: لاحظنا أن السورة تفصيل لما له علاقة في فرضية القتال، وفي هذا المقطع ذكرت مجموعة أمور كلها مهمة في شأن القتال لإحراز النصر: الثبات والانضباط والمسارعة إلى النفير والكتمان والتقوى، في خمسة توجيهات كل منها مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وكل منها شرط رئيسي لإحراز النصر. إذ أنك عند ما تكون مكشوفا لعدوك ما أسهل أن يكيدك عدوك، وعند ما لا تكون مسارعة للقتال، ما أسرع أن يضربك عدوك، وعند ما لا يكون انضباط ما أسرع أن تنتهي معركتك بالفشل. وبدون صبر على القتال لا يكون إلا الاستسلام، وعند ما لا تكون تقوى فلا جهاد ربانيا موجود أصلا. والدول في عصرنا تدرب جندها تدريبا عاليا، وتضعهم في الظروف الصعبة أثناء التدريب ليثبتوا في المعركة، والدول الآن تركز في جيوشها على الانضباط والطاعة، واستحدثت لذلك النظام المنضم والرتب العسكرية، والعقوبات

القسم الثاني

الزاجرة ومجموعة من الأنظمة، لتحقيق هذا الغرض، وتبذل الدول جهدا كبيرا في تحسين طرق الإدارة والتعبئة، للاستجابة السريعة للنفير، لتضمن تعبئة سريعة بأسرع وقت، وتحيط شعبها وعناصر جيشها بمجموعة من الأمور وقضايا الأمن، لضمان عدم تسرب أخبار أمنها، وجيشها إلى عدوها، وقد جمع هذا المقطع هذه المعاني مع معان أخرى كثيرة. فأين الصورة العملية لهذه التعليمات؟ أين الجيش المسلم، والدولة المسلمة، والفرد المسلم .. ؟ وبهذا ننهي الكلام عن المقطع الثاني وبانتهاء المقطع الثاني ينتهي القسم الأول من أقسام سورة الأنفال، وقد تألف من مقدمة السورة ومقطعين، المقطع الأول وقد بدأ بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن بدر، ثم جاء المقطع الثاني وفيه نداءات للمؤمنين، والآن يأتي القسم الثاني ويتألف من مقطعين، وخاتمة هي خاتمة السورة. المقطع الأول ويبدأ بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقطع الثاني وفيه نداءات للمؤمنين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تأتي الخاتمة وفيها مجموعة تقريرات فإلى المقطع الأول من القسم الثاني. *** [القسم الثاني] المقطع الأول من القسم الثاني ويمتد من الآية (30) إلى نهاية الآية (44) وهذا هو: [سورة الأنفال (8): الآيات 30 الى 44] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

المعنى العام

المعنى العام: انتهى القسم الأول من هذه السورة بوعد للمؤمنين أنهم إذا اتقوا الله فإن الله سيجعل لهم مخرجا ونجاة ونصرا، وفصلا بين الحق والباطل، ونورا يدرك به الحق من الباطل، ويأتي هذا المقطع، ويتألف من ثلاث مجموعات ويرتبط بالآية السابقة عليه مباشرة، وينتظم المجموعات الثلاث في سياقها الكلي أنها في موضوع الصراع مع الكفر وأهله، وفي موضوع القتال وضرورته، وأسبابه ومبرراته، وآثاره وفضل الله على المؤمنين فيه. تتحدث المجموعة الأولى: عن كيد الكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحضيض الكيد الذي وصلوا إليه، وسخافة الكبر الذي عاملوا به دعوته، من وصفهم دعوة رسول الله والقرآن الذي أنزل عليه بأنه خرافات، ومن ذلك طلبهم عذاب الله إذا كان ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، وهذا غاية الكفر والكبر، وتتحدث عن طرقهم الفاسدة في العبادة، والطواف، وكما تتحدث عما خططوا له من سجن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل أو إخراج، فأنجى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من هذا كله. وقتلهم يوم بدر. فهذه أمهات المعاني في المجموعة الأولي، وهي تصب في النهاية في مصب السياق العام للسورة، من أن الكافرين يستحقون أن يعذبوا وأن يقتلوا، والمجموعة الثانية: تحدثنا عن إنفاق الكافرين الأموال ليصدوا عن سبيل الله، وكيف أن هذا الإنفاق ليس وراءه إلا إتلاف المال والهزيمة، والعذاب يوم القيامة. وهذا كذلك من فعل الله للمتقين أن يجعل لهم فرقانا، وفيه مبرر من مبررات القتال.

المعنى الحرفي للمجموعة الأولى

والمجموعة الثالثة: تبين أن الله عزّ وجل يغفر للكافرين إن تابوا من كفرهم، وإن لم يتوبوا فسيصيبهم ما أصاب الكافرين من قبل، ثم أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكافرين حتى لا يفتن أحد عن دينه. ثم بين الله عزّ وجل أن الكافرين إن أعرضوا عن الاستجابة لأمر الله؛ فليعلم المؤمنون أن الله مولاهم، وهذا مظهر من مظاهر الفرقان الذي يعطيه الله تعالى المؤمنين في مقابل تقواهم، إنه بعد أن ذكر في المجموعتين السابقتين مبررات القتال، جاء في هذه المجموعة الأمر بالقتال، وإذ يستتبع القتال الغنيمة، فإن الله يأمر المؤمنين أن يعلموا حكم الله في الغنائم، وأن يطبقوه كجزء من التقوى، وعلامة على الإيمان، ثم يحدثنا الله عزّ وجل عن يوم الفرقان أي: يوم بدر، مما يدل على أن الفرقان الذي وعد الله عزّ وجل به عباده المتقين من مظاهره ما حصل يوم بدر، ومما ذكره الله عزّ وجل عن يوم بدر في هذا المقام ما فعله الله للمؤمنين من جمع بين المسلمين والكافرين، ومن تهيئته لأسباب المعركة لينصر المؤمنين، ويرفع كلمة الحق على الباطل؛ ليصير الأمر ظاهرا، والحجة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل لقيام الحجة عليه، ومجئ هذا المعنى بعد الأمر بالقتال تذكير للمسلمين بفعل الله يوم بدر ليقاتلوا في كل معاركهم وهم مطمئنون، ومجئ هذه المعاني كلها بعد آية الفرقان يشير إلى أن المقطع كله في توضيح قضية الفرقان، وقد جاءت كلمة الفرقان مرة ثانية في سياق المقطع، مما يدل على أن مظاهر الفرقان متعددة، فقد يكون إنجاء أو قد يكون نصرا، وقد يكون خذلانا للكافرين، وقد يكون إفسادا لكيدهم. المعنى الحرفي للمجموعة الأولى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي واذكر مكرهم بك وأنت في مكة لِيُثْبِتُوكَ أي ليحبسوك ويوثقوك أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم قتلة تشترك بها جميع قبائلهم أَوْ يُخْرِجُوكَ أي أو ينفوك من مكة وَيَمْكُرُونَ أي ويخفون المكايد لك، أو ويخططون للقضاء عليك، أو ويتآمرون عليك وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يعاملهم مجازيا بمكرهم لهم فيخفي لهم ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة مستدرجين وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وهذا صلف منهم ووقاحة؛ لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثل هذا القرآن فلم يأتوا به إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا إلا خرافات السابقين وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا أي

[سورة الأنفال (8): آية 33]

القرآن هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، وهذا من كثرة جهلهم، وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، فبدلا من أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه قالوا ما قالوا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فيه دلالة على أن تعذيبهم ورسول الله بين أظهرهم غير مستقيم، لأنه بعث رحمة للعالمين، وسنته عزّ وجل ألا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم، ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين، أو لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. أو معناه نفي الاستغفار عنهم، ولذلك عذبهم فيما بعد بتسليط المؤمنين عليهم يوم بدر وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام، ومن ذلك إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منه، فذلك أعظم الصد وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي وما كان للمشركين مع إشراكهم وعداوتهم لدين الله، أن يستحقوا أن يكونوا ولاة أمر الحرم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي إن أولياء الحرم إلا المسلمون، ويحتمل أن يكون المراد به وما كان المشركون أولياء الله، إن أولياء الله إلا المتقون وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك أي من استحق ولاية الله، أو ولاية الحرم وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً أي صفيرا وَتَصْدِيَةً أي وتصفيقا فَذُوقُوا الْعَذابَ أي عذاب القتل والأسر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم. فوائد: 1 - يلاحظ أن هذه المجموعة قد عرضت نوعا من أنواع الفرقان، وذلك أن أمة كأهل مكة في سوء أدبها مع الله ومع كتبه، وفي مثل كبرها وتعنتها ومحاربتها للحق، وفي مثل كيدها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخطيطها ضده كيف كان عاقبة أمرها؟ إفساد كيدها وهزيمتها وقتل عظمائها وأسرهم، كل ذلك أنواع من الفرقان الذي وعد الله المتقين به في نهاية المقطع السابق، وفي المجموعة معان أخرى، منها ما يفيد استحقاق الكافرين للعذاب والقتل، ومنها ما يعرفنا على بعض سنن الله في موضوع العذاب وإنزاله، وكل هذه

المعاني تمضي على نسق السياق العام للسورة، فيما فيه تفصيل لفريضة القتال، وأسبابها، وحكمها، وما تقتضيه، وما يلزم لتنفيذها. 2 - في سبب نزول قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ .. يذكر ابن كثير عدة روايات يرد بعضها ويثبت بعضا فلنذكر ما أثبته: روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي .. عن ابن عباس: أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي، قالوا: أجل أدخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير، والنابغة، إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ- عدو الله- الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي. والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه؛ فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم قالوا: صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، قال أبو جهل- لعنه الله-: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، أخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك

بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (الأنفال: 30) وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (الطور: 30) فكان ذلك اليوم يسمى الزحمة للذي اجتمعوا من الرأي، وعن السدي: نحو هذا السياق، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 76) وكذا روى العوفي عن ابن عباس وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك. وروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على رءوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. (يس: 1: 9) روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عكرمة ما يؤكد هذا. وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه .. عن ابن عباس قال: دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي قال: «وما يبكيك يا بنية؟» قالت: يا أبت وما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر، يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطئوا رءوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا» ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وروى الإمام أحمد .. عن ابن عباس في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الآية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول

الله صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم. فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال». 3 - قص سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم أن القائل عن القرآن أنه أساطير الأولين، وأنه قادر على أن يأتي بمثله، هو النضر بن الحارث لعنه الله، فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وإسفنديار، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس، جلس فيه النضر، فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر، ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه، ففعل ذلك، ولله الحمد، وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه، كما روى ابن جرير .. عن سعيد بن جبير قال: قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا: عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر ابن الحارث، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله أسيري؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه كان يقول في كتاب الله عزّ وجل ما يقول» فأمر رسول الله بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله أسيري؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم اغن المقداد من فضلك» فقال المقداد: هذا الذي أردت، قال: وفيه أنزلت هذه السورة وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. (الأنفال: 31) 4 - وأما الذين قالوا: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ وأشباه ذلك فيبدو أنهم كثيرون، منهم أبو جهل، كما تذكر بعض الروايات، ومنهم النضر كما تذكر روايات أخرى، ومنهم عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وقد أسلم. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قد

قد» ويقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك ويقولون: غفرانك فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية، قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار، وروى الترمذي .. عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل الله علي أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة». ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه ... عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ثم قال الحاكم صحيح الإسناد، وروى الإمام أحمد .. عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العبد آمن من عذاب الله، ما استغفر الله عزّ وجل». 6 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ يذكر ابن كثير آثارا وأحاديث ننقلها مع حذف الأسانيد: روى ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياؤك؟ قال: «كل تقي» وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. وروى الحاكم في مستدركه .. عن رفاعة قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقال: «هل فيكم من غيركم؟» فقالوا: فينا ابن أختنا، وفينا حليفنا، وفينا مولانا، فقال: «حليفنا منا، وابن أختنا منا، ومولانا منا. إن أوليائي منكم المتقون». ثم قال: هذا صحيح. وقال عروة والسدي. ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ: قال: هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقال مجاهد: هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا. 7 - وقد فسر ابن عباس قوله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، تصفر وتصفق. وقال ابن عمر في تفسيرها: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون ويصفرون. وحكى عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه.

المعنى الحرفى للمجموعة الثانية

المعنى الحرفى للمجموعة الثانية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ليمنعوا الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أي ثم تكون عاقبة إنفاقها ندما وحسرة، فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ أي آخر الأمر، وهذه من معجزات القرآن، لأنه أخبر عنها قبل وقوعها، وكان كما أخبر، والوعد دائم، والموعود حاصل وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي منهم لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ فاجتمع عليهم ضياع المال، والغلبة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وكل ذلك لصالح المؤمنين، وكل ذلك من الفرقان الذي وعد به المتقون لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ أي الفريق الخبيث وهم الكفار مِنَ الطَّيِّبِ أي من الفريق الطيب من المؤمنين. والمعنى أن هذا الحشر من أجل هذا وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ أي الفريق الخبيث بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً أي فيجمعه كله فَيَجْعَلَهُ أي الفريق الخبيث فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ أي جماعة الفريق الخبيث هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم وأموالهم. وفي هذه المجموعة من الآيات مظهر آخر من مظاهر الفرقان في الدنيا والآخرة لأهل الإيمان وحزب الرحمن على حزب الشيطان. كما أن فيها مبررا آخر من مبررات القتال الذي فرضه الله على أهل الإيمان ليذلوا أهل الكفر والطغيان. فائدة: يروي ابن إسحاق سبب نزول هذه الآيات فيقول: (لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش، أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة. فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا، ففعلوا. فقال: ففيهم- كما ذكر ابن عباس- أنزل الله عزّ وجل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ إلى قوله هُمُ الْخاسِرُونَ وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، والحكم بن عيينة، وقتادة، والسدي، وابن أبزى، أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الضحاك: نزلت في أهل بدر. قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصا، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون

المعنى الحرفي للمجموعة الثالثة

أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق. فسيفعلون ذلك. ثم تذهب أموالهم، ثم تكون عليهم حسرة (أي ندامة) حيث لم يجد شيئا، لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق. والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه، ومعل كلمته، ومظهر دينه على كل دين. فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوؤه، ومن قتل منهم، أو مات فإلى الخزي الأبدي، والعذاب السرمدي). المعنى الحرفي للمجموعة الثالثة: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم وصدهم عن سبيل الله يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من كفرهم وعملهم السيئ ومن ذلك صدهم وقتالهم وَإِنْ يَعُودُوا أي وإن يستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والصد والقتال فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي سنة الله فيهم بالعذاب في الدنيا، إما بأيدي المؤمنين، أو بالإهلاك ثم بالعذاب في الآخرة. والآية تدل على أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة. وَقاتِلُوهُمْ أي: وقاتلوا الكفار حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي حتى لا يوجد مسلم يفتن عن دينه، وذلك لا يكون إلا إذا أصبح السلطان للمسلمين في العالم كله، فعلى المسلمين أن يفعلوا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي ويضمحل عنهم كل دين باطل إما بانتهائه أو بخضوع أهله ويبقى فيهم دين الإسلام وحده له الكلمة العليا فَإِنِ انْتَهَوْا أي عن الكفر وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيثيبهم على إسلامهم إن صدقوا فيه وأخلصوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: وإن أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم ومعينكم فثقوا بولايته ونصرته نِعْمَ الْمَوْلى لأنه وحده لا يضيع من تولاه أبدا وَنِعْمَ النَّصِيرُ الذي لا يغلب من نصره. إن الأمر بهذا القول، والقتال، والعلم، كل ذلك من لوازم التقوى التي جزاؤها الفرقان، فإن تقول للكافرين ما أمرت به، وأن تقاتل، وأن تعلم أن الله هو المولى. كل ذلك من التقوى التي جزاؤها الفرقان، ومن ذلك أيضا وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ قليل أو كثير فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أي فالحكم أن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هكذا كان الخمس يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم، سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرابته من بني هاشم، وبني المطلب، دون بني عبد شمس،

[سورة الأنفال (8): آية 42]

وبني نوفل، وثلاثة أسهم لليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وأما بعده صلى الله عليه وسلم فقد أجرى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي الخمس على ثلاثة. وسنرى الخلاف في هذا الموضوع إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم بدر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي الفريقان من المسلمين والكفار، وما أنزله الله عزّ وجل يوم التقى الجمعان هو الآيات، كالفتح، ومحاربة الملائكة، والمعنى إن كنتم تؤمنون بالله وآياته؛ فاعملوا بهذه القسمة، وارضوا بها، فالإيمان يوجب الرضا بالحكم والعمل بالعلم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك قدرته على أن ينصر القليل على الكثير، كما فعل بكم يوم بدر، ثم فصل بعض ما كان يوم الفرقان، يوم بدر إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا العدوة: شط الوادي، والدنيا: أي القربى إلى جهة المدينة وَهُمْ أي: المشركون بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعدى عن المدينة وَالرَّكْبُ أي العير والقافلة، وهو جمع راكب أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي في مكان أسفل من مكانكم، وقد كانوا في أسفل الوادي بثلاثة أميال وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أي أنتم وأهل مكة، وتوافقتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لخالف بعضكم بعضا. إذ قد تثبطكم قلتكم، أو تثبطهم سلامة قافلتهم أو غير ذلك، فلا يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له وَلكِنْ جمع بينكم بلا ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، أو ليقضي الله أمرا ينبغي أن يفعل، وهو نصر أوليائه، وقهر أعدائه، أوليتم أمرا كان قد أراده، وهو عز الإسلام وأهله، وذل الكفر وحزبه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أي: ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة؛ حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضا عن يقين وعلم، بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ للأقوال وغيرها عَلِيمٌ بكل شئ ومن ذلك كفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ أي في رؤياك قَلِيلًا وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فكان ذلك تشجيعا لهم على عدوهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي لجبنتم وهبتم الإقدام وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي في أمر القتال وترددتم بين الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن، والصبر والجزع وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي وإذ يبصركم إياهم إِذِ الْتَقَيْتُمْ أي وقت اللقاء فِي أَعْيُنِكُمْ

كلمة في السياق

قَلِيلًا قللهم في أعينهم ليثبتوا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ليدفعهم إلى قتالكم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليلقي بينكم وبينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه، ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر لينصر حزبه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيحكم بما يريد وقد حكم لأهل الإيمان. كلمة في السياق: سبق هذا المقطع بوعد من الله للمتقين أن يكافئهم، بأن يجعل لهم فرقانا، وقد اختلف المفسرون في معنى كلمة الفرقان كما رأينا، ولكن المقطع نفسه يوضح ماهية الفرقان، وخاتمة المقطع توضح ماهية الفرقان، وتسمية يوم بدر بأنه يوم الفرقان يوضح كذلك ماهية هذا الفرقان. وقد رأينا في المجموعة الأولى نموذجا على الفرقان: وهو إفساد كيد الكافرين لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا في المجموعة الثانية نموذجا على الفرقان بإضاعة مال الكافرين، وغلبتهم، وإدخالهم النار. وقد رأينا في المجموعة الثالثة نموذجا على الفرقان، بما فعل الله للمسلمين يوم بدر حتى أعطاهم الفرقان، وفي هذا المقطع تأتي أربعة أوامر. الأمر الأول: أن يقول الرسول للكافرين إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ الأمر الثاني: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ .. وهو أعظم أوامر القتال في الإسلام وأبعدها غاية. الأمر الثالث: أن يعلم المسلمون أن الله مولاهم. والأمر الرابع: أن يعلم المسلمون حكم الله في الغنائم. والأوامر الأربعة مهمة جدا في موضوع القتال، وكلها تحتاج إلى تقوى، وكلها تحتاج إلى معرفة بالله، وثقة بوعده، ومن ثم جاءت في خضم هذا المقطع المربي المهذب، الذي أكثر الله فيه من ضرب الأمثلة. الأمر الأول أمر بالتبليغ، وللتبليغ مشقاته، والأمر الثاني فيه تكليف بالسيطرة على العالم ولهذا مشقاته وعقباته، والأمر الثالث أمر بالتوكل على الله، والقلب فيه قد لا يواتي الإنسان، والأمر الرابع في إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم في الغنيمة، وهذا يحتاج إلى تقوى عظيمة، ومن ثم كان هذا المقطع يرفع الهمم إلى التقوى كما يذكر

المسلمين بفعل الله لهم لتنفذ هذه الأوامر بملء الثقة وبكامل الطاعة. ولا شك أن الأمة الإسلامية فرطت كثيرا في شأن القوة العسكرية. ولكن هذا لا يعفى من البداية الصحيحة. مما مر ندرك صلة المقطع بالآية التي قبله مباشرة، ومن قبل عرضنا ما له صلة بوحدته، فلقد انتهى المقطع بالكلام عما فعل الله للمسلمين في بدر، وذلك بعد الآية التي أمرت المسلمين بتخميس الغنائم، مما يشير إلى أن تخميس الغنائم مظهر من مظاهر شكر الله على فعله وإنعامه، وقد جاء الأمر بتخميس الغنائم بعد الأمر بالقتال، لأن الغنائم أثر من آثار الحركة الجهادية، والأمر بالقتال قد جاء وفيه تعليل لسبب فرضية القتال، وهي فتنة المؤمنين عن دين الله، ومن قبل ذكر الله عزّ وجل مجموعة من أفعال الكافرين التي تقتضي قتالهم من مثل مكرهم بالمؤمنين، وكبرهم وعنادهم، ومن مثل صدهم عن سبيل الله، وإنفاقهم الأموال من أجل ذلك، وكل ذلك يسبب فتنة المؤمنين عن دينهم، ولا تزول هذه الفتنة إلا بقتال، وإلا إذا كانت كلمة الله هي العليا، فالمقطع له وحدته، وهو مرتبط بالآية التي قبله مباشرة، وهو بمثابة المقدمة للمقطع اللاحق، الذي يعود السياق فيه إلى طريقة الخطاب المباشر بصيغة يا أَيُّهَا* للمؤمنين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما محله في السياق القرآني العام فواضح: فمحور السورة هو ما رأيناه من سورة البقرة كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ ... * يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ... إن المقطع يعلل لفرضية القتال، ويبين الطريق لإزالة الفتنة التي هي أكبر من القتل، ويبين أن المشركين ليسوا أصحاب الحق في المسجد الحرام. فلنلاحظ الصلة بين قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وبين قوله تعالى وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ... وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ثم مع قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثم قوله تعالى وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ* إن المقطع شديد التلاحم مع بعضه، شديد التلاحم مع الآية التي سبقته، شديد التلاحم مع مقدمة السورة وقسمها الأول، شديد التلاحم مع المحور.

الفوائد

الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ يذكر ابن كثير حديثين صحيحين: الأول: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر». والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها». 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ نذكر هذين الحديثين: ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عزّ وجل». وعن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله عزّ وجل؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزّ وجل». وهذا يفيد أن الهدف النهائي للقتال في الإسلام الوصول إلى وضع عالمي تكون فيه كلمة الله هي العليا، والسلطان للمسلمين، لا من أجل إكراه على دين. ولكن حتى لا تبقى سلطة أو وضع يحول بين إنسان وحرية الدخول في الإسلام، وإقامة شعائره. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ذكر ابن كثير هذا الحديث الصحيح. قال: وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟». فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا. قال: «هلا شققت عن قلبه؟». وجعل يقول ويكرر عليه «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» قال أسامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. 4 - وكنموذج على الفتنة ما حدث للمسلمين في ابتداء الإسلام كما روى ابن جرير عن عروة بسند صحيح أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة (وفيما كتب نموذج على ما ذكرنا قال): سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة. وسأخبرك به ولا حول ولا قوة إلا بالله: كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم

من مكة أن الله أعطاه النبوة: فنعم النبي، ونعم السيد، ونعم العشيرة. فجزاه الله خيرا، وعرفنا وجهه في الجنة، وأحيانا على ملته، وأماتنا وبعثنا عليها. وأنه لما دعا قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه، وكانوا يسمعون له حتى إذا ذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال أنكر ذلك عليه ناس، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانعطف عنه عامة الناس، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله، من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه، وكان يثنى عليه مع ذلك، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش، يتجرون فيها، وكانت مساكن لتجارهم، يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا، ومتجرا حسنا، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة، وخافوا عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح، فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم، ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم، فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وكانت الفتنة الأولى هي التي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض الحبشة، مخافتها، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال، فلما استرخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم، تحدث باسترخائهم عنهم، فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد استرخي عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون، فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، وجعلوا يزدادون ويكثرون، وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا الإسلام بالمدينة، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما رأت قريش ذلك، تآمروا على أن يفتنوهم ويشتدوا، فأخذوهم، فحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهد شديد، فكانت الفتنة الآخرة، فكانت فتنتان: فتنة أخرجت من خرج إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها، وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة، ثم أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبا، رءوس الذين أسلموا فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم، على أنا منك وأنت منا، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، فاشتدت عليهم

قريش عند ذلك، فأمر رسول الله أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو، وهي التي أنزل الله عزّ وجل فيها وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ... 5 - وفي آية الغنائم كلام كثير نجتزئ منه الفقرات التالية: أ- قال ابن كثير: والغنيمة: هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب. والفئ: ما أخذ منهم بغير ذلك، كالأموال التي يصالحون عليها، أو يتوفون عنها، ولا وارث لهم، والجزية والخراج ونحو ذلك، هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف والخلف، ومن العلماء من يطلق الفئ على ما تطلق عليه الغنيمة، وبالعكس أيضا. ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى الآية. قال: فنسخت آية الأنفال تلك، وجعلت الغنائم: أربعة أخماس للمجاهدين وخمسا منها لهؤلاء المذكورين، وهذا الذي قاله بعيد لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، وتلك نزلت في بني النضير، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة أن بني النضير بعد بدر، وهذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب، فمن يفرق بين معنى الفئ والغنيمة يقول: تلك نزلت في أموال الفئ، وهذه في الغنائم، ومن يجعل أمر الغنائم والفئ راجعا إلى رأي الإمام يقول: لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس إذا رآه الإمام والله أعلم. ب- اختلف المفسرون في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ .. هل المراد بذكر لفظ الجلالة هنا أن يفرد سهم من الغنائم خاص للإنفاق على مثل الكعبة، أو أن ذكر لفظ الجلالة هنا للتبرك؟ الراجح أنه استفتاح كلام للتبرك؛ لأن الخمس كله لله، يشهد لذلك الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بلقين قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرسا فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش» قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: «لا، ولا السهم تستخرجه من جنبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم». واختلفوا في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قال ابن كثير: قال قائلون: يكون لمن يلي الأمر من بعده، وقال: آخرون يصرف في مصالح المسلمين، وقال آخرون: بل هو مردود على بقية الأصناف، ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال آخرون بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. قال

الأعمش عن إبراهيم: كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم فى الكراع (أي الدواب المخصصة للحرب) والسلاح. ج- روى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة بين أنملتين فقال: «إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم، ينجي الله به من الهم والغم». قال ابن كثير: هذا حديث عظيم. د- بوب البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان بابا سماه «باب أداء الخمس من الإيمان» ويشهد لهذا قوله تعالى في آخر آية الغنائم إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .. * وذكر البخاري دليلا على ما بوب له الحديث الذي رواه مسلم أيضا عن عبد الله بن عباس في حديث وفد عبد القيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «وآمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله- ثم قال-: هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم». 6 - وبمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ ننقل ما يلي: روى عبد الرزاق عن عروة في قوله يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم فرق الله بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة- أو سبع عشرة- مضت من رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على السبعين، وأسر منهم مثل ذلك. وقد روى الحاكم في مستدركه ... عن ابن مسعود قال في ليلة القدر: تحروها لإحدى عشر يبقين فإن في صبيحتها يوم بدر. وقال على شرطهما. وروى ابن

جرير .. أن الحسن بن علي قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من رمضان. إسناده جيد قوي. وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير. 7 - وبمناسبة الكلام عن غزوة بدر في آخر هذا المقطع الذي مر معنا يذكر ابن كثير مجموعة روايات تفيد في فهم الآيات قال ابن كثير: (وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. وروى ابن جرير .. عن عمير ابن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقت السقاة، ونهد الناس بعضهم لبعض. وروى محمد بن إسحاق في السيرة: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس ابن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان، فانطلقا حتى إذا وردا بدرا، فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء، فاستقيا في شن لهما من الماء، فسمعا جاريتين تختصمان تقول إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي، وتقول الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد؛ فأقضيك حقك، فخلص بينهما مجدي بن عمر؛ وقال: صدقت، فسمع بذلك بسبس وعدي، فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه الخبر، وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر، فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره؟ فقال لا والله إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، فاستقيا من شن لهما، ثم انطلقا، فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما، فأخذ من أبعارهما ففته، فإذا به النوى فقال: هذه والله علائف يثرب، ثم رجع سريعا فضرب وجه عيره، فانطلق بها للساحل، حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره بعث إلى قريش، فقال إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نأتي بدرا- وكانت بدر سوقا من أسواق العرب- فنقيم بها ثلاثا، فنطعم بها الطعام، وننحر بها الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، وبمسيرنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا، فقال الأخنس بن شريق: يا معشر بني زهرة، إن الله قد أنجى صاحبكم فارجعوا، فأطاعوه فرجعت بنو زهرة، فلم يشهدوها ولا بنو عدي. ثم روى محمد بن إسحاق ... عن عروة بن الزبير قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دنا من بدر على بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر فأصابوا سقاة لقريش

غلاما لبني سعيد بن العاص، وغلاما لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه يصلي، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلما أزلقوهما، قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ثم سلم وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش» قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى (والكثيب: العقنقل) فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم القوم؟»: قالا: كثير، قال ما عدتهم؟» قالا: ما ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف» ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة ابن الأسود. وأبو جهل بن هشام. وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل ابن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها». ثم روى محمد بن إسحاق ... أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما التقى الناس يوم بدر: يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه، وننيخ إليك ركائبك، ونلقى عدونا، فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك، وتلحق بمن وراءنا من قومنا، فقد- والله- تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم، لو علموا أنك تلقى حربا، ما تخلفوا عنك، ويوازرونك، وينصرونك، فأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به، فبني له عريش، فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر ما معهما غيرهما. ثم قال ابن إسحاق: وارتحلت قريش حين أصبحت، فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل (وهو الكثيب) الذي جاءوا منه إلى الوادي فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها، وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة». ثم قال محمد ابن إسحاق في قوله تعالى لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أي ليكفر من كفر بعد الحجة، لما رأى من الآية والعبرة، ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وهذا تفسير جيد). 8 - وبمناسبة قوله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ. قال الألوسي: (وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن

قضيتان مهمتان

مسعود رضي الله عنه إلى من بجنبه أتراهم سبعين فقال: أراهم مائة) تثبيتا لهم وتصديقا لرسوله عليه الصلاة والسلام (ويقللكم في أعينهم) حتى قال أبو جهل: «إنما أصحاب محمد أكلة جزور» وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال؛ ليجترءوا عليهم، ويتركوا الاستعداد والاستمداد، ثم كثرهم سبحانه، حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة؛ فيبهتوا ويهابوا). وقال ابن كثير: (فلما التحم القتال، وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه كما قال تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين، فإن كلا منهما حق وصدق). قضيتان مهمتان: حدد قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الهدف النهائي للجهاد: وهو أن تنقطع فتنة المؤمنين عن دينهم، وأن تكون كلمة الله هي العليا في العالم، وكثيرون من الناس لا يعرفون المراد من كلمة الفتنة في هذا المقام، حتى إن الذين يفتنون المسلمين عن دينهم يتهمون المؤمنين بالفتنة، إذا ما طالبوا بإقامة شريعة الله، ولو أننا تأملنا السياق الذي وردت فيه الآية، لعرفنا أن المراد بالفتنة اضطهاد المسلمين، وصد الناس عن دين الله، بإنفاق الأموال، ولكن فتنة المسلم عن دينه لا تكون في هذا فقط، بل تكون كذلك عند ما تكون الجاهلية لها السلطان والدولة، فإنها في هذه الحالة تفتن بزخرفها الباطل الكثيرين عن دين الله، ولذلك فإن هدف الجهاد النهائي ألا تبقى فتنة، وأن يكون السلطان في هذا العالم للإسلام، وفي هذا يقول صاحب الظلال إن قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ .. يقرر حكما دائما للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم ولقد جاء الإسلام ليكون إعلانا عاما لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد- ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد- وذلك بإعلان ألوهية الله وحده- سبحانه وربوبيته للعالمين .. وأن معنى هذا الإعلان: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور .. الخ. ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:

أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان، ويرجعون بعبوديتهم لله وحده، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال .. وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام، وتنفذه في عالم الواقع، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين، أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه ... وثانيهما: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر- في صورة من الصور- وذلك لضمان الهدف الأول، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها، بحيث لا تكون هناك دينونة إلا لله وحده- فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله- وليس هو مجرد الاعتقاد. ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول، على حين أن الله سبحانه يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام، ما يكفي للبيان الواضح .. إلا أننا نزيد الأمر إيضاحا، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين أن الذي يعنيه هذا النص: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ هو إزالة الحواجز المادية، المتمثلة في سلطان الطواغيت، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد، فلا يكون هناك- حينئذ- سلطان في الأرض لغير الله، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله .. فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفرادا يختارون عقيدتهم أحرارا من كل ضغط. على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى، ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان الله .. إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفرادا، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد. فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد. ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله، ولن يتحرر «الإنسان» في «الأرض» إلا حين يكون الدين كله لله، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه. ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فمن قبل هذا المبدأ أو أعلن استسلامه له، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره، وتركوا هذا لله.

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .. ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ. نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. هذه تكاليف هذا الدين؛ وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع؛ ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس .. إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب؛ للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة؛ وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه. إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان .. وهو منهج حركي واقعي يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة ... يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان .. ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله. والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري. والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد- كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة- أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة. ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة لسواه. هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين. لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون. ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من «المسلمين»، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين. هذه هي القضية المهمة الأولى التي أردنا أن تكون واضحة قبل أن ننتقل من هذا المقطع. وأما القضية الثانية فهي قضية الغنائم إن آية الغنائم في المقطع صدرت بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا* مما يشير إلى أن موضوع الغنائم مما ينبغي علمه، لما يترتب على ذلك من خيرات وبركات، وإحقاق حق وإزهاق باطل، إن المسلمين قد فرض عليهم الجهاد، وأعطوا سلطانا على أموال الكافرين ونسائهم وذراريهم هذا حق لهم، وذلك في الوقت نفسه تحتاجه عملية الجهاد المستمرة، وهذا يحتاج إلى فقه، وذلك محله الكتب الفقهية

الموسعة، ولكننا نكتفي هنا بكلام الألوسي- وهو حنفي- أثناء عرضه للآية ليزداد إدراكنا للنص: قال الألوسي: (وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم. سهم له عليه الصلاة والسلام. وسهم للمذكورين من ذوي القربى. وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، فسقط سهمه صلى الله عليه وسلم، كما سقط الصفي وهو ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة، مثل درع، وسيف، وجارية، بموته صلى الله عليه وسلم، وكذا سقط سهم ذوي القربى، وإنما يعطون بالفقر، وتقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم، ولا حق للأغنياء لأن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه كذلك وكفى بهم قدوة، وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم، ويزوج أيمكم، ويخدم ما لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو لا يعطى من الصدقة شيئا، ولا يتيم موسر. وعن زيد بن علي كذلك قال: ليس لنا أن نبني منه القصور، ولا أن نركب منه البراذين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم للنصرة لا للقرابة، كما يشير إليه جوابه لعثمان وجبير، رضي الله عنهما، وهو يدل على أن المراد بالقربى في النص قرب النصرة لا قرب القرابة، وحيث انتهت النصرة انتهى الإعطاء؛ لأن الحكم ينتهي بانتهاء علته، واليتيم صغير لا أب له، فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين، دون أغنيائهم، والمسكين منهم في سهم المساكين، وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئا، لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها. وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضا، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق، لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، وفي الحاوي القدسي وعن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ. انتهى، وهو يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى ذوي القرى الأغنياء فليحفظ، وفي التحفة أن هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق، حتى لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز، كما في الصدقات كذا في فتح القدير، ومذهب الإمام مالك رضي الله عنه أن الخمس لا يلزم تخميسه،

وأنه مفوض إلى رأي الإمام، كما يشعر به كلام خليل، وبه صرح ابن الحاجب فقال: ولا يخمس لزوما، بل يصرف منه لآله عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد، ومصالح المسلمين، ويبدءون استحبابا- كما نقل التتائي عن السنباطي- بالصرف على غيرهم، وذكر أنهم بنو هاشم، وأنهم يوفر نصيبهم لمنعهم من الزكاة حسبما يرى من قلة المال وكثرته، وكان عمر بن عبد العزيز يخص ولد فاطمة رضي الله عنها كل عام باثني عشر ألف دينار سوى ما يعطي غيرهم من ذوي القربى، وقيل يساوي بين الغني والفقير، وهو فعل أبي بكر رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي حسب ما يراه، وقيل: يخير لأن فعل كل من الشيخين حجة. وقال عبد الوهاب: إن الإمام يبدأ بنفقته ونفقة عياله بغير تقدير، وظاهر كلام الجمهور أنه لا يبدأ بذلك، وبه قال ابن عبد الحكم، والمراد بذكر الله سبحانه عند هذا الإمام أن الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى. والمذكور بعد ليس للتخصيص بل لتفضيله على غيره، ولا يرفع حكم المعمول الأول بل هو قار على حاله، وذلك كالعموم الثابت للملائكة، وإن خص جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد. ومذهب الشافعي رضي الله عنه في قسمة الغنيمة أن يقدم من أصل المال السلب، ثم يخرج منه حيث لا متطوع مئونة الحفظ والنقل وغيرهما، من المؤن اللازمة للحاجة إليها، ثم يخمس الباقي، فيجعل خمسة أقسام متساوية، ويكتب على رقعة لله تعالى، أو للمصالح، وعلى رقعة للغانمين، وتدرج في بنادق، فما خرج لله تعالى قسم على خمس مصالح المسلمين، كالثغور والمشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها، ولو مبتدءين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين؛ لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب، والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، وهذا هو السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكان ينفق منه على نفسه وعياله، ويدخر منه مئونة سنة، ويصرف الباقي في المصالح، وهل كان عليه الصلاة والسلام مع هذا التصرف مالكا لذلك أو غير مالك؟ قولان: ذهب إلى الثاني الإمام الرافعي، وسبقه إليه جمع متقدمون. قال: إنه عليه الصلاة والسلام مع تصرفه في الخمس المذكور لم يكن يملكه، ولا ينتقل منه إلى غيره إرثا. ورد بأن الصواب المنصوص أنه كان يملكه. وقد غلط الشيخ أبو حامد من قال: لم يكن صلى الله عليه وسلم يملك شيئا، وإن أبيح له ما يحتاج إليه. وقد يؤول كلام الرافعي بأنه لم ينف الملك المطلق بل الملك المقتضي للإرث عنه.

ويؤيد ذلك اقتضاء كلامه في الخصائص أنه يملك. وبنو هاشم والمطلب، والعبرة بالانتساب للآباء دون الأمهات، ويشترك فيه الغني والفقير لإطلاق الآية، وإعطائه عليه الصلاة والسلام العباس- وكان غنيا- والنساء، ويفضل الذكر كالإرث، واليتامى، ولا يمنع وجود جد، ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفى، لا للقيط على الأوجه، ويشترط فقره على المشهور، ولا بد في ثبوت اليتم والإسلام، والفقر هنا من البينة، وكذا في الهاشمي والمطلبي، واشترط جمع فيهما معها استفاضة النسبة، والمساكين وابن السبيل، ولو بقولهم بلا يمين. نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف، أو عيال أنه يكلف بينة. ويشترط الإسلام في الكل والفقر في ابن السبيل أيضا وتمامه في كتبهم. وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال: يقسم ستة أسهم، ويصرف سهم الله تعالى لمصالح الكعبة، أي إن كانت قريبة، وإلا فإلى مسجد كل بلدة وقع فيها الخمس كما قاله ابن الهمام. وقد روى أبو داود في المراسيل وابن جرير عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقى خمسة أسهم، ومذهب الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم أيضا كمذهب أبي العالية، إلا أنهم قالوا: إن سهم الله تعالى، وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوي القربى للإمام القائم مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وسهم ليتامى آل محمد صلى الله عليه وسلم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ورووا ذلك عن زين العابدين. ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم، وقيل: سهم الله تعالى لبيت المال، وقيل: هو مضموم لسهم الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا ولم يبين سبحانه حال الأخماس الأربعة الباقية، وحيث بين جل شأنه حكم الخمس، ولم يبينها دل على أنها ملك الغانمين، وقسمتها عند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم واحد. لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والفارس في السفينة يستحق سهمين أيضا وإن لم يمكنه القتال عليها فيها للتأهب، والمتأهب للشئ كالمباشر كما في المحيط، ولا فرق بين الفرس المملوك والمستأجر والمستعار، وكذا المغصوب على تفصيل فيه، وذهب الشافعي ومالك إلى أن للفارس ثلاثة أسهم لما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ذلك وهو قول الإمامين. وأجيب بأنه قد روي عن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين، فإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره بسلامتها عن

المقطع الثاني من القسم الثاني

المعارضة فيعمل بها، وهذه الرواية رواية ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الهداية أنه عليه الصلاة والسلام تعارض فعلاه في الفارس، فنرجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «للفارس سهمان وللراجل سهم». وتعقبه في العناية بأن طريقة استدلاله مخالفة لقواعد الأصول، فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا، وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله، وهو قال: فتعارض فعلاه فنرجع إلى قوله، والمسلك المعهود في مثله أن نستدل بقوله ونقول فعله لا يعارض قوله؛ لأن القول أقوى بالاتفاق، وذهب الإمام إلى أنه لا يسهم إلا لفرس واحد، وعند أبي يوسف يسهم لفرسين، وما يستدل به على ذلك محمول على التنفيل عند الإمام، كما أعطى عليه الصلاة والسلام سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل ولا يسهم لثلاثة اتفاقا). أقول: في عصرنا جدت ظروف جديدة تقتضي فتوى مكافئة ونرجو أن نتعرض لهذه الأمور بتفصيل أكثر في القسم الثاني من هذه السلسلة (الأساس في السنة وفقهها). وقد آن أوان الانتقال إلى المقطع الثاني من القسم الثاني من السورة فلننتقل إليه. المقطع الثاني من القسم الثاني ويمتد من الآية (45) إلى نهاية الآية (71) وهذا هو: [سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

كلمة في هذا المقطع

كلمة في هذا المقطع كما سبق المقطع الثاني من القسم الأول بمقطع تحدث عن غزوة بدر فكان بمثابة متكأ للمقطع الثاني وكما أن المقطع الثاني من القسم الأول كان فيه مجموعة نداءات لأهل الإيمان بصيغة «يا أيها» فإن هذا المقطع من القسم الثاني سبق بمقطع فيه حديث عن غزوة بدر ومقدمات أخرى سبقتها، وهو يتألف كذلك من مجموعة نداءات بصيغة «يا أيها» بنيت على المعاني التي تقدمتها في المقطع الأول وإذن فهناك تشابه من هذه الحيثية بين القسم الأول والقسم الثاني من السورة، كما أن هناك صلات بين مقدمة السورة وخاتمتها كما سنرى. والمقطع كله في موضوع القتال، وآثاره ومستلزماته، والأحوال التي يمكن أن تمر على الأمة المسلمة فصلته بمحور السورة واضحة. وفي المقطع أربعة نداءات نداء بصيغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وثلاثة نداءات بصيغة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* إنه مقطع يتوجه بالنداء إلى القيادة، وإلى الجند؛ ليعرف كل منهما واجبه في تحقيق فريضة القتال، فلنبدأ بعرض المعاني العامة للمقطع: المعنى العام: يبدأ المقطع بتعليم الله تعالى عباده المؤمنين آداب اللقاء عند مواجهة الأعداء، فيأمرهم بالثبات، ويأمرهم بذكر الله عند اللقاء، ويأمرهم بالطاعة، ويأمرهم بترك التنازع والاختلاف، ويحذرهم إن اختلفوا الفناء، ثم يأمرهم بالصبر والإخلاص، وأن يتحرروا من أن يكونوا كالكافرين في حربهم، إن في تصرفاتهم البطرة، أو في غاياتهم الخسيسة. إذ يقاتلون للصد عن سبيل الله، وبعد أن يأمر الله المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله، وكثرة ذكره، ناهيا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم بطرا دفعا للحق ورئاء الناس، أي للمفاخرة والتكبر عليهم. يأمرنا الله أن نتذكر ما حدث للكافرين يوم بدر، بعد أن زين لهم الشيطان ما هم فيه. ونفخ في مناخرهم الغرور، موهما إياهم أنه معهم، ثم تخلى عنهم إذ قام سوق القتال في معركة ظن غير أهل الإيمان أن قتال المؤمنين فيها نوع من أنواع الغرور؛ إذ كيف يقاتل القليل

الكثير، ناسين أن من توكل على الله كفاه. فكانت عاقبة الأمر أن الله عزّ وجل أعان المؤمنين بملائكته، يعذبون الكافرين ويستلون أرواحهم ليعجلوا بهم إلى النار؛ بسبب كفرهم وظلمهم، وصدهم عن سبيل الله. وفي التذكير بهذا الجانب من غزوة بدر، بعد الأمر بالثبات وغيره من أجل أن يبين الله للمؤمنين أنهم ما أقاموا أمر الله فإن سنته في الانتصار بهم من الكافرين قائمة، لأن سنته خذلان الكافرين وتعذيبهم، فإذا أقام المؤمنون أمر الله فإنهم أداة هذا العذاب. وليؤكد الله عزّ وجل هذه السنة، وليبين أنها سنته في كل العصور، ذكر بعد ذلك أن ما فعله بهؤلاء المشركين إنما هو كفعله في الأمم المكذبة قبلهم، فتلك سنته في المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل، الكافرين بآيات الله، أن يأخذهم الله بسبب ذنوبهم فيهلكهم، وهو الذي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، ثم يذكر الله عزّ وجل بسنة أخرى من سننه، وهو أنه تعالى من تمام عدله وقسطه في حكمه إنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب. كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته أهلكهم بسبب ذنوبهم، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم، من جنات، وعيون، وزروع، وكنوز، ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين، وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين. وبهذا استقر أن الكافرين ستصيبهم سنة الله بهم وهي العذاب، إما العذاب المباشر المستأصل من الله، وإما العذاب بأيدي المؤمنين، كما استقر أن على المؤمنين أن ينفذوا أمر الله، فيكونوا أهلا لأن ينتقم الله بهم من الكافرين. ثم إن السياق يفيدنا أن علينا ألا نكون كالكافرين في شئ لنستحق نصر الله. فالسياق بقدر ما فيه من رفع لمعنويات المؤمنين، فيه كذلك تحذير للمؤمنين أن يداخلهم شئ يستحقون به عذاب الله وزوال نعمه. فإذا ما استقرت آداب القتال في الأنفس، وحدث اطمئنان لوعود الله في شأن الكافرين في جو التحذير من مسببات الفشل. تأتي الآن مجموعة توجيهات مهمة في قضايا القتال. التوجيه الأول فيه إخبار أن شر ما دب على وجه الأرض الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين من صفاتهم- والكافرون كلهم كذلك- أنهم كلما عاهدوا عهدا نقضوه، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه، وهم لا يخافون الله في شئ ارتكبوه من الآثام، فهؤلاء اضربهم ضربة ساحقة، تكون عبرة لمن وراءهم، تلقي بها الرعب في قلب كل كافر، فيحذر أي واحد من الناس أن ينكث عهدك إن عاهد. نفهم من هذا التوجيه جواز عقد معاهدات تقتضيها مصلحة المسلمين مع

المشركين، ولكن ينبغي أن تكون الضربة ساحقة إن حدث غدر، وهذا يقتضي أن يكون المسلمون دائما على حذر، وعلى استعداد، وإذ تقرر جواز العهد، وتقررت العقوبة على الغدر، فإن مسألة تطرح نفسها وهي: أنه قد يدخل المسلمون في معاهدة، ويكون الطرف الآخر يبيت عملية غدر، فماذا يفعل المسلمون ليقابلوا هذه الحالة؟ الجواب أنه متى أحس المسلمون بروح الخيانة والغدر، والنقض للمواثيق والعهود، فإن عليهم أن يعلموا خصمهم أن العهد لاغ؛ والاتفاقية منقوضة، وأنه لا عهد بينهم وبين الآخرين، وذلك حتى لا يرتكب المسلمون خيانة، لأن الله لا يحب الخيانة وأهلها، ولو كانت الخيانة في حق كافر، وإذن إذا حدث الغدر بعد العهد فالضربة القاصمة، وإذا خيف الغدر قبل وقوعه فالإعلام أنه لا عهد ولا عقد. ومن ثم نلاحظ أنه بعد نزول هذه الآيات عند ما غدرت قريش ببني خزاعة، ناقضة عهد الحديبية، باغتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح مكة، ولأن الضربة القاصمة تحتاج إلى جرأة، ولأن الإعلام بإلغاء المعاهدات قد يتسبب عنه ما يفوت على المسلمين فرصة المفاجأة. فقد أعلمنا الله عزّ وجل في هذا المقام أن الكافرين مهما بلغوا من القوة فإنهم في قدرته وقبضته فلا يعجزونه، فلا يبالي المسلمون إذن إلا بتطبيق أمر الله. ثم يأتي التوجيه الثاني في هذا المقام، وهذا التوجيه فيه أمر ببذل منتهى الجهد للإعداد المادي للقتال، والمتمثل بكل أدوات الرمي، وبكل آليات المعركة، من أجل إرهاب كل عدو لله عرفه المسلمون أو لم يعرفوه، وحض في هذا المقام على الإنفاق؛ لأن الإعداد لا يكون بلا مال، ووعد عليه الأجر. ولنفرض أنه بعد القتال مال الكافرون إلى السلام أي إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة فما العمل؟ للمسألة صور وحالات وفي إحدى حالاتها يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة بالميل إليها والقبول منهم ذلك، ولنفرض أنهم يريدون بالصلح الخديعة، ليتقووا ويستعدوا، فليكن ذلك: صالح وتوكل على الله، فإن الله كافيك وناصرك، وكيف لا، وهو الذي فعل لرسوله صلى الله عليه وسلم ببدر ما فعل، ونصره بالمؤمنين، وجمع بين قلوبهم على الإيمان وعلى الطاعة له ومناصرته ومؤازرته، بعد ما كان بينهم من العداوة والبغضاء، حتى لو أنفقت أموال الأرض كلها لإصلاح ذات بينهم لم تفد، ومع ذلك فإن الله جمع هذه القلوب، فهو العزيز الجناب الذي لا يخيب رجاء من توكل عليه، الحكيم في أفعاله وأحكامه، وباستكمال هذه المعاني تنتهي الفقرة الأولى في المقطع بعد أن أمر الله المؤمنين بها:

1 - بالتخلق بمجموعة الأمور التي يستأهلون بها النصر في القتال. 2 - ببذل منتهى الجهد للوصول لأقصى درجات الإعداد المادي. 3 - بجواز المصالحة والمهادنة في بعض الحالات مع الضربة الساحقة إذا حدث غدر، وإلغاء المعاهدات إذا خيف الغدر. وفي الفقرة تفصيلات كثيرة، ويحتاج فهمها إلى أشياء كثيرة، وتطبيقها على الواقع أمر مهم، ولعلنا نوفق إلى ذكر كل ما ينبغي في هذه الشئون، وبعد الفقرة التي بدأت بالنداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تأتي فقرة مبدوءة بصيغة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ وفيها ثلاث نداءات بهذه الصيغة، وكأنها تحدثنا عن أدب القيادة في إقامة فريضة القتال. تبدأ الفقرة بإخبار الله نبيه والمؤمنين أنه حسبهم أي: كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم، ولو قل عدد المؤمنين. ثم يأمر الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحرض المؤمنين على القتال بأن يحثهم عليه، ويعدهم الله أن يغلب العشرة منهم على المائة، والمائة على الألف من الكافرين، إن صبروا؛ لأن الكافرين لا قلوب لهم، وإذ كان الوعد من الله فيه معنى التنجيز فقد فهم المسلمون من هذا الوعد الأمر بحرمة الفرار إذا كان الواحد يقابل عشرة، والعشرة تقابل مائة، ومن ثم فإن الله خفف الفرضية عنهم، فأجاز للواحد أن يفر من الثلاثة، وللعدد أن يفر إذا قابل أكثر من ضعفيه، وذكرهم بأن الله مع الصابرين. فالبشارة والوعد بغلبة القليل للكثير قائمة، والفريضة على ما ذكرنا. ثم بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن سنته أن لا يكون أسر حتى يتم الإثخان لأنبيائه في الأرض. وقد عرض الله هذه السنة في معرض العتب على المؤمنين يوم بدر، إذ قبلوا فداء الأسرى مع إعلامه بعفوه عن فعلهم، وإباحته لهم ما أخذوه من الفداء. وإذ أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الفداء يوم بدر، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للأسرى الذين دفعوا الفداء، بأن الله سيعوض عليهم- إن كان في قلوبهم خير- أكثر مما دفعوه فداء، ووعدهم كذلك بالمغفرة، ثم هددهم إن كان في قلوبهم نية سوء وإرادة خيانة بالتمكين منهم كما مكن من قبل. فالمقطع إذن فيه تهييج للمؤمنين على القتال في كل حال. وفيه مطالبة لهم بالتوكل، وبشارة لهم بالنصر، وإن قل العدد، وتحريض لهم على الإثخان في الأرض، دون النظر إلى المصالح المادية، وفي حالة الأسر وأخذ الفداء فقد علمنا الله ما نقوله للأسير في هذا المقام، وهذا يشعرنا أن علينا أن نبذل جهدا مع الأسرى لإدخالهم في الإسلام، أو لتخويفهم عن أن يقفوا موقفا ضدنا مرة

المعنى الحرفي للفقرة الأولى

ثانية، مع ملاحظة أن حكم الله في الأسير إذا وقع في الأسر مرة ثانية بعد إطلاق سراحه أن يقتل، ولو أننا قلنا إن هذه الفقرة فيها توجيه لقيادات المسلمين، ماذا عليها أن تفعل، وكيف ينبغي أن تكون، وكيف ينبغي أن تكون تطلعاتها وتصرفاتها لا نكون مبعدين. المعنى الحرفي للفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة فاثبتوا ولا تفروا واللقاء اسم غالب للقتال وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به، داعين له على عدوكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وفيه إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه، أشغل ما يكون قلبا، وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك، وإن كانت متوزعة عن غيره وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل شئ ومن ذلك أوامر الجهاد وأوامر المعركة وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي دولتكم وسلطانكم وَاصْبِرُوا أي في القتال مع العدو وغيره إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي يعينهم ويحفظهم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ أي كمن جاء إلى بدر من المشركين في بطرهم وريائهم، نهى المسلمين أن يكون خروجهم للقتال كخروج هؤلاء بطرين مراءين بأعمالهم، وهذا يقتضي أن يكونوا في خروجهم من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله، مخلصين أعمالهم لله. والبطر: أن تشغل الإنسان كثرة النعم عن شكرها وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه والمعنى: ولا تكونوا بخروجكم كهؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي عالم بأعمالهم وهذا تهديد لهم ووعيد، وهكذا بدأ المقطع بتوجيه المؤمنين إلى الآداب الربانية في القتال، ليصل إلى الكلام عن أهل بدر من المشركين وخروجهم ونفسيتهم كنموذج للعقلية الكافرة والنفسية الفاجرة، التي طبيعتها البطر والفخر والكبر والصد عن سبيل الله. هذه النفسية نهانا الله عزّ وجل أن نكون مثلها، وبعد أن صور لنا هذه النفسية يقص علينا جل جلاله ما نعرف به هذه النفسية، وذلك من خلال عرضه صفحة من صفحات معركة بدر التي هي النموذج الخالد للصراع بين الكفر والإيمان وأهلهما: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخروج لحربه وما هم عليه من فسوق ومجون

[سورة الأنفال (8): آية 49]

وضلال وكفر وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب كائن لكم من الناس أبدا، وهذه طبيعة الشيطان الغرور وينمي عند أتباعه الغرور، وعلى المسلمين ألا يأبهوا لغرور أعداء الله وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي وإني مجير لكم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي فلما تلاقى الفريقان نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي نكص الشيطان هاربا على عقبيه أي رجع القهقرى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ أي الملائكة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أي أخشى عقوبته، وكذب عدو الله، ما به مخافة الله، ولكنه علم أنه لا قوة له ولا منعة، وتلك عادة عدو الله مع من أطاعه وانقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن يريد أن يعاقبه إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ في المدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي المنافقون، أو الذين هم على حرف، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أن المسلمين غرر بهم دينهم، حتى تجرءوا على القتال، مع ما هم فيه من قلة وضعف، والجواب وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي يكل إليه أمره فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب، ومن غلبته أنه يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي حَكِيمٌ ومن حكمته أنه لا يسوي بين وليه وعدوه، ولذلك فإنه ينصر وليه وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي يقبضون أرواحهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ أى يضربون وجوههم إذا أقبلوا، وظهورهم وأستاههم إذا أدبروا وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ويقولون لهم ذوقوا مقدمة عذاب النار، أو وذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به، أو يقال لهم ذلك يوم القيامة والمعنى لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بما كسبت وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبسبب أن الله عادل لأن تعذيب الكفار من العدل كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الدأب: العادة. والمعنى: دأب هؤلاء الكافرين مثل دأب آل فرعون والذين من قبلهم الذي دأبوا عليه أي داوموا عليه كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ والمعنى أن هؤلاء جروا على عادتهم في التكذيب فأجري عليهم مثل ما فعل بهم من التعذيب ذلِكَ أي العذاب والانتقام بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا ما بهم من الحال. نعم لم يكن لآل فرعون وأمثالهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة. لكن كما تتغير الحال

[سورة الأنفال (8): آية 54]

المرضية إلى المسخوطة تتغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها. ومشركو مكة كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله مكذبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ كرر ذلك للتأكيد وزاد هنا بيانا بتفصيل نوع العذاب وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ أي بماء البحر وَكُلٌّ أي من آل فرعون ومن قبلهم ومشركي مكة الذين عذبهم بيد المؤمنين يوم بدر كانُوا ظالِمِينَ أي أنفسهم بالكفر والمعاصي. وهكذا علمنا في هذا المقطع استحقاق الكافرين للعذاب الرباني، فإذا كان الأمر كذلك علمنا لماذا لا يجوز أن نكون مثلهم، وعلمنا لماذا أمرنا بقتالهم. فهذه الآيات في وسط المقطع هي تعليل لما قبلها وما بعدها. فما بعدها كلام عن الكافرين، وكون نقض العهد من صفاتهم وعقوبتهم على ذلك، وأن الكافرين لا يعجزون. وأمر بالإعداد المادي. وأمر بالتوكل على الله الذي يتولى أولياءه ويعذب أعداءه، وكل هذه المعاني مرتبطة بما مر. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلإصرارهم على الكفر لا يتوقع منهم الإيمان الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي في كل معاهدة وَهُمْ لا يَتَّقُونَ أي لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون بما في الغدر من العار والنار، جعل الذين كفروا شر الدواب، ثم خص منهم الناقضين للعهود. قال النسفي: وجعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون، وشر المصرين الناكثون للعهود. أليس هؤلاء يستحقون العذاب فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي ففرق بقتلهم شر قتلة من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد؛ اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم وبتعبير مختصر: افعل بهم ما تفرق به جمعهم وتطرد به من عداهم، وبتعبير أخصر: اضربهم ضربة قاصمة تكون عبرة لغيرهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل المشردين من ورائهم يتعظون. هذا هو الموقف الذى فرضه الله من الغادرين، وهو موقف لا يستطيعه المسلمون إلا إذا كانوا على أعظم أنواع الجاهزية للقتال بالعتاد والتخطيط والسلاح والتدريب، ومن ثم نلاحظ أنه في هذا السياق يأتي الأمر بالإعداد كما سنرى وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ أي معاهدين خِيانَةً أي نكثا بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي فاطرح إليهم العهد عَلى سَواءٍ أي على استواء منك ومنهم في

[سورة الأنفال (8): آية 59]

العلم بنقض العهد، أي حتى تكونوا أنتم وإياهم حاصلين على استواء في العلم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ أي الناقضين للعهود، وهذا الموقف كذلك يحتاج من المسلمين لأن يكونوا على أنواع الاستعداد للقتال، وأن يكون رصدهم لعدوهم قويا، ثم ذكر الله المسلمين بشيئين: عجز الكافرين أمام قدرته، ووجوب الإعداد فقال وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم، أو وصلوا إلى حال لا يغلبون معها إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم، كيف والطالب الله ثم جنده، وهذه بشارة للمؤمنين وشحذ لهممهم فلا يبالون بالقوة الكافرة مهما بلغت، ثقة بنصر الله وتدبيره وَأَعِدُّوا لَهُمْ أي للكافرين جميعا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي مهما أمكنكم قال ابن كثير: أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، والقوة مدلولها واسع، وخص الرسول عليه الصلاة والسلام بالذكر منها الرمي فقال: «ألا إن القوة الرمي» ويدخل في ذلك إعداد كل ما يرمى به من المدافع إلى القنبلة الذرية إلى غير ذلك وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ أي ومن جنس ما يركب للقتال كالخيل، فدخل في ذلك البارجة والطائرة والدبابة وغير ذلك تُرْهِبُونَ بِهِ أي بهذا الإعداد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ أي الكافرين، وهذا عين ما يسمى حاليا الآن بمبدإ القوة من أجل السلام، ولكنه هنا سلام أهل الإسلام وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غيرهم من المنافقين أو المعاهدين الذين يفكرون بنقض العهد أو غير ذلك لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعرفونهم بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفى لكم جزاؤه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي في الجزاء بل تعطون على التمام. بدأ الآية في الأمر بالإعداد، وختمها بالأمر بالإنفاق؛ لأن الإعداد يحتاج إلى إنفاق وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ أي وإن مالوا للصلح فَاجْنَحْ لَها أي فمل إليها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال وغيرها الْعَلِيمُ بالأحوال كلها. بدأ بالموقف ممن ينقض الميثاق، ثم بالموقف ممن يخشى منه نقض الميثاق، وجعل المسلمين في الوضع المناسب لكل الاحتمالات. ثم أذن لهم بالمصالحة وعقد المعاهدات، متوكلين على الله بعد أخذ الأسباب كلها، ثم قال مطمئنا وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ أي أن يمكروا ويغدروا فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي كافيك الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ أي قواك بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بعد التعادي الطويل بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي

كلمة في آيات القتال

الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي بلغت عداوتهم مبلغا لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر عليه وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بفضله ورحمته، وجمع بين كلمتهم بقدرته، فأحدث بينهم التواد والتحاب، وأماط عنهم التباغض والتماقت إِنَّهُ عَزِيزٌ أي يقهر من يخدعون المؤمنين حَكِيمٌ في إيصال المؤمنين إلى النصر، وإذ كان الأمر كذلك فاجنح إلى السلم مع ملاحظة كل ما مر. وهكذا جاء المقطع ليضع المسلمين في أفضل وضع في قضايا الحرب والسلام، بما لا يجعل لكافر عليهم حجة في موضوع السلام، وبما لا يؤدي السلام إلى إضرار بوضع المسلمين العسكري، وهذه القضايا بمجموعها مهمة في عصرنا كثيرا، ففي عصرنا إذ يتشدق المتشدقون بالسلام، وفي عصرنا الذي يقدر معه الكثيرون على تضليل الشعوب بحجة السلام، وضعنا الإسلام على الطريق الأمثل في كل شئ، عند ما نكون في الوضع الأقوى أو الأضعف، عند ما نكون كما نحن في عصرنا، أو كما كنا في الماضي، أو كما يمكن أن نكون في المستقبل. وهكذا ابتدأت الفقرة في تعليم آداب القتال الإسلامي، وانتهت بتعليم أحكام المعاهدات، وبين ذلك كلام يخدم البداية والنهاية، وكل ذلك تفصيل لمحور السورة من سورة البقرة، وقد استطردنا في ذكر المعنى الحرفي للفقرة دون ذكر فوائد كل آية على حدة؛ لتكتمل صورة الفقرة في الأذهان. كلمة في آيات القتال: ذكر من قبل كيف أن من أكبر ما يقع فيه الخطأ في عصرنا عدم وضع آيات القتال في مواضعها، بحيث تحمل آية على غير الحال التي تتحدث عنها، وفي ذلك من الخطر ما فيه، إما على تعطيل أحكام الجهاد، وإما على وضع المسلمين في وضع غير صحيح. وفي عصرنا يفرط بعض حكام المسلمين، فيضعون المسلمين في المقام الأسوأ، ثم يحملونهم على قبول الأمر الواقع. إنه لا بد للمسلمين من حكومة إسلامية، وعلى هذه الحكومة أن تقيم الإسلام، وعليها أن توجد القوة الإسلامية العسكرية، فإذا قام الإسلام، ووجد الإخلاص، ووجدت النفقة، ووجدت القوة، فعندئذ يأتي دور الموقف السياسي الحكيم الذي تحكمه القدرات والطاقات بموازين الإيمان. إن على القيادات الإسلامية أن تكون مدركة للطريق الذي تقيم به فريضة الجهاد في عصر ذي خصائص معينة، وهذا يقتضي منها

فوائد

فقها وعلما، كما يقتضي جرأة وشجاعة، كما يقتضي بعد نظر سياسي، كما يقتضي حكمة كبيرة. نقول هذا بين يدي الفوائد التي سننقلها حول آيات الفقرة التي مرت معنا: فوائد: 1 - في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف». ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم». وروى عبد الرزاق ... عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واذكروا الله، فإن ضجوا وصاحوا فعليكم بالصمت». وروى الحافظ أبو القاسم الطبري ... عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا قال: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة». وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى: «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي. يلاحظ فيما نقلناه في هذه الفائدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالصمت عند الزحف، وهذه الوصية مهمة جدا، إذ الملاحظ أن كتب فن الحرب تشير إلى أن الصخب والهرج والضوضاء ليلة المعركة عند الجيش تدل على خوفه، وأنه لا يفعل ذلك إلا ليستر هذا الخوف، ويستشهدون على ذلك بحالات كثيرة، منها حالة جيش الفرس الذي كان يقوده دارا ضد الإسكندر المقدوني، فإنه كان في ليلة المعركة الفاصلة على غاية من الضوضاء، وحلت به الهزيمة في اليوم الثاني، فسبحان الله الذي علم رسوله صلى الله عليه وسلم، فهدانا إلى كل ما يلزمنا في أمر دنيانا وأخرانا. فلنتعلم الصمت، ولنبتعد عن الضجيج في شئوننا كلها. 2 - البطر والرئاء الذي وصف الله به المشركين من أهل بدر هو ما عبر عنه أبو جهل عليه لعنة الله لما قيل له: إن العير قد نجت فارجعوا، فقال: لا، والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب

بمكاننا فيها يومنا أبدا. 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ... ذكر ابن كثير عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه رايته في صورة رجل من بني مدلج، في سورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار، فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله، والله شديد العقاب، وذلك حين رأى الملائكة. وقد روى الإمام مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر قالوا: يا رسول الله وما رأى يوم بدر قال: أما إنه رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة). 4 - وفي الذين قالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ .. قال ابن جريج: هم قوم كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر وقال عامر الشعبي: كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نذكر الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما؛ فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». 6 - وبمناسبة قوله تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ نذكر ما رواه الإمام أحمد .. عن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة، ولا يشدها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء» قال: فبلغ ذلك

معاوية. فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عبسة رضي الله عنه. وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي. وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه. وقال الترمذي حسن صحيح. وروى الإمام أحمد أيضا ... عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه انتهى إلى حصن- أو مدينة- فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم فقال: إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عزّ وجل للإسلام، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، وإن أبيتم نابذناكم على سواء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بإذن الله تعالى. 7 - وبمناسبة قول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ نقول: إن كثيرا من الناس يخطئون في فهم هذه الآية. فالآية شملت إعداد كل أنواع الرمي، وكل أنواع الآليات، لأن «من» في الآية لبيان الجنس. فمعنى الآية وأعدوا لهم ما استطعتم من جنس ما يرمى به، ومن جنس رباط الخيل، أي من جنس ما يركب للمعركة. فشمل هذا وهذا كل عتاد يتصور. والرمي في الإسلام له أهميته العظمى، لأن كل عتاد لا قيمة له إذا لم يكن إحسان في الرمي، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وهو على المنبر-: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي». وروى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا». وقد وردت آثار كثيرة في الندب على اقتناء الخيل. وقد تقلصت الحاجة إلى الخيل للقتال في عصرنا، وإن كانت لا تزال تستعمل نوع استعمال، ولكنه قليل، وعلى الأمة الإسلامية أن تبذل جهدا مضاعفا في صناعة السلاح، وأدوات القتال، وآلاته من المدفع إلى الصاروخ، ومن البارجة إلى الطائرة. وأن تتقن استعمال السلاح. وأن تتعمق في فهم فن الحرب؛ لتقف على أقدامها في عالم مدجج بأدوات الدمار. وعليها أن تفقه متى تقدم ومتى تحجم. 8 - ذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها منسوخ بآية القتال في سورة براءة قال ابن كثير: (وفيه نظر أيضا؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص).

أقول هذه الآية تدور حول فهمها معارك كلامية كثيرة، قديما وحديثا، وقد أشار ابن كثير إلى ذلك، وقد لخص الألوسي الاتجاهات في شأنها فقال: (والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فإنها- كما قال مجاهد، والسدي- نزلت في بني قريظة، وهي متصلة بقصتهم؛ بناء على أنهم المعنيون بقوله تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ الخ، والضمير في وَأَعِدُّوا لَهُمْ لهم، وقيل: هي عامة للكفار، لكنها منسوخة بآية السيف؛ لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف، بخلاف غيرهم فإنه تقبل منهم الجزية، وروى القول بالنسخ عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صالح أهل مكة هذه المدة، ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فتذكر). أقول: لقد رأينا أن ابن كثير يحمل الآية على ظاهرها، ولا يرى أنها تتعارض مع غيرها حتى تحتمل النسخ أو التخصيص، وهو يرى أنها على ظاهرها إذا كان العدو كثيفا، كما يحمل قوله تعالى في سورة القتال فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ على أن المراد بذلك القوة، فإذا كان المسلمون ضعفاء جاز لهم أن يدعوا إلى السلم، وإلا لم يجز لهم، وعلى هذا فإن ابن كثير يرى أن المسلمين إن كانوا ضعفاء جدا جاز لهم أن يدعوا إلى السلام، وإن كانوا في وضع لا يستطيعون فيه السيطرة على خصومهم، وإن كانوا يستطيعون قتاله جاز لهم أن يصالحوا وأن يعاهدوا، أما في حالة القدرة على الغلبة فإن العدو ليس أمامه إلا الإسلام أو الجزية أو القتال. أقول: إن قضايا الحرب والسلام والمعاهدات تتحكم فيها معان متعددة وعلى أمير المؤمنين، وعلى الدولة المسلمة، أن تجري موازنات كثيرة على ضوء الكتاب والسنة قبل الإقدام على شئ من ذلك. 9 - وفي قوله تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يقول ابن مسعود بسند صحيح عنه: نزلت في المتحابين في الله، وبمناسبة هذه الآية نذكر ما يلي: روى عبد الرزاق ... عن ابن عباس قال: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شئ ثم قرأ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً

كلمة في السياق

ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وروى أبو عمرو الأوزاعي .. أن عبدة بن أبي لبابة لقي مجاهدا فأخذ بيده، فقال مجاهد: إذا التقى المتحابان في الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه، وضحك إليه، تحاتت خطاياه، كما تحات ورق الشجر، قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير. فقال: لا تقل ذلك فإن الله تعالى يقول: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. وروى ابن جرير .. عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما، قال الوليد (أحد رجال سند الرواية): قلت لمجاهد: بمصافحة يغفر لهما؟؟ قال مجاهد: أما سمعته يقول لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني. وروى ابن عوف عن عمير بن إسحاق قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الألفة. وروى الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني رحمه الله تعالى .. عن سلمان الفارسي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحر». فلتكن هذه المعاني على ذكر منا ولنحرص على الابتعاد عن كل ما يضعف أخوتنا ووحدة قلوبنا. كلمة في السياق: رأينا أن الفقرة بدأت بتعليم المسلمين ما ينبغي فعله إذا واجهوا، ومن ذلك ألا يكونوا كالكافرين في أخلاقهم إذا خرجوا للقتال، ثم ذكرت أخلاق الكافرين واستحقاقهم العذاب، وفي ذلك ما ينفر عن التشبه بهم، ويجرئ عليهم، ثم علمتنا كيف يكون موقفنا في العهد والصلح وغير ذلك، وأمرنا في سياق ذلك بالإعداد المادي في آية جامعة شملت كل أنواع الإعداد الذي يخطر ببال إنسان، وبهذا تكون هذه الفقرة قد شاركت في بناء صرح الجهاد في الإسلام، بتعليم بعض الأحكام المتعلقة به، وكل ذلك بما يحقق تفصيل محور هذه السورة من سورة البقرة. ولننتقل الآن إلى: التفسير الحرفي للفقرة الثانية من المقطع الثاني من القسم الثاني: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي كفاك وكفى أتباعك من

[سورة الأنفال (8): آية 65]

المؤمنين الله ناصرا، أو كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين، أي فقاتل بمن معك قلوا أو كثروا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أي أكثر من الحث على القتال، والتحريض في الأصل: المبالغة في الحث على الأمر إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله وتأييده بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي بسبب أن الكفار قوم جهلة، يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب، كالبهائم، فيقل ثباتهم، ويعدمون لجهلهم بالله نصرته، بخلاف من قاتل على بصيرة من الله فإنه يرجو النصر من الله على حسب وعده، ولما كان الوعد من الله لا يتخلف فإن على المؤمنين إذن أن يصبروا إذا قابلوا عشرة أضعافهم انتظارا لموعود الله، ومن ثم كانت البشارة السابقة فيها معنى الأمر بالثبات إذا قابل المسلمون عشرة أضعافهم، وقد ثقل ذلك على المسلمين فأنزل الله يخفف عنهم فرضية الثبات في حالة المضاعفة المتعددة وأبقى البشارة والعدة الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً أي في أبدانكم فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وإذن فقد خفف الله الوجوب علينا، فلم يأذن بالفرار إذا قابل الواحد اثنين، وتكرير مقاومة الجماعة لأكثر منها بذكر عدد قليل وآخر كثير قبل التخفيف وبعده، للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة لا تتفاوت. فقد يظن ظان أن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين، والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين فذكر عدد قليل وعدد كثير وقد رأينا عند قوله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ .. تفصيلات مهمة في هذا الشأن ما كانَ لِنَبِيٍّ أي ما صح له أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من الثخانة: وهي الغلظ والكثافة، يعنى حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام بالاستيلاء والقهر، ثم الأسر بعد ذلك تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي متاعها بالرغبة في الفداء قبل الإثخان وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يريد ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل وَاللَّهُ عَزِيزٌ يقهر أعداءه حَكِيمٌ في عتاب أوليائه، وفي الآية عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم بدر على أخذهم الفداء لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لولا حكم من الله سبق أن لا يعذب أحدا على العمل بالاجتهاد في محله، وكان ما فعلوه اجتهادا منهم، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم، وأن

[سورة الأنفال (8): آية 69]

فداءهم يتقوى به على الجهاد، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم. ويمكن أن يكون المعنى: لولا كتاب ثابت من الله ألا يؤاخذ قبل البيان والإعذار لَمَسَّكُمْ أي لنالكم وأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ أي من فداء الأسرى عَذابٌ عَظِيمٌ ولكن رحمة الله واسعة فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حتى لا يفهم من العتاب حرمة ما عوتبوا به ذكر لهم إباحة الأكل من الغنائم، والأسرى من الغنائم حَلالًا أي مطلقا عن العتاب والعقاب طَيِّباً أي لذيذا هنيئا، أو حلالا بالشرع، طيبا بالطبع وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فلا تقدموا على شئ لم يعهد إليكم فيه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فعلتم من قبل رَحِيمٌ بإحلال ما غنمتم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ أي في حوزتكم وفي ملكتكم مِنَ الْأَسْرى جمع أسير إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي خلوص إيمان وصحة نية يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ أي من الفداء إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة، ومع هذا وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يعاقب على الكفر وعمله، بعد الإسلام وعمله وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ بالكيد لك أو بنقض ما قالوه عند إطلاق سراحهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي في كفرهم به، ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي فأمكنك منهم أي: أظفرك بهم، أي وسيمكن منهم إن عادوا إلى الخيانة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمآل حَكِيمٌ فيم أمر في الحال. وبهذا انتهى المقطع. ملاحظة: نلاحظ أنه في مقدمة هذه السورة- أو في مقاطعها- صور لها علاقة بغزوة بدر، تخدم السياق الذي جاءت فيه، وذلك أن معركة بدر هي النموذج العملي لتنفيذ فريضة القتال، وما يحيط به، وما يستتبع ذلك. كلمة في السياق: رأينا في هذه الفقرة ثلاثة نداءات موجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: 1 - أمر بالاعتماد على الله وحده، وذلك يفيد أن قرار القتال لا ينبغي أن يتوقف إلا على ضرورته وفريضته. 2 - أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريض على القتال، وهذا أدب القيادة في استبقاء الجاهزية القتالية كاملة بشكل دائم.

فوائد

3 - أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يقول للأسرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وهذا أدب القيادة في أن تجري مع الأسرى حوارا، خاصة عند إطلاق سراحهم. فوائد: 1 - تنفيذا لقوله جل جلاله: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على القتال عند صفهم ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض». فقال عمير بن الحمام: عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم». فقال: بخ بخ، فقال: «ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. فقال: «فإنك من أهلها» فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... نذكر ما يلي: ا- عن الإمام أحمد ... عن أنس رضي الله قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس». فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، قال: وأنزل الله عزّ وجل لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ب- روى الأعمش .. عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ائت في واد كثير الحطب

فأضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم فيه، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، ثم قام فدخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق». قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن بيضاء». فأنزل الله عزّ وجل ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى آخر الآية. رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه. وقال صحيح الإسناد. ومن الفائدة اللاحقة لهذه الفائدة ندرك أن حق الإثخان لكل من يقود هذه الأمة قائم، فليلاحظ من يعطيه الله قيادة للمسلمين كيف يفعل إذا بدأ الجهاد. 3 - قال ابن كثير: وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر، أو بمن أسر من المسلمين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر. وهذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء. 4 - وفي سبب نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى قال الزهري: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت مسلما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد

كلمة في السياق

كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر». قال: ما ذاك عندي يا رسول الله. فقال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل، وعبد الله وقثم» قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشئ ما علمه أحد غيري، وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ذاك شئ أعطانا الله تعالى منك» ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه فأنزل الله عزّ وجل فيه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عزّ وجل. وفي إنجاز وعده تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ نذكر الرواية التالية عن حميد بن هلال قال: بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين ثمانين ألفا. ما أتاه مال أكثر منه، لا قبل ولا بعد. قال: فنثرت على حصير ونودي بالصلاة. قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثل قائما على المال، وجاء أهل المسجد، فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا فيضا، وجاء العباس بن عبد المطلب فحثا في خميصة عليه وذهب يقوم فلم يستطع، قال: فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ارفع علي، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه أو نابه وقال له: «أعد من المال طائفة وقم بما تطيق» قال: ففعل، وجعل العباس يقول: وهو منطلق: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الآية ثم قال: هذا خير مما أخذ منا، وما أدري ما يصنع الله في الأخرى، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلا على ذلك المال حتى ما تبقي منه درهم، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصلاة فصلى وفي مثل هذه الحادثة، وفي مثل هذه الآية يجد الإنسان نموذجا أو لونا من ألوان الإعجاز في القرآن. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة الأنفال هو آيات سورة البقرة:

خاتمة سورة الأنفال

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقد رأينا كيف أن سورة الأنفال كانت في مقاطعها كلها تفصيلا لقضايا القتال، وكيف أن كل مقطع من مقاطعها اعتمد مشهدا من مشاهد بدر، فكان هذا المشهد هو النموذج العملي لما يراد تقريره. وكانت السورة من الوضوح في تفصيل محورها، بحيث لم نضطر لأن نتكلم كثيرا عن ذلك، وحتى نهاية المقطع الذي مر معنا لم نجد ذكرا للهجرة، مع أننا قلنا إن سورة الأنفال هي تفصيل للآيات الثلاث في سورة البقرة فما السبب؟ السبب أن الآية الأخيرة في الثلاث الآيات يأتي تفصيلها في خاتمة سورة الأنفال. إن هناك تلازما بين القتال والهجرة، وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس، والهجرة تقتضي من أهل دار الهجرة أن يؤووا وأن ينصروا. إن هذه المعاني وغيرها نراها في خاتمة سورة الأنفال: ومقدمة سورة الأنفال قدمت وصفا لحقيقة الإيمان، وخاتمة سورة الأنفال ترينا نموذج ذلك. *** خاتمة سورة الأنفال وتمتد من الآية (72) إلى نهاية الآية (75) وهذه هي: [سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)

المعنى العام

المعنى العام: قسم الناس في الآيات أربعة أقسام: قسم آمنوا وهاجروا. وقسم آمنوا ونصروا. وقسم آمنوا ولم يهاجروا. وقسم كفروا ولم يؤمنوا. فبدأ بذكر المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وثنى بذكر الأنصار: وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء قضى الله بأن بعضهم ولي بعض أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، حتى إن أحدهم ليرث الآخر، إلى أن نسخ ذلك بآيات المواريث، ثم ذكر الله الصنف الثالث من المؤمنين وهم: الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم أو في أمكنتهم التي ليست دار إسلام. فهؤلاء قضى الله أنه ليس لنا من ولايتهم من شئ، ومن ثم فليس لهم في المغانم نصيب، ولا في الخمس إلا ما حضروا فيه القتال، وكان ذلك عند ما كانت الهجرة مفروضة إلى دار الإسلام. ثم بين الله عزّ وجل أن هؤلاء

المعنى الحرفي

الذين لم يهاجروا إذا استنصرونا على قوم من الكفار بيننا وبينهم مهادنة إلى مدة فعلينا ألا نخفر ذمتنا، وألا ننقض مواثيقنا مع الذين عاهدناهم. وإذ قرر الله عزّ وجل الولاية المطلقة بين المهاجرين والأنصار- أي: بين رعايا دار الإسلام وقتذاك- والولاية الجزئية بيننا وبين المؤمنين من غير سكان دار الإسلام، فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين والكفار. وعلمنا أن الكافرين يوالي بعضهم بعضا في عدائنا، ثم قرر أنه إن لم نجانب المشركين، ونوالي المؤمنين، فإن فتنة ستكون، والفتنة هنا هي التباس الأمر، واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل. وبعد أن ذكر الله تعالى حكم الإيمان ومقتضاه، بين من هم أهله في الدنيا، فوصف المهاجرين والأنصار بأنهم المؤمنين حقا، وأخبر بما لهم في الآخرة، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، الدائم المستمر أبدا، الذي لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه. ثم ذكر تعالى أن الذين ساروا على أثرهم أنهم معهم في الآخرة، ثم ذكر الله عزّ وجل قاعدة عامة: أن أولي الأرحام بعضهم أحق ببعض، ثم ذكر الله عزّ وجل بعلمه بكل شئ. وبهذا المعنى تنتهي السورة. المعنى الحرفي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هؤلاء المهاجرون وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي والذين آووهم إلى ديارهم، ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار، وبإجماع الأمة أن الهجرة أفضل من النصرة، والمهاجرون أفضل من الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي ينصرون بعضهم بعضا، ويعينون بعضهم بعضا، وكانوا في الابتداء يتوارثون بالهجرة والنصرة، دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فإذا تضمنت الآية الميراث كان المعنى- زيادة على ما مر- ويرث بعضهم بعضا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا إلى المدينة حين كانت الهجرة إليها مفروضة ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فهم لا يستطيعون لكم نصرة، ولا إعانة لكونهم في دار الحرب. ثم هم لم يكونوا يرثون. فكان لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر ممن آمن وهاجر، ثم ليس لهم في الغنيمة والفئ نصيب حَتَّى يُهاجِرُوا وعندئذ تكون لهم حقوق المسلم المقيم في دار الإسلام كاملة وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أي: إن وقع بينهم وبين الكفار قتال، وطلبوا معونة، فواجب عليكم أن

[سورة الأنفال (8): آية 73]

تنصروهم على الكافرين إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم، لأنهم لا يبتدءون بالقتال إذ الميثاق مانع من ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فاحذروا أن تتعدوا حدود ما شرع لكم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعضهم ينصر بعضا، ويرث بعضهم بعضا. ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار، وإيجاب مباعدتهم ومفاصلتهم وإن كانوا أقارب إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أي: إلا تفعلوا ما أمرتكم به، من تواصل المسلمين، وتولي بعضهم بعضا، واعتبار الكافرين أمة واحدة، تحصل فتنة في الأرض، ومفسدة عظيمة؛ لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الكفر، ويعتبروا الكفر يدا واحدة عليهم، يكون الكفر ظاهرا والفساد زائدا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم صدقوا إيمانهم، وحققوه بتحصيل مقتضياته، من هجرة الوطن، ومفارقة الأهل والسكن، والانسلاخ من المال والدنيا؛ لأجل الدين والعقيدة. وإذا تذكرنا بداية السورة، عند ما وصف الله المؤمنين بأنهم: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ... وكيف أنه وصف المتصفين بهذه الصفات بأنهم هم المؤمنون حقا، فإذا ذكر الله تعالى هنا الهاجرين والأنصار بأنهم هم المؤمنون حقا، نعرف أن الذين تحققوا بصفات الإيمان العليا هم المهاجرين والأنصار، وهم القدوة في ذلك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الرزق الكريم: هو الذي لا انقطاع فيه، ولا تنغيص، وقد يخطر ببال بعضهم أن هذه الآية تكرار للتي قبلها، ولا تكرار؛ لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم، مع الوعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل، وتحقيق الولاء على أساس الإسلام وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أي: اللاحقون بعد السابقين إلى الهجرة وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ جعلهم منهم تفضيلا وترغيبا وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أي: وأولو القرابات أولى ببعضهم في الإرث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه وقسمه، أو في اللوح، أو في القرآن، وقد فصلت آية المواريث، ونصوصها هذه الأولوية إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو الذي يقضي بين عباده بما شاء من أحكامه. فوائد: 1 - المهاجرون والأنصار في المدينة المنورة هم الذين يمثلون سابقة المواطنين المسلمين في دار الإسلام، فلكل منهم حقوق المسلم كاملة، والمؤمنون الذين يعيشون في دار الحرب حيث تفترض عليهم الهجرة، هم الذين تمثلهم السابقة التي ذكرها الله في المؤمنين الذين

لم يهاجروا، وقد حكم الله عزّ وجل لمن عاش في دار الإسلام مهاجرا أو من أهلها الأصليين بأنهم هم المؤمنون الحقيقيون، سواء كانوا سابقين أو لاحقين، فهؤلاء عليهم فيما بينهم الولاء لبعضهم بعضا، والأقارب فيما بينهم لهم حقوق زائدة على حق الولاء ضمن هذا المجتمع، كحق الإرث. أما المؤمنون الذين يعيشون في دار الحرب، فهؤلاء ليس لهم حقوق المواطن المسلم في دار الإسلام كاملة، فمثلا: المسلمون عدول، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ... ولكن ليس للمسلم المقيم في دار الحرب أن يجير، كما أن الاعتداء عليه لا يعتبر كالاعتداء على المسلم المقيم؛ لأن الاعتداء على المسلم في دار الإسلام يعتبر اعتداء على هذه الدار كلها، ومن ثم فعلى الدار كلها أن تحارب من أجله، كما يعتبر الاعتداء عليه غدرا ونقضا للمواثيق. أما الاعتداء على المسلم المقيم في دار الحرب، فلا يعتبر غدرا أو نقضا للمواثيق، إلا إذا كان منصوصا على ذلك، ومن ثم فإننا لا ندخل معركة من أجله، مع معاهدين بيننا وبينهم مواثيق. أما إذا لم تكن المسألة كذلك فعلينا نصره إن كان في طاقتنا ذلك. وتبقى قضية الميراث، فهل هناك توارث بين المسلمين في دار الحرب ودار الإسلام؟ الإجماع على أنه في أول الإسلام لم يكن توارث، أما بعد نزول آيات المواريث فالإجماع منعقد على أن المسلمين يرثون بعضهم حيث كانوا، وهناك مجموعة مواضيع تطرح نفسها من خلال المقطع: (دار الحرب، ودار الإسلام)، (الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام)، (مسئولية دار الإسلام عن المسلمين في كل مكان) وإذا تعارضت هذه المسئولية مع عهود دار الإسلام فما الحكم؟ مبدئيا نستطيع أن نقول ما يلي: نتيجة للتاريخ الطويل للمسلمين، والتعقيدات الكثيرة التي حدثت، والتعقيدات الكثيرة لأوضاع عالمنا المعاصر، وانتقال من الأوطان من حال إلى حال، وتتابع الأوضاع المختلفة على القطر الواحد، وفقدان الخلافة الإسلامية فقد أصبحت هناك مجموعة اصطلاحات، دار إسلام. دار حرب. دار عهد. ودار الإسلام منها دار ردة، ودار بغي، ودار فسوق، ودار بدعة، ودار عدل. ولكل منها حكمة. والذي نقوله إن دار العدل الآن: التي تحكم بالإسلام، ويقوم فيها نظام الإسلام، وتتبنى أمور الإسلام، وتبني علاقاتها الخارجية على أساس الإسلام. هذه الدار مفقودة تقريبا، وعلى المسلمين أن يقيموها، فإذا قامت هل تجب الهجرة إليها من بقية دار الإسلام، كدار البدعة، أو الردة، أو الفسوق ... ؟ الحنفية يرون وجوب ذلك. وبعض الفقهاء يفصلون وهل الهجرة إليها من دار الحرب أو العهد واجبة؟ الحنفية يرون ذلك، وبعض

الفقهاء يفصل. فنحن نعلم أنه في كثير من بلدان العالم تعطى حرية العبادة لكل من يقيم فيها. وهناك بلاد تلاحق الإنسان في عقيدته، وتفتنه عنها، فحيثما كانت الفتنة محققة للإنسان أو لأهله وذريته فقد وجبت الهجرة بالإجماع، وحيثما تكون الحرية متوفرة، فالشافعية يندبون إلى الإقامة. وعلى كل حال فحيثما وجد مسلمون مؤمنون فعليهم أن يوالي بعضهم بعضا، وأن يكونوا يدا واحدة على من سواهم بالحق والعدل. ولإقامة دار العدل لا بد أن تقام دولة الإسلام في هذا العالم، أي دولة الخلافة الراشدة فتقيم الإسلام حق القيام، ومن أجل ذلك فعلى المسلمين بقلوب فتية أن يعملوا من أجل إقامة هذه الدولة، وأن يهاجروا إليها إذا اقتضت مصلحة الإسلام والمسلمين ذلك أو كان الحكم الشرعي ذلك. 2 - ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة، حتى نسخ الله ذلك بآيات المواريث. فهذا النوع من الولاء بين المؤمنين منسوخ، أما الولاء العام من نصرة وتعاون فذلك الذي بقي. روى أبو يعلى عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المهاجرون، والأنصار، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة» ومن على قدمهم فهو معهم ومنهم إلى يوم القيامة. 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا يروي ابن كثير ما رواه الإمام أحمد عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا. وقال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال- أو خلال- فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة

نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» وأخرجه مسلم. 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ نذكر أن كل أنواع الولاء بين المؤمنين والكافرين منتفية حتى الولاء المؤدي إلى الإرث. ولذلك لا إرث بين المسلم والكافر، فضلا عن غير ذلك من أنواع الولاء، وانظر هذه الأحاديث: روى الحاكم في مستدركه ... عن أسامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا، ولا كافر مسلما، ثم قرأ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد. وروى ابن جرير ... عن الزهري حديثا مرسلا. روي متصلا من وجه آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا برئ من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال: «لا يتراءى ناراهما». وروى أبو داود .. عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». أقول: وهذه المسألة فيها تفصيل. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ نذكر بالحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المرء مع من أحب» وفي الحديث الآخر: «من أحب قوما فهو منهم» وفي رواية «حشر معهم». 6 - لكلمة ذوي الأرحام معنيان. المعنى العام وهو القرابات، ومعنى أخص عند علماء الفرائض- أي المواريث- ويطلقونها على الذين لا فرض لهم، ولا هم عصبة، بل يدلون بوارث، كالخال، والخالة، وأولاد البنات، وأولاد الأخوات، ونحوهم. وقد فسر الحنفية قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ بأن جعلوها شاملة للمعنى العام، والمعنى الأخص، وأبقاها كثير من المفسرين كابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغير واحد على أنها في القرابات عامة، وأنها نسخت الإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا، وبناء على هذا الاختلاف، فإن ترتيب الأحقية في التركة يختلف نتيجة لذلك فعند الحنفية: يرث أصحاب الفروض، ثم العصبات، ثم ذوو الأرحام- بالمعنى الأخص الذي ذكرناه- ثم مولى الموالاة، ثم المقر له بنسب على الغير، ثم تنفيذ الوصايا فيما زاد على الثلث، ثم

كلمة في سورة الأنفال

بيت المال. وعند الشافعية أصحاب الفروض، ثم العصبات، ثم بيت المال. كلمة في سورة الأنفال: رأينا أن سورة الأنفال هي تفصيل للثلاث الآيات من سورة البقرة، من الآية التي فرض فيها القتال، إلى آخر الآيتين بعدها، وقد فصلت هذه السورة، أن القتال فيه الخير للمسلمين، كما فصلت في القضايا الرئيسية اللازمة للقتال، من طاعة، وانضباط، وثبات، وكتمان، وتقوى، وفي آداب اللقاء، والصلح وما يلزم لكل من إعداد كامل، كما فصلت في واجبات القيادة الإسلامية، كما فصلت في أحكام الدار وأهلها التي تتحمل مسئولية إقامة الإسلام ونصرة المسلمين، وهي دار الإسلام بمواطنيها المهاجرين والسكان الأصليين، وهي مواضيع لها صلة بفرضية القتال، وقد فصلت السورة في ما سوى ذلك، مما مر معنا، وكنا ذكرنا من قبل: أن سورة براءة إنما هي امتداد لسورة الأنفال، وهي تشارك في تفصيل الآيات المذكورة في سورة البقرة، وإذا كانت سورة الأنفال هي تفصيل لما رأيناه من قضايا نظرية وعملية في القتال، فإن سورة براءة هي تفصيل للمواقف اللازمة وأمر بها، وتحليل لما يكتنف تنفيذ هذه الأوامر وغير ذلك، وكما قلنا من قبل إن سورة الأنفال وضعت الأسس اللازمة للقتال، وتأتي بعد ذلك سورة (براءة) وهي بمثابة منشور القتال فلننتقل إلى سورة التوبة. ***

سورة التوبة

سورة التوبة وهي السورة التاسعة بحسب الرسم القرآني وهي مع سورة الأنفال تعتبران السورة السابعة من قسم الطوال وآياتها مائة وتسع وعشرون وهي مدنية (وسورة التوبة خاتمة قسم الطوال)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة التوبة

كلمة في سورة التوبة: قال النسفي عن هذه السورة: (لها أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أي: تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها، وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم، وتنكلهم، وتشردهم، وتخزيهم وتدمدم عليهم، وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال: فعن علي، وابن عباس رضي الله عنهم، أن بسم الله أمان، وبراءة نزلت لرفع الأمان. وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال، لأن فيها ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين، وتعدان السابعة من الطول وهي سبع. وقيل اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال. وقال بعضهم: هما سورتان وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة). وقال ابن كثير في مقدمة الكلام عنها: (هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري ... عن البراء يقول: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت براءة، وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام، بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كما روى الترمذي .. عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان (أي الطويل) وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وخشيت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطول.

وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد. وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من تبوك وهم بالحج. ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فلما قفل أتبعه بعلي ابن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه). من كلام النسفي وابن كثير نرى: أن براءة من السبع الطول، ولا تكون من السبع الطول إلا إذا كانت هي والأنفال بمنزلة سورة واحدة، لأن الأنفال وحدها ليست من الطول، ففيما بعدها من سوى سورة التوبة ما هو أطول منها، وإذن فالأنفال وبراءة بمنزلة سورة واحدة، يشهد لذلك إجماع الصحابة على حذف البسملة بينهما في الكتابة في المصحف الإمام. وكلا السورتين تفصيل لما ذكرناه من آيات البقرة الثلاث اللواتي ذكرناهن كثيرا، وباستكمال فهم سورة براءة مع سورة الأنفال نكون قد فهمنا تفصيل ما له علاقة بآيات القتال الثلاث في سورة البقرة. فمن أراد أن يحقق فرضية القتال علما وعملا فعليه أن يفهم سورتي الأنفال والتوبة، وعليه أن يلتزم بما فيهما، ويعمل بما فيهما، ويتحقق بما فيهما، ويسعى مع المسلمين لتنفيذ ما أمر الله به فيهما. تتألف السورة من ثلاثة أقسام. القسم الأول منها: ويمتد من الآية الأولى حتى نهاية الآية (37). القسم الثاني منها: ويمتد من الآية (38) حتى نهاية الآية (122). القسم الثالث: ويمتد حتى نهاية السورة أي نهاية الآية (129). وسنعرض القسم الأول بمقاطعه كلها دفعة واحدة، وهو القسم الذي فيه الأمر بالبراءة من المشركين، وتحريم إعطاء الولاء للكافرين، والأمر بقتال المشركين جميعا، والأمر بقتال أهل الكتاب، إنه القسم الذي يذكر المقدمات الكبرى التي ترتكز عليها انطلاقة الجهاد، ولذلك فهو يأتي بين يدي القسم الذي يطالب بالنفير العام، الذي يأتي بين يدي الأمر بقتال الأقرب فالأقرب.

القسم الأول

القسم الأول ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (37) وهذا هو: [سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 37] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

بين يدي هذا القسم

بين يدي هذا القسم: يأتي هذا القسم بين يدي القسم الثاني الذي يطالب بالنفير العام للقتال في سبيل الله، ولذلك فهو يقدم المبررات لهذا النفير. كما يضع المرتكزات التي على أساسها يكون الانطلاق، فأهل الكتاب انحرفوا وعلماؤهم فسدوا، والمشركون نجس وهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، والولاء منعدم بين المسلم والكافر، إلى غير ذلك. المعنى العام: تبدأ السورة بإعلان براءة الله ورسوله من كل من له عهد مطلق من المشركين، (والمراد بهم مشركو جزيرة العرب) وكل من له عهد دون أربعة أشهر، فهؤلاء وهؤلاء يعطون فرصة أربعة أشهر من تاريخ الإعلان، ثم لا عهد بعد ذلك، وأما من له عهد مؤقت فعهده إلى تأقيته، ما لم يغدر، أو يحس منه الغدر، ومع هذا الإعلان تهديد لهم بانتقام الله منهم، وتهديد لهم بأن الله سيذلهم. ثم تثني السورة بالأمر بالإعلان في أعظم موسم من مواسم العالم- موسم الحج- وفي أعظم يوم من أيامه- يوم النحر- عن براءة الله ورسوله من كل مشرك، ثم يندب الله المشركين إلى التوبة والإيمان، ويعدهم على ذلك خيري الدنيا والآخرة، ويهددهم إن أصروا على شركهم وكفرهم. وبهذا استقرت براءة الله ورسوله من المشركين، وبراءة من عهودهم المطلقة، وأعطوا لذلك مهلة أربعة أشهر، أما من له عهد مؤقت فقد ذكر الله بعد ذلك أنه

مستثنى من هذا الإطلاق، وأن له أجله إلى مدته المضروبة له، وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين أحدا، أي بشرط ألا يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته، وقد حرض الله تعالى في هذا المقام على الوفاء لهؤلاء بعهودهم. ثم بين تعالى أنه إذا انقضت هذه الأشهر الأربعة التي أعطاها فرصة للمشركين فحيثما وجد المشركون، فعلينا أن نقتلهم، ثم أمرنا أن نقصدهم بالحصار في معاقلهم، وحصونهم، وأن نترصدهم في طرقهم ومسالكهم؛ حتى نضيق عليهم الواسع، ونضطرهم إلى القتل أو الإسلام، بإعلان التوبة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم بين تعالى: أنه لو أن أحدا من هؤلاء المشركين الذين أمرنا بقتلهم، وأحل لنا استباحة نفوسهم وأموالهم، طلب الأمان، فإن علينا أن نجيبه إلى طلبته حتى يسمع القرآن، ويعلم الإسلام؛ لتقوم عليه حجة الله، ثم بعد ذلك نبلغه مأمنه، وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، وإنما شرع الله أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده. ثم بين تعالى حكمته في البراءة من المشركين، ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعد ذلك القتل أين ما وجدوا، بأنه لا يصح أن يكون لهؤلاء أمان، فيتركوا فيما هم فيه وهم مشركون بالله، كافرون به وبرسوله، واستثنى الله عزّ وجل من هؤلاء المشركين الذين عاهدونا وعاقدونا عند المسجد الحرام، فهؤلاء مهما تمسكوا بما عاقدونا عليه وعاهدونا فإن علينا أن نفي لهم. ثم بين الله حكمة أخرى من حكم فريضة قتل المشركين وقتالهم، بعد أن ذكر أنهم لا يستحقون الأمن والأمان؛ لشركهم وكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحكمة هي أن هؤلاء المشركين لو أنهم ظهروا على المسلمين، وأديلوا عليهم، لم يبقوا ولم يذروا، ولا راقبوا فيهم قرابة ولا عهدا، بل منتهى ما يقدمونه الكلمة المنافقة، بينما قلوبهم ممتلئة حقدا، وأعمالهم شريرة. ثم حث الله المسلمين على قتل المشركين بسبب أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة، ومنعوا المؤمنين من اتباع الحق بإيذائهم لهم، أمر الله بقتل هؤلاء لإرهاب غيرهم، لقد اجتمع لهم من العمل السيئ ما يوجب قتلهم وقتالهم، فكيف نتردد في قتالهم؟؟ ثم أكد الله استحقاقهم للقتل والقتال بسبب أنهم لا يخافون

الله؛ فلا يبالون أن يؤذوا المؤمنين، غير ملتفتين إلى عهد أو قرابة، أفيتردد المؤمن في قتلهم وقتالهم وهم على هذه الصفة من الاعتداء؟؟ إن هؤلاء ليس أمامهم إلا طريقان: إما التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أو القتل، فإن أئمة الكفر لا ينتهون عن ما هم فيه إلا بقتل وقتال، ثم هيج الله المؤمنين، وحضهم، وأغراهم على قتال المشركين بتذكيرهم بما فعلوه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما بدءوا المؤمنين فيه من إيذاء وقتال، أفهؤلاء في حقارتهم وحقدهم وكفرهم يستأهلون أن يخشى منهم؟ والمؤمن لا يخشى إلا الله، ثم أمر الله عزّ وجل بقتالهم أمرا جازما، ووعد المؤمنين إن قاتلوهم أن يعذبهم بأيديهم، وأن يذلهم وأن ينصر المؤمنين عليهم، فتشفى بذلك صدورهم، ويذهب غيظها، وعلينا أن نعلم أن الله عزّ وجل لم يشرع شيئا إلا على مقتضى العلم والحكمة. وبهذا استقر القسم على ضرورة القتال للمشركين، وضرورة قتلهم، مع بيان حكمة ذلك وحكمه. والكلام كله في مشركي العرب، فهؤلاء لا بد من قتلهم واستئصالهم، إنه ليس أمامهم إلا السيف أو الإسلام، ومن كان له عهد مؤقت يوفى له بمدته، ثم يكون حكمه كالآخرين، وقد وعد الله عباده أن ينصرهم، وقد فعل المسلمون ما أمروا به، وقد وفى الله لهم بوعده وعهده، فأذل الشرك وأهله، ونصر الإيمان وحزبه، ولا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله. وكثيرون من الناس يتصورون أن الله لا يكلف إلا بما هو مريح لعباده، وكثيرون من الناس ليس عندهم عزم على الجهاد، ولذلك أنكر الله في هذا السياق على من يتصور أن الله يتركنا مهملين، فلا يختبرنا بأمر يظهر فيه أهل العزم الصادق من الكاذب، وأهل الإيمان الصادق من الكاذب، بالجهاد وترك اتخاذ بطانة دخيلة من غير المؤمنين، فالحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد والقتال، وأمر بقتل المشركين، بين أن له في ذلك حكمة: وهي اختبار عبيده، من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى العالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون. وبعد بيان حكم الله في المشركين وأنه القتل، وبعد الإنكار على من يتصور عدم تكليف الله عباده بالجهاد، وإخلاص الولاء لله والرسول والمؤمنين في الظاهر والباطن، بين تعالى أن هؤلاء المشركين ما كان لهم أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، وهم على حالهم من الشرك لم يتوبوا منه، فهؤلاء أعمالهم غير مقبولة، والنار لهم قرار دائم، ثم بين صفات المستحقين أن يعمروا مساجد الله بالعبادة

والذكر، وهم الذين اجتمعت لهم معاني الإيمان، والصلاة، والزكاة، ولم يخشوا إلا الله، فهؤلاء هم المهتدون الجديرون بمساجد الله، وليحطم الله عزّ وجل كل مظهر من مظاهر الشرك، وليحطم دعاوى المشركين في زعمهم أنهم على خير بسبب بعض صور الخير التي يفعلونها، وحتى لا يتوهم المسلمون ويخدعون ببعض صور الأعمال، بين تعالى أنه لا يستوي أهل الإيمان والجهاد بأهل سقاية الحج، وسكن المسجد الحرام، مع الشرك، ثم بين أن المؤمنين المجاهدين هم الفائزون وهم المبشرون بالجنة والرضوان. وبهذه المعاني ينتهي المقطع الأول من هذا القسم وقد استقر فيه وجوب البراءة من المشركين، ووجوب قتلهم وقتالهم أينما كانوا وحيثما كانوا، وكيف ظهروا ومهما كانت أعمالهم. ثم يأتي المقطع الثاني في هذا القسم وفيه يأمر الله تعالى بمباينة الكفار، وإن كانوا آباء أو أبناء، كما نهى عن موالاتهم ما داموا قد اختاروا الكفر على الإيمان. ثم توعد جل جلاله من آثر أهله وقرابته وعشيرته، أو آثر الأزواج والأولاد والأموال والتجارة والمسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله أن ينتظر ما يحل به من العقاب والنكال. فلا ولاء إلا لله ولرسوله وللمؤمنين. ولا شئ مقدم على حب الله والرسول وحب الجهاد. وفي هذا السياق يحذر جل جلاله من العجب والاغترار بالكثرة من خلال ما حدث يوم حنين، كما يأمر بالتوكل من خلال هذه القصة. وهكذا يتقرر في هذا المقطع مجموعة أمور كلها مهم في موضوع القتال. ثم يأتي المقطع الثالث: فيقرر أن المشركين نجس، وأن على المؤمنين أن ينفوا المشركين عن المسجد الحرام، وأن يمنعوهم من قربانه، وحتى لا يخشى المسلمون من انقطاع مورد من موارد الرزق عنهم بسبب منع المشركين من الحج إلى المسجد الحرام، فقد وعدهم الله أن يغنيهم من فضله، وبهذا تكون قد اتضحت أحكام الشرك والمشركين في وجوب قتالهم ومنعهم من الحج، ليأتي الأمر بقتال أهل الكتاب الذين لهم أحكام خاصة، فالمشركون العرب ليس أمامهم إلا الإسلام أو الاستئصال، فأما أهل الكتاب فالأمر في حقهم أوسع، فإما القتل، وإما الإسلام، وإما الجزية، وقد ذكر الله

كلمة في السياق

في هذا السياق مجموعة الأمور التي يستحقون بها القتل والجزية، من كفرهم ونسبتهم إلى الله ما لا يليق به، وحرص على إطفاء نور الله، وفساد عند علمائهم. ثم هدد الله الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، والصلة ما بين القتال والإنفاق واضحة. ثم قرر الله موضوع السنة القمرية، والأشهر الحرم فيها، وتلاعب المشركين في الأشهر الحرم، مما يدل على أنهم كاذبون في احترامها في الوقت الذي يثيرون فيه النكير على المسلمين يوم قتلوا في الأشهر الحرم. فإذا ما تذكرنا أن سورتي الأنفال وبراءة تفصلان الآيات الثلاث من سورة البقرة كما رأينا، عرفنا الصلة بين ذكر الأشهر الحرم هنا والأشهر الحرم هناك. وينتهي القسم الأول عند هذا الحد بعد أن بين الله فيه وجوب قتال المشركين وأهل الكتاب، وأمر بكل ما يلزم لتحقيق هذا المعنى. كلمة في السياق: بدأ هذا القسم بالكلام عن قتال المشركين، وانتهى بالكلام عن قتال المشركين، وفي الوسط تكلم عن قتال أهل الكتاب، وذكر في سياق ذلك مبررات قتال المشركين وأهل الكتاب، وحرر في هذا السياق المسلم من كل ما يحول بينه وبين القتال، وصلة ذلك كله بمحور سورة براءة من سورة البقرة واضحة: ففي المحور قال جل جلاله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ* وهاهنا تفصيل في موضوع القتال: من نقاتل؟ ولماذا نقاتل؟ وفي المحور ورد قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وهاهنا يرد كلام عن الأشهر الحرم، وتلاعب المشركين بها، كما يرد أحقية المسلمين بالمسجد الحرام، كما يرد كيف أن المشركين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، إلى غير ذلك مما له ارتباط بالمحور، وفي المحور ورد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وهاهنا يرد قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ فهذه كلها مظاهر لتفصيل سورة براءة لآيات المحور، إن

فائدة

التفصيل الأول لآيات المحور جاء في سورة الأنفال، وجاءت سورة براءة بمثابة منشور قتال ولكنه كذلك يفصل في المحور الذي فصلت في سورة الأنفال. فائدة: تحدث القسم الأول في هذه السورة عن قتال المشركين، وقتال أهل الكتاب، ورأينا أن أهل الكتاب مخيرون بين ثلاثة أشياء: الإسلام، أو القتال، أو الجزية، وأما المشركون فلا خيار أمامهم، إما القتل، أو الإسلام، وهذا في مشركي العرب، لا خلاف عليه- تقريبا- وأما مشركو غير العرب فما حكمهم؟ هل يعاملون معاملة أهل الكتاب؟ أو يعاملون معاملة مشركي العرب؟ لقد أجمع الصحابة على أن يأخذوا الجزية من المجوس، وهذا يفيد أنهم عاملوا المجوس معاملة أهل الكتاب، ولذلك فقد جرى العمل خلال التاريخ على أن يعامل غير مشركي العرب معاملة أهل الكتاب، على خلاف بين الفقهاء في ذلك. وإذن فإن القسم الذي مر معنا، أمرنا أن نقاتل كل الناس، مع ملاحظة أن الناس نوعان: نوع تقبل منه الجزية ونوع لا تقبل منه، وعلى هذا فإن هذا القسم فصل في موضوع فرضية القتال، وحدد الجهات التي يفترض علينا أن نقاتلها، وحدد ما نقبله من كل جهة وما لا نقبله. ولعل من نافلة القولة أن نقول: إن أكثر المسلمين عن مثل هذا غافلون، بل يستغربون إذا فاتحهم أحد بمثل ذلك، بل يستنكر الكثيرون منهم أن يطالبهم أحد بالسير في الطريق العملي لإقامة هذه الأحكام، على أن العلم بالإسلام- بفضل الله- بدأ ينتشر، والملتزمون بكل ما يطلبه منهم الإسلام بدءوا يكثرون، وإن هذه الأمة لإلى خير بإذن الله. المعنى الحرفي للمقطع الأول: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين والمعنى: أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم. والمشركون إما أن يكونوا معاهدين أو لا، والمعاهدون إما أن يكون عهدهم إلى مدة محددة، أو لا، والذين عهدهم إلى مدة محددة إما أن تكون هذه المدة أقل من أربعة أشهر، أو أكثر، والتي هي أكثر إما أن يكون أصحابها وافين بالتزاماتهم غير مبيتين نية غدر أو لا. فمن بيت نية غدر، فقد مر

[سورة التوبة (9): آية 2]

معنا في سورة الأنفال حكمه، ومن وفى بالتزاماته ولا يخشى منه غدر، وعهده إلى أجل محدد زائد على أربعة أشهر، فهذا سيأتي حكمه، وواجب في حقنا له الوفاء، ومن كان عهده مطلقا، أو كان عهده دون أربعة أشهر، فهؤلاء أعطوا فرصة أربعة أشهر- كما سنرى-، ثم لا عهد بيننا وبينهم، وإنما هو القتال. ثم المعاهدين إلى أجل متى انتهى الأجل فليس بيننا وبينهم إلا القتال، وأما المشركون غير المعاهدون فلا سلام بيننا وبينهم، ما دمنا قادرين على قتالهم بل هو القتال حتى يحكم الله بيننا. وهل هذا خاص بمشركي العرب؟ الإجماع منعقد على أن المشرك العربي- أي غير اليهودي أو النصراني أو المجوسي- لا تقبل منه الجزية، فإما القتل وإما الإسلام. أما اليهودي أو النصراني أو المجوسي من العرب فتقبل منه الجزية، أو الإسلام، وإلا القتال. أما غير العرب فإن كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا فكذلك. أما غير هؤلاء فقد اختلف العلماء هل تقبل منهم الجزية أو هو الإسلام أو القتل؟ قولان والذي عليه العمل خلال العصور قبول الجزية من كل الناس ما سوى العرب المشركين، والجزية هي رمز الخضوع لسلطان المسلمين بالإسلام فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ السيح: هو السير على مهل، والمعنى: فسيروا في الأرض كيف شئتم أربعة أشهر، أمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين لا يتعرض لهم. وهل هذه الأربعة أشهر من تاريخ الإعلام بهذا الأمر- وهو يوم النحر في عام نزول هذه السورة- أو المراد بذلك الأربعة الأشهر الحرم، والتي لم يبق منها يوم الإعلام إلا خمسون ليلة؟ قولان. رجح ابن كثير أنها من تاريخ الإعلام، وقال رادا القول الثاني: وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وإذن فقد أعطي المشركون فرصة أربعة أشهر على التفصيل الذي ذكرناه، ثم إما الاستئصال أو الإسلام وَاعْلَمُوا أي أيها المشركون أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه وإن أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالعذاب وَأَذانٌ أي وإعلام مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أي يوم عرفة، لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج أو يوم النحر، لأن فيه تمام الحج من الطواف والنحر والحلق والرمي، ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي ورسوله برئ منهم، في الآية الأولى من السورة: إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس؛ لأن البراءة مختصة

[سورة التوبة (9): آية 4]

بالمعاهدين على التفصيل الذي ذكرناه، وأما الأذان فعام لجميع الناس، من عاهد، ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين، ومن لم ينكث فَإِنْ تُبْتُمْ أيها المشركون مما أنتم فيه من الكفر وعمله فَهُوَ أي التوبة خَيْرٌ لَكُمْ أي من الإصرار على الكفر في الدنيا وفي الآخرة وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن التوبة أي: إن أعرضتم عنها بأن ثبتم على الشرك والإعراض عن الإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير سابقين الله، ولا فائتين أخذه وعقابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ جزاء على كفرهم إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أي ثم لم ينكثوا، ولم ينقصوكم من شروط العهد بمعنى: أنهم وفوا بالعهد ولم ينقضوه وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي ولم يعاونوا عليكم عدوا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أي فأدوه إليهم تاما كاملا إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى تمام مدتهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يفون بعهودهم، هذه الآية استثناء من الأمر بالسيح أربعة أشهر. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هل المراد بالأشهر الحرم هنا الأشهر الحرم بالمعنى المشهور أي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، أو المراد بها هنا الأشهر الأربعة التي أعطيها المشركون كمهلة؟ قولان. والذي رجحه ابن كثير أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة التي أمهلوا فيها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ممن لا عهد محددا بينكم وبينهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في حل أو في حرم وَخُذُوهُمْ أي وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي واسجنوهم وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي كل ممر ومجتاز ترصدونهم به فَإِنْ تابُوا أي عن الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ اللتان هما علامتا الإسلام فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فأطلقوا عنهم قيد الأسر والحصر، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور يستر ما حدث قبل الإسلام من كفر وغدر، رحيم برفع القتل بعد الإسلام، ومجئ ذكر اسم الله الرحيم في هذا المقام إشعار بأن الله ذا الرحمة هو الذي يأمر بمعاملة المشركين هذه المعاملة، فإياكم أن تظنوا أن الرحمة تتنافى مع هذه الأحكام وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أي وإن جاءك أحد من المشركين بعد الأشهر الأربعة، ولا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ثُمَّ أَبْلِغْهُ أي بعد ذلك مَأْمَنَهُ أي داره التي يأمن فيها إن لم يسلم، ثم قاتله إن شئت، وفيه دليل على أن المستأمن لا يؤذى، وليس له الإقامة في دارنا، ويمكن من العود ذلِكَ أي الأمر بالإجارة

[سورة التوبة (9): آية 7]

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ أي بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق. وبعد إعلان البراءة وإيجاب القتل والقتال بين الله عزّ وجل الحكمة في ذلك وذلك كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يستنكر الله عزّ وجل أن يثبت لهؤلاء المشركين عهد وفي هذا الاستنكار نهي عن تحديث النفس أصلا في إعطائهم الأمن بل هو القتل، ولكن استثنى من ذلك من عوهدوا عند المسجد الحرام، فهؤلاء قال الله فيهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي فما أقاموا على وفاء العهد ولم يظهر نكث فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي على الوفاء إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين لا يغدرون كَيْفَ أي كيف يكون للمشركين عهد ينالون به أمانا وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ وحالهم إن يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا أي حلفا أو قرابة وَلا ذِمَّةً أي ولا عهدا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ يتظاهرون بما لا يبطنون، وبواطنهم مملوءة حقدا وغيظا وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ناقضون للعهد، أو متمردون في الكفر، لا مروءة تمنعهم عن الكذب، ولا شمائل تردعهم عن النكث، ولم يقل كلهم لوجود القليل الذي يتحامى عن بعض ما لا يستقيم في العقول اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي استبدلوا بالقرآن ثَمَناً قَلِيلًا أي عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ عملا وحالا، وعدلوا عنه وصرفوا غيرهم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس الصنيع صنيعهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ أي مؤمن، خصص في المرة الأولى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم عمم كل مؤمن إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر، فمن كان هذا شأنهم كيف يستحقون أمنا؟ وكيف نكف أيدينا عنهم فلا نقتلهم شر قتلة؟ فَإِنْ تابُوا عن الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم في الدين لا في النسب إذا اجتمع لهم الإسلام علما وعملا وَنُفَصِّلُ الْآياتِ أي ونبينها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون فيتفكرون فيها، وفي النص تحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها، إذ النص أفهم أن من تأمل تفصيل هذه الآيات فهو العالم وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي وإن نكث المشركون المعاهدون إلى مدة محددة مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي من بعد عهودهم ومواثيقهم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي عابوه وانتقصوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي زعماءه ورؤساء أهله إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أثبت لهم الأيمان في أول الآية، ونفاها عنهم هنا، مريدا في

[سورة التوبة (9): آية 13]

ابتداء الآية أيمانهم التي أظهروها، وهاهنا أيمانهم على الحقيقة، فإنها لا تساوي شيئا لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ فليس هناك من طريق لانتهائهم عن الفساد إلا القتال، ألا فليعقل المسلمون ذلك، ثم حرض على القتال فقال أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة، يذكرهم بفعلهم برسولهم وبهم فكيف يترددون في القتل والقتال وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ والبادئ أظلم، فما يمنعكم من قتالهم وفي الآية توبيخ على ترك القتال، وحض عليه، وتذكير بما يوجب القتال، من نكث العهد، وإخراج الرسول، والبدء بالقتال من غير موجب أَتَخْشَوْنَهُمْ هذا توبيخ على الخشية منهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ أي فالله أحق أن تخشوه فقاتلوا أعداءه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن قضية الإيمان الكامل ألا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، ولما وبخهم الله على ترك القتال جدد لهم الأمر به قاتِلُوهُمْ ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل وَيُخْزِهِمْ بالأسر وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أي ويغلبكم عليهم وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ مما أصابهم من أذيتهم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا منهم من المكروه، وقد حصلت هذه المواعيد كلها فكانت معجزة خاصة زائدة على ما في القرآن كله من إعجاز عام وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ هذا إخبار بأن بعضا من المشركين يتوب ويدخل في الإسلام وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان حَكِيمٌ في قبول التوبة. وبعد أن فرض القتال، وأعلن البراءة، وبين حكمة القتال وضرورته، بدأ السياق يصحح التصورات أَمْ حَسِبْتُمْ هذا توبيخ على وجود مثل هذا التصور أَنْ تُتْرَكُوا أي أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب، ولهذا جاء بعده وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي: بطانة ودخيلة، ففي الآية أمر بالجهاد، ونهي عن اتخاذ الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بطانة ودخيلة، وخلانا وأصفياء والمعنى: أظننتم هذا الحسب الخاطئ أن تتركوا ولا مجاهدة ولا براءة من المشركين. والمعنى: لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا بطانة من دون المؤمنين ودل قوله تعالى وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا .. على أن الذين لم يخلصوا دينهم لله سيميز الله بينهم وبين المخلصين ويعرفون وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي من خير أو شر فيجازيكم

[سورة التوبة (9): آية 17]

عليه. فالآية أكدت أنه لا بد من جهاد ولا بد من مفاصلة لأهل الكفر والشرك والنفاق. وبعد أن استقر هذا كله يقرر الله حكما جديدا وهو وجوب منع المشركين من الحج فيقول: ما كانَ أي ما صح لهم وما استقام لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وخاصة إمام المساجد: المسجد الحرام شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ باعترافهم أنهم غير مسلمين والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فلا يؤجرون عليها وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ أي دائمون، ثم بين الله المستحقين لأن يعمروا مساجد الله إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ العمارة المعنوية: بالعبادة والذكر والعلم، والعمارة الحسية من رم ما تهدم منها وتنظيفها، وتنويرها، وصيانتها وبنائها أصلا، وكل ذلك داخل في الآية مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ فاجتمع له الإيمان والعمل بالأركان وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ من صنم أو إله مزعوم أو بشر أو غير ذلك، والمراد الخشية في أبواب الدين، بألا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف؛ إذ المؤمن قد يخشى المحاذير خشية طبع، ولا يتمالك ألا يخشاها فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ المعنى: إن أولئك هم المهتدون، قال ابن كثير: كل عسى في القرآن فهي واجبة، ولكن ذكرها هنا يفيد تبعيد الهداية للمشركين، وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم؛ لأن إذا كان من ذكروا عسى أن يكونوا من المهتدين فكيف يكون حال المشركين. وكما صحح السياق بعد فرضية قتال المشركين مفهوما خاطئا، فههنا كذلك بعد تحريم الحج على المشركين يصحح مفهوما أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مع الشرك وهي من مكارم قريش في الجاهلية كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أجعلتم أهل سقاية الحج، وعمارة المسجد الحرام أي سكناه، كالمؤمنين بالله المجاهدين في سبيله، وفي ذلك إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم، وقد جعل الله جل جلاله تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر، لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعيهما لذلك قال لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ثم أكد عدم الاستواء فقال الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً

[سورة التوبة (9): آية 21]

عِنْدَ اللَّهِ من أهل السقاية والعمارة وَأُولئِكَ أي المؤمنون المجاهدون هُمُ الْفائِزُونَ لا أهل السقاية والسكنى مع الشرك والكفر يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ أي لهؤلاء المؤمنين المجاهدين بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ فما أعظم ما اجتمع لهم لَهُمْ فِيها أي في الجنات نَعِيمٌ مُقِيمٌ أي دائم خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ومن عظمته أنه لا ينقطع، وبهذا يكون المقطع الأول من هذا القسم قد انتهى بعد أن تحدد الموقف النهائي من المشركين. فوائد: 1 - نلاحظ أن في القرآن تسجيلا إلى حد ما، للسيرة النبوية، وللبيئة العربية، عصر نزول القرآن، ولكن هذا يأتي في سياق تحقق الأهداف الخالدة، وبما يسع العصور أن تأخذ توجيهات منه، فمثلا مجموعة الآيات التي مرت معنا، هي في ظاهرها مرتبطة بمرحلة زمنية معينة هي حالة الشرك التي كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي صفيت تصفية تامة في زمن أبي بكر رضي الله عنه، ولكنا سنرى في ما يأتي من الفوائد كيف أن النص القرآني لكل العصور. 2 - يلخص هذه المجموعة من الآيات التي مرت معنا ما رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه بسند حسن صحيح ورواه الإمام أحمد عن زيد بن يثيع (رجل من همدان): سألنا عليا بأي شئ بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا. وقال أبو معشر المدني حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية- أو أربعين آية- من براءة، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم وقال: لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. 3 - وأما كيفية عملية الإعلام التي أمر الله بها رسوله بقوله وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فتفسرها هذه النصوص: روى الإمام أحمد .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع علي بن أبي طالب

حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله ومدته إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي. روى محمد بن إسحاق .. عن أبي جعفر محمد بن الحسين قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس، فقيل: يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر. فقال «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي». ثم دعا عليا فقال: «اذهب بهذه القصة من سورة براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته» فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر في الطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، فلم يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته. ولا يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام، وأهل المدة إلى الأجل المسمى. روى ابن جرير .. عن أبي الصهباء البكري قال: سألت عليا عن الحج الأكبر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال: قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا فأتينا منى، فرميت الجمرة ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم، فمن ثم إخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة». 4 - وفي تفسير قوله تعالى يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ خلاف حول هل هو يوم النحر أو

يوم عرفة؟ وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له، وأخذ الناس- بخطامه أو زمامه- فقال: «أي يوم هذا؟» قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال: «أليس هذا يوم الحج الأكبر». وهذا اليوم الذي قعد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ذكره أبو بكرة يوم النحر كما روى شعبة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة. فقال: «أ تدرون أي يوم يومكم هذا؟ قالوا يوم النحر. قال: صدقتم يوم الحج الأكبر». 5 - اعتمد الصديق في قتال مانعي الزكاة على مثل قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ. وفَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ. إذ إن حرمة قتالهم علقت على وجود هذه الأفعال. وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف أركان الإسلام- بعد الشهادتين- الصلاة التي هي حق الله عزّ وجل، وبعدها أداء الزكاة، التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، لهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة. وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة». الحديث. وروى أبو إسحاق ... عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «أمرتم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ومن لم يزك فلا صلاة له». وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه». وروى الإمام أحمد ... عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم، وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم». ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه. أقول: وفي عصرنا والناس يرفضون تطبيق حكم الإسلام، والقليل الذي يقيم الصلاة، والنادر الذي يؤتي الزكاة. من لنا بأبي بكر جديد؟ فقد أباح من يرفض الإسلام، ولا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة- إن كان مسلما في الأصل أو من أبناء

المسلمين- دمه وماله، وأما أهل الذمة في عصرنا فإذا رفضوا جهارا الخضوع للإسلام، فهؤلاء لم يبق بيننا وبينهم عهد. 6 - قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف في المشركين من العرب قال الله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن كثير: وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ والسيف الثالث: قتال المنافقين في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ الآية. والرابع قتال الباغين في قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. 7 - روى ابن جرير عن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته، لا يشرك به شيئا، فارقها والله عنه راض». قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله، وفي آخر ما أنزل، قال الله تعالى: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ قال: توبتهم خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ورواه ابن مردويه ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له. 8 - ومن قبل أن ينزل قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ .. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم واحدا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم، وكانت هذه سنته في الرسل، ولهذا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك؟». وقد

قيض الله لهذا الإنسان ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة. وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الآن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه، لا رحمه الله ولعنه. وقد استقر الحكم أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة، أو تجارة، أو طلب صلح، أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانا، أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه. ولكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر. وفيما بين ذلك، فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن السنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله. 9 - في قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قال حذيفة (ما قوتل أهل هذه الآية بعد). وروي عن علي بن أبي طالب مثله. فالآية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم. وقد روى الوليد بن مسلم .. عن عبد الرحمن بن جبير ابن نفير أنه كان في عهد (أي وصية) أبي بكر رضي الله عنه إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال: إنكم ستجدون قوما مجوفة رءوسهم، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف فو الله لأن أقتل رجلا منهم أحب إلى من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رواه ابن أبي حاتم. ولعلنا لو قرأنا الآية ندرك سر كلام حذيفة وعلي رضي الله عنهما. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ إن الآية تنطبق على عصرنا، ولها تطبيقاتها في كل عصر. ألا ترى أنه في عصرنا قد كثر الطعن في الإسلام، ووجد للكفر أئمة في كل مكان، حتى انتقض كل شئ. وفي تفسير قوله تعالى: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ قال الألوسي: وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ قدحوا فيه، بأن عابوه وقبحوا أحكامه علانية، وجعل ابن المنير طعن الذمي في ديننا بين أهل دينه إذا بلغنا كذلك، وعد هذا كثير ومنهم الفاضل المذكور نقضا للعهد، فالعطف من عطف الخاص على العام، وبه ينحل ما يقال: كان الظاهر أو طعنوا لأن كلا من الطعن وما قبله كاف في استحقاق القتل والقتال، وكون الواو بمعنى أو بعيد، وقيل: العطف للتفسير كما في قولك. استخف فلان بي وفعل معي كذا، على معنى وإن نكثوا أيمانهم بطعنهم في دينكم والأول أولى، ولا فرق بين توجيه

الطعن إلى الدين نفسه إجمالا، وبين توجيهه إلى بعض تفاصيله كالصلاة والحج مثلا، ومن ذلك الطعن بالقرآن وذكر النبي صلى الله عليه وسلم- وحاشاه- بسوء فيقتل الذمي به عند جمع، مستدلين بالآية سواء شرط انتقاض العهد به أم لا. وممن قال بقتله إذا أظهر الشتم- والعياذ بالله- مالك، والشافعي، وهو قول الليث، وأفتى به ابن الهمام، ولا يخفى حسن موقع الطعن مع القتال المدلول عليه بقوله تعالى. فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم، ووضع فيه الظاهر موضع الضمير؛ وسموا أئمة لأنهم صاروا رؤساء متقدمين على غيرهم بزعمهم، فهم أحقاء بالقتال والقتل. وروى ذلك عن الحسن، وقيل: المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم مثل أبي سفيان. والحرث بن هشام، وتخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم، لا لأنه لا يقتل غيرهم، وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد، وما أدري ما مراده، والله تعالى أعلم بمراده» أقول: لقد وجد أهل هذه الآية في عصرنا. 10 - وبمناسبة قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قال الألوسي: «والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه، ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده، ومذهب الشافعي. وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنهم- كما قال الخازن- أنه لا يجوز للكافر ذميا كان أو مستأمنا أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال: فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله، بل يخرج إليه بنفسه، أو يبعث إليه من يستمع رسالته خارجه، ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي عليه الرحمة، وعن مالك كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها، وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه، وهو خلاف الظاهر جدا، والظاهر النهي على ما علمت، وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل، ممن اغتسل ولبس ثيابا طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء، والكلام على حد- لا أرينك هنا- فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين، ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام، وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها». 11 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..

نذكر هذه الأحاديث. روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان. قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ورواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في مستدركه وروى عبد بن حميد في مسنده .. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عمار المساجد هم أهل الله» وروى الإمام أحمد .. عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد». وروى عبد الرزاق ... عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها». 12 - وفي قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ .. قولان للمفسرين هل المراد بالخطاب المسلمون أو المشركون؟ وفي أسباب النزول ما يصلح لهذا وهذا، فهناك روايات تفيد أن الخطاب للمسلمين. أخرج الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير- وهذا لفظه- وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستفتيه فيما اختلفتم فيه. قال: ففعل فأنزل الله عزّ وجل أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى قوله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهناك رواية تفيد أن الخطاب للمشركين فقد ذكر ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: قال: قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر. قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي ونفك العاني، قال الله عزّ وجل أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى قوله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك. وعلى الرواية التي تفيد أن الخطاب للمسلمين يمكن أن نستخرج من الآية معنى

ولننتقل الآن إلى التفسير الحرفي للمقطع الثاني

تكمله نصوص كثيرة: إن هناك حسنات وهناك سيئات، ولقد أعطى الشارع للسيئات أحجاما، كما أعطى للحسنات أحجاما، فالشرك أكبر من الربا، والربا أكبر من الزنى، والتوحيد أعظم من الصلاة، والجهاد أفضل من مجاورة المسجد الحرام وهكذا. وكثيرا ما يحدث عند بعض المسلمين أن يعطوا لقضية حجما هو أكبر من حجمها، أو هو أصغر من حجمها، وكثيرا ما يفضلون المفضول على الفاضل، وكثيرا ما يعطلون فرائض لصالح نوافل وكثيرا ما يتمسكون بالأقل ويفرطون من أجله في الأكبر، وكثيرا ما يكون استنكارهم لما هو أكبر جرما عند الله، أقل من استنكارهم لما هو أخف جرما، وهذا موضوع يمتحن فيه فقه العالم، ولكن ما أندر الفقيه كل الفقه في عصرنا. ولننتقل الآن إلى التفسير الحرفي للمقطع الثاني: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ أي أحبابا ونصراء ومطاعين إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ أي إن آثروه واختاروه وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يتول الكافرين منكم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم وللمؤمنين ولدين الله وشريعته. وما أكثر هؤلاء في عصرنا، وما أكثر ما غاب معنى الولاء عن أذهان المسلمين علماء وعامة حتى عم الضلال بسبب هذا النوع من الظلم قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أقاربكم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها بفوات وقت بيعها، أو لمقاطعة الكافرين لكم إن لم تتولوهم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أي تحبونها لطيبها وحسنها أي: إن كانت هذه الأشياء كلها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ وكل من مسلمي عصرنا يدعي أن الله ورسوله أحب إليه من هذه الأشياء كلها، ولكن من من مسلمي عصرنا يستطيع أن يدعي- ولو دعوى- أن الجهاد في سبيل الله أحب إليه من هذه الأشياء كلها. ألا ما أكثر استحقاقنا للعذاب، وقد تهددنا الله به إن لم نكن كذلك فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي فانتظروا ماذا يحل عليكم من عقابه ونكاله وعذاب عاجل أو عقاب آجل، وقد عوقبنا فهل من توبة وجهاد؟ نرجو لمسلمي عصرنا أن يفيئوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ دلت الآية على أن من لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما ذكر، ومن لم يكن الجهاد أحب إليه مما ذكر فهو فاسق، ولا يستحق الهداية، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال النسفي: والآية تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، إذ لا تجد عند أورع الناس

[سورة التوبة (9): آية 25]

ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ» وهكذا ذكرت هاتان الآيتان قضيتين رئيسيتين لا بد منهما لإقامة القتال الإسلامي: 1 - أنه لا ولاء للكافرين. 2 - وأن حب الله ورسوله والجهاد يجب أن يكون في قلب المسلم أكثر من كل شئ، ومن لم يتحقق بهذا وهذا فإن روح الجهاد في قلبه لا بد أن تكون ميتة، ثم تأتي بعد ذلك القضية الثالثة التي لا بد منها لإقامة القتال الإسلامي وهي: التوكل على الله والاعتماد عليه وحده: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ كوقعة بدر، وقريظة، والنضير، وخيبر، وفتح مكة، ومواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حنين: واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين، وكانوا اثني عشر ألفا، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف والتقدير: واذكروا يوم حنين إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فقال قائلكم لن نغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أي كثرتكم شَيْئاً فهربتم ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليل وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي مع رحبها أي على سعتها أي: لم تجدوا موضعا لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي منهزمين وما ذاك إلا عقوبة لهم على غفلتهم عن أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي رحمته التي سكنوا بها وأمنوا عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها أي الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ القتل والأسر، وسبي الذرية والنساء وأخذ الأموال ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ بأن يلهمهم الدخول في الإسلام فيسلموا ويتوب عليهم وَاللَّهُ غَفُورٌ إذ يستر بالإسلام ما سبق من كفر رَحِيمٌ إذ ينصر أولياءه على أعدائه. وبهذا ينتهي المقطع الثاني وقد تقرر فيه: أن لا ولاء للكافرين، وأن المحبة لله والرسول والجهاد يجب أن تفوق كل محبة، وأن النصر من الله لا بالكثرة، وأن الاعتماد يجب أن يكون على الله لا على عدد وعدة. ولقد جاء هذا المقطع بين مقطعين: كل منهما يأمر بالقتال، المقطع الأول أمر بقتال المشركين، والمقطع الثالث وفيه أوامر بقتال الكافرين من مشركين ويهود ونصارى، فكأن هذا المقطع بين المقطعين يذكرنا بالمعاني التي لا بد منها لإقامة القتال وهي المعاني الثلاثة التي ذكرها المقطع الثاني.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ نذكر هذه الأحاديث: روى الإمام أحمد .. عن زهرة بن معبد عن جده قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت الآن- والله- أحب من نفسي. فقال رسول الله: «الآن يا عمر». وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين». 2 - روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة». وهكذا رواه أبو داود والترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وهذا الحديث أصل عظيم يتعلق بتنظيم السرايا والوحدات، ويلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الاثني عشر ألفا لا يغلبون من قلة. وهذا يعني أنهم يغلبون من غير القلة. وهذا الذي حدث يوم حنين إذ غلب المسلمون من العجب. 3 - وبمناسبة ذكر غزوة حنين نذكر طرفا من أخبارها: كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وذلك لما فرغ صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، وأوزاع من بني هلال وهم قليل، وناس من بني عمرو بن عامر، وعون بن عامر، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان، والشاء والنعم، وجاءوا بقضهم وقضيضهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح، وهم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء في ألفين، فسار بهم إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي، وقد كمنت فيه هوازن، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم ملكهم، فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين، كما قال الله عزّ وجل. وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب

يومئذ بغلته الشهباء، يسوقها إلى نحر العدو، والعباس- عمه- آخذ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة والسلام، ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول: «إلي عباد الله، إلي أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب». وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ومنهم من قال ثمانون، فمنهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، والعباس وعلي، والفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وغيرهم رضي الله عنهم، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس- وكان جهير الصوت- أن ينادي بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة- يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون والمهاجرون والأنصار تحتها على أن لا يفروا عنه- فجعل ينادي بهم: يا أصحاب الشجرة، ويقول تارة: يا أصحاب سورة البقرة، فجعلوا يقولون: يا لبيك يا لبيك، وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب بعد ما دعا ربه واستنصره وقال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني» ثم رمى القوم بها، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم». وروى الحافظ أبو بكر البيهقي .. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس، وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، قدمنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدما، فحادت بغلته، فمال عن السرج فقلت: ارتفع رفعك الله قال: «ناولني كفا من التراب» فناولته قال: فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا قال: «أين المهاجرون والأنصار؟» قلت: هم هناك قال: «اهتف بهم» فهتفت بهم فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم». وروى البيهقي أيضا .. عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين- والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكني أبيت أن تظهر هوازن على قريش- فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا فقال: «يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر» فضرب بيده على صدري ثم قال: «اللهم

المعنى الحرفي للمقطع الثالث

اهد شيبة» ثم ضربها الثانية ثم قال: «اللهم اهد شيبة» ثم ضربها الثالثة ثم قال: «اللهم اهد شيبة» قال: فو الله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه، وذكر تمام الحديث في التقاء الناس، وانهزام المسلمين، ونداء العباس، واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله تعالى المشركين. ولننتقل إلى المقطع الثالث في هذا القسم، ولنلاحظ ما ذكرناه من أن المقطع الثاني قد ذكر المعاني التي تعتبر مرتكز التنفيذ للأوامر الموجودة في المقطع الأول والثالث، ولذلك نجد المقطع الثالث يبدأ بالموضوع الذي ختم به المقطع الأول، وهو موضوع منع المشركين عن قربان المسجد الحرام، ثم يعود السياق إلى إصدار أوامر القتال. المعنى الحرفي للمقطع الثالث: [الفقرة الأولى] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، فكانوا أصحاب نجس، ثم هم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم أو هم النجاسة بعينها؛ لأن ذرات روحهم وتصوراتهم نجسة فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أي فلا يحجوا ولا يعتمروا وهم مشركون بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم، ويكون المراد من نهي القربان النهي عن الحج والعمرة، وهو مذهب الحنفية، وعندهم أن المشركين وغيرهم من الكافرين لا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد، وعند الشافعي رحمه الله يمنعون عن المسجد الحرام خاصة، وعند مالك يمنعون منه ومن غيره. والنهي في هذا المقام يفيد أن على المسلمين أن لا يمكنوهم مما نهى الله عنه وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع المشركين عن الحج والعمرة وما كان للمسلمين في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي فسوف يعوض عليكم بما يغنيكم من خيرات السماء والأرض، أو مما يغنمكم إياه، أو من متاجر حجيج الإسلام، أو من كل ذلك وغيره إِنْ شاءَ هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عليم بالأحوال، عليم بمصالح العباد، حكيم في تحقيق الآمال، حكيم فيما حكم وأراد. فائدة: الخوف من الفقر إذا انقطع الحجيج يشبه خوف الكثير من الحكومات من انقطاع القطع النادر، ومن الفقر إذا انقطع السياح نتيجة لتطبيق أحكام الإسلام، وكل ذلك

[سورة التوبة (9): آية 29]

أثر من آثار ضعف اليقين. قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي لا يعرفونه حق المعرفة كما هو جل جلاله، فاليهود المعاصرون لم يعرفوا الله حق المعرفة، والنصارى مثلثة؛ فهم لا يعرفون الله حق المعرفة، ومن ثم فهم غير مؤمنين بالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فهم غير مؤمنين باليوم الآخر لأنهم فيه على غير إيمان به كما هو وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هذا بيان للموصوفين بالصفات السابقة وهم الذين أمر الله بقتالهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي إلى أن يقبلوها، وسميت جزية لأنها مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه، أو هي جزاء على الكفر عَنْ يَدٍ أي عن يد مواتية غير ممتنعة وَهُمْ صاغِرُونَ أي تؤخذ منهم على الصغار والذل ونقل عن الشافعي: أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، ثم أغرى الله عزّ وجل المؤمنين بقتال أهل الكتاب بذكر شئ من مقالاتهم الشنيعة وَقالَتِ الْيَهُودُ كلهم أو بعضهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون فيه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ المضاهأة: المشابهة، ونسبة الأبوة إلى الله ضلالة ملعونة قديمة تجدها في كثير من ديانات العالم القديم قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان اتَّخَذُوا أي أهل الكتاب أَحْبارَهُمْ أي علماءهم وَرُهْبانَهُمْ أي نساكهم وعبادهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اتخذوهم آلهة حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم. وفي والبلاد الإسلامية الآن تقوم حكومات بهذا الدور، وكثير من الأحزاب والمؤسسات تتتابع على هذا الدور، وقد طم الكفر وعم ولا بد من قتال وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي اتخذوه أي النصارى ربا حيث جعلوه ابن الله وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزيها له عن الإشراك يُرِيدُونَ هؤلاء أهل الكتاب أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ هذا تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال الإسلام وتكفير الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخة فما أشد جنونه وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَ

[سورة التوبة (9): آية 33]

نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ لهم مراد، ولله مراد، ومراد الله هو النافذ، وفي الآية تهييج للمؤمنين على قتالهم وبشارة للمؤمنين بالنتيجة، ومن عرف التاريخ والمحاولات الكثيرة المتجددة من قبل أهل الكتاب سياسيا وعسكريا واقتصاديا لإنهاء الإسلام، ومن عرف مقدار ما تنفقه المؤسسات التبشيرية للكيد للإسلام، ثم رأى بقاء الإسلام وانتصاره في النهاية في كل معركة أدرك معنى الآية عمليا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ أي محمدا عليه الصلاة والسلام بِالْهُدى أي بالقرآن والسنة وَدِينِ الْحَقِّ أي بالإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه على أهل الأديان كلها، أو ليظهر دين الحق على كل دين وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ هذا الظهور وهذه الغلبة ولكن الله أقوى. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ .. ننقل هذه النقول: روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك، إلا أهل العهد وخدمهم». وروى الإمام أبو عمرو الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح: «المؤمن لا ينجس» وهل نجاسة المشرك حسية أو معنوية؟ الجمهور أنها نجاسة معنوية، وليست نجاسة حسية فهو ليس بنجس البدن والذات بدليل أن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب. 2 - وبمناسبة قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قال ابن كثير: (وهذه الآية الكريمة أول أمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين: اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا (أي جاءوا أجمعين) معه، واجتمع المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ وحر، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم،

فبلغ تبوك، فنزل بها، وأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك؛ لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشبههم كالمجوس، كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه، وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب. وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك). 3 - وبمناسبة قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ قال ابن كثير: فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: «كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا؛ إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة، ولا قلاية ولا صومعة راهب. ولا نجدد ما خرب منها، ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا، ولا نكتم غشا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا، ولا ندعو إليه أحدا، ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شئ من ملابسهم، في قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكنى بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا

بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رءوسنا، وأن نلزم زينا حيث كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شئ من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا، وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شئ من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا بعوثا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شئ من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم. قال: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: ولا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شئ مما شرطناه لكم، ووظفنا (أي ألزمنا) على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق». أقول: إن كل العهود التي كانت بيننا وبين أهل الذمة في الماضي أصبحت لاغية الآن ولا بد من حركة لوضع الأمور في مواضعها، والذي نؤثره في هذا الباب أن نكتفي من أهل الذمة بأقل ما تم بين بعضهم وبين المسلمين من عهود كضرورة من ضرورات العصر. هذا الحد الأدنى من قبله منهم كان بالإمكان أن نعطيه أمنا وأمانا، ومن لم يقبله فلا عهد بيننا وبينه، وقبل أن أذكر رأيي في الحد الأدنى أحب أن أقول شيئا: إن أعداء الله ركزوا كثيرا على موضوع الجزية وقد تحدثنا في كتابنا الإسلام عن هذا الموضوع، وذكرنا هناك أن الجزية من أعظم مظاهر العدل الإسلامى، فهي في مقابل عدم تكليف غير المسلمين بالقتال، لأن القتال عندنا فريضة دينية، فمن العدل ألا نكلف بتكاليف ديننا غيرنا، وقد حدث خلال العصور أن من رضي أن يقاتل مع المسلمين أسقطت الجزية عنه، فإذا استقر هذا تكون الجزية رمزا على شيئين. أولها: هي بدل خدمة عسكرية. وثانيها: هي رمز على قبول الخضوع لسلطان المسلمين فإذا استقر هذا نقول: إن الحد الأدنى الذي عليه تكون المفاصلة بيننا وبين غير المسلمين على أرضنا هو: 1 - القبول بأن يكون دين الدولة الإسلام. 2 - أن يقبلوا أن تكون السلطة بيد المسلمين. 3 - أن يدفعوا بدل الخدمة العسكرية، وأن يكون للمسلمين الحق في قبول أو رفض

قال الألوسي

من يريد أن يخدم الخدمة العسكرية، إذا لم يرد أن يدفع بدلا، والذي نحب أن نذكر به: أنه في بلادنا يعتبر دفع البدل في مقابل الخدمة الإجبارية ميزة يسعى لها كل الناس. فمن قبل هذه الشروط الثلاثة فله ما لنا وعليه ما علينا، وإلا فلا حرمة لدمه وماله وأهله. ولزيادة الوضوح في تفسير آية الجزية ننقل بعض ما قاله الألوسي عند هذه الآية. قال الألوسي: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي ما تقرر عليهم أن يعطوه، وهي مشتقة من جزى دينه أي قضاه أو من من جزيته بما فعل، أي جازيته لأنهم يجزون بها من من عليهم بالعفو عن القتل. وفي الهداية أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة، وقيل: أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطى، وقال الخوارزمي: إنها معرب- كزيت- وهو الخراج بالفارسية وجمعها جزى كلحية ولحى عَنْ يَدٍ يحتمل أن يكون حالا من الضمير في يُعْطُوا وأن يكون حالا من الجزية، واليد تحتمل أن تكون اليد المعطية وأن تكون اليد الآخذة و (عن) تحتمل السببية وغيرها، أي يعطوا عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد، أو عن يدهم أي مسلمين أو مسلمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول لأن القصد فيها التحقير وهذا ينافيه، ولذا منع من التوكيل شرعا، أو عن غنى أي أغنياء أو صادرة عنه ولذلك لا تؤخذ من الفقير العاجز، أو عن قهر وقوة أي أذلاء عاجزين. أو مقرونة بالذل، أو عن إنعام عليهم، فإن إبقاء مهجهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة، أي منعما عليهم، أو كائنة عن إنعام عليهم، أو نقدا أي مسلمة عن يد إلى يد، أو مسلمين نقدا، واستعمال اليد بمعنى الانقياد إما حقيقة أو كناية، ومنه قول عثمان رضي الله عنه، هذي يدي لعمار، أي أنا منقاد مطيع له، واستعمالها بمعنى الغنى لأنها تكون مجازا عن القدرة المستلزمة لها، واستعمالها بمعنى الإنعام وكذا النعمة شائع ذائع، وأما معنى النقدية فلشهرة يدا بيد في ذلك، ومنه حديث أبي سعيد الخدري في الربا، وما في الآية يؤول إليه كما لا يخفى على من له اليد الطولى في المعاني والبيان، وتفسير اليد هنا بالقهر والقوة أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، وأخرج عن سفيان بن عيينة ما يدل على أنه حملها على ما يتبادر منها طرز ما ذكرناه في الوجه الثاني، وسائر الأوجه ذكرها غير واحد من المفسرين، وغاية القتال ليس نفس هذا الإعطاء بل قبوله كما أشير إليه. وبذلك صرح جمع من الفقهاء حيث قالوا: إنهم يقاتلون إلى أن يقبلوا الجزية، وإنما عبروا بالإعطاء لأنه المقصود من القبول وَهُمْ صاغِرُونَ أي أذلاء.

ونقل عن الشافعي أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، وهي تؤخذ عند أبي حنيفة من أهل الكتاب مطلقا، ومن مشركي العجم والمجوس، لا من مشركي العرب؛ لأن كفرهم قد تغلظ لما أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم، وأرسل إليهم، وهو عليه الصلاة والسلام من أنفسهم، ونزل القرآن بلغتهم، وذلك من أقوى البواعث على إيمانهم، فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام؛ زيادة في العقوبة عليهم من اتباع الوارد في ذلك، فلا يرد أن أهل الكتاب قد تغلظ كفرهم أيضا، لأنهم عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة، ومع ذلك أنكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتاب، وعند أبي يوسف لا تؤخذ من العرب كتابيا كان أو مشركا، وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا، وأخذها من المجوس إنما ثبت بالسنة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه لم يأخذها حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال الشافعي: رضي الله عنه إنها تؤخذ من أهل الكتاب عربيا كان أو عجميا، ولا تؤخذ من أهل الأوثان لثبوتها في أهل الكتاب وفي المجوس بالخبر، فبقي من وراءهم على الأصل. ولنا أنه يجوز استرقاقهم، وكل من يجوز استرقاقه يجوز ضرب الجزية عليه، إذا كان من أهل النصرة، لأن كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس. أما الاسترقاق فظاهر لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة. وأما الجزية فلأن الكافر يؤديها من كسبه والحال أن نفقته في كسبه فكان أداء كسبه الذي هو سبب حياته إلى المسلمين راتبة في معنى أخذ النفس منه حكما، وذهب مالك، والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار ولا تؤخذ عندنا من امرأة ولا صبي ولا زمن ولا أعمى، وكذلك المفلوج والشيخ، وعن أبي يوسف أنها تؤخذ منه إذا كان له مال، ولا من فقير غير معتمل، خلافا للشافعي، ولا من مملوك ومكاتب ومدبر، ولا تؤخذ من الراهبين الذين لا يخالطون الناس كما ذكره بعض أصحابنا، وذكر محمد عن أبي حنيفة أنها تؤخذ منهم إذا كانوا يقدرون على العمل، وهو قول أبو يوسف. ثم إنها على ضربين: جزية توضع بالتراضي والصلح فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، كما صالح صلى الله عليه وسلم بني نجران على ألف ومائتي حلة، ولأن الموجب التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه. وجزية يبتدئ الإمام بوضعها إذا غلب على الكفار، وأقرهم على أملاكهم، فيضع

على الغني الظاهر كل سنة ثمانية وأربعين درهما، يؤخذ في كل شهر منه أربعة دراهم، وعلى الوسط الحال أربعة وعشرين، في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل- وهو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة- اثني عشر درهما، في كل شهر درهما، والظاهر أن مرجع الغنى وغيره إلى عرف البلد. وبذلك صرح به الفقيه أبو جعفر. وإلى ما ذهبنا إليه من اختلافها غنى وفقرا وتوسطا، ذهب عمر وعلي وعثمان رضي الله عنهم. ونقل عن الشافعي أن الإمام يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدله، والغني والفقير في ذلك سواء، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر، ولم يفصل عليه الصلاة والسلام، وأجيب عنه بأنه محمول على أنه كان صلحا. ويؤيده ما في بعض الروايات من كل حالم وحالمة، لأن الجزية لا تجب على النساء، والأصح عندنا أن الوجوب أول الحول، لأن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل، فتعذر إيجابه بعد مضي الحول، فأوجبناه في أوله، وعن الشافعي أنها تجب في آخره اعتبارا بالزكاة. وتعقبه الزيلعي بأنه لا يلزمنا الزكاة لأنها وجبت في آخر الحول ليتحقق النماء، فهي لا تجب إلا في المال النامي، ولا كذلك الجزية، فالقياس غير صحيح، واقتضى- كما قال الجصاص في أحكام القرآن- وجوب قتل من ذكر في الآية، إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم الذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية، ونفاذ الأمر والنهي، لأن الله سبحانه إنما جعل لهم ذمة بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين، فوجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغضب، وأخذ الضرائب بالظلم، وإن كان السلطان ولاه، ذلك وإن فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى، وهذا يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين يتولون أعمال السلطان وأمرائه، ويظهر منهم الظلم والاستعلاء، وأخذ الضرائب لا ذمة لهم، وأن دماءهم مباحة، ولو قصد مسلم مسلما لأخذ ماله أبيح قتله في بعض الوجوه، فما بالك بهؤلاء الكفرة أعداء الدين. اه. كلام الألوسي. 4 - إن القرآن الكريم فيه إعجاز وفيه معجزات، إنه زيادة على الإعجاز في كل القرآن فإنك تجد معجزة في كلمة أو في آية، أو في آيات، ومعجزات القرآن متنوعة، فمنها التاريخي، ومنها المخبر عن مستقبل، ومنها المعجزة الكونية، ولقد أثبت علم مقارنة الأديان على ما فيه من ضلال معجزة في قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ

وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ففي قوله تعالى يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ معجزة كشف عنها علم مقارنة الأديان- كما سنرى- إنه لم يكن من المعروف في جزيرة العرب ديانات قديمة، تقول بأن لله ابنا- تعالى الله عن قولهم- فإن يسجل القرآن ذلك، ثم يكون الأمر على ذلك، فتلك معجزة لا شك فيها، ونحن سننقل في هذه الفائدة ثلاثة نقول حول الآية: نقلا عن الألوسي في تحديد الجهة التي قالت عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ من اليهود، ونقلا عن الظلال في المضاهاة التي أخبرنا الله عنها، ونقلا عن أبي زهرة يقارن فيه بين نصوص كتب النصارى وكتب البراهمة والبوذيين. ا- قال الألوسي في تحديد القائل: عزير ابن الله. وقيل: قائل ذلك جماعة من يهود المدينة منهم سلام بن مشكم. ونعمان بن أبي أوفى. وشاس بن قيس. ومالك بن الصيف. أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن قائل ذلك فنحاص بن عازوراء وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. أقول: تحدث صاحب الظلال في صفحات كثيرة من ظلاله عن عُزَيْرٌ ومكانته عند يهود ونقل كلام السيد رشيد رضا في تفسير المنار في ذلك وهو موضوع يحسن الاطلاع عليه، ويبدو لي أن القائلين ببنوة عزير لله- تعالى الله عن ذلك- طائفة من يهود تأثرت بالعقلية النصرانية في ذلك. ب- قال صاحب الظلال عند قوله تعالى في الآية يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ (ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية: إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله .. وهذا صحيح ... ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى. ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثا بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق. مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب- وبخاصة النصارى- وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم «بولس الرسول» أولا؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيرا ...

إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية، وأوزوريس يمثل (الأب) وحوريس يمثل (الابن) في هذا الثالوث، وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة «الكلمة هي الإله الثاني» ويدعى أيضا «ابن الله البكر». والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله: «برهما» في حالة الخلق والتكوين و «فشنو» في حالة الحفظ والقوامة و «سيفا» في حالة الإهلاك والإبادة .. وفي هذه العقيدة، أن «فشنو» هو «الابن» المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في (برهما)! وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة ويسمونها (مردوخ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر، وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم. وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح، يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات إشارة إلى التثليث». وعقد أبو زهرة في سلسلة مقارنات بين الأديان أبوابا أثبت فيها أن هناك تشابها كاملا بين الكتب الدينية الهندية- وهي الأقدم زمنا- مع عقائد النصارى بما يفيد أن النصارى الذين حرفوا وبدلوا رسالة المسيح عليه السلام نقلوا ذلك عن ديانات سابقة يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ لذلك طالب أبو زهرة النصارى أن يعيدوا النظر، وقد قارن بين نصوص الديانة البرهمية، والديانة النصرانية، وبين نصوص في الديانة البوذية، والديانة النصرانية، ونحن ننقل هاتين المقارنتين عنه وقد قدم لمقارنته بين نصوص الديانة النصرانية والبرهمية بقوله: «والقول الجملي أن الهنود يعتقدون في كرشنة ما يعتقده المسيحيون في المسيح وقد عقد صاحب كتاب «العقائد الوثنية في الديانة النصرانية» موازنة بين أقوال الهنود في كرشنة، وأقوال المسيحيين في المسيح، فتقارب الاعتقاد حتى أوشكا أن يتطابقا، وإذا كانت البرهمية أسبق من النصرانية المحرفة، فقد علم إذن المشتق والمشتق منه، والأصل وما تفرع عنه، وعلى المسيحيين أن يبحثوا عن أصل دينهم». «ولننقل لك بعضا من هذه الموازنة على سبيل المثال وغيره يقاس عليه». أقول: سنضع عبارة الديانة الهندية أولا ومرجعها ثم نتبعها بالعبارة النصرانية ومرجعها:

قال البراهمة: «كرشنة» هو المخلص والفادي، والمعزي والراعي الصالح والوسيط، وابن الله، والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس، وهو الأب والابن وروح القدس». كتاب تاريخ الهند المجلد الثاني ص 359 وقال النصارى: «يسوع المسيح» هو المخلص الفادي، والمعزي والراعي الصالح والوسيط، وابن الله، والأقنوم الثاني من الثالوث المقدس وهو الأب والابن وروح القدس». إنجيل لوقا الإصحاح الثالث ص 28، 29 وإنجيل متى الإصحاح السابع. قال البراهمة: «قد مجد الملائكة ديفاكي والدة كرشنة ابن الله، وقالوا يحق للكون أن يفاخر بابن هذه الطاهرة». كتاب تاريخ الهند المجلد الثاني ص 329 وقال النصارى: «دخل الملاك على مريم العذراء والدة يسوع المسيح وقال لها سلام لك أيها المنعم عليها الرب معك». إنجيل متى الإصحاح الثالث العدد 3. قال البراهمة: «عرف الناس ولادة كرشنة من نجمه الذي ظهر في السماء». كتاب تاريخ الهند المجلد الثاني 317، 367 وقال النصارى: «لما ولد يسوع المسيح ظهر نجمه في المشرق وبواسطة ظهور نجمه عرف الناس محل ولادته». إنجيل متى الإصحاح الثاني العدد 3 وقال البراهمة: «لما ولد كرشنة سبحت الأرض، وأنارها القمر بنوره، وترنمت الأرواح، وهامت ملائكة السماء فرحا وطربا، ورتل السحاب بأنغام مطربة». كتاب فشنو بورانا ص 502 وقال النصارى: «لما ولد يسوع المسيح رتل الملائكة فرحا وسرورا، وظهر من السحاب أنغام مطربة». إنجيل لوقا الإصحاح الثاني العدد 13 قال البراهمة: «كان كرشنة من سلالة ملوكانية ولكنه ولد في غار بحال الذل والفقر». كتاب دوان ص 297

وقال النصارى: «كان يسوع المسيح من سلالة ملوكانية ويدعونه «ملك اليهود» ولكنه ولد في حالة الذل والفقر بغار». دوان ص 279 قال البراهمة: «لما ولد كرشنة أضيء الغار بنور عظيم وصار وجه أمه ديفاكي يرسل أشعة نور ومجد». دوان ص 297 وقال النصارى: «لما ولد يسوع المسيح أضيء الغار بنور عظيم أعيا بلمعانه عيني القابلة وعيني خطيب أمه يوسف النجار». إنجيل ولادة يسوع المسيح الإصحاح 12 والعدد 12 قال البراهمة: «ومن بعد ما وضعته صارت تبكي وتندب سوء عاقبة رسالتها فكلمها وعزاها». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 311 وقال النصارى: «وقال يسوع المسيح لأمه وهو طفل يا مريم أنا يسوع ابن الله وجئت كما أخبرك جبرائيل الذي أرسله أبي إليك وقد أتيت لأخلص العالم». إنجيل الطفولية الإصحاح الأول العدد الثاني والثالث. قال البراهمة: «وعرفت البقرة أن كرشنة إله وسجدت له». دوان ص 279 وقال النصارى: «وعرف الرعاة يسوع وسجدوا له». إنجيل لوقا الإصحاح الثاني عدد 8 - 10 قال البراهمة: «وآمن الناس بكرشنة واعترفوا بلاهوته وقدموا له هدايا من صندل وطيب». كتاب الديانات الشرقية ص 500 وكتاب الديانات القديمة المجلد الثاني ص 353 وقال النصارى: «وآمن الناس بيسوع وقالوا بلاهوته وأعطوه هدية من طيب ومر». إنجيل متى الإصحاح الثاني العدد 2

قال البراهمة: «وسمع نبي الهنود «نارد» بمولد الطفل الإلهي كرشنة فذهب وزاره في «توكول» وفحص النجوم فتبين له من فحصها أنه مولود إلهي يعبد». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 317 وقال النصارى: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذ المجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود». إنجيل متى الإصحاح الثاني عدد 1، 2 قال البراهمة: «لما ولد كرشنة كان «ناندا» خطيب أمه ديفاكي غائبا عن البيت حيث أتى إلى المدينة كي يدفع ما عليه من الخراج للملك». كتاب فشنو بورانا الفصل الثاني من الكتاب الخامس وقال النصارى: «ولما ولد يسوع كان خطيب أمه غائبا عن البيت وأتى كي يدفع ما عليه من الخراج للملك». إنجيل لوقا الإصحاح الثاني من عدد 1 - 17 قال البراهمة: «وكد كرشنة بحال الذل والفقر مع أنه من عائلة ملوكانية». التنقيبات الآسيوية المجلد الأول ص 259 وتاريخ الهند المجلد الثاني ص 130. وقال النصارى: «ولد يسوع المسيح بحالة الذل والفقر مع أنه من سلالة ملوكانية». انظر تعداد نسبه في إنجيل متى وإنجيل لوقا. قال البراهمة: «وسمع ناندا خطيب أمه ديفاكي والدة كرشنة نداء من السماء يقول له: قم وخذ الصبي وأمه فهربهما إلى كاكول واقطع نهر جمنة لأن الملك طالب إهلاكه». كتاب فشنو بوران الفصل الثالث وقال النصارى: «وأنذر يوسف النجار خطيب مريم والدة يسوع بحكم كي يأخذ الصبي وأمه ويفر بهما إلى مصر لأن الملك طالب إهلاكه». إنجيل متى الإصحاح الثاني عدد 13 قال البراهمة: «وسمع حاكم البلاد بولادة كرشنة الطفل الإلهي وطلب قتل الولد.

وكي يتوصل إلى أمنيته أمر بقتل كافة الأولاد الذكور الذين ولدوا في الليلة التي ولد فيها كرشنة». دوان ص 280 وقال النصارى: «وسمع حاكم البلاد بولادة الطفل يسوع الإلهي وطلب قتله وكي يتوصل إلى أمنيته أمر بقتل كافة الأولاد الذي ولدوا في الليلة التي ولد فيها يسوع المسيح». إنجيل متى الإصحاح الثاني قال البراهمة: «واسم المدينة التي ولد فيها كرشنة «مطرا» وفيها عمل الآيات العجيبة ولم تزل محل التعظيم والاحترام عند الهنود العابدين للأوثان القائلين عن كرشنة إنه ابن الله وإنه الله إلى يومنا هذا». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 17 والتنقيبات الآسيوية المجلد الأول ص 259 وقال النصارى: «واسم المدينة التي هاجر إليها يسوع المسيح في مصر لما ترك اليهودية المطرية ويقال إنه عمل فيها آيات وقوات عديدة». المقدمة على إنجيل الطفولية تأليف هيجين. قال البراهمة: «كانت ولادة القديس راما قبل ظهور كرشنة في الناسوت بزمن قليل وقد سعى فانسا ملك البلاد في إهلاك القديس راما وإهلاك كرشنة أيضا». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 316 وقال النصارى: «وكانت ولادة يوحنا المعمدان قبل ولادة يسوع المسيح بزمن قليل وقد سعى الملك هيرودس في إهلاك الطفل يسوع المسيح وكان يوحنا مبشرا بولادة يسوع المسيح». إنجيل تاريخ ولادة يسوع المسيح الإصحاح السادس. قال البراهمة: «وربي كرشنة بين الرعاة ولما جئ به إلى مطرا كان في احتياج عظيم إلى التعليم، فأتى له بمعلم خبير وفي وقت قليل فاق على أستاذه في العلوم وأعياه في المسائل العلمية السنسكريتية الدقيقة». دوان ص 280 وتاريخ الهند المجلد الثاني ص 321

وقال النصارى: «وأرسل يسوع المسيح إلى عند المعلم زاخوس كي يعلمه فكتب له أحرف ألف، باء وقال ليسوع قل- ألف- فقال الرب يسوع أخبرني أولا عن معنى حرف الألف ومن بعده أقول حرف الباء، فتهدد المعلم يسوع بالضرب، فقام يسوع وفسر معنى الألف والباء وأخبره عن الحروف المستقيمة والحروف المنحنية والحروف المثناة والتي لها نقط وحركات والتي ليس لها نقط ولماذا وضعت في هذا الترتيب أي بعض الحروف قبل غيرها وطفق يخبر عن أشياء لم يسمع بها المعلم من قبل ولم يقرأها في كتاب». إنجيل الطفولية الإصحاح العشرين عدد 1 إلى 8 قال البراهمة: «وفي أحد الأيام كان كرشنة سائرا مع قطيع من البقر فاختاروه ملكا عليهم وذهبت كل بقرة إلى المكان الذي عينه لها هذا الملك». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 312 وقال النصارى: «وفي شهر آزار جمع يسوع الأولاد ورتبهم كأنه ملك عليهم وإذا مر بهم أحد كانوا يأخذونه غصبا ويأمرونه بالسجود للملك». إنجيل الطفولية الإصحاح 18 من عدد 1 - 3 قال البراهمة: «وفي أحد الأيام لسعت الحية بعض أصحاب كرشنة الذين يلعب معهم فماتوا فأشفق عليهم لموتهم الباكر ونظر إليهم بعين ألوهيته فقاموا سريعا من الموت وعادوا أحياء». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 343 وقال النصارى: «وبينما كان يسوع يلعب لسعت الحية أحد الصبيان الذين كان يلعب معهم فلمس يسوع ذاك الصبي بيده فعاد إلى حال صحته». إنجيل الطفولية الإصحاح 18 قال البراهمة: «وسرق بعض أصحاب كرشنة مع عجولهم وأخفاهم السارقون في غار فخلق كرشنة أصحابا وعجولا مثلهم في الشكل والهيئة». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 15 وكتاب خرافات الآريين المجلد الثاني ص 136

وقال النصارى: «وأخفى الأولاد الذين يلعبون مع يسوع أنفسهم في فرن فبدلوا إلى هيئة جداء فناداهم يسوع تعالوا إلى هنا يا أيها الأولاد لنلعب فأعيدت تلك الجداء إلى هيئتهم الأولى صبيانا». إنجيل الطفولية الإصحاح 18 قال البراهمة: «وأول الآيات والعجائب التي عملها كرشنة شفاء الأبرص». تاريخ الهند المجلد الثاني ص 319 وقال النصارى: «وأول الآيات والعجائب التي عملها يسوع هي شفاء الأبرص». إنجيل متى الإصحاح الثامن العدد الثاني قال البراهمة: «وأوتي كرشنة بامرأة فقيرة مقعدة ومعها إناء فيه طيب وزيت وصندل وزعفران وغير ذلك من أنواع الطيب فدهنت منه جبين كرشنة بعلامة مخصوصة وسكبت الباقي على رأسه». تاريخ الهند المجلد الثاني. وقال النصارى: «وفيما كان يسوع في بيت عتيا في بيت سمعان الأبرص تقدمت إليه امرأة معها قارورة طيب كثيرة الثمن فسكبته على رأسه وهو متكئ». إنجيل متى الإصحاح السادس والعشرين عدد 6، 7 قال البراهمة: «كرشنة صلب ومات على الصليب». وقال النصارى: «يسوع صلب ومات على الصليب». قال البراهمة: «لما مات كرشنة حدثت مصائب، وعلامات شر عظيم، وأحاط بالقمر هالة سوداء، وأظلمت الشمس في وسط النهار، وأمطرت السماء نارا ورمادا، وتأججت أشعة نار حامية، وصار الشياطين يفسدون في الأرض، وشاهد الناس ألوفا من الأرواح في جو السماء يتراوحون صباحا ومساء، وكان ظهورها في كل مكان». كتاب ترقي التصورات الدينية المجلد الأول ص 17

وقال النصارى: «لما مات يسوع حدثت مصائب جمة متنوعة، وانشق حجاب الهيكل من فوق إلى تحت، وأظلمت الشمس من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة، وفتحت القبور، وقام كثيرون من القديسين، وخرجوا من قبورهم». إنجيل متى الإصحاح الثاني والعشرين وإنجيل لوقا أيضا. قال البراهمة: «وثقب جنب كرشنة بحربة». دوان ص 283 وقال النصارى: «وثقب جنب يسوع بحربة». دوان ص 282 قال البراهمة: «وقال كرشنة للصياد الذي رماه بالنبلة وهو مصلوب اذهب أيها الصياد محفوفا برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة». فثنوا برانا ص 282 وقال النصارى: «وقال يسوع لأحد اللصين اللذين صلبا معه الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس». إنجيل لوقا الإصحاح الثالث والعشرين عدد 3، 4 قال البراهمة: «ومات كرشنة ثم قام من بين الأموات». دوان ص 282 وقال النصارى: «ومات يسوع ثم قام من بين الأموات» إنجيل متى الإصحاح 28 قال البراهمة: «ونزل كرشنة إلى الجحيم». دوان ص 282 وقال النصارى: «ونزل يسوع إلى الجحيم» دوان ص 282 وكذلك كتاب الإيمان المسيحي قال البراهمة: «وصعد كرشنة بجسده إلى السماء وكثيرون شاهدوه صاعدا» دوان ص 282 وقال النصارى: «وصعد يسوع إلى السماء وكثيرون شاهدوه صاعدا». إنجيل متى الإصحاح الرابع والعشرين

قال البراهمة: «ولسوف يأتي كرشنة في اليوم الأخير ويكون ظهوره كفارس مدجج بالسلاح، وراكب على جواد أشهب، وعند مجيئه تظلم الشمس والقمر، وتزلزل الأرض، وتهتز وتتساقط النجوم من السماء». دوان ص 282 وقال النصارى: «ولسوف يأتي يسوع في اليوم الأخير كفارس مدجج بالسلاح، وراكب على جواد أشهب، وعند مجيئه تظلم الشمس والقمر، وتزلزل الأرض، وتهتز وتتساقط النجوم من السماء». إنجيل متى الإصحاح 24 قال البراهمة: «وهو أي كرشنة يدين الأموات في اليوم الأخير». دوان ص 283 وقال النصارى: «ويدين يسوع الأموات في اليوم الأخير». إنجيل متى الإصحاح 24 العدد 1، 3 ورسالة الرومانيين. قال البراهمة: «ويقولون عن كرشنة: الخالق لكل شئ ولولاه لما كان شئ مما كان فهو الصانع الأبدي». دوان ص 282 وقال النصارى: «ويقولون عن يسوع المسيح: إنه الخالق لكل شئ ولولاه لما كان شئ مما كان فهو الصانع الأبدي». إنجيل يوحنا الإصحاح الأول من عدد 1، 3 ورسالة كورنسوس الأولى افسس الإصحاح الثالث العدد 9. قال البراهمة: «كرشنة الألف والباء، وهو الأول والوسط، وآخر كل شئ». دوان ص 282 وقال النصارى: «يسوع الألف والباء وهو الأول والوسط وآخر كل شئ». سفر الرؤية الإصحاح الأول العدد 8 قال البراهمة: «لما كان كرشنة على الأرض حارب الأرواح الشريرة، غير مبال بالأخطار التي كانت تكتنفه، ونشر تعاليمه بعمل العجائب والآيات، كإحياء الميت

وشفاء الأبرص والأصم والأعمى، وإعادة المخلوع كما كان أولا، ونصرة الضعيف على القوي، والمظلوم على ظالمه، وكانوا إذ ذاك يعبدونه، ويزدحمون عليه، ويعدونه إلها». وقال النصارى: «لما كان يسوع على الأرض كان يحارب الأرواح الشريرة، غير مبال بالأخطار التي كانت تكتنفه، وكان ينشر تعاليمه بعمل العجائب والآيات، كإحياء الميت وشفاء الأبرص والأصم والأخرس والأعمى والمريض، وينصر الضعيف على القوي، والمظلوم على ظالمه، وكان الناس يعدونه إلها». انظر الإنجيل والرسائل ترى كثيرا من هذا الذي ذكرناه. قال البراهمة: «كان كرشنة يحب تلميذه أرجونا أكثر من بقية التلاميذ» كتاب بهاكا فات كيتا وقال النصارى: «كان يسوع يحب تلميذه يوحنا أكثر من بقية التلاميذ». إنجيل يوحنا الإصحاح 13 العدد 23 قال البراهمة: «وفي حضور أرجونا بدلت هيئة كرشنة، وأضاء وجهه كالشمس، ومجد العلى، اجتمع إله الآلهة، فأحنى أرجونا رأسه تذللا ومهابة، وتكتف تواضعا، وقال باحترام: الآن حقيقتك كما أنت وإني أرجو رحمتك يا رب الأرباب، فعد واظهر في ناسوتك ثانية أنت المحيط بالملكوت». كتاب مورس وليمس المدعو «دين الهنود» ص 215 وقال النصارى: «وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل منفردين، وتغيرت هيئته أقدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالثلج، وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم، وصوت من السحابة قائل هذا هو ابني الحبيب الذي سررت له اسمعوا، ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدا». إنجيل متى الإصحاح 17 من عدد 1 إلى 9

قال البراهمة: «وكان كرشنة خير الناس خلقا وخلقا وعلما بإخلاص ونصح وهو الطاهر العفيف، مثال الإنسانية، وقد تنازل رحمة ووداعة وغسل أرجل البرهميين، وهو الكاهن العظيم برهما، وهو العزيز القادر، ظهر لنا بالناسوت». المرجع السابق ص 144 وقال النصارى: «كان يسوع خير الناس خلقا وعلما بإخلاص وهو الطاهر العفيف، مكمل الإنسانية ومثالها، وقد تنازل رحمة ووداعة، وغسل أرجل التلاميذ، وهو الكاهن العظيم القادر ظهر لنا بالناسوت» إنجيل يوحنا الإصحاح 13 قال البراهمة: «كرشنة هو برهما العظيم القدوس وظهوره بالناسوت سر من أسراره العجيبة الإلهية». فشنو بورانا ص 492 عند شرح حاشية عدد 3 وقال النصارى: «يسوع هو يهوه العظيم القدوس وظهوره في الناسوت سر أسراره العظيمة الإلهية»: رسالة ثيموثاوس الأولى الإصحاح الثالث قال البراهمة: «كرشنة الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس عند الهنود الوثنيين القائلين بألوهيته». كتاب مورس وليمس المدعو العقائد قال النصارى: «يسوع الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس عند النصارى». انظر كافة كتبهم الدينية وكذلك الأناجيل والرسائل قال البراهمة: «وأمر كرشنة كل من يطلب الإيمان بإخلاص أن يترك أملاكه وكافة ما يشتهيه، ويحبه من مجد هذا العالم، ويذهب إلى مكان خال من الناس ويجعل تصوره في الله فقط». ديانة الهنود الوثنية ص 211 قال النصارى: «وأمر يسوع كل من يطلب الإيمان بإخلاص أن يفعل كما يأتي وأما أنت فمتى صلبت فادخل إلى مخدعك، واغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية». إنجيل متى الإصحاح 6 عدد 6

قال البراهمة: «وقال كرشنة لتلميذه الحبيب أرجونا: إنه مهما عملت ومهما أعطيت الفقير، ومهما أكلت، ومهما قربت من قربان، ومهما فعلت من الأفعال المقدسة، فليكن جميعه بإخلاص لي، أنا الحكيم والعليم، ليس لي ابتداء، وأنا الحاكم المسيطر الحافظ». مورس وليمس ديانة الهنود الوثنيين ص 211 قال النصارى: «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئا فافعلوا كل شئ لمجد الله». رسالة كورتسوس الأولى الإصحاح العاشر من عدد 1: 3 قال البراهمة: «قال كرشنة أنا علة وجود الكائنات، في كانت، وفي تحل وعلي جميع ما في الكون يتكل، وفي يتعلق كاللؤلؤ المنظوم في خيط». مورس وليمس ديانة الهنود الوثنيين ص 212 وقال النصارى «من يسوع وفي يسوع وليسوع كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ به كان». إنجيل يوحنا الإصحاح الأول من عدد 31 قال البراهمة: «وقال كرشنة أنا النور الكائن في الشمس والقمر، وأنا النور الكائن في اللهب، وأنا نور كل ما يضئ، ونور الأنوار ليس في ظلمة». كتاب موريس وليمس ديانة الهنود ص 213 قال النصارى: «ثم كلمهم يسوع قائلا أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة». إنجيل يوحنا الإصحاح 8 العدد 12 قال البراهمة: «قال كرشنة أنا الحافظ للعالم وربه وملجؤه وطريقه». دوان ص 283 قال النصارى: «قال يسوع أنا هو الطريق الحق والحياة ليس أحد يأتي الأب إلا بي». إنجيل يوحنا الإصحاح الرابع عشر عدد 6

قال البراهمة: «وقال كرشنة، أنا صلاح الصالح، وأنا الابتداء والوسط والأخير والأبدي، وخالق كل شئ وأنا فناؤه ومهلكه». كتاب موريس وليمس ديانة الهنود الوثنيين ص 213 قال النصارى: «وقال يسوع، أنا هو الأول والآخر ولي مفاتيح الهاوية والموت». رؤيا يوحنا الإصحاح الأول من عدد 17 - 18 قال البراهمة: «وقال كرشنة لتلميذه الحبيب لا تحزن يا أرجونا من كثرة ذنوبك، أنا أخلصك منها، فقط تثق بي، وتتوكل علي واعبدني، واسجد لي، ولا تتصور أحدا سواي، لأنك هكذا تأتي إلى المسكن العظيم، الذي لا حاجة فيه لضوء الشمس والقمر اللذين نورهما مني». كتاب موريس وليمس ديانة الهنود الوثنيين ص 213 وقال النصارى: «وقال يسوع للمفلوج ثق يا بني مغفورة لك خطاياك، يا بني أعطني قلبك والمدينة لا تحتاج إلى شمس، ولا إلى قمر ليضيئا فيها الحروف سراجها». إنجيل متى الإصحاح 9 عدد 2 وسفر الأمثال الإصحاح 32 عدد 26 وسفر الرؤيا الإصحاح 12 عدد 23 هذا ما نقله الشيخ أبو زهرة في كتابه (مقارنات الأديان: الديانات القديمة) في مقارنته بين نصوص الديانة البرهمية والديانة النصرانية ومنه ندرك سرا من أسرار قوله تعالى يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. وكما فعل الشيخ أبو زهرة ذلك فقد قارن بين نصوص الديانة البوذية والديانة النصرانية وذلك بعد كلام عن الديانة البوذية وعقائدها: وقد قدم لهذه النقول بقوله: «ومن الغريب أن الأوهام التي جعلها بوذيو التبت أوصافا لبوذا تتوافق مع ما يتخيله المسيحيون عن شخصية المسيح بعد تغيير النصرانية وها هي ذي بعض المقابلات بينهما لتعرف وجه التطابق». أقول: سننقل الكلمة البوذية مع مرجعها، ثم نقفي بالكلمة النصرانية مع مرجعها، وأصل هذا كله هو كتاب «العقائد الوثنية والديانة النصرانية».

قال البوذيون: «كان تجسد بوذا بواسطة حلول روح القدس على العذراء مايا». دوان ص 290 وقال النصارى: «كان تجسد يسوع المسيح بواسطة حلول الروح القدس على العذراء مريم». إنجيل متى قال البوذيون: «لما نزل بوذا من مقعد الأرواح ودخل في جسد العذراء مايا صار رحمها كالبلور الشفاف النقي، وظهر بوذا فيه كزهرة جميلة». دوان ص 290 وقال النصارى: «لما نزل يسوع من مقعده السماوي ودخل في جسد مريم العذراء صار رحمها كالبلور الشفاف النقي وظهر فيه يسوع كزهرة جميلة». إنجيل متى وقال البوذيون: «وقد دل على ولادة بوذا نجم ظهر في أفق السماء ويدعونه نجم بوذا». دوان ص 290 وقال النصارى: وقد دل على ولادة يسوع نجم ظهر في المشرق وقال دوان: من الواجبات أن يدعى نجم المسيح. وقال البوذيون: «لما ولد بوذا فرحت جنود السماء، ورتلت الملائكة أناشيد المجد للمولود المبارك، قائلين ولد اليوم بوذا على الأرض كي يعطي الناس المسرات والسلام، ويرسل النور إلى المحلات المظلمة ويهب بصرا للعمي». وقال النصارى: «لما ولد يسوع فرحت ملائكة السماء والأرض، ورتلوا الأناشيد حمدا للواحد المبارك قائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة». وقال البوذيون: «وعرف الحكماء بوذا وأدركوا أسرار لاهوته ولم يمض يوم على ولادته حتى حياه الناس ودعوه إلها». دوان ص 290 وقال النصارى: «وقد زار الحكماء يسوع وأدركوا أسرار لاهوته ولم يمض يوم على

ولادته حتى دعوه إله الآلهة». إنجيل متى من الإصحاح 2 عدد 11 قال البوذيون: «وأهدوا بوذا وهو طفل هدايا من مجوهرات وغيرها من الأشياء الثمينة». دوان ص 290 وقال النصارى: «وأهدوا يسوع وهو طفل هدايا من ذهب وطيب ومن». إنجيل متى من الإصحاح، عدد 11 قال البوذيون: «لما كان بوذا طفلا قال لأمه مايا إنه أعظم الناس جميعا». كتاب هروى المدعو العقائد البوذية ص 145 - 146. وقال النصارى: «لما كان يسوع طفلا قال لأمه مريم (أنا ابن الله)». إنجيل الطفولية الإصحاح 1 عدد 3. قال البوذيون: «كان بوذا ولدا مخيفا وقد سعى الملك بميسارا وراء قتله لما أخبره أن هذا الغلام سينزع الملك من يده إن بقي حيا». كتاب تاريخ البوذية تأليف نيل ص 103 - 104 وقال النصارى: «كان يسوع ولدا مخيفا سعى الملك هيرودوس وراء قتله كيلا ينزع الملك من يده». إنجيل متى الإصحاح الثاني العدد الأول قال البوذيون: «لما أرسل بوذا إلى المدرسة أدهش الأساتذة مع أنه لم يدرس من قبل، وفاق الجميع في الكتابة، والرياضيات والعلوم العقلية، والهندسة والتنجيم والكهانة والعرافة». كتاب حردى «العقائد البوذية» وتاريخ الديانة وقال النصارى: «لما أرسل يسوع إلى المدرسة أدهش أستاذه ذاخيوس وقال لأبيه يوسف «أتيتني بولد لأعلمه مع أنه أعلم من كل معلم» إنجيل الطفولية الإصحاح 20 وإنجيل لوقا

قال البوذيون: «لما صار عمر بوذا اثنتي عشرة سنة دخل الهياكل وصار يسأل أهل العلم مسائل عويصة ثم يوضحها لهم حتى فاق كافة مناظريه». بنصن «الملاك المسيح» ص 37 وقال النصارى: «لما صار عمر يسوع اثنتي عشرة سنة جاءوا به إلى أورشليم وصار يسأل الأحبار والعلماء مسائل مهمة ثم يوضحها لهم وأدهش الجميع». إنجيل الطفولية الإصحاح 21 عدد 21 وقال البوذيون: «ودخل بوذا مرة أحد الهياكل فقامت الأصنام من أماكنها وتمددت عند رجليه سجودا له». بنصن «الملاك المسيح» ص 67 - 69 وقال النصارى: «وكان يسوع مارا قرب حاملي الأعلام فأحنت الأعلام رءوسها سجودا له». إنجيل نيكوديموس الإصحاح الأول العدد 20 قال البوذيون: «ويصلون نسب كوتامابوا بوذا من أبيه «صدودانا» في أناس كلهم من سلالة ملوكانية إلى ماهاسماطا وهو- على زعمهم- أول ملك صار في الدنيا. والحوادث والأنساب المذكورة في كتاب «بيوراز» البرهمي وجد في أنسابه غير أنه لا يمكن تحقيق الحوادث ونسبتها مع غيرها، وسبب ذلك هو أن مؤرخي البوذية اخترعوا فيها أسماء تمكنهم من إعلان نسب حكيمهم فوق اعتبارهم إياه إلها». دوان ص 291 وقال النصارى: «ويعدون سلالة يسوع من أبيه يوسف في أشخاص مختلفين وكلهم سلالة ملوكانية إلى آدم أبي البشر وكثير من الأسماء والحوادث المذكورة في سلالته مذكورة في التوراة كتاب اليهود». قال البوذيون: «لما عزم بوذا على السياحة قصد التعبد والتنسك وظهر عليه «مارا» أي الشيطان كي يجربه». دوان ص 292 وقال النصارى: «لما شرع يسوع في التبشير ظهر له الشيطان كي يجربه». إنجيل متى الإصحاح عدد 1 - 8

قال البوذيون: «وقال ماردا «الشيطان» لبوذا لا تصرف حياتك في الأعمال الدينية لأنك بمدة سبعة أيام تصير ملك الدنيا». دوان ص 292 وقال النصارى: «وقال «إبليس» له أي يسوع، أعطيك هذه «أي الدنيا» جميعها إن خررت وسجدت لي». إنجيل متى الإصحاح 4 من 10 - 11 قال البوذيون: «فلم يعبأ بوذا بكلام الشيطان بل قال له اذهب عني». دوان ص 292 «وقال النصارى: «فأجابه المسيح وقال اذهب يا شيطان». إنجيل لوقا الإصحاح 4 عدد 8 قال البوذيون: «ولما ترك مارا «أي الشيطان» تجربة بوذا أمطرت السماء زهرا وطيبا ملأ الهواء طيب عرفه». دوان ص 292 وقال النصارى: «ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه». إنجيل متى الإصحاح 4 عدد 11 وقال البوذيون: «وصام بوذا وقتا طويلا». دوان ص 292 وقال النصارى: «وصام يسوع وقتا وطويلا». إنجيل متى الاصحاح 4 عدد 2 وقال البوذيون: «وقد عمد بوذا المخلص حين عمادته بالماء وكان روح الله حاضرا وهو لم يكن الإله العظيم فقط بل وروح القدس الذي فيه صار بجسد كوماتا لما حل على العذراء مايا». كتاب الملاك المسيح ص 45 تأليف بنصن وقال النصارى: «ويوحنا عمد يسوع بنهر الأردن وكانت روح الله حاضرة وهو لم يكن الإله العظيم فقط بل والروح القدس الذي فيه تم تجسده عند ما حل بالعذراء مريم

فهو الأب والابن وروح القدس». إنجيل متى الإصحاح عدد 1، 2 قال البوذيون: «ولما كان بوذا على الأرض في أواخر أيامه بدلت هيئته وهو إذ ذاك على جبل «بندافا» أي الأصفر في سيلان ونزل عليه بغتة نور أحاط برأسه على شكل إكليل ويقولون إن جسده أضاء منه نور عظيم وصار كتمثال من ذهب براق مضئ كالشمس أو كالقمر، وحينئذ تحول إلى ثلاثة أقسام مضيئة وحينما رأى الحاضرون هذا التحول في هيئته قالوا ما هذا بشر إن هو إلا إله عظيم». كتاب الملاك المسيح ص 45 وقال النصارى: «لما كان يسوع على الأرض بدلت هيئته وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وتغيرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور». قال البوذيون: «وعمل بوذا عجائب وآيات مدهشة لخير الناس وكافة القصص المختصة فيه حاوية لذكرى أعظم العجائب مما يمكن تصوره». دوان ص 293 وقال النصارى: «وعمل يسوع عجائب وآيات مدهشة لخير الناس لذكرى أعظم العجائب مما يمكن تصوره». إنجيل متى الإصحاح 8 عدد 28 - 34 وغيره قال البوذيون: «وفي صلاتهم لبوذا يتأمل المؤمنون به دخول الفردوس». دوان ص 293 وقال النصارى: «وفي صلاتهم ليسوع يتأمل المؤمنون بألوهيته دخول الفردوس». دوان ص 293 قال البوذيون: «لما مات بوذا ودفن انحلت الأكفان وفتح غطاء التابوت بقوة طبيعية «أي بقوة إلهية». كتاب بنصن الملاك المسيح 49 وقال النصارى: «لما مات يسوع ودفن انحلت الأكفان وفتح القبر بقوة إلهية». إنجيل متى الإصحاح 28 وإنجيل يوحنا الإصحاح 20

قال البوذيون: «وصعد بوذا إلى السماء بجسده لما أكمل عمله على الأرض». دوان ص 293 وقال النصارى: «وصعد يسوع إلى السماء من بعد صلبه لما كمل عمله في الأرض». أعمال الرسل الإصحاح الأول عدد 1 - 12 قال البوذيون: «ولسوف يأتي بوذا مرة ثانية إلى الأرض ويعيد السلام والبركة فيها». دوان ص 293 وقال النصارى: «ولسوف يأتي يسوع مرة ثانية إلى الأرض ويعيد السلام والبركة فيها». أعمال الرسل الإصحاح الأول قال البوذيون: «وسيدين بوذا الأموات». دوان ص 293 وقال النصارى: «وسيدين يسوع الأموات». إنجيل متى الإصحاح 6 عدد 22 قال البوذيون: «وبوذا الألف والباء ليس له انتهاء وهو الكائن العظيم، والواحد الأبدي». إنجيل يوحنا الإصحاح 1 عدد 1 قال البوذيون: «قال بوذا: فلتكن الذنوب التي ارتكبت في هذه الدنيا علي، ليخلص العالم من الخطيئة». كتاب مولر المدعو تاريخ الآداب السنسكرتية ص 80 وقال النصارى: «يسوع هو مخلص العالم وكافة الذنوب التي ارتكبت في العالم تقع عليه عن الذين اقترفوها ويخلص العالم». دوان ص 93، وكذلك التعليم المسيحي قال البوذيون: «قال بوذا: أخفوا الأعمال الحسنة التي تفعلونها. واعترفوا

بذنوبكم علانية» مولر كتابه المدعو العلوم الدينية ص 28 وقال النصارى: «أخفوا الأعمال الحسنة التي تفعلونها واعترفوا بذنوبكم علانية». إنجيل متى الإصحاح 6 عدد 1 ورسالة يعقوب قال البوذيون: «ويصفون بوذا أنه ذات من نور غير طبيعية والشرير مارا «ويدعونه أيضا الحية» ذات مظلمة غير طبيعية». بنصن الملاك المسيح ص 39 ودوان ص 294 وقال النصارى: «ويصفون يسوع أنه ذات من نور طبيعية شمس بر وعدوا الشيطان الحية القديمة». إنجيل يوحنا الإصحاح 4 العدد 1 وإنجيل لوقا قال البوذيون: «وفي أحد الأيام التقى أناندا تلميذ بوذا وهو سائر في البلاد بالمرأة «مناجي» وهي سبط الكندلاس المرذولين قرب بئر ماء. فطلب منها قليلا من الماء فأخبرته عن سبطها وأنه لا يجوز لها أن يقترب منها، لأنها من سبط محتقر فقال لها يا أختي إني لم أسألك عن سبطك وعن عائلتك. إنما سألتك شربة ماء فصارت من ذاك الحين تلميذة بوذية». كتاب مولر المدعو العلوم الدينية ص 40 وقال النصارى: «وفي أحد الأيام قعد يسوع قرب بئر ماء بعد ما سار مسافة، حتى كاد ينهكه التعب، وبينما هو قرب البئر عند مدينة السامرة أتت امرأة سامرية لتملأ جرتها من البئر فقال لها يسوع اسقني شربة ماء فقالت له المرأة السامرية أنت يهودي وكيف تطلب مني شربة ماء فإن اليهود لا يستحلون معاملة السامريين». إنجيل يوحنا الإصحاح 4 عدد 1: 11 قال البوذيون: «قال بوذا أنه لم يأت لينقض الناموس كلا بل أتى ليكمله وقد سره عد نفسه حلقة في سلسلة المعلمين الحكماء». كتاب بنصن الملاك المسيح ص 47 - 48 وقال النصارى: «قال يسوع لا تظنوا أني جئت لا نقض الناموس أو الأنبياء ما جئت

لأنقض بل لأكمل». إنجيل متى الإصحاح 5 عدد 17 قال البوذيون: «وبحسب تعليم بوذا يجب أن تكون كافة أعمالنا مع أهلنا وجيراننا بالمحبة والحسنى» وقال النصارى: «وقال يسوع أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم». إنجيل متى الإصحاح 5 عدد 44 قال البوذيون: «وفي أوائل أيام بوذا التي علم وبشر وفيها ذهب إلى مدينة بينارس وعلم فيها فتبعه كوندينا ثم تبعه أربعة رجال آخرين وصاروا جميعهم تلامذة له ومن ذلك الحين صار أينما علم وكرز يتبعه رجال ونساء كثيرون ويصيرون من أتباعه وتلاميذه». وقال النصارى: «في أوائل أيام يسوع التي علم وبشر فيها ذهب إلى مدينة كفر ناحوم وعلم فيها فتبعه من ذاك الحين أربعة رجال صيادين وصاروا تلاميذ له ومن هذا الحين صار أينما كرز يتبعه رجال ونساء كثيرون يؤمنون به». إنجيل متى الإصحاح 4 عدد 13 - 25 قال البوذيون: «وقال بوذا للذين صاروا تلامذة ليتركوا الدنيا وغناهم وينذروا عيشة الفقر والفاقة». هاردي في كتابه المدعو الرهبانية في الشرق ص 5 - 6 وقال النصارى: «وقال يسوع للذين صاروا تلامذة ليتركوا الدنيا وغناهم وينذروا عيشة الفقر والفاقة». إنجيل متى الإصحاح 8 عدد 19 - 20 والإصحاح 16 عدد 35 - 26 قال البوذيون: «وجاء في كتاب البوذية القانونية المقدسة أن الجموع طلبوا من بوذا علامة «أي آية ليؤمنوا به». كتاب علم الأديان ص 37 تأليف مولر وقال النصارى: «وجاء في كتب النصارى المقدسة أن الجموع طلبوا من يسوع آية كي يؤمنوا به». إنجيل متى الإصحاح 12 عدد 12

قال البوذيون: «لما اقترب انتهاء أيام بوذا على الأرض وعلم الحوادث المقبلة التي ستقع قال لتلميذه أناندا ما يأتي: يا أناندا متى أنا ذهبت لا تظن أنه لم يعد لبوذا وجود كلا، فالكلام الذي قلته والفرائض التي افترضتها تكون خلفا عني وهي لك كذاتي أنا». كتاب الموناشيزم الشرقية ص 320 تأليف هاردي وقال النصارى: «لما اقترب انتهاء أيام يسوع على الأرض أخبر عن الحوادث التي ستقع من بعده وقال لتلاميذه: اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم. وعلموهم أن يحفظوا هم جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر». إنجيل متى 24 وإنجيل مرقس الإصحاح 8 عدد 31 قال البوذيون: «وجاء في التعاليم البوذية أن إنفاق الإنسان لماله من أعظم الصعوبات ومن ينفق غناه هو أشبه بمن يهب روحه، لأن النفس تبخل بالمال وتتمسك به وبوذا قد وهب ونذر حياته شفقة وحنوا لخير الناس، فلماذا نتمسك بغناء الدنيا الزهيد لما تخلص بوذا من حب المشتهيات الدنيوية وملذاتها نال المعرفة الإلهية وصار الرأس فليعمل الرجل الحكيم الهاجر لملذات الدنيا الخير مع كل أحد حتى تقديم نفسه فداء عن الغير، عندها يصل إلى المعرفة الحقيقية». مولر في كتاب علوم الدين ص 244 وقال النصارى: «وإذا واحد تقدم وقال له أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل ليكون الحياة الأبدية قال له يسوع: إن أردت أن تكون عاملا فاذهب اعط ربع أملاكك الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني، لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون». إنجيل متى الإصحاح 6 عدد 19، 20 قال البوذيون: «وكان قصد بوذا تشييد مملكة دينية أي مملكة سماوية». بيل تاريخ البوذية ص 10 وقال النصارى: «ومن ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه اقترب ملكوت السموات». إنجيل متى الإصحاح 4 عدد 7

قال البوذيون: «وقال بوذا الآن أحببت إدارة دولاب الشريعة العظيم ومن أجل هذا فإني ذاهب إلى مدينة بينارس لأهب نورا للتائهين في الظلام وأفتح باب الحياة الإنسانية». بيل تاريخ البوذية ص 144 وقال النصارى: «من بعد تجربة الشيطان ليسوع ابتدأ يسوع بتأسيس مملكة دينية ومن أجل هذا الغرض ذهب إلى مدينة كفر ناحوم ومن ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورا عظيما والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور». إنجيل متى الإصحاح 4 عدد 21، 17 قال البوذيون: «وقال بوذا للتلميذ الحبيب أناندا إن كلامي لا ريب فيه فلا يزول قطعيا ولو وقعت السموات على الأرض وابتلع العالم وجفت البحار واندك جبل سومر وصار قطعا». بيل تاريخ البوذية ص 11 وقال النصارى: «الناموس أعطى لموسى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صار الحق أقول لكم السماء والأرض تزول ولكن كلامي لا يزول». إنجيل يوحنا الإصحاح الأول عدد 17 وإنجيل لوقا قال البوذيون: «لا يوجد شئ أعظم فعلا في الإنسان من الاشتهاء والهواء الشهواني ولحسن الحظ والسعادة لا يوجد سوى اشتهاء شهواني واحد ولو كان يوجد اشتهاء آخر لما كان على وجه الأرض رجل يتبع الحق فاحترسوا من تحقيق بصركم في النساء وإن كنتم مجتمعين معهن فاجعلوا اجتماعكم كأنكم غير حاضرين معهن وإذا كلمتموهن فاحترسوا على قلوبكم». كتاب تقديم الأفكار الدينية المجلد الأول ص 228 وقال النصارى: «قال يسوع: قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها قلبه». إنجيل متى الإصحاح الخامس عدد 27، 28

قال البوذيون: «وقال بوذا الرجل العاقل الحكيم لا يتزوج قط ويرى الحياة الزوجية كأتون نار متأججة ومن لم يقدر على العيشة الرهبانية يجب عليه الابتعاد عن الزنى». ريس دانس في كتابه المدعو البوذية ص 103 قال النصارى: «فحسن للرجل أن لا يمس امرأة ولكن إن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لأن التزويج أصلح من التحرق». رسالة كورنثوس الأولى الإصحاح 7 عدد 1 - 9 قال البوذيون: «ومن جملة التعاليم البوذية قولهم إذا أصاب الإنسان حزن وآلام وبؤس وقنوط فإن ذلك يدل على أنه ارتكب آثاما، وهذه الآلام جزاء عليها، وإذا لم يكن ارتكب شيئا من الآثام في هذا الدور الحاضر من حياته لا بد أن يكون قد ارتكبه في أحد الأدوار السابقة من ظهوره «أي في أحد أدوار تقمصه». ريس دانس في كتابه المدعو البوذية ص 104 وقال النصارى: «وفيما هو مجتاز رأى إنسانا أعمى منذ ولادته فسأله تلاميذه قائلين: يا معلم من أخطأ .. هذا أم أبواه حتى ولد أعمى». إنجيل يوحنا الإصحاح التاسع عدد 1، 2 قال البوذيون: «كان بوذا يعلم أفكار الناس عند ما يدير تصوراته نحوهم وأنه قادر على معرفة أفكار المخلوقات كلها». هردي في كتابه المدعو خرافات البوذيين ص 18 قال النصارى: «كان يسوع يعلم أفكار الناس عند ما يدير تصوراته نحوهم وأنه قادر على معرفة أفكار المخلوقات كلها». إنجيل يوحنا الإصحاح الرابع كلامه مع المرأة السامرية قال البوذيون: «وجاء في كتاب الصوماديفا حكاية منسوبة لأحد القديسين البوذيين أنه قلع عينه ورماها لأنها شككته». كتاب مولر المسمى العلوم الدينية ص 542

وقال النصارى: «قال يسوع فإن كانت عينك اليمين تعثرك فاقلعها وألقها عنك». إنجيل متى الإصحاح 5 عدد 29 قال البوذيون: «لما عزم بوذا على التنسك كان راكبا جوادا يدعى كنتاكو ففرشت الملائكة طريقه بالزهر». هردي في كتابه المسمى خرافات البوذيين ص 13 قال النصارى: «لما كان يسوع داخلا أورشليم راكبا على حمار فرشت له الجموع الطريق بأغصان النخيل». إنجيل متى الإصحاح 21 عدد 1، 9 هذا ما نقله الشيخ أبو زهرة من مقارنات، ولقد نقلناها لتتضح المعجزة في قوله تعالى يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وليعرف كيف سرى الضلال إلى الديانة النصرانية ولتعرف ميزة هذه الشريعة. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً .. ذكر ابن كثير ما يلي: (روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير- من طرق- عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عدي ما تقول؟ أيفرك (¬1) أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلها غير الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه ¬

_ (¬1) أي أيحملك على أن تفر وتهرب.

استبشر ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون». وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم) 6 - وبمناسبة قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ نقول: إن من قرأ كتاب الغارة على العالم الإسلامى. وكتاب التبشير والاستعمار. يجد صورة من صور إرادة النصارى إطفاء نور هذا الإسلام، ومن قرأ كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، عرف مظهرا من مظاهر إرادة اليهود إطفاء نور الله، ومن قرأ تاريخ الاستعمار في العالم الإسلامي، عرف صورة أخرى من صور الرغبة في إطفاء نور الله، والأمر واسع جدا، فما من لحظة من التاريخ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا هذا إلا والتآمر على هذا الدين قائم. والرد العملي على ذلك كله هو الجهاد. ولذلك فإن الله ذكر هذا المعنى في كتابه هاهنا في سياق الأمر بالقتال. 7 - وبمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ نقول: إن كثيرين من المسلمين في عصرنا يظنون ظنا خاطئا أن الإسلام قد انتهى دوره وغرب هلاله، وبعضهم ينتظر ظهور المهدي وقيام الساعة، وقد ناقشنا هذا النوع من التفكير في كتابنا جند الله ثقافة وأخلاقا، وقد بينا من السنة الصحيحة خطل هذا الفهم. وذكرنا ما ورد في الحديث الصحيح من التبشير بفتح المسلمين روما بعد القسطنطينية، ولم تفتح روما بعد. وهي مفتوحة بإذن الله. وذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام هناك: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره» مما يدل على أن الإسلام بعد فتوره سينشط، وإني لأرجو ألا يموت جيلنا إلا وقد وضع الأساس لبداية عظيمة، نهايتها نشر ظل الإسلام على العالم كله بإذن الله. وبهذه المناسبة نذكر ما ذكره ابن كثير مع حذف الأسانيد: في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها». وروى الإمام أحمد .. عن مسعود بن قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب

منهم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة». وروى الإمام أحمد أيضا .. عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا ويذل ذليلا، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر». فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية» وروى الإمام أحمد أيضا .. عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها». وفي المسند أيضا .. عن عدي بن حاتم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدي أسلم تسلم». فقلت: إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك» فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: «نعم. ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟» قلت: بلى، قال: «فإن هذا لا يحل لك في دينك» قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، وقال: «أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟». قلت لم أرها، وقد سمعت بها. قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد». قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها. وروى مسلم .. عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عزّ وجل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ إلى قوله وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أن ذلك تام. قال: «سيكون من ذلك ما شاء الله عزّ وجل ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم».

المعنى الحرفي للفقرة الثانية من المقطع الثالث

وهذه البشائر طريق تحقيقها الجهاد، والبشارة القرآنية جاءت في معرض الأمر في القتال. ولنعد إلى التفسير الحرفي: لقد مر معنا في المقطع الثالث، أمر بقتال أهل الكتاب، كما مر معنا في المقطع الأول أمر بقتال المشركين، وذكر فيما بين المقطعين مقطع حدد معاني لا بد منها ليقوم القتال الإسلامي. ونحن لا زلنا في المقطع الثالث: لقد مرت الفقرة الأولى منه، وفيها مظاهر من انحراف أهل الكتاب التي استوجبت قتالهم، وتأتي بعد ذلك فقرة وفيها نموذج على ضلال أهل الكتاب، ونموذج على ضلال مشركي العرب، وفي ذكر هذين النموذجين بيان لموجبات أخرى تستوجب قتال هؤلاء وهؤلاء، وفي ذلك بعث لهمم المسلمين أن يقاتلوا المشركين وأهل الكتاب. المعنى الحرفي للفقرة الثانية من المقطع الثالث: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي ليأخذونها عن غير طريق ما أحل الله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون الناس عن سلوك طريق الله أي عن دينه الحق وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يحتمل هذا النص أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على اجتماع خصلتين ذميمتين فيهم: أخذ الرشا، وكنز الأموال، والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير، ومن أشركهم في صفتهم الذميمة هذه من المسلمين، يدخل في حكمهم، ويحتمل أن يراد بالنص المسلمون الكانزون غير المنفقين، وقد قرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظا، والمراد بالكنز هنا على القول الراجح هو ما لم يؤد زكاته كما سنرى وَلا يُنْفِقُونَها أي هذه الكنوز والأموال فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما شرع وكما أمر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وأي عذاب أشد من النار يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوم تحمى النار على الكنوز أي توقد فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهروهم، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي يقال لهم: أهذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم؟ وهو توبيخ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي فذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال

[سورة التوبة (9): آية 36]

كونكم كانزين إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً من غير زيادة والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتنى على الشهور القمرية المحسوبة بالأهلة دون الشمسية فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما أثبته وأوجبه من حكمه أو في اللوح يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية، يعنى أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم، ودين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب تمسكت به، فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسئ فغيروا فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي فلا تظلموا في الأشهر الحرم أو في مجموع الأشهر أنفسكم بارتكاب المعاصي وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي جميعا كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي جميعا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ينصرهم ويعينهم، حثهم على التقوى، وضمن لهم النصرة إن كانوا من أهل التقوى. وقد جاء الأمر بالقتال في معرض ذكر تحريم الأشهر الحرم؛ للدلالة على أن الله الذي حرم الأشهر الحرم هو الذي فرض على المسلمين قتال المشركين فيهن وفي غيرهن، فلا تقوم للمشركين حجة بالاحتجاج على المسلمين في القتال بالأشهر الحرم، كما فعلوا فيما قصه الله علينا من ذلك في سورة البقرة بعد آية فرضية القتال، وليقيم عليهم الله جل جلاله الحجة في كذبهم في تعظيم الأشهر الحرم، قص علينا قصة النسئ عندهم مما يدل على تلاعبهم في الأشهر الحرم، فأي تعظيم لهذه الأشهر مع هذا التلاعب إِنَّمَا النَّسِيءُ النسئ عندهم هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم يُضَلُّ بِهِ أي بالنسئ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي يحلون النسئ عاما، ويحرمونه عاما، أي إذا أحلوا شهرا من الأشهر عاما رجعوا فحرموه في العام المقبل لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص- كما أمر الله- ما حرم الله من ترك الاختصاص زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي زين لهم الشيطان ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ حال اختيارهم الثبات على الباطل. وهكذا ذكر في هذه

فوائد

الفقرة نموذج على انحراف أهل الكتاب، ونموذج على تحريف المشركين، وبين ذلك تهديد لمن يكنز، وأمر بالقتال الشامل للمشركين، والصلة بين الإنفاق والقتال واضحة، والصلة بين فضح انحرافات المشركين والكتابيين، وبين الأمر بالقتال واضحة، وبهذا انتهى المقطع بعد أن وضح كل ما له علاقة بقتال المشركين والكتابيين، وبماذا استأهل الجميع أن يقاتلوا، وبانتهاء المقطع الثالث ينتهى القسم الأول من أقسام سورة براءة بعد أن فصل في ثلاثة أمور: 1 - في وجوب قتال المشركين وأهل الكتاب. 2 - في موجبات ذلك ومبرراته. 3 - في الأخلاق التي لا بد منها لإقامة الجهاد الإسلامي. حتى إذا استقرت هذه المعاني كلها يأتي بعد ذلك القسم الثاني الذي يأمر بالنفير العام ويحذر المتقاعسين وينذرهم. فوائد: 1 - لقد حدثنا الله عزّ وجل عن فساد الأحبار والرهبان، وفي ذلك تحذير لنا أن نصبح مثلهم، قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، وفي الحديث الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» - وفي رواية: فارس والروم؟. قال: «فمن الناس إلا هؤلاء». 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ .. نذكر هذه الأحاديث والآثار: أ- قال ابن عمر: «ما أدي زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز». وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة وغيرهم. ب- روى ابن أبي حاتم .. عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية. كبر ذلك على المسلمين وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده مالا يبقى بعده، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية. فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» قال: فكبر عمر ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته». ورواه الحاكم، وقال صحيح على شرطهما. ج- روى الإمام أحمد ... عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا بالشفرة (¬1) نعبث بها، فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها (¬2) وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب». 3 - وبمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ .. ننقل هذه النقول: أخرج ابن جرير .. عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبعها سائر جسده». وأصل هذا الحديث في الصحيح .. عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار». وذكر تمام الحديث. وروى البخاري في تفسير هذه الآية .. عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فقال معاوية: ما هذه فينا، ما هذه إلا في ¬

_ (¬1) الشفرة: هي التي ترضي بأقل النكاح. (¬2) أي أحترز فيما أقول وأحتاط.

أهل الكتاب قال: قلت: إنها لفينا وفيهم». وهكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة. وقال السدي: هي في أهل القبلة. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثلاثة أيام وعندي منه شئ إلا دينار أرصده لدين». وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوسا قال: قلت: لو ادخرته لحاجة وللضيف ينزل بك. قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أو كي (¬1) عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجل. 4 - قال ابن كثير: (كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال. وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه. فنهاه معاوية، فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة (¬2) وحده، وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك إنها خرجت. ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به). 5 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً .. ننقل هذا الحديث: أخرج الإمام أحمد عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان» ثم قال: «أي يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه قال: «أليس يوم النحر» قلنا: بلى ثم قال: «أي شهر هذا؟». قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذا الحجة؟» قلنا بلى، ثم قال: «أي بلد هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليست البلدة؟» قلنا بلى، ¬

_ (¬1) شد عليه وكاء وهو كناية عن كنزه. (¬2) قرية تبعد عن المدينة بثلاثة أميال.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم- وأحسبه قال- وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه». ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض .. » أي إن هذا الشهر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذو الحجة كما هو عند الله، ومن الآن فصاعدا فعلينا أن نحافظ على هذا التقويم من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص، ولا نسئ ولا تبديل وأما قوله «ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان». فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظن ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاث سرد وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون عن القتال، وحرم ذا الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهرا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين. وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا. وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم؟ على قولين: أحدهما وهو الأشهر أنه منسوخ، فالقتال في سبيل الله مفروض في كل الشهور وجائز في كل الشهور. 6 - وأما قصة النسئ الذي عابه الله على أهله فهذه نقول تفسره: كانت العرب قبل الإسلام بمدة قد أحدثت تحليل المحرم فأخروه إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال. - وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس أنه قال في النسئ: أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يحاب (¬1) ولا يعاب وإن صفر العام الأول العام حلال، فيحله للناس، فيحرم ¬

_ (¬1) يحاب: من الحوب وهو الإثم أي: لا ينسب إليه الإثم.

كلمة في السياق

صفرا عاما، ويحرم المحرم عاما. فذلك قول الله تبارك وتعالى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه. - وقال محمد بن إسحاق: (كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله- عزّ وجل-، القلمس وهو: حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد، ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنة عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام، فكانت العرب إذا ما فرغت من حجها، اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبا، فحرم رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، ويحل المحرم عاما، ويجعل مكانه صفر، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله. يعني: ويحرم ما أحل الله). كلمة في السياق: رأينا أن سورة براءة امتداد لسورة الأنفال، وأن محور السورتين واحد، هو آية فريضة القتال في سورة البقرة، والآيتان بعدها، وقد رأينا أن هذا القسم قد فصل في موضوع القتال، بإيجاب قتال المشركين، وأهل الكتاب، كما وضعنا على الطريق لتنفيذ فريضة القتال، فإذا ما استقر في هذا القسم أن فريضة القتال تقتضي قتال العالم كله في مداها الواسع، وكان هذا يقتضي تعبئة، فإن القسم الثاني في هذه السورة يبتدئ بالأمر بوجوب الاستجابة لصوت النفير العام. وهكذا يأتي القسم الثاني: ***

القسم الثاني من سورة براءة

القسم الثاني من سورة براءة ويمتد من الآية (38) إلى نهاية الآية (122) يبدأ القسم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ. وينتهي بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. لاحظ الصلة بين البداية والنهاية في القسم، وبعد الآية الأخيرة في القسم يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً. إن القسم الثاني كله في النفير وما يتعلق به. وقد أمرنا في القسم الأول بقتال غير المسلمين. ويبدأ القسم الثالث في تحديد أولويات القتال. ويكاد أن يستغرق القسم الثاني معظم السورة، ولذلك فسنعرضه على مقاطع: المقطع الأول ويمتد من الآية (38) إلى نهاية الآية (72) ويأتي بعده مباشرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ إنه المقطع الأول في موضوع النفير وهذا هو: [سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 72] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

المعنى العام

المعنى العام: كما رأينا في سورة الأنفال فقد وجدت نماذج تطبيقية من غزوة بدر على المعاني المرادة هناك، وكذلك هنا. فإن الكلام عن ضرورة النفير العام وعن موقف الناس منه يأتي من خلال غزوة تبوك، التي حدث فيها النفير الأقسى في تاريخ الدعوة النبوية، إن ما حدث قبل غزوة تبوك وخلالها وبعدها هي النماذج التطبيقية على مواقف الناس من النفير، فالإنسان هو الإنسان والإيمان هو الإيمان والنفاق هو النفاق، ومن خلال النماذج يأتي الدرس والتوجيه والتربية والتعليم: يبدأ المقطع بعتاب المؤمنين أن يتكاسلوا أو يميلوا إلى المقام في الدعة والأمن وطيب الثمار، إذا دعوا إلى النفير للجهاد في سبيل الله، ثم سألهم عما إذا كانوا يفعلون ذلك رضا منهم بالدنيا بدل الآخرة، ثم زهدهم تبارك وتعالى في الدنيا ورغبهم في الآخرة بأن الدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئا. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد بالعذاب الأليم، والاستبدال بقوم آخرين ينصرون دين الله، مبينا لهؤلاء الناكلين عن الجهاد بأنهم لا

يضرون الله شيئا بتوليهم عن الجهاد ونكولهم وتثاقلهم عنه، ومبينا لهم أن الله قادر على الانتصار من أعداء الله ورسوله بدونهم، قادر على الاستبدال، قادر على التعذيب، ثم بين لهم تعالى أنهم إن لم ينصروا رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره عام الهجرة لما هم المشركون بقتله، أو حبسه، أو نفيه، فخرج منهم هاربا بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر، فلجئا إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيروا نحو المدينة، فخاف أبو بكر رضي الله عنه أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم طمأنينته ونصره وتأييده، وأيده بالملائكة وجعل الشرك هو الأسفل والتوحيد هو الأعلى؛ وذلك كله أثر عن عزة الله في انتقامه وانتصاره حتى لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بجنابه، وذلك أثر حكمة الله في أقواله وأفعاله، ثم أمر الله بالنفير العام لمن كان ثقيلا أو خفيفا، شابا أو كهلا، غنيا أو فقيرا، نشيطا أو غير نشيط، معسرا أو موسرا، راكبا أو راجلا، قويا أو ضعيفا، ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته، مبينا أن هذا خير لأصحاب ذلك في الدنيا والآخرة، لأنهم يغرمون في النفقة قليلا فيغنمهم الله أموال عدوهم في الدنيا مع ما يدخر لهم من الكرامة في الآخرة. وبعد أن قرر الله عزّ وجل هذه المعاني ذكر ما حدث يوم تبوك من طلب الكثير الإذن لهم بالتخلف ليبين الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الذين طلبوا الإذن بالتخلف ما طلبوا هذا الإذن إلا فرارا من المشقة لا لأنهم عاجزون حقيقة، بدليل لو أن سفره عليه الصلاة والسلام كان لغنيمة قريبة ولمكان قريب، ما تخلفوا ولا طلبوا الإذن. فهؤلاء هم الكاذبون في إيمانهم، الكاذبون في كلامهم، الذين سيستقبلون المسلمين بعد عودتهم بالأيمان الكاذبة، أنهم ما خلفهم عنهم إلا العذر، وما هم بمعذورين، ثم عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على إذنه لمن أذن له، مبينا له أنه كان عليه ألا يأذن، ليتبين صدق المستأذن في استئذانه هل يتخلف أو يذهب إذا لم يكن إذن؟ وليظهر الصادق في إيمانه من الكاذب في إيمانه، ثم بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين الصادقين لا يستأذنون في القعود عن الغزو لأنهم يرون الجهاد قربة يتقربون بها إلى الله، فكيف يتخلون عنها؟ ثم بين تعالى أن الذين يستأذنون في القعود ممن لا عذر لهم في الحقيقة هم الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة

على أعمالهم وشكت قلوبهم في صحة الإسلام حتى أصبحوا في شكهم يتحيرون، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، ثم دلل الله على كذبهم في استئذانهم وأنهم ما تخلفوا بسبب الإذن بل لأنهم من الأصل لا يريدون القتال والخروج أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن، بأنهم ما أظهروا أي علامة صدق للخروج فلم يستعدوا ويعدوا له أصلا، فلو كانوا صادقين لتأهبوا، ثم بين الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن عدم خروج أمثال هؤلاء فيه مصلحة للمسلمين لأنهم لو خرجوا مع المؤمنين لم يكن دورهم إلا دور المخلخل للصف، الباث فيه الفتنة، خاصة وأن بعضا من المؤمنين مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم، لأنهم لا يعلمون حالهم، فيؤدي ذلك إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير، ومن ثم فإن الله كره خروجهم مع المؤمنين فلم يوفقهم للخروج، بل قدر عليهم أن يتخلفوا؛ لعلمه بهم أنهم ظالمون، ولعلمه بهم أنهم لو خرجوا ما زادوا المسلمين إلا خبالا، ثم دلل الله تعالى على ما سيفعلونه لو خرجوا بما فعلوه قبل ذلك: من إعمالهم فكرهم! وإجالتهم آراءهم في كيد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخذلان الإسلام وإخماده مدة طويلة، حتى إذا أعز الله دينه دخلوا فيه نفاقا، وغاظهم كل موقف أعز الله به جنده. وهكذا أجمل الله حال هؤلاء المستأذنين عن الجهاد يوم يكون نفير، حاكما عليهم بالنفاق بشكل عام، ثم بدأ يذكر أصناف هؤلاء المنافقين من خلال كلامهم الذي يعبر عن نفاقهم، فبدأ بالنموذج الأول من هؤلاء المنافقين المستأذنين الذين يستأذنون ويعتذرون بما ليس عذرا إذ يطلبون الإذن بحجة أنهم إذا خرجوا للجهاد ورأوا النساء لا يصبرون عنهن فيقعون في الحرام، فأي عذر هذا! عذر يقودهم إلى النار التي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب، وهكذا نجد أن النفير العام هو المحك الحقيقي للإيمان، وهو المظهر العملي للنفاق وأهله، وأن هذا النفاق يعبر عن نفسه بنماذج شتى، وقد رأيناه كيف عبر عن نفسه عند النموذج الأول بهذا النوع من الاستئذان السخيف والاعتذار السمج، وبعد أن تحددت صفات هذا النموذج وأعيانهم أعلم الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة- أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه- ساءهم ذلك، وإذا كان العكس فرحوا بموقفهم الاحترازي من المتابعة والسير والغزو، ثم أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى ما يقولونه لهؤلاء جوابا على عداوتهم التامة بالإعلان عن إيمانهم بقدر الله، ورضاهم عن الله فيما

يقدره عليهم، كيف وأنه هو مولى المؤمنين، والمؤمنون عليه متوكلون، وليس عند الله للمؤمنين إلا الخير مهما كان ظاهر الأمر خلاف ذلك، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء أنهم لا ينتظرون بالمؤمنين إلا النصر أو الشهادة، غير أن المؤمنين ينتظرون بالمنافقين عذاب الله المباشر، أو عذاب الله بأيدي المؤمنين، فلينتظروا إذن والمؤمنون منتظرون، وشتان بين الانتظارين، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء أنهم مهما أنفقوا من نفقة طائعين أو مكرهين فإن الله لا يقبلها بسبب كفرهم بالله والرسول صلى الله عليه وسلم، والأعمال إنما تقبل وتصح بالإيمان، وبسبب كسلهم إذا قاموا إلى الصلاة، مما يدل على أنه ليس لهم قدم صحيح ولا همة في العمل، وبسبب كونهم لا ينفقون نفقة إلا وهم كارهون، فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا؛ لأنه إنما يتقبل من المتقين، ثم نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعجبه ما هم فيه من أموال أو أولاد، فما هي إلا نوع عذاب لهم، ثم عاقبتهم أن يميتهم الله- حين يميتهم- على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم، فما أموالهم ولا أولادهم إلا استدراج لهم، ثم فضح الله تعالى ما يتظاهرون فيه من كونهم يحلفون الأيمان المؤكدة للمؤمنين أنهم منهم وما هم من المؤمنين، ثم بين أن حلفهم أثر عن جزعهم وخوفهم، وأنهم يودون أن لو وجدوا حصنا يتحصنون به، وحرزا يتحرزون به، أو مقامات في الجبال يلجئون إليها، أو سربا ونفقا في الأرض يسرعون إليه كيلا يخالطوا المؤمنين ولا يروهم ولا يروا من سلطانهم وعزهم، فهم يخالطون المؤمنين ويعيشون في دولتهم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونهم. ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام لا يزال في عز ونصر ورفعة، فلهذا فإن كل ما سر المؤمنين يسوؤهم، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين، فلا يغرن المؤمنون بأيمانهم أنهم مع المؤمنين، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل هذا النموذج المار ذكره من المنافقين ثنى بذكر نموذج آخر منهم. هذا النموذج الثاني من المنافقين نموذج طامع لماز، يعيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقسيمه الصدقات ويتهمه في عدله، فعليهم لعائن الله؛ إذ أنهم لا يعلنون ذلك إلا لحظ النفس والشيطان، ولا يمكن أن يكون فعلهم إلا حظا للنفس والشيطان، بدليل أنهم إذا أعطوا من هذا الزكوات رضوا، وإذا لم يعطوا منها أظهروا سخطهم، ولما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسمه الصدقات، بين تعالى مصارف الزكوات؛ ليعلم هؤلاء المنافقون أن الله هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى

أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره، وقد حدد الله مصارفها بأنهم ثمانية أصناف: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها وهم: الجباة والسعاة، والمؤلفة قلوبهم وهم أقسام: فمنهم من يعطى ليسلم، ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه، ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، أو ليكف ضرره، والصنف الخامس من مصارف الزكاة هم الرقاب من مكاتبين أو غير ذلك على خلاف بين الفقهاء- كما سنرى- والصنف السادس: الغارمون وهم أقسام: فمنهم من تحمل حمالة، أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب، وتفصيل ذلك سيأتي، والصنف السابع: في سبيل الله ويدخل فيهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وغير ذلك مما سيأتي، والصنف الثامن: ابن السبيل: وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شئ يستعين به على سفره فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال، وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شئ فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه، ثم ختم الله آية الزكاة بتبيان أن هذا فرض فرضه الله، فهو حكم مقدر بتقدير الله وفرضه وقسمه، والله عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، حكيم فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه. وهكذا حدد الله مصارف الزكاة في معرض السياق العام في الأمر بالنفير، وفي معرض قطع طمع المنافقين في الزكاة في السياق الخاص، ومجيئها في السياق العام واضح الحكمة لما في الزكاة من إعانة على الجهاد، ومجيئها في السياق الخاص واضح الحكمة. ثم يذكر الله عزّ وجل نموذجا ثالثا من نماذج المنافقين: وهو النموذج الذي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام، ويصف ما هو حسن فيه فيجعله غير حسن، ومن ذلك قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أذن أي: يصدق كل ما يقال له، وقد رد الله عزّ وجل عليهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شديد الإصغاء لمستمعه، وليس ذلك شرا بل هو خير لصالح المؤمنين ولكنه عليه الصلاة والسلام يعرف الصادق من الكاذب، فيصدق الصادق ويصدق المؤمنين، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الكاملة الخالصة للمؤمنين، ثم هدد الله هؤلاء الذين يؤذون رسوله عليه الصلاة والسلام بالعذاب الأليم، ثم زادنا الله بصيرة بحال هذا الصنف من المنافقين، وكيف أنهم يحلفون للمسلمين ليرضوا المسلمين، مع أن الأجدر بهم أن يرضوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا، ولكنهم ليسوا مؤمنين،

ولذلك لم يعلموا ولم يتحققوا أنه من حارب الله ورسوله فإن له عذاب جهنم خالدا فيها، مهانا معذبا، وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير، وبعد أن بين الله عزّ وجل في بداية المقطع أن المحك الذي يظهر المنافق من المؤمن هو الموقف من النفير العام، وأن الذين يستأذنون ولا عذر لهم هم المنافقون. وبعد أن ذكر لنا ثلاثة نماذج من نماذجهم بين الله عزّ وجل كيف أن المنافق يبقى دائما خائفا أن يفتضح أمره بأن ينزل الله سورة تتحدث عما في قلبه، كما بين أن هؤلاء المنافقين من طبيعتهم الاستهزاء، وقد هددهم الله عزّ وجل بأن الله سينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما يفضحهم، ويبين أمرهم، وقد كان ذلك بهذه السورة، ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة، فاضحة المنافقين. وإذن وفي هذا السياق بين لنا الله عزّ وجل طبيعة من طبائع المنافقين وهي استهزاؤهم بالإسلام وأهله، واستهزاؤهم بالله وآياته، ولكنهم من جبنهم إذا ووجهوا بأقوالهم تظاهروا بأنهم قالوا ما قالوه من باب المداعبات والملاطفات والتنكيتات، وقد رد الله عزّ وجل عليهم أن تكون آيات الله محل استهزاء في مزاح أو جد، وجعل ذلك كفرا وفتح باب التوبة لمن يتوب وهدد بالعذاب لمن أصر. وهكذا تكشفت لنا طبيعة أخرى من طبائع المنافقين، وظهر لنا نموذج من نماذجهم ثم ختم الله هذا المقطع بأن عرف لنا المنافقين والمؤمنين الصادقين. أما المنافقون فقد وصفهم بأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وأنهم بخلاء عن الإنفاق في سبيل الله، وأنهم ينسون ذكر الله، وأنهم فاسقون خارجون عن طريق الحق، داخلون في طريق الضلالة، ثم ذكر الله ما أعده لهم من العذاب المقيم الخالد في نار جهنم. ثم ذكر الله عزّ وجل أن ما سيصيبهم قد أصاب أمثالهم من السابقين، وقد كانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فأحبط الله أعمالهم وجعل عاقبتهم النار. وهؤلاء يسيرون على طريق أولئك في التمتع في الدنيا، والخوض في الكذب والباطل، فالطريق واحدة والنهاية واحدة: النار وبطلان العمل، ثم وعظ الله هؤلاء المنافقين بأن ذكرهم بما أصاب الأمم السابقة عدلا منه، فليحذروا أن يصيبهم ما أصابهم. ثم عرف الله المؤمنين بأنهم متناصرون متعاضدون فيما بينهم، وأنهم أمرة بالمعروف، نهاة عن المنكر، مقيمون للصلاة، مؤتون للزكاة، طائعون لله والرسول فيما أمر ونهى، هؤلاء هم المؤمنون الصادقون، وقد وعدهم الله أن يرحمهم بما اتصفوا

كلمة في السياق

من هذه الصفات، ثم ذكر الله بعزته وحكمته في هذا المقام فهو المعز لمن أطاعه، المعز لمن اتصف بهذه الصفات، الحكيم في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإنه له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى، ثم أخبر الله بما أعده للمؤمنين والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في الجنات من مساكن وما حوت، ومن رضوان الله، وهو أعظم من كل نعيم وأي فوز أعظم من هذا الفوز. وبهذا ينتهى المقطع الأول من القسم الثاني في هذه السورة ليأتي المقطع الثاني مبتدئا بالأمر بجهاد الكافرين والمنافقين، بعد أن وصف المنافقين كما رأينا، وإذ كان الأمر الجديد بجهاد المنافقين مع جهاد الكافرين يقتضي مزيدا من وصف المنافقين فإن المقطع اللاحق سيكون امتدادا لوصف المنافقين وأحوالهم من خلال استكمال عرض ما حدث في غزوة تبوك، وهذا شئ سنراه في المقطع الثاني. كلمة في السياق: 1 - في القسم الأول من السورة جاء أمر بقتال المشركين، وأمر بقتال أهل الكتاب، ثم جاء القسم الثاني فأظهر لنا من خلال الموقف من النفير أن هناك منافقين، وإذن فليس المظهر الوحيد للكفر هو الشرك وانحرافات أهل الكتاب ولذلك فإن المقطع الأول من القسم الثاني أوصلنا إلى المقطع الثاني في القسم الثاني والذي بدايته يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فليس المشركون العرب وحدهم محل القتال، وليس أهل الكتاب وحدهم محل قتال، بل المشركون وأهل الكتاب وكل كافر ومنافق، إن عملية الجهاد يجب أن تبقى مستمرة حتى يخضع العالم كله لكلمة الله، ولا يعني هذا الإكراه على الدخول في دين الله، إلا مشركي العرب. 2 - عرفنا من السياق أن النفير العام هو الذي يظهر فيه النفاق، كما يظهر الإيمان، ورأينا أن المنافقين من شأنهم في النفير العام الاستئذان من غير ما عذر، والطمع، وأن من شأنهم التشكيك في القيادة، والتشكيك في تصرفات المؤمنين. 3 - عرفنا السياق على صفات المؤمنين الحقيقيين، كما عرفنا على صفات المنافقين، وإذ كان المنافق في الأصل يكتم سره، ويتظاهر بالإيمان وإذ سيصدر أمر بجهاد المنافقين، فإن

التفسير الحرفي

الله عزّ وجل في هذه السورة بين لنا ما نستطيع به من خلال المواقف والأفعال أن نتعرف به على هؤلاء المنافقين. 4 - من هذه السورة ندرك مضمون الحديث الشريف «من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» إن المسلم مكلف بمهمات كبرى، طريقها القتال، ولذلك فإن كل مسلم يجب أن يكون إما في قتال أو في نية قتال، وهذه السورة تكشف لنا مظاهر النفاق من خلال الموقف من أوامر القتال. فلننتبه كثيرا ونحن نقرأ تفسير هذا القسم. فإلى التفسير الحرفي للمقطع الأول من القسم الثاني. التفسير الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا أي اخرجوا للقتال فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أي تثاقلتم أي تباطأتم وملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي بدلها فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنب الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ روى الإمام أحمد عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع». وأشار بالسبابة ورواه مسلم. إِلَّا تَنْفِرُوا أي إلا تنفروا إلى الحرب يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً إما عذابا كونيا أو عذابا بأيدي أعدائكم يذلونكم ويضطهدونكم وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي لنصرة دينه وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ونكولكم وتثاقلكم عنه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك التبديل والتعذيب والانتصار من الأعداء بدونكم، وفي الآية تهديد عظيم للمتثاقلين عن الجهاد حيث أوعدهم كما قال النسفي: (بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين) يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه فلا يضر دين الله تثاقل من تثاقل، وإنما يضر المتثاقل نفسه، ولو نظرنا إلى حال العرب خلال العصور- كمثال- فإننا نجد كيف أنه عند ما تموت روح الجهاد فيهم ويتركون القيام به فإن الله يستذلهم ويهيئ لرفع لواء الإسلام أمما أخرى كالأتراك وغيرهم إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أي إلا تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى

فوائد

نصره إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حين هموا بقتله فأذن الله له بالخروج، فكان همهم بقتله إخراجهم إياه ثانِيَ اثْنَيْنِ أي أحد اثنين وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر والمعنى: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد. ودل بقوله فقد نصره الله على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت إِذْ هُما فِي الْغارِ هو ثقب في أعلى جبل ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثة أيام إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي بالنصرة والحفظ وبهذه الآية استدلوا على من أنكر صحبة أبي بكر، روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال: فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أي على النبي صلى الله عليه وسلم على الأرجح، وقيل على أبي بكر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينته لكن هذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، والسكينة: ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أي الملائكة فإن كان المراد يوم الغار فبصرف وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه، وإن كان فيما بعد فيكون المراد ما أمد به عليه الصلاة والسلام من مثل يوم بدر والأحزاب وحنين وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي دعوتهم أو شعاراتهم المشركة وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي دعوته أو شعار المسلمين الأول لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا وكلمة الله لم تزل عالية لذلك رفعت في قراءة حفص وَاللَّهُ عَزِيزٌ يعز بنصره أهل كلمته حَكِيمٌ يذل أهل الشرك بحكمته. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ذكر ابن كثير ما قاله عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه قال: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه انظر إليه، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول: أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا نذكر الحديث الوارد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

[سورة التوبة (9): آية 41]

الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». وبعد أن بين الله تعالى عاقبة ترك النفر واستغناء الله ورسوله عن نصرة من لم يشارك بالنفر أصدر الله عزّ وجل أمره الجازم بالنفر فقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي كلكم إلا من كان ذا عذر، وقد دارت عبارات المفسرين بما يفيد ذلك ومما قالوه: أي خفافا في النفور لنشاطكم وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتها، أو خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو شبابا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو صحاحا ومراضا، والمهم أن النفرة إذا جاء الاستنفار واجبة على الجميع إلا ما استثنى الله في سورة الفتح أو ما ذكره الله في هذه السورة من قوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ... كما سنرى وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا إيجاب للجهاد بالمال والنفس إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحالة والحاجة والاستطاعة ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي الجهاد خير لكم من تركه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فمن لم يعلم أن الجهاد خير، ومن لم يجاهد، فإنه جاهل. فوائد: بمناسبة قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا نذكر هاتين الحادثتين: أ- قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا، جهزوني يا بني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير فدفنوه فيها. ب- أخرج ابن جرير قال حدثني حبان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو- وكان واليا على حمص قبل الأفسوس- إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هرما قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه

[سورة التوبة (9): آية 42]

من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عزّ وجل» وبمناسبة هذه الآية نذكر هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام قال: «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة». ولنفرض أن أحدا وجد كراهة في نفسه للجهاد وتثاقلا عنه، فعليه في هذه الحالة أن يجاهد نفسه ويحملها على الجهاد، كما ينبغي أن يفعل ذلك في كل شئ فرضه الله عليه، روى الإمام أحمد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أسلم قال: أجدني كارها. قال أسلم وإن كنت كارها». وبعد أن بين الله عاقبة ترك النفر وعقوبته، وأمر بالنفير العام. بدأ يعالج ظاهرة التخلف وما يحيط بها من خلال ما حدث في غزوة تبوك التي كانت النفير الأقسى في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدث يومها من تخلف، وما حدث خلالها من وقائع إنما هي النماذج الخالدة لما يحدث عند إعلان النفير، وما يكون خلاله، ولذلك يستمر بعرض هذه النماذج إلى نهاية السورة تقريبا. إن الناس يواجهون عادة النفير بأحد موقفين. إما بالاندفاع له، وإما بالاستئذان عن المشاركة فيه، وهذا ما حدث يوم تبوك إذ استأذن الكثير عن الخروج، واندفع المؤمنون الصادقون للخروج، وقد حكم الله على الذين استأذنوا دون عذر بالنفاق وفتح لهم باب التوبة، ولم يستثن من الحكم بالنفاق إلا ثلاثة كانوا صادقي الإيمان، فعوملوا معاملة العصاة كما سنرى، والمقطع يعرض ظاهرة- فيما يعرض- الاستئذان وكيف قابلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب الله له عليه الصلاة والسلام على إذنه لمن استأذن وحكم هؤلاء المستأذنين فقال: لَوْ كانَ عَرَضاً العرض هو ما يعرض للإنسان من منافع الدنيا قَرِيباً أي سهل المأخذ وَسَفَراً قاصِداً أي وسطا مقاربا، والسفر القاصد هو المعتدل والمعنى: لو كان إلى مغنم سهل وسفر معتدل لَاتَّبَعُوكَ أي لوافقوك في الخروج وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة الشاطة الشاقة وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي سيحلف المتخلفون عند رجوعك من الغزوة معتذرين لَوِ اسْتَطَعْنا استطاعة عدة أو

[سورة التوبة (9): آية 43]

استطاعة أبدان لَخَرَجْنا مَعَكُمْ وفي الآية دليل من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ أي بالحلف الكاذب وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما يقولون عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ هذا من لطف العتاب إذ صدر بالعفو الخطاب لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ هذا بيان لما استحق به أن يخاطب بالعفو الذي يفيد سبق ما يحتاج إلى عفو، ومعناه: ما لك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي حتى يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا في الجهاد أو في القعود عنه، فالمؤمن يندفع نحو الجهاد اندفاعا تلقائيا، فكيف إذا صدر الأمر بالنفير؟ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ قدم الجهاد بالأموال على الأنفس لأن الجهاد بالنفس لا يقوم إذا لم يسبقه جهاد بالمال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فليجاهدوا إذن وما دام الله يعلم جهادهم فأجرهم عنده حاصل إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى المنافقين فهم الذين لا يرجون ثواب الله وهم الذين يستأذنون بالقعود عن الجهاد وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ أي في شكهم وحيرتهم يَتَرَدَّدُونَ أي يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير، كما أن الثبات ديدن المتبصر وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ أي الجهاد أو للخروج عُدَّةً أي أهبة، فدل ذلك على أنهم من الأصل قد نووا القعود، أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي نهوضهم للخروج فَثَبَّطَهُمْ أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث؛ عقوبة لهم ونظرا للمسلمين لأن ذلك في صالحهم والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ أي قال بعضهم لبعض، أو قاله الشيطان بالوسوسة لهم وفي النص ذم لهم، وإلحاق لهم بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود في البيوت، ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين، وأن في ذلك مصلحة المؤمنين لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي إلا فسادا وشرا لأنهم جبناء مخذولون وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي ولسعوا بينكم بالنمائم وإفساد ذات البين يطلبون بذلك أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ تحتمل وجهين: الأول: أي سماعون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، والثاني: أي وفيكم مطيعون لهم ومستحسنون

[سورة التوبة (9): آية 48]

لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ هذا وصف للمنافقين بالظلم والنص فيه تهديد لهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ بصد الناس وبرجوعهم يوم أحد وغير ذلك من فعلهم القبيح في الكيد للإسلام ورسوله وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوروا الآراء في إبطال الإسلام، ونفوذ أمر رسوله حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي النصر والتأييد وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي وغلب دينه وعلا شرعه وَهُمْ كارِهُونَ أي علا أمر الله على رغم منهم، وبهذه المجموعة من الآيات تحدد حال المعتذرين عن الجهاد، وتحدد وضعهم، وتحددت العوامل التي أقعدتهم، وتبين أن عدم وجودهم في الصف لمصلحة الصف، ولئن عوتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فذلك من أجل فضحهم، وإلا فقد كانت الحكمة ظاهرة في قعودهم. الفوائد: 1 - قال الألوسي في قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة والسلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه). وقال الألوسي في قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أي في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك، على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عطف على الصلة، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ وشكهم المستمر في قلوبهم يَتَرَدَّدُونَ أي يتحيرون» أقول: دلت الآية الأولى على أن الجهاد- إذا تعين- لا يحتاج إلى استئذان وهذا موضوع مهم في عصرنا.

لقد رأينا مذهب الإمام مالك، أنه إذا لم يبلغ المجاهدون اثني عشر ألفا لا يفترض عليهم أن يقاتلوا من غير أحكام الله وبدلها ولكن إذا لم يفترض عليهم فإنه جائز لهم، فإذا ما رغب أفراد أن يقاتلوا الذين غيروا وبدلوا فإن لهم ذلك، ولا يحتاجون إلى إذن أحد في ذلك إلا إذا ترتب على ذلك أن تستضر جهات مسلمة غيرهم بسبب ذلك فعليهم أن يستأذنوها أو يعملوا على ألا يلحق غيرهم ضرر بسببهم، وهو موضوع يحتاج إلى فتوى أهلها وتحتاج الفتوى فيه إلى موازنات متعددة. 2 - قال النسفي: (وقيل شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من الأسارى فعاتبه الله، وفيه دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد وإنما عوتب- مع أن له ذلك- لتركه الأفضل، وهم يعاتبون على ترك الأفضل). 3 - وفي قوله تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال محمد بن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم إن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ. 4 - إن من المجمع عليه ألا يكتب المصحف إلا برسم الصحابة له وذلك لأن هذا الرسم هو الذي يستوعب قراءات القرآن، وهو الذي حفظ به القرآن أول مرة، وهو الذي لا اختلاف عليه، وهو الذي منع الاختلاف أول مرة، وبإبقائه على ما هو عليه تبقى الأمة غير مختلفة فيه وهذا سبب وجود بعض الأحرف وبعض أنواع الرسم الذي يختلف عن إملائنا الحالي ومن ذلك ما ذكره النسفي في كلمة في النص السابق قال: وخط في المصحف ولا أوضعوا بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحها ألفا أخرى، ونحو (أولا أذبحنه). 5 - وفي قوله تعالى عن المنافقين يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال الألوسي: أي يطلبون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم، وإلقاء الرعب في قلوبكم، وهذا هو المروي عن الضحاك. وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين.

[سورة التوبة (9): آية 49]

وبعد أن أجملت المجموعة السابقة موقف المنافقين جملة من النفير تأتي الآن مجموعات كل مجموعة تتحدث عن نموذج من نماذج النفاق من خلال موقفهم من النفير. النموذج الأول: نموذج يعتذر عن الجهاد بحجة ظاهرها أنها حجة يمليها الدين وهو كاذب منافق. وهذا هو النموذج وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي أي في التخلف عن الجهاد والنفير وَلا تَفْتِنِّي أي ولا توقعني في الفتنة- وهي الإثم- بألا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت، أو لا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، والآية عامة تدخل فيها صور كثيرة وسبب النزول يحدد أحد معانيها وسنذكره أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها بتخلفهم عما فرضه الله وأي فتنة أعظم من القعود عن الجهاد وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب لأن أسباب الإحاطة معهم، هذا هو النموذج الأول وأصحابه يعتذرون عن الجهاد بصورة عذر ظاهره شرعي وهم منافقون في الحقيقة بدليل عواطفهم التي عبرت عنها الآية اللاحقة وهي إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي ظفر وغنيمة في غزوة تَسُؤْهُمْ لأن عواطفهم كافرة لا تفرح لفرح أهل الإيمان وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ أي نكبة وشدة في بعض غزواتك يَقُولُوا مفتخرين بشدة احتراسهم، راغبين بأنفسهم أن يصيبهم ما أصاب المؤمنين قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم مِنْ قَبْلُ أي من قبل ما حدث من النكبة والشدة وَيَتَوَلَّوْا أي ويعرضوا وَهُمْ فَرِحُونَ أي مسرورون وهنا يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء ثلاثة معان. المعني الأول قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي ما قضى لنا من خير وشر هُوَ مَوْلانا الذي يتولانا ونتولاه وهو الذي يرعى شأننا كله، ومهما أصابنا من شئ فهو- وإن كان ظاهره شرا فإنه في النهاية- خير لنا في دنيانا وأخرانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي وحق المؤمنين ألا يتكلوا على غير الله ونحن متوكلون على ربنا ومنفذون أمره فلا تشمتوا بما يصيبنا فهو الذي يعوض علينا ويبدل عسرنا يسرا وهزيمتنا انتصارا. المعنى الثاني قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي تنتظرون بنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ تثنية حسنى وهما هنا النصر أو الشهادة وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى السوءيين وهما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ كما عذب غيركم من الكافرين أَوْ بِأَيْدِينا بأن نقتلكم بكفركم فَتَرَبَّصُوا أي بنا ما ذكرنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أي منتظرون ما هو عاقبتكم. المعنى الثالث الذي أمر الله رسوله أن يقوله لهؤلاء المنافقين قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي طائعين أو

[سورة التوبة (9): آية 54]

مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي إنفاقكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها. ثم علل سبب عدم قبول نفقتهم بقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ والله إنما يتقبل من المتقين ومعنى فاسقين: أي متمردين عاتين ومعنى قوله: طوعا في الآية أي: من غير إلزام من الله ورسوله، ومعنى قوله كرها: أي ملزمين، وسمي الإلزام إكراها لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه، ثم ذكر سببا آخر لعدم قبول نفقاتهم فقال: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا ما يأتي أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ أي كفرهم وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى جمع كسلان. فكفرهم أولا وكسلهم عن الصلاة ثانيا، ورياؤهم بالنفقة ثالثا وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ هذه الأسباب الثلاثة منعتهم قبول صدقتهم، وقد وصفهم من قبل بالإنفاق الطوعي أحيانا، وسلب الإنفاق الطوعي عنهم أصلا هنا لأن المراد بطوعهم هناك أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم وما طوعهم إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار، وبعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المنافقين ما رأيناه نهاه بعد ذلك أن يعجبه ما هم فيه من الدنيا فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي لا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا ومعنى الإعجاب أن تسر بالشئ سرور راض به، متعجب من حسنه، ثم بين أن ما أوتوه ما هو إلا عذاب لهم فقال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي فإن الله أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له، أو بنهب أموالهم وسبي أولادهم، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب ومع هذا العذاب عذاب آخر وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أصل الزهوق: الخروج بصعوبة. أي وتخرج أرواحهم وهم كفرة، وفي ذلك العذاب الأكبر، وفي الآية دليل على بطلان قول المعتزلة بوجوب الأصلح على الله وبأن المعاصي ليست بإرادة الله، لأن الآية أخبرت أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب، والإماتة على الكفر، وإرادة العذاب إرادة لما يعذب به صاحبه وكل ذلك حجة على المعتزلة. ولنرجع إلى السياق: فبعد أن صور الله لنا هذا النموذج وأخبرنا عما يقول وعما نجيبه، ونهانا عن الإعجاب بما هم فيه أكمل وصفهم بآيتين فقال: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي لمن جملة المسلمين وَما هُمْ مِنْكُمْ لأن عواطفهم مع الكافرين وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي يخافون فمن جبنهم وخوفهم أن تقتلوهم، يتظاهرون بالإسلام تقية لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي مكانا يلجئون إليه متحصنين في

فائدة

رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أَوْ مَغاراتٍ أي أو غيران جمع غار وهي التي في رأس الجبل أَوْ مُدَّخَلًا أو نفقا يندسون فيه لَوَلَّوْا إِلَيْهِ أي لأقبلوا نحوه وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي وهم يسرعون إسراعا لا يردهم شئ ولكنهم لا يجدون مهربا منكم فيتظاهرون بغير الحقيقة لكم. فائدة: النموذج العملي لهذا الصنف تحدده أسباب النزول وقد أخرج محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني، فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك». ففي الجد بن قيس نزلت هذه وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي الآية: أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم. وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من سيدكم يا بني سلمة» قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أدوأ من البخل؟ ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن البراء بن معرور». ولنعد إلى السياق: لاحظنا أن المجموعة الأولى من هذا المقطع كانت دعوة إلى النفير، وأن المجموعة الثانية كانت في وصف من يتخلف عن النفير، وجاءت المجموعة الثالثة تحدد مواصفات نموذج من نماذج المنافقين الذين يتخلفون عن النفير، والآن تأتي مجموعة رابعة تحدد مواصفات صنف ثان من المنافقين وهذه هي: وَمِنْهُمْ أي ومن المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ أي يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا بالسخط، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم لكان خيرا لهم وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كفانا فضل الله وصنعه سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أي سيرزق الله، ويؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

[سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يعطينا من فضله وقد تضمنت الآية آدابا جمة، إذ علمتنا الرضا بعطاء الله، والتوكل على الله وحده، وعلمتنا أن نرغب إلى الله وحده في التوفيق لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وتصديق أخباره، والاقتفاء بآثاره، ولما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وحدد مصارفها وبين مواضعها التي توضع فيها فقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الفقير هو الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال، والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئا فهو أضعف حالا منه هذا فهم الحنفية وعند الشافعي العكس وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أي هم السعاة الذين يقبضونها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ على الإسلام وهم زعماء في قبائلهم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريرا على الإسلام أو لتشجيع أمثالهم على الإسلام وَفِي الرِّقابِ أي المكاتبون على مذهب الشافعية والحنفية. وعند المالكية والحنابلة الرقاب يدخل فيها أن يشتري رقبة فيعتقها استقلالا قال ابن عباس والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، والمكاتب: هو العبد الذي يتعاقد مع سيده على أن يشتري حريته في مقابل ثمن، فإذا أداه أصبح حرا وَالْغارِمِينَ أي الذين ركبتهم الديون بسبب مباح أو مندوب أو معصية وتابوا منها وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أي فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم، أو الغزاة الذين لا رواتب لهم وَابْنِ السَّبِيلِ أي المسافر المنقطع عن ماله ولو كان غنيا. قال ابن كثير: وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شئ فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله هذه الصدقات لهؤلاء الأصناف فريضة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمصلحة وبما يسع العباد وبما لا يشق عليهم حَكِيمٌ في الفرض والتوزيع وفي كل شئ وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسما لأطماعهم وإشعارا بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها؟ واستعمال كلمة إِنَّمَا في ابتداء الآية يفيد قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي: هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم، واستعمل (اللام) للأصناف الأربعة الأولى، (وفي) للأصناف الأربعة الثانية، وأعاد ذكر (في) قبل الصنفين الأخيرين، ليفيد أن الأربعة الأخيرة أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره فنبه باستعمال (في) على أنهم

فوائد

أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنة لها، وتكرير (في) يفيد فضل ترجيح صنفي: في سبيل الله، وابن السبيل، على الرقاب، والغارمين، وعلى هذا فأفضل ما تنفق فيه الزكاة: الإنفاق على الغزاة، وابن السبيل، هذا ما أفاده النسفي. وهل لا بد من صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية، أو أنه يكفي أن تصرف إلى بعضها؟ قولان. الحنفية والمالكية على الثاني، والشافعية على الأول. وقد أسقط الصحابة سهم المؤلفة قلوبهم في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم، فإذا عاد الإسلام إلى غربته ثم عادله سلطانه على ضعف فلا شك في جواز إعادة سهم المؤلفة قلوبهم، وبهذا ينتهي المعنى الحرفي لهذه المجموعة التي حددت مواصفات صنف من المنافقين، وجاءت آية الزكاة في سياق تحديد مواصفات هذا الصنف للحكمة التي رأيناها وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الرابعة التي تحدد مواصفات صنف آخر من أصناف المنافقين نذكر الفوائد التي لها علاقة بهذه المجموعة. فوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ قال ابن كثير: (قال ابن جريج: أخبرني داود بن عاصم قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت، قال: ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية، وقال قتادة في هذه الآية: وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة، فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟» ثم قال نبي الله: «احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم». وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن». وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان ... عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة واسمه حرقوص لما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين فقال له: اعدل فإنك لم تعدل. فقال: «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه مقفيا «إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء).

2 - ومما يساعد على فهم آية الزكاة هذه النقول: أ- روى الإمام أبو داود .. عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتي رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك». ب- روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود .. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي». ج- روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد جيد قوي .. عن عبيد الله بن عدي ابن الخيار: أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال: «إن شئتما أعطيتكم ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب». د- قال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: قرأ عمر رضي الله عنه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قال: هم أهل الكتاب. أقول: هذا اتجاه لا يوافق عليه جماهير العلماء فالزكوات في المسلمين، وأما فقراء أهل الكتاب فيعطون من بيت مال المسلمين. هـ- روى الشيخان .. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان». قالوا: فما المسكين يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا». و- ثبت في صحيح مسلم ... عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال: «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس». ز- روى الإمام أحمد ... عن صفوان بن أمية قال: «أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي». ح- ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم».

ط- ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد: أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر، وعلقمة بن علاثة، وزيد الخير وقال: «أتألفهم». ي- روى مسلم ... عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها». قال ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش- أو قال سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قرابة قومه فيقولون: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش- أو قال سدادا من عيش- فما سواهن من المسألة سحت يأكلها صاحبها سحتا». ك- روى مسلم ... عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا عليه» فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك». ل- روى الإمام أحمد ... عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعو الله لصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقول: يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين، وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع، ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة، فيقول الله: صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم، فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته». م- روى الإمام أبو داود وابن ماجه ... عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني». س- روى أبو داود .. عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، وابن السبيل، أو جار فقير فيهدي لك، أو يدعوك». ومما قاله الألوسي في آية الزكاة:

«والمشهور أن اللام- أي في قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ- للملك عند الشافعية، وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا: لا بد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت، ولا تصرف إلى صنف مثلا، ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف، بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك، وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم، ويدل له قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإنه صلى الله عليه وسلم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم، ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين، فدل ذلك على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد، ودليل جواز الاقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بال مجاز عن الجنس، فلو حلف لا يتزوج النساء، ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد، فالمعنى في الآية: أن جنس الصدقة لجنس الفقير، فيجوز الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم إذ يصير المعنى: إن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد، ولا يرد- خالعني على ما في يدي من الدراهم، ولا شئ في يدها- فإنه يلزمها ثلاثة، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام، وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين، لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس. فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز، وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير. وما ذهبنا إليه هو المروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن جبير. وعطاء. وسفيان الثوري. وأحمد بن حنبل. ومالك عليهم الرحمة وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلا على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه، أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي، لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا ويصح تعلق اللام (وفي) معا فيصح أن يقال: هذا الشئ مصروف في كذا ولكذا، بخلاف تقدير مملوكة، فإنه إنما يلتئم مع اللام عند الانتهاء إلى (في) يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها، فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين أ. هـ. وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ.

ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه، وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد- وهو مفتي الشافعية في عصره- يفتي به». وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر المنقطع عن ماله. والاستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية. وفي فتح القدير أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته، وألحق به كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده. وفي المحيط وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة، لأنه فقير يدا كابن السبيل. وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال: والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل، وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه بمنزلة ابن السبيل، وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل أخذ الزكاة، وكذا إذا كان جاحدا وله عليه بينة عادلة، وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضا ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه، فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك أ. هـ. والمراد من الدين ما يبلغ نصابا كما لا يخفى. وفي فتح القدير ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز، وإن كان بحيث لا يعطى لو طلبت جاز اه. وهو مقيد لعموم ما في الخانية، والمراد من المهر ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة، ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره، ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما لا ينبغي للمرأة بخلاف غيره، ولكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب، أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة، وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما، وبه يفتى للاحتياط، وعند الإمام يجوز مطلقا». وقال الألوسي: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم كانوا ثلاثة أصناف. صنف كان يؤلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا. وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن. والأقرع بن حابس. والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة والسلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام، وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين، وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شئ من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الزكاة).

[سورة التوبة (9): آية 61]

(وقال قوم: لم يسقط سهم هذا الصنف، وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي. وأبي ثور، وروي ذلك عن الحسن، وقال أحمد: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك). وقال الألوسي في كلامه عن سهم وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ (وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام، أن من كان غنيا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقة، وإن كان غنيا في مصره وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تحل للغازي الغني). 3 - في كتابنا (الإسلام) في الفصل الأول منه، وفي الفصل الثالث منه بيان لكيفية الزكاة هي العمود الفقري في نظام الاقتصاد في الإسلام، وهي التي تبين بدقة الفوارق بين النظام الإسلامي وغيره من الأنظمة، كما أنها لو أحسن تطبيقها تحل المشاكل كلها، من مشكلة الفقر، إلى مشكلة الدراسة والعلم، إلى مشكلة السكن والبطالة، إلى مشكلة العزوبة، إلى مشكلة الجهاد، وإن أهم ما يجب أن يصرف فيه المسلمون زكاتهم ما يؤدي إلى إقامة الدعوة إلى الله، وإقامة الجهاد، ولعله من أجل هذا المعنى جاءت آية الزكاة في معرض سياق الأمر بالنفير، لأن كثيرا من احتياجات الجهاد تغطيها الزكاة، فلو أننا اشترينا لكل طالب بالغ غير غني- ولو كان أبوه غنيا- سلاحا، ولو أننا اشترينا لكل فقير سلاحا وملكناهم إياه من مال الزكاة جاز، ولو أننا اشترينا ذخيرة وملكناها للمجاهدين الذي لا يستطيعون شراء ذخيرة جاز، ولو أننا فرغنا ناسا وأعطيناهم رواتب من أجل الدعوة والجهاد من مال الزكاة جاز، ولو كانوا يملكون في الأصل نصابا، وقد أفتى الكثيرون بجواز إعطاء الزكاة للحركات الجهادية، لكني أقول: إن على هذه الحركات إذا عرفت أن شيئا من مال الزكاة أصبح في يدها أن تراعى الدفة الفقهية في الإنفاق. ولننتقل الآن إلى المجموعة الخامسة في هذا المقطع وهي تحدد مواصفات صنف ثالث من المنافقين وهذه هي: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ أي ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله بالكلام فيه وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قولهم هذا هو إيذاؤهم له، والأذن: هو الرجل يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذن سامعة

فائدة

قُلْ ردا عليهم أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ قصدوا بهذا التعبير مذمته عليه الصلاة والسلام، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرة، ففسره الله تعالى بما هو مدح وثناء عليه، كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، إذ هو أذن في الحق والخير وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك. ثم فسر الله تعالى كيف أنه عليه الصلاة والسلام أذن خير فقال: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يصدق بالله لما عرفه من عظمته وجلاله وآياته وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار كلامهم والملاحظ أنه قال يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فعدى يؤمن هنا بالباء وقال وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فعدى الفعل يؤمن باللام لأنه ضمن يؤمن الأولى معنى التصديق الذي هو ضد الكفر، وضمن يؤمن الثانية معنى السماع من المؤمنين وأنه يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه؛ لكونهم صادقين عنده وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ معطوفة على قوله هُوَ أُذُنٌ أي هو أذن، ورحمة للذين آمنوا منكم، فكما أنه شديد الإصغاء للمؤمنين مع التصديق لهم فهو رحمة خالصة بهم، فبه استنقذهم الله من الكفر إلى الإيمان، وبه طهرهم الله من نجاسة الشرك وأدران الحيوانية وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة. فائدة: إن الإصغاء الشديد من أبرز صفات القادة العظام، والمهذبين الكبار، وقد أبرز ما للإصغاء من أثر عظيم في تأليف القلوب كاتب أمريكي في كتاب صدر تحت عنوان «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» ولكن المنافقين عليهم اللعنة يرون الميزة نقيصة، وقد رأينا من الآية كيف أن الله وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالإصغاء الشديد مع الاحتراس، فلا يصدق إلا أهل الإيمان، ووصفه بالرحمة الكاملة لهؤلاء. وعلى الدعاة إلى الله أن يلاحظوا هذين الخلقين، ثم أكمل الله تصوير الصنف المشار إليه من أهل النفاق فقال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ يا مسلمون لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق، ولكنهم يجهلون- جهل عمى وعمه- عظمة الله ومقام رسوله؛ فيحرصون على إرضاء المسلمين بالأيمان الكاذبة خداعا لهم أَلَمْ يَعْلَمُوا أي ألم يتحققوا أَنَّهُ أي أن الأمر والشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يشاقق ويحارب ويخالف

[سورة التوبة (9): آية 64]

ويجاوز الحد في الخلاف بأن يكون في حياته محاربا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحقت له خالِداً فِيها جزاء على جرمه الذي لا جرم أعظم منه ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ وأي ذلة أكبر من دخول جهنم والخلود فيها؟ ثم وصف الله حال هؤلاء المنافقين في خشيتهم من الفضيحة فقال: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ أي تخبرهم بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الكفر والنفاق والمشاقة لله والرسول صلى الله عليه وسلم قُلِ اسْتَهْزِؤُا هذا تهديد لهم إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر ما كنتم تحذرونه أي ما كنتم تحذرون إظهاره من نفاقكم، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عما قالوه لكان جوابهم لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فعليهم لعنة الله أي حرم يهتكون؟ قُلْ يا محمد أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم الكاذب لأنه حتى على فرض صدقهم فإن جلال الله ومقام آياته ومقام رسوله عليه الصلاة والسلام لا يعتدى عليه جدا أو هزلا، ثم خاطبهم الله موبخا لا تَعْتَذِرُوا أي لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي قد أظهرتم كفركم باستهزائكم بعد إظهاركم الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ بإصرارهم على النفاق وعدم توبتهم منه. وهكذا انتهت هذه المجموعة بعد أن حددت مواصفات نوع من أنواع المنافقين في سياق وصف من يتخلف عن النفير العام بالنفاق، فمن تتبع أقوال وأحوال من يتخلف عن النفير فإنه يجدهم واحدا من هذه الأصناف التي مرت والتي ستمر معنا في هذه السورة بكل خصائصه، وقبل أن ننتقل إلى المجموعة السادسة التي تحدد بدقة شاملة صفات المنافقين بشكل عام، وصفات المؤمنين، وما أعد الله لكل، ننقل الفوائد التي لها علاقة بهذه المجموعة. الفوائد: 1 - هذه المجموعة تحدثت عن منافقين يطعنون في القيادة النبوية، ويتظاهرون بأعلى درجات الانتماء، ويحرصون على إرضاء الصف الإسلامي، وإذا حوسبوا على كثير من تصرفاتهم، ادعوا أنهم يفعلونها من قبيل اللطف والظرف والنكتة، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مقاتلين في سبيل الله، وهؤلاء منافقون، من حيث إن إرضاءهم للصف

مصطنع؛ ما داموا يحاربون الله ورسوله، ومن حيث كفرهم بالاعتداء على مقام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - قال قتادة في سبب نزول قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ .. قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمير، قال فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد حق ولأنت شر من الحمار قال: فسعى بها الرجل [أي المسلم الصالح] إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: «ما حملك على الذي قلت؟» فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق، وكذب الكاذب، فأنزل الله الآية. [والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب]. 3 - وهذه روايات منها ما هو سبب نزول ومنها ما يفسر بعض آيات المجموعة فلنرها: روى عبد الله بن وهب بسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فقال عبد الله ابن عمر وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. - وقال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني أمية ابن زيد، من بني عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي ابن حمير يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا- والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال- إرجافا وترهيبا للمؤمنين- فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا». فانطلق إليهم عمار فقال: ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت- ورسول الله واقف على راحلته- فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال

[سورة التوبة (9): آية 67]

مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يوجد له أثر». وقبل أن ننتقل إلى المجموعة السادسة نحب أن نذكر ببعض ما مر: في المقطع الأول من القسم الثاني جاءت حتى الآية الأخيرة التي عرضناها خمس مجموعات: المجموعة الأولى: حضت على النفير. المجموعة الثانية: حكمت على الذين يستأذنون في ترك الجهاد بالنفاق. المجموعة الثالثة: حدثتنا عن نوع من المنافقين يعتذرون عن الجهاد بعذر ظاهره شرعي. المجموعة الرابعة: حدثتنا عن نوع من المنافقين طماع لماز. المجموعة الخامسة: حدثتنا عن نوع من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاولون إرضاء المؤمنين ويبررون أفعالهم بأنها مزاح. وها نحن وصلنا إلى المجموعة السادسة في المقطع. وهي المجموعة الأخيرة فيه، وفيها تحديد لصفات المنافقين والمؤمنين، فليتأملها القارئ بدقة: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي كأنهم نفس واحدة، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيب لهم في ادعائهم أنهم من المسلمين، فإذا رأيت إنسانا مستور الحال يوالي منافقا مكشوف النفاق فاعلم أنه مظنة النفاق يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والعصيان والمخالفة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي عن الطاعة والإيمان، فإذا رأوا خيرا نهوا عنه، وإذا أقبل إنسان على تطبيق سنة أنكروا عليه، وإذا دعوا فإنهم يدعون إلى شر وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ شحا بالمبار والصدقات والإنفاق في سبيل الله ولا ينفي هذا أن يكون عندهم كرم جاهلي، وإنما المنفي أن يكونوا كرماء في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمره أو أغفلوا ذكره فَنَسِيَهُمْ أي فتركهم من رحمته وفضله إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي هم الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد، والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش، الذي هو اسم الفاسق الذي وصف به المنافقون حين بالغ النص في ذمهم، وهكذا وصف المنافقون بما يستطيع المسلم أن يكتشفهم من

[سورة التوبة (9): آية 68]

خلال أوصافهم: ولاؤهم لبعضهم، أمرهم بالمنكر، نهيهم عن المعروف، بخلهم عن الإنفاق في سبيل الله، نسيانهم ربهم بترك الصلاة أو بالكسل فيها. وبعد أن حدد الله صفات المنافقين ذكر ما أعد لهم وللكافرين من العذاب وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ في قوله تعالى (هي حسبهم) ما يدل على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملعونين وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم معهم في العاجل والآجل لا ينفكون عنه، والعذاب العاجل هو ما يقاسون من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن؛ خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونول العذاب إن اطلع على أسرارهم، وبعد أن وصفهم الله وذكر ما أعده لهم ضرب لهم مثلا فقال كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم، أو فعلتم مثل الذين من قبلكم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً كانت أجسامهم أمتن، وأعمارهم أطول، وأولادهم أكثر، وجمعهم أكثر فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي تلذذوا بملاذ الدنيا، والخلاق: النصيب فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أي فتلذذتم بحظكم من الدنيا كما تلذذ الذي من قبلكم بحظهم من الدنيا وبعضهم فسر الخلاق هنا بالدين، فيكون استمتاعهم بدينهم جعلهم إياه متعة يتمتعون بها استهزاء ومحل نكتة وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا الخوض: الدخول في الباطل واللهو، والمعنى: وخضتم في اللهو والباطل كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، وإنما قدم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ مع أن قوله تعالى: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ أي قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ أي مدائن قوم لوط ومعنى ائتفاكهن: انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم؛ لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر وتكذيب الرسل، وبعد أن وصف الله المنافقين وجعل مثلهم مثل من قبلهم في الخوض بالباطل والاستمتاع، ولفت نظرهم إلى

[سورة التوبة (9): آية 71]

ما أصاب الأمم الظالمة، بعد هذا كله وصف الله المؤمنين الخلص وما أعد لهم فقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي في التناصر والتراحم، فهم يد على من سواهم، يتناصرون فيما بينهم، ويحاربون من عداهم، ونعوذ بالله من حال أهل عصرنا، فقد أصبح أبناء المسلمين بعضهم أعداء بعض، كل ينصر طبقة من طبقات الكفر والنفاق والفسوق يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يحبون المعروف ويأمرون به، ويكرهون المنكر وينهون عنه، ونعوذ بالله من حال لا يدعى فيه إلى خير، ولا ينهى فيها عن شر وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ في كل ظرف، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ لأهلها، ونعوذ بالله من حال تقام بها الصلاة على الكسل والظرف، وتؤدى الزكاة- إن أديت- لغير أهلها وَيُطِيعُونَ اللَّهَ في كتابه وَرَسُولَهُ في أمره وسنته أُولئِكَ أي من اتصف بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ في الدنيا والآخرة، ومن رحمته إياهم في الدنيا أن يؤلف بين قلوبهم. ومن رأى حال المسلمين في عصرنا في تقصير عامة أفرادهم بمجموع هذه الصفات، عرف سبب تردي أحوالهم وكثرة اختلافهم. إن علينا أن نراعي في تربية أنفسنا وغيرنا التحقق بمجموع هذه الصفات، ووجود السين في قوله تعالى سَيَرْحَمُهُمُ يفيد وجود الرحمة لا محالة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب على كل شئ، قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب حَكِيمٌ أي واضع كلا من الثواب والعقاب موضعه وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي يطيب فيها العيش لحسنها وما فيها فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة، وعدن: اسم مدينة في الجنة على القول الراجح وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي وشئ من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة ذلِكَ إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ دون ما يعده الناس فوزا، وهكذا بدأ المقطع في خطاب المؤمنين، وانتهى بوصف المؤمنين الخلص، وما أعده الله لهم. فوائد: 1 - في هذه المجموعة والمجموعات التي قبلها تحددت المعالم الكثيرة للشخصية المؤمنة، والشخصية المنافقة، وتحديد معالم الشخصية المنافقة يأتي بين يدي الأمر الأول في المقطع اللاحق، الذي يأمر بجهاد الكافرين والمنافقين، وتحديد معالم الشخصية المؤمنة يأتي في سياق الأمر بالنفير؛ ليعرف من هم هؤلاء الذين يستجيبون للنفير في سبيل الله، وهي معان يحتاجها القائد، ويحتاجها المسلم، وعلى المربين أن يلاحظوها.

2 - تذكر بعض الروايات أن المنافقين الذين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر كانوا تسعة وثلاثين رجلا، ولقد شارك بعض المنافقين بالنفير- كما رأينا وكما سنرى- وأيا كان العدد فإن هذه النماذج التي ذكرتها السورة نماذج مستمرة في الحياة البشرية، ولذلك فإنه من خلال إدراك طبيعتها وأقوالها وأفعالها نستطيع أن نتعرف على أشباهها في كل جيل وعصر. 3 - كل ما مر- وما سيمر- معنا في هذه السورة أمور تكتنف عملية الجهاد الإسلامي أولها صلة فيه، فمن عرف هذه السورة استطاع أن يكتشف- بنور القرآن- مواقع الناس من حوله في موضوع إقامة فريضة الجهاد. 4 - بمناسبة قوله تعالى كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ نذكر ما رواه ابن جريج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وباعا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: ومن هم يا رسول الله أهل الكتاب؟ قال: «فمن». 5 - وبمناسبة قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .. نذكر ما جاء في الصحيح: أ- «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. ب- «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر». 6 - وبمناسبة قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ .. نذكر بعض ما وصف به رسولنا عليه الصلاة والسلام هذه الجنات: جاء في الصحيحين .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليها، لا يرى بعضهم بعضا». وفيهما أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها»

قالوا: يا رسول الله أفلا نخبر الناس قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن». وفي الصحيحين .. عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة كما ترون الكوكب في السماء» وروى الإمام أحمد .. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة» قيل: يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال: «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو». وفي مسند الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله: حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: «لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران: من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه». وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لغرفا، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» فقام أعرابي فقال: يا رسول الله لمن هي؟ فقال «لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام». وروى ابن ماجه ... عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل من مشمر إلى الجنة؟، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: «إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله». وروى الإمام مالك رحمة الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عزّ وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شئ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا». وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عزّ وجل هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا ما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر». رواه البزار وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة: هذا عندي علي شرط الصحيح. وبهذا ننهي الكلام عن المقطع الأول من القسم الثاني

المقطع الثاني من القسم الثاني

المقطع الثاني من القسم الثاني يبدأ هذا المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ. وينتهي بقوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ. ويأتي بعده مباشرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. وهذه الآية هي بداية المقطع الثالث من القسم الثاني. وقد جاء المقطع الثاني مكملا للمقطع الأول في قسمه، من حيث إنه يفضح المنافقين، ويوضح صفات المؤمنين من خلال الموقف من النفير والجهاد والعدو. ويبدأ هذا المقطع بالأمر بجهاد الكفار والمنافقين، بعد أن تحددت معالم النفاق. في القسم الأول من السورة أوامر بقتال المشركين وأهل الكتاب، وفي القسم الثاني يأتي الأمر بقتال الكفار والمنافقين، وإذ استشرى النفاق في عصرنا، وإذ يغيب عن الكثيرين أن جهاد الكفار واجب، وجهاد المنافقين واجب، فإن علينا أن نزيد من تأملنا لآيات هذا المقطع. يمتد المقطع الثاني من الآية (73) إلى نهاية الآية (118) وهذا هو: [سورة التوبة (9): الآيات 73 الى 118] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِي

المعنى العام

المعنى العام: يبدأ المقطع بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، وأخبره بأن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة، ثم بين بعد ذلك سببا للأمر بجهاد المنافقين، وهو قولهم كلمة الكفر بعد إسلامهم، وإرادتهم الكيد للإسلام مع كثرة ما أنعمه الله عليهم، وإن تظاهروا بغير هذا، وحلفوا عليه. ثم ندبهم إلى التوبة النصوح، وهددهم بعذاب الدنيا والآخرة. ثم أخبر الله عن صنف من المنافقين، أعطى الله عهده وميثاقه، لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين، فما وفى بما

قال، ولا صدق بما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله عزّ وجل يوم القيامة عياذا بالله. وهكذا يعرض علينا السياق نموذجا جديدا للنفاق وأهله، ومن قبل أخبرنا الله عن المنافقين بأنهم يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، وبعد ذكر النموذج من المنافقين ذكر الله عزّ وجل صفة أخرى من صفاتهم، وهي أنه لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى المتصدقون لا يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا إن الله لغني عن صدقة هذا. ثم أخبر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم؛ بسبب كفرهم بالله ورسوله، ولأن سنة الله أنه لا يهدي القوم الفاسقين. وهكذا استمر السياق يصور لنا المنافقين في أحوالهم وأقوالهم، في سياق الأمر بالنفير وموقفهم منه. وبعد هذه الجولات الطويلة، تأتي الآن صورتان للتخلف عن النفير: صورة التخلف المنافق، وصورة التخلف الاضطراري للمؤمنين، فأما التخلف المنافق فتخلف يرافقه فرح، وكراهية للجهاد في سبيل الله، ومحاولة للتثبيط عن النفير، وأشر وبطر، ومن ثم فإن أمثال هؤلاء لا يستأهلون شرف الجهاد، ولا يستأهلون كرامة الصلاة عليهم إذا ماتوا، ولا يستأهلون أن ينظر الإنسان إلى شئ مما هم فيه بإعجاب، كيف وهم لا يستقبلون سور الجهاد إلا بالاستئذان عنه، والرغبة في القعود، فهؤلاء يفرون من جهاد الكفار، وهؤلاء هم الكاذبون، فهذه صورة التخلف الذي هو علامة نفاق، ثم بين تعالى أن أصحاب الأعذار الحقيقية لا حرج على من قعد منهم عن القتال مع وجود العواطف الإيمانية عندهم فبين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى، والعرج، ونحوهما، ولهذا بدأ السياق به، ومنها ما هو عارض، بسبب مرض عن لصاحبه في بدنه، شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقر لا يقدر معه صاحبه على التجهيز للحرب، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، وهم محسنون في أنفسهم، وحزانى على تركهم الجهاد، وعواطفهم مع المسلمين، فهؤلاء

يمثلون ظاهرة التخلف الذي لا حرج فيه، وإنما ظاهرة التخلف التي فيها حرج هي ظاهرة التخلف الذي لا يرافقه عذر حقيقي جسمي أو مالي، فهذا الذي هو علامة أهل النفاق، الذين يتخلفون ويعتذرون ويحلفون، ثم أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين، وأن كفر هؤلاء ونفاقهم أعظم من كفر ونفاق غيرهم وأشد، كما أنهم أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من هؤلاء الأعراب من يعتبر ما ينفق في سبيل الله غرامة وخسارة، وينتظر بالمسلمين الحوادث، والآفات وأن تدور عليهم الدوائر، والأمر منعكس عليهم، وفي المقابل فهناك القسم الممدوح من الأعراب، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله، ويبتغون بذلك دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم وقد حقق الله لهم ما أرادوه. وبعد أن ذكر الله عزّ وجل التخلف المشروع، والتخلف المرذول، وبين وضع الأعراب ومواقفهم، أخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم. ثم أخبر تعالى أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أنفسهم منافقون، مرنوا على النفاق، واستمروا عليه، وقد تهدد الله هؤلاء المنافقين بالعذاب الدنيوي مرة بعد مرة، ثم بالعذاب الأخروي. ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من التخلف غير ما مر، فالذي مر معنا نوعان: تخلف أهل النفاق، وتخلف أهل العذر، والآن يحدثنا السياق عن الذين تأخروا عن الجهاد كسلا، وميلا إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، وقد أقروا واعترفوا، بينهم وبين ربهم بذنوبهم، ولهم أعمال أخر صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام أن يأخذ من أموال الناس صدقة، ليطهروا ويزكوا، ووجود هذا الأمر في هذا السياق فيه إشعار لهؤلاء المذنبين بأن طريق تكفيرهم ذنبهم العظيم بالتخلف هو هذا، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهؤلاء المتصدقين، ثم هيج الله عباده على التوبة والصدقة، بتذكيرهم بقبوله التوبة، وأخذه الصدقات، وأنه التواب الرحيم. ثم أمر الله تعالى عباده جميعا أن يعملوا، وأعلمهم أن أعمالهم معروضة عليه، ثم طمع الله بعض المتخلفين بأن أمرهم إليه، إن شاء تاب وعفا، وإن شاء عذب. وهكذا ذكرت أنواع التخلف عن النفير، وصفات كل نوع ومواصفاته وحكمه وطريقه، ثم بعد ذلك يستمر السياق في عرض قضية النفاق، لأن السياق الخاص في هذا المقطع هو الأمر بقتال المنافقين، فلا بد من تعريتهم.

المعنى الحرفي

ومن ثم فإن السياق يقص علينا قصة مسجد الضرار، كنموذج على تصرفات المنافقين، إذ نجد هنا محاولة من محاولات المنافقين للتجمع للكيد للإسلام في ظل المسجد، فهم يريدون أن يستغلوا الإسلام للكيد للإسلام، وقد حرم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في هذا المسجد، فهدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرقه ليبقى الصف واحدا، ولتبقى مساجد المسلمين للمسلمين المؤمنين. ثم يختم الله هذا المقطع بإعلانه أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، في مقابل الجنة، ثم وصف المؤمنين الحقيقيين الذي هم مظنة الجهاد، ثم حرم على المؤمنين الاستغفار للمشركين، ثم بين سنته في إضلال من يستحق الضلال، ثم أعلن توبته عن كل من شارك في غزوة تبوك أي في النفير العام من المؤمنين. ثم أعلن توبته عن الثلاثة الذين خلفوا وبهذا انتهى المقطع. ملاحظة: يتألف المقطع من عدة مجموعات، وسنذكر في التفسير الحرفي كل مجموعة، ثم نقفي بالفوائد المتعلقة بها، وهكذا حتى نهاية المقطع. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فقد استأهلوا ذلك وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وأي مصير أسوأ من النار يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا أي المنافقون إذا ووجهوا بما قالوه من مخالفات تبرءوا وحلفوا وهم في هذا وهذا يكذبون وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ كالاستهزاء بآيات الله، وبشعائر الإسلام وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي أظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام قال النسفي: وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من الكيد للإسلام وأهله مما فوته الله عليهم وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وما أنكروا وما عابوا إلا منة الله عليهم، ومنة رسوله بما أوتوا فَإِنْ يَتُوبُوا أي عن النفاق يَكُ خَيْراً لَهُمْ أي يكن ثواب ذلك خيرا لهم في الدنيا والآخرة وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عن التوبة بأن يصروا على النفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما فِي الدُّنْيا بأنواع العذاب ومن ذلك تسليط المؤمنين عليهم وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ينجيهم مما يريده الله بهم من العذاب.

فوائد

هذه هي مقدمة المقطع، وفيها أمر بجهاد الكافرين والمنافقين، وتعليل لما استحق به هؤلاء المنافقين أن يجاهدوا. وجهاد المنافقين إما أن يكون جهاد حجة وغلظة، وإما أن يكون بالقتل والقتال، وإما أن يكون بإفساد المخططات على حسب ما هم فيه، وما يحتاجه جهادهم. قال ابن كثير: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة. وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وسيف للكفار وأهل الكتاب قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وسيف للمنافقين جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ. وسيف للبغاة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير، وقال ابن مسعود في قوله تعالى جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قال: بيده، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم. وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم. وعن مقاتل والربيع مثله، وقال الحسن وقتادة ومجاهد: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم، وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا، بحسب الأحوال. والله أعلم». اه. كلام ابن كثير. لاحظنا قوله رحمه الله (وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير) وقد أظهر المنافقون النفاق في عصرنا، وأصبحت لهم الشوكة والسلطان، وكل يوم يأتي يزداد الأمر شدة، والمسلمون متقاعسون عن القتال، متراخون عنه، يتهيبون في ذات الله، خوفا من لسان كافر أو منافق، فأين منهم قوله تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. فوائد: - وفي سبب نزول قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... نذكر هذه الروايات: قال عروة بن الزبير: نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت؛

أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها، فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخفت أن ينزل في القرآن، أو تصيبني قارعة، أو أن أخلط بخطيئته، فقلت: يا رسول الله، أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك، قال: فدعا الجلاس فقال: «يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب؟» فحلف، فأنزل الله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. وقال محمد بن إسحاق: كان الذي قال تلك المقالة- فيما بلغني- الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عليه رجل كان في حجره، يقال له عمير بن سعد، فأنكرها، فحلف بالله ما قالها، فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع، وحسنت توبته، فيما بلغني. وقال ابن جرير .. عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم فأنزل الله عزّ وجل يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. وقوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل في عبد الله بن أبي، هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: نزلت في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في غزوة تبوك، في بعض تلك الليالي، في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلا، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية، وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة .. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقود به، وعمار يسوق الناقة- أو أنا أسوقه وعمار يقوده- حتى إذا كنا بالعقبة، فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها، قال فانبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، فصرخ بهم، فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عرفتم القوم؟» قلنا: لا يا رسول الله- وقد كانوا متلثمين- ولكنا قد عرفنا الركاب قال: «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. وهل تدرون ما أرادوا؟» قلنا: لا، قال «أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة، فيلقوه فيها». قلنا: يا رسول الله أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: «لا أكره أن

تتحدث العرب بينهم أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم- ثم قال- اللهم ارمهم بالدبيلة» قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك». وروى الإمام أحمد ... عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أمر مناديا فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة، ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة «قد، قد (¬1)» حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط نزل ورجع عمار فقال: «يا عمار، هل عرفت القوم؟» فقال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال: «هل تدري ما أرادوا؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه، قال: فسأل عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلا، فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو هذا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون، وهم متلثمون، فأرادوا سلوك العقبة، فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر حذيفة فرجع إليهم، فضرب وجوه رواحلهم، ففزعوا ورجعوا مقبوحين، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم، وما كانوا هموا به من الفتك به، صلوات الله وسلامه عليه، وأمرهما أن يكتما عليهم. وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق إلا أنه سمى جماعة منهم فالله أعلم. وكذا قد حكي في معجم الطبراني قاله البيهقي، ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم .. عن أبي الطفيل قال: كان بين رجل من أهل العقبة، وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذا سألك، فقال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب الله ¬

_ (¬1) أي حسبك.

[سورة التوبة (9): آية 75]

ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرة فمشى فقال: إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوما قد سبقوه، فلعنهم يومئذ. ويشهد لها أيضا ما رواه مسلم أيضا ... عن عمار بن ياسر قال: أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في أصحابي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط: ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار، يظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم» ولهذا كان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره- أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء- قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره، والله أعلم. وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ثم روى .. عن الزبير بن بكار أنه قال: هم معتب بن قشير، ووديعة بن ثابت، وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف، والحارث بن يزيد الطائي، وأوس بن قيظى، والحارث بن سويد، وسعد بن زرارة، وقيس بن فهد، وسويد وداعس من بني الحبلى، وقيس بن عمرو بن سهل، وزيد بن اللصيت، وسلالة ابن الحمام، وهما من بني قينقاع أظهروا الإسلام. وبعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين، وذكر موقفا من مواقفهم التي تهيج على جهادهم، يستمر السياق في عرض مواصفاتهم، وخصائصهم، وسماتهم: وَمِنْهُمْ أي ومن المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ أي المال لَنَصَّدَّقَنَّ أي لنتصدقن أي لنخرجن الصدقة منه وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بشكره بالإيمان والعمل الصالح على ما آتانا فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي أعطاهم الله المال ونالوا مناهم بَخِلُوا بِهِ أي منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي أعرضوا عن طاعة الله وهم مصرون على هذا الإعراض فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم، لأنه كان سببا فيه، فما أفظع العقاب، فليحذر أهل الإيمان من عمل يترتب عليه العقاب بالنفاق إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي أورثهم البخل نفاقا إلى يوم يلقونه جزاء فعلهم وهو يوم القيامة، ويمكن أن يكون المعنى: فأعقبهم هذا الطبع نفاقهم إلى يوم يلقون الله، ويمكن أن يكون فأعقبهم الله جزاء على فعلهم نفاقا إلى يوم يلقونه يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي وبسبب كونهم كاذبين وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخلاف في الوعد والكذب علامتي

[سورة التوبة (9): آية 78]

نفاق أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ أي ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه وَنَجْواهُمْ أي ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتدبير منعها وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه شئ، وهكذا عرفنا من خلال هذه الآيات أن من صفات المنافقين منع الصدقة، وانعدام الصلاح، وإخلاف الوعد والكذب، وهم- عليهم اللعنة- لا يكتفون بمنعهم الصدقات، بل يعيبون أهلها، كما ستقص علينا الآية الآتية: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ أي الذين يعيبون المتطوعين المتبرعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي: طاقتهم أي ويعيبون الذين لا يجدون إلا القليل فينفقون منه، فلا يسلم من لسانهم من أكثر من النفقة، ومن أقل فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي فيهزءون من المؤمنين المقلين، والمكثرين في الإنفاق سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي جازاهم على سخريتهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنهم كفار، والله لا يغفر لمن كفر به، والمعنى: وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم، وليس المراد بذكر السبعين التحديد والغاية، وإنما المراد التكثير، فالسبعون في لغة العرب تستعمل ويراد بها التكثير، ولا يراد منها عينها إلا إذا دل السياق على ذلك ذلِكَ أي عدم المغفرة بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بسبب كفرهم بالله ورسوله، ولا غفران للكافرين وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الإيمان، ما داموا مختارين للكفر والطغيان. وبهذا تنتهي هذه المجموعة في هذا السياق، وقد حددت مواصفات للمنافقين، في سياق الأمر بجهادهم، وحددت ما يستحقون من عقاب، وحددت بعض ما يتنافى مع الأمر بجهادهم كالاستغفار لهم وسنرى في أسباب النزول نماذج لهؤلاء ولنلاحظ أن سبب النزول يعتبر إحدى حالات ما يدخل تحت عموم النص ويبقى النص على عمومه ليسع كل ما يدخل تحته من حالات. فوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ .. يقول ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم .. عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك يا ثعلبة

قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال: ثم قال مرة أخرى فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزق ثعلبة مالا» قال: فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل واديا، من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل ثعلبة؟» فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره فقال: يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة وأنزل الله جل ثناؤه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية. قال: ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، رجلا من جهينة، ورجلا من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: «مرا بثعلبة، وبفلان- رجل من بني سليم- فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرءاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة. وإنما هي لي فأخذاها منه، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال: «يا ويح ثعلبة». قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي. فأنزل الله عزّ وجل وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية. قال وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: «إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني». فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل صدقته رجع إلى منزله، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي

من رسول الله، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يقبلها، فقبض أبو بكر ولم يقبلها، فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان رضي الله عنه فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان». أقول: هناك صحابي شهد بدرا اسمه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، فهذا حتما ليس هو صاحب القصة، فإما أن هناك وهما في اسم صاحب القصة وإما أن القصة كلها لا أصل لها فقد شكك بعضهم في أسانيدها وفي استقامة متنها، والآيات مستغنية عن القصة لفهمها. 2 - في سبب نزول قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ .. روى البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مرائي. وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ الآية، وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه وروى الإمام أحمد .. عن أبي السليل قال: وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال: حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وهو يقول: «من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة» قال: فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين، وأنا أريد أن أتصدق بهما، فأدركني ما يدرك ابن آدم، فعقدت على عمامتي، فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا ولا أصغر منه، ولا أذم، ببعير ساقه، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها فقال يا رسول الله أصدقة؟ قال: «نعم» قال: دونك هذه الناقة. قال: فلمزه رجل، فقال، هذا يتصدق بهذه، فو الله لهي خير منه، قال فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت بل هو خير منك ومنها» ثلاث مرات، ثم قال: «ويل لأصحاب المئين من الإبل» - ثلاثا- قالوا: إلا من يا رسول الله؟ قال: «إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال: «فقد أفلح المزهد المجهد» ثلاثا- المزهد في العيش والمجهد في العبادة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه رجل من

الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وقالوا إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع. وروى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما، فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله هذا صاع من تمر، بت ليلتي أجر بالجرير (أي الحبل) الماء حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال وقالوا: إن الله ورسوله لغنيان عن هذا، وما يصنعان بصاعك من شئ، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبق أحد غيرك» فقال له عبد الرحمن بن عوف: فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات: فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أمجنون أنت؟ قال: ليس بي جنون. قال: فعلت ما فعلت؟ قال: نعم؛ ما لي ثمانية آلاف. أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت» ولمزه المنافقون فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء، وهم كاذبون، إنما كان به متطوعا، فأنزل الله عزّ وجل عذره وعذر صاحبه المسكين الذين جاء بالصاع من التمر. 3 - في قال تعالى في كتابه اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ نقول: إن من كمال رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمة أنه كان إذا وجد رخصة في موضوع سار بها، حتى ينزل نهي جازم، ولاحتمال الرخصة في قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... فإنه عليه الصلاة والسلام بقى يستغفر لأهل النفاق، ويصلي عليهم، حتى نزل الأمر الجازم بالمنع. قال ابن كثير: (روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت هذه الآية أسمع ربي وقد رخص لي فيهم، فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة، لعل الله يغفر لهم» فقال الله من شدة غضبه عليهم: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية. وقال الشعبي: لما ثقل عبد الله بن أبي، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك؟» قال: الحباب بن عبد الله، قال: «بل أنت عبد الله بن عبد الله، إن الحباب اسم شيطان» قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو

[سورة التوبة (9): آية 81]

عرق وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه؟ فقال: «إن الله قال: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين». وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد وقتادة بن دعامة، ورواه ابن جرير بأسانيده. 4 - وفي قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال النسفي: (والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، وليس على التحديد والغاية. إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر الله لهم، لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به. والمعنى: وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم. وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية. ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير، فالقليل ما دون الثلاث، والكثير الثلاث فما فوقها، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية. والعدد أيضا نوعان شفع ووتر، وأول الأشفاع اثنان، وأول الأوتار ثلاثة، والواحد ليس بعدد، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين، لأن فيها أوتارا ثلاثة وأشفاعا ثلاثة، والعشرة كمال الحساب، لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة، كقولك اثنا عشر وثلاثة عشر إلى عشرين، والعشرون تكرير العشرة مرتين. والثلاثون تكريرها ثلاث مرات، وكذا إلى مائة. فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه، وكمال الحساب والكثرة منه. فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه، ولا غاية لأقصاه، فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا. والله أعلم). ثم تأتي الآن مجموعة ثانية في هذا المقطع تبين حال المنافقين حين يتخلفون عن الجهاد، وموقفهم من آيات الجهاد، وتذكر فيما بين ذلك ما يستأهلون من عقوبات معنوية فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ المنافقون الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان بِمَقْعَدِهِمْ أي بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي مخالفة لرسول الله، أي قعدوا لمخالفته، أو قعدوا مخالفين له وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فهم ليسوا كالمؤمنين الذين يسارعون إلى بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله، وكيف لا يكرهونه وليس فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإتيان وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي: قال بعضهم لبعض ذلك أو قالوا ذلك للمؤمنين

[سورة التوبة (9): آية 82]

تثبيطا قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ هذا استجهال لهم لأن من تصون من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً أي يضحكون قليلا على فرحهم بتخلفهم في الدنيا، ويبكون كثيرا جزاء في العقبى. إلا أنه أخرج بلفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، لا يكون غيره، وقد دلت الآية على أن فرحهم بالتخلف والقعود بالغ الغاية، فسيعاقبهم الله بما يقابل هذا الفرح جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي جزاء على كسبهم السيئ الذي هو أعمال النفاق فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي ردك من نفيرك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ لم يقل إليهم جميعا لأن منهم من يتوب من النفاق ويصلح حاله فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا هذه أول العقوبات المعنوية: منعهم من شرف الجهاد إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي أول ما دعيتم إلى النفير فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي مع من سيتخلف وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ أي من المنافقين ماتَ أَبَداً هذه هي العقوبة الثانية ألا يصلي على المنافقين صلاة الجنازة وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي ولا تقف على قبره داعيا له إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ هذا تعليل للنهي عن الصلاة عليهم، والوقوف على قبرهم، أي إنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم، لأنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا على ذلك وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ هذه الآية قد تقدم مثلها، وفي حكمة تكريرها قال النسفي: التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه، وأن يعتقد أنه مهم، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى فهذه العقوبة المعنوية الثالثة احتقار ما هم فيه من متاع، ثم زادنا الله بيانا عنهم وعن مواقفهم وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يجوز أن يراد سورة بتمامها، وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ أي آمرة بذلك اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ أي ذو اليسار والسعة مِنْهُمْ أي من المنافقين وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ الخوالف جمع خالفة، والخالفة المرأة، أي رضوا بأن يكونوا مع النساء وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الهلاك والشقاوة لكِنِ أي إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد فقد نهض إلى الغزو

[سورة التوبة (9): آية 89]

من هو خير منهم الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فنالوا شرف الدنيا والآخرة وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ في الدنيا والآخرة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بكل مطلوب أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ نسأل الله ألا يحرمنا إياها وأن يجعلنا منها في الفردوس الأعلى. وهكذا وصفت هذه المجموعة من الآيات حال هؤلاء المنافقين في تخلفهم عن الجهاد، وما ينبغي أن يقابلوا به، وما هو حال الإيمان في مباشرة الجهاد. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا نذكر بالحديث الذي رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله: إن كانت لكافية؟ فقال: «فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به. ونذكر بالحديث الذي أخرجاه في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن لا نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا» أخرجاه في الصحيحين. 2 - في سبب نزول قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً روى البخاري عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصا يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما خيرني الله فقال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وسأزيده على السبعين». قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجل آية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ وكذا رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبي، دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه، تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله

بن أبي، القائل يوم كذا، كذا وكذا- يعدد أيامه- قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال «أخر عني يا عمر» إني خيرت فاخترت، قد قيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت» قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره، حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم،- والله ورسوله أعلم- قال فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله عزّ وجل. وهكذا رواه الترمذي في التفسير وقال: حسن صحيح. 3 - بعد نزول قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على أحد من المنافقين، ولا يقوم على قبره، كما روى الإمام أحمد عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيرا قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها: «شأنكم بها» ولم يصل عليها، وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله، حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان، لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره- أي من الصحابة-. 4 - دل نهيه جل جلاله عن الصلاة على المنافقين، والقيام على قبورهم للاستغفار لهم، أن هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين، كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل: وما القيراطان؟ قال: «أصغرهما مثل أحد». وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات، فروى أبو داود ... عن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» انفرد بإخراجه أبو داود رحمه الله. 5 - علينا أن ننتبه جيدا في عصرنا إلى موضوع الصلاة، والاستغفار للمنافقين- إذ في عصرنا كثر النفاق وليس لنا دليل عليه- إلا أن نتفهم النصوص في شأنهم، فنعرفهم من خلال صفاتهم، وأقوالهم، ومن النفاق الصريح ادعاء الإسلام مع الانخراط في كل تكتل غير مسلم، وإعطاء الولاء لأهله على أساس غير الإسلام، إلا بتكليف من أهل الإسلام والعاملين له.

[سورة التوبة (9): آية 90]

ثم تأتي الآن مجموعة ثالثة تحدد مسألة العذر عن النفير، متى تصح ومتى لا تصح وخلال ذلك نتعرف على طبيعة النفاق وصفات المنافقين: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ المعذر هو المقصر في الأمر المتواني عنه، الذي يوهم أن له عذرا فيما فعل، ولا عذر له، أو المعتذر، والمراد هنا الاعتذار بالباطل لِيُؤْذَنَ لَهُمْ أي في ترك الجهاد والقعود وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان، فالمتخلفون ثلاثة: متخلف بعذر، ومتخلف بغير عذر ولكن يستأذن، ومتخلف بغير عذر ولا يستأذن أصلا، فهذا شرهم سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من هؤلاء المتخلفين غير المعتذرين والمستأذنين غير المعذورين عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم في الدنيا وفي الآخرة، ثم بين الله تعالى من هم المتخلفون بحق وهم معذورون عند الله بل مأجورون على نياتهم فقال لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ أي الهرمى والزمنى وَلا عَلَى الْمَرْضى فهذا النوع الثاني المقبول العذر وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ أي هم الفقراء الذين لا يستطيعون الجهاز حَرَجٌ أي إثم وضيق إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا، كما يفعل الناصح بصاحبه ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم وَاللَّهُ غَفُورٌ يغفر لمن تخلف بعذر رَحِيمٌ بمن يستحق رحمته وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ أي لتعطيهم حمولة ليشاركوا في الجهاد قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فهؤلاء كذلك معذورون إن كانوا صادقين كما وصفهم الله تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ تسيل حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ فهم يتخلفون وقلوبهم تفيض أسى على التخلف، على خلاف المنافقين، يتخلفون وقلوبهم فرحة لتخلفهم، فهذه الأصناف الأربعة لا حرج عليها، ولا إثم في تخلفها واستئذانها، وهؤلاء هم أصحاب الأعذار الحقيقية، وقد بدأ الله بالأعذار الملازمة للشخص التي لا تنفك عنه، وهي الضعف في التركيب الذي لا يستطيع صاحبه معه الجهاد، ومنه العمى، والعرج، ونحوهما، ثم ثنى بما هو عارض كالمرض الطارئ، ثم ثلث بالعجز الحكمي بسبب الفقر الذاتي، أو ضيق ذات يد الإمام، فلا يقدر على تجهيز من يريد الجهاز. ثم بين الله من لا يعذر بحال ممن ليس من هؤلاء إِنَّمَا السَّبِيلُ أي الإثم واستحقاق آثاره من عقوبات دنيوية وأخروية عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أي في

[سورة التوبة (9): آية 94]

التخلف وَهُمْ أَغْنِياءُ فليسوا ضعفاء ولا مرضى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي رضوا بالانتظام في جملة الخوالف أي: النساء جمع خالفة وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ العلم النافع المؤدي إلى جنات النعيم يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوكم وحربكم، محاولين أن يقيموا لأنفسهم عذرا باطلا قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالباطل لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم، فلا فائدة لكم في اعتذاركم إذ غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، ثم بين سبب عدم تصديقهم قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ هذه هي علة انتفاء تصديقهم أنه تعالى أوحى إلى رسوله بأخبارهم وما في ضمائرهم، فكيف يعقل بعد ذلك تصديقهم في معاذيرهم وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أتتوبون أم تثبتون على كفركم وعملكم الكافر ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي تردون إليه وهو عالم كل سر وعلانية فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم على حسب ذلك سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ أي رجعتم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لتتركوهم ولا توبخوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أي فاتركوهم وأهملوهم، ثم علل سبب الأمر بذلك بقوله إِنَّهُمْ رِجْسٌ فلا تنفعهم موعظة ولا يصلحهم شئ، لأنهم أنجاس لا سبيل إلى تطهيرهم وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي ومصيرهم النار أي وكفتهم النار عقوبة جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي يجزون بالنار جزاء كسبهم يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ أي هذا هو هدفهم الحقيقي بالحلف، طلب رضاكم لئلا تتضرر بغضبكم دنياهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي إن رضاكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطا عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها، وإنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضى المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم، ولما كان المتخلفون من الأعراب بغير عذر قسمين، قسما اعتذر وقسما لم يكلف نفسه حتى عناء الاعتذار، فإن الله تعالى في هذا السياق أعطانا التصور الصحيح عن الأعراب خاصة وأن كثيرين من الناس قد يتوهمون أن أهل البادية أكثر صفاء ونقاء، وأجود استعدادا، فجاءت الآيات تبين أن هذا يصدق على القليل منهم الْأَعْرابُ أي أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً أي من أهل الحضر، لجفائهم وقسوتهم وبعدهم عن مجالس العلم وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا أي وأحق بألا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ يعني حدود الدين، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ في إمهالهم وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ أي ما يتصدق به مَغْرَماً أي غرامة وخسرانا، لأنه لا يدفع زكاته ولا

[سورة التوبة (9): آية 99]

ينفق إلا تقية من المسلمين، ورياء لا لوجه الله، وابتغاء المثوبة عنده وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر دوائر الزمان، وتبدل الأحوال، بدور الأيام، لتذهب غلبتكم عليهم، فيتملصوا من إعطاء الزكاة وغيرها. وقد ظهر مصداق ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ففي الآية معجزة عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولونه إذا توجهت عليهم الصدقة عَلِيمٌ بما يضمرونه غير أنه إذا كان الأعراب في الجملة كذلك، وبعضهم كما وصف، فإن منهم صالحين وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ في الجهاد والصدقات قُرُباتٍ أي أسبابا للقربة عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي دعواته، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة أَلا إِنَّها أي النفقة أو صلوات الرسول. قُرْبَةٌ لَهُمْ هذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، كما أنها تصديق لرجائه سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته. قال النسفي: وما أدل هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر عيب المخل رَحِيمٌ يقبل جهد المقل، وكما ختمت المجموعة السابقة بذكر الرسول، والمؤمنين الصادقين، وما أعد لهم، فإن هذه المجموعة كذلك تنتهي بهذه الآية وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم إما من صلى إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو بيعة الرضوان وَالْأَنْصارِ أي والسابقون الأولون من الأنصار وهم أهل بيعة العقبة الأولى والثانية وكان الأولون سبعة وأهل الثانية سبعين وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ دخل في ذلك من اتبعهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأعمالهم الحسنة وَرَضُوا عَنْهُ بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وَأَعَدَّ لَهُمْ مع الرضا جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وهكذا زادتنا هذه المجموعة والتي قبلها معرفة في موضوع النفاق من خلال المواقف من قضية الجهاد. الفوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ .. قال ابن إسحاق: وبلغني أنهم نفر من بني غفار، خفاف بن إيماء بن رحضة .. 2 - بمناسبة قوله تعالى ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ روى ابن كثير هذه القصة:

قال الأوزاعي: خرج الناس إلى الاستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر من حضر، ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا نسمعك تقول: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا، ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا) 3 - في سبب نزول قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ .. ذكر ابن كثير ما ننقله دون ذكر الأسانيد قال (وقال قتادة نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني .. وعن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أكتب براءة، فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الآية. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مقرن المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: «والله لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ إلى قوله فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وقال مجاهد في قوله وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نزلت في بني مقرن بن مزينة، وقال محمد بن كعب: كانوا سبعة نفر: من بني عمرو بن عوف، سالم بن عوف. ومن بني واقف حرمي بن عمرو، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى فضل الله، ومن بني سلمة عمرو بن عتبة، وعبد الله بن عمرو المزني. وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار، وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلية بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن ابن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمه، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون». وروى ابن أبي حاتم .. عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا

نلتم من عدو نيلا، إلا وقد شركوكم في الأجر». ثم قرأ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ الآية. وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرا، إلا وهم معكم» قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «نعم حبسهم العذر» وروى الإمام أحمد .. عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة رجالا، ما قطعتم واديا، ولا سلكتم طريقا، إلا شركوكم في الأجر، حبسهم المرض». ورواه مسلم وابن ماجه من طرق. 4 - بمناسبة قوله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً .. نذكر ما يلي: أ- روى الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني، فقال زيد: ما يريبك من يدي إنها الشمال؟ فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال. فقال زيد بن صوحان: صدق الله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ. ب- وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن غريب. ج- قال ابن كثير: ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. (سورة يوسف: 109) د- وروى الإمام مسلم عن عائشة قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم، قالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأملك أن كان الله نزع منكم الرحمة؟» وقال ابن نمير: (من قلبك الرحمة). 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ نذكر أن هناك قراءة برفع الأنصار، وقراءة حفص التي عليها هذا التفسير بالخفض، وقد أشرنا إلى هذا لأننا سننقل كلام ابن كثير كله في هذه الآية، وقد أشار هو إلى هذا الموضوع.

قال ابن كثير في الآية: (يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم عنه، بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم. قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية، وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة: هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أبي بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم: قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال: أبي: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وفي سورة الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية. وفي الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ الآية. رواه ابن جرير قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفا على وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فيا ويل من أبغضهم، أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم- أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه- فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة، ويبغضونهم ويسبونهم- عياذا بالله من ذلك- وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدعون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون، وعباده المؤمنون». ا. هـ. كلام ابن كثير. أقول: نرجو أن يكون المسلمون- سنة وشيعة- على أبواب عهد جديد، يعتمد في التحقيق العلمي على الإنصاف، وفي الحركة السياسية على التحرر من عقد الماضي، وفي التعامل اليومي على الحب والإخاء، وأن لا يتكلفوا الخوض فيما لا يعني، وأن يعفوا ألسنتهم عما هو مظنة الإثم، وأن يلجموا الأهواء بنصوص الكتاب والسنة.

[سورة التوبة (9): آية 101]

كما نرجو من العلماء العاملين- سنة وشيعة- أن يتكلموا بما يؤلف القلوب، وبما يجمع على الحق، وأن يكتبوا جميعا بلغة التحقيق لا بلغة السب والشتم. ثم تأتي الآن مجموعة رابعة تزيدنا بيانا عن المنافقين ومواقفهم وطريقهم التي عليهم أن يسلكوها- إن أرادوا التوبة- كما تحدد في المقابل صفات المؤمنين. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي حول بلدتكم أو داركم وهي المدينة عاصمة الإسلام الأولى مِنَ الْأَعْرابِ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار. وكانوا نازلين حولها مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ منافقون كذلك مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي تمهروا فيه، مرنوا عليه واستمروا عليه لا تَعْلَمُهُمْ أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط خبثهم واحتراسهم في تحامي ما يشكك في أمرهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ هاتان المرتان قد يكون المراد بهما القتل وعذاب القبر، أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ أي عذاب النار بعد أن ذكر في هذه المجموعة المنافقين الخلص في سياق التخلف عن الجهاد، سيذكر الآن نوعا من المتخلفين لم يكن تخلفهم عن نفاق وإنما هي المعصية مع الإيمان وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي وقوم آخرون سوى المذكورين من قبل لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا وقد ندموا خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً أي خلطوا خروجا إلى الجهاد وتخلفا عنه، أو خلطوا التوبة والإثم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اعترافهم بالذنب توبة وختم الآية بما ختمت به تطميع لهم بقبولها، وبعد أن ذكر حالهم وطمعهم بقبول التوبة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تكون كفارة لذنوبهم، ويمكن أن يكون المراد بالصدقة هنا الزكاة تُطَهِّرُهُمْ أي الصدقة عن الذنوب وَتُزَكِّيهِمْ بِها التزكية المبالغة في التطهير والزيادة فيه، ويمكن أن يراد بالتزكية هنا الإنماء والبركة في المال، ويمكن أن يكون المعنى تطهرهم من الإثم وتزكيهم بتحقيقهم بمكارم الأخلاق، وقد دلت الآية على فضيلة الصدقة إذ بها تمحى الخطايا ولو كانت تخلفا عن النفير وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي وادع لهم وترحم، ومن ثم كانت السنة أن يدعو جابي الصدقة لصاحب الصدقة إذا أخذها إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي سكينة وطمأنينة لقلوبهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم عَلِيمٌ بما في

[سورة التوبة (9): آية 104]

ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم، ثم هيجهم الله على التوبة والصدقة فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحت وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي ويقبلها إذا صدرت عن خلوص نية أي فاصدقوا بالتوبة وأخلصوا بالصدقة، وتفيد الآية أن التوبة والصدقة ليست لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لغيره بل هي لله، فإن شاء قبل، وإن شاء رد، فاقصدوه فيهما ووجهوهما إليه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ أي الكثير قبول التوبة الرَّحِيمُ بمن علم منه صدق الإنابة والإخلاص في العمل، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم وَقُلِ أي لهؤلاء التائبين اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أي فإن عملهم لا يخفى، خيرا كان أو شرا، على الله أو رسوله أو المؤمنين باطلاع الله المؤمنين على عملهم، وفي الآية حض لهم على العمل الصالح، ووعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ أي ما يغيب عن الناس وَالشَّهادَةِ أي ما يشاهدونه فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يخبركم به ويجازيكم عليه. وهكذا وصف الله لأهل الإيمان- إذا تخلفوا عن النفير- طريق العودة إلى الله، وهو التوبة النصوح والإنفاق والعمل الصالح، وقد دلتنا هذه الآيات الأربع على صنف من المتخلفين تخلفوا وصدقوا في التوبة غاية الصدق. وبالغوا في الشعور بالذنب والاعتراف فيه. فقبل الله توبتهم مباشرة، ودلهم على ما ينبغي فعله، والآن يحدثنا عن فريق آخر من المتخلفين المؤمنين لم يبالغوا في التوبة كالأولين فأرجأ الله قبول توبتهم، ثم قبلها كما ستحدثنا أواخر السورة وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم، والإرجاء: التأخير إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن لم يقبل توبتهم وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فلا يعذبهم إن قبل توبتهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عليم بصدقهم أو كذبهم في توبتهم، حكيم في تأخير قبول توبتهم، وقد أظهر قبول توبتهم كما سنرى. وهكذا استمر السياق يحدثنا عن حال من تخلف عن النفير في سياق الأمر بالنفير، حتى إذا عرفنا كل ما ينبغي أن نعرفه عن موضوع التخلف عن النفير آن الأوان ليحدثنا السياق عما يسمى في اصطلاحات العصر الطابور الخامس: أي العدو الداخلي الذي ظاهره معنا وهو يعمل ضمن مخططات الأعداء ولصالحهم، وما ينبغي فعله بهؤلاء وبمخططاتهم من خلال قصة مسجد الضرار وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي مضارة للمسلمين وَكُفْراً أي وتقوية للنفاق وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ليجمعوا قسما منهم في مسجدهم ويشركوهم في مخططاتهم وَإِرْصاداً أي وإعدادا لِمَنْ

[سورة التوبة (9): آية 108]

حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي لأجله مِنْ قَبْلُ بناء المسجد وَلَيَحْلِفُنَّ. وهم كاذبون في حلفهم إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي في حلفهم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصل فيه لهم لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام وجوده أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي مصليا فِيهِ أي في المسجد المؤسس على التقوى رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من النجاسات كلها ومعنى محبتهم للتطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشئ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فهو يرضى عنهم ويحسن إليهم أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي وضع أساس ما يبنيه عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أي أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه خير أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا أي حرف وشفير جُرُفٍ جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهنا هارٍ أي هائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط والمعنى: أفمن أسس على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه، خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي وطاح به الباطل في نار جهنم وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، فإنه أورثهم نفاقا فى قلوبهم أو لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي إلا أن تتقطع قلوبهم قطعا وتتفرق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه وأما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية متمكنة ويمكن أن يكون المعنى: إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بعزائمهم حَكِيمٌ في جزاء جرائمهم، ثم ختم الله هذه المجموعة بما ختم المجموعات السابقة بالتذكير بما أعد الله للمؤمنين إذا قاموا بما عاهدوا إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ مثل الله إثابة المؤمنين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا بيان لمحل التسليم وهو مواطن القتال وممارسته فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أي تارة يقتلون العدو وطورا يقتلهم العدو وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي وعدهم بذلك وعدا ثابتا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أخبر تعالى بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد

[سورة التوبة (9): آية 112]

ثابت قد أثبته في التوراة والإنجيل والقرآن وهو دليل على أن كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ لا أحد أوفى بعهده من الله لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين، وأي ترغيب في الجهاد هذا الترغيب؟ وأين البائعون؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي فافرحوا غاية الفرح بهذا البيع، فإنكم تبيعون فانيا بباق وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وأي ربح أعظم من الجنة؟ ولكن من هم المرشحون لهذا البيع؟ التَّائِبُونَ الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق وإذا واقعوا المعصية أنابوا مباشرة الْعابِدُونَ أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة الْحامِدُونَ الله على نعمة الإسلام وعلى كل نعمة السَّائِحُونَ أي الصائمون، أو طلبة العلم؛ لأنهم يسيحون في الأرض يطلبونه من مظانه، أو السائرون في الأرض للاعتبار الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المحافظون على الصلوات الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي والآمرون بالإيمان والمعرفة والطاعة والعمل الصالح وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك والمعاصي وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي أوامره ونواهيه أو معالم الشرع وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي المتصفين بهذه الصفات، فهذه صفات عشر: الإيمان، وحفظ حدود الله، والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، والسجود، والركوع، والسياحة، والحمد، والعبادة، والتوبة، من تحقق بها فهو المرشح للبيع، وعلى هذا فإن على المربين في هذه الأمة أن يربوا على هذه الخصال إذا ما أرادوا جيلا يستسهل البيع والجهاد والقتال، وإذا وزنا الناس بهذه الصفات العشر، وفتبين لنا نقصانها في المسلمين عرفنا لم لا نرى جهادا أو قتالا وبيعا للأنفس في سبيل الله ولم لا نرى مسارعة لذلك. وبهذا تنتهي المجموعة الرابعة من هذا المقطع وقد فصلت أحوال أصناف من الناس. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ نذكر هذه الروايات: أ- روى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب»

وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: «وإن في أصحابي منافقين» ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم. ب- روى الحافظ ابن عساكر عن أبي الدرداء: أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «الإيمان هاهنا» وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا وأشار بيده إلى قلبه «ولم يذكر الله إلا قليلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير» فقال: يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: «من أتانا استغفرنا له، ومن أصر فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا» قال: وكذا رواه أبو أحمد الحاكم. ج- قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال «اخرج يا فلان فإنك منافق، واخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج من المسجد ناسا منهم، فضحهم، فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا واختبئوا هم من عمر ظنوا قد علم بأمرهم، فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد. والعذاب الثاني عذاب القبر. وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ عذاب الدنيا وعذاب القبر، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين فقال: ستة منهم تكفيهم الدبيلة- سراج من نار جهنم يأخذ كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره- وستة يموتون موتا. وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال: لا ولا أؤمن منها أحدا بعدك. د- وروى عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، وقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء

قبلك، قال نبي الله نوح عليه السلام وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وقال نبي الله شعيب عليه السلام بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. 2 - في سبب نزول قوله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه، وقال ابن عباس وَآخَرُونَ نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه وقيل: وسبعة معه، وقيل: تسعة معه فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله هذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم. وبمناسبة هذه الآية قال النسفي: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً خروجا إلى الجهاد وَآخَرَ سَيِّئاً تخلفا عنه، أو التوبة والإثم، وهو قولهم بعت الشاء شاة ودرهما أي شاة بدرهم قالوا وبمعنى الباء، لأن الواو للجمع، والباء للالتصاق، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر: فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك: خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به. وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. وبمناسبة هذه الآية نقل ابن كثير ما رواه البخاري مختصرا ... عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقكم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك، قالا وأما القوم الذين كان شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم. 3 - اعتقد بعض ما نعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة لا يكون إلى الإمام وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم محتجين بقول تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ... وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال الصديق: والله لو منعوني عناقا- وفي رواية عقالا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه. 4 - تنفيذا لقوله تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ بعد قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي (أي والد الراوي وهو عبد الله بن أبي أوفى) بصدقة فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» رواه مسلم. وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت يا رسول الله صل علي وعلى زوجي فقال: «صلى الله عليك وعلى زوجك» ومعنى الصلاة هنا الدعاء والاستغفار. وروى الإمام أحمد ... عن ابن لحذيفة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ننقل ما يلي: روى الثوري ووكيع عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ. وقوله يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وروى الثوري والأعمش ... عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الصدقة تقع في يد الله عزّ وجل قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ هذه الآية أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ. وقد روى ابن عساكر في تاريخه قال: غزا الناس في زمن معاوية رضي الله عنه، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية، فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير، فأبى أن يقبلها منه فقال: قد تفرق الناس ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة، فجعل الرجل يستقري الصحابة فيقولون له مثل ذلك. فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبي عليه فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أو مطيعي أنت؟ فقال: نعم: فقال: اذهب إلى معاوية

فقل له: اقبل خمسك، فادفع إليه عشرين دينارا، وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم، ففعل الرجل، فقال معاوية رضي الله عنه لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شئ أملكه، أحسن الرجل. 6 - وبمناسبة قوله تعالى وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ننقل ما ذكره ابن كثير مع حذف الأسانيد: (روى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان». وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما روى أبو داود الطيالسي ... عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك». وروى الإمام أحمد ... عمن سمع أنسا يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا). وروى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وقد ورد في الحديث شبيه بهذا فقد روى الإمام أحمد ... عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنتظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قبل موته» قالوا: يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه»). 7 - أفهم من ذكر المؤمنين في قوله تعالى وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أن المؤمنين إذا لم يروا عملا صالحا ممن عمل سوءا فإن الأصل ألا يغيروا رأيهم فيه، وأنهم معذورون إذا عاملوه بما ظهر لهم منه 8 - وتفسيرا لقوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ

عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: (قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغير واحد: هم الثلاثة الذين خلفوا- أي عن التوبة- .. وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلا وميلا إلى الدعة، والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجئ هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله تعالى لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الآية وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ... الآية كما سيأتي في حديث كعب بن مالك. 9 - وفي سبب نزول آيات مسجد الضرار في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ... قال ابن كثير: سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عزّ وجل. وكانت العاقبة للمتقين، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة. وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله

صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا لهم معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك. فشرعوا في بناء مسجد في قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه الصلاة والسلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: هم أناس من الأنصار بنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر الراهب: ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجنود من الروم، وأخرج محمدا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة. فأنزل الله عزّ وجل لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً إلى قوله الظَّالِمِينَ وكذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة، وغير واحد من العلماء، وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن قتادة، وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني من تبوك- حتى نزل بذي أوان- بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة، والحاجة، والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه» فلما نزل بذي أوان، أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أحابني سالم بن عوف، ومعن بن عدي- أو أخاه عامر بن عدي- أخا بلعجلان فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم، فاهدماه وحرقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف- وهم رهط مالك بن الدخشم- فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله،

فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، أحد بني عوف،- ومن داره أخرج مسجد الشقاق- وثعلبة ابن حاطب من بني عبيد موالي بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، من بني عوف، وحارثة بن عامر وابناه، مجمع بن حارثة، وزيد بن حارثة، ونبتل الحارث، وهو من بني ضبيعة، ومخرج وهو من بني ضبيعة، وبجاد بن عمران وهو من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت، موالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. ومن هذه القصة نفهم أنه لا ينبغي أن نتردد في استئصال كل ما يعكر أمن المسلمين ووحدتهم، وأن علينا أن نسارع إلى تحطيم مخططات أهل الكفر والنفاق. 10 - وأما المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فالسياق يدل على أنه مسجد قباء، وعلى ذلك كثير من الآثار والأحاديث، وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى قال ابن كثير: وهذا صحيح ولا منافاة بين القول الأول وبين هذا لأنه إن كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى، ولمسجد قباء فضله، ولمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة فضل. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة». وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة، فالله أعلم. 11 - ومما أثنى الله عزّ وجل على أهل قباء في هذه الآيات: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ وقد روى البراز ... عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نتبع الحجارة بالماء. وفي الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة، المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له. وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملامسة القاذورات. ذكره ابن كثير،

وقد ورد ما يدل على أن كمال الطهارة يسهل القيام بالعبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها. وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فيها. فأوهم، فلما انصرف قال: «يلبس علينا القرآن، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء». 12 - وفي سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... ذكر ابن كثير عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال «الجنة» قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ... الآية. وتعليقا على الآية قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم الله فأغلى ثمنهم، وقال شمر بن عطية: ما من مسلم إلا ولله عزّ وجل في عنقه بيعة، وفى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية ولهذا يقال: من حمل في سبيل الله بايع الله- أي قبل هذا العقد ووفى به- وسواء قتلوا، أو قتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة. ولهذا جاء في الصحيحين: «وتكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي، وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. 13 - وفي تفسير السياحة في قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ ... قال ابن كثير ما يأتي نذكره مع حذف الأسانيد: (بيان أن المراد بالسياحة الصيام). قال سفيان الثوري .... عن عبد الله بن مسعود قال: السَّائِحُونَ. الصائمون. وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس: وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون، وكذا قال الضحاك رحمه الله وروى ابن جرير ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم أن المراد بالسائحين الصائمون.

قال الحسن البصري: السَّائِحُونَ. الصائمون شهر رمضان. وقال أبو عمرو العبدي: السَّائِحُونَ الذين يديمون الصيام من المؤمنين. وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا وروى ابن جرير ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السَّائِحُونَ هم الصائمون، وهذا مرسل جيد، وهذا أصح الأقوال وأشهرها. وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد. وهو ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله». وروى ابن المبارك ... عن عمارة بن غزية أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله والتكبير على كل شرف». وعن عكرمة أنه قال: هم طلبة العلم. قال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: هم المهاجرون. رواهما ابن أبي حاتم. وليس المراد السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» اه. كلام ابن كثير أقول: من أهم ما يلزم لإحكام أمر القتال معرفة الأرض، ولذلك فإن كثيرا من كتب فن الحرب تذكر موضوع التعرف على الأرض التي سيجري عليها القتال، على أنه ركن من أركان اتخاذ قرار القتال، وممن ذكر ذلك (صن تزو) أحد حكماء الصين الأقدمين في كتابه (فن الحرب) وهو كتاب لا زال يحتفظ بالكثير من الأهمية، لقد ذكر في هذا الكتاب: أن قرار الحرب يقتضي مجموعة أمور: ثقة بين الحكومة والشعب، وقيادة قادرة على إدارة المعركة المطلوبة، وروحا معنوية عالية عند الجند، وتعرفا على الأرض التي ستدور عليها المعارك، ومعرفة الطقس الذي ستكون فيه المعارك. ولأهمية معرفة الأرض في القتال، ولأن الأصل في السياحة أن تكون سفرا وتعرفا على الأرض، فإنني لا أستبعد أن يكون المراد بالسياحة في الآية معناها الأصلي، وهو التعرف على الأرض لصالح المعركة، خاصة وأن النص قد جاء في سياق الأمر بالنفير والجهاد. وعندئذ يكون ما فسرت به السياحة فيما سوى ذلك إنما هو من باب المجاز، فالصائم مسافر نوع سفر إذ تجوب روحه في ملكوت الله، وطالب العلم سائح إن في رحلته الحسية أو المعنوية في سفره للتعرف على الحقيقة.

[سورة التوبة (9): آية 113]

ولننتقل إلى عرض المجموعة الخامسة من المقطع الثاني، وهي المجموعة الأخيرة فيه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي ما صح لهم الاستغفار للمشركين في حكم الله وحكمته ولو كانوا أقرباء لهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك: لقد فصلت العقيدة بين أهل الإيمان والشرك في الدنيا والآخرة، ثم ذكر عذر إبراهيم إذ استغفر لأبيه وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي هو وعد أباه أن يستغفر له فاستغفر، تنفيذا لذلك الوعد ومعنى استغفاره: سؤاله المغفرة له ليسلم، أو سؤاله أن يعطيه الله الإسلام الذي به يغفر له فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ أي فلما تبين من جهة الوحي لإبراهيم أن أباه يموت كافرا، وانقطع رجاؤه عنه، تبرأ منه، وقطع استغفاره إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير التأوه شفقا وفرقا لفرط ترحمه ورقته حَلِيمٌ أي: صبور على البلاء، صفوح عن الأذى، ومن حلمه أنه كان يدعو لأبيه وأبوه يتهدده ويتوعده بالرجم. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان بعد بيان المأمور والمنهي، أما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه. وعلى هذا فالقاعدة أن الله لا يؤاخذ عباده على شئ إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره، وعلمهم بأنه واجب الاجتناب، أما قبل العلم والبيان فلا، فالآية إذن فيها تطمين لمن خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل نزول النهي. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ هذا تذكير من الله لعباده بصفاته، وهو في هذا السياق يفيد الحض على التقوى، والتحريض على الجهاد. قال ابن جرير: (هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين، وملوك الكفر، وأن يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض، ولا يرهبوا من أعدائه، فإنه لا ولي لهم من دون الله ولا نصير لهم سواه) ثم ختم الله هذا المقطع وهذه المجموعة بتبيان ما كافأ به من خرج للنفير يوم تبوك وتبيان قبوله توبة من أرجأ الله قبول توبته ليمحصهم فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِ

[سورة التوبة (9): آية 118]

وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في غزوة تبوك، أي اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها، مع ما أحاط الغزوة من عسرة في المال والعتاد، والطقس والقلة، وبعد الطريق، وكثرة العدو وشدة بأسه، فكوفئوا على الاستجابة بتكفير الذنوب، وفي الآية بعث للمؤمنين على التوبة، وسلوك الطريق المؤدي إلى تطهير الذنوب كالجهاد مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي عن الثبات على الإيمان أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة والخروج معه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تاب عليهم إذ تابعوا وتاب عليهم إذ رجعوا إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ إذ ثبتهم وإذ تاب عليهم وَعَلَى الثَّلاثَةِ وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، الَّذِينَ خُلِّفُوا أي أرجئوا عن قبول التوبة، وهم الذين قال الله فيهم وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ... فههنا أعلن الله قبول توبتهم. حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها أي مع سعتها، وهو مثل لحيرتهم في أمرهم، حتى كأنهم لا يجدون في الأرض مكانا يقرون فيه قلقا وجزعا وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغم وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بعد خمسين يوما لِيَتُوبُوا أي ليكونوا من جملة التوابين إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يقبل التوبة ويرحم أهلها. قال أبو بكر الوراق: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء. وهكذا انتهت هذه المجموعة وانتهى المقطع الثاني من القسم الثاني ليأتي المقطع الثالث فيه وهو استمرار لسياق الأمر بالنفير. الفوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ... روى الإمام أحمد ... عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية. 2 - قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، يقول الله عزّ وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية:

أقول: قد مر النهي عن الصلاة على المنافقين فإذا كان مراده بالصلاة الاستغفار للحي فالأمر واسع. 3 - وقد فسر الأواه في قوله تعالى عن إبراهيم إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ بتفسيرات شتى: قال ابن جرير: وأولى الأقوال من قال: (إنه الدعاء وهو المناسب للسياق ... ) ولنذكر هذه النصوص بهذه المناسبة لعل الله يحققنا بما فيها: روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين: «إنه أواه» وذلك أنه رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته بالدعاء. ورواه ابن جرير. وقال سعيد بن جبير والشعبي: «الأواه المسبح» وقال ابن وهب ... عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه» قال شفي بن ماتع عن أبي أيوب: «الأواه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها» وعن مجاهد: «الأواه الحفيظ الرجل يذنب الذنب سرا ثم يتوب منه سرا» ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه الله. وروى ابن جرير ... عن الحسن بن مسلم بن بيان أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه أواه». وروى ابن جرير ... عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا فقال: «رحمك الله إن كنت لأواها» يعني تلاء للقرآن. 4 - وفي سبب نزول قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ... قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء. قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم. وأقفلهم من غزوتهم. وبمناسبة ذكر في العسرة في الآية ذكر ابن جرير ... عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا، فأصابنا عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عزّ وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فقال: «تحب

ذلك؟» قال: فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء، فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ذكر ابن كثير رواية كعب بن مالك أحد الثلاثة للحادث ثم علق عليها وسننقل ذلك كله مع حذف الأسانيد: قال الإمام أحمد ... أن عبيد الله كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام. وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين، أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر (¬1)، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغد لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا. ¬

_ (¬1) - أي أميل.

وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط (¬1) الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم- وليت أني فعلت- ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق، (¬2) أو رجلا ممن عذره الله عزّ وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال: وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت، والله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما، زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له- وكانوا بضعة وثمانين رجلا- فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه: فقال لي: «ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟» فقلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكنه والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله تبارك وتعالى، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقض الله فيك» فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، ¬

_ (¬1) - أي فات. (¬2) - أي: مطعونا في دينه.

قال: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟، قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: فمن هما؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، قال:- فمضيت حين ذكروهما لي- قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا- أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم، وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا التفت على صلاتي نظر إلي، فإذا التقت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فو الله ما رد علي السلام. فقلت له يا أبا قتادة أنشدك الله: هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت قال: فعدت فنشدته فسكت، فعدت فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. قال: ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب ابن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضا من البلاء، قال فتيممت به التنور فسجرته به، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، قال: قلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا ولكن لا يقربك» قالت: والله ما به من حركة إلى شئ، وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال: فقال لي بعض أهلي:

لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته، وأنا رجل شاب. قال فلبثنا عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى مناقد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع، يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزّ وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاني الناس فوجا، فوجا يهنئونني بتوبة الله يقولون: ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، والناس حوله، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله» قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله، قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، قال: فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجل فيما بقي. (قال) وأنزل الله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ

بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ إلى آخر الآيات. قال كعب: فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فلذلك قال الله عزّ وجل وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. قال ابن كثير: هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم، فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها، وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها، كما رواه الأعمش عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قال: هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال: مرارة بن ربيعة، وكذا في مسلم: ابن ربيعة في بعض نسخه، وفي بعضها مرارة بن الربيع، وفي رواية عن الضحاك: مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب، وقوله: فسموا رجلين شهدا بدرا قيل: إنه خطأ من الزهري، فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا، والله أعلم. ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، أي مع سعتها، فسدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر الله، واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم، وأنه كان من غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة، ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيرا وتوبة عليهم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: يتألف القسم الثاني من ثلاثة مقاطع، كلها آتية في موضوع النفير والموقف منه أو القتال وما يحيط به، وقد مر معنا مقطعان وبقي مقطع واحد. والمقطع الثالث في هذا القسم، يتحدث عن ثلاثة معان رئيسية: 1 - الكينونة مع الصادقين. 2 - وجوب النفير على الحاضر والبادي. 3 - استثناء المتفقهة من النفير العام في بعض الأحوال. وكل ذلك مرتبط بسياق القسم، إنه في كثير من الأحيان، يختلط الأمر على المسلم، هل يلتحق بالصف أو لا؟ وفي كثير من الأحيان، يقع المسلم في حيرة وتردد في أي جماعة يكون؟ يظهر ذلك في عصرنا كثيرا بسبب من فقدان منصب الخلافة الجامع، ولأن هذا الموضوع من الأهمية بمكان في عصرنا فسنعقد له فصلا يكون بمثابة مقدمة للمقطع الثالث. فصل: في الكينونة مع الصادقين: لقد أمر الله تعالى في بداية المقطع الثالث بالكينونة مع الصادقين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وما أكثر الذين يدعون مقام الصادقين، ويدعون الناس إلى أنفسهم بحجة أنهم صادقون، وحتى الذين يعطلون معاني الجهاد في هذه الأمة، يزعمون أنهم صادقون، ويدعون الناس إلى أنفسهم. لقد جاء الأمر بالكينونة مع الصادقين في سياق سورة تتحدث عن الجهاد، وهذا وحده كاف لأن نعرف ارتباط صفة الصادق بموضوع الجهاد. ولكن النصوص القرآنية لم تكتف بأن نفهم هذا الفهم من مجرد السياق، بل نصت عليه نصا، وحددت مفهوم الصادقين بما يقطع الدعاوى. قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. فهذا نص في أن الصادقين هم الذين اجتمع لهم إيمان، وجهاد بالمال والنفس. وقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ،

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فالذين صدقوا هم من اجتمعت لهم هذه الصفات التي من جملتها الصبر حين البأس، أي في القتال. قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. فهؤلاء هم الصادقون، أخذوا الإسلام كله، ولم يدخلوا عليه تغييرا، وهم بين شهيد ومنتظر للشهادة. فعلى ضوء هذه الآيات يعرف المسلم الصادقين، ومجئ قوله تعالى فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ في سياق الأمر بالكينونة مع الصادقين يفهم منه أنه حيث لا يكون النفير فرض عين فطلب العلم جهاد، ويدخل في الصادقين العلماء وعلى هذا فالصادقون مجاهد أو عالم. ***

المقطع الثالث من القسم الثاني

المقطع الثالث من القسم الثاني كلمة بين يدي هذا المقطع: إن هذا المقطع يكمل المقطعين اللذين قبله، فالمقطعان يحدثاننا عن قضية النفير العام، ومواقف الناس منه، وأحكام هؤلاء الناس وحقيقتهم، وكل ذلك من خلال الواقع الذي حدث يوم تبوك، فهذا القرآن يحدثنا عن كل قضية، ويعطينا النموذج لها، حتى يظهر لنا من خلال التقرير والتمثيل الأمر على غاية الظهور، وقد أدركنا من خلال هذه السورة كلها كيف أن الأمر بقتال الكافرين والمشركين والمنافقين جزم، ولم يبق عندنا من القسم الثاني إلا مقطع واحد وهذا هو: ويمتد من الآية (119) إلى نهاية الآية (122) [سورة التوبة (9): الآيات 119 الى 122] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

المعنى العام

المعنى العام: بعد أن استقر معنا في السورة ضرورة الجهاد والقتال ووصف المتخلفين، تبدأ هذه الآيات بأمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، والصادقون هم المؤمنون المجاهدون، والعلماء العاملون وبعد الأمر بالكون مع الصادقين، تذكر الآيات أنه ما كان لأحد من أهل المدينة ومن حولها- أي ممن يشملهم الأمر بالنفير- أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ راغبين بأنفسهم عن نفسه، ثم بين لهم: أن ما يصيبهم من ظمأ أو تعب أو جوع، أو ما يفعلونه من إغاظة لكافر، كل ذلك سيكافئهم الله عليه، وأنه ما من نفقة قليلة أو كثيرة، ولا حركة أو سير، إلا وسيكافئهم الله عليه، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون تخلفا؟! ثم بين الله عزّ وجل أن هناك نفيرا آخر، يجب أن يعطى أهمية، وأن يتفرغ له ناس، وهو النفير لطلب العلم. المعنى الحرفي. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بإقامة شرعه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في إيمانهم دون المنافقين، أي كونوا مع الذين صدقوا في دين الله قولا ونية وعملا، وقد عرف الله هؤلاء الصادقين في أكثر من مكان في كتابه، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الحجرات إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فمن اجتمع له الإيمان والجهاد بأنواعه كما ذكرناها في كتاب «جند الله ثقافة وأخلاقا» فهو الصادق وهو الذي أمرنا الله أن نكون معه، وما أكثر ما غفل المؤمنون عن هذا المعنى، وما أكثر ما ادعى الصدق غير أهله. ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ هذا نفي يراد به النهي، وخص هؤلاء بالذكر- وإن استوى كل الناس في ذلك- لقربهم، ولكونهم لا يخفى عليهم أمر النفير وَلا يَرْغَبُوا أي ولا أن يضنوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي عما يصيب نفسه، أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم في الشدائد، بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء، ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة، وهكذا أدب المسلم مع قيادته الراشدة، وشأن القيادة كذلك الإمامة في الجهاد وغيره، والقدوة في الجهاد وغيره. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي عطش

[سورة التوبة (9): آية 121]

وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم، وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، يغيظ الكفار وطئوه، ويغضبهم، ويضيق صدورهم، لا يتحركون حركة تغيظ الكفار وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أي ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة، أو غير ذلك مما يسوؤهم إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ أي بهذه الأعمال عَمَلٌ صالِحٌ أي عمل لهم ثوابه إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي إنهم محسنون، والله لا يبطل ثوابهم، وفيه دليل على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا، من قيام وقعود، ومشي وكلام وغير ذلك. وَلا يُنْفِقُونَ أي هؤلاء المجاهدون في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً أي قليلة وَلا كَبِيرَةً أي ولا كثيرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم وحركتهم للجهاد، والوادي في الأصل: هو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي ذلك الإنفاق والحركة، أي أثبت في صحائفهم. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ليجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم، فيلحق به ما دونه توفيرا لأجرهم. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إلى الجهاد إذا كان الجهاد فرض كفاية، لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح، وخاصة مصلحة طلب العلم الشرعي. فَلَوْلا أي فهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ أي من كل جماعة كثيرة، جماعة قليلة منهم لطلب العلم الشرعي لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أي ليتكلفوا الفقاهة في الدين، ويتجشموا المشاق في تحصيلها وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أي ليجعلوا مرمى همتهم في الفقه إنذار قومهم، وإرشادهم إذا رجعوا إليهم، دون الأغراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة في المراكب والملابس. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أي ما يجب اجتنابه، ويمكن أن تفهم الآية فهوما أخرى، قال به مفسرون، وأيا كان فهم الآية فإن مجيئها في هذا السياق يدل على أن الفقه فى دين الله والجهاد متلازمان؛ إذ لا يمكن أن يقوم جهاد حقيقي بلا فقه، ومن ثم فإننا نرى جيشا كالجيش الانكشاري بدأ متدينا وكيف آل أمره عند ما انفصل فيه الجهاد عن الفقه.

الفوائد

الفوائد: 1 - استدل النسفي بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ على أن الإجماع حجة، لأنه أمر بالكون مع الصادقين، فلزم قبول قولهم. واستدل ابن مسعود بهذه الآية بأن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل. وقال الحسن البصري في الآية: إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا، والكف عن أهل الملة. 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذكر ابن كثير ما أنفقه عثمان يوم العسرة، فذكر هاتين الروايتين: أ- روى عبد الله ابن الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن حباب السلمي، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: علي مائة بعير بأحلاسها (¬1) وأقتابها. قال: ثم حث، فقال: عثمان: علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث، فقال: عثمان بن عفان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها (وأخرج عبد الصمد- أحد رجال سند الحديث- يده كالمتعجب): «ما على عثمان ما عمل بعد هذا». ب- وروى عبد الله ابن الإمام أحمد أيضا ... عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مرارا. 3 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ قال النسفي: وفيه دليل على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا، من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك، وعلى أن المدد ¬

_ (¬1) الحلس: هو الكساء الذي يكون تحت قتب البعير.

يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب، لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، وقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعد تقضي الحرب. 4 - هناك حالات أجاز فيها الفقهاء لنوع من الناس ألا ينفروا، وهم الذين تحتاج الأمة إلى علمهم، ولا يغني عنهم غيرهم، أي هم الذين يعتبرون مراجع دينية للمسلمين، وعلى هذا فإن النص يمكن أن يكون في أمثال هؤلاء. وبمناسبة قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ... الآية قال الألوسي: (قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة: كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، وتدل عليه هذه الآية فما به الإنذار والتخويف هو الفقه، دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات، وسأل فرقد السنجي الحسن عن شئ فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن: ثكلتك أمك هل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى) ا. هـ. وهو من الحسن بمكان، لكن الشائع إطلاق الفقيه على من يحفظ الفروع مطلقا، سواء كانت بدلائلها أم لا، كما في (التحرير). وفي (البحر) عن (المنتقى) ما يوافقه، واعتبر في (القنية) الحفظ مع الأدلة، وذكر غير واحد أن تخصيص الإنذار بالذكر لأنه الأهم، وإلا فالمقصود الإرشاد الشامل لتعليم السنن والآداب، والواجبات والمباحات، والإنذار أخص منه، ودعوى أنهما متلازمان، وذكر أحدهما مغن عن الآخر غفلة أو تغافل، وذهب كثير من الناس إلى أن المراد من النفر: الخروج لطلب العلم، فالآية ليست متعلقة بما قبلها من أمر الجهاد، بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد، وكل منهما سفر لعبادة، فبعد ما فضل الجهاد، ذكر السفر الآخر وهو الهجرة لطلب العلم، فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة لمذكورة، وهي النافرة، وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد. فقد أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما أنه قال: إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى. فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا! فوجدوا في أنفسهم من ذلك

كلمة في السياق

تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ الخ أي: لولا خرج بعض وقعد بعض يبتغون الخير ليتفقهوا في الدين، وليسمعوا ما أنزل، ولينذروا الناس إذا رجعوا إليهم. واستدل بذلك على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية. وذكر بعضهم أن في الآية دلالة على أن خبر الآحاد حجة، لأن عموم كل فرقة يقتضي: أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر قومها كي يتذكروا ويحذروا. فلو لم تعتبر الأخبار ما لم تتوافر لم يفد ذلك، وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين: الأول أنه تعالى أمر الطائفة بالإنذار، وهو يقتضي فعل المأمور به، وإلا لم يكن إنذارا. والثاني أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار، لأن معنى قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا، وذلك أيضا يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد، وهذه الدلالة قائمة على أي تفسير شئت من التفسيرين ..... ) اه. كلام الألوسي. كلمة في السياق: بالمقطع الثالث من القسم الثاني ينتهي القسم، بعد أن تحدث عن كل ماله علاقة بالنفير، وبهذا تكون سورة التوبة قد حدثتنا عن وجوب قتال المشركين، وأهل الكتاب، والكفار عامة، والمنافقين إذا أظهروا نفاقهم. كما حدثتنا عن وجوب نوعين من النفير يحتاجهما بقاء الإسلام: النفير للقتال، والنفير لطلب العلم، وحدثتنا عن موقف الناس من النفير، وعرفتنا على المنافقين، وماذا يفعلون لخلخلة الصف، وتوهين المسلمين، والهروب من الجهاد، إلى غير ذلك. وعرفتنا على من هم مظنة للجهاد والقتال، وحضت وحرضت حتى لتكاد تكون منشور القتال لأهل الإسلام. وبانتهاء هذا القسم، لا يبقى معنا إلا القسم الأخير، الذي هو بمثابة خاتمة السورة، ويتألف من سبع آيات، ويبدأ بآية تحدد استراتيجية الحركة الجهادية في الإسلام. ***

القسم الثالث والأخير

القسم الثالث والأخير ويتألف من مقطع واحد ويمتد من الآية (123) إلى نهاية الآية (129) وهذا هو: [سورة التوبة (9): الآيات 123 الى 129] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) كلمة في هذه الآيات: هذه الآيات تشكل خاتمة السورة، فتبدأ بوضع استراتيجية الحركة الجهادية، وإذ كانت هذه الاستراتيجية تستند إلى ما مر في السورة، فإن أربع آيات بعد ذلك تأتي لتصف موقف المؤمنين والمنافقين من القرآن. وحتى لا يفهم فاهم أن الأمر بالقتال تفريط بالمؤمنين، فإن الآية السادسة في المقطع تبين أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت خيرا وبركة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب إعنات المؤمنين، بل هو حريص عليهم، ورءوف

المعنى العام

رحيم بهم، ثم تختم السورة بآية تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال إعراض المسلمين عن الجهاد أن يقول: حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المعنى العام: تبدأ خاتمة السورة بأمر للمؤمنين بأن يقاتلوا الكفار الأقرب فالأقرب، وهي الاستراتيجية التي لا يجوز للمسلمين أن يغفلوها إطلاقا، لأن إغفالها فيه قضاء على الإسلام، فأنت عند ما تنطلق لتجاهد الأبعدين تعطي فرصة للقريبين أن يجتثوك في المركز، وقد أمر الله عزّ وجل المؤمنين مع هذا بأن يكونوا غلاظا في حربهم، وأن يعلموا أن الله معهم، والأمر الأخير في هذا المقام يفيد: ألا ينظر المسلمون إلى ما يمكن أن يقوله عنهم أعداؤهم، أو باصطلاح العصر ألا يبالوا بما يقوله الرأي العام، وهم يجاهدون أعداء الله. ثم ختم الله السورة بالبيان أن سور القرآن تزيد المؤمن إيمانا، أما المنافق فلا تزيده إلا نفاقا، ثم ذكر الله هؤلاء المنافقين بأن ما يحدث لهم ينبغي أن يكون مذكرا لهم ليتوبوا وهيهات. ثم بين الله عزّ وجل كيف أن موفق المنافقين مما يتنزل من القرآن الإعراض والفرار؛ لأن قلوبهم مصروفة عن الحق، ثم امتن الله عزّ وجل على المؤمنين بما أكرمهم به من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاته، من حرصه عليهم، ورغبته عن كل ما يشق عليهم، ورأفته ورحمته بهم، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل على الله وحده إذا صادف إعراضا. وهكذا وجهت هذه الآيات المؤمنين، وعرت المنافقين، وعلمت قيادات المسلمين كيف ينبغي أن تكون. وعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيادات الإسلامية ماذا تقول إذا رأت إعراضا من المسلمين عن القتال وغيره من أوامر الإسلام. المعنى الحرفي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أي يقربون منكم أي قاتلوا الأقرب فالأقرب، إن قتال كل الكافرين واجب، ولكن قتال الأقرب فالأقرب أوجب، ومن ثم كان قتال المسلمين الكفار المتسلطين من مرتدين وناكثين في أوطانهم أوجب، ولهذا التوجيه أهمية خاصة في الحركة الجهادية وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة وعنفا في المقال والقتال، وهذا التوجيه مهم جدا، وخاصة في عصرنا، إذ يحاول الكثيرون أن يخدعونا عما تحتاجه الحرب من غلظة تحت شعاري: الإنسانية، أو مراعاة الرأي العام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالنصرة والغلبة، وهذا التوجيه

[سورة التوبة (9): آية 124]

في هذا المقام فيه تحرير للنفسية الإسلامية من خوف الكفرة المجاورين، أو خوف الرأي العام في حالة الغلظة، وهكذا حددت السورة مع سورة الأنفال كل ما يلزم في شأن القتال والجهاد، فكيف تكون مواقف الناس بعد هذا البيان؟ هذا ما تحدده الآيات الأربع الآتية: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ أي فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً أي هذا ما يقوله بعضهم لبعض إنكارا واستهزاء وتعليقا على السورة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ أي السورة إِيماناً أي يقينا وثباتا، أو خشية والتزاما، ولنتذكر في هذا المقام ما بدأت به سورة الأنفال في وصف المؤمنين من كونهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا لنرى الصلة بين خاتمة براءة وبداية الأنفال، ولنرى بعد ذلك الصلة بين السورتين، وأن كلا منهما تكمل الأخرى، فهما في حكم سورة واحده كما رأينا أكثر مرة وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي مع زيادة الإيمان هم يستبشرون بوعد الله مع قيامهم بحق الله، إذا أنهم يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي كفرا مضموما إلى كفرهم، إذ أنهم أضافوا كفرا بالسورة الجديدة إلى كفرهم بما سبق وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ فهم مصرون على الكفر حتى الموت أَوَلا يَرَوْنَ أي هؤلاء المنافقون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي يبتلون بالقحط والمرض وغير ذلك في كل عام مرة أو مرتين، أو يمتحنون للتنفيذ والتطبيق مرة أو مرتين، ولا ينفذون، ولا يطبقون فيفتضحون ثُمَّ لا يَتُوبُونَ عن نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي ولا هم يعتبرون وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي تغامزوا بالعيون؛ إنكارا للوحي وسخرية به قائلين هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي من المسلمين لننصرف حتى لا نفتضح، أو حتى لا يرانا أحد إن انصرفنا ثُمَّ انْصَرَفُوا أي خلسة صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي عن فهم القرآن بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يتدبرون حتى يفقهوا، وفي ذلك إشارة إلى أن الفقيه من تدبر كتاب الله وقام بحقوقه وإذ تبينت المواقف من التكليف الشاق في سور القرآن ختم الله السورة ببيان منته على المؤمنين، إذ أرسل لهم رسوله صلى الله عليه وسلم مع البيان لرسوله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يقوله في حالة إعراض أحد عن التكليف، وفي ذلك إشارة إلى أن الأمر بالجهاد هو عين الرحمة، وأن المتولي يغني الله عنه لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ هو محمد عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ونسبكم أيها العرب المخاطبون الأول بهذا القرآن، أو من جنسكم أيها البشر لتقوم عليكم الحجة به أن ما جاء به

[سورة التوبة (9): آية 129]

مستطاع للبشر عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه عنتكم أي لقاؤكم المكروه أي صعب على نفسه كل ما يرهقكم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، فما لكم لا تقومون بحق الله معه، وتجاهدون معه؟! بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ عظيم الرأفة والشفقة، كثير الرحمة بالمؤمنين. تعلمنا الآية أن على قادة المسلمين- أي على خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن يتصفوا بهذه الصفات: من الشفقة، والحرص على المؤمنين، وكمال الرأفة بهم، ولا يكون ذلك إلا بتطبيق أمر الله كاملا، ومن ذلك الجهاد. فرسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الخلق في هذه الصفات- خاض بالمؤمنين غمرات الجهاد السنين الطوال. فمن دعته رحمته وشفقته وحرصه على المؤمنين، ورغبته عن إعناتهم إلى ترك الجهاد فهو غير وارث. ومن ثم ندرك سر ختم هذه السورة بمثل هذه الآية والتي بعدها. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عما تدعوهم إليه من أمر الجهاد وغيره فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي الله يكفيني أي فاستعن بالله وفوض إليه أمورك، فهو كافيك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي فوضت أمري إليه وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ومن كان رب العرش- الذي هو أعظم المخلوقات- فإن التوكل عليه يغني عن جميع المخلوقات. وبهذا انتهت السورة. الفوائد: 1 - في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. قال ابن كثير: (أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام. ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم، وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن، واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام، لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته، عليه السلام، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية- صلوات الله وسلامه عليه- بعد حجته بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن

ينجفل، فثبته الله تعالى به، فوطد القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم، ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة، ممن منعها من الطغام، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسول الله، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقا وغربا، وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا، ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي، ثم لما مات شهيدا وقد عاش حميدا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار، على خلاقة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار، فكسا الإسلام برئاسته حلة سابغة، وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله، وظهر دينه، وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها. وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقول تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وقوله تعالى وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم. فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رقيقا لأخيه المؤمن، غليظا على عدوه الكافر، كقوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (المائدة: 54) وقوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: 29) وقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ. (التحريم: 9) وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا الضحوك القتال يعني أنه ضحوك في وجه وليه قتال لهامة عدوه، وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي قاتلوا الكفار وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه. وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خيرة هذه الأمة في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء، والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن

بعد، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله، والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلى كلمتهم في سائر الأقاليم إنه جواد كريم». 2 - وبمناسبة قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً قال ابن كثير: (وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك) 3 - وبمناسبة قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ... روى ابن جرير عن حذيفة في الآية قال: (ويظهر أن المراد بذلك قبول قلوب هؤلاء للشائعات ضد الإسلام والمسلمين وتجاوبهم معها). 4 - وبمناسبة قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ .. إلى آخر السورة ننقل ما يلى: أ- روى الإمام أحمد ... عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم: فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر، انتهوا إلى رأس مفازة (¬1)، ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك، إذ أتاهم رجل في حلة حبرة (¬2)، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا نعم، قال: فانطلق بهم، فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم، ألم ألقكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء، أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى. قال: فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه» ¬

_ (¬1) أي صحراء لا ماء فيها. (¬2) نوع من برود اليمن.

كلمة في أواخر سورة براءة

ب- وروى البزار عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شئ، قال عكرمة: (أراه قال في دم) - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال: «أحسنت إليك؟» قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب بعض المسلمين، وهموا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ إلى منزله، دعا الأعرابي إلى البيت فقال: «إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت» فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وقال: «أحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شئ، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم» فقال: نعم، فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي كذلك يا أعرابي؟» قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورا، فقال لهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها، وأنا أعلم بها، فتوجه إليها، وأخذ لها من قشام الأرض، ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار». وبمناسبة الكلام عن هاتين الآيتين، نذكر ما روي في الصحيح من أن زيدا المكلف بكتابة القرآن في زمن أبي بكر قال: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت- أو أبي خزيمة- فسجلها زيد بناء على شهادته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين، ولا يعني هذا أن هاتين الآيتين ليستا متواترتين، بل هما متواترتان رواية، إذ كثير من الصحابة الحفاظ كانوا يحفظونهما ورووهما، ولكن هذه رواية حال، لا تنفي وجود رواة آخرين. 5 - روى أبو داود عن أبي الدرداء. من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات، إلا كفاه الله ما أهمه، كلمة في أواخر سورة براءة انتهت السورة بما رأينا من الأمر للمسلمين بالكون مع الصادقين أهل الجهاد، كما

كلمة في سورتي الأنفال وبراءة

ذكرت ما أعد الله لأهل الجهاد، وكيف ينبغي أن يترافق الجهاد مع العلم؟ وكيف ينبغي أن يسير خط الجهاد من الدائرة الأقرب إلى ما وراءها؟ وكيف ينبغي أن يكون الموقف الإيماني من سور القرآن عامة بما في ذلك سور الجهاد، وما هو موقف أهل النفاق من هذه السور؟ ثم ذكرت بعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء توجيه له عليه الصلاة والسلام لما ينبغي أن يقوله إذا رأى إعراضا، وهكذا استكملت قضية القتال والجهاد. والذي نراه ان ما جاء بعد قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ إنما هو على الصادقين الذين ينبغي أن يكون المسلم معهم كما هو تعريف بالكاذبين الذين لا ينبغي أن يكون المسلم معهم: فالكينونة ينبغي أن تكون مع الذين يزاولون الجهاد ومع العلماء ولا يصح أن تكون الكينونة مع أهل النفاق الذين عرفوا في السورة من مواقفهم وأقوالهم وذكرت أواخر السورة موقفين من مواقفهم، وختمت السورة بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتدي به الصادقون في تعاملهم مع أتباعهم وليعرف بذلك من هم الصادقون الذيم ينبغي أن يكون الإنسان معهم: فمن ينعت المسلمين بالمشقة الظالمة عليهم ومن لم يكن عنده حرص على المؤمنين ومن لم تكن عنده رأفة ورحمة بالمؤمنين فهذا ليس صادقا ولا يستأهل المتابعة. كلمة في سورتي الأنفال وبراءة رأينا أن سورتي الأنفال وبراءة محورهما آية افتراض القتال في سورة البقرة، والآيتان بعدها، فهناك فرض القتال، ثم جاءت سورتا الأنفال وبراءة لتبين من يجب علينا أن نقاتل، وما يلزم لهذا القتال من شروط مادية ونفسية، وما هي أحكام الله في كل قضية ترافق القتال، من سلم إلى عهد، إلى غنائم إلى غير ذلك، وهذه المعاني كلها عرضت من خلال التطبيق العملي لفريضة القتال من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، فسجلت سورة الأنفال معركة بدر، وسجلت سورة سورة براءة غزو تبوك، وبسورة الأنفال وبراءة ينتهي القسم الأول من أقسام القرآن.

كلمة حول القسم الأول من أقسام القرآن

كلمة حول القسم الأول من أقسام القرآن: القسم الأول من أقسام القرآن يشمل: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة الأنفال والأنعام وبراءة. غير أنا رأينا أن سورتي الأنفال وبراءة تعتبران في حكم السورة الواحدة، وقد رأينا كيف أن النسفي اعتبرهما سورة واحدة، وأدخلهما في السبع الطول، وإذن فهذه السور السبع تسمى السبع الطوال، وقد عنون ابن كثير في أوائل كلامه عن سورة البقرة بهذا العنوان «ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال» ثم روى بأكثر من إسناد قوله عليه الصلاة والسلام: «أعطيت السبع الطول مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل» ثم روى بأكثر من إسناد قوله عليه الصلاة والسلام: «من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر» غير أنه ذكر أن مجاهدا وابن جبير قد جعلا السابعة هي سورة يونس وأغفلا الأنعام وبراءة، ونحن نرجح رأي النسفي إذ هو الذي يتفق مع كون ترتيب القرآن توقيفيا، ولكوننا لا نرى فرقا بين سورة يونس وما بعدها، حتى نلحق سورة يونس بما قبلها، بدلا من أن نجعلها مع ما بعدها، خاصة وهي مبدوءة بالأحرف التي بدأت بها أكثر من سورة بعدها. إن التذوق العميق لكتاب الله يرجح إلحاق سورة يونس بالقسم الثاني من أقسام القرآن. لقد استعرضنا القسم الأول من أقسام القرآن. ورأينا فيه إجمالا ثم تفصيلا. رأينا سورة البقرة، ورأينا المعاني فيها كيف أنها تتسلسل على سياق، ثم رأينا كيف أن السور التالية فصلت ما أجمل في بعض آيات سورة البقرة على الترتيب نفسه. أو نقول: إن مقاطع أو آيات في سورة البقرة أجملت، فجاءت السور الست بعدها توضح هذا الإجمال على التسلسل الوارد في سورة البقرة، والملاحظ أن السبع الطول، أي القسم الأول من أقسام القرآن يكاد يعدل ثلث القرآن تقريبا، فإذا كان القرآن كما قسموه ثلاثين جزءا، فإن السبع الطول حوالي عشرة أجزاء ونيف، وبعد ذلك يأتي القسم الثاني من أقسام القرآن، ويبدأ بسورة يونس، وينتهي بسورة القصص، ويعدل هذا القسم كذلك ثلث القرآن إلا قليلا، فهو حوالي تسعة أجزاء ونيف، وهو تسع عشرة سورة. وسنبدأ الكلام عنه في المجلد الخامس متوكلين على الله، سائلين الله أن يفتح علينا، وأن يجنبنا أن نقول على كتابه زورا أو أن نحمله ما لا يحتمل، أو أن نتكلف فيه ما ليس لنا به علم، وإذا كنا رأينا في القسم الأول كيف أن السور فصلت بعض ما

ملاحظات حول هذا القسم: - ملاحظات للمربين

أجمل في سورة البقرة على ترتيب معين، فسنرى في القسم الثاني كيف أنه مؤلف من مجموعات، وأن كل مجموعة تفصل إجمالا في سورة البقرة على ترتيب معين، ثم تعود المجموعة اللاحقة لتفصل إجمالا آخر على ترتيب معين وهكذا. ملاحظات حول هذا القسم:- ملاحظات للمربين أ- نقترح على المربي الذي يقرئ هذا القسم أو يدرس تفسيره أن يلاحظ تحقيق ما يلي: أن يركز في ذهن المتعلم الهدف العام من كل سورة، فيركز على سورة البقرة واستيعابها معاني القرآن، ويلفت النظر إلى شمول الإسلام، وحقيقة التقوى، وطرق الوصول إليها، فمن لم يتحرر من كل قصور في فهم الإسلام بعد البقرة فما أخذ شيئا. ومن لم يتحقق بالتقوى ويتعرف على حقيقتها من سورة البقرة فما أخذ شيئا. ويركز في سورة آل عمران على قضية الإيمان، والمواقف اليومية والحياتية المنسجمة معه، فما لم يفعل ذلك يكون قد أهمل كثيرا. ويركز في سورة النساء على التطبيق الحرفي لمعانيها كطريق موصل إلى التقوى. ويركز في سورة المائدة على التحقق بها على اعتبار أن من لم يتحقق بها يبقى معرضا للضلال. ويركز في سورة الأنعام على العبودية لله والقيام بشكره. ويركز في سورة الأعراف على ضرورة اتباع هدى الله وترك ما سواه. ويركز في سورتي الأنفال وبراءة على ضرورة القتال والجهاد والاستعداد له، والتخلص من كل مانع حسي أو معنوي يحول دونه، وإذا قلنا إن هذه ملاحظات للمربين، فهي ملاحظات ينبغي أن يعطيها الدارسون أهمية بالغة بشكل عام. ب- المفروض أن يلاحظ المربي شيئين: الفهم الصحيح، والتطبيق الصحيح. وفي هذا القسم- كغيره- آيات واضحة وآيات تحتاج إلى دقة فهم، فالمفروض أن يلفت المربي نظر المتعلم إلى المعاني الصحيحة للنوع الثاني، وخاصة في القضايا التي هي مظنة أن يجهلها الإنسان أو يغفل عنها، وأما في موضوع التطبيق فلا ينبغي أن يكلفه بما لا

يطيق، وإنما يحققه بصحة الفهم، ويدله على العمل بقدر الإمكان. ج- فى كل سورة من السور ينبغي أن يختص بعض الآيات بوقفات تربط بين الإنسان والواقع، وبين الحياة والسلوك. وكمثال يركز في سورة البقرة على مقدمتها، وعلى الآيات التي تحدد طرق الوصول للتحقق بصفات المتقين، ويركز على قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وعلى ملامح الاقتصاد الإسلامي القائم على الإنفاق، وتحريم الربا، وضبط المعاملات. وفي سورة آل عمران يركز على قضية الطاعة والبطانة والتحرر من طاعة الكافرين أثناء مروره على إِنْ تُطِيعُوا .... * أو لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ .... وفي سورة النساء يركز على شبه العصر في موضوع تعدد الزوجات، وموضوع نظام الإرث، ونظام الرق، والاحتكام إلى الله ورسوله. وقضية الجهاد .... وفي سورة المائدة يركز على آيات الحكم، وعلى الآيات التي لها علاقة بقسوة القلب أو فتنته، وعلى الآيات التي تشرح نماذج من الفساد ... وفي سورة الأنعام يركز على النعم، وعلى الشكر، وعلى خطر تحريم الحلال. وفي سورة الأعراف يركز على خطورة الموقف من الأمر والنهي في حياة الأمم. وفي سورة الأنفال وبراءة يركز على ارتباط الإيمان بقضية الجهاد، ولا شك أن كل سورة فيها ما يذكر بمعاني السورة الأخرى، ولكن المربي ينبغي أن يضع أمامه هدفا في كل سورة يحققه من خلال إقرائها أو تحفيظها أو تدريسها. د- وعلى المربي في عصرنا أن يبتعد ابتعادا كليا في الدروس العامة عن التصريح، وعن الهجوم الواضح على الأشخاص والهيئات إلا إذا دعت ضرورة لذلك، ويكتفي بإبراز الفكرة والإشارة البعيدة من باب قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ .... إن نقل الإنسان من طور إلى طور من خلال القرآن عملية تحتاج إلى صبر طويل دؤوب، وحكمة بالغة، وكل سورة تحقق- بشكل من الأشكال- عملية النقل هذه، إذا أتقن المربي- أو المعلم- عملية النقل، وهذه الملاحظة لا تختص بهذا القسم بل هي في القرآن كله.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قسم المئين

القسم الثاني من أقسام القرآن قسم المئين ويتضمن سور يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء، الكهف، مريم، طه، الأنبياء، الحج، المؤمنون، النور، الفرقان، الشعراء، النمل، القصص،

المجموعة الأولى من القسم المئين

[المجموعة الأولى من القسم المئين] كلمة في قسم المئين: مع أن تقسيم القرآن إلى أربعة أقسام: قسم الطوال، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل قد ورد في حديث حسن- كما رأينا- فإننا لا نعلم أن أحدا قد حدد قسم المئين وقسم المثاني، إن هناك تحديدا لقسم الطوال، ولقسم المفضل، على خلاف في قسم المفصل، وواضح أن قسم المثاني ينتهي حيث ابتدأ قسم المفصل، كما أنه من الواضح أن قسم المئين يبدأ حيث انتهى قسم الطوال، وقسم الطوال ينتهي بسورة (براءة). وإذن فقسم المئين يبدأ بسورة يونس فأين ينتهي؟. إن هناك علامتين بارزتين تدلاننا على أنه ينتهي بسورة القصص: العلامة الأولى: أن سورة القصص وسورة النمل- قبلها- وسورة الشعراء- قبلهما- تكاد تشكل زمرة واحدة من قسم واحد؛ إذ الثلاثة مبدوءة بالطاء والسين، وسورة الشعراء مائتان وسبع وعشرون آية، وسورة النمل ثلاث وتسعون، وسورة القصص ثمان وثمانون آية، فهي قريبة من المائة التي أخذ قسم المئين اسمه منها، والسورة التي تأتي بعد سورة القصص هي سورة العنكبوت، وآياتها تسع وستون، فهي بداية قسم المثاني والله أعلم. العلامة الثانية: إنه منذ سورة آل عمران لم نعد نرى الأحرف الم تتصدر سورة بشكل منفرد. رأينا المص ورأينا المر ولأول مرة بعد سورة آل عمران، ولآخر مرة تأتي الم* بداية لأربع سور هي: العنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، مما يمكن أن يستأنس به بأن سورة العنكبوت بداية قسم جديد هو قسم المثاني. وبالتالي فإن سورة القصص هي نهاية قسم المئين. فقسم المئين يبدأ بسورة يونس، وينتهي بسورة القصص. والله أعلم *** ومن خلال تتبع المعاني نجد أن قسم المئين يتألف من ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: هي يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم. والمجموعة الثانية: هي الحجر، والنحل، والإسراء، والكهف، ومريم. والمجموعة الثالثة: هي طه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان،

والشعراء، والنمل، والقصص. وسنرى كيف أن المعاني هي التي حددت بداية المجموعات ونهايتها، وهي التي عرفتنا أن هذا القسم ينقسم إلى ثلاث مجموعات. *** ولقد رأينا في قسم الطوال أن المعاني في سورة البقرة تسلسلت على طريقة، ثم جاءت السور اللاحقة ففصلت في معان وردت في سورة البقرة على نفس التسلسل الذي جاء في سورة البقرة على غير تعاقب، ففصلت آل عمران في مقدمة سورة البقرة، وفصلت النساء والمائدة والأنعام في المقطع الأول من القسم الأول، وفصلت سورة الأعراف في المقطع الثاني من القسم الأول، وكان تفصيل هذه السور لمحاورها تفصيلا له ولامتداداته من سورة البقرة، ولذلك فإن سورتي الأنفال وبراءة فصلتا في آية فريضة القتال والآيتين بعدها من سورة البقرة بعد عشرات الآيات. وإذن فالسور التي جاءت بعد سورة البقرة من قسم الطوال فصلت في معان من سورة البقرة على ترتيب ما، وإن قسم المئين يأتي بعد ذلك لتفصل كل مجموعة من مجموعاته في سورة البقرة من بدايتها على ترتيب، وكل ذلك سنراه تفصيلا بإذن الله. *** لقد فصلت سورة آل عمران في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل. وفي المجموعة الأولى من قسم المئين تأتي سورة يونس لتفصل في مقدمة سورة البقرة تفصيلا آخر. وفصلت سور: النساء والمائدة والأنعام في المقطع الأول بعد المقدمة نوع تفصيل، وتأتي في المجموعة الأولى من قسم المثاني: سور هود، ويوسف، والرعد، لتفصل في المقطع الأول تفصيلا آخر. وكما أن سورتي الأنفال وبراءة فصلتا في محور بعيد من المقطع الثاني في سورة البقرة فإن سورة إبراهيم هنا تفصل في محور بعيد من المقطع الثاني في سورة البقرة. ثم تأتي المجموعة الثانية من قسم المئين لتفصل في سورة البقرة من بدايتها إلى نهايتها، بتفصيلها محاور من سورة البقرة تختلف أو تتفق مع ما فصلته سور أخرى، ولكن على حسب ترتيب ورودها في سورة البقرة دون اشتراط التعاقب

إن مجموعة ما عند ما تفصل في سورة البقرة فإنها تفصل في محاور على ترتيب سورة البقرة، ولكن ليس شرطا أن تكون هذه المحاور وراء بعضها مباشرة في سورة البقرة. فقد يكون هناك فاصل بين المحور والمحور، ولكن من الملاحظ أن مجموعة ما عند ما تفصل في محاور متعددة فإن هذه المحاور من سورة البقرة تربطها مع بعضها روابط متينة في عالم المعنى، وسنرى ذلك بشكل واضح أثناء التفصيل- إن شاء الله- وهاهنا سنقدم نموذجا: *** لقد كان أكثر ما انصب عليه تفصيل سورة آل عمران من مقدمة سورة البقرة هو توضيح صفات المتقين والكافرين. وسنرى أن سورة يونس سينصب تفصيلها على الآية الأول من مقدمة سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ولقد انصب تفصيل سورة النساء على الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة وخاصة على التقوى من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وسنرى أن سورة هود سينصب تفصيلها على قوله تعالى: اعْبُدُوا من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأن سورة يوسف سترينا مصداق قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. فسورتا: هود ويوسف تفصلان في الآيات الخمس التي فصلت فيها سورة النساء، ولكنهما تركزان على نقاط بعينها، بينما ركزت سورة النساء على نقاط أخرى، وسورة الرعد تفصل في نفس المحور الذي فصلت فيه سورة المائدة، مع تركيزها على نقاط بعينها. ثم تأتي سورة إبراهيم فتفصل في آية بعيدة في سورة البقرة هي: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. ولو أنك أتيت إلى محاور هذه المجموعة كلها من سورة البقرة ووضعتها بجانب بعضها لرأيت أنك أمام موضوع متكامل.

فمع أن سورة البقرة لها سياقها، وتترابط آياتها ببعضها ترابطا واضحا فإن المجموعات التي تفصل في محاور من سورة البقرة تربط المعاني في سورة البقرة إلى بعضها برباط جديد، لتريك أن هناك صلات بين آيات سورة البقرة ذات الموضوع الواحد ولو تباعد ما بين هذه الآيات. وهذه قضايا تظهر للإنسان من خلال التتبع والتأمل، ولذلك نذكرها هنا لمجرد الإشارة إليها، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى *** تأتي المجموعة الأولى من قسم المئين موطأة لمعاني المجموعة الثانية، وتأتي المجموعة الثانية وتبدأ بسورة الحجر التي تكاد أن تكون عرضا سريعا لكل الأوليات، ثم تأتي سور المجموعة الثانية لتفصل في معان من سورة البقرة لم تأت سور من قبل تفصلها، وبذلك يوضع في قسم المئين أساسان يوطان المجموعة الثالثة. ثم تأتي المجموعة الثالثة في قسم المئين فتكمل بناء القسم في تفصيلها لمحاورها من سورة البقرة تفصيلا يكمل عمل المجموعتين السابقتين. وتتشابه المجموعات الثلاث في هذا القسم في أن كلا منها تفصل في محاور من سورة البقرة من الابتداء حتى الانتهاء، كما تشابه في أن كلا منها تنطلق انطلاقات متشابهة في تاكيد الإيمان بالقرآن، ثم تسير في طريق تعميق الالتزام، ثم تصل إلى الوعظ والتذكير، ثم إن هذه المجموعات الثلاث كل منها يكمل الآخر؛ ومن ثم كانت قسما واحدا *** وهذا أوان عرض المجموعة الأولى من قسم المئين وهي سور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم. وسنرى بعد عرضها ما الذي دلنا على أنها مجموعة متكاملة ضمن قسم المئين

سورة يونس

سورة يونس وهي السورة العاشرة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم المئين، وآياتها مائة وتسع وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة يونس ومحورها

كلمة في سورة يونس ومحورها: يلاحظ أن أول آية في سورة يونس هي قوله تعالى الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ثم يأتي قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ وفي الآية (38) نجد قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. ألا ترى أن هذا يقابل قوله تعالى في سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ثم نجد قوله تعالى في سورة يونس الآية: 57): يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ألا ترى أن هذا يقابل قوله تعالى في خاتمة الآية الأولى من سورة البقرة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وإذا نظرت إلى ما ختمت به سورة يونس وهي قوله تعالى: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. فأنت ترى- ابتداء- أن محور سورة يونس هو قوله تعالى في سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فإذا كانت سورة آل عمران قد فصلت مقدمة سورة البقرة كلها، فإن سورة يونس تفصل الآية الأولى من سورة البقرة، ويكون مجئ الر في السور الأولى من هذه المجموعة فيه إشارة إلى نوع جديد من التفصيل، فالسورة إذا تقرر كيف أن هذا القرآن لا ريب فيه، وتناقش المرتابين الذين هم أحد اثنين: إما مستغربون أن ينزل الله وحيا، أو متهمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب. وترد على هؤلاء وهؤلاء، ولكن لا بطريقة البشر في الرد، إنها ترد بأسلوب هو وحده كاف ليدل على أن الريب في غير محله، ثم تقرر السورة كيف أن القرآن هدى، ثم تختم السورة بالتذكير والتلخيص لمضمونها كله. فالسورة تتألف من مقدمة هي آية واحدة تشعر بموضوع السورة كله، ثم يأتي جسم السورة وهو يتألف من ثلاثة أقسام ينتظمها محور السورة العام. *** إنه ليس من المصادفة أن تكون سورة يونس على مثل هذا الترابط مع أول آية من سورة البقرة لولا أن ما اتجهنا إليه في الربط بين سور القرآن كان صحيحا: إن أول سورة البقرة هو: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ تأمل هذه

الآية، وتأمل المسرى العام لسورة يونس من خلال تأمل الآيات التالية: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ .. وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لاحظ كلمة لا رَيْبَ فِيهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ .... يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لاحظ كلمة وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لاحظ كلمة فِي شَكٍّ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاحظ كلمة فِي شَكٍ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ... *** لو أنك نظرت هذه الآيات بتأمل لوجدتها: إما أنها تتحدث عن الشك وتزيل أسبابه، أو أنها تتحدث عن هداية القرآن والاهتداء به، وكل ذلك مرتبط بقوله تعالى من سورة البقرة: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ........... إنه بسورة يونس يبدأ التفصيل الثاني لسورة البقرة بتفصيل أول آية فيها، ولكن- كما رأينا من قبل- أن السورة عادة لا تفصل محورها فقط بل تفصل محورها وامتداداته وارتباطاته من سورة البقرة نفسها، وهذا الذى نراه في سورة يونس. *** ولقد فطن الألوسي إلى مجموعة روابط تربط بين سورة يونس وسورة براءة التي سبقتها فقال: (ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم

وهذه ابتدئت به، وأيضا أن في الأولى بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ الآية وقال جل وعلا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ على أحد الأقوال. وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ وفي قوله سبحانه: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إلى أن قال سبحانه: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وأيضا في الأولى براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه، وفي هذه براءته صلى الله عليه وسلم من عملهم، ولكن من دون أمر بقتال، بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل، كما قيل على ضد ما في الأولى، وهذا نوع من المناسبة أيضا، وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) كما فطن صاحب الظلال رحمه الله إلى الصلة بين بداية سورة يونس وخاتمتها فقال: (والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها. فيجئ في المطلع قوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ .. ويجئ في الختام: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ .. فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام. كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام)

القسم الأول من سورة يونس

القسم الأول من سورة يونس ويمتد حتى نهاية الآية (56) حيث يأتي بعد ذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ... وهذا القسم يتألف من آية هي مقدمة السورة، ومقطعين يناقشان الريب في القرآن: المقطع الأول بدايته: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ فهذا المقطع يناقش الكافرين بأصل الوحي والمقطع الثاني بدايته: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ .. فهذا المقطع يناقش المكذبين بالقرآن، فالقسم بمجموعة يناقش الريب في القرآن، فهو إذن يصب في تفصيل قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فهذا القسم في السورة يؤكد أن هذا القرآن لا ريب فيه، ثم يأتي القسم الثاني ليؤكد أن هذا القرآن هدى ويجب أن يهتدى به *** تبدأ السورة بآية تدل على مضمون السورة وهي: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ فالآية الأولى في السورة تذكر حكمة الكتاب، وذلك يؤكد أنه لا ريب فيه، وأنه هدى يجب أن يهتدي الناس به، فهذه الآية التي هي مقدمة السورة تشير إلى مضمون السورة، كما أنها في محلها تحقق ما يسمى في علم البلاغة (ببراعة الاستهلال) على أعظمه وأروعه، ولله ولكتابه المثل الأعلى، وتنزه كتابه وكلامه أن يشبه كلام البشر. وسنعرض مقدمة السورة مع المقطع الأول من القسم الأول معا وهذا أوان الشروع في ذلك

مقدمة السورة والمقطع الأول من القسم الأول

مقدمة السورة والمقطع الأول من القسم الأول المقدمة آية واحدة ثم يأتي المقطع ويستمر حتى نهاية الآية (37) وهذا هو مع المقدمة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يونس (10): الآيات 1 الى 37] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37)

ملاحظة حول طريقتنا في تفسير ما سيأتي من القرآن

ملاحظة حول طريقتنا في تفسير ما سيأتي من القرآن: في ما مر معنا من التفسير حرصنا أن نأتي بالمعاني العامة للآيات المفسرة، ثم نتبعها بالتفسير الحرفي، وكان ذلك يضطرنا إلى التكرار، وقد ألجأنا إلى ذلك حرصنا على عرض معاني ما نفسره متسلسلا؛ لتأكيد وحدة المقطع، أو القسم، أو المجموعة، ونعتقد أن ما مر كان كافيا لتأكيد ما أردناه، ولذلك ورغبة في الاختصار فإننا لن نسير بعد الآن على مبدأ ذكر المعنى العام ثم المعنى الحرفي، بل سنكتفي بذكر المعنى الحرفي. كلمة بين يدي الآيات: إن الناس الذين ينكرون الوحي إنما يفعلون ذلك لأن تصوراتهم عن أمور كثيرة مغلوطة ومن ثم، وهذه الآيات تناقش هؤلاء فإنها تصحح كل المفاهيم التي تؤدي إلى إنكار الوحي، وهذا شئ لا بد من تذكره لإدراك الصلة بين الآيات. قلنا: إن القسم الأول من سورة يونس يناقش المرتابين في هذا القرآن، ويؤكد أن هذا القرآن لا ريب فيه، وقلنا: إن المقطع الأول من القسم الأول يناقش الذين ينكرون أصل الوحي، وهاهنا نقول: إن مناقشة المنكرين لأصل الوحي إنما كانت كجسر يوصل إلى مناقشة المرتابين في القرآن، لذلك نجد في هذا المقطع قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ

المعنى الحرفي لمقدمة السورة وللمقطع الأول من القسم الأول فيها

آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ كما نجد أن المقطع قد ختم بقوله تعالى وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فهذا يؤكد أن مناقشة المنكرين لأصل الوحي إنما هو جسر لإقامة الحجة على المرتابين في هذا القرآن المعنى الحرفي لمقدمة السورة وللمقطع الأول من القسم الأول فيها: الر قد تقدم الكلام عن هذه الحروف أكثر من مرة وأقوى الأقوال فيها: أنها تدل على اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، أو أنها أسماء للسور التي استهلت بها، أو أنها إشارة إلى التحدي والإعجاز، أو أنها للتنبيه بين يدي المعاني، أو أنها مفاتيح لجرس السورة ونغمتها، أو أنها مفاتيح لفهم الوحدة القرآنية، أو أنها إشارة إلى وجود نسبة معينة لهذه الحروف في سورها ولا يمنع أن يكون ذلك كله مرادا من الاستفتاح بها. والله أعلم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي هذه آيات القرآن المحكم البين الحكمة، فالقرآن حكيم لاشتماله على الحكمة، والقرآن محكم لخلوه عن الكذب والافتراء والزيادة والنقصان، هذه الآية هي مقدمة هذه السورة، وفيها إشارة إلى الحكمة والإحكام في القرآن، فهو حكيم في اختيار ألفاظه، حكيم في ترتيب كلماته، حكيم في ترتيب آياته في السورة الواحدة، حكيم في ترتيب سوره في المجموعة أو القسم أو فيه كله، حكيم فيما تضمنه من معان وتوجيهات، وتربية وتشريع وتعليم، محكم في هذا كله لا يمكن نقضه، ولا يمكن أن يوجد فيه خلل، فكما أن في هذا الكون حكمة لأنه خلق الله الحكيم، ففي هذا القرآن حكمة لأنه كلام الله الحكيم، وكما أن الحكمة في هذا الكون لا يحيط بها إلا خالقها، فالحكمة في هذا القرآن لا يحيط بها إلا منزل هذا القرآن، وإنما يرى الخلق منها بقدر نور بصائرهم، وإذ كان القرآن حكيما فذلك دليل على أنه من عند الله، وذلك يقتضي من الخلق أن يهتدوا، وهذا هو مضمون السورة التي جاءت الآية الأولى فيها مقدمة لها. ثم يبدأ المقطع الأول وتعرض الآية الأولى منه عجب الكافرين أن ينزل الله وحيا، ويبعث رسولا مع تعجيبها من هذا العجب فتقول أَكانَ

فوائد

لِلنَّاسِ عَجَباً الهمزة لإنكار التعجب منه أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ أي إن هذا الرسول واضح السحر. فوائد: 1 - أنكر الله تعالى في هذه الآية على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر، وذلك دأب الناس من كل رسالة، بما في ذلك رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير: قال الضحاك عن ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك- أو من أنكر منهم- فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله عزّ وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً قال النسفي: (فقد كانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب. واستتبع عجبهم هذا؛ العجب من ذكر البعث والإنذار بالنيران، والتبشير بالجنان) وقد رد النسفي هذا العجب فقال: وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم. وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيضا؛ لأن الله تعالى إنما يختار للنبوة من جمع أسبابها، والغنى والتقدم في الدنيا ليس من أسبابها، والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجبا؟ إنما العجب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء. 2 - عبر بالآية عن السابقة والفضل والمنزلة الرفيعة بالقدم الصدق؛ لأن السعي والسبق إنما يكون بالقدم، ولذلك سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وإضافة القدم إلى الصدق فيه دلالة على زيادة الفضل المعطاة لأصحاب ذلك من الله، ويمكن أن يفسر قدم الصدق بمقام الصدق أو سبق السعادة. وقد توسع الألوسي في هذا المقام مبينا معنى (قدم صدق) ثم استطرد في ذكر استعمالات العرب لكلمة «القدم» مجازا فقال: قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة ومنزلة رفيعة عِنْدَ رَبِّهِمْ وأصل القدم العضو المخصوص، وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته، وأريد من السبق الفضل والشرف، والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا، فالمجاز هنا بمرتبتين، وقيل: المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى

كلمة في السياق

أدخلها أنا، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي» وقيل: تقدمهم في البعث، وأصل الصدق ما يكون في الأقوال، ويستعمل- كما قال الراغب- في الأفعال فيقال: صدق في القتال إذا وفاه حقه، وكذا في ضده يقال: كذب فيه، فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرا أو باطنا، يضاف إليه كمقعد صدق، ومدخل صدق، ومخرج صدق، إلى غير ذلك.) كلمة في السياق: محور هذه السورة كما قلنا من قبل- أول آية في سورة البقرة وهي قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فهي تفصيل لهذه الآية، ومن ثم فإن هذه السورة تستأصل الشك، وتهيج على اتباع القرآن، ووصف القرآن بالحكمة في الآية الأولى، والبدء في هذا المقطع بعرض عجب الكافرين من الوحي، والتعجب منه، هو سير في هذا الطريق، فالشك بالقرآن تعود أسبابه إما إلى الشك بأصل الوحي، أو الشك بالموحى إليه. وهذا المقطع الذي بين أيدينا ينسف الشك بأصل الوحي بتبيان أن وحي الله وإرسال الرسل ضرورة لا محيص عنها. فكيف تكون مستغربة! وقد ذكر المقطع عدة مجموعات من الآيات، كل مجموعة تنسف العجب من إنزال الوحي بشكل من الأشكال، فلننتقل الآن إلى عرض المجموعة الأولى لنرى ما قلناه واضحا: المجموعة الأولى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ فهو مربيكم وسيدكم ومالككم، ومن كان كذلك فكيف يترككم بدون هداية ووحي وإنذار! الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وهل هي كأيامنا، أو كل يوم منها بألف سنة، أو المراد غير هذه وهذه؟ أقوال للمفسرين وستأتي. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال ابن كثير: (والعرش أعظم المخلوقات وسقفها) أقول: العرش مخلوق غيبي، يجب الإيمان به، ونمسك عن التفصيل في شأنه، إلا في الحدود التي فصلت فيها النصوص، والنص في سياقه يفيد أن من كانت السموات والأرض خلقه، والعرش في سلطانه، فكيف يستغرب أن يوحي إلى خلقه ليوجههم ويأمرهم وينهاهم. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي أمر الخلق كله. وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. ومعنى (يدبر) يقضي ويقدر على مقتضى الحكمة، بدأ بالتذكير بربوبيته وما يدل على عظمته وملكه، من خلقه السموات والأرض، وأتبعها بتذكيره بتدبير أمر الخلق كله؛ ليعلم الجاحدون رسالاته أن الذي يدبر السموات والأرض يدبر البشر بإرساله رسلا لهم، وإنزاله وحيا عليهم. ما مِنْ

فوائد

شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي: لا يشفع شافع عنده إلا إذا إذن له، وهذا تذكير بكمال عزته وكبريائه، وإذا كان كذلك فكيف يتوهم الجاحدون ألا ينزل وحيا، وألا يطالب عباده بتكليف. ذلِكُمُ العظيم الموصوف بما تقدم اللَّهُ رَبُّكُمْ وإذ كان ربكم فإنه سيأمركم وينهاكم عن طريق الوحي. فَاعْبُدُوهُ أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، فهو الذي يستحق العبادة لا غيره من إنسان أو ملك، أو طبقة، فضلا عن غير ذلك من معنى أو جماد. وإذ كان هو المستحق للعبادة التي يدخل فيها معرفته وطاعته، والقيام بوظائف العبودية له، فكيف الطريق إلى ذلك إلا بواسطة الوحي. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أيها الجاحدون إنزال الوحي وإرسال الرسل، وأيها المشركون به غيره، ألا تتدبرون فتستدلون بوجود هذا الخلق على الخالق، وتعرفون بذلك صفاته، وتتذكرون أن من هذا شأنه لا يترك عباده بلا وحي وأمر ونهي، وثواب وعقاب، وهكذا، وبآية واحدة هدم الشبهة الأولى التي تحول دون الإيمان بهذا القرآن، وهي شبهة من يستبعد أصلا أن ينزل الله وحيا. فوائد: 1 - قال ابن كثير، وقال الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة أنه قال حين نزلت هذه الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب. فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: من الجن، خرجنا من المدينة، أخرجتنا هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم. 2 - رأينا أن السورة بعد مقدمتها عرضت لشبهة وردتها، ولنتساءل الآن عن مظنة وجود هذه الشبهة في الفكر العالمي؟. نقول: إن من درس تاريخ الفلسفة يجد أن هذه الشبهة تكاد تكون أحد أركان الفكر الفلسفي في العالم، فمنذ أريسطو- بل من قبله حتى الآن- تجد الفكر الفلسفي- بما في ذلك الفكر الذي يثبت وجود الله- يعتقد أن الله لا يتدخل في شئون خلقه، بل كان أريسطو يتصور أن الله منصرف عن خلقه أصلا، لا يعنيه من أمورهم شيئا، فهو مشغول بكونه سعيدا- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- ومن درس وضع العالم المعاصر يجد أن أكثر الخلق هذا شأنهم، فأكثر المجتمعات، وأكثر المفكرين، لا ينكرون وجود الله، ولكن إيمانهم بوجوده يرافقه عدم استعداد للتلقي عنه، أو على الأصح استغراب أن ينزل وحيه، وأن يكون وحيه ملزما وموجها، وخذ مثلا أمريكا،

[سورة يونس (10): آية 4]

فأمريكا تكتب على دولارها «بالله نؤمن» ولكن دستورها يعتبر من الجرائم حمل المجتمع الأمريكي على دين يكون هو الحاكم، فماذا يعني هذا وأمثاله، وقد أصبح مثل هذا هو المسيطر على التفكير البشري، إلا أن البشر في عصرنا تواضعوا على أن الله لا علاقة له بشئونهم؟ وهل هذا إلا ما عرضته الآية الأولى في المقطع وهل الجواب عليه إلا ما جاء في الآية الثانية 3 - من الشبهات التي يثيرها الرافضون لتحكيم كتاب الله، ولتحكيم شريعته؛ أن هناك دعاوى كثيرة في هذا الشأن، وأن هناك اختلافات كثيرة، وهذا من أكبر الجهل والظلم، فكثرة الخلاف لا تعني فقدان الحق، ثم لا تقتضي تركه، بل كثرة الخلاف تبعث على العلم وبذل الجهد للوصول إلى اليقين، ومن بذل أدنى جهد عرف أن دينا هذا القرآن كتابه هو الحق الخالص. *** وبعد أن هدم الله شبهة المنكرين لأصل الوحي، ذكر الله عباده ووعظهم، فأخبر أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة، لا يترك منهم أحدا إلا ويعيده كما بدأه. وأن حكمته في إرجاع الخلق إليه وبعثهم هو مجازاة المكلفين. فمقتضى عدله أن يثيب المطيع ويعاقب العاصي، ومن ثم اقتضى ذلك أن يكون هناك يوم آخر. وإذ كان الأمر كذلك فكيف يستغرب المستغربون أن ينزل وحيا ينذر الناس بما أمامهم، ويبشر الصالحين بما أعد لهم، بعد أن يدلهم على طريق الإيمان والعمل الصاح. قال تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي إلى الله رجوعكم ومآلكم كلكم، فلا ترجعون في العاقبة إلا إليه؛ فاستعدوا للقائه باتباع وحيه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي هذا وعده الجازم المؤكد أن يعيدكم إليه جميعا. إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ هذا تعليل لإمكان العودة وقد شاءها الله فما المانع من ذلك. وتعليل لوجوب المرجع إليه فمن بدأ الخلق قادر على أن يعيده وقد أوجب الرجوع إليه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي العدل والجزاء الأوفى، أي ليكافئهم بعدله ويوفيهم أجورهم، أو ليكافئهم بسبب عدلهم إذ آمنوا ولم يظلموا، وهذا بيان للحكمة من ابتداء الخلق وإعادته، فالحكمة هي جزاء المكلفين على أعمالهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ أي بالغ نهاية الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم، وإذا كان هذا وعده، وإذا كان هذا كائنا لا محاله، فكيف يستغرب الجاحدون أن ينزل وحيا؟ وكيف يتهمون رسوله بالسحر! فالآية وعظ

فائدة

وتذكير وتدليل وهي- في الوقت نفسه- تحطيم لإنكار الكافرين أصل الوحي فائدة: إن الإيمان بالله يلازمه الإيمان باليوم الآخر، فمن عرف الله آمن باليوم الآخر، إن من عرف علم الله وقدرته لم يستغرب الإعادة والحساب، ومن عرف عدل الله لم يستغرب أن يوجد يوم لتحقيق العدل المطلق، ومن عرف انتقامه لم يستغرب أن يوجد يوم آخر يعذب به أعداءه. ومن عرف كرمه لم يستغرب أن يعد لأوليائه جنته، كيف وقد أرسل الرسل للتبشير بجنته والإنذار بناره، فكيف يستغرب المستغربون؟؟ إن علة عصرنا الرئيسية هي الغفلة عن الله واليوم الآخر، والغفلة عما تقتضيه معرفة الله واليوم الآخر، من التزام بوحي الله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته، ولا دواء لهذه الغفلة إلا بالذكر، وتلاوة القرآن، وبالعلم، وإلا بصحبة الذاكرين، والعلماء العاملين، الطالبين لوجه الله، الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة. *** هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي ذات ضياء وَالْقَمَرَ نُوراً أي ذا نور، والضياء أقوى من النور، ولذا جعله للشمس، جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نورا؛ مما يشعر بأن هناك فارقا ما، وقد ظهر في عصرنا بوضوح الفارق بين الشمس والقمر. إذ أن نور القمر انعكاس لضياء الشمس. فالشمس نورها منها، والقمر نوره مستمد من الشمس. وهكذا تظهر معجزات القرآن يوما فيوما، ففي كل يوم جديد وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي وقدر سير القمر منازل: أو قدره ذا منازل: فأول ما يبدو صغيرا، ثم يتزايد نوره حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى. وهكذا كل شهر قمري لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي لتعلموا بالشمس والقمر عدد السنين والشهور والأيام، وحساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور. قال ابن كثير: (فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام). أقول: وبالشمس تعرف السنون الشمسية، وبالقمر تعرف السنون القمرية ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي ما خلق الله المذكور إلا متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثا يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يبين الحجج والأدلة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم عندهم علم بدقائق هذا الكون، فإذا كان لهم تدبر وتأمل ينتفعون بهما. وإذا كان الله عزّ وجل يفعل مثل هذا

[سورة يونس (10): آية 6]

لمصلحة عباده، فكيف يهملهم، فلا يهديهم ولا ينزل عليهم وحيا يبشرهم وينذرهم، ألا إن عجب الناس من أن ينزل الله وحيا في غير محله. وهكذا نرى أن الشبهة الأولى ضد هذا القرآن تتحطم بشكل ثم بآخر إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي في مجئ كل واحد منها خلف الآخر، أو في اختلاف لونيهما، أو في تعاقبهما، إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه، أو اختلافهما بالذهاب والمجئ والزيادة والنقصان وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ أي من الآيات الدالة على عظمته من ظاهر للجميع أو ظاهر للبعض وَالْأَرْضِ من الخلائق والعجائب والدلائل لَآياتٍ أي دلالات على قدرته تعالى لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أي يتقون الله باتقاء عقابه وسخطه وعذابه، خصهم بالذكر لأنهم يحذرون الآخرة فيدعوهم الحذر إلى النظر، كأن الله عزّ وجل بعد أن أقام الحجة على ضرورة إنزال الوحي من خلال ذكره عنايته بخلقه، نبه تعالى أن الآيات في هذا الكون التي تدل على كمال عنايته لا يعرفها ولا ينتفع بها إلا المتقون، فلا يستغرب إذن أن يكون كثير من الناس بمنأى عن الانتفاع، وبالتالي فهم مبتعدون عن الوحي المنزل. ثم عقب الله عزّ وجل بخمس آيات تبين السبب الرئيسى للكفر بالوحي وهو الكفر بالآخرة والاطمئنان للدنيا، وتدل على الطريق الصحيح للوصول، وتذكر بعض الأسباب التى تجعل الناس يكفرون، فالكفر أثر عن الجهل بالله وسننه. ففي الآيات الخمس الآتية مزيد بيان في شأن الكفر بالوحي والإيمان به *** ويلاحظ أن المقطع الذي بين أيدينا بدأ بقوله تعالى أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ... وهي تنتهي بإنذار الكافرين وتبشير المؤمنين. وكما أن ذكر الإنذار في الآية الأولى سبق، فإن الإنذار هنا يسبق التبشير .......... إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا بالبعث، أي لا يتوقعونه أصلا، ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلهم عن التفطن للحقائق، أو لا يؤملون حسن لقائنا كما يؤمله السعداء، أو لا يخافون خطر لقائنا الذي يجب أن يخاف وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي بدل الآخرة، بإنكارهم للآخرة وإيثارهم القليل الفاني على الكثير الباقي فجعلوا الحياة الدنيا منتهى

[سورة يونس (10): آية 8]

رضاهم وَاطْمَأَنُّوا بِها أي واطمأنت إليها نفوسكم حتى لم يبق بها أي مزعج يحركها نحو الآخرة. قال النسفي (أي: وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها فبنوا شديدا وأملوا بعيدا) أو وتصرفوا بحرية كأنهم أرباب وفروا من العبودية ومن التذكير بها: وهذا وضع أكثر الخلق الآن، بل على هذا النوع من التفكير تقوم الحضارة العالمية والمدينة العالمية بمؤسساتها وصورها وفروعها، كل شئ في عصرنا يقوم على تعظيم الدنيا وتمجيدها، وبالتالي التهالك على كسبها وملاذها ومفاتنها ولهوها دون النظر إلى الآخرة. ثم كمل وصف هذا النوع من الناس وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا أي دلائل وحدانيتنا غافِلُونَ أي تاركون النظر فيها فلا يتفكرون. فهؤلاء ما جزاؤهم؟ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ أي مقرهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم فهي عقوبة في مقابل ذنب. قال الحسن البصري واصفا حال هؤلاء أخذا من الآية: (والله ما زينوها ولا رفعوها حتى راضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية، فلا يتفكرون فيها، والشرعية فلا يأتمرون بها بأن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والجرائم، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق السوي المؤدي إلى الثواب، أو يهديهم ربهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة. وفي الآية بشارة لمن آمن وعمل صالحا بأن الله يتولى أمره ويكمل عليه نعمته تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْواهُمْ فِيها أي دعاؤهم فيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي يدعون الله بقولهم سبحانك اللهم تلذذا بذكره. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، أو هي تحية الملائكة إياهم، أو تحية الله لهم سلام وَآخِرُ دَعْواهُمْ أي وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال النسفي: قيل أول كلامهم التسبيح وآخره التحميد. فيبتدءون بتعظيم الله وتنزيه، ويختمون بالشكر والثناء عليه، ويتكلمون بينهما بما أرادوا. قال ابن جريج: أخبرت أن قوله دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ قال: إذا مر بهم الطير يشتهونه، قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعواهم؛ فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه، فذلك قوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ قال: فإذا أكلوا حمدوا

[سورة يونس (10): آية 11]

الله ربهم، فذلك قوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال سفيان الثوري: إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وختم ابن كثير الكلام على الآية الأخيرة بقوله: «هذا فيه دلالة على أنه هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند تنزيله حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ (الكهف: 1) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ (الأنعام: 1) إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأولى الآخرة، في الحياة الدنيا وفي الآخرة في جميع الأحوال، ولهذا جاء في الحديث: «إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» وإنما يكون ذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم، فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه) ثم أخبر تعالى عن حكمته ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم، أو على أموالهم، أو على أولادهم بالشر، في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك. فلهذا لا يستجيب لهم- والحالة هذه- لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا ادعوا لأنفسهم، أو لأموالهم، أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء، فيسبب من ذلك يبقى الكافرون بالآخرة مترددين متحيرين كأثر من آثار استجابة الدعاء أحيانا، وعدم استجابته أحيانا كأثر من حلمه عزّ وجل، وصبره وإمهاله لعباده، وعدم التعجيل لهم. وختم هذه المجموعة بهذه الآية فيه استكمال للحجج الواردة في هذه المجموعة، فإنكار الوحي أثر عن أشياء كثيرة، منها الكفر باليوم الآخر، وهذه الآية تذكر سببا من أسباب كفر الكافرين باليوم الآخر، فالله رحيم بعباده لطيف بهم، ومن ثم فإنه لا يعجل لهم الشر، وهذا كله تخفى حكمته على من لا يؤمن باليوم الآخر، ومن ثم فإنهم يستمرون فيما هم فيه من طغيان، متحيرين مترددين، بدلا من أن يؤمنوا ويتابعوا الوحي قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ أي كاستعجالهم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ بأن يهلكهم ولكن يمهلهم فَنَذَرُ أي نترك الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يؤمنون بالآخرة فِي طُغْيانِهِمْ في تجاوزهم حدود الله يَعْمَهُونَ أي يترددون ويتحيرون. فصار المعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم لأميتوا وأهلكوا، وقد تضمن هذا نفي التعجيل، فبسبب

ملاحظة

من ذلك يبقى الكافرون في شركهم وضلالهم ويترددون بما يمهلهم الله، ويفيض عليهم النعمة- مع طغيانهم- إلزاما للحجة عليهم. ملاحظة: لاحظ الصلة بين قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا الآية الثانية من الآيات الخمس الأخيرة وبين قوله تعالى فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ في الآية الحادية عشرة التي هي آخر آية في المجموعة الأولى من المقطع، مما يشير إلى أن الآيات الخمس الأخيرة متكاملة في مجموع تقريراتها، وقد ذكرنا من قبل محل هذه التقريرات في السياق فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ذكر ابن كثير ما رواه البزار في مسنده عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم». كلمة في السياق: رأينا أن سورة يونس مبدوءة بمقدمة هي الآية الأولى منها، ثم ذكرت موقفا من مواقف الكافرين من الوحي والرسول والقرآن أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ ثم جاءت المجموعة الأولى من المقطع الأول وهي التي مرت معنا فهدمت عجبهم، وهدمت دعواهم، والآن تأتي مجموعة أخرى تهدم العجب والاستبعاد، وتهدم اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالسحر فلنر المجموعة الثانية من المقطع الأول من القسم الأول من سورة يونس: المجموعة الثانية وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي أصابه الضر دَعانا أي دعا الله لإزالته لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى

[سورة يونس (10): آية 13]

يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها، سواء كان مضطجعا عاجزا عن النهوض، أو قاعدا لا يقدر على القيام، أو قائما لا يطيق المشي فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ أي أزلنا ما به مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أي مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي، أو مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به، كأنه لم يدعنا، أخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا أصابه الضر وأصابته الشدة، وكيف أنه يجزع ويكثر الدعاء عند ذلك. فإذا فرج الله شدته، وكشف كربته، أعرض وذهب كأنه ما كان به من ذلك شئ. ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته كَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي للمجاوزين الحد في الكفر، والمزين هو الشيطان بوسوسته ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن الذكر، والصد عن سبيل الله، واتباع الكفر. وهكذا بدأت هذه المجموعة تكمل الحجج على الكافرين في إنكارهم الوحي. فكأنها قالت: أنتم أيها الكافرون إذا أصابكم الضر تجأرون إلى الله في الدعاء، مما يدلل على أنكم تعتقدون أن الله لا يهملكم، فكيف إذن تتعجبون أن ينزل وحيا ويرسل رسولا؟! فكما أنكم إذا دعوتموه فأجابكم تنسون نعمته عليكم فهكذا هنا تنسون وحيه وتعجبون منه هذا شأنكم الإسراف في كل شئ. وفي هذا السياق ذكرهم بأن إرسال الرسل سنته في الأمم السابقة، وهددهم أن إهلاك المكذبين كذلك سنته، وذكرهم أنهم سائرون في الطريق نفسه فليحذروا. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ أي الأمم مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أي لما أشركوا وظلموا بالتكذيب وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الدالات على صدقهم وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ولذلك استحقوا الهلاك، فمهما بقوا فإنهم مصرون على الكفر يعني: أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم للرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل، ففي الآية إخبار عما أحل بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم من البينات والحجج الواضحات كَذلِكَ أي مثل ذلك يعني الإهلاك نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وهو وعيد لمن كذب برسالة محمد عليه الصلاة والسلام ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا من بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي لننظر أتعملون خيرا أو شرا، فنعاملكم على حسب عملكم، أي

فوائد

أنتم بمنظر منا فانظروا كيف تعملون أبالاعتبار بماضيكم، أم الاغترار بما فيكم، وبهاتين الآيتين تقوم حجة أخرى على من تعجبوا من أن يرسل الله رسولا مبشرا ونذيرا، وذلك من خلال التذكير بأن الله أرسل رسلا من قبل، وعذب من كذبهم، فمن درس ونظر علم أنه لا محل للتعجب أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، وفي هذا السياق ذكرهم وحذرهم وخوفهم وأنذرهم، وبهذا تنتهي المجموعة الثانية في هذا المقطع وقد أكملت صرح الرد على الكافرين في التعجب من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، لتأتي المجموعة الثالثة لتهدم عجبهم بشكل آخر. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ قال الألوسي: «وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة، واللائق بحال الكامل، التضرع إلى مولاه في السراء والضراء، فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك. وفي حديث الترمذي عن أبي هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء» والآثار في ذلك كثيرة). 2 - بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ نذكر ما يلي: ذكر مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء». وروى ابن جرير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء، فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعيد فانتشط أبو بكر، ثم ذرع الناس حول المنبر، ففضل عمر بثلاث أذرع حول المنبر، فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال: يا عوف رؤياك؟ قال: وهل لك في رؤياي من حاجة أو لم تنتهرني؟ قال: ويحك إني كرهت

كلمة في السياق

أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال: أما إحداهن فإنه كان خليفة، وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنه شهيد، قال: فقال: يقول الله تعالى ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل، وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء، وأما قوله (شهيد) فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به؟ كلمة في السياق: 1 - نذكر هنا بما ذكرناه من قبل أكثر من مرة. وهو أن القرآن يعطي معاني من خلال المعنى الحرفي، ومن خلال السياق الجزئي، ومن خلال السياق الكلي، ونحن نلاحظ في هذه السورة كيف أن كل آية- أو عدة آيات- تسجل معنى، وكل مجموعة تسجل معاني محققة هدفا معينا، فأنت عند ما تقرأ المجموعة الأولى، أو المجموعة الثانية تلاحظ أنها تهدم شبهة الكافرين، وتلاحظ أنها تنذر وتبشر، وتلاحظ أن كل آية منها تعلم وتربي وهكذا ... ومن ثم كان إعجاز هذا القرآن لا ينتهي 2 - رأينا أن المجموعة الأولى والثانية قد هدمت نفي الكافرين لأصل الوحي، ومن جملة ما رأيناه أن سببا من أسباب الإنكار للوحي هو الاطمئنان للدنيا، وعدم رجاء لقاء الله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ... وسنرى أن الآية الأولى في المجموعة الثالثة تحدثنا عن إنكار الذين لا يرجون لقاء الله لهذا القرآن: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ مما يؤكد أن السياق ماض في مناقشة الكافرين بالوحي، ومما يؤكد أن إقامة الحجة على الكافرين في أصل الوحي هو الجسر للوصول إلى مناقشة المرتابين بهذا القرآن المجموعة الثالثة وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن بَيِّناتٍ أي ظاهرات واضحات قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يخافون البعث ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي من نمط آخر أَوْ بَدِّلْهُ بأن تضع شيئا مكان شئ، وحكما مكان حكم قُلْ ما يَكُونُ لِي أي ما يحل لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي من قبل نفسي، أي ليس هذا إلي؛ إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي لا اتبع

[سورة يونس (10): آية 16]

إلا وحي الله من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل، لأن الذي أتيت به هو من عند الله لا من عندي فأبدله إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بتبديله عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي يوم القيامة قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله، وإظهاره عجبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء فيقرأ عليكم كتابا يغلب كل كتاب، وكلاما يغلب كل كلام، يعلو ولا يعلى، فيه من مظاهر الإعجاز، ومن المعجزات ما لا يحيط به أحد وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني، فصار معنى الآية: أي هذا القرآن إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك، ومشيئته وإرادته، والدليل على أني لست أتقوله من عندي، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عزّ وجل، لا تنتقدون علي شيئا تغمصوني به ولهذا قال: فَقَدْ لَبِثْتُ أي مكثت فِيكُمْ عُمُراً أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن، أي فقد أقمت بينكم أربعين سنة ولم تعرفوني متعاطيا شيئا من نحوه، ولا قدرت عليه، ولا كنت موصوفا بعلم وبيان فتتهموني باختراعه أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل، فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من عندي فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي ممن تقول على الله كذبا، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرما، ولا أعظم ظلما من هذا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي القرآن، ففيه بيان أن الكاذب على الله، والمكذب بآياته في الكفر سواء إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي الكاذبون والمفترون على الله كذبا، وبهذه الآيات الثلاث من هذه المجموعة أقام الله عزّ وجل الحجة على أن هذا القرآن من عنده، من خلال عبودية الرسول والتزامه بهذا القرآن. ومن خلال التعريف على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلال فلاحه عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك يدل على أنه رسول الله، وأن هذا القرآن من عند الله. فما محل هذه الآيات في السياق الذي يحطم العجب من أن يرسل الله رسولا وينزل وحيا؟. إن كثيرا من الكافرين تصورهم خاطئ عن الذات الإلهية وعن صفاته عزّ وجل، ونتيجة لذلك فهم يتصورون أن الوحي الذي ينزله الله ينبغي أن يكون على شكل معين كأن يكون خاليا عن التدخل في شئون البشر، أو كأن يكون فيه ترغيب فقط بلا ترهيب، ونتيجة لذلك فهم يتعجبون أن يكون هذا القرآن على هذه الشاكلة من التبشير

فوائد

والإنذار، والوعظ والترغيب والترهيب، وقد عبر عن هذا المعنى عرب الجاهلية بسذاجتهم فطالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن ليس فيه ما يغيظهم من ذم عبادة الأوثان، والوعيد لأهل الطغيان، وأن يبدله بأن يجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وعبر عن هذا المعنى كثير من الفلاسفة بشكل أو بآخر، فاستبعدوا أن يكون هذا القرآن من عند الله، لأنهم يتصورون أن الله إذا أنزل وحيا فينبغي أن يكون على شاكلة أخرى، كأن لا تظهر فيه صفات الجلال، وهؤلاء في منتهى السفاهة. فقد جعل الله في هذا القرآن من الآيات والمعجزات ما لا يستطيع المنصف إلا أن يسلم بأنه من عند الله وقد جعل الله في شخصية رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور ما لا يبقى معه شك أن هذا القرآن من عند الله. وبهذا يتبين لنا أن هذه المجموعة سائرة على نفس النسق في تحطيم العجب من أن يرسل الله رسولا. فوائد: 1 - الملاحظ من قوله تعالى قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ... أن الذين يتعنتون في مواقفهم إنما هم الذين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا، وليس عندهم رجاء لليوم الآخر أصلا. فداء الأدواء إذن هذه العلة. ومن ثم كان من واجب الدعاة تحريك همة الإنسان، وتحريك عقله لرجاء اليوم الآخر. 2 - إن اقتراح الكافرين على الرسول صلى الله عليه وسلم الإتيان بقرآن آخر، أو تبديل هذا القرآن فيه معنى ضمني، وهو أنهم يعتقدون أن هذا القرآن من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قادر على مثله، ولذلك طالبوه بالتغيير والتبديل. وهذا تأكيد لأصل الشبهة التي بدأ فيها هذا المقطع، وهي استبعاد أن ينزل الله وحيا على أحد من خلقه، وجاء الرد حاسما وحازما: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. وفي تفسير قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ من الآية الأخيرة يقول الألوسي: أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي، ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم، فإن ذلك غير خاف على من له عقل سليم، وذهن مستقيم، بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه وسلم، وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل، من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشئون، ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون، ولا مخالطة للبلغاء في

المحاورة والمفاوضة، ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة، ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب، وحيرت بلاغته مصاقع العرب، واحتوى على بدائع أصناف العلوم، ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم، وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون، ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون، ومصدقا بين يديه من الكتب المنزلة، ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة، لا يبقى عنده اشتباه، في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعمت أفضاله. 3 - بمناسبة قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ذكر ابن كثير أن الرسول الصادق، ومدعي النبوة الكاذب، لا بد أن ينصب الله من الأدلة على بر الصادق، أو فجور الكاذب، ما هو أظهر من الشمس- وقد دلل على فكرته بالكلام عن محمد صلى الله عليه وسلم عليه السلام ومسيلمة الكذاب فقال: (فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب- لمن شاهدهما- أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندسى الظلماء، فمن سيما كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود والعنسي. قال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس (أي اليهود) فكنت فيمن انجفل (أي هرب)، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، قال: فكان أول ما سمعته يقول: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» ولما وفد ضمام ابن ثعلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال: «الله» قال: ومن نصب هذه الجبال؟ قال: «الله»، وقال ومن سطح هذه الأرض؟ قال: «الله» قال: فبالذي رفع هذه السماء، ونصب هذه الجبال، وسطح هذه الأرض، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: «اللهم نعم» ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين، ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: صدقت، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك، ولا أنقص. فاكتفى الرجل بمجرد هذا» وقد أيقن بصدقه- صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه. كما قال حسان بن ثابت: لو لم تكن فيه آيات مبينة … كانت بديهته تأتيك بالخبر وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة، بأقواله الركيكة التي

[سورة يونس (10): آية 18]

ليست بفصيحة، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة. وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة. وكم من فرق بين قوله تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ إلى آخرها، وبين قول مسيلمة- قبحه الله ولعنه-: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين. وقوله- قبحه الله-: لقد أنعم الله على الحبلى، إذا أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفان وحشى. وقوله- خلده الله في نار جهنم وقد فعل-: الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذلقوم طويل. وقولة- أبعده الله من رحمته-: والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، واللاقحات لقما، إهالة وسمنا، إن قريشا قوم يعتدون ... إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يتلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء، ولهذا أرغم الله أنفه، وشرب يوم حديقة الموت (¬1) حتفه، ومزق شمله، ولعنه صحبه وأهله، وقدموا على الصديق تائبين، وجاءوا في دين الله راغبين، فسألهم الصديق خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة- لعنه الله- فسألوه أن يعفيهم من ذلك، فأبى عليهم إلا أن تقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس، فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم. فقرءوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه، فلما فرغوا، قال لهم الصديق رضي الله عنه: ويحكم؟ أين كان يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إل (¬2). وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة- وكان صديقا له في الجاهلية. وكان عمرو بن العاص لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم؟ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدة فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ .... إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل علي مثله، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر (¬3)، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر، كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: الله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركة لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى) اهـ فإذا ثبت أن عجب الكافرين من أن ينزل الله وحيا، ويرسل رسولا في غير محله، يمضي السياق الآن في المجموعة الثالثة ليعجب من مواقف هؤلاء الكافرين وأقوالهم، ¬

_ (¬1) حديقة الموت: اسم البستان الذي قتل فيه في حرب اليمامة. (¬2) أي من ربوبية أي غير صادر عن الله عزّ وجل (¬3) الوبر: دويبة صغيرة.

[سورة يونس (10): آية 19]

وكلها سفه، وكلها في غير محلها؛ وكلها لا حجة فيها، فعجبهم في غير محله، وطلبهم تغيير القرآن أو تعديله في غير محله، وكذلك كثير من شئونهم، ومن ذلك: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه. أليس هذا هو العجب يرفضون أن يعبدوا الله، ويعبدون خلقه، يرفضون أن يعبدوا من ينفع ومن يضر، ويعبدون ما لا ينفع ولا يضر. وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ هذا منطق المشركين وفلسفتهم في الشرك، فهم مثبتون لوجود الله الذي لا ينكره عاقل أصلا، ولكنهم يشركون بعبادته، وهو الحقيق بالعبادة وحده، ويفلسفون ما هم عليه، وهذه هي فلسفة كل مشرك، سواء أشرك بالله صنما أو بشرا أو غير ذلك، حتى الذين يشركون عيسى أو نبيا آخر أو وليا هذه فلسفتهم، ويأتي الجواب قُلْ لهم أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ أي أتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إذ لو كان له شريك لعلمه. قال ابن جرير معناه: أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض، وقال النسفي تفسيرا للآية: أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له- وهو عالم بجميع المعلومات- لم يكن شيئا. وقوله: في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما معدوم. ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم، وهكذا حطم فلسفتهم التي- من أجلها ومن أجل الدفاع عنها- حاربوا الوحي، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا القرآن، ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد هو الإسلام. قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة، وبراهينه الدامغة وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً أي حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا، وذلك إما في عهد آدم- والقرون العشرة بعده- أو بعد الطوفان حين لم يبق على الأرض من الكافرين ديار- على أحد القولين- فَاخْتَلَفُوا أي فصاروا مللا، منهم أهل الحق، ومنهم أهل الباطل وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فيما اختلفوا فيه ولميز المحق من المبطل. قال ابن كثير: أي لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود، لقضي بينهم فيما

[سورة يونس (10): آية 20]

اختلفوا فيه، فأسعد المؤمنين، وأعنت الكافرين. قال النسفي: وسبقت كلمته لحكمة، وهي أن الدار دار تكليف. وتلك الدار دار ثواب وعقاب. اهـ. وعلى هذا فبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الوحي إذن إنما هي لإرجاع الناس إلى ما كانوا عليه في الأصل، فكيف يتعجب الكافرون من ذلك، فلا يغر الكافر بعدم تعجيل العذاب له، فإن ذلك لحكمة، ثم عجب الله منهم مرة أخرى، فهؤلاء تقوم عليهم الحجة بمعجزة هذا القرآن وبشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمحتوى هذه الدعوة التي هي دعوة الفطرة، ومع ذلك يطلبون آية وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي من الآيات التي يقترحونها مما ذكره في أكثر من مكان في كتابه، وقد جرت سنته تعالى أنه إذا أعطى الكافرين ما اقترحوه من الآيات، ثم أصروا على كفرهم، أن يستأصلهم فهو يعطي الآية أحيانا وأحيانا لا يعطيها، وفي كل فعل من أفعاله حكمة فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي هو المختص بعلم الغيب، فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير. قال ابن كثير: (أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور). فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم. وبهذا انتهت المجموعة الثالثة، وقد أقامت الحجة على الكافرين، على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن ما هم فيه باطل، وأن ما يطلبونه سفه، فإذا كان هذا كله فتعجبهم من الوحي، والرسول، وفحوى الرسالة باطل، وكلامهم عن الرسول أنه ساحر زور. وهكذا هدمت هذه المجموعة شبها حول الرسالة والرسول. وفندت تصرفات متعنتة، وأقوالا ظالمة، ومواقف سفيهة، والآن تأتي المجموعة الرابعة في هذا السياق لتعطينا معاني جديدة تحطم عجب الكافرين من أن ينزل وحيا ويرسل رسولا. كلمة في السياق: 1 - بدأ المقطع الذي بين أيدينا بذكر تعجيب الكافرين أن ينزل الله وحيا على أحد من خلقه، وبذكر اتهام الكافرين للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وسار المقطع مفندا هذه الأباطيل، ومؤكدا على أن الوحي حق، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق، والمجموعة التي مرت معنا آتية في هذا السياق: إن الكافرين يطلبون آية ليؤمنوا بالوحي وبالرسول، وقد ردت المجموعة عليهم مبينة: أن الكافرين خالفوا أصل الفطرة وعبدوا غير الله، وهذا يقتضي تصحيحا بوحي وبرسول، ولقد كان هذا الوحي هو القرآن، وكان الرسول

المجموعة الرابعة

محمدا صلى الله عليه وسلم، وكل الأدلة تثبت أن هذا القرآن وحي، وأن محمدا صادق فكيف يكفرون بما ثبت صدقه وبمن يعرفون صدقه؟ ألا يكفيهم ما يعرفونه عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ليعرفوا أن من كان هذا شأنه ما كان ليكون كما يتهمونه به. 2 - من الملاحظ أن المجموعة الرابعة التي ستأتي معنا والمجموعتين السابقتين عليها كل منها مبدوءة بكلمة «وإذا» وأن في كل مجموعة إقامة حجة على من ينكر الوحي ويكفر بالرسول المجموعة الرابعة وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي إذا لهم استهزاء وتكذيب ودفع وإنكار لآيات الله، والمكر: إخفاء الكيد وطيه. يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة، والخصب بعد الجدب، والمطر بعد القحط، لم يلبثوا أن يطعنوا في آيات الله ويعادون دينه قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي مجازاة أي أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة، وأفاد التعبير أنهم يسارعون إلى المكر قبل أن يغسلوا رءوسهم من مس الضراء إِنَّ رُسُلَنا أي الحفظة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي الكرام الكاتبين يكتبون عليهم جميع ما يفعلونه، ويحصونه عليهم، ويعرضونه على عالم الغيب والشهادة- وهو أعلم- فيجازيهم على الجليل والحقير، والنقير والقطمير. أعلمت الجملة الأخيرة أن ما يظنونه خافيا لا يخفى على الله، وهو منتقم منهم، ثم أخبر تعالى أنه هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يجعلهم قادرين على قطع المسافات بالأرجل، والدواب والفلك الجارية في البحار، وغير ذلك مما سخره الله للإنسان، أو يخلق فيكم السير حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي في السفن وَجَرَيْنَ أي وسارت السفن بِهِمْ أي بمن فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي لينة الهبوب لا عاصفة ولا ضعيفة وَفَرِحُوا بِها أي بتلك الريح للينها واستقامتها لما يترتب على ذلك من سرعة سيرهم رافقين، فبينما هم كذلك إذ جاءَتْها أي تلك السفن رِيحٌ عاصِفٌ أي شديدة الهبوب تكسر كل شئ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من البحر أو من جميع أمكنة الموج وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا، جعل إحاطة العدو بالحي مثلا في الإهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ معه غيره، ففي مثل

[سورة يونس (10): آية 23]

تلك الساعة لا يدعون صنما ولا وثنا ولا نبيا ولا رسولا ولا وليا ولا بشرا، بل يفردون الله بالدعاء والابتهال، قائلين لله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الأهوال أو هذه الريح أو هذه الحال لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمتك مؤمنين بك متمسكين بطاعتك لا نشرك بك أحدا، مفردين لك العبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أي من تلك الشدة إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ أي يفسدون فيها بِغَيْرِ الْحَقِّ أي باطلا أي مبطلين. كأن لم يكن من ذلك شئ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ أي الظلم عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتعون فيها قليلا، أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم ومآلكم بعد الموت فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي فنخبركم بجميع أعمالكم، ونجازيكم بها، ونوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه. ذكر الله في هذه الآية طبيعة الإنسان في ضراعته إلى الله في الضراء، وإعراضه في السراء، بل محاربته لله في السراء، ثم زهد تعالى بمتاع الدنيا، وحذر من الآخرة، ثم يأتي الآن مثل للحياة وزهرتها وزينتها، وسرعة انقضائها وزوالها إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب فَاخْتَلَطَ بِهِ أي بالماء نَباتُ الْأَرْضِ أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وَالْأَنْعامُ أي ومما تأكل الأنعام من عشب وغير ذلك حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي بهجتها وزينتها بالنبات واختلاف ألوانه وَازَّيَّنَتْ أي وحسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان، جعلت الأرض وهي آخذة زخرفها كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بألوان الزينات وَظَنَّ أَهْلُها أي أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها. فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها واتلفت ثمارها، قال تعالى أَتاها أَمْرُنا أي عذابنا وهو هنا ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً أي فجعلنا زرعها شبيها بما يحصد من الزرع في قصه واستئصاله. أي جعلنا زرعها يابسا بعد الخضرة والنضارة كالمحصود بالمناجل كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأنها ما كانت حينا قبل ذلك، أو كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث بالأمس، وذكر الأمس هنا مثل على الوقت القريب كأنه قيل: كأن لم تغن آنفا

كلمة في السياق

قال قتادة: كأن لم تغن كأن لم تنعم. قال ابن كثير: وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبين الحجج والأدلة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعتبرون وينتفعون بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها سريعا مع اغترارهم بها، وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها، وتفلتها عنهم، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها، والطلب لمن هرب منها، وهكذا انتهت هذه المجموعة. فكيف أدت دورها في السياق العام في تحطيمها دعاوى الكافرين، في نفيهم أن ينزل الله وحيا ويبعث رسولا؟ إن الفطرة البشرية تتوجه إلى الله حق التوجه في الأزمات، وتعد الله في هذه الأزمات أن تستقيم على أمره، فإذ كان الأمر كذلك فهذا يدلل على أن الإنسان يعرف أن الله يرعاه وينقذه، فلماذا إذن يرفض رعايته في الهداية، مع أن الشكر لله لا يعرف طريقه إلا بواسطة الرسل، فلم يستغرب الإنسان إرسال الرسل؟ وفي المجموعة تعزية للرسول الذي يكفر به، ويرد عليه إذ تبين له طبيعة الإنسان وحرصه على الدنيا وكفره بعد كل وعوده بالاستقامة، وفي الآيات تزهيد بالدنيا التي بسبب الحرص على التمتع بها ينأى الكافرون عن اتباع الوحي والعمل للآخرة أو نقول: كأن الآيات تقول للكافرين إن كنتم صادقين في أن الله يهمل الإنسان فلا يبعث له رسولا فلماذا تدعونه في لحظات الضيق؟ إن دعوتكم له في لحظات الضيق دليل على أنكم تعرفون أن الله لا يهمل الإنسان فلماذا تستغربون أن يرسل رسولا؟ ويمكن أن يقال في مؤدى السياق: إنكم أيها الكافرون قد أعطيتم الله فى لحظة ضيق أن تستقيموا على أمره فاتبعوا رسوله وقرآنه بدلا أن تحاربوا وتستغربوا، ولا تغرنكم الحياة الدنيا. وهكذا من خلال تقرير حقيقة الإنسان، وحقيقة الدنيا، يحذر وتقام الحجة على أصحاب فكرة استغراب إرسال الرسول النذير وإنزال الوحي. كلمة في السياق: تحدثنا في آخر تفسير المجموعة الرابعة عن صلة المجموعة في سياق مقطعها، ولم نتحدث عن صلة المجموعة بما قبلها مباشرة، وهاهنا نحب أن نقول: لقد سيقت المجموعة الرابعة بقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ .. وقد جاءت المجموعة الرابعة تقيم الحجة على المشركين بواقعهم إذا أحيط بهم، فهذا محل المجموعة في السياق القريب. ولقد ختمت المجموعة الأولى بقوله تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ ... ثم بدأت المجموعة الثانية بقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً وهذه المجموعة الرابعة بدأت بقوله تعالى:

فوائد

وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ... فالسياق يتكامل بين المجموعات في تبيان حال الإنسان، وفي تبيان افتقاره إلى الله، وإظهار هذا الافتقار ساعة الشدة، ويدلل ذلك على عمق قضية التوحيد في ذاته، ومع ذلك فإنه يشرك، إن الصلات بين الآيات وبين المجموعات أكثر من أن يحاط بها وما ذكرناه نموذج فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قال الألوسي: (أي دعوه سبحانه من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد، وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه، المركوزة في طبائع العالم، وروى ذلك عن ابن عباس ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص: «لما كان الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر، فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة: لئن لم ينجيني في البحر إلا الإخلاص، ما ينحيني في البر غيره، اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتى محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما قال: فجاء فأسلم» وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة «أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه، فارجعوا بنا فرجع. وأسلم» وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء به سبحانه، بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا، لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين. وأيا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال. وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتارهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى أحدا فيهم يخص مولاه بتضرعه ودعائه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا؟ وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة

الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف) أقول: لعل في كلام الألوسي الأخير شفاء من الداء العياء، الذي أعيا الأطباء، وهو ما استشرى عند طبقات من الأمة، إذ يدعون غير الله ويستغيثون به، وإذا نصحتهم أو وعظتهم جادلوا متأولين، وكأنك تدعوهم إلى شرك أو ضلال، لا إلى التوحيد الخالص. 2 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ قال الألوسي: (هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ وأبو نعيم. والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث هن رواجع عن أهلها: المكر والنكث والبغي، ثم تلا عليه الصلاة والسلام يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم» وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه يا صاحب البغي إن البغي مصرعة … فاربع فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل … لاندك منه أعاليه وأسفله وعقد ذلك الشهاب فقال: إن يعد ذو بغي عليك فخله … وارقب زمانا لانتقام باغي واحذر من البغي الوخيم فلو بغى … جبل على جبل لدك الباغي) 3 - وبمناسبة الكلام عن الدنيا في المجموعة نذكر بالحديث: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط. فيقول: لا».

4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها نقول: إن الآية يمكن أن تفهم فهمين: فهما قريبا، وفهما بعيدا، أما الفهم القريب فهو ما ذكرناه، وأما البعيد فإنما يدلنا عليه ما نراه في عصرنا، فإن الأرض كلها في عصرنا تتطور نحو التحسين والتزيين بشكل كبير، وأصبح أهل الأرض قريبين من الشعور بأنهم مسيطرون عليها، متمكنون منها، حتى لو أرادوا أن يفنوا ما على الأرض بالقنابل الذرية والهيدروجينية وغيرهما لفعلوا، ولا يبعد أن يأتي يوم يزداد هذا الشعور، وعلى هذا الفهم فقد يكون ما نحن فيه علامة على أن عمر الأرض أصبح قريبا، وأن الساعة أصبحت قريبة، وهي قريبة بنص القرآن، ولكن المراد أن الأمر قد شارف، وعندئذ تكون الأرض كلها كأن لم تغن بالأمس. وهكذا نجد النص القرآني يسع الزمان والمكان والإنسان، فهذه الآية فيها إنذار للفرد والجماعة، وفيها إنذار للبشرية كلها 5 - عقب النسفي على ما ضرب الله من مثل للحياة الدنيا بقوله: (وهذا من التشبيه المركب: شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، وحكمة التشبيه التنبيه على أن الحياة صفوها شبيبتها، وكدرها شيبتها، كما أن صفو الماء في أعلى الإناء، قال: ألم تر أن العمر كأس سلافة … فأوله صفو وآخره كدر وحقيقته: تزين جثة الطين، بمصالح الدنيا والدين، كاختلاط النبات على اختلاف التلوين، فالطيبة تنبت بساتين الأنس، ورياحين الروح، وزهرة الزهر، وكروم الكرم، وحبوب الحب، وحدائق الحقيقة، وشقائق الطريقة، والخبيثة تخرج خلاف الخلف، وثمام الإثم، وشرك الشرك، وشبح الشح، وحطب العطب، ولعاع اللعب، ثم يدعوه معاده، كما يحين للحرث حصاده، فتزايله الحياة مغترا، كما يهيج النبات مصفرا، فتغيب جنته في الرمس، كأن لم تغن بالأمس، إلى أن يعود ربيع البعث، وموعد العرض والبحث. وكذلك حال الدنيا، كالماء ينفع قليله ويهلك كثيرة، ولا بد من ترك ما زاد، كما لا بد من أخذ الزاد، وآخذ المال لا يخلو من زلة، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة، وجمعه وإمساكه تلف صاحبه وإهلاكه، فما دون النصاب كضحضاح ماء يجاوز بلا احتماء، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز، والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة، وعمارتها بذل الصلات، فمتى اختلت القنطرة غرقته

المجموعة الخامسة

أمواج القناطير المقنطرة. وعن هذا قال عليه السلام: «الزكاة قنطرة الإسلام» وكذا المال يساعد دون الأمجاد، كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد، وكذلك المال لا يجتمع إلا بكف البخيل، كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل، ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف) *** ولننتقل إلى المجموعة الخامسة في هذا المقطع ولنقدم لهذه المجموعة بكلمة: إن هذه الحياة الدنيا يختلط خيرها بشرها، وشقاؤها بسعادتها، وألمها بلذتها، والله الذي خلق الخلق، وجعل هذه الدنيا على ما هي عليه، شاء أن يجعل دارا يتمحض فيها الخير واللذة والسعادة، بلا شر ولا شقاوة. وهذا يقتضي ثمنا. وتلك الدار تحتاج إلى أهلها، والله عزّ وجل يدعو إلى هذه الدار بواسطة الرسل، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يستغرب أن يرسل الله رسولا نذيرا وبشيرا، وهكذا تبدأ المجموعة الخامسة بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ إنه بعد أن ضرب الله مثلا للحياة الدنيا، وبعد أن ذكرنا بأن هذه الدنيا شأنها ما رأينا، فإنه بعد ذلك يذكرنا بجنته، ويذكرنا بالطريق إليها وباختصار نقول: إن المجموعة الخامسة ترتبط بسياق المقطع. وترتبط بالسياق المباشر، فارتباطها بالسياق المباشر من حيث إنها حديث عن الآخرة يأتي بعد حديث عن الدنيا، وارتباطها بالمقطع من حيث إن المقطع يرد على المنكرين للوحي، فالله يحدثنا عن ذاته جل جلاله أنه يدعو إلى دار السلام، وهذا يقتضي أن يرسل رسلا، وأن ينزل وحيا، فكيف ينكر المنكرون الوحي وبعثة الرسل؟ المجموعة الخامسة وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ دار السلام: هي الجنة، أضافها الله إلى اسمه تعظيما لها، وقد يراد بالسلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه، وقد يكون سميت دار السلام لفشو السلام فيها وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي ويوفق من يشاء إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى الإسلام أو إلى طريق الجنة. والمعنى: والله يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ولا يدخلها إلا المهديون، فدعوة الله عامة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدلالة،

[سورة يونس (10): آية 26]

وأما الهداية فهي خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية. فإذا كان الأمر كذلك فكيف لا يرسل الله رسولا وينزل وحيا، وكيف يتعجب الكافرون من إرسال الرسول، وإنزال الوحي لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي آمنوا بالله ورسله، وعبدوا الله كما أمر الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ قال ابن كثير: هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك أيضا، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته .. ثم عدد من فسر الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم حتى ليكاد يكون إجماعا. قال النسفي بعد أن ذكر القول السابق: وقيل: الزيادة المحبة في قلوب العباد. وقيل: الزيادة مغفرة من الله ورضوان وَلا يَرْهَقُ أي ولا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي سواد وَلا ذِلَّةٌ أي ولا كآبة، والمعني: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار من غبرة فيها سواد، ولا أثر هوان، لا في عرصات القيامة ولا بعدها، أو تقول: المعني: أنه لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ثم بين حال الكافرين فقال: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك والكفر وما يستتبع ذلك، أي وللذين كسبوا السيئات جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها أي جزاء سيئة، سيئة مثلها أي مقدر بمثلها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي وتعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عقابه مِنْ عاصِمٍ أي مانع أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً جمع قطعة مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً هذا إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة والمعنى: كأنما جعل على وجوههم أغطية من سواد الليل أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فإذا كان الأمر كذلك فكيف لا يبعث الله رسلا وينزل وحيا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي الكفار وغيرهم أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس، وبر وفاجر ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين، وهذا يكون إذ جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء فَزَيَّلْنا أي ميزنا بَيْنَهُمْ وبين المؤمنين، أي ففرقنا بينهم، وقطعنا كل صلة كانت بينهم في الدنيا وَقالَ لهم شُرَكاؤُهُمْ أي من عبدوه من دون الله من أولي العقل، أو الأصنام ينطقها الله عزّ وجل ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وهكذا أنكروا عبادتهم وتبرءوا منهم، فما كانوا

[سورة يونس (10): آية 29]

يعبدون إلا الشياطين بطاعتهم إياهم فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إننا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا بذلك منكم إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ أي إننا كنا عن عبادتكم غافلين، فما كنا نشعر بها ولا نعلم بها، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم أصلا. وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا، ولم يأمرهم بذلك، ولا رضي به، ولا أراده، بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شئ، العليم بكل شئ، وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له، ناهيا عن عبادة ما سواه. فأي الأمرين أعجب أمرهم، أو أن ينزل الله وحيا ويرسل رسولا؟! هُنالِكَ أي في ذلك المكان أو في ذلك الزمان تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ أي تختبر وتذوق ما أَسْلَفَتْ أي ما قدمت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود، هنالك في موقف الحساب يوم القيامة الاختبار الحقيقي لقيمة كل عمل وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ إلى ربهم الصادق في ربوبيته لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة، والمعنى: ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وغاب عنهم، أو وذهب عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وضاع عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة، فليترك هؤلاء الافتراء، وليعودوا إلى مولاهم الحق، وليعبدوا من يستحق العبادة قبل أن يأتي ذلك اليوم، وذلك بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان بوحي الله بدلا من الإنكار والتعجب والاتهام، وهكذا انتهت هذه المجموعة، وفيها دعوة لترك التعجب من أن ينزل الله وحيا من خلال الإنذار والتبشير. فبعد أن ذكر الله تعالى في المجموعة الرابعة الدنيا وسرعة زوالها، رغب في هذه المجموعة في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام؛ لأنها خالية من الآفات والنقائص والنكبات، ثم أخبر أنها لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، وبين ما أعده للكافرين بعد ذلك، وفي هذا السياق- المبشر المنذر- رد ضمني على المتصورين أن الله يدع هذا الخلق وشأنهم، فلا سؤال ولا حساب ولا عقاب، ولا رسل ولا وحي، ولا ميزان ولا عدل. ألا ما أحمق الإنسان الذي يفر من اتباع الوحي إلى الهوى.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ نذكر هذين الحديثين اللذين رواهما ابن جرير. أ- عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك. وإنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا، ثم جعل فيه مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله الملك والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل منها» رواه ابن جرير. أقول: هذا الحديث يؤكد ما ذهبنا إليه من أن السياق العام للمقطع مرتبط بالرد على التعجب من أن يرسل الله رسولا ب- وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» قال: وأنزل في قوله: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ الآية رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. 2 - وفي تفسير الزيادة في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ نذكر هذه الأحاديث: روى الإمام أحمد ... عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ - قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة. - روى ابن جرير .. عن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي: يا أهل الجنة- بصوت

كلمة في السياق

يسمع أولهم وآخرهم- إن الله وعدكم الحسنى وزيادة. فالحسنى الجنة. والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزّ وجل» روى ابن جرير ... عن عطاء بن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ قال: «الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عزّ وجل» ورواه ابن أبي حاتم أيضا. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أن من أهم ما انصب عليه الكلام في هذا المقطع قضية العبادة لله؛ ففي الآية الثالثة ورد قوله تعالى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ وفي الآية الثانية عشرة ورد قوله تعالى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ... وذلك في سياق مناقشة المنكرين للوحي، والحكمة في ذلك- والله أعلم- أن السياق يقيم الحجة على ضرورة بعثة الرسل، من خلال أمور متعددة أحدها: أن عبادة الله وحده ضرورية لا بد منها، وأن طريق معرفة ذلك الوحي وبعثة الرسول. 2 - ونلاحظ ملاحظة رئيسية في السياق وهو أن النقاش منصب على المشركين، والحجج تتلاحق ضدهم مرة بعد أخرى، والسبب واضح، لأن التعجب من أن ينزل الله وحيا ويبعث رسولا لا يكون من أهل الكتاب؛ لأنهم يؤمنون بالنبوة والوحي، ولا يكون من ملحد؛ لأنه لا يؤمن بوجود الله أصلا، فلا يكون إلا من مشرك إذن، ومن ثم نجد إنكار فكرة النبوة يظهر في البيئات المشركة، وعلى هذا نجد أن السياق يقيم الحجة تلو الحجة على المشركين في هذا المقطع، ألا أن من مظاهر العظمة في هذا القرآن أنه- وهو يناقش المشركين أو الكافرين- يذكر ويربي المؤمنين، فالسياق القرآني يؤدي دورا ودورا وأدورا، فهو يؤدي دوره في إقامة الحجة العقلية، ويؤدي دوره في التربية السليمة، ويؤدي دوره بما يسع المكان، وبما يسع الزمان، وبحيث يجد أهل كل جيل وأهل كل مكان وكأن القرآن أنزل لهم خاصة، فإذا اتضح هذا فلننتقل إلى المجموعة الأخيرة في هذا المقطع التي تنهي مناقشة الذين تعجبوا أن يكون الله قد أوحى إلى أحد من خلقه، وهي المجموعة السادسة في هذا المقطع. وتتميز المجموعة بأنها تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب أجوبة مباشرة، وأن يناقش مناقشة مباشرة لهؤلاء الذين ينكرون الوحي، ولذلك نجد أن كلمة (قل) تتكرر كثيرا

المجموعة السادسة

في هذه المجموعة. والحجج تتلاحق في هذه المجموعة على منكري الوحي والرسالة. فالله عزّ وجل يرزق، ويعطي السمع والبصر، ويعطي الحياة، ويدبر الأمر، فكيف يترك الإنسان بلا هداية. والله يبدأ الخلق ثم يعيده، فكيف يكفر الكافرون بالبعث، وكيف بالتالي- يكفرون بالوحي الذي ينذر بالبعث. والله يهدي والأصنام لا تهدي، فكيف تنكر هدايته ولا تتبع. ثم تختم المجموعة بتقرير أن هذا القرآن ما كان ليكون على ما هو عليه لولا أنه من عند الله، وأن من خصائص هذا القرآن التي تدل على أنه وحي، تصديقه للكتب السابقة، وتفصيله لفرائض الله، فالحجة فيه قائمة على أنه وحي الله، وهي بالتالي حجة على كل من ينكر الوحي، إن الحجة في هذا القرآن قائمة، إن في إعجازه، أو في مضمونه. فلنر المجموعة السادسة. المجموعة السادسة قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال المطر وما يترتب عليه وَالْأَرْضِ بما أودع فيها أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة؟ أو من يحميهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شئ؟ أو من يملكهما فيعطيهما من شاء من خلقه؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ الحيوان من التراب، والتراب من الحيوان، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي ومن يلي تدبير أمر العالم كله؟ فصل ثم أجمل فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أي فسيجيبونك عن هذا السؤال أن القادر على هذه هو الله، فهم يعلمون ذلك ويعترفون به فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا غيره بآرائكم وجهلكم؟ أفلا تتقون الشرك في العبودية إذ اعترفتم بالربوبية. أو أفلا تتقون أن تتصوروا أنه لا يبعث رسولا ولا ينزل وحيا؟ إن الله الذي هذا شأنه من رزق وعطاء وتدبير- كيف لا يرسل رسولا وينزل وحيا؟ وهكذا أقام الله عزّ وجل الحجة على المشركين في كل مذاهبهم من خلال ما يعترفون به وما يقرون به، ثم أتم الحجة عليهم فقال: فَذلِكُمُ اللَّهُ أي من هذه قدرته هو الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي الثابتة ربوبيته ثباتا لا ريب فيه لمن حقق النظر، وإذ كان هو الرب لأنه الإله باعترافكم، والمعطي باعترافكم، والمدبر باعترافكم، فينبغي أن تكون له العبادة والطاعة، وكيف تعرف العبادة والطاعة له إلا عن طريق رسوله، فكيف تتعجبون أن يرسل رسولا.

فائدة

فائدة: ننقل هنا ما قاله صاحب الظلال في الآية التي بدأت بها المجموعة قال: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ .. من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم. وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض. وهو أوسع من ذلك بكثير. وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون- عن رزق بعد رزق في السماء والأرض يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل. وكله من رزق الله المسخر للإنسان. فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق. ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق. ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. حتى عفن الأرض كشف فيه دواء وترياق! أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ .. يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويصححها أو يمرضها. ويصرفها إلى العمل أو يلهيها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره .. ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار. وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه. وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر، من دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة. وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن أو جزائها وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرءوس، عند ما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان، لا يقاس في شئ إلى صنع الله. بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون! وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ .. وكانوا يعدون الساكن هو الميت والنامي- أو المتحرك- هو الحي. فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة، والحبة من النبتة، وخروج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ .. إلى آخر هذه المشاهدات. وهو عندهم عجيب. وهو في ذاته عجيب، حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء، بما فيها من حياة كامنة واستعداد. فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله .. وإن وقفة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان لكافية

لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش! وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق ... ؟ وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق السامقة والعراجين والألياف؟ وأين كان يكمن الطعم والنكهة واللون والرائحة، والبلح والتمر، والرطب والبسر ... ؟ وأين في البيضة كان الفرخ؟ وأين كان يكمن العظم واللحم، والزغب والريش، واللون والشيات، والرفرفة والصوت ... ؟ وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب؟ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي؟ أين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، ولفتات الجيد، واستعدادات الأعصاب، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين؟ وأين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات؟. وهل يكفي أن نقول: إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله؟. وما يزال البشر يكتشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة. وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار. وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ .. في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شئون الكون وشئون البشر؟ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد؟ ومن .. ومن؟ ..

[سورة يونس (10): آية 33]

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ .. فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشئون الكبار. ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله. فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟ .. أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ. اهـ) ....... فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي لا واسطة بين الحق والضلال، فمن تخطى الحقوق وقع في الضلال، فالله الحق وكل معبود سواه باطل، ورسوله الحق فكل ما يناقض ذلك باطل. ووحيه الحق فكل ما خالفه باطل، والعبودية له هي الحق فكل عبودية لغيره باطلة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال والباطل، عن التوحيد إلى الشرك، عن اتباع الرسول إلى اتباع الشيطان، عن اتباع الوحي إلى اتباع الهوى كَذلِكَ أي مثل ذلك الحق أو كصرف هؤلاء عن الحق حَقَّتْ أي وجبت وثبتت كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي على الذين تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ هذي هي كلمة الله الأزلية أن الفاسق لا يستأهل الهداية، ولا يهديه الله، فكما حقت على هؤلاء كلمة الله أنهم لا يؤمنون بسبب من تعنتهم وإصرارهم على محاربة الحق، فكذلك حقت كلمة الله على كل فاسق أن لا يؤمن. نسأل الله العافية. وإذن فهؤلاء المشركون لا يؤمنون بالرسول والوحي لفسوقهم. إن عقوبة الفسوق أن لا يهدي الله صاحبه إلى الإيمان مع قيام الحجج فيه. فمن أراد الإيمان فعليه أن يطهر نفسه من الفسوق بترك مظهره الأول وهو الكبر. وبعد أن أقام الله تعالى الحجة على ربوبيته من خلال الكلام عن ألوهيته يقيم الحجة الآن على المشركين من خلال عجز شركائهم قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعيد الليل بعد النهار، ويعيد الجيل بعد الجيل، أو يبدأ خلق السموات ثم يعيد خلقها مرة أخرى. أو يبدأ خلق الإنسان والحيوان ثم يعيده يوم القيامة، ومع أنهم غير مقرين بالإعادة يوم القيامة، إلا أنها لظهور برهانها جعلت كأنها أمر مسلم قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لم يقل فسيقولون الله بل قال لرسوله: قل الله لأنهم لا تدعهم

[سورة يونس (10): آية 35]

مكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق هذه؛ فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب، وإلا فالمفروض أن يجيبوا هم بالإيجاب؛ فهم يقرون أن الله بدأ الخلق، ومن ثم فمن بدأ الخلق ينبغي أن يقر له بأنه قادر على إعادته، ومن كان كذلك فينبغي أن يسلم له ويخضع فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل، وبعد أن أقام الحجة على أن اليوم الآخر كائن، فإنه في الآية اللاحقة يقيم الحجة على هدايته ووحيه وقرآنه وهو الموضوع الرئيسي في السياق قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي يرشد إليه؟ الجواب لا قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أولا: بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وثانيا بإرسال الرسل وإنزال الشرائع وثالثا: بما يوفق ويلهم لاتباع الشرائع والرسل أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أي أمن لا يهتدي إلا أن يهدى؟ فمعنى النص كله: من الجدير بالاتباع الهادى أم العاجز عن الهداية لغيره، المحتاج إلى الهداية بنفسه؟ فإذا كان الجدير بالاتباع هو الهادي فمن أكثر هداية من الله الذي ليس من هاد غيره، فإذا هو الهادي وحده فكيف تتعجبون أن ينزل الله وحيا، ويرسل رسولا ليهديكم، أم كيف تتركون هدايته فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي فما بالكم تصدرون مثل هذه الأحكام الفاسدة إذ تسوون بين الله وخلقه فتقيسون الله على أصنامكم، فكما أن أصنامكم لا تهدي تظنون أن الله لا يهدي، فتستغربون أن يرسل رسولا، وينزل وحيا يهدي به الله من شاء. هلا رجعتم إلى صوابكم، فاهتديتم بنور الله، وتركتم ما أنتم فيه من أوهام وضلالات. ومن ثم قال: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ أي كلهم إِلَّا ظَنًّا أي توهما وتخيلا، فلا دليل عندهم ولا برهان إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فيما المطلوب فيه العلم. أي لا يغني من العلم أي إغناء، فلا قيمة له في هذا المقام إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ من اتباع الظن وترك الحق، وهو تهديد ووعيد شديد على اتباعهم الظن وتركهم هداية الله العظيمة المتمثلة في القرآن. وفي هذه الآية قال الألوسي: (أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة، كقياس الغائب على الشاهد، وقياس الخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهومة، ولا يلتفتون إلى فرد من أفراد العلم، فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع: مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه، وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه.

[سورة يونس (10): آية 37]

وتنكير (ظنا) للنوعية وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقيقة التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعنادا. وفيه دليل لمن قال: إن تحصيل العلم في الاعتقاد واجب، وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عاما للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه) ولما نعى الله على السائرين وراء الظنون والأوهام، ولما كان الطريق للخلاص من ذلك هو القرآن فقد قال تعالى بعد ذلك: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ما صح وما استقام في منطق العقل أن يكون مثل هذا القرآن في علو أمره، وإعجازه، وكثرة معجزاته، منسوبا إلى الله كذبا، فهذا القرآن بفصاحته وبلاغته وحلاوته واشتماله على ما اشتمل عليه لا يكون إلا من عند الله وَلكِنْ أنزل تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب المتقدمة، مصدقا لها ومهيمنا عليها، ومبينا لما وقع من التحريف والتبديل وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي وتبيين الكتاب، أي وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين، فصار المعنى: إن هذا القرآن في علو شأنه ما كان أن يفترى من دون الله، ولكن كان تصديقا للوحي السابق وتفصيلا للفرائض منتفيا عنه الريب، كائنا من رب العالمين، أو لكن كان تصديقا من رب العالمين للكتب السابقة، وتفصيلا منه لا ريب في ذلك، وبهذا تقرر في هذه الآيات الثلاث أن الله هو الهادي، وأن من مظاهر هدايته هذا القرآن، وأن من يتبع غير هدايته فهو في ضلال، فيا أيها المتعجبون أن ينزل الله وحيا ويرسل رسولا أعلموا ذلك، فالحجة قائمة عليكم أن هذا القرآن من عند الله، فلا تتعجبوا، فإن عجبكم في غير محله، وهكذا أقامت هذه المجموعة الحجة على الكافرين في موضوع الوحدانية واليوم الآخر والرسول والقرآن، وتوضيح الحق في هذه الأشياء ضروري لتحطيم فكرة الكافرين في العجب من أن ينزل الله وحيا ويرسل رسولا مبشرا ومنذرا. وبهذا ينتهي عرض المقطع الأول من القسم الأول من سورة يونس وقبل أن ننتقل إلى المقطع الثاني في هذا القسم فلنتكلم كلمة حول السياق. كلمة حول السياق: رأينا أن محور سورة يونس هو قوله تعالى من سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وذكرنا أن سورة يونس تتألف من مقدمة وثلاث أقسام وخاتمة. وهاهنا

نقول: إن القسم الأول من سورة يونس يفصل في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ والقسم الثاني يفصل في قوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وسنرى مجالات تفصيل القسم الثالث. إن القسم الأول يفصل في قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وهذا القسم يتألف من مقطعين: المقطع الأول: وهو الذي مر معنا ويبدأ بقوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ والمقطع الثاني: وهو الذي سنعرضه بعد قليل: ويبدأ بقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... ومن خلال النظر إلى بداية المقطعين ندرك أن الله عزّ وجل يقيم الحجة بهذين المقطعين على المرتابين في هذا القرآن. فالمرتابون أحد نوعين: نوع لا يتصورون أن ينزل الله وحيا على بشر، ونوع يتصورون أن محمدا كذاب، وقد ناقش المقطع الأول النوع الأول، وأقام الحجة عليه، وسينصب المقطع الثاني على مناقشة النوع الثاني ويقيم الحجة عليه، والصلة بين المقطع الأول والمقطع الثاني في غاية القوة؛ فهما قسم واحد لأنهما جميعا يقيمان الحجة على نفي الريب في أن يرسل الله بشرا رسولا وينزل عليه وحيا، لذلك انتهى المقطع الأول بقوله تعالى وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وبدأ المقطع الثاني بعده مباشرة بقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... وبمجموع المقطعين تقوم الحجة على أن هذا الكتاب لا ريب فيه، وليست في الحقيقة حجة واحدة، وإنما هي حجج؛ فكتاب في مثل هذا الإحكام، وفي مثل هذه المواطأة للكتب السابقة، وفي مثل هذا البيان للأحكام والعقائد والتصورات الصحيحة، وفي مثل هذا الإعجاز وكثرة المعجزات من أين يأتيه الريب؟ فإلى المقطع الثاني من القسم الأول وهذا هو:

المقطع الثاني من القسم الأول

المقطع الثاني من القسم الأول ويمتد من الآية (38) إلى نهاية الآية (56) وهذا هو: [سورة يونس (10): الآيات 38 الى 56] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

المجموعة الأولى

هذا هو المقطع الثاني من القسم الأول ويتألف من مجموعتين، كل مجموعة تخدم السياق العام، وتذكر معاني مرتبطة بالسياق الجزئي، وسنرى كل ذلك أثناء استعراض المجموعتين. المجموعة الأولى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أم يقولون اختلقه قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا على وجه الافتراء بسورة مثله أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم أنه مفترى والمعنى: إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبا إن هذا من عند محمد، فمحمد بشر مثلكم وقد جاء- فيما زعمتم- بهذا

[سورة يونس (10): آية 39]

القرآن فأتوا أنتم بسورة من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، فإذ لم تفعلوا فقد قامت عليكم الحجة أن هذا القرآن من عند الله، ولم يبق إلا الإيمان والتسليم إن كنتم منصفين، ولكن هل تكذيبهم أثر عن تفكير وتدبر وعلم وعقل؟ لا. قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، فتكذيبهم إذن تكذيب بما لم يعرفوا ولم يفهموا وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي ولم يأتيهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعني: أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات وصدقه. والآية تفيد أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، واستعمال كلمة لما في هذا المقام يفيد أنهم علموا من بعد علو شأنه وإعجازه، وبقوا مصرين على التكذيب بغيا وحسدا، وإذن فهؤلاء كذبوا بهذا القرآن، ولم يفهموا ولم يعرفوا ولم يستوعبوا ما فيه من الهدى ودين الحق سفها وجهلا كَذلِكَ أي مثل ذلك التكذيب الذي لا يقوم على دليل كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة أي كذلك كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم، وقبل تدبرها عنادا أو تقليدا للآباء فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وما كذبوهم إلا وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي ومنهم من يصدق بالقرآن في نفسه، ويعلم أنه حق ولكنه يعاند بالتكذيب وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي ومنهم من لا يصدق به ويشك فيه وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بالمعاندين المصرين الصادين عن سبيل الله، ويحتمل أن يكون المعنى: ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك بما أرسلت به، ومنهم من لا يؤمن به ويموت على ذلك ويبعث عليه، وربك أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة- وهم المفسدون- فيضله، فهو العادل الذي لا يجور، بل يعطي كلا من هؤلاء ما يستحق تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو، ويحتمل أن يكون المعنى: ومنهم من سيؤمن به، ومنهم من سيصر، وربك أعلم بالمفسدين الذين يستحقون الضلال بسبب من إفسادهم، وهكذا

[سورة يونس (10): آية 41]

عرفنا من خلال الآيتين اللتين مرتا أن سبب الريب والكفر بهذا القرآن الظلم والإفساد في الأرض، فمن كان ظالما ومن كان مفسدا فهذا وحده الذي يرتاب في هذا القرآن ويشك به ويكفر، أما القرآن فليس فيه ريب ولا شك، لأن الحجة قائمة فيه أنه من عند الله، جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» فالرسل السابقون معجزاتهم شاهدة على صحة رسالتهم، وأما رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم فالقرآن شارحها، والمعجزة في القرآن نفسه، فكيف يكون فيه ريب وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي وإن استمروا على تكذيبك ويئست من إجابتهم بعد قيام الحجة عليهم فتبرأ منهم ومن عملهم فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي لي جزاء عملي ولكم جزاء أعمالكم أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ فكل مؤاخذ بعمله وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، فهم يسمعون كلامك الحسن، والقرآن العظيم، والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان، وفي هذا كفاية عظيمة للإيمان، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، فهم كالصم أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم انعدام عقولهم، لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت، فإذا اجتمع سلب العقل والسمع فقد تم عدم الفهم، وإذن فالصمم وانعدام العقل عاملان آخران من عوامل الضلال والكفر بهذا القرآن وهذا الرسول وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أي ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة، ولكنهم لا يصدقون، أو كما قال ابن كثير: (أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهى. وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شئ كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار) فكيف يؤمنون بك، وكيف ينتفعون منك وهم لا يرون حقيقتك أصلا لعماهم أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، فتحصل من الآيتين أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصمم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر. فحصل

[سورة يونس (10): آية 11]

من الآيات السابقة أن سبب الكفر بالقرآن والرسول الظلم والإفساد والصمم والعمى، وليس السبب احتمال الريب في القرآن أو في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن السبب ليس ظلم الله لهم في إضلالهم وإبقائهم في الضلال. وهذا الذي تقرره الآية الخاتمة في هذه المجموعة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي: لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال، ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال وبالظلم والإفساد والعمى والصمم، فهم إذن الظالمون لأنفسهم. فائدة: قال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... : (وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد صلى الله عليه وسلم فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده، وليستعينوا بمن شاءوا، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء: 88) ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وكذا في سورة البقرة- وهي مدنية- تحداهم بسورة منه، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الآية (البقرة 24)، هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم، وأشعارهم ومعلقاتهم، إليها المنتهى في هذا الباب. ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به، ولهذا آمن من آمن منهم من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته، فكانوا أعلم الناس وأفهمهم له، وأتبعهم له وأشدهم له انقيادا، كما عرف السحرة بعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه السلام لا يصدر إلا عن مؤيد، مسدد، مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله، وكذلك عيسى عليه السلام بعث في زمن علماء الطب، ومعالجة المرضى، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه، فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله) اهـ.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - أقام الله عزّ وجل الحجة عليهم بأن هذا القرآن لا ريب فيه بتحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، ثم بين لهم العلل الحقيقية لريبهم، وهي: ظلمهم، وإفسادهم، وأعمالهم السيئة، وصممهم عن سماع كلمة الحق، وعدم استعمال عقولهم، وعمى أبصارهم عن رؤية الحق، وعمى بصائرهم عن التدبر، وظلمهم لأنفسهم، وبعد أن أقام عليهم الحجة وبين لهم علل تكذيبهم، تأتي بعد ذلك مجموعة واعظة تعظ وتنذر 2 - رأينا أنه قد مر معنا في هذه المجموعة من هذا المقطع قوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ والمراد بتأويله هنا- والله أعلم- تفسيره العملي، وتفسيره العملي هو وقوع ما أخبر عنه من غيوب، وهذا الذي أخبر عنه من الغيوب سيقع شيئا فشيئا، وآخر هذا الوقوع هو ما سيكون يوم القيامة، ومن ثم فإن المجموعة الثانية في هذا المقطع تحدثنا عن بعض جوانب التفسير العملي الكائن لما أخبر عنه هذا القرآن من غيوب، وفي ذلك إقامة حجة على من كذب وإنذار له، وقبل أن ننتقل إلى عرض المجموعة الثانية فلننقل بعض ما قاله صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قال: (وقد ثبت هذا التحدي؛ وثبت العجز عنه. وما يزال ثابتا ولن يزال. والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان. وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية، والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة .. كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد أو في الأجيال. ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الوصول إلى التأثير فيها وتوجيهها، ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه. فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده، ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا، أو في النظم والتشريعات، والنفسيات وما إليها .. والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم

مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب. والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضا. ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه، والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري. ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز- في حدود الطاقة البشرية- هو موضوع كتاب مستقل. فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا .. إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري .. إن له سلطانا عجيبا على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفا .. وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول- وإن لم تكن هي القاعدة- ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل .. ولن أذكر نماذج عما وقع لغيري؛ ولكن أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما .. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب أجانب، ليس منهم مسلم .. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة، والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية وإزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا! .. وقد يسر لنا قائد السفينة- وكان إنجليزيا- أن نقيم صلاتنا؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها- وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة .. وقمت بخطبة الجمعة وإقامة الصلاة؛ والركاب الأجانب- معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا! .. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القداس»!!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد- عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها. جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول:- في إنجليزية ضعيفة- إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! .. وليس هذا موضع الشاهد في القصة .. ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه

التي كان يتحدث بها «قسيسكم»؟! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلا قسيس. أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة-! وقد صححنا لها هذا الفهم! .. وأجبناها .. فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفا .. ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه .. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه- بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا .. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة! إنها شئ آخر! كما لو كان- الإمام- مملوءا من الروح القدس- حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها- وتفكرنا قليلا. ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت- مع ذلك- مفاجأة لنا تدعوا إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئا. وليست هذه قاعدة كما قلت. ولكن وقوع هذه الحادثة- ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد- ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرا آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته. وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب .. ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شئ، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه- وسره هذا- وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية. ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب. قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير. ومن يزاولون التفكير والشعور. إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضا، مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو، ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال. ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا؛ لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود

الطاقة البشرية في هذ المجال. ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا. وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني .. هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص؛ وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء واختلاط بين المدلولات؛ وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها. بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى؛ ويبدو كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه؛ وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها. وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضرا، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر؛ ولا يملك الأداء البشري تقليدها. لأنه يبدو في هذه الحالة مضطربا غير مستقيم مع أسلوب الكتابة! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر عن طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ- بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ .. (وإلى هنا هي قصة تحكى) .. ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر .. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟! فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً .. ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ .. قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ، شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ .. وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى .. ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ .. وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه- وأجابوه: قُلْ: لا أَشْهَدُ قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ .. وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا. قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَ

رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .. وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ .. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ. وأمثالها كثير في القرآن كله. وهو أسلوب متميز تماما عن الأسلوب البشري وإلا فمن شاء أن يماري فليحاول أن يعبر عن هذا النحو ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم؛ فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع، وهذا الإيقاع المؤثر، وهذا التناسق الكامل. هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا. ويبقى الإعجاز الموضوعي، والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه. إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها، فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة. وحسها المتوفز مرة. ولكنه يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق، ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها .. وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الواقعية وبهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضا. ونستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب: (خصائص التصور ومقوماته) تعين على توضيح هذه الحقيقة؛ وهي تتحدث عن (المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي) في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض: «أنه يمتاز عن كل المناهج: «أولا: بكونه يعرض الحقيقة- كما هي في عالم الواقع- في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها .. وهو- مع هذا الشمول- لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها .. ولم يشإ الله- سبحانه- رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور وإدراكهم لها، متوقفا على سابق علم لهم .. إطلاقا .. لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى، والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو

الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله. ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم، ولطلب أية معرفة .. لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق. ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم- بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم- كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن. ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه- عن غير هذا المصدر- هو معرفة- «ظنية» ونتائج «محتملة» لا «قطعية» حتى ذلك «العلم التجريبي». فطريق العلم التجريبي هو القياس- لا الاستقراء والاستقصاء- فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة. هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات، والأحكام البشرية على الظواهر، إنما قصارى «العلم» أن يقوم بعدد من التجارب، ثم يقيس على نتائجها. والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة، لا يقينية قطعية (وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة، تقوم على ترجيح أحد «الاحتمالات» لا على القطع الحتمي) .. فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير، والذي يقصه من يقص الحق وهو خير الفاصلين. وثانيا: بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات «العلمية» والتأملات «الفلسفية» والومضات «الفنية» جميعا. فهو لا يفرد كل جانب من جوانب (الكل) الجميل المتناسق بحديث مستقل كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب. وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية. وتتصل فيه الدنيا بالآخرة. وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده، لأن الأسلوب البشري عند ما يحاول تقليده في هذا الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة، كما تبدو في المنهج القرآني. «وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع. ولكن هذا الترابط يبدو ودائما. فعند ما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان. في

عالم الغيب وعالم الشهادة سواء .. وعند ما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون تتجلى العلاقة بين «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الكون» ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء، وإلى سنن الله في الكون والحياة .. وعند ما يكون التركيز على «حقيقة الإنسان» يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء .. وعند ما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى .. وكذلك عند ما يكون التركيز على قضايا الدنيا .. إلى آخر النسق من العرض، الواضح الملامح في القرآن. وثالثا: بكونه- مع تماسك جوانب «الحقيقة» وتناسقها- يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها- في الكل المتناسق- مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله- وهو الميزان- ومن ثم تبدو «حقيقة الألوهية» وخصائصها، وقضية «الألوهية والعبودية» بارزة مسيطرة محيطة شاملة؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي. وتشغل حقيقة عالم الغيب- بما فيه القدر والدار الآخرة- مساحة بارزة. ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق. وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي في ذاته- كما بينا في فصل «التوازن» في القسم الأول- حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه وتناسق أجزائه وقوانينه إلى تأليهه- كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديما وحديثا- ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها إلى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها- كأصحاب المذهب الحيوي- ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنة في كياناته المنطلقة في تعامله مع الكون، إلى تأليه الإنسان- أو العقل- في صورة من الصور- كالمثاليين في عمومهم- ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني- كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة- كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد. وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني.

«رابعا: بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية- مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم. وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعات وروعة وجمالا، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة. «ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري، ملامح المنهج القرآني. فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن. وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن. ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن. بينما ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته». انتهت المقتطفات. والقرآن يقدم حقائق العقيدة- أحيانا- في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو. من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته. وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. فهذه المطارح المترامية، الخفية والظاهرة، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو؛ وهو في معرض تصوير شمول العلم، مهما أراد تصوير هذا الشمول. ولو أن فكرا بشريا هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته .... وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر. فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر. ومثل هذا التصور الكوني لا دوافع إليه من طبيعة تصور البشر .... كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة

صغيرة في ظاهرها؛ وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الذي يستدل بها عليه. كما يبدو في قوله تعالى من سورة الواقعة: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ؟ * نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورا كاملا لهذا الوجود، كما يجعل منها منهجا للنظر والتفكير، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها. إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة، والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيدا عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم. إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب عملية لا يملكها كل أحد. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة وتصورا للكون والحياة قائما على هذه العقيدة. إن أنفسهم من صنع الله، وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته، والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده. وهذا القرآن قرآنه. ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم، والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة. وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم، والذي يحمل دلائل الإيمان؛ وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق. وعلى هذا المنهج يسير، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي

المجموعة الثانية

يوقدون وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم، كذلك يصور لهم لحظة النهاية. نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر. اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجها لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة. لا محاولة فيها ولا مجال. حيث تسقط جميع الأقنعة وتبطل جميع التعلات. إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره. إنه المصدر الذي صدر منه الكون. فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون، فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق. الذرة يظن أنها مادة بناء الكون، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة. والذرة على صغرها معجزة في ذاتها، والخلية على ضآلتها آية في ذاتها. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني .. المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل. والزرع والماء. والنار. والموت .. أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة حياة نباتية. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟ .. من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية، فهى في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان .. ) هذا بعض شأن القرآن فمن أين يستطيع الإنسان أن يأتي بسورة من مثل سور القرآن؟ وكيف يبقى مع هذا الإعجاز شك بهذا القرآن؟ ولننتقل إلى المجموعة الثانية من المقطع الثاني: المجموعة الثانية بعد أن قامت عليهم الحجة في المجموعة الأولى وتبين استحقاقهم للضلال بسبب ما هم عليه من خسة الصفات، تأتي الآن المجموعة الثانية لتبين قضية، وتجيب على سؤالين. القضية هي: ما أعد لهم في الدنيا والآخرة: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ أي كأنهم لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا أو في القبور إِلَّا

[سورة يونس (10): آية 46]

ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في قبورهم لهول ما يرون، والتقدير: ويوم يحشرهم مشبهين بمن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يعرف بعضهم بعضا كأن لم يتعارفوا إلا قليلا وذلك عند خروجهم من القبور، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وأي خسارة أكبر من خسران الأنفس والأهل، شبهوا بالتاجر الخاسر لأنهم باعوا الإيمان بالكفر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ في ما ساروا فيه وسلكوه إذ وصلوا إلى النار وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب أي وإما تنتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل عذابهم أي إما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي مصيرهم ومنقلبهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ أي والله شهيد على أفعالهم بعدك، أي وهو يعاقبهم عليها، فهم إذن لا يفلتون من العقاب الأخروي، وإن شاء الله أن يعذبهم في الدنيا فعل، فإنهم يستحقون ذلك، والآية الثانية أشارت ضمنا أن العذاب الدنيوي لا حق بمن يكذب الرسل، إما في حياة الرسل، أو بعد وفاتهم، تلك سنة الله التي سجلها في الآية اللاحقة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ أي يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ويدعوهم إلى دين الحق فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الرسول ومكذبيه بِالْقِسْطِ أي بالعدل لا يظلمون، بل يعذبون عدلا وينجي الله الرسول ومن صدقه وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بما عذبوا لأنهم مجرمون، فليحذر هؤلاء المكذبون عذاب الدنيا والآخرة. وبعض المفسرين اتجه في الآية إلى أنها في الآخرة ومعناها عندهم: ولكل من الأمم يوم القيامة رسول تنسب، إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضي بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون، لأنه لا يعذب أحد بغير ذنبه. كلمة في السياق: لقد أنذرت الآيات الثلاث وحذرت، وعرضت علينا بعض الغيوب التي أخبر عنها القرآن مما سيأتى تأويلها فيما بعد، فأرتنا سخافة هؤلاء الذين سارعوا إلى التكذيب دون تدبر وعقل، مع أن الأمر من الخطورة بمثل هذا الذي ذكرته الآيات، وبعد الآيات يأتي في المجموعة سؤالان وجوابهما، إن الكافرين بدلا من أن يسارعوا إلى التصديق بهذا القرآن وبما أخبر عنه بعد قيام الحجة،- إنهم بدلا من ذلك- يسألون سؤال المكذب والمشكك، ومن ثم تعرض علينا المجموعة شأنهم

السؤال الأول وجوابه

هذا من خلال أسئلتهم: السؤال الأول وجوابه: وَيَقُولُونَ بعد إذ أعلموا ما أعدلهم من العذاب مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد العذاب إِنْ كُنْتُمْ أيها النبي والمؤمنون صادِقِينَ أن العذاب نازل، يسألون هذا السؤال استعجالا للعذاب واستبعادا. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بالرد الآتي قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فأنا عبد الله يجري علي أمره ومشيئته، فمتى شاء شيئا كان لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي وقت معلوم للعذاب مكتوب في اللوح المحفوظ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي فإذا جاء وقت عذابهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون فلا تستعجلون، فأنا عبد أقول عن الله ما أمر به، ولا أعلم شيئا مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه، وليس من جواب أوقع في هذا المقام من هذا الجواب، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم كلاما آخر قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلونه بَياتاً أي وقت بيات وهو الليل وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون أَوْ نَهاراً أي وأنتم مشتغلون بطلب المعاش والكسب ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ والمعنى: أن العذاب كله مكروه موجب للنفور، فأي شئ منه تستعجلونه وليس شئ منه يوجب الاستعجال؟ والمعنى: أخبروني إذا جاء العذاب ماذا يستعجل منه المجرمون؟ والجواب: إلا الندامة على الاستعجال ومعرفة الخطأ فيه أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ويقال لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب تبكيتا: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي وقد كنتم تستعجلون بالعذاب تكذيبا واستهزاء ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر والتكذيب والشك والرد ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الشرك والتكذيب والاستهزاء، وبهذا ينتهي الجواب الأول منبها هؤلاء إن كان هناك من يتنبه وتعقيبا على هذا الجواب يطرحون سؤالا آخر: السؤال الثاني وجوابه: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي ويستخبرونك فيقولون: أَحَقٌّ هُوَ أي المعاد والقيامة والعذاب أو العذاب الموعود سابقا، والتقدير: ويستخبرونك أحق ما وعدتنا من

[سورة يونس (10): آية 54]

العذاب والبعث؟ ولا شك أن سؤالهم على جهة الإنكار والاستهزاء، أو على جهة الشك قُلْ إِي وَرَبِّي. أي قل نعم والله إِنَّهُ لَحَقٌّ أي العذاب كائن لا محالة وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين العذاب وهو لا حق بكم لا محالة، أو وما أنتم بفائتين الله أن يبعثكم، فليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من عدم، ثم بين لهم هول ما سيصادفونه أمامهم وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أي كفرت أو أشركت أي ولو أن لكل نفس ظالمة ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها لَافْتَدَتْ بِهِ أي لجعلته فدية لها، فافتدوا الآن أنفسكم إذن وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أسروا من الأضداد وعلى هذا فتحتمل هنا أنهم يظهرون الندامة، وتحتمل أنهم يخفونها عجزا عن النطق لشدة الأمر وهوله وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الخلائق بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا. ثم يختم الله هذه المجموعة بهذا التقرير: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو المستحق للعبادة وحده أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي ثابت وكيف لا تكون مواعيده كذلك وهو رب كل شئ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ ذلك لأنهم جاهلون بالله هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فانتظروا فعله بكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم. وهكذا ختم الله هذه المجموعة بالتعريف على ذاته الكريمة، إذ الجهل بها هو سبب كل فساد، فأخبر أنه مالك السموات والأرض، وأن وعده حق كائن لا محالة، وأنه يحيي ويميت وإليه المرجع، وأنه القادر على ذلك، العليم بما تفرق من الأجسام، وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار. وبهذا انتهت المجموعة الثانية، وانتهى المقطع الثاني من القسم الأول، وانتهى القسم الأول من سورة يونس، وقد تقرر فيه أن هذا القرآن لا ريب فيه من رب العالمين. كلمة في السياق: بعد القسم الأول مباشرة يأتي قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فبعد أن عالج القسم الأول الريب يأتي القسم الثاني ليبين بعض خصائص القرآن، كما يبين ضرورة الاهتداء به فالقسم الأول كان في قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ والقسم الثاني كان في قوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وقبل أن ننتقل إلى القسم الثاني فلنذكر بعض الفوائد حول المجموعة التي مرت معنا.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يذكر ابن كثير حديثا يرويه الطبراني ليس له علاقة مباشرة في الآية نذكره لما فيه من فائدة: روى الطبراني عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها» فقال رجل: يا رسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق؟ فقال: «صوروا لي في الطين حتى إني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه». 2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي يذكر ابن كثير أنه لم يرد القسم على اليوم الآخر في القرآن إلا في ثلاثة مواطن هذه إحداها. قال ابن كثير: وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد: في سورة سبأ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. 3 - لاحظنا أن القسم الأول في مقطعيه قد قطع دابر كل شبهة يمكن أن تعرض في أمر هذا القرآن، وخلال ذلك وعظ وأنذر وحذر وبشر ليجمع مع إقامة الحجة على أن القرآن لا ريب فيه، الدعوة إلى الإيمان به، والآن يأتي القسم الثاني وإذا كان القسم الأول كما قلنا في تفصيل قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فإن القسم الثاني بدايته في تفصيل قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ولذلك فهو مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ... فبعد أن أقام الله الحجة على الناس جميعا بأن هذا القرآن لا ريب فيه بين لهم جميعا ما هو هذا القرآن، وما هي خصائصه. ثم أتبع ذلك بما يناسبه. فلننتقل إلى القسم الثاني.

القسم الثاني من سورة يونس عليه السلام

القسم الثاني من سورة يونس عليه السلام يمتد هذا القسم من الآية (57) إلى نهاية الآية (103) وهو يتألف من ثلاثة مقاطع، المقطع الأول فيه حديث عن القرآن، وفيه نماذج على هدايته، وفيه تصحيح لانحرافات، والمقطع الثاني: فيه بعض قصص الأنبياء التي تبين أن هذا القرآن ليس بدعا من الهدى، والمقطع الثالث: وفيه عودة إلى مناقشة الشك والريب ليكون ذلك مقدمة للقسم الثالث الذي يدعو إلى ترك الشك، وإلى اتباع الحق، وبذلك يكون التفصيل لقوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ قد تم. المقطع الأول من القسم الثاني ويمتد من الآية (57) إلى نهاية الآية (70) وهذا هو: [سورة يونس (10): الآيات 57 الى 70] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

التفسير

التفسير: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي كتاب فيه ما لكم وما عليكم، قد جعله الله لمن تلاه وتدبره زاجرا عن الفواحش، ومربيا وحاضا على الخير، وهذا من خصائص هذا القرآن، فإنه تكلم عن كل معنى من المعاني بأسلوب الوعظ، وهذا من مظاهر إعجازه، إن أحدا من البشر لا يستطيع أن يتكلم عن الكون، وعن التشريع، وعن القصة، وعن التاريخ، وعن المستقبل، وعن التربية، بأدق المعاني

[سورة يونس (10): آية 58]

وبأسلوب وعظي يصل إلى كل قلب، فإن يكون هذا القرآن هكذا فهذا وحده دليل على أنه من عند الله، وأن يكون كذلك فذلك من فضل الله وَشِفاءٌ أي دواء شاف لِما فِي الصُّدُورِ أي القلوب من العقائد الفاسدة، والشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، فهذه خاصية ثانية من خواص هذا القرآن: أنه مطهر للقلب البشري من كل مرض، فالقلب البشري يمرض بالكفر والشك، والحقد والحسد وغير ذلك، هذا القلب في القرآن شفاؤه، إذا أقبل صاحبه على هذا القرآن بالتلاوة والتدبر والرغبة الصادقة وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ومن خصائصه أنه هدى، وأنه رحمة، ولكن للمؤمنين المصدقين، فهؤلاء الذين تحصل لهم الهداية، وتنالهم الرحمة به، فهم المستفيدون الوحيدون به ومنه، وهذا كذلك من خصائص هذا القرآن، فإن الإنسان يأخذ منه على قدر استعداده وإيمانه، أما الكافرون والمنافقون فليس لهم في هذا القرآن نصيب قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ الذي مظهره الهداية للإيمان والإسلام وَبِرَحْمَتِهِ أي القرآن فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أي بهذا الذي من الله عليهم به من الهدى ودين الحق والكتاب الهادي فليفرحوا؛ فإنه أولى ما يفرحون به هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة، وهذا أدب عظيم لا يتحقق به إلا الموفقون الذين عرفوا القيمة الحقيقة للأشياء، أما الذين طاش لديهم الميزان فيعطون السعر الكبير لذي القيمة الحقيرة، والسعر الرخيص لذي القيمة الكبيرة، فهؤلاء بعيدون عن التوفيق وبعيدون عن حقيقة الإيمان. أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول: الحمد لله تعالى. ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا هو الذي يقول تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ الآية، وهذا مما يجمعون. رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني، فانظر هداك الله إلى نظرات الموفقين وتقييمهم للأشياء واقتد بها ولا يسرين إلى قلبك داء العصر (المادية) أي حب الدنيا والركون إليها، والاطمئنان إليها، وجعلها المقياس الوحيد، ومن هذا المقام ندرك الفارق الكبير بين التصور الإسلامي والتصورات الكافرة المعاصرة. إن أضخم دولتين في العالم الآن الاتحاد السوفيتي وأمريكا، يقوم مجتمعهما على فلسفة مادية بحتة؛ تقيم الأشياء من خلال مردودها المادي. الاتحاد السوفيتي ينطلق من الفلسفة الماركسية التي تعتبر الإنتاج هو كل شئ، والاقتصاد هو كل شئ في حياة البشر. والمجتمع الأمريكي يقوم على فلسفة البراجماتزم: أي فلسفة

[سورة يونس (10): آية 59]

المنفعة، وهي تعني أن قيمة الشئ بقدر ما يقدم من نفع مادي للإنسان. وشتان بين هذا كله وبين تربية القرآن. فإذا استقر ما مر- وهو أن هذا القرآن هدى للمؤمنين-فماذا يترتب على ذلك؟ يترتب على ذلك أن لا يتلقى الإنسان في باب التشريع، أو في باب العقائد والتصورات، إلا عن الله، ويترتب على ذلك أن يصوغ الإنسان نفسه صياغة قرآنية كاملة، ولذلك نلاحظ أن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يصحح فيما يأتي مفاهيم، وفيما بين التصحيحات قرر الله تقريرات، وفي التصحيحات والتقريرات نرى نموذجا على كون القرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة. فلنر بقية المقطع: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي خلق لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي حرمتم وأحللتم بمجرد الأهواء والآراء التي لا مستند عليها ولا دليل، والرزق رزقه، والمال ماله، والملك ملكه، فهو الذي يحرم ويحل، وعنه يتلقى التحريم والتحليل، وكل تحريم وتحليل غير متلقى عنه فهو باطل، وكذب وافتراء قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في ذلك التحريم والتحليل؟ أَمْ أي بل عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أي تكذبون بنسبة ذلك إليه وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ما ظن هؤلاء الذين يحرمون ويحللون بأهوائهم، مفترين على الله أن يصنع الله لهم يوم مرجعهم إليه يوم القيامة، أيحسبون أنه لا يعاقبهم وهم يكذبون عليه. لا، بل سينالون جزاء أعمالهم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ أحل لهم ما ينفعهم وحرم ما يضرهم، وأمهل الظالمين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ بالأخذ عن الله، وتطبيق شرع الله، والإقبال على الله، وتسخير ما أعطى الله في طاعة الله، وبعد هذا التصحيح لمفهوم التحليل والتحريم، وأنه لا يجوز أن يكون تحليل أو تحريم إلا من الله، وأن كل تحليل غير ذلك كذب وافتراء على الله، يذكر الله ويعظ ويبشر وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي في أمر وَما تَتْلُوا مِنْهُ أي من الشأن أو من الله مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً أي رقباء إِذْ تُفِيضُونَ أي تأخذون فِيهِ أي العمل وَما يَعْزُبُ أي يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ أي وزن ذَرَّةٍ أصغر جزء متكامل من المادة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وذكرهما دليل على إحاطة علمه تعالى وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ كالإلكترون أو البروتون أو النيوترون وَلا أَكْبَرَ كالجزيء وما هو أكبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي بين وهو اللوح

[سورة يونس (10): آية 62]

المحفوظ، أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة، وأنه لا يغيب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السموات والأرض ولا أصغر منها ولا أكبر، إلا في كتاب، فمن كان كذلك فهو أهل الخشية وأهل التقوى، وأهل لأن يتلقى عنه في التحليل والتحريم، وأهل لأن يعبد وحده، ولذلك عقب هذه الآية بقوله أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أحوال الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما وراءهم من الدنيا، ثم فسر تعالى من هم أولياؤه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما يجب الإيمان به وَكانُوا يَتَّقُونَ الله بامتثال أمره ونهيه، فمن كان تقيا كان لله وليا ولا ولاية إلا بهذا، فليخسأ المنحرفون عن أمر الله المفرطون في تطبيق شرعه لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح، يراها أو ترى له- كما سنرى- أو بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة وَفِي الْآخِرَةِ عند ما تتلقاهم مبشرة: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ... لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف لمواعيده أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة ذلِكَ أي المذكور هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وبعد أن بين الله عزّ وجل أن أولياءه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وجه لرسوله صلى الله عليه وسلم نهيا عن نوع من الحزن على ما عند أناس من عقائد أهل الكفر وأقوالهم وكلامهم وما يجهرون من ذلك فقال: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي قول هؤلاء الكافرين والمشركين، أي اعتقاداتهم، وما يجهرون به، وما يؤذون به، مبينا له إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي فاستعن بالله، وتوكل عليه وثق به فإن له العزة: أي القوة كلها، وقد جعلها لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين هُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده الْعَلِيمُ بأحوالهم فيجازيهم، وينصرك في الدنيا والآخرة، ثم عرض الله عزّ وجل نماذج من أقوال هؤلاء الكافرين مفندا إياها، مبينا كذبها من خلال تقرير العقيدة الحق أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عبيدا وملكا وخلقا، فالكل ملكه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي والمتبوعون الذين يعبدهم المشركون من دون الله هم كذلك مملوكون لله، وإذ كان الأمر كذلك فكيف يكون هؤلاء شركاء لله؟ ومن أخبر المشركين أن آلهتهم شريكة لله في ألوهيته وربوبيته؟ الحقيقة أن المشركين يعبدون ما لا دليل لهم على عبادته، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم إِنَّ أي ما يَتَّبِعُونَ في ذلك إِلَّا الظَّنَّ أي ظنهم أنها آلهة تشفع لهم وَإِنْ أي وما هُمْ إِلَّا

[سورة يونس (10): آية 67]

يَخْرُصُونَ أي يكذبون في ذلك، ثم أخبر تعالى أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه أي يستريحون فيه من تعبهم وكلالهم وحركاتهم، والنهار مبصرا مضيئا لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم، فمن كان كذلك كيف يشرك به؟ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي لدلالات على وحدانيته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي يسمعون سماع تدبر واتعاظ لهذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها، ثم عرض الله نموذجا على أقوالهم الفاسدة قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ أي تقدس عن ذلك؛ هو الغني عن كل ما سواه، وكل شئ إليه فقير، والولد مظهر من مظاهر الافتقار والحاجة، فإنما يطلب الولد من يحتاج إليه لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شئ مملوك له عبد له! إِنْ أي ما عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بِهذا الذي تقولون. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان، فكيف تتقولون على الله بلا علم، وهو إنكار ووعيد أكيد، وتهديد شديد وتوبيخ لهم. ثم أوعد الله هؤلاء المفترين عليه، الناسبين له ما يليق به. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة الولد له وغير ذلك. لا يُفْلِحُونَ أي لا يسعدون، ثم بين وجه عدم فلاحهم مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أي لهم متاع قليل في الدنيا يتمتعون به طول حياتهم. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ أي المؤلم الموجع بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور. وبهذا انتهى المقطع بعد أن قرر الله فيه كذب الذين يحرمون- بدون علم- ويعتقدون عقيدة الشرك، وينسبون إليه ولدا. وبين الحق في صفاته ووحدانيته، وذكر برحمته بأوليائه، وذلك كله بأبلغ درجات الوعظ، فكان ذلك نموذجا على كيفية كون هذا القرآن موعظة وشفاء وهدى ورحمة. وهكذا بين الله عزّ وجل في هذا المقطع خصائص القرآن، ثم بين ما يترتب على كون القرآن له هذه الخصائص، وهو الاهتداء به في أمر التحليل والتحريم، وفي أمر التصورات والمواقف، وفي أمر العقائد اعتقادا وشعورا. وقبل أن ننتقل إلى المقطع الثاني فلننقل فوائد لها علاقة بهذا المقطع.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى عن القرآن: وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ يقول صاحب الظلال: «إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء، إنه يدب في القلوب فعلا دبيب الشفاء في الجسم المعلول. يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب. ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب. ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية. ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تكسب الطمأنينة في القلوب إلى الله، وإلى العدل في الجزاء، وإلى غلبة الخير، وإلى حسن المصير. وإنها لعبارة تثير حشدا من المعاني والدلائل، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب. 2 - وبمناسبة قوله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا قال صاحب الظلال: فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان. فبذلك وحده فليفرحوا. فهذا هو الذي يستحق الفرح لا المال ولا أعراض هذه الحياة. إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدا خاضعا لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها. إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. والإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم. هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة. كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى. فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته فهو تابع. لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينثال عليهم، وكان الثراء يطلبهم .. إن طريق هذه الأمة واضح. إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها، وفي سيرة الصدر الأول فهموه من رجالها. هذا هو الطريق. إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض، في الحياة الدنيا فضلا عن مكانهم في الحياة الأخرى. إن الأرزاق المادية،

والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية- لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة- كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة. إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الإنسانية، وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس؛ وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان. إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم. هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء. كما يجعلها سببا للرقي الإنساني أو مزلقا للارتكاس. ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله. والذين يركزون على القيم المادية، وعلى الإنتاج المادي، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان. وهم لا يطلقونها دعوة بريئة، ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان- دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية- وتجعل لهم مطالب أساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان. وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية، والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها. وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة، وتعدها قيمة الحياة الكبرى؛ وتنسى في عاصفة الصياح المستمر .. الإنتاج .. الإنتاج .. كل القيم الروحية والأخلاقية وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي .. هذا الصياح ليس بريئا؛ إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى، وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعا. وعند ما يصبح الإنتاج المادي صنما يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام؛ فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك الأخلاق. الأسرة. الأعراض. الحريات. الضمانات .. كلها .. كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس. فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه؟ إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجرا أو خشبا. فقد يكون قيمة واعتبارا ولافتة ولقبا.

إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلين في هداه، الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلى من القيم الإنسانية في الإنسان. وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله الذي أعطاه للناس في الأرض؛ وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي؛ وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح؛ وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس، لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية، على حساب القيم الإنسانية العلوية. 3 - وصف الله عزّ وجل أولياءه بأنهم الذين اجتمع لهم: الإيمان والتقوى، ولأصحاب هذه المقامات علامات، هي أثر عن تحققهم بمقامات الولاية، وهذه نصوص تدل على هذه السمات: قال عبد الله بن مسعود وابن عباس، وغير واحد من السلف (أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر) الله، وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما روى البزار ... عن ابن عباس قال: قال رجل يا رسول الله: من أولياء الله؟ قال: «الذين إذا رأوا ذكر الله» وروى ابن جرير .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من عباد الله عبادا يغبطهم الانبياء والشهداء» قيل من هم يا رسول لعلنا نحبهم؟ قال: «هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس. ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ورواه أيضا أبو داود بإسناد جيد. وفي حديث الإمام أحمد .. عن أبي مالك والأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتي من أفناء الناس، نوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله، وتصادقوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون». أقول: في موضوع الولاية وقعت أخطاء كثيرة وانحرافات خطيرة، وغلا بذلك أقوام كثيرون حتى كفروا، واعتمد كثيرون من الناس قواعد في موضوع الولاية لا أصل لها، وللآلوسي تحقيق في هذا المقام ننقله لما فيه من فوائد: قال الألوسي: (وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرا لظاهر الحال، ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام، غير غالين فيه

بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شئ بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلها نسأل الله تعالى العفو والعافية، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده، كما يشترط في الرسول صدور معجزة، ويكفيه الاستقامة كرامة، كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد رحمه الله: بل الولي الكامل لا التفات له إليها، ولا يود صدورها على يده، إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامه. وفي الجواهر والدرر للشعراني سمعت شيخنا يقول: إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات، فيظهر بها ويقول: لو كنت مؤاخذا بهذه الزلة لقبض عني التصرف، وغاب عنه أن ذلك استدراج، بل ولو سلم من الزلة، فالواجب خوفه من المكر والاستدراج، وقال بعضهم: الكرامة حيض الرجال، ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات. وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة، وقد نقل عن الخواص: أنها تنقص مرتبة الكمال، وأيد ذلك بالأثر المشهور «خص بالبلاء من عرفه الناس» نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربعة مقامات: الأول: مقام المحبة، والثاني: مقام الشوق، والثالث: مقام العشق، والرابع: مقام المعرفة، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال، ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال، ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار، ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه، فليراجعه من أرادها؛ والكلام في هذا المقام كثير، وكتب القوم ملأى منه، وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباعه الشريعة الغراء، وسلوك المحجة البيضاء. فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل. فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر. ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما الخيام فإنها كخيامهم … وأرى نساء الحي غير نسائها 4 - مما يساعد على فهم قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ هذه النقول: روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال: «الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له».

روى ابن جرير عن أبي الدرداء في قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال: سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألت عن شئ ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين- أو سبعين- جزءا من النبوة». وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال: «الرؤيا الصاحة يبشرها المؤمن جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبرها، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه فلينفث عن يساره ثلاثا، وليكبر، ولا يخبر بها أحدا». وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الرؤيا الصالحة التي يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». وروى ابن جرير عن أبي هريرة أنه قال: «الرؤيا الحسنة بشرى من الله وهي من المبشرات» وروى ابن جرير عن أم كريز الكعبية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ذهبت النبوات وبقيت المبشرات». وهناك اتجاه لتفسير معنى البشرى يبينه ما جاء في حديث البراء رضي الله عنه: أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب، فقالوا: أخرجي أيتها الروح الطيبة، إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء. وهناك اتجاه ثالث لمعنى البشرى ورد في حديث أبي ذر التالي: وروى الإمام أحمد ... عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه، ويثنون عليه به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تلك عاجل بشرى المؤمن» ورواه مسلم. 5 - بمناسبة قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً يقول صاحب الظلال: (والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيرا في معرض الحديث عن قضية العبودية. ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة

كلمة في السياق

لا تملك لمنطقه ردا. كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق. وهم يجدون هذا في حياتهم فعلا. فهذا الليل الذي يسكنون فيه، وهذا النهار الذي يبصرون به، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم. وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم- ولو لم يتعمقوا في البحث و «العلم». ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية. وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم «العلوم الحديثة» لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها. ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون. وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان، ونظرت بنور الله في هذه الآفاق) كلمة في السياق: ناقشت السورة حتى الآن الشك في القرآن من ناحيتين: أولا: من ناحية ما ادعاه الكافرون: أن الله أعظم من أن ينزل وحيا، وبالتالي فهذا القرآن ليس وحيه، وفندت ذلك، وثانيا من ناحية كون الرسول صلى الله عليه وسلم مفتريا على الله بنسبة هذا القرآن إليه، وفندت ذلك. وإذ تبين أن هذا القرآن لا شك فيه أنه من عند الله، فقد بين الله عزّ وجل خصائص كتابه ممتنا على خلقه بأن أنزل لهم هذا القرآن، والآن يأتي مقطعان من القسم الثاني: الأول: يقص علينا قصة نوح ومن جاء بعده من الرسل عليهم السلام، ثم قصة موسى وهارون عليهما السلام، وهذه القصص في هذا المقام نموذج على أن الله قد أرسل رسلا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليهم وحيا، وقد بشروا وأنذروا، فكأن الله عزّ وجل بعد أن أقام الحجة على نفي العجب أن يرسل رسولا، يضرب الأمثال هنا على أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا. ثم يأتي المقطع الأخير من القسم الثاني ليناقش الشك بهذا القرآن، وبهذا الرسول مرة ثانية، ليختم السورة بالدعوة إلى اتباع القرآن وترك الشك. وبهذا تختم السورة بعد أن فصلت أن هذا القرآن لا ريب فيه، وأن فيه الهدى فليهتدوا. وهذا هو المقطع الثاني من القسم الثاني:

المقطع الثاني من القسم الثاني

المقطع الثاني من القسم الثاني ويمتد هذا المقطع من الآية (71) إلى نهاية الآية (93) كلمة بين يدي هذا المقطع: 1 - فيما مضى من السورة ذكر الله ناسا يتعجبون من أن ينزل الله وحيا ويرسل رسولا، وقد فند الله مزاعم هؤلاء، وفي هذا المقطع يقص الله علينا قصص رسل بعثوا، وفي ذلك تفنيد من نوع ثان لمن يكذب بالوحي وببعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام 2 - وفيما مر من السورة حذر الله وأنذر من يكذب الرسل بالعذاب الدنيوي قبل الأخروي، وفي هذا المقطع يقص الله علينا من أنباء أقوام كذبوا فعذبوا 3 - وفيما مر من السورة بشر الله عزّ وجل أهل الإيمان في الدنيا والآخرة، وفي هذا المقطع يقص الله علينا كيف تكون عاقبة أهل الإيمان حميدة: فقال عن نوح عليه السلام: فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ، وختم المقطع بقوله: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وفي المقطع نماذج من الهدى وهذا هو المقطع: [سورة يونس (10): الآيات 71 الى 93] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

التفسير

التفسير: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي أخبرهم واقصص عليهم نَبَأَ نُوحٍ أي خبره مع قومه كيف ذكرهم وأنذرهم، فكذبوه؛ فأهلكهم الله ودمرهم بالغرق عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك، وليعلموا أنها سنة الله أن يرسل رسلا مبشرين ومنذرين، فلا يتعجبون من إرسالك إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ أي عظم وشق عليكم مَقامِي أي لبثي فيكم بين أظهركم وَتَذْكِيرِي أي وعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ أي بحججه وبراهينه فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فإني لا أبالي ولا أكف عنكم، سواء عظم عليكم أو لا فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

[سورة يونس (10): آية 72]

وَشُرَكاءَكُمْ أي فاعزموا أمركم مع شركائكم على أمر تفعلونه بي ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي مستورا، أظهروه وجاهروني به ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي امضوا فيما أردتموه وَلا تُنْظِرُونِ أي تمهلون فإني لست مباليا بكم، أي مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أباليكم، ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شئ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي كذبتم وأدبرتم عن تذكيري، وعن تقوى الله وطاعتي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي ثواب أي لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما ثوابي إلا على ربي وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي وأنا متمثل ما أمرت به من الإسلام لله عزّ وجل، الذي هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ أي على دينه فِي الْفُلْكِ أي السفينة وَجَعَلْناهُمْ هو ومن معه خَلائِفَ أي في الأرض وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ أي يا محمد، وكذلك أيها المخاطب كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي كيف كانت نهايتهم من الإهلاك، فكذلك نفعل بمن كذب الرسل وأنتم منهم، ومن خلال السياق ندرك حكمة مجئ هذه القصة. محمد صلى الله عليه وسلم أرسل مأمورا أن ينذر الناس، وقد أنذر، فكان موقف الناس العجب أن يرسل الله رسولا. فهذه القصة تبين أن أمر الإنذار جد، وأن عاقبة المنذرين- إذا لم يؤمنوا- رهيبة في الدنيا فضلا عن الآخرة-، وأن عجب الكافرين في غير محله، لأن الله من سنته العصور أن يرسل رسلا. كلمة في القصة القرآنية: نلاحظ هنا أنه جاءت قصة نوح عليه السلام، ثم قصة موسى عليه السلام وفرعون، ومن قبل هذه في سورة الأعراف ذكرت قصة نوح، وقصة موسى مع فرعون، وستتكرر قصة موسى وفرعون، وقصة نوح أكثر من مرة في القرآن، مرة بشكل مطول، ومرة بشكل مختصر فلم تتكرر القصة الواحدة؟ أذكر هاهنا شيئين: الأول: إن كل مكان ترد فيه فإنها تخدم سياق السورة التي وردت فيها موضوعها ومحلها في الترتيب القرآني. وقد لاحظنا هنا أن قصة نوح خدمت السياق العام لسورة يونس، وهو نفي العجب، وجدية الإنذار كجزء من معالجة الشك في القرآن، بينما قصة نوح في سورة الأعراف خدمت سياق سورة الأعراف في قضية إنزال الهدى وموقف الناس منه وعاقبة ذلك. وهكذا في كل مكان، فإن القصص تخدم سياق السورة وموضوعها العام

فائدة

ومحورها في الترتيب القرآني الكبير. الثاني: إن القرآن الذي من خصائصه- كما ذكرت هذه السورة- أنه مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذا القرآن تأتي القصة فيه في إطار تحقيق العظة، والقصة الواعظة ترد مرة في السورة الطويلة، ومرة في السورة المتوسطة، ومرة في السورة القصيرة، ومرة في قسم، ومرة- أو مرتين أو أكثر- في قسم آخر ليأخذ التالي من حيث تلا العظة من الحادثة البليغة، فإذا استقر هذان الشيئان في الذهن نقول: إن قصة نوح عليه السلام في هذا المقام تخدم سياق سورة يونس: فهي تخدم نفي العجب عن إرسال الرسول المنذر، وهي تخدم قضية كون القرآن موعظة وهدى، وهي تخدم قضية شفاء القلب من الشك- كما سنرى- وهي في الوقت نفسه تربي المؤمن على المواقف الصحيحة تجاه الكافرين، وهي المواقف التي يمليها الإيمان بالوحي المنزل. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يذكر ابن كثير أن الإسلام هو دين كل رسول وكل نبي، ويذكر أدلة ذلك من القرآن فيقول: (كما قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً (المائدة: 48) قال ابن عباس: سبيلا وسنة، فهذا نوح يقول: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (البقرة 131، 132) وقال يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (يوسف: 101) وقال موسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ وقالت السحرة رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (الأعراف: 126) وقالت بلقيس: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (النمل: 44) وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا (المائدة: 44) وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (المائدة: 111) وقال خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا

[سورة يونس (10): آية 74]

شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: 162، 163) أي من هذه الأمة، ولهذا قال في الحديث الثابت عنه: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علان ديننا واحد» أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت شرائعنا، وذلك معنى قوله «أولاد علات» وهم الإخوة من أمهات شتى والأب واحد) *** ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كهود وصالح وشعيب عليهم السلام فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي قبل بعث الرسل إليهم، أو المعنى: فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم كَذلِكَ نَطْبَعُ أي نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فلا تقبل قلوبهم الإيمان كما طبعنا على قلوب أولئك فلم تقبل الإيمان، فكما طبع الله على قلوب المكذبين من الأمم الغابرة بسبب تكذيبهم العدواني المحض، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم، ويختم على قلوبهم، وفي هذا إنذار عظيم لمن يكذب سيد الرسل محمدا صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما أصابهم فماذا يظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من ذلك. كلمة في السياق: بدأ المقطع الثاني من القسم الأول بقوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ... وكانت الآية الثانية فيه بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ إلى قوله فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وكانت الآية الثالثة فيه وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وهاهنا حدثنا الله عن أمم سابقة كيف كذبت رسلها فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فالموقف واحد، والأسباب التي تؤدي إلى تلك المواقف واحدة، وصلة هذه الآية بالسياق واضحة، وكونها نموذجا على المعاني التي مرت من قبل لا يحتاج إلى تأمل كبير فائدة: نلاحظ أن الآية ذكرت أن عقوبة الطبع على القلوب كانت- على أحد وجهي التفسير- بسبب الرفض للحق عند ما عرض على القلوب أول مرة- وفي هذا إنذار

[سورة يونس (10): آية 75]

كبير لمن يرفض الحق وقد اتضح لقلبه- كما أن قوله تعالى: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ يشير إلى أنه لا طبع إلا بسبب اعتداء، وهذا إنذار كبير للإنسان، ألا يقف موقف اعتداء أبدا. والآية بعد هذا كله تؤدي دورها في السياق العام لسورة يونس في نفي العجب من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعثة الرسل وإرسالهم سنة الله في العصور والأمم. *** ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد تلك الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي قومه بِآياتِنا أي حججنا وبراهيننا ومعجزاتنا فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباع الحق والانقياد له والإيمان به وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ في الأصل، ومن ثم وقفوا هذا الموقف المنسجم مع إجرامهم، أو كانوا قوما مجرمين لموقفهم من موسى ورسالته فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي بين ظاهر، والآية تشير إلى أنهم أكدوا كونه سحرا بكل أنواع المؤكدات باستعمال كلمة (إن)، ومجئ اللام في خبرها، ووصف السحر بالوضوح، والصيغة تشير إلى استعمال القسم في كلامهم، ولذلك قال ابن كثير: كأنهم- قبحهم الله- أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان. اه وهكذا دأب أهل الإجرام إذ يحاربون الدعاة إلى الله يصمونهم بكل وصمة مستعملين أبلغ صيغ التأكيد. فائدة حول السياق: نلاحظ كيف أن القصة هنا تؤدي دورها في السياق العام لسورة يونس، فلو تذكرنا بداية سورة يونس فإننا نجد: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ فكما اتهم محمد صلى الله عليه وسلم بالسحر بأبلغ صيغ التأكيد في الاتهام، اتهم موسى من قبل، فقصة موسى هنا تأتي لتؤدي دورها في نفي العجب من الإرسال، وفي تبيان المواقف الخاطئة من الرسل، ولتبين نهايات المكذبين الغابرين، ليحذر المكذبون الجدد*** قالَ مُوسى لهم منكرا عليهم أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه لسحر أَسِحْرٌ هذا كيف وقد أفلح من أتى به، وأبطل الله به سحر السحرة، مع أن سنة

[سورة يونس (10): آية 78]

الله وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ كما هو مشاهد محس في كل العصور قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا أي لتردنا وتثنينا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي عن الدين الذي كانوا عليه وَتَكُونَ لَكُمَا أي لك يا موسى ولهارون الْكِبْرِياءُ أي العظمة والرئاسة والملك فِي الْأَرْضِ أرض مصر، وهكذا دأب المفسدين في كل عصر يتهمون المصلحين بنياتهم، وأنهم لا يريدون وجه الله في دعواتهم الإصلاحية، وما أقبحها من حجة وأظهر بطلانها، لأن الدعاة إلى الله يدعون الناس إلى الطريق الأصعب، ويتحملون من أجل ذلك كل قاس من الأمر، ولو كانوا يريدون الدنيا لحصلوا عليها عن طريق الممالئة والمداهنة والسكوت وخدمة الطواغيت وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين، هذا هو القرار النهائي أعلنوه بعد أن ذكروا حيثيات الرفض وأسبابه في زعمهم وتصورهم، وليدلل فرعون على سلامة موقفه الظالم بالبهرجة على الناس، بمعارضة ما جاء به موسى، أمر بدعوة السحرة ليبرهن أن ما جاء به موسى سحر فانعكس عليه النظام وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي فائق في علم السحر فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى بعد ما قالوا: إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أراد موسى أن تكون البداءة منهم ليري الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدفع باطلهم فَلَمَّا أَلْقَوْا أي حبالهم وعصيهم قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به السحر، فكلمة السحر بدل من اسم الموصول (ما) وهو مبتدأ، وخبره إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيمحقه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ هذه سنة من سنن الله أن المفسد لا يقبل عمله الإصلاح، ومن ثم فإن علينا أن لا ننسب المفسد إلى الإصلاح، ولا نغتر بأعماله، وكل داع إلى شئ يخالف شرع الله فهو مفسد، وكل من يحارب الدعوة إلى الله وأهلها فهو مفسد، فلا نغتر بعمل من أعماله، لأن سنة الله أن لا يصلح عمل المفسدين، ثم ذكر الله سنة أخرى متممة لهذه السنة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويظهره بِكَلِماتِهِ أي بمواعيده وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فالمجرمون يكرهون الحق وظهوره وظهور أهله، والله يريد ذلك وما أراده الله كان، ولكنه له- جل جلاله- حكم في تأخير الظهور، من تمحيص للصف، وإقامة للحجة، وغير ذلك كما نراه أكثر من مرة في كتاب الله كلمة في السياق: نذكر مرة ثانية بما جاء في أوائل المقطع الثاني من القسم الأول: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ

[سورة يونس (10): آية 83]

بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ لاحظ كلمة (بالمفسدين) ولاحظ قوله تعالى هنا إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ليتأكد لك أن هذه القصة هنا تأتي بما يخدم سياق سورة يونس فهي تأتي نموذجا على المعاني التي قررها الله من قبل. *** فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي إلا طائفة من أولاد قومه وهل الضمير في (قومه) يعود إلى موسى أو إلى فرعون؟ قولان للمفسرين، فعلى القول الأول يكون المراد- والله أعلم- أن الذين آمنوا لموسى، وتحمسوا له، وأظهروا هذا الإيمان، هم الشباب من قومه، وإن كان كل بني إسرائيل قد آمنوا لموسى نوع إيمان، وعلى القول الثاني: يكون الذين آمنوا بموسى من قوم فرعون هم طائفة من الشباب كمؤمن آل فرعون التي تمر قصته معنا في سورة غافر عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن دين الله بتعذيبهم، وعلى القول بأن الذرية من قوم فرعون يكون المعنى: أن هؤلاء آمنوا لموسى على خوف فرعون وأشراف قومهم أن يفتنهم فرعون أي وهؤلاء الأشراف معه أي وجنده وحاشيته، وعلى القول بأن الذرية من قوم موسى يكون المعنى: أن هؤلاء آمنوا لموسى على خوف من فرعون أن يفتنهم، وأن أشراف قومهم كانوا خائفين عليهم كذلك أن يفتنهم فرعون، وهذا الاتجاه الثاني هو الذي يحس في الواقع، فعند ما يقوم مصلح إلى الله ويصارع الطواغيت لا يستجيب له فى الغالب إلا الشباب، وبهذا يعرض هؤلاء الشباب أنفسهم للمحنة، فيبقون في خوف من السلطة الظالمة، وأهلوهم كذلك يخشون عليهم، فهم خائفون أن يفتنوا، وأهلوهم خائفون عليهم أن يفتنوا وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ أي متكبر فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزين الحد بادعاء الربوبية. فوائد: 1 - يلاحظ من قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أن الذين يستجيبون للدعوات الإصلاحية هم الشباب؛ لسلامة فطرتهم، فنفوس الشباب أقرب لأن تقبل الحق، ومن ثم فعلى أصحاب الحق أن يدركوا معدن النصرة، وألا يتطلعوا إلى أجيال ليست مرشحة لأن تفعل شيئا؛ لأنها تجاوزت دور الفاعلية، على أن صاحب الدعوة عليه أن يبلغ دعوته للجميع.

[سورة يونس (10): آية 84]

2 - يقال إن فرعون موسى هو رعمسيس الثاني فإذا صح هذا فإنه من الثابت تاريخيا أن رعمسيس الثاني هذا قد حقق انتصارات جمة في معارك كثيرة وقد أصدر منشورا عممه على مصر أعلن فيه ربوبيته- كما تذكر آثار مصر- ومن ثم ندرك من خلال هذا جانبا من معنى قوله تعالى وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ. .......... وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ هذا دليل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن وفي هذا درس عظيم؛ فبدون التوكل على الله لا تستطيع أمة ولا جماعة ولا فرد أن تحقق هدفا يفرضه الإسلام، أو تتخلص من أوضاع ظالمة، وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا وتوجهوا إلى الله بالدعاء رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيفتنوا بنا، أي لا تظفرهم بنا ولا تسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل، وهناك تفسير آخر لمجاهد وهو: لا تسلطهم علينا فيفتنونا، ودعوا دعوة أخرى وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ أي وخلصنا برحمة منك وإحسان مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الذين كفروا الحق وستروه، دعوا بالعافية والنجاة وهكذا المؤمن كثير الإشفاق، راغب بفضل الله، حريص على العافية، يطلبها من الله، وإذا وضعه الله في ظرف قام بأدب الوقت فيه، من صبر، أو تحمل أو قتال، أو مقابلة بمثل ... فائدة: بمناسبة قوله تعالى: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقول ابن كثير: أي فإن الله كاف من توكل عليه أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (الزمر: 36) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (الطلاق: 3) وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله تعالى فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ (هود: 123) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا (الملك: 29) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (المزمل: 9) وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهـ. أقول: والقرآن بين العبادة والتوكل يفيد أنهما مرتبطان ببعضهما، فمن لا عبادة له لا توكل له، ومن ثم فإن الدعاة والمصلحين والمربين عليهم أن يعلقوا قلوب أتباعهم

[سورة يونس (10): آية 87]

بالعبادة، ويعودوهم عليها ليتحققوا بالتوكل ليستطيعوا تحمل أعباء مراحل الحياة وما فيها. ........... وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أي اتخذا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مصلى فيه لتأمنوا من الخوف، وكان فرعون منعهم من الصلاة، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي يقابل بعضها بعضا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر والجنة. فائدة: هذه الآية فيها الكثير من فقه الدعوة، فعلى القول الأول في تفسير القبلة نفهم أن البيوت تنوب مناب الأماكن العامة، إذا حيل بين الدعوة وهذه الأماكن، فمثلا في كثير من بلدان العالم الإسلامي- وخاصة في البلدان التي خضعت للأنظمة الشيوعية- نجد كلمة الحق محظورة في المسجد، ومضيقا عليها، حتى حلقات العلم ويحال دونها، وفي مثل هذا الظرف فالبيوت تقوم مقام المسجد، والدور العامة، ولكن لا ننسى أن المساجد هي حوانيت الإسلام ومعاقلة، فلا نتخلى عنها إلا كتخلينا عن معقل، وإلا فالأصل أن نحيي المسجد ورسالته. وإنما هي حالة الاضطرار كما هنا. قال النووي في الآية: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، ومن تفسير ابن جبير للقبلة نعرف أن لقرب بيوت أهل الحق من بعضهم مصلحة- بل مصالح- وفي تذييل الآية بالأمر بالصلاة والبشارة بالنصر ندرك دور الصلاة في المساعدة على التحمل، ودور التفاؤل وإشاعته في تجاوز أهل الحق المحنة وارتباط هذا بهذا، ومن ثم أمر الله المؤمنين بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ... (البقرة: 153) ومن ثم كان عليه الصلاة والسلام: «إذا حزبه أمر صلى» أخرجه أبو داود. والحاصل أن هذه الآية فيها الكثير من فقه الدعوة فقد رسمت لبني اسرائيل الطريق قال ابن كثير فيها: (يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم منه). أقول: وهي ترسم الطريق لكل حالة مشابهة، ومن كلام صاحب الظلال في هذه الآية، آية: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:

[سورة يونس (10): آية 88]

(وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية. وهما معا ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئا كثيرا في ساعة الشدة. وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة ليست خاصة لبني إسرائيل، فهي إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة- وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم الله إلى أمور: * اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها- ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها. * اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول عبادتها بها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور .. ) أقول: لقد فهم بعض قراء الشهيد سيد- رحمه الله- من هذه الفقرة ما لم يرده منها، فاعتزلوا الجمع والجماعات، واعتزلوا مساجد المسلمين بحجة أنها أصبحت معابد جاهلية، ويجب اعتزالها، وهذا فهم خاطئ، فالمساجد للإسلام وأهله، والأصل في المسلم صحة العقيدة حتى يتبين العكس، والأصل أن نحسن الظن في المسلم حتى يتبين العكس، والأصل أن نحسن الظن في رواد المساجد حتى يتبين العكس، وإذا ما ثبت لنا أن إمام مسجد أو خطيبه كافر فساعتئذ نتحاماه إلى غيره، وإذا ما ثبت لنا أنه مبتدع فالأولى أن نتجنبه *** ثم أخبر تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم؛ معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا وعتوا وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً من أثاث الدنيا ومتاعها وَأَمْوالًا أي

[سورة يونس (10): آية 89]

جزيلة كثيرة فِي هذه الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا آتيتهم ذلك لِيُضِلُّوا في عاقبته عَنْ سَبِيلِكَ عن دينك، والمعنى: آتيتهم وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم، استدراجا منك لهم، فيفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذا لحبك إياهم، واعتنائك بهم. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اطبع عليها واستوثق فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أى المؤلم قالَ الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما مع أن الداعي موسى، إلا أن هارون كان يؤمن: أي أجبناكما فيما سألتما في شأن فرعون وآله. فَاسْتَقِيما على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب. والمعني: كما أجبت دعوتكما فاستقيما على أمري لأن النعمة تقتضي شكرا وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ في استعجال القضاء، وترك الشكر وفقدان البصر. فوائد: 1 - قال الألوسي في الآية: واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر، بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهرزاده، فقولهم: الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده، بل هو مقيد بما إذا كان على وجه الاستحسان، لكن قال صاحب الذخيرة: قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل، ففي المسألة اختلاف، قيل: والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث أنه كفر كفر، وأن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم، أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره- مثلا- ليس بكفر، وبهذا يندفع التنافي بين قولهم: الرضا بالكفر كفر. وقولهم: الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر؛ لرضاه بكفره في زمان؛ فيه النظر، ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بايعه فكف صلى الله عليه وسلم يده عن بيعته، ونظر إليه ثلاث مرات، كل ذلك يأبى أن يبايعه، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث كففت يدي عن بيعته فيقتله؟» قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه

الصلاة والسلام: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين» وقد أخرجه ابن أبي شيبة. وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير، فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل. أقول: قد استشكل بعض الناس دعوة موسى على فرعون وآله بعدم الإيمان، والجواب أنه دعا بعد إعلام الله إياه أنهم لا يؤمنون. قال ابن كثير: وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملائه، الذين تبين له أنهم لا خير فيهم، ولا يجئ منهم شئ كما دعا نوح عليه السلام. 2 - قال ابن كثير: «وقد يحتج بهذه الآية (أي: قد أجيبت دعوتكما) من يقول: إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا وهارون أمن. 3 - يذكر بعض المفسرين أنه كان بين التبشير باستجابة الدعوة وبين تحقيقها أربعون سنة، وليس هناك من نص في الكتاب والسنة يحدد مثل هذا غير أن التوراة الحالية وهي محرفة- كما نعلم- تذكر أن موسى عليه السلام عند ما كلمه فرعون كان عمره ثمانين عاما. وتذكر أنه عند ما توفي كان عمره (120 سنة)، وقد توفي موسى عليه السلام في أواخر أيام التيه، وعلى هذا فمثل هذه الرواية- إن كان مرجعها بني إسرائيل- فالمصدر الأول لبني إسرائيل ينقضها فالأولى عدم التحديد وعدم ذكر شئ من هذا القبيل في هذا المقام. 4 - في سفر الخروج من أسفار التوراة الحالية حديث طويل عما جرى بين موسى وهارون عليهما السلام من جهة، وبين فرعون من جهة، ونلاحظ أن هلاك كثير من الأموال قد حدث أكثر من مرة. ففي سفر الخروج الإصحاح التاسع- (فها يد الرب تكون على مواشيك التي في الحقل على الخيل والحمير والجمال والبقر والغنم وباء ثقيلا جدا .. فماتت جميع مواشي المصريين). (فضرب البرد في كل أرض مصر جميع ما في الحقل من الناس والبهائم وضرب البرد جميع عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل). وفي الإصحاح العاشر (ولما كان الصباح حملت الريح الشرقية الجراد. فصعد الجراد

[سورة يونس (10): آية 90]

على كل أرض مصر وحل في جميع تخوم مصر شئ ثقيل جدا لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك. وغطى وجه كل الأرض حتى أظلمت الأرض. وأكل جميع عشب الأرض وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرد. حتى لم يبق شئ أخضر في الشجر ولا في عشب الحقل في كل أرض مصر). ويتردد في هذا المقام تعبير (ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل). (ولكن شدد الرب قلب فرعون فلم يسمع لهما كما كلم الرب موسى) قد يكون في هذه الروايات الإسرائيلية مظهر من مظاهر إجابة دعوة موسى وهارون في الطمس على الأموال والتشديد على القلوب إن صحت. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ هذه المجاوزة المعجزة التي مرت معنا في سورة الأعراف وتمر من بعد فَأَتْبَعَهُمْ أي فلحقهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً أي ظلما وعدوانا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فآمن حيث لا ينفعه الإيمان آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي هذا الوقت تؤمن وقد عصيت الله قبل هذا وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بضلالك وإضلالك عن الإيمان فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي نخرجك من البحر بِبَدَنِكَ أي جسدك الذي لا روح فيه لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ أي لمن بعدك آيَةً أي عبرة وعظة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون. فوائد: 1 - انعقد إجماع الأمة الإسلامية على عدم نجاة فرعون وأن إيمانه لا يقبل، وسبب ذلك أن سنة الله إذا جاء العذاب قوما قبل أن يؤمنوا فإن إيمانهم لا يقبل ساعئتذ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (غافر: 84، 85). 2 - عند قوله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ قال الألوسي: (والقائل له ذلك قيل: هو الله تعالى، وقيل: هو جبريل عليه السلام،

وقيل: إنه ميكائيل عليه السلام. فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد، وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو، فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه، فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني، فأمر ميكائيل فأتاه فقال أالآن» الخ وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما أخرجه الطيالسي، وابن حبان. وابن جرير، وابن المنذر. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب. والترمذي. والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة». قال بعض المحققين: إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه، وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه، على سبيل خرق العادة؛ لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شئ، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا، بل إذا استحسن، وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه، كما في التأويلات لعلم الهدى. انتهى. والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله: على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس) انتهى كلام الألوسي بشيء من الاختصار. أقول: إن إساءة فرعون وعتوه قد بلغت مبلغا جسيما استحق به ما فعله به جبريل. 3 - روى البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على. فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أحق بموسى منهم فصوموه». وهذه إحدى الملاحظات التي تسجل، والتي تشكل بمجموعها قاعدة هي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتبنى كل مناسبة لها علاقة برسول سابق؛ لأننا نحن أولى الناس بكل رسول. 4 - يلاحظ أن التوراة قد سجلت غرق فرعون في البحر الأحمر، ولم تسجل نجاة

جسده، وكل الفراعنة الذي هم مظنة أن يكونوا فرعون موسى موجودة جثثهم محنطة. وهذا الذي دعا كثيرا من المؤرخين الغربيين إلى أن يشككوا بصحة رواية التوراة الحالية، فإذا رأينا ما ذكره القرآن هنا من نجاة الجثة عرفنا الجواب الصحيح لهذا الموضوع بما يجمع بين رواية التوراة ومكتشفات العصر، وفي هذا معجزة عظيمة من معجزات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 5 - يذكر المفسرون المسلمون كلاما عند قصص القرآن مرجعه في الغالب إلى كلام أهل الكتاب ونحن سننقل لك حول ما مر معنا الرواية الإسرائيلية الحالية: في سفر الخروج الإصحاح الرابع عشر ما يلي: (فلما أخبر ملك مصر أن الشعب قد هرب تغير قلب فرعون وعبيده على الشعب. فقالوا: ماذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا. فشد مركبته وأخذ قومه معه. وأخذ ستمائة مركب منتخبة وسائر مركبات مصر وجنودا مركبية على جميعها. وشدد الرب قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني إسرائيل. وبنو إسرائيل خارجون بيد رفيقه. فسعى المصريون وراءهم وأدركوهم جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه وجيشه. وهم نازلون عند البحر عند فم الحيروث أمام بعل صفون. فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم وإذا المصريون راحلون وراءهم ففزعوا جدا وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب. وقالوا لموسى هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر. أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين كف عنا فنخدم المصريين. لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية. فقال موسى للشعب لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم. فإنه كما رأيتم المصريين اليوم لا تعودون ترونهم أيضا إلى الأبد. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون. فقال الرب لموسى ما لك تصرخ إلي، قل لبني إسرائيل أن يرحلوا. وارفع أنت عصاك ومد يدك على البحر وشقه. فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة. وها أنا أشدد قلوب المصريين حتى يدخلوا وراءهم. فأتمجد بفرعون وكل جيشه بمركباته وفرسانه. فيعرف المصريون أني أنا الرب حين أتمجد بفرعون ومركباته وفرسانه، فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم.

وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم. فدخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل. وصار السحاب والظلام وأضاء الليل، فلم يقترب هذا إلى ذاك كل الليل. ومد موسى يده على البحر فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل. وجعل البحر يابسة وأنشف الماء. فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم جميع خيل فرعون ومركباته وفرسانه إلى وسط البحر. وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريين في عمود النار والسحاب وأزعج عسكر المصريين وخلع بكر مركباتهم حتى ساقوها بثقلة. فقال المصريون نهرب من إسرائيل لأن الرب يقاتل المصريين عنهم. فقال الرب لموسى مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين على مركباتهم وفرسانهم. فمد موسى يده على البحر فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة والمصريون هاربون إلى لقائه. فدفع الرب المصريين في وسط البحر. فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر. لم يبق منهم ولا واحد. وأما بنو إسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم. فخلص الرب في ذلك اليوم إسرائيل من يد المصريين. ورأى إسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر. ورأى إسرائيل الفعل العظيم الذي صنعه الرب بالمصريين. فخاف الشعب الرب وآمنوا بالرب وبعبده موسى.) 6 - ذكر ابن كثير حكمة تكرار قصة موسى عليه السلام في القرآن في سياق الكلام عن هذه القصة في سورة يونس قال: وكثيرا ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز؛ لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن ربى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله سببا أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا مع ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله تعالى، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية، والنفس الخبيثة الأبية، وقوى رأسه، وتولى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجهرم على الله، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون، ويحوطهما

[سورة يونس (10): آية 93]

بعنايته، ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شئ، ومرة بعد مرة، مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شئ ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وصمم فرعون وملؤه- قبحهم الله- على التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (الأنعام: 45). أهـ *** وَلَقَدْ بَوَّأْنا أي أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي منزل كرامة بعد أن عاقبهم بالتيه إذ أورثهم الأرض المقدسة فترة طويلة من الزمن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا فَمَا اخْتَلَفُوا فآمن بعض وكفر بعض، وسفه بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي يفصل بينهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين والدنيا. فوائد: 1 - بمناسبة هذه الآية يذكر ابن كثير بالحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه والموجود في السنن والمسانيد «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». 2 - ذكر ابن كثير قصة الأرض المقدسة، وقصة بني إسرائيل معها بعد الخروج فقال: (ولكن استمروا مع موسى عليه السلام طالبين إلى بلاد بيت المقدس وهي بلاد الخليل عليه السلام، فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس، وكان فيه قوم من العمالقة، فنكل بنو إسرائيل عن قتالهم، فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة، ومات فيه هارون ثم موسى عليهما السلام، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون، ففتح الله عليهم بيت المقدس، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر، ثم عادت إليهم، ثم أخذها ملوك الرومان، فكانت تحت أحكامهم مدة طويلة، وبعث الله

عيسى ابن مريم عليه السلام في تلك المدة، فاستعانت اليهود- قبحهم الله- على معاداة عيسى عليه السلام بملوك الرومان، وكانت تحت أحكامهم، ووشوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا، فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه، وشبه لهم بعض الحواريين- بمشيئة الله وقدره- فأخذوه فصلبوه واعتقدوا أنه هو وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (النساء: 157، 158) ثم بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة دخل قسطنطين- أحد ملوك الرومان- في دين النصرانية وكان فيلسوفا قبل ذلك، فدخل في دين النصارى، قيل: تقية، وقيل: حيلة؛ ليفسده، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة، وبدعا أحدثوها، فبنى لهم الكنائس والبيع الكبار والصغار، والصوامع والهياكل والمعابد والقلايات، وانتشر دين النصرانية في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ووضع وكذب ومخالفة لدين المسيح، ولم يبق على دين المسيح- على الحقيقة- منهم إلا القليل من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامة والقفار، واستحوذت يد النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية، والقمامة، وبيت لحم، وكنائس ببلاد بيت المقدس، ومدن حوران، كبصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة، وعبدوا الصليب من حينئذ، وصلوا إلى الشرق، وصوروا الكنائس، وأحلوا لحم الخنزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانة الحقيرة، التي يسمونها الكبيرة، وصنفوا له القوانين، وبسط هذا يطول، والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة رضي الله عنهم، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة). أقول: ذكر هذا ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ فكأنه يريد أن يبين ما آل إليه أمرهم بعد أن أنعم الله عليهم، وبعض كلامه يحتاج إلى تحقيق، فقد وجدت الانحرافات في النصرانية قبل قسطنطين. فمن المعروف أن بولس الذي عاصر حواريي المسيح عليهم السلام هو الذي حرف وانحرف، وإنما كان دور قسطنطين أنه فرض هذا الانحراف، وأكده وقواه، وأضعف جانب أصحاب الحق الذين كانوا إلى زمنه هم الأكثرية بالنسبة لمجموع النصارى.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: في ذكر قصة موسى وفرعون في هذا المقطع تقرير لكون بعثة الرسل ليست عجبا، وتحذير لمن يعاند الرسل، وتبشير لمن يسير على طريقهم بحسن المآل وحسن العاقبة، فإذا تذكرنا أن هذا المقطع بدأ بقصة نوح عليه السلام، ثم بالإشارة إلى الرسل بعده، ثم بقصة موسى وهارون مع فرعون، يجتمع لنا في هذا المقطع مجموعة معان يتقرر فيها من خلال العرض القصصي أن من سنة الله إرسال الرسل، وأن من سنته عقوبة المكذبين، وأن يجعل العاقبة للمؤمنين، وفي ذلك إقامة حجة ودروس لأهل الإيمان. وهكذا نجد أن سياق السورة سار في مناقشة المتعجبين من أن يرسل الله رسولا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وناقش القائلين بأن محمدا افترى هذا القرآن، ثم عرف الناس جميعا على خصائص هذا القرآن، ثم قص هذه القصص التي تهدد المكذبين، وتبشر المؤمنين، وتذكر بأن إرسال الرسل خلال العصور سنة من سنن الله، والآن يأتي المقطع الثالث من القسم الثاني من سورة يونس التي هي تفصيل لقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وهي السورة التي تنفي كل شك، وتؤكد خصيصة هذا القرآن في كونه هدى، ولكن لأهل الإيمان والتقوى. والملاحظ أن هذا المقطع يبدأ بقوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. إنه عودة ثانية إلى تأكيد أن هذا الكتاب لا ريب فيه ليكون ذلك مقدمة للقسم الأخير في السورة، الذي يدعو الناس إلى ترك الشك بالإسلام، وإلى الاهتداء بهدي القرآن. وذلك محور السورة فلنر المقطع الأخير في القسم الثاني: المقطع الثالث من القسم الثاني ويمتد من الآية (94) إلى نهاية الآية (103) وهذا هو: [سورة يونس (10): الآيات 94 الى 103] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

كلمة في هذا المقطع

كلمة في هذا المقطع: مر معنا في هذه السورة العوامل المرضية التي تجعل بعض الناس يشكون في هذا القرآن، ومر معنا ما يستحقه المكذبون بهذا القرآن، ومر معنا قوله تعالى كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ويأتي هذا المقطع ليدل على ما به ينتفي الشك عن هذا القرآن، وليعزي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين لا يؤمنون، وليؤكد سنة الله في المكذبين، وليؤكد أن علة الريب هي المرض، وأن هؤلاء الذين يكذبون لا عقول لهم، وهكذا يأتي المقطع على نسق محور السورة وسياقها، وهو عودة إلى العرض والتقرير والأمر والنهي والحوار بعد القصص:

التفسير

التفسير: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد وهو خطاب لأمته كلها أي لكل إنسان فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإنك ستعلم منهم أن الله أرسل رسلا كثيرين، وأنزل عليهم وحيا يشبه الوحي الذي أنزل عليك، ومع كثرة التحريف فإن ما يدل على هذا القدر موجود، وهكذا بعد أن هدم الله كل حجة للكافرين والمرتابين، فتح منفذا آخر يزول به الشك في أصل الإرسال وأصل الوحي، ثم قرر الله عزّ وجل أن المسألة أوضح من أن يشك فيها لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وهو حق قامت عليه من الأدلة ما لا يبقى شك فيه لعاقل، وإذ كان الأمر كذلك فقد صدر في هذا المقام نهيين: الأول: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي الشاكين. النهي الثاني: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أيا كانت في الأرض أو في السماء أو في القرآن أو في المعجزات فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ بسبب التكذيب، وإذ توجه النهي لرسولنا عليه الصلاة والسلام- وهو أول المنفذين لأمر الله- فإنه قال: «لا أشك ولا أسأل». كما روى ذلك قتادة وابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري. وبعد أن بين الله عزّ وجل أن فيما عند أهل الكتاب من العلم ما يبعد الشك بأصل الوحي وإرسال الرسل. وبعد أن نهى الله رسوله عن الشك والتكذيب وهو نهي لأمته، وهو نهي جاء بعد تقرير أن ما أنزله الله على رسوله هو الحق، وهو في هذا المقام يفيد أن هذا الكتاب لا محل فيه للشك، وأن آياته من الوضوح بالمكان الأعلى، فلا يكذب بها إلا من لا يخضع لحجة، بعد هذا كله يقرر الله قاعدة وينذر إنذارا: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ أي وجبت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ بالعذاب لا يُؤْمِنُونَ لا لنقص بالآيات ولا لانعدامها وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فإنهم لا يؤمنون حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ وعندئذ يؤمنون، ولكنه إيمان لا ينفعهم؛ لأن سنة الله أنه إذا أرسل عذابه لا ينفع إيمان. مستثنى من ذلك حادثة واحدة هي حادثة قوم يونس فَلَوْلا أي فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ أي أهل قرية آمَنَتْ عند ما رأت العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها أي لم تكن قرية نفعها الإيمان بعد إذ رأت العذاب إِلَّا أي لكن قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا أي عند رؤية أمارة العذاب فهؤلاء فقط نفعهم إيمانهم رحمة من الله بهم كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي إلى

[سورة يونس (10): آية 99]

انقضاء آجالهم، فإذ كان الأمر كذلك فليسارع إلى الإيمان من يريد النجاة، ثم لفت الله النظر إلى الحكمة الكلية في وجود كفر وإيمان. وأن هذا إنما هو بمشيئته فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمد لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً فيما جئتهم به ولكن له حكمة فيما يفعله، ومن حكمته أنه لم يشأ، وترك المسألة لاختيار الإنسان أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بأن تلزمهم وتلجئهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي ليس ذلك عليك ولا إليك، فلا إكراه في الدين، وخلق الهداية لله، وقد جرت سنة الله أن لا يهدي الفاسقين والظالمين والمتكبرين والمتجبرين وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الخبال والضلال عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ حجج الله وأدلته، فهو العادل في هداية من يهديه وإضلال من يضله، وهكذا بينت هذه الآيات بعض حكم الإضلال، وهي عدم العقل عن الله من المخاطبين، وشكهم بالحق الواضح، وتكذيبهم للآيات البينة. وأنذرت أن يصيب المكذبين عذابه الذي إذا جاء لا يرد ولا ينفع معه إيمان، وبينت أن الاستثناء الوحيد إنما كان لقرية يونس ليعرف أن مشيئة الله مطلقة، وقد بينت الآيات في أكثر من مقام طلاقة المشيئة الإلهية. ليقبل الإنسان على الله بقلب مخبت خائف وجل راغب راهب. فوائد: 1 - قال الألوسي في قصة قوم يونس: (وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل، وكانوا أهل كفر وشرك، فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده، وترك ما يعبدون من الأصنام، فأبوا عليه وكذبوه، فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث. فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب، فكان فوق رءوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا، فهبط حتى غشى مدينتهم، واسودت أسطحتهم، فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة، وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس والدواب، فحن البعض إلى البعض، وعلت الأصوات، وعجوا جميعا، وتضرعوا إليه تعالى، وأخلصوا النية؛ فرحمهم ربهم، واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب،

وكان ذلك يوم عاشوراء، وكان يوم الجمعة. قال ابن مسعود: إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم، حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويرده إلى صاحبه، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا، حتى كشف ما نزل بهم، وأخرج أحمد في الزهد. وابن جرير. وغيرهما عن ابن غيلان قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حي حين لا حي، ويا حي محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها فكشف عنهم العذاب. وقال الفضيل بن عياض: قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم وأجل، فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله. وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر- كما جاء مرفوعا- فمر به رجل فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم، وانطلق مغاضبا حسبما قصة الله في غير هذا الموضع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان (كشفنا) وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار، وإليه ذهب كثير من المفسرين، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم؛ فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما أعدوا به إيمان يأس غير نافع، لارتفاع التكليف حينئذ، وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون). 2 - قال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ .. «والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعند ما جأروا إلى الله، واستغاثوا به، وتضرعوا له، واستكانوا، وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها رحمهم الله، وكشف عنهم العذاب، وأخروا كما قال تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين:

[سورة يونس (10): آية 101]

(أحدهما): إنما كان ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الآية. (والثاني): فيهما لقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ فأطلق عليهم الإيمان والإيمان منقذ من العذاب الأخروي وهذا هو الظاهر، والله أعلم. وقال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم، قال قتادة: وذكر أن قوم يونس بنينوى أرض الموصل. وكذا روي عن ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، وكان ابن مسعود يقرؤها (فهلا كانت قرية آمنت) وقال أبو عمران عن أبي الجلد قال: لما نزل بهم العذاب جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا: علمنا دعاء ندعو به لعل الله يكشف عنا العذاب فقال قولوا: (يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت) قال: فكشف عنهم العذاب وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله) اهـ. كلام ابن كثير. 3 - كثيرون يشكل عليهم موضوع التوفيق بين عموم المشيئة الإلهية، واختيار الإنسان، وما ذلك إلا للجهل بالله تعالى، فالله تعالى محيط علما بكل شئ، وقد علم ما سيفعله كل إنسان، فأراد ذلك عدلا، وأبرز ذلك بقدرته، فالعلم كاشف لا مجبر، والإنسان مخير، ومن اختار الهدى وأخذ بأسبابه وفقه الله إليه، ومن اختار الضلال ورفض أسباب الهداية يسره الله فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى *. (سورة الليل 5 - 10) ولنعد إلى السياق. بعد أن هدم الله فيما مر من هذا المقطع معقلا من معاقل الشك، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الظواهر والآيات الدالة على أسماء الله وصفاته، وما أكثرها وما أغزرها، وقد سجلنا طرفا منها في كتابنا (الله جل جلاله) وَما تُغْنِي الْآياتُ جمع آية وَالنُّذُرُ جمع نذير عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ دل هذا على أن في السموات والأرض آيات كثيرة ونذرا كثرا، ومن النذر الرسل، ولكن الكفرة لا يستفيدون من ذلك شيئا. والمعنى: وأي

[سورة يونس (10): آية 102]

شئ تغني الآيات السماوية والأرضية، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها، الدالة على صدقها عن قوم لا يؤمنون؟ لقد عميت قلوبهم، وصمت آذانهم، فلم يعودوا يرون الحق، ولم يعودوا يسمعونه، فإذ كان أمر هؤلاء كذلك فماذا بقي إلا انتظار العذاب فَهَلْ أي فما يَنْتَظِرُونَ أي بتكذيبك إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي: مثل وقائعهم من العذاب، وعندئذ يؤمنون، ولات حين مناص قُلْ فَانْتَظِرُوا ذلك إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ولكن شتان بين الانتظارين، لاختلاف سنة الله في الفريقين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ونهلك المكذبين بالرسل كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ حقا أوجبه الله على نفسه الكريمة أن ينجي الرسول ومن يؤمن معه إذا جاء العذاب المكذبين به، وهكذا هدمت هذه الآيات معقلا آخر من معاقل الشك، إذ بينت أن النظر في السموات والأرض يوصل إلى الإيمان، فمن نظر في التاريخ، وتقلبات الأيام، وحياة الرسل، وحياة أهل الإيمان، وعاقبة أهل الإيمان والكفر، فإنه سيجد في ذلك كله ما يدفعه إلى الإيمان، إلا إذا كان ممن عمي قلبه، وعندئذ فلينتظر مصيره المظلم .. وبهذا ينتهي القسم الثاني في سورة يونس، وقد استقر بالقسمين الأول والثاني أن هذا القرآن لا ريب فيه، وأن على الخلق أن يهتدوا به، وخلال ذلك ذكرت العوامل الحقيقية التي تحول بين الناس وبين الإيمان والاتباع، وإذ استقرت هذه المعاني كلها فإن القسم الثالث- وهو خاتمة السورة- يأتي ليخاطب الناس كل الناس خطابين أخيرين.

القسم الثالث: وهو خاتمة السورة

القسم الثالث: وهو خاتمة السورة ويمتد من الآية (104) إلى نهاية الآية (109) وهي آخر آية في السورة ويتألف من فقرتين كل فقرة منهما مبدوءة بقوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا هو: [سورة يونس (10): الآيات 104 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) كلمة في هذا القسم: في هذا القسم فقرتان كل منهما مبدوءة بقوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ .. فهما خطابان أخيران: خطاب في نفي الشك، ولذلك صلته بقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ولذلك يبدأ الخطاب بقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي، وخطاب في تأكيد الهدى بهذا القرآن، ولذلك صلته بقوله تعالى من محور السورة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ولذلك جاء الخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ففي هاتين الفقرتين

الفقرة الأولى

توجيهان أخيران يعمقان نفي الشك عن هذا القرآن، وضرورة الاهتداء به، وهما محور سورة يونس. وهذا تفسير الفقرة الأولى. الفقرة الأولى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أنه حق فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ صنما أو بشرا، أو كونا أو مجتمعا أو معنى أو محسوسا، أو غير ذلك وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي يقبض أرواحكم وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي وأمرت بأن أكون من المؤمنين بما ركب الله في من العقل، وبما أوحى إلي في كتابه وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أي مائلا عن غيره إليه. والمعنى: واستقم مقبلا بوجهك على ما أمرك الله، أو استقم إلى دين الله ولا تلتفت يمينا ولا شمالا، أي أخلص العبادة لله وحده، حنيفا أي: منحرفا عن الشرك كله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا اعتقادا ولا عملا ولا مواقف ولا سلوكا وَلا تَدْعُ أي تعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إن عبدته وَلا يَضُرُّكَ إن لم تعبده، أو ما لا ينفعك إن دعوته، ولا يضرك إن خذلته، فَإِنْ فَعَلْتَ أي فإن عبدت أو دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة غير الله- فكان الجواب أنه من الظالمين- وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، وبعد أن أمره بالإيمان والإخلاص والتوحيد بالعبادة وإفراد الدعاء، تأتي الآية الأخيرة في هذه الفقرة لتقرر أن الذي يملك الضر والنفع هو الله وحده، فلا يمنع أحدا رغبة أو رهبة أن يترك عبادة الله إلى غيره. وَإِنْ يَمْسَسْكَ أي يصيبك اللَّهُ بِضُرٍّ كفقر أو مرض أو شدة أو غير ذلك فَلا كاشِفَ لَهُ أي فلا رافع له إِلَّا هُوَ أي إلا الله وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ كعافية أو غنى أو استخلاف فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أي فلا راد لمراده يُصِيبُ بِهِ أي بالخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ أي المكفر بالبلاء الرَّحِيمُ المعافي بالعطاء. قطع بهذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه، والاعتماد إلا عليه، وذيلها بذكر اسمه الغفور والرحيم ليبين عموم توبته ومغفرته لمن تاب إليه من أي ذنب كان، حتى من الشرك به، فإنه يتوب عليه، وهذا من كمال رحمته. وفي الآية بيان بأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله وحده لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة والإخلاص فيها، والإفراد بالدعاء وحده لا شريك له، وإذ كان

فوائد

الأمر كذلك، وإذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويدعو إليه، فكيف يشك في دينه؟ إنه من كان هذا شأنه في إفراد العبادة لله، كيف يكون شك في دينه وكيف يكون شك في الكتاب المنزل عليه، وكما أدت هذه الفقرة هذا المعنى فإنها أدت معنى آخر: وهو أنها علمتنا كيف نقابل موقف الشك من هذا القرآن، فعلمتنا أن نقابل ذلك بمزيد من التنائي عن المشركين والشرك، وبإقبال كثير على الله والإخلاص له، وإفراده بالعبادة والدعاء، كما أدت في هذا السياق معنى آخر، وهو تعليم التحدي. قال ابن كثير في هذه الآيات (يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به، من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي، فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم. ثم إليه مرجعكم، فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا- وليست حقا إلا في زعمكم- فأنا لا أعبدها، فادعوها فلتضرني، فإنها لا تضر ولا تنفع، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له، وأمرت أن أكون من المؤمنين). وهكذا نجد أن هذه الفقرة أدت معاني متعددة فهمناها من النص ومن خلال السياق. وأن يؤدي السياق القرآني مثل هذه المعاني، وأن تكون كلها حقا، وأن يكون ذلك على أعلى درجات الإبداع في الأداء، وأعلى درجات البلاغة في اللفظ والمعنى، وأن يكون في هذا القرآن هذا الكمال في الحكمة، إذ يناقش، أو يصفي، أو يقرر ضمن سياق واحد، وعلى هذه الشاكلة، أن يكون هذا كله، فهذا شئ فوق إمكان الإنسان إن هو إلا تنزيل العزيز الحكيم. فوائد: 1 - بمناسبة الأمر بالعبادة في هذه الآيات نذكر الحديث الذي رواه ابن عساكر عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم». ذكره ابن كثير فلنقبل يا أخي على الله وعلى عبادته، ولنكثر من دعائه، فلعل نفحة من نفحات ربنا تصيبنا فتنقلنا من أن نكون من أهل الدنيا إلى أن نكون من أهل الآخرة، ربنا استر عوراتنا وآمن روعاتنا. 2 - ذكر النسفي تعقيبا على الآية الأخيرة في الفقرة وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ .. مبينا حكمة مجيئها في هذا المقام، ومبينا بعض نكت بلاغة ألفاظها فقال: (أتبع النهي

الفقرة الثانية

عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أن الله هو الضار والنافع، الذي إن أصابك بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟ وكذا إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من الفضل والإحسان، فكيف بالأوثان؟ وهو الحقيق إذا بأن توجه إليه العبادة دونها. وإنما ذكر المس في أحدهما والإرادة في الآخر كأنه أراد أن يذكر الأمرين الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، فأوجز الكلام ليدل بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ا. هـ. ولننتقل إلى الفقرة الثانية: الفقرة الثانية قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ أي القرآن مِنْ رَبِّكُمْ الخالق الذي بيده الضر والنفع فَمَنِ اهْتَدى أي فمن اختار الهدى واتبع الحق فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن ثواب اهتدائه إليه، فما نفع باختياره الهدى إلا نفسه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه، لأن وبال ضلاله عليها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ موكول إلي أمركم فأجبركم على الهدى، أو وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين، أي لست مسئولا عن إيمانكم، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله. وبعد أن قررت الآية أن هذا القرآن حق، وأن الهداية باتباعه، تأتي الآية الأخيرة لتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المقتدين به باتباع القرآن، والصبر على ذلك وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك أي تمسك بما أنزل الله عليك، وأوحاه إليك وَاصْبِرْ على تكذيبهم وإيذائهم، واصبر على القيام بأمر الله، واصبر على مخالفة من خالفك في ذات الله حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لك بالنصر والغلبة، أي حتى يفتح الله بينك وبينهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أي خير الفاتحين بعدله وحكمته، أو خير الفاصلين لأنه المطلع على السرائر، فلا يحتاج إلى بينة وشهود، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر به، ووفى الله بوعده. وهكذا بينت هذه الفقرة ضرورة الاهتداء بكتاب الله، وبينت احتياج ذلك للصبر، وبينت أن العاقبة في الدنيا والآخرة لأهل الهداية والاتباع والصبر وبهذا انتهت السورة.

كلمة في سورة يونس

كلمة في سورة يونس: رأينا أن محور سورة يونس هو قوله تعالى من سورة البقرة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ورأينا كيف أن سورة يونس فصلت بأقسامها الثلاثة هذا المعنى، وجاءت الأوامر والنواهي لتقيم الإنسان من خلال الحجة والتطبيق على طريق اليقين والاتباع، ولا ننسى في هذا المقام أن نذكر أن أول آية في سورة يونس هي قوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وقد رأينا في سورة يونس مظهرا من مظاهر حكمة القرآن في معالجة قضية الشك في القرآن، وضرورة اتباعه، وكيف أن هذه المعالجة تمت بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر، وبالعودة إلى الأصول والإشارة إلى الفروع، وبالعودة إلى التاريخ والاستفادة من المعطيات الإيجابية عند أهل الكتاب وغير ذلك. ونستغفر الله من تفريط في الجهد أو خطأ في التوجيه.

سورة هود

سورة هود وهي السورة الحادية عشرة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الأولى من قسم المئين وآياتها مائة وثلاث وعشرون وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

ما ورد فيها

ما ورد فيها: - روى الحافظ أبو يعلى عن عكرمة قال: قال أبو بكر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شيبك؟ قال: «شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت». وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر يا رسول الله قد شبت. قال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها». وروى الطبراني عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، والحاقة، وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها». كلمة في سورة هود ومحورها: يلاحظ أن أول سورة هود هو: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .. حتى إذا وصلنا إلى الآيتين (25، 26) وجدناهما وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .. حتى إذا وصلنا إلى الآية (50) وجدناها: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ .. حتى إذا وصلنا إلى الآية (61) وجدناها: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ .. حتى إذا وصلنا إلى الآية (84) وجدناها: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ .. حتى إذا وصلنا إلى آخر آية وجدناها وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ .. وهكذا نجد البداية والنهاية، وما بين ذلك تشير إلى أن محور سورة هود هو الآية التي ما بعد مقدمة سورة البقرة وهي: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فكما أن سورة يونس كانت تفصيلا لأول آية في سورة البقرة. فإن سورة هود تفصيل لأول آية في سورة البقرة بعد مقدمتها. إنه لمن الواضح أن سورة هود تفصل في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ومن قبل فصلت سورة النساء في هذه الآية، ولكن تفصيل سورة النساء انصب على التقوى، وهاهنا ينصب تفصيل سورة هود على الأمر اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ومحله في دين الله وفي رسالات الرسل. كنا ذكرنا من قبل أن محاور المجموعة الواحدة في قسم المئين، وكذلك محاور قسم

نقول عن السورة

الطوال، أو محاور مجموعات الأقسام الأخرى من سورة البقرة ولو تباعدت في سورة البقرة، فإنها إذا وضعت بجانب بعضها فإنها تشكل كلا متكاملا. لاحظ أن سورة يونس من هذه المجموعة فصلت في أول آية من سورة البقرة، وأن سورة هود فصلت في الآية (21) منها، ولكنك لو وضعت الآيتين بجانب بعضهما فإنك تجد الصلة قائمة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. إن الصلة واضحة بين الآيتين، فبعد تقرير أن القرآن هدى للمتقين، يأتي نداء للناس جميعا أن يعبدوا الله وحده ليكونوا من المتقين، فإذا ما عرفنا أن سورة البقرة مدنية، وسورة هود- على القول الراجح- مكية كلها، أدركنا كم هي الأدلة كثيرة على أن هذا القرآن من عند الله. نقول عن السورة: قال الألوسي عن سورة هود: (مكية على المشهور واستثنى منها بعضهم ثلاث آيات فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ قال: إنها نزلت في المدينة). وقال صاحب الظلال عن السورة: (هذه السورة مكية بجملتها خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (12، 17، 114) فيها مدنية. ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجئ في موضعها من السياق، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء. فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة، وموقف مشركي قريش منها، وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقلة المسلمة معه، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار. وعن وجه مناسبة سورة هود لسورة يونس يقول الألوسي: (ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام: أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا مجملة، فشرحت في هذه السورة، وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور، ولا سورة الأعراف على طولها، ولا سورة إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً

التي أفردت لقصته، فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة، وبسطا له، ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك، فإن قوله تعالى هنا: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظير قوله سبحانه هناك: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا، حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي، وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك، وورد في فضلها ما ورد، فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله. والبيهقي في شعب الإيمان، وغيرهم عن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرءوا هود يوم الجمعة»). ومن تقديم صاحب الظلال لسورة هود ننقل هذه الفقرات: (لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس. ونزلت يونس بعد الإسراء. وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها؛ وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة، وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرءوا عليه في حياة أبي طالب). (وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها؛ وتجمدت حركة الدعوة حتى ما يكاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها .. وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية). أقول: ولذلك كان في السورة تسرية عنه عليه الصلاة والسلام. (ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب، والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ، من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين). (ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء، فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب، المتحدين للنذر في استهتار ... يرفع لهم صور أنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم. وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم، وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم، وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد). (ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة، وصور المكذبين فيها، ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله وما يجدونه يومئذ من خزي لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء).

(ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور، بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه ولا علمه المحيط، ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا، وهم- الذين يكذبون- في قبضته كسائر الخلائق، من حيث لا يشعرون). (ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام، على مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة، في صراحة وفي صرامة، وفي ثقة وطمأنينة ويقين). ولنبدأ عرض السورة.

المقدمة والمقطع الأول

المقدمة والمقطع الأول: وذلك حتى نهاية الآية (24) وهذان هما: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11): الآيات 1 الى 24] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)

التفسير

التفسير: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي هذا الكتاب قد نظمت آياته نظما رصينا محكما بعجيب النظم وبديع المعاني، فلا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم ثُمَّ فُصِّلَتْ أي بينت فيها الأحكام والقصص والمواعظ، فآيات القرآن محكمة من جهة لا يدخل عليها نقص ولا نقض ولا خلل، وهي في الوقت نفسه مفصلة مبينة واضحة وقد ذهب النسفي (أن كلمة فصلت تحتمل أنها جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية). و(ثم) في الأصل تفيد التراخي في الوقت، وهاهنا تفيد الجمع والتراخي في الحال، فليس التفصيل على حساب الإحكام، بل الإحكام أولا ثم التفصيل، مع أن التفصيل في غاية البيان، ومن مظاهر التفصيل ما رأيناه في هذا الكتاب، من كون كل قسم من القرآن يفصل نوع تفصيل لما أجمل في مكان آخر، وكل سورة تفصل ما أجمل في آية أو في مجموعة آيات، وهذا مظهر واحد من مظاهر التفصيل في القرآن، ومن مظاهر التفصيل البيان المفهوم لكل عربي على حسب طاقته، ووضوح المعاني ووصولها إلى القلب السليم، وكتاب يجمع مثل هذا الإحكام في النظم والمعاني، حتى إنه ليسع الزمان والمكان والإنسان، ولا ينقضه شئ في الزمان والمكان، مع هذا التفصيل والبيان لا يمكن أن يكون إلا من عند الله، ولذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى: مِنْ لَدُنْ

[سورة هود (11): آية 2]

حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي الله. فالله عزّ وجل الحكيم في أقواله وأفعاله، الخبير بعواقب الأمور هو منزل هذا القرآن، ومن ثم كان فيه مثل هذا الإحكام والتفصيل أَلَّا تَعْبُدُوا أى بأن لا أو لئلا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ ويمكن أن تكون (أن) في هذا المقام مفسرة للإحكام والتفصيل، لأن في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله. والمعنى: نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي من الله نَذِيرٌ بالعذاب إن خالفتموه وَبَشِيرٌ بالثواب إن أطعتم الله والضمير في (إنني) يعود إما إلى القرآن نفسه، أو إلى الرسول المنزل عليه هذا القرآن وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوف على أَلَّا تَعْبُدُوا أي أحكمت آياته ثم فصلت للعبادة والاستغفار، أي وأمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة، والتوبة منها إلى الله عزّ وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي استغفروه من الذنب ثم ارجعوا إليه بالطاعة يُمَتِّعْكُمْ في الدنيا مَتاعاً حَسَناً بطيب عيش وسعة رزق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الموت. والمعنى: إن عبدتم واستغفرتم ولازمتم الطاعة نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة إلى أن يتوفاكم وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الاعتقاد والعمل فَضْلَهُ أي جزاءه، أي ويعط في الآخرة كل من له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله، لا يبخس منه شيئا وَإِنْ تَوَلَّوْا أي وإن تتولوا أي تعرضوا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة، وهذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذب رسله، فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي معادكم ورجوعكم يوم القيامة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ثم كان قادرا على إعادتكم وإثابتكم وتعذيبكم. والمعنى: وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه وإعادة الخلائق يوم القيامة وهذا مقام ترهيب، كما أن الوعد السابق في إعطاء كل ذي فضل فضله مقام ترغيب. وقد لخصت هذه الآيات مقاصد القرآن بأنها العبادة والاستغفار، والتبشير والإنذار، وأن الإحكام والتفصيل في هذا القرآن إنما كان من أجل تحقيق هذه المقاصد، فإن يخدم هذا الإحكام وهذا التفصيل هذه المقاصد فهذا كذلك مظهر من مظاهر الإعجاز الذي لا يستطيعه بشر، وذلك يدلل على أن هذا القرآن من عند الله.

فوائد

فوائد: 1 - دلت هذه الآيات على أن المقصد الأول لهذا القرآن هو العبادة، وأن كل شئ فيه من أجل تحقيق هذا المقصد، وأن الاستغفار يلازم هذا المقصد، لأنه لا أحد يقوم بحق الله في العبادة حق القيام بتحقيق هذا القرآن في نفسه، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن كان يلازم الاستغفار ملازمة عجيبة. 2 - فهمنا من الآيات السابقة أن الإحكام والتفصيل في هذا القرآن من أجل تحقيق مقصد العبادة لله وحده، وأن الاستغفار والعبادة متلازمان، وأن هذه المعاني صيغت كلها بصيغة التبشير والإنذار، فإن يوجد كتاب في مثل هذا المستوى الأعظم في كل شئ في أرض العرب الذين تصوراتهم الوثنية فى أحط الدركات، فذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله. 3 - كثير من الناس تغيب عنهم القيم الحقيقية للأشياء، والمسلمون أنفسهم الذين أعطاهم الله الميزان الذي يعرفهم على القيم الحقيقية للأشياء هؤلاء المسلمون أنفسهم فقد الكثيرون منهم معرفة القيمة الحقيقية للأشياء، ومن هذه القيم التي شالت كفتها عندهم قيمة العبادة والاستغفار. 4 - تحقيقا لمقصد القرآن في الإنذار والتبشير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن كان بشيرا ونذيرا. وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالبشير والنذير، وذلك مقام من جملة مقاماته التي أعطاه الله عزّ وجل إياها، ولقد أعطى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من المقامات ما لا يتصوره بشر، ومن ذلك أنه قد أقامه مقامه في كثير من الآيات في الطاعة والبيعة، وفي مقام التبشير والإنذار كان المظهر الأعظم لهذا القرآن. 5 - نفهم من ما مر أن كل تشريع في القرآن، وكل نظام، وكل توجيه، وكل أدب، إنما هو من أجل تحقيق المقصد الأعظم للقرآن وهو العبادة وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56). 6 - إن على الوراث الكاملين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوموا بأقوالهم وأعمالهم بمهمة النذارة والتبشير كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وتقديم الإنذار في الآيات على التبشير دليل على أن الإنذار في حق الغافلين والكافرين مقدم على التبشير، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا

[سورة هود (11): آية 5]

فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال: «يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ألستم مصدقي؟» فقالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». ويقدم التبشير في حق المؤمنين كما كان حاله عليه الصلاة والسلام مع المؤمنين، وكمثال من الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك». 7 - قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول: هلك من غلب آحاده على أعشاره.» ابن جرير. 8 - بمناسبة الأمر بالاستغفار نذكر هذه الأحاديث الثلاثة: ا- عن أغر مزينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر في اليوم مائة مرة» رواه مسلم وأبو داود. ب- في حديث رواه مسلم وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «توبوا إلى ربكم، فوالله إني لأتوب إلى ربي مائة مرة في اليوم». ج- ذكر ابن عمر في حديث حسن أنه كان يعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد مائة مرة «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم». ولنعد إلى التفسير: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ أي يزورون عن الحق، وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشئ استقبله بصدره، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي ليطلبوا الخفاء من الله فلا يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ازورارهم أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يتغطون بها أي يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من القول وَما يُعْلِنُونَ فلا يغني استخفاؤهم، أي لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا

فائدة

وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب، وهكذا من خلال العرض لوضع بعض الناس عرفنا الله على ذاته، فبعد أن أمرنا الله بعبادته عرفنا على ذاته وصفاته جل جلاله، أما هذا الوضع الإنساني فهو إما وضع منحرف لمنافقين وإما وضع هو أثر عن تصور خاطئ لمسلمين- كما سنرى في الفائدة اللاحقة- وأيا كان فإن السياق من خلال عرضه لهذا الوضع عرفنا على الله عزّ وجل الذي جاء الأمر بعبادته في أول هذا المقطع. فائدة: من أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية: أن ناسا كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئا أو عملوه، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأخبرهم الله أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل يعلم ما يسرون وما يعلنون. قال مجاهد والحسن وعبد الله بن شداد: كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وغطى رأسه. وروى البخاري عن ابن عباس فيها قال: أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. فإذا كانت الآية في المسلمين فهي تصحيح لمفهوم مرتبط بالعبادة، فليست العبادة في الإسلام أن تخجل مما أباحه الله. وإن كانت في الكافرين والمنافقين فهي تصحيح لتصورهم عن الذات الإلهية، وأيا كان سبب النزول فالآية هي وما بعدها تعرفنا على الله الذي أمرنا بعبادته، إذ لا عبادة إلا بعد معرفة، وهكذا يستمر السياق في تعريفنا على الله. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ كل ما دب على الأرض فهو دابة إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها منة منه وتفضلا، لا وجوبا عليه تعالى، فهو مالك كل شئ، ويفعل ما يريد وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض، وأين مكانها من الأرض ومسكنها وَمُسْتَوْدَعَها أي حيث كانت مودعة قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة، أو حيث تموت كُلٌّ أي كل ذلك من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو اللوح المحفوظ، أي إن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله، مبين عن جميع ذلك وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تعليما للتأني وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل أن يخلق شيئا، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السموات والأرض، العرش علوي والماء سفلي،

[سورة هود (11): آية 8]

والملاحظ الآن علميا أن الفارق بين العناصر هو في عدد الكتروناتها وبروتوناتها، وأن الماء مؤلف من أكسجين وهيدروجين وأن ذرة الهيدروجين، مؤلفة من بروتون واحد، والكترون واحد، وهذا يعني أن ما سوى الهيدروجين من العناصر الأصل فيه الهيدروجين، ولا ندري ماذا يمكن أن يأتي به العلم البشري في المستقبل من احتمالات اكتشاف مزيد مما يلقي ضوءا يزيدنا إبصارا في فهم الآية، وفي فهم قضية الخلق لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي خلق السموات والأرض وما فيهما من منافع ومصالح، ليختبركم أيكم أطوع لله وأكثر شكرا، ولم يخلق ذلك عبثا، فلم تخلق هذه الأشياء إلا للامتحان، فمن كان أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله، أثابه الله، ومن كفر وعصى عاقبه، ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: لِيَبْلُوَكُمْ أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون، وهو جل جلاله أعلم بما نحن عاملون، وقال: أَحْسَنُ عَمَلًا ولم يقل أكثر عملا لأن العبرة بحسن العمل، ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عزّ وجل، وعلى شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين حبط وبطل وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ أي ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء الكافرين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم وذلك مقتضى الحكمة في خلق السموات والأرض للابتلاء، فالبعث شئ بديهي لمن أدرك هذه الحقيقة لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي بين واضح، أي ما هذا القرآن إلا سحر واضح، ووصف القرآن بالسحر إشارة إلى أنه لم يحو إلا التمويه والباطل الذي يجانف الحق، وإذ وصفوا القرآن بالسحر فقد أبطلوا كل ما فيه، ومن ذلك موضوع الإيمان باليوم الآخر، مع أن تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم باليوم الآخر نفي للحكمة من خلق السموات والأرض أصلا، ثم بين الله عزّ وجل أن الكافر لا تزيده النعم والإمهال إلا عتوا وتمردا وكفرا وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ أي أوقات مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ استهزاء ما يَحْبِسُهُ أي ما يمنعه من النزول. والمعنى: لئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء الكافرين إلى أجل معدود، وأمر محصور، وأوعدناهم إلى مدة مضروبة، ليقولن تكذيبا واستهزاء ما يؤخره عنا؟ أي يقولون للمؤمنين: إن ما تقولونه غير صحيح أصلا، ولو كان صحيحا لعذبنا. والجواب أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ أي العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي ليس مدفوعا عنهم وَحاقَ بِهِمْ أي نزل وأحاط ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، دل هذا على أن قولهم: ما يحبسه كان استهزاء، ثم أخبرنا الله عزّ وجل عن

[سورة هود (11): آية 10]

الطبيعة البشرية في تلقيها الشدة والرخاء وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي نعمة: من صحة، وأمن، وجاه، وغنى ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي ثم سلبناه تلك النعمة إِنَّهُ لَيَؤُسٌ أي قنوط شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، بل يصبح قاطعا للرجاء كَفُورٌ أي عظيم الكفران لنعم الله، ولما سلف له من التقلب فيها نساء له وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي ولئن أصبناه بالنعمة بعد المصيبة التي نزلت به لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب، ولم يشكر ولم يتذكر، وكان لا يتوقع زوالها أصلا، ولسان حاله يقول: ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي أشر بطر فَخُورٌ على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، فهو فرح بحاله الجديد، فخور على غيره، وشغله الفرح والفخر عن الشكر، هذه طبيعة الإنسان، إلا من كان متصفا بالصبر والعمل الصالح، فإنه لا يكون كذلك إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في المحنة والبلاء على كل ضراء وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في أحوالهم كلها، في السراء والضراء، فهؤلاء ليسوا في المحنة يئوسين كفورين وليسوا بعد زوالها فخورين بطرين، ومن ثم فقد استحقوا من الله العطاء أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ هو الجنة. وهكذا عرفنا السياق على الله، وعلى الحكمة من خلق السموات والأرض، وأن القيام بحق الله والعبادة له هو التحقيق لهذه الحكمة، وأن إنكار اليوم الآخر كفران بهذه الحكمة، وأن الكافرين بالله واليوم الآخر تستجرهم النعم إلى الكفران، مع أنهم في المحن على غاية من الهلع والجزع، على عكس أهل الإيمان، ومن السياق نفهم أن من العبادة الصبر على المحنة، وترك اليأس، والقنوط، وملازمة العمل الصالح في كل حال. فوائد: 1 - عند قوله تعالى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قال صاحب الظلال: (والجديد هنا في خلق السماوات والأرض هو الجملة المعترضة: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وما تفيده من أنه عند خلق السماوات والأرض أي إبرازهما إلى الوجود في شكلهما الذي انتهيا إليه كان هناك الماء، وكان عرش الله سبحانه على الماء. أما كيف كان هذا الماء. وأين كان، في أية حالة من حالاته كان. وأما كيف كان عرش الله على هذا الماء .. فزيادات لم يتعرض لها النص، وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئا على مدلول النص، في هذا الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إلا هذا النص وفي حدوده).

ولنعد إلى التفسير

2 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ قال ابن كثير: (والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة: فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ وقوله في سورة يوسف وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، وتستعمل في الإمام المقتدى به كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (النحل: 120)، وتستعمل في الملة والدين كقوله إخبارا عن المشركين إنهم قالوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (الزخرف: 23)، وتستعمل في الجماعة كقوله وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ (القصص: 23) وقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل: 36) وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (يونس: 47)، والمراد من الأمة هاهنا الذين يبعث فيهم الرسول، مؤمنهم وكافرهم، كما في صحيح مسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ولا يؤمن بي، إلا دخل النار». وأما أمة الاتباع فهم المصدقون للرسل كما قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (الأعراف: 159) وكقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ الآية (آل عمران: 113). 3 - وبمناسبة قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ نذكر هذين الحديثين: أ- «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم، ولا نصب ولا وصب، ولا حزن حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه». ب- وفي الصحيحين: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وأن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن». ولنعد إلى التفسير: بعد أن بين الله عزّ وجل لنا في هذا المقطع أن هذا القرآن أنزل من أجل أن يعبد الله، وبعد أن عرفنا الله على ذاته، وبين لنا حكمة خلق السموات والأرض، وموقف أهل الكفر والإيمان في الشدة والرخاء، وقد عرفنا محل ذلك في السياق، يخاطب

[سورة هود (11): آية 13]

رسوله صلى الله عليه وسلم ليثبته على التمسك بالقرآن، فلا تثنيه مواقف الكافرين عن أخذ القرآن جميعه، لأن أي إخلال في تطبيق القرآن كله إخلال بعبادة الله، وإخلال في تحقيق الحكمة من خلق السموات والأرض، ونزول عن الخلق الأعلى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ بأن تترك أن تلقيه إليهم وتبلغهم إياه أو تترك العمل به وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فتتحرج أن تتلوه عليهم وتدعوهم إليه مخافة أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أي هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ معنى كلامهم: هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز لننفقه، والملائكة لنصدقه، ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، وهذا يفيد أنهم كانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به، فهيج الله رسوله صلى الله عليه وسلم لأداء الرسالة، وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم، وفي ذلك درس لكل تارك لكتاب الله، أو لشئ منه؛ مخافة من أقوال الناس إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك إن ردوا وتهاونوا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي حفيظ فيجازيهم بحفظ ما يقولون، وهو فاعل ما شاءه بهم من جزاء، فتوكل عليه وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح، وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم، ولا مبال بسفههم واستهزائهم، وبعد أن بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يهيجه على عدم الالتفات لاقتراحاتهم، فند دعواهم، بأن يكون هذا القرآن مفترى من عند محمد عليه الصلاة والسلام- بأبي هو وأمي- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون اختلق هذا القرآن، ونسبه إلى الله كذبا قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ تحداهم أولا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المتحدي في الخط لصاحبه مثلا: أكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن ذلك قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد مِثْلِهِ في الحسن والجزالة واللفظ والأسلوب والفصاحة والبلاغة والمعنى مُفْتَرَياتٍ لما قالوا افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، أرخى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي، فأتوا أنتم أيضا بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم؛ فأنتم عرب فصحاء مثلي وَادْعُوا للمعاونة على ذلك مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه مفترى. وهكذا أقام الله عليهم الحجة بإعجاز هذا القرآن. وهي حجة قائمة متحدى بها إلى يوم القيامة، فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولا بعشر سور مثله، ولا بسورة مثله؛ قال ابن كثير: لأن كلام الرب لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شئ، تعالى وتقدس

[سورة هود (11): آية 14]

وتنزه لا إله إلا هو ولا رب سواه فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا أي من دعوتموه للمعاونة والمعارضة لَكُمْ فَاعْلَمُوا أيها الكافرون أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي أنزل ملبسا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز، ومعان لا يمكن أن تكون إلا من عند الله وَأَنْ أي واعلموا أنه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بعد هذه الحجة القاطعة، أي أسلموا، دل على أن التسليم بإعجاز القرآن يقتضي شيئين: توحيد الله، والإسلام له، فإذا رأيت من يسلم بالإعجاز ولا يوحد، ولا يسلم الإسلام الخالص، فإنه كذاب، وهكذا عرفنا من السياق أن الإيمان بالقرآن يقتضي توحيدا وإسلاما، وهذه هي العبادة: معرفة بالله وصفاته، واستسلام وطاعة له في أمره، ويمكن أن نفهم الآية الأخيرة على أنها خطاب للمسلمين فيكون المعنى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أيها المسلمون فيما تحديتموهم به، فأثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقينا على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد، ويكون معنى فهل أنتم مسلمون: فهل أنتم مخلصون خالصون لله، أي أسلموا لله ظاهرا وباطنا بالإخلاص والعمل. وإذ كان المانع من اتباع القرآن، ومن عبادة الله، والإنابة إليه، والإسلام له، والرغبة في الآخرة، هي الدنيا، فإن الله عزّ وجل بعد أن ذكر ما ذكر قال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة فِيها أي في الدنيا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون شيئا أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ أي وبطل ما صَنَعُوا فِيها أي وبطل ما صنعوه أو صنيعهم في الآخرة، أي لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يريدوا وجه الله والدار الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفى إليهم ما أرادوا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي كان عملهم في نفسه باطلا؛ لأنه لم يعمل لغرض صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له، والآيتان عامتان في كل من أراد بعمله الدنيا، سواء كان كافرا أو مسلما، حتى حملها بعضهم على المسلمين المرائين فقط، والصواب أنها عامة، ومما قيل في الآية: (قال العوفي عن ابن عباس: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا، يقول: من عمل صالحا لالتماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا. يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين، وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد. وقال أنس بن مالك والحسن: نزلت في اليهود والنصارى. وقال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة: من

[سورة هود (11): آية 17]

كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ والمعنى: أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، أي لا يستوون معهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يعني: أن بين الفريقين تباينا بينا، ومعنى قوله تعالى: عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام حق، وهو دليل العقل وأصل الفطرة وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أي وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المنظمة المختتمة بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، التي جاء بها القرآن المعجز. ويمكن أن يكون المعنى: أفمن كان على برهان من ربه- وهو دليل العقل- ويتلوه شاهد يشهد بصحته وهو القرآن من الله وَمِنْ قَبْلِهِ أي ومن قبل القرآن كِتابُ مُوسى وهو التوراة أي ويتلو ذلك البرهان أيضا من قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام إِماماً أي كتابا مؤتما به في الدين وقدوة فيه وَرَحْمَةً ونعمة عظيمة على المنزل عليهم أُولئِكَ أي من كان على بينة من ربهم يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن فلهم الجنة وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن مِنَ الْأَحْزابِ أي من الملل كلها فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي مصيره ومورده فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْهُ أي من القرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ مع قيام الحجة ووضوح البرهان، وهكذا عرفنا أن هذا الدين يشهد له العقل، ويشهد له إعجاز القرآن، ويشهد له الوحي السابق، ودين هذا شأنه لا يترك الإيمان به إلا متكبر جائر. فوائد: 1 - عند قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال صاحب الظلال: (ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس، فما التحدي بعد ذلك بعشر سور؟ قال المفسرون القدامى: إن التحدي كان على الترتيب: بالقرآن كله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة. ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل. بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور. وحقيقة إن ترتيب الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور.

فقد كانت تنزل الآية فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول. إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبته. وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز. ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد (عشر سور) علة، فأجهد نفسه طويلا- رحمة الله عليه- ليقول: إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني، وأنه بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشرا. فتحداهم بعشر .. لأن تحديهم بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظرا لتفرق القصص وتعدد أساليبه، واحتياج المتحدى إلى عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكي .. الخ. ونحسب- والله أعلم- أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد. وأن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول، لأن القرآن كان يواجه حالات واقعة محددة مواجهة واقعة محددة. فيقول مرة: ائتوا بمثل هذا القرآن. أو ائتوا بسورة. أو بعشر سور. دون ترتيب زمني. لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شئ من هذا القرآن كله أو بعضه، أو سورة منه على السواء. فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره. والعجز كان عن النوع لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب، إنما هو مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن. ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن). وقال الألوسي عند قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ .. : هذا ونقل أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم، إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا. 2 - وعند قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ .. قال صاحب الظلال:

(إن للجهد في هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يريد- في أجل محدود- ولكن ليس له في الآخرة إلا النار، لأنه لم يقدم للآخرة شيئا، ولم يحسب لها حسابا. فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا. ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط (من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض) وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك. ونحن نشهد في هذه الأرض أفرادا اليوم وشعوبا وأمما تعمل لهذه الدنيا. وتنال جزاءها فيها. ولدنياها زينة، ولدنياها انتفاخ. فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل: لماذا؟ لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه- ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع- فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئا، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى. إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره. بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيبا والمتاع به طيبا، ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الأخرى فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون). 3 - عند قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً قال صاحب الظلال: (ويكون المعنى الكلي للآية: أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه .. حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه. وحيث يتبعه- أو يتبع يقينه هذا- شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني. وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله. هو كتاب موسى الذي جاء إماما

لقيادة بني إسرائيل، ورحمة من الله تنزلت عليهم. وهو يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تضمنه من التبشير به، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله. يقول: أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين؟! إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات). وقال الألوسي عند الآية نفسها: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا، واقتصر عليه بعضهم بناء على أنه مناسب لما بعد، وأصل- البينة كما قيل-: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم، أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك، أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه (ويتلوه) أي يتبعه (شاهد) عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو- كما قال الحسين بن الفضل- الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعا له: أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا). من هذين النقلين ندرك أن للمفسرين أكثر من اتجاه في الآية، والذي نرجحه أن البينة هي القرآن، والشاهد هو الفطرة والقلب والعقل، وعلى هذا الاتجاه فقد دلت الآية على أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، وأما التفصيلات فإنها تؤخذ من الشريعة والفطرة تصدقها وتؤمن بها، وهناك أكثر من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبيان أن الأصل في الإنسان سلامة الفطرة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» الحديث. وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا». وفي المسند والسنن: «كل مولود يولد على هذه الملة حتى يعرب عنه لسانه» الحديث. وقد ذكرنا أثناء

[سورة هود (11): آية 18]

التفسير أن البينة العقل والشاهد القرآن لأنه هو الذي عليه عامة المفسرين. ورجحنا هنا ما ينشرح له الصدر وهو ما ذكره الألوسي أن البينة هي القرآن فأوصلنا هذا إلى قناعة، أن الشاهد الذي يتبع القرآن من المسلم أو من الله هو العقل والفطرة. 4 - روى أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه، أو قال: تصديقه بالقرآن، فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار»، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ قال: وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن، حتى وجدت هذه الآية. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ. ولنعد إلى التفسير: وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبته الشريك والولد له أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ أي يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أي ويشهد عليهم الأشهاد من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولدا وشريكا أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي الكاذبين على ربهم الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصرفون الناس عن دينه وَيَبْغُونَها أي يطلبون السبيل عِوَجاً أي معوجا، أو يصفون الطريق بالاعوجاج وهي مستقيمة، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ كررت (هم) لتأكيد كفرهم بالآخرة، واختصاصهم به، وفي الآية تعريف للظالمين بأنهم الذين يردون الناس عن اتباع الحق، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عزّ وجل، ويجنبونهم الجنة، ويريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة، ويجحدون بالآخرة، ويكذبون فيها أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا أي ما كانوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بمعجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، بل هم تحت قهره وغلبته، وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره مِنْ أَوْلِياءَ أي أنصار يمنعونهم من عذابه، أي لا أحد يتولاهم فينصرهم منه، ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى ذلك اليوم. وفي الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» يُضاعَفُ لَهُمُ

[سورة هود (11): آية 21]

الْعَذابُ لأنهم أضلوا الناس عن دين الله ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ للحق من فرط حقدهم وحسدهم وكبرهم وَما كانُوا يُبْصِرُونَ الحق، وهكذا اجتمع لهم الصمم عن الحق، والعمى عنه، فلفرط كراهيتهم للحق أصبحوا كأنهم عاجزون عن السماع والرؤية أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأنهم أدخلوا نارا حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وغاب عنهم وذهب ما كانُوا يَفْتَرُونَ من زخرف قول، وباطل في العقائد وغيرها لا جَرَمَ أي حقا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أخبر تعالى بهذه الآية عن مآلهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة، لأنهم استبدلوا الدركات عن الدرجات، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المحتوم بسموم وحميم وظل من يحموم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن ورؤيته بغضب الديان وعقوبته، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. وبعد أن بين الله عزّ وجل حال الكافرين ختم المقطع ببيان حال المؤمنين والموازنة بينهم وبين الكافرين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع، فاجتمع لهم الإيمان والعمل الصالح والخشوع وهذه بمجموعها عبادة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وهكذا بعد أن ذكر الأشقياء، ثنى بذكر السعداء: وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فآمنت قلوبهم، وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا، من الإيمان بالطاعات، وترك المنكرات، وبهذا ورثوا الجنات المشتملة على الغرف العاليات، والسرر المصفوفات، والقطوف الدانيات، والفرش المرتفعات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والمآكل المشتهيات، والمشارب المستلذات، والنظر إلى خالق الأرض والسموات. وهم في ذلك خالدون لا يموتون، ولا يهرمون ولا يمرضون، ولا ينامون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتمخطون، إن هو إلا رشح مسك يعرقون. ثم ضرب الله تعالى مثلا للكافرين والمؤمنين فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ أي الذين وصفهم أولا بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وشبه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والآخرة، لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجج؛ فلا يسمع ما ينتفع به، وأما المؤمن ففطن ذكي، لبيب، بصير بالحق، يميز بينه وبين الباطل، فيتبع

فوائد

الخير، ويترك الشر، سميع للحجة، يفرق بينها وبين الشبهة، فلا يروج عليه باطل، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا فهل يستوي هذا وهذا؟! أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أفلا تتعظون وتعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، وتكونون من أهل الإيمان. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ذكر ابن كثير الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن صفوان بن محرز قال: «كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعته يقول: «إن الله عزّ وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون: فيقول الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. 2 - ذكر الله عزّ وجل في أوائل هذه السورة قوله وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وقد ذكرنا أثناء مرورنا على هذه الآية أن أول الخلق كان العرش والماء، ثم كان خلق السموات والأرض، وهاهنا نروي أحاديث في المعنى نفسه: روى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قالوا: قد قبلنا، فأخبرنا عن أول الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله قبل كل شئ، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شئ» قال: فأتاني آت فقال: يا عمران انحلت ناقتك من عقالها، قال: فخرجت في أثرها، فلا أدري ما كان بعدي. وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة، فمنها: قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال: «كان الله ولم يكن شئ قبله- وفي رواية غيره- وفي رواية معه- وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شئ، ثم خلق السموات والأرض». وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق

كلمة في السياق

السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» وروى البخاري في تفسير هذه الآية .. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجل: أنفق أنفق عليك». وقال: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار» وقال: «أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع». وروى الإمام أحمد عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: «كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق العرش بعد ذلك». وقد رواه الترمذي في التفسير، وابن ماجه في السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وقال مجاهد: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل أن يخلق شيئا، كذا قال وهب بن منبه وضمرة وقتادة وابن جرير وغير واحد. وقال قتادة في قوله وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض، أقول: (ما) في قوله (ما فوقه هواء وما تحته هواء) نافية أي ليس معه شئ. كلمة في السياق: 1 - قلنا: إن محور سورة هود عليه السلام هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وقد رأينا أن هذا المقطع بدأ بتقرير أن هذا القرآن أحكم وفصل من أجل عبادة الله واستغفاره، وسيأتي الآن مقطع ثان فيه ثلاث قصص لأنبياء دعوا قومهم إلى عبادة الله هم: نوح، وهود، وصالح. 2 - لقد فصل المقطع الذي مر معنا في كثير من مضامين العبادة ومظاهرها، كما بين لنا الكثير مما تقتضيه العبادة لله في العسر واليسر وفي كل حال. 3 - وصف القرآن الذي أنزل داعيا إلى العبادة والاستغفار بأنه نذير وبشير، وقد رأينا في المقطع نماذج على نذارته وبشارته، وسنرى في المقطع الثاني إنذارات وبشارات من خلال عرضه لقصص الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم، وما آل إليه أمر المرسلين وأمر المكذبين. 4 - ومن خلال ما مر وسيمر تتعمق قضية العبادة والاستغفار.

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (25) إلى نهاية الآية (68) وهذا هو: المجموعة الأولى [سورة هود (11): الآيات 25 الى 49] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية [سورة هود (11): الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة [سورة هود (11): الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

تفسير المجموعة الأولى

تفسير المجموعة الأولى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي أي بأني لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي بين الإنذار أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي: إني لكم ظاهر النذارة من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي مؤلم موجع في الدنيا والآخرة إن استمررتم على ما أنتم عليه، وقد وصف اليوم نفسه بأنه أليم لوقوع الألم فيه فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ الملأ: هم الأشراف، لأنهم في موازين الناس يملئون القلوب هيبة، والمجالس أبهة، أو لأن الناس يعتبرونهم ملئوا بالأحلام والآراء الصائبة ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي لست بملك ولا ملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من دوننا، ولست بذي فضل علينا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا وأسافلنا بادِيَ الرَّأْيِ أي وقت حدوث أول رأيهم، أرادوا أن اتباعهم لك شئ عن لهم بديهة من غير روية ونظر، ولو تفكروا ما اتبعوك. قال النسفي: (وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية لأنهم (أي الكافرين) كانوا جهالا، ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فكان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدا من الله. وإنما يبعده» أقول: هذا إذا لم يرافقه إيمان وإحسان. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق، ولا رزق ولا حال، لما دخلتم في دينكم هذا، ومن قبل ليس لكم فضيلة في مال ولا رأي بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ في دعوى الرسالة، أي نوحا في الدعوة، ومتبعيه في الإجابة، والتصديق يعنى تواطأتم على الدعوة والإجابة تسبيبا للرئاسة، وهكذا نجد أن ما قاله قوم نوح هو لسان حال الكافرين في كل عصر، أن يتهموا أهل الإيمان بالرذالة، وضحالة الرأي، وانعدام الميزات، والكذب في دعوى حمل الإسلام. وهكذا بآية واحدة جمع الله عزّ وجل كل ما قاله قوم

فائدة

نوح لنوح والمؤمنين في رد دعوتهم، وهو رد سفيه جاهل. فائدة: قال ابن كثير في التعقيب على رد الكافرين المذكور آنفا: (هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل، ولو كانوا أغنياء، ثم الواقع غالبا إنما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (الزخرف: 23) ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان- صخر بن حرب- عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل، وقولهم (بادي الرأي) ليس بمذمة ولا عيب، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق- والحالة هذه- لكل ذي زكاء وذكاء، بل لا يفكر هاهنا إلا غبي أو عيي، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح، وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم» أي ما تردد ولا تروى لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا فبادر إليه وسارع، وقولهم: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق، لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون. وفي الآخرة هم الأخسرون). قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على برهان وشاهد منه يشهد بصحة دعواي، أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم، إذ جاءهم بما يحقق حكمة وجودهم وخلقهم وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة التي هي أعظم مظهر من مظاهر رحمة الله بخلقه، وأي رحمة أعظم من رحمة نتعرف بها على الله ورسالاته فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي أخفيت البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في الصحراء فبقوا بغير دلالة، وهؤلاء لم يهتدوا إليها، ولا عرفوا قدرها، بل بادروا إلى تكذيبها وردها أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنغصبكم

[سورة هود (11): آية 29]

بقبول هذه الرحمة وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي لا تريدونها وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة مالًا أي أجرة يثقل عليكم إن أديتموه إلي، أو يثقل علي إن أبيتم دفعه، وإنما أنا مبلغ عن الله، ومبتغ بذلك وجهه إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فإنه المأمول منه عزّ وجل، وكأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاما وأنفة من المجالسة معهم، ونفاسة منهم أن يكونوا كهؤلاء، ولذلك قال: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيشكونني إليه إن طردتهم، وهو مجازيهم إن كانوا مقصرين وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي تتسافهون على المؤمنين، وتدعونهم أراذل، أو تجهلون لقاء ربكم، أو تجهلون أن المؤمنين خير منكم وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من يمنعني من انتقامه إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أفلا تتعظون وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فأدعي فضلا بذلك وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي تحتقرهم وتعيبهم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيرا في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، مساعدة لكم ونزولا على هواكم اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من صدق الاعتقاد، وإنما علي قبول ظاهر إقرارهم؛ إذ لا أطلع على خفي أسرارهم إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن قلت شيئا من ذلك، وهكذا رد عليهم ما قالوه. هذا الرد البليغ الحازم الجازم اللطيف اللين- في الوقت نفسه- فلم تبق كلمة لهم إلا رد عليها، ولا زعما إلا دحضه، وبين موقفه الرباني الذي لا يتزحزح عنه، وعلمنا من جملة ما علمنا ألا نبيع المؤمنين بالمتكبرين، وألا يكون هذا محل مساومة مهما كان وضع المؤمنين، ومهما ادعي أن فيهم ما فيهم، وهذا درس عظيم للدعاة، فقد لا يستجيب لشأنهم إلا أقل الناس في مقاييس الناس، فهؤلاء ينبغي أن يكونوا عند الداعية أغلى الناس، وألا يميل عنهم إلى غيرهم. ولنعد إلى السياق: فبعد أن قامت عليهم الحجة اتخذوا الموقف الذي يتخذه كل مبطل، وهو رفض الحق والإعراض عن أهله قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا أي حاججتنا فأكثرت من ذلك فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ أي ليس الإتيان بالعذاب إلي، وإنما هو إلى

[سورة هود (11): آية 34]

من كفرتم به، فهو الذي يتولى عقابكم وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي فلا تقدرون على الهروب منه فإنه لا يعجزه شئ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي يضلكم والتقدير: إن كان الله يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، أي لا شئ يجدي معكم بإبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي، إذا كان الله مريدا إغواءكم ودماركم؛ بسبب من ظلمكم وكبركم هُوَ رَبُّكُمْ فيتصرف فيكم؛ لأنه مالك أزمة الأمور، المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم فهو المبدئ المعيد، مالك الدنيا والآخرة، وهكذا تقابل الحجة بالحجة. والموقف يقابل بموقف، والحسم يقابل بحسم. فإذا وصلت قصة نوح إلى هذا تأتي الآن آية معترضة تتحدث عن قوم محمد صلى الله عليه وسلم، وكلامهم والجواب عليهم بما يناسب السياق، ومجئ هذه الآية هنا مذكر بأن القصة هنا هادفة، في التوجيه والإرشاد، ولفت النظر والتمثيل، بما يناسب الدعوة الجديدة، وبما يخدم سياق السورة بشكل عام. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون: اختلقه، أي بل يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي إن صح أني افتريته فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي وأنا برئ من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، أي ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه. قال ابن كثير في هذه الآية: (هذا كلام معترض في وسط القصة مؤكد لها ... ) أقول: قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية ليست معترضة بل هي جزء من الحوار بين نوح عليه السلام وقومه، والمقام محتمل. ثم يعود السياق. فبعد أن تبينت المواقف قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ هذا تقنيط من الله لنوح عليه السلام من إيمانهم، وأنه غير متوقع فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي فلا تحزن عليهم، ولا يهمنك أمرهم، وأصل المعنى: فلا تحزن حزن بائس مستكين بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك، فقد حان وقت الانتقام من أعدائك وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أي السفينة بِأَعْيُنِنا قال ابن كثير: (بمرأى منا) أقول: في ذلك تطمين له من أن يزيغ في صنعته عن الصواب وَوَحْيِنا أي وإنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع، أي وتعليمنا لك ما تصنعه وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تدعني في شأن قومك، واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إِنَّهُمْ

[سورة هود (11): آية 38]

مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالإغراق، وقد قضي به وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، وقام نوح بالأمر وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أي من عمله السفينة فكانوا يهزءون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ عند رؤية الهلاك، وهو محقق عندنا من الآن كَما تَسْخَرُونَ منا عند رؤية الفلك فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يهينه في الدنيا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم مستمر أبدا فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وهو الغرق، والمراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة. ثم قص الله علينا كيف جاء العذاب حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ للمفسرين هنا أقوال فبعضهم قال: المراد بالتنور الإشعار باشتداد الأمر وصعوبته ففي الكلام كناية، وبعضهم قال: المراد به تنور خبز بعينه، وبعضهم قال: المراد به وجه الأرض، والظاهر أنها علامة لنوح من الله، فإذا كان الأمر كذلك فهو تنور بعينه قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي من كل صنف زوجين وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر بتقديره وإرادته، جل خالق العباد عن أن يقع في الكون خلاف ما أراد وَمَنْ آمَنَ أي واحمل مع المؤمنين من أهلك من آمن من غيرهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما، كما سنرى في سورة (العنكبوت)، وليس هناك من رواية عن رسولنا عليه الصلاة والسلام في تحديد عدد من ركب في السفينة، وسنذكر في الفوائد شيئا له علاقة في هذا الموضوع وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لمن آمن منهم رَحِيمٌ حين خلصهم وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم الله، والسفينة تجري، وهم فيها، وموج الطوفان كأنه الجبال. والموج: هو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه بسبب الرياح الشديدة، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي عن أبيه وعن السفينة، أو في معزل عن دينه يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة، أي أسلم واركب ولذلك قال: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فتغرق وتدخل النار قالَ سَآوِي أي سآتي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي يمنعني من الغرق قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

[سورة هود (11): آية 44]

أي من الطوفان والغرق إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي إلا من رحمه الله، اعتقد- بجهله- أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق فقال له أبوه ما معناه إنه لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة، أو لا يعصمك اليوم إلا الله لأن من رحمه الله وحده فهو المعصوم وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بين ابنه والجبل أو بين نوح وابنه فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ أي فصار من المغرقين، وهكذا كانت نهاية الكافرين والظالمين، وتأتي الآن قصة نهاية الطوفان وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أي انشقي ماءك وتشربي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي وَغِيضَ الْماءُ أي شرع في النقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي وأنجز ما وعد الله نوحا من إهلاك قومه وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أي واستقرت السفينة على المسمى بالجودي وَقِيلَ بُعْداً أي سحقا، والمراد البعد البعيد من حيث الهلاك والموت، ولذلك تخص هذه الكلمة بدعاء السوء لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قوم نوح الذين غرقوا، ويسأل نوح ربه مستعلما وكاشفا عن حال ولده الذي غرق وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أي وقد وعدتني بنجاة أهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الذي لا يخلف فكيف غرق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أي أعلم الحكام وأعدلهم قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ولهذا قال: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحا عليه السلام إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ هذا تعليل لانتفاء كونه من أهله، وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأن نسيبك في دينك- وإن كان حبشيا وكنت قرشيا- لصيقك، ومن لم يكن على دينك وإن كان أمس أقاربك رحما فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملا غير صالح للإشعار بمبالغته في السوء فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ أي بجواز مسألته عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فتسأل ما لا يجوز لك أن تسأله قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي استجيرك من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدبا بأدبك، واتعاظا بموعظتك وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني وَتَرْحَمْنِي بالعصمة عن العود إلى مثله أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والآخرة قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا أي بتحية منا أو سلامة من الغرق وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ البركات: هى الخيرات النامية، وهي في حقه بكثرة ذريته وأتباعه. قال

[سورة هود (11): آية 49]

النسفي: فقد جعل أكثر الأنبياء من ذريته وأئمة الدين في القرون الباقية من نسله وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ المراد إما الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا معه جماعات، أو سموا أمما لأن الأمم تتشعب منهم، أو المراد وعلى أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش، والتقدير: وممن معك أمم سنمتعهم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة. والمعنى: أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون معك، ومن ذرية من معك أمم ممتعون بالدنيا، منقلبون إلى النار. ثم عقب الله عزّ وجل على قصة نوح مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم لتأخذ القصة مكانها في السياق، ولتؤدي دورها في التمثيل على بعض المعاني الموجودة في المقطع الأول تِلْكَ أي قصة نوح مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل هذا الوقت، أو من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها فَاصْبِرْ على تبليغ الرسالة، وأذى قومك، كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما كان لنوح ولقومه إِنَّ الْعاقِبَةَ في الفوز والنصر والغلبة لِلْمُتَّقِينَ الذين عبدوا الله حق العبادة وأطاعوه حق الطاعة. قال ابن كثير في هذه الآية: يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: هذه القصة وأشباهها مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يعني من أنباء الغيوب السالفة، نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها، نُوحِيها إِلَيْكَ أي نعلمك بها وحيا منا إليك ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها، حتى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك، وأذاهم لك، فإننا سننصرك، ونحوطك بعنايتنا، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين، حيث نصرناهم على أعدائهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية (غافر: 51)، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ الآية (الصفات: 171، 172)، وقال تعالى فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. قال صاحب الظلال في هذه الآية: (فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآنى في هذه السورة: حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه

فوائد

النبي، وما كان معلوما لقومه، ولا متداولا في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير. وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير. وحقيقة تكرار الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل. وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ. وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* فهم الناجون وهم المستخلفون. وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد، وبين جيل وجيل. إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد ورب واحد، يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك). فوائد: 1 - بسبب من الصراع العنيف بين الكنيسة والفكر العلماني عند الغربيين، فقد تتبع الكثيرون من الغربيين ما له علاقة بقصة نوح عليه السلام، وكتبوا في ذلك الكتب الكثيرة، وقد وجد المتتبعون لحفريات ما بين النهرين الكثير مما له علاقة بقصة نوح، كانت بمثابة رد على الفكر الإلحادي الذي غلب عليه الإنكار. وقد تبين من خلال الحفريات، أن قصة الطوفان كانت مشتهرة على مدى العصور القديمة عند أهل المنطقة، ولعل من أبرز الآثار التي أشارت إليها ما اشتهر باسم ملحمة (جلجاميش) هذه الملحمة الأسطورية التي كتبت- فيما يبدو- بعد الطوفان بقرون كثيرة، وفيها كلام واضح عن الطوفان، وعن نوح عليه السلام، وهذه الملحمة واحدة من أثار كثيرة عثر عليها، تشير إلى الطوفان وإلى نوح عليه السلام. 2 - وقف الكثيرون من أئمة البلاغة عند قوله تعالى وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي .. ومما قاله الألوسي فيها: (هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستذلت مصاقع العرب، فسفعت بنواصيها، وجمعت

من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكان من سمهري البلاغة مكان السنان.). (وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصف الواصفون، ولا بأس بذكر شئ مما ذكر، إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية. ومن جهة الفصاحة اللفظية). «وقد ألف شيخنا علاء الدين- أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين- رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له، ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية). أقول: وإن في الآية لمزيدا، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز وسننقل فيما بعد ما قاله النسفي في الآية. 3 - ما هو الجودي الذي ورد ذكره في القرآن؟ قال مجاهد: هو جبل في الجزيرة. وقال قتادة: قد أبقى الله سفينة نوح عليه السلام على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رمادا «ويذكر سفر التكوين أنه جبل أرارات» وقد استطاعت الأقمار الصناعية- ومن قبل ذلك أحد الذين تتبعوا هذا الأمر- أن يحددوا مكان بقاياها التي لا زالت موجودة حتى الآن، معجزة دائمة على الدهر، وهي فى المنطقة السوفياتية من أرمينيا حاليا، هكذا نقلت إذاعة إسرائيل في إحدى نشراتها والله أعلم. 4 - من قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها نفهم سنة الأنبياء جميعا في البداءة بالتسمية، ولذا تستحب التسمية في شريعتنا في ابتداء الأمور. 5 - روى أبو القاسم الطبراني بسنده إلى ابن عباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك» وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. 6 - يذكر ابن كثير عن قصة نوح هنا كلاما كثيرا منقولا أكثره عن الإسرائيليات، والإسرائيليات في هذا المقام لا تروي ظمأ، بل بعضها يجب رفضه ورده، لظهور

كذبه، وأول مرجع عندنا في هذا الموضوع هو سفر التكوين، وهو أحد الأسفار الخمسة التي تشكل التوراة الحالية، ويسمونها أسفار موسى: وقد ذكرنا في سورة الأعراف أن هذه الأسفار الخمسة لا يمكن أن تكون هي التوراة، وقد نقل مالك بن نبي في كتاب (الظاهرة القرآنية) عن النقاد الغربيين أنه لم يثبت سفر من أسفار العهد القديم للنقد إلا سفر أرميا، ومن قرأ الإصحاحات: الخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والتاسع، من سفر التكوين وهي التي تحدثت عن قصة نوح عرف من خلال قراءته ومطالعته المجردة سخف كثير من الكلام الموجود فيها، مما يدل على أنه كلام موضوع مكذوب، لا يليق أن يذكر في كتاب. من ذلك مثلا في الكلام عن الله «فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه» وأبرز ما يدلنا على الكذب في هذه الأسفار أن هذه الإصحاحات تذكر رقم (950) سنة وتجعلها عمر نوح كله، فتجعل بقاء نوح في قومه قبل الطوفان (600) سنة وتجعل (350) سنة بعد الطوفان، مع أن النص القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يذكر فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ. (العنكبوت: 14) فإذا وضح هذا الذي ذكرناه في معرفتنا لقيمة الروايات المذكورة في كتب العهد القديم، فلننقل من هذه الإصحاحات بعض المعاني، ما دام علماؤنا قد نقلوا عمن نقل عنها، فالنقل منها مباشرة أولى: ففي الإصحاح السادس من سفر التكوين من العهد القديم: (فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي. لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك. وخمسين ذراعا عرضه. وثلاثين ذراعا ارتفاعه. وتصنع كوى للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله، فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت. ولكن أقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك. ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها. ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها

نقول من الظلال

طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل). وفي الإصحاح السابع: (وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك. فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه. وتكاثرت جدا على الأرض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمسة عشر ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه. فتغطت الجبال، فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض. من الناس والبهائم والدبابات وطيور السماء. وانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت على الأرض مائة وخمسين يوما). وفي الإصحاح الثامن: (وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه. وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء. فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا. وبعد مائة وخمسين يوما نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رءوس الجبال. وحدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها. وأرسل الغراب. فخرج مترددا حتى انشقت المياه عن الأرض. ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها. فرجعت إليه إلى الفلك. فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك، فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض. فلبث أيضا سبع أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا). وفي الإصحاح التاسع: (وبارك الله نوحا وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض). نقول من الظلال: إن قوم نوح- عليه السلام- هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم، ومدى إصرارهم على باطلهم، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح- عليه السلام- إليهم، وخلاصتها: التوحيد الخالص الذي يفرد الله- سبحانه-

بالدينونة والعبودية، ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية. إن قوم نوح هؤلاء .. هم ذرية آدم .. وآدم- كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل وفي سورة البقرة كذلك- قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها- وهي المهمة التي خلقه الله لها وزوده بالكفايات والاستعدادات اللازمة لها- بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق- هو وزوجه وبنوه- أن «يتبع» ما يأتيه من هدى الله، ولا يتبع الشيطان وهو عدو بنيه إلى يوم الدين. وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل، وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض، حيث لم تكن معها عقيدة أخرى. فإذا نحن رأينا قوم نوح- وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله- قد صاروا إلى هذه الجاهلية التي وصفتها القصة في هذه السورة. فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم؛ وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله، واتباعه وحده، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة .. ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار- هو مناط الابتلاء- وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه، كما يملك أن ينحرف- ولو قيد شعرة- عن هدى الله إلى تعاليم غيره، فيجتاله الشيطان حتى يقذف به- بعد أشواط- إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم- النبي المسلم- بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله. وهذه الحقيقة .. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده .. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم (علماء الأديان المقارنة) وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة، سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح، وتأليه الشموس والكواكب .. إلى آخر ما تخبط فيه هذه «البحوث» التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية

وسياسية معينة؛ يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر، وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان. وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين، فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان- وفق ذلك المنهج الموجه- من حيث لا يشعرون. وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم- عليه السلام- هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحا- عليه السلام- واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه القائم على التوحيد المطلق. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام. القائم على التوحيد المطلق وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد- إنما كان الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة. وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية- حتى بعد انحراف الأجيال عنها- ترقى عقائدهم الجاهلية ذاتها؛ حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا. وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت، لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتها المترقية؛ إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى. هذا ما يقرره القرآن الكريم، ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال إذن لباحث مسلم- وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام- أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شئ مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا. ومع أننا هنا- في ظلال القرآن- لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل. ولكننا نلم بنموذج واحد نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القصة. كتب الأستاذ العقاد في كتابه (الله) في فصل أصل العقيدة:

(ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى، وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات. لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التى يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى. «وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال. فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر، وطورا بعد طور. وأسلوبا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان. «وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شئ غير ذلك، ولن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال .. ). كذلك كتب في فصل: (أطوار العقيدة الإلهية) في الكتاب نفسه: (يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها

بالآلهة والأرباب: وهي: دور التعدد Polytheism ودور التمييز والترجيح Henotheism ودور الوحدانية Monotheism ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابا بالعشرات، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات. ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة رب تعبده، أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور وتقبل الصلوات والقرابين. وفي الدور الثاني- وهو دور التمييز والترجيح- تبقى الأرباب على كثرتها، ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها. إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة وتعتمد عليها في شئون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر والإقليم في حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية. وفي الدور الثالث تتوحد الأمة، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض أمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلهها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع، والحاشية للملك المطاع. ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلا بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة، ويتعذر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية، وكثيرا ما ينفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية ... ) الخ. (اهـ. كلام العقاد). قال سيد: وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم، ومن ثم تظهر فيها

أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال .. وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه: «موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ أن أتخذ الإنسان ربا، إلى أن عرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد .. ». والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم، تقريرا واضحا جازما، شيئا آخر غير ما يقرره صاحب كتاب: (الله) متأثرا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة .. وأن الذي يقرره الله- سبحانه- أن آدم- وهو أول البشر- عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده. وأنه عرف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام دينا، وإلا التوحيد عقيدة .. وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد .. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد .. ودانت لشتى الأرباب الزائفة .. حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا، ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون «نزاهة التوحيد» وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية. ولنا أن نجزم أن أجيالا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق. قبل أن يطول عليهم الأمد، ويعودوا إلى الانحراف عن التوحيد من جديد. وأنه هكذا كان شأن كل رسول. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ. والذي لا شك فيه أن هذا شئ، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب: (الله) شئ آخر. وبينهما تقابل تام في منهج النظر والنتائج التي ينتهي إليها .. وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضا، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين. وما من شك أنه حين يقرر الله- سبحانه- آمرا نبيه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمرا آخر مغايرا له تمام المغايرة، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام، ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة .. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء

وحيا من عند الله، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم، وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجئ بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ، ولا في أية رسالة. كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله، وهي أنه وحي من الله وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور. وليس وقفا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية. ولعل هذه اللمحة المختصرة- التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال- تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية- في أي جانب من جوانبها- عن مصدر غير إسلامي. كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها. حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. وبعد .. أكان الطوفان عاما في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ أسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، إلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح .. وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل. ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان. وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين. وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها- فيما عدا ركب السفينة الناجين. وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد السحيق، الذي لا يعرف «التاريخ» عنه شيئا. وإلا فيومها أين كان «التاريخ»؟! إن التاريخ مولود حدث لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل! وكل ما سجله قابل للخطإ والصواب، والصدق والكذب، والتجريح والتعديل! وما ينبغي قط أن يستفتى ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق. ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع، وانتكاسة لا تصيب عقلا قد استقرت فيه

كلمة في السياق

حقيقة هذا الدين. ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول، بسبب معصية ذلك الجيل الذى شهد ذلك الحادث الكبير .. وأساطير بنى إسرائيل المدونة فيما يسمونه (العهد القديم) تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح ... ولكن هذا كله شئ لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان، ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد. وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام؛ أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد. وينبغي أن نذكر أن ما يسمى (بالكتاب المقدس) سواء في ذلك (العهد القديم) المحتوي على كتب اليهود أو (العهد الجديد) المحتوي على أناجيل النصارى- ليس هو الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرفت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود. ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة- قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون- وقد كتبها عزرا- وقد يكون هو عزير- وجمع فيها بقايا من التوراة. أما سائرها فهو مجرد تأليف. وكذلك الأناجيل فهي جميعا لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح- عليه السلام- ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير .. ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور. كلمة في السياق: رأينا أن سورة هود عليه السلام محورها الأمر بعبادة الله، وقد رأينا كيف أن المقطع الأول قد قرر كل ما يحتاجه معنى العبادة .. ويأتي المقطع الثاني وفيه ثلاث قصص تدور حول نفس المحور، وقد مرت معنا القصة الأولى وهي قصة نوح عليه السلام، ورأينا فيها كيف أن دعوة نوح كانت دعوة إلى عبادة الله، وكيف كان موقف قومه، وكيف كانت مواقفه، وكيف كانت العاقبة له ولمن اتبعه، وكيف عاقب الله قومه، فقصة نوح هنا جاءت لتأخذ محلها في هذا السياق الخاص لهذه السورة، كما أخذت محلها في سورة الأعراف ضمن سياقها الخاص بها، وسنرى القصة تتكرر كل مرة بما يخدم سياق

تفسير المجموعة الثانية

السورة التي هي فيها. وفي كل مرة نرى شيئا ما جديدا ولنمض في سياق السورة لنرى قصة هود عليه السلام مع قومه وهي تؤدي نفس ما أدته القصة السابقة مع زيادات. تفسير المجموعة الثانية وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا والآية معطوفة على قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ .. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعرفوه ووحدوه وأطيعوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فهو وحده الإله وهو وحده المستحق للعبادة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أي كاذبون بتسمية غيره إلها وإعطاء غيره حقوق الألوهية يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أي على الله وكل رسول قد واجه قومه بهذا القول، لأن شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام شئ من المطامع يتوهم فيها لم تنجع ولم تنفع أَفَلا تَعْقِلُونَ إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله وهو ثواب الآخرة، ولا شئ أنفى للتهمة من ذلك وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عما سلف من كفركم وذنوبكم بالإيمان به والإخبات له ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عما يستقبل ويحتمل يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثيرة الدرور وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ إن قوة مال، أو قوة جسد، أو قوة عامة للمجموع وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ أي لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه مصرين على إجرامكم وآثامكم. وهكذا دعا هود قومه إلى العبادة والاستغفار، وهي دعوة القرآن التي سجلتها بداية سورة هود، وهذا يؤكد وحدة السورة، ووحدة الدعوة الإسلامية في كل العصور، ويؤكد صلة سورة هود بمحورها، قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وهذه دعوى منهم وكذب؛ فما من رسول إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر. ولكنه الكذب والجحود وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ أي وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك، أي لن نتركهم بمجرد قولك اتركوهم وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه؛ إقناطا له من الإجابة إِنْ نَقُولُ أي ما نقول إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أي بجنون وخبل. والتقدير: ما نقول قولا إلا هذه المقالة، أي قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء أى: ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك، بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي من إشراككم آلهة من

[سورة هود (11): آية 56]

دونه والمعنى: إني أشهد الله أني برئ من جميع الأنداد والأصنام، واشهدوا أنتم أيضا أني برئ من ذلك فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي أنتم وآلهتكم ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلون فإني لا أبالي بكم وبكيدكم، ولا أخاف مضرتكم، وإن تعاونتم علي، وكيف تضرني آلهتكم وما هي إلا جماد لا يضر ولا ينفع؟! وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها بأن تخبلني وتذهب بعقلي؟! وكيف أخاف منكم والله ربي؟! وفي هذا التحدي معجزة إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي هي تحت قهره وسلطانه فهو مالكها، ذكر توكله على الله، وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، ووصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، ومن كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه والأخذ بالناصية: وهي مقدم الرأس تمثيل لذلك إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إن ربي على الحق لا يعد عنه أو إن ربي يدل على صراط مستقيم فَإِنْ تَوَلَّوْا أي إن تتولوا أي تعرضوا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أي فإن تتولوا عما جئتكم به من عبادة الله وحده والتوبة إليه، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها، فقوله فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم يفيد في طيه أنه قد ثبتت الحجة عليكم وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أي ويهلككم الله، ويجئ بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم وَلا تَضُرُّونَهُ بتوليكم شَيْئاً من ضرر بل يعود وبال ذلك عليكم إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم، فهو شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم، ويجزيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ومن كان رقيبا على الأشياء كلها، حافظا لها، كانت الأشياء مفتقرة إلى حفظه عن المضار، ولا يضر مثلكم مثله وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا وهو الريح العقيم فأهلكهم الله عن آخرهم نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بفضل منا لا بعملهم، أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرار نجينا للتأكيد، أو إن المراد بالعذاب الغليظ عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وَتِلْكَ عادٌ في هذا التعبير إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي كفروا بها وَعَصَوْا رُسُلَهُ جعلهم عاصين لجميع الرسل لأن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الرسل وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي رؤساءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل، تركوا اتباع رسولهم الرشيد، واتبعوا أمر كل جبار عنيد وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ

الْقِيامَةِ لما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ هذا التعبير يفيد تهويل أمرهم، ويبعث على الاعتبار بهم، والحذر من مثل حالهم، والدعاء (ببعدا) بعد هلاكهم- وهو دعاء بالهلاك- للدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له. وقوله لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ ذكر النسفي أن فيه فائدة هي أن عادا عادان: عاد الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم. وهكذا تنتهي القصة الثانية في هذا المقطع، وهي قصة هود لتؤدي دورها في سياق السورة بالتمثيل لعاقبة الذين يتركون دعوة الرسول إياهم لعبادة الله، وتعرض لنا نوعا من الشبه التي استقبلت بها الدعوة إلى عبادة الله، والرد عليها، وبطلانها. قال صاحب الظلال تعقيبا على قصة هود فى السورة: (ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة .. نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة .. دعوة توحيد العبادة والعبودية لله، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ولقد كنا دائما نفسر «العبادة» لله وحده بأنه «الدينونة الشاملة» لله وحده. فى كل شأن من شئون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي. ... ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ .. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية فى الحياة البشرية، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين .. وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت، وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها.

تفسير المجموعة الثالثة

ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه؛ وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة: قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ. إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر .. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم) ولنعد إلى التفسير: تفسير المجموعة الثالثة فبعد قصة هود تأتي قصة صالح مع قومه لتؤدي دورها في سياق هذه السورة: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أي ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ عبادة الله وحده تلكم دعوة الرسل جميعا من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام جميعا هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها، خلق منها أباكم آدم، وخلق أجسادكم منها وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها، أو جعلكم عمارها وأراد منكم عمارتها، ويحتمل أن يكون المعنى: وأطال أعماركم فيها والأول أصح فَاسْتَغْفِرُوهُ أي فاسألوه مغفرته بأن تؤمنوا ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ كلما أذنبتم إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ أي داني الرحمة مُجِيبٌ لمن دعاه وهكذا نجد أن طريق الرسل واحدة ودعوتهم واحدة: العبادة والاستغفار. فائدة: نلاحظ أن نوحا قال: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وأن هودا قال يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ وأن صالحا قال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ

[سورة هود (11): آية 62]

وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فكان تذكير نوح يرافقه الوعظ، وكان تذكير هود يرافقه التأنيب، وكان تذكير صالح يرافقه التذكير بالنعمة، وكلها طرق يقتدى بها، ولكل منها محله وأهله، وكل قصة تعرض حججا وتعرض أجوبة، وتعطينا عطاء خاصا، وكل ذلك يخدم سياق السورة، فليست كل قصة تكرارا للأخرى، فلكل قوم طبيعة، ولكل قوم عقوبة، ولكل قوم خطاب، ولكل قوم رد، فتأمل جوانب الاتفاق والاختلاف ففي كل ذلك من المعاني ما لا يتناهى. ولنعد إلى السياق: قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي كنت فيما بيننا مرجوا للسيادة والمشاورة في الأمور، أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وما كان عليه أسلافنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من عبادة الله وحده مُرِيبٍ أي موقع في الريبة، والريبة: قلق النفس وانتفاء الطمأنينة، وهكذا نجد هنا لغة أخرى في خطاب رجل الدعوة إلى الله، الثناء على حاله الأول قبل الدعوة، وإنكار الحق بحجة تقليد الآباء، وإظهار التشكك في الدعوة، وهي طرق خبيثة من طرق الصد عن سبيل الله. فائدة: يلاحظ أن حجة قوم نوح كانت: بشرية الرسول، وضحالة رأي أتباعه، وقلة مكانتهم، وعدم رؤية الميزة لنوح ومن معه، مما يجعلهم غير مؤهلين للاتباع، وكان رد قوم هود منصبا على أنه لا بينة واضحة في دعوة هود، مع تهديد هود بآلهتهم، وكانت اللغة التي استعملت مع صالح عليه السلام هي ما رأينا، وهكذا نجد مواقف متعددة، وأساليب متنوعة، تسع الحالات التي يصادفها كل داعية إلى الله وهو يدعو إلى عبادة الله واستغفاره، وهكذا تبني سورة هود قصة الدعوة إلى الله من خلال التقرير والتمثيل والعرض والقصة، وتأتي القصص واحدة بعد أخرى؛ لنرى في كل منها جوانب جديدة، إن في موضوع الدعوة، أو في موضوع ردها وحجج الرادين، أو في مواقف الرسل عليهم السلام، أو في عاقبة الظالمين. ولنعد إلى السياق: قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي أخبروني إن كنت على بينة من ربي أي على يقين وبرهان فيما أرسلني به إليكم وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أي نبوة أي: قدروا أني على بينة من ربي، وأنني نبي على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ في

[سورة هود (11): آية 64]

تبليغ رسالته ومنعكم عن عبادة الأوثان فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي لو تركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده لما نفعتموني، ولما زدتموني إلا خسارة بأن أنسب إلى الخسار وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي معجزة شاهدة على أنني رسول الله، وقد مرت معنا القصة في سورة الأعراف فلا نذكر هنا إلا ما يحتاجه فهم النص فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ كأنه قال: لكم نفعها وليس عليكم رزقها، فلا حجة إن آذيتموها ولذلك قال: وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من عقر أو نحر أو إيذاء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ أي عاجل، وهكذا كان رد صالح إظهار العجز عن ترك دعوة الله، والتذكير بالمعجزة، بينما كان رد هود التحدي لهم، والتوكل على الله، وكان رد نوح النقاش المفصل لكل جزء من أجزاء كلامهم، وفي كل قدوة، ولكل كلمة محلها، والناس طبائع، ولكل طبيعة كلمة تناسبها، ولكل من الدعاة طبيعة، والقرآن يسع النفس البشرية كلها، وفيه لكل نفس ما يناسبها ضمن إطار الحق ودائرته فَعَقَرُوها أي فذبحوها فَقالَ صالح تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ أي استمتعوا بالعيش في بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي: يتصرف ويحتمل أن يكون المعنى: استمتعوا في دار الدنيا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي ثم تهلكون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذوب فيه فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي بالعذاب أو فلما جاء عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إذ لولا رحمته بهم ما هداهم فاستحقوا النجاة، رحمهم إذ هداهم، ورحمهم إذ نجاهم، والأمر أمره، والجميع ملكه وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ تقديره: ونجيناهم من ذلك اليوم وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه، وجاز أن يكون المراد بيومئذ يوم القيامة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على تنجية أوليائه الْعَزِيزُ أي الغالب بإهلاك أعدائه وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي الصاعقة وقد ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذوا بالرجفة ويبدو- والله أعلم- أنهم اجتمع عليهم الزلزال والصعق فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ أي في منازلهم جاثِمِينَ أي ميتين كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأن لم يقيموا فيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ فاستحقوا العذاب أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وقد بعدوا في الدنيا والآخرة. وهكذا كانت نهاية قوم صالح بالصيحة، ونهاية قوم هود بالريح، ونهاية قوم نوح بالطوفان، وكانت العاقبة نجاة نوح، وهود، وصالح، وهذا هو الدرس الأعظم للدعاة إلى عبادة الله واستغفاره، وبهذا ينتهي المقطع الثاني في سورة هود. وقبل أن ننتقل إلى

نقل عن الظلال حول قصة صالح عليه السلام

المقطع الثالث نحب أن ننقل بعض النقول، ونذكر بعض الفوائد. نقل عن الظلال حول قصة صالح عليه السلام (ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ ... الدعوة فيها هي الدعوة. وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته ... عبادة الله وحده بلا شريك، والدينونة لله وحده بلا منازع .. ومرة أخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد- فثمود كعاد، هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح- ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد. ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا. فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا، فما أغنت معهم شيئا، إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق. إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول. ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام. نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم: قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ... وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده. فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب. ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالا؛ وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها. فصالح الذي كان مرجوا في قومه لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه، يقف منه قومه موقف اليائس منه، المفجوع فيه! لماذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده. على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره. إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده. حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التى يعجز عن تصورها؛ بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق

فوائد

فطري أو منطق عقلي على الإطلاق. إن صالحا يناديهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ... هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها .. فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له ردا .. وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشئوا أنفسهم ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض .. وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن الله- سبحانه- هو الذي أنشأهم من الأرض وهو الذي أقدرهم على عمارتها. ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله- سبحانه- وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع .. وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). فوائد: 1 - لم نتعرض إلى موطن هذه الأقوام التي مرت معنا في هذا المقطع، لأن ذلك قد مر الكلام عنه في سورة الأعراف، والوجود الزمني للأقوام المذكورة يتفق مع الوجود الذكري في المقطع، قوم نوح كانوا أولا، ثم قوم هود، ثم قوم صالح. 2 - يذكر بعض المفسرين أثناء الكلام عن قصة نوح كلاما لا أصل له حول ابن نوح يريدون به الفرار من أن يكون ابنه الصلبي، وليس لهذا الكلام مبرر، ولذلك فإن المحققين يرفضونه، رفضا باتا فهو ابن نوح حقا وصدقا، وقد فرقت بينهم العقيدة. 3 - الإعجاز في القرآن هو حصيلة لمجموعة معان تتضافر لتشكل الإعجاز، وقد تكلم الخطابي في رسالته عن إعجاز القرآن عن هذا الموضوع بما يشفي، وقد جرت عادة المفسرين أو المتكلمين أن يحللوا سورة أو آية بعينها، ويركزون عليها لإبراز هذا المعنى. وتكاد تكون آية وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من الآيات التي يعرضها الكثير على أنها نموذج لتضافر معان متعددة كان كأثر عنها الإعجاز، ولننقل كلام النسفي في الآية كنموذج: (والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز، والاستعارة، والكناية، وما يتصل بها، فنقول: إن الله تعالى لما أراد أن يبين

معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغيض، وأن نقضي أمر نوح- وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه- فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يتأتي منه- لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السموات والأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته، فيها تغييرا وتبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده. ثم بنى على تشبيه هذا نظم الكلام فقال عزّ وجل: وَقِيلَ على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض، ويا سماء) ثم قال مخاطبا لهما (يا أرض) و (يا سماء) على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغور الماء في الأرض، البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات كتقوي الآكل بالطعام، ثم قال (ماءك) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لاتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفعل، للشبه بينهما في عدم التأني. ثم قال وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً ولم يصرح بمن أغاض الماء، ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة بعدا. كما لم يصرح بقائل (يا أرض ويا سماء) سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في فعله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوي غيره. ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم، إظهارا لمكان السخط وأن ذلك العذاب الشديد ما كان إلا بظلمهم. ومن جهة علم المعاني: وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها. وذلك أنه اختير (يا) دون أخواتها لكونها أكثر استعمالا، ولدلالتها على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة والملكوت، وإبداء العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل يا أرضي لزيادة التهاون إذ الإضافة تستدعي القرب. ولم يقل يا أيتها الأرض للاختصار، واختير لفظ الأرض والسماء

لكونهما أخف وأدور. واختير (ابلعي) على ابتلعي لكونه أخصر، وللتجانس بينه وبين (أقلعي) وقيل (أقلعي) ولم يقل عن المطر، وكذا لم يقل (يا أرض ابلعي ماء) فبلعت (ويا سماء أقلعي) فأقلعت اختصارا. واختير (غيض) على غيض وقيل (الماء) دون أن يقول ماء الطوفان، و (الأمر) ولم يقل أمر نوح وقومه، لقصد الاختصار. والاستغناء بحرف العهد عن ذلك، ولم يقل وسويت على الجودي. أي أقرت على نحو (قيل) و (غيض) اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ إرادة للمطابقة ثم قيل بُعْداً لِلْقَوْمِ ولم يقل ليبعد القوم طلبا للتأكيد مع الاختصار. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم. وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل (يا أرض ابلعي، ويا سماء أقلعي) ولم يقل ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء جريا على مقتضى الكلام فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه، ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدأ به لابتداء الطوفان منها، ثم أتبع وَغِيضَ الْماءُ لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها. ثم ذكر ما هو المقصود وهو قوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز الموعود في إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في الفلك. وعلى هذا فاعتبر. ومن جهة الفصاحة المعنوية، وهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد. ومن جهة الفصاحة اللفظية، فألفاظها كما ترى عربية مستعملة سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسلة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة. ومن ثم أطبق المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإيتان بمثل هذه الآية. ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على المذكور، فلعل المتروك أكثر من المسطور. أهـ.) 4 - بمناسبة قوله تعالى في قصة هود وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وبمناسبة ذكر الاستغفار في أول سورة هود: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ نذكر الحديث الشريف:

كلمة في السياق

«من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب». ونذكر هذه القصة التي ذكرها النسفي: عن الحسن بن على رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج قال له بعض حجابه: إني رجل ذو مال ولا يولد لي، علمني شيئا لعل الله يرزقني ولدا، فقال الحسن: عليك بالاستغفار فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية، فقال: هلا سألته مم قال ذلك! فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل، فقال: ألم تسمع قول هود وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وقول نوح وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ. كلمة في السياق: وهكذا سارت سورة هود وهي تشيد صرح عبادة الله من خلال التقرير والتمثيل والعرض والقصة، وبعد أن عرضت ما عرضت، تعرض علينا في المقطع الثالث قصة إبراهيم، وقصة لوط عليهما السلام، وهما قصتا عابدين تولاهما الله، فمن القصتين نفهم تولي الله لأهل العبادة، كما أن عاقبة قوم لوط ماضية على النسق الذي مر معنا في نجاة الرسل وأتباعهم، وهلاك المعرضين والرافضين، وتكاد القصتان أن تكونا قصة واحدة. المقطع الثالث في هذا المقطع قصتا إبراهيم ولوط عليهما السلام، وهما في حكم القصة الواحدة، إذ أن قصة إبراهيم فيها حديث عن قوم لوط، فكأنها مقدمة لها، والقصتان ترياننا رعاية الله لعباده وعباده، ويمتد هذا المقطع من الآية (69) إلى نهاية الآية (83) وهذا هو: [سورة هود (11): الآيات 69 الى 83] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا أي الملائكة إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى تبشره بإسحاق قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ وقد رد عليهم بأبلغ من سلامهم، لأن المنصوب هنا تقديره سلمنا سلاما وهو يفيد المضي، والاسم المرفوع هنا يفيد الثبوت والدوام فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي مشوي بالحجارة المحماة، والعجل: الفتي من البقر. والمعنى: ذهب سريعا فأتاهم بالضيافة فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ أي أنكرهم وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي أضمر منهم خوفا قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ وإنما قالوا لا تخف في الظاهر لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه. قال النسفي: والظاهر أنه أحس بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، واستدل على ذلك بقولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قال: وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا فيه وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ إما وراء الستر تسمع تحاورهم، وإما على رءوسهم تخدمهم فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، أو من غفلة قوم لوط مع قرب العذاب. فجوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ أي من بعده يَعْقُوبَ بشرت بولد لها يكون له ولد ونسل، خصت بالبشارة لأن النساء أعظم سرورا بالولد، ولأنه لم يكن لها ولد وكان لإبراهيم ولد، وهو إسماعيل، وقد استدل بهذه الآية- كما استدل بغيرها- على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل. قال ابن كثير: وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أي أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من قدرته وحكمته، أنكرت الملائكة تعجبها لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فلا تعجبي إذن من أمر الله، فإنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزا عقيما، وبعلك شيخا كبيرا، فإن الله على ما يشاء قدير رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة، فليست

[سورة هود (11): آية 74]

بمكان عجيب، وهو تعليل لإنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب لأن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم إِنَّهُ حَمِيدٌ أي محمود في جميع أفعاله وأقواله مَجِيدٌ أي ممجد في صفاته وذاته فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي الفزع وهو ما أوجس من الخيفة وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بالولد يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ أي لما اطمأن بعد الخوف، وملئ سرورا بسبب البشرى، فزع إلى المجادلة إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ هذا ثناء على إبراهيم بهذه الصفات الثلاثة: الحليم: وهو غير العجول على كل من أساء إليه، أو كثير الاحتمال ممن آذاه، الصفوح عمن عصاه، والأواه: وهو كثير التأوه من خوف الله، والمنيب: وهو التائب الراجع إلى الله، وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، بينت الآية أن ذلك هو الذي حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب، ويمهلوا لعلهم يتوبون، فجاءه الجواب يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي وإن كانت الرحمة ديدنك فدع الجدال في هذا الأمر إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي قضاؤه وحكمه أي إنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أي لا يرد بجدال وغير ذلك وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً بعد أن خرجوا من عند إبراهيم متوجهين إلى قوم لوط سِيءَ بِهِمْ أي حزن لأنه حسب أنهم إنس ورأى هيئاتهم وجمالهم، وخاف عليهم خبث قومه، وأن يعجز عن مقاومتهم ودفعهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي وضاق بمكانهم صدره، إذ خشي إن ضيفهم ألا يقدر على حمايتهم، وإن لم يضيفهم أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد بلاؤه قال صاحب الظلال: (لقد كان يعرف قومه. ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين. إذ يتركون النساء إلى الرجال، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعا أزواجا، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله، والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الأزلية، لا عن تفكير وتدبير، ولكن عن اهتداء واستقامة. والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي. وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات، وانتشار المثل السيئ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة. على الرغم من مصادمته للفطرة، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة. الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها

[سورة هود (11): آية 78]

ويعدمها. والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها. بدلا من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها. ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفورا فطريا- لا أخلاقيا فحسب- من عمل قوم لوط. لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها. ولقد نجد أحيانا لذة في الموت- في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا- ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية. على أن هذه ليست مصادمة للحياة، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر. وليست في شئ من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها). وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي يسارعون إسراعا ويهرولون هرولة كأنهم يدفعون دفعا وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال، مرنوا على الفواحش، وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ للمفسرين في هذا المقام قولان: الأول: أن بناته نساء قومه فكأنه لفت نظرهم إلى أزواجهم. الثاني: أنه عرض عليهم بناته ليتزوجوا، والتقدير هؤلاء بناتي فتزوجوهن فأراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزا في ذلك الوقت، كما جاز في الابتداء في هذه الأمة، فقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص، وهما كافران وهذا القول أقوى فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفاحشة وفعل المباح وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي ولا تهينوني ولا تفضحوني، أو لا تخجلوني في حق ضيوفي؛ فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي فيه خير يقبل ما آمره به، ويترك ما أنهاه عنه، أي أليس فيكم رجل واحد يهتدي إلى طريق الحق وفعل الجميل والكف عن السوء؟ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ قال ابن كثير: أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن، وقال آخرون إنك لتعلم ما لنا في بناتك من حاجة؛ لأن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا؛ فمذهبنا إتيان الذكران وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ أي إنما نريد الرجال قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي لفعلت بكم ولصنعت، أي لو قويت عليكم بنفسي لنكلت بكم أَوْ

[سورة هود (11): آية 81]

آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أو لو أويت إلى قوي أستند إليه، وأتمنع به فيحميني منكم لفعلت بكم الأفاعيل، شبه القوي العزيز الذي تمنى نصرته بالركن من الجبل في شدته ومنعته قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ أي إن ركنك لشديد فنحن رسل ربك، وإذا كانوا رسل الله فلن يصل أعداء الله إلى لوط، ولن يقدروا على ضرره ولذلك قالوا لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ثم قالوا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي بطائفة منه أو نصفه وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه، ويحتمل أنه أمر بعدم تخلف أحد، ويحتمل بأنه أمر بعدم الالتفات إلى ما يخلف وراءه من أملاك، والأول أقوى إِلَّا امْرَأَتَكَ أي إلا هي فلا عليك ألا تلتفت إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ أي إن الأمر هكذا شأنها شأنهم إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنه قال: متى موعد هلاكهم؟ فقيل له ذلك، وكأنه أراد أسرع من ذلك فقالوا أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي حجارة من طين قوية شديدة مَنْضُودٍ أي متتابع، أو مجموع معد للعذاب مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ أي معلمة للعذاب في خزائنه أو في حكمه وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه وهكذا انتهى المقطع الثالث: فوائد: 1 - في هذه السورة حكى الله عزّ وجل لنا قول سارة قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ وفي سورة الذاريات حكى الله عزّ وجل فعلها فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب. 2 - بمناسبة قول لوط عليه السلام لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يروي ابن كثير حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد- يعني الله عزّ وجل- فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه». 3 - بمناسبة قصة لوط عليه السلام وقومه وما عوقبوا به قال ابن كثير: (وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعا: «من وجدتموه

يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل، سواء كان محصنا أو غير محصن؛ عملا بهذا الحديث، وذهب الإمام أبو حنيفة أنه يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط. 4 - وفي هذا المقطع إن في قصة إبراهيم، أو في قصة لوط، مجموعة من آداب الضيافة لا تخفى على المتأمل منها: الاستقبال الطيب للضيف، ومنها التعجيل بالطعام له، ومنها الحرص عليه والدفاع عنه .. 5 - يذكر ابن كثير كثيرا من الروايات بمناسبة هذا المقطع، كلها مرجعها أهل الكتاب وكما كررنا أكثر من مرة فإن أسفار موسى الخمسة التي تسمى حاليا التوراة أبعد من أن تكون محل ثقة في مجموع نقولها، بل إن قارئها ليحس بالجهد البشري المتأخر في صياغتها كما ذكرنا ذلك أثناء الكلام عن سورة الأعراف، ومن ثم فإنها لا تصلح للاعتماد، وقد يصلح بعضها للاستئناس في تفصيل لا يخالف نصا، مع ملاحظة أنها- لكونها مكتوبة من الروايات الشفهية بعد مئات السنين- دخل عليها تحريف وتبديل وتقديم وتأخير، وإذا نقلنا عنها فإننا ننقل ضمن حدود، ولولا أن رسولنا عليه الصلاة والسلام أذن لنا أن نحدث عن بني إسرائيل ولا حرج ما نقلنا شيئا لأن «أقلام النساخ الكاذبة» كما قال سفر أرميا قد أدخلت نصوصا تتقزز منها النفس، ومن ذلك ما يذكرونه في هذا المكان من زنى لوط بابنتيه- وحاشاه- فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. إذا تذكرنا هذا كله نقول: إن ما ذكره القرآن عن إبراهيم ولوط عليهما السلام موجود بشكل مضطرب ومختلط في الإصحاح السابع عشر، والإصحاح الثامن عشر، والإصحاح التاسع عشر، من سفر التكوين، وقد أعطانا القرآن الحق مما نستطيع به أن نعرف خطأ الكثير من الكلام المضطرب هناك، وصواب بعضه، فمن الخطأ فيه أنه يذكر أن الرسل الثلاثة أكلوا، مع أن السياق هناك يشعر بأن إبراهيم كان عارفا أنهم رسل الله، فكيف يأكلون وهم ملائكة؟ ولكنها أقلام النساخ الكاذبة، ومن الصواب فيه ذكر ضحك سارة وتعجبها عند ما بشرت بابن «وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه .. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ».

في الإصحاح الثامن عشر

ومن الصواب فيه ذكر رغبة إبراهيم في أن يصرف البلاء عن قرى قوم لوط، ولم يفصل القرآن ماهية كلام إبراهيم بل أجمل فقال: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. فلننقل ما ذكر من جدال إبراهيم إلى نهاية قصة الإهلاك مما هو مذكور في الإصحاح الثامن عشر والتاسع عشر: في الإصحاح الثامن عشر: (فتقدم إبراهيم وقال أفتهلك البار مع الأثيم، عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه. حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم. حاشا لك، أديان كل الأرض لا يصنع عدلا، فقال الرب إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم. فأجاب إبراهيم وقال إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد، ربما نقص الخمسون بارا خمسة أتهلك كل المدينة بالخمسة فقال لا أفعل من أجل الأربعين فقال لا يسخط المولى فأتكلم. عسى أن يوجد هناك ثلاثون فقال لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين، فقال إني قد شرعت أكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون فقال لا أهلك من أجل العشرين، فقال لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط. عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال لا أهلك من أجل العشرة، وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع إبراهيم إلى مكانه). وفي الإصحاح التاسع عشر: (فجاء الملكان إلى سدوم مساء وكان لوط جالسا في باب سدوم، فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض. وقال يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما وبيتا واغسلا أرجلكما، ثم تبكران وتذهبان في طريقكما- فقالا لا بل في الساحة نبيت. فألح عليهما جدا فمالا إليه ودخلا بيته فصنع لهما ضيافة وخبزا فطيرا فأكلا. وقبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها. فنادوا لوطا وقالوا له أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة، أخرجهما إلينا لنعرفهما فخرج إليهم لوط إلى الباب وأغلق الباب وراءه، وقال: لا تفعلوا شرا يا إخواني. هو ذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا. أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل

كلمة في السياق

سقفي. فقالوا أبعد إلى هناك. ثم قالوا جاء هذا الإنسان ليتغرب وهو يحكم حكما. الآن نفعل بك شرا أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جدا وتقدموا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما وأدخلا لوطا إليهما إلى البيت وأغلقا الباب. وأما الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير. فعجزوا عن أن يجدوا الباب. وقال الرجلان للوط من لك أيضا هاهنا. أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة أخرج من المكان. لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكه. فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال قوموا اخرجوا من هذا المكان. لأن الرب مهلك المدينة. فكان كمازح في أعين أصهاره. ولما طلع الفجر كان الملكان يعجلان لوطا قائلين قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك. بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال أهرب إلى الجبل. لعل الشر يدركني فأموت. هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة. أهرب إلى هناك. أليست هي صغيرة فتحيا نفسي. فقال له إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها أسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجئ إلى هناك. لذلك دعي اسم المدينة صوغر. وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر. فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء. وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح. وبكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب. وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون. وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط). كلمة في السياق: نجد في هاتين القصتين قصة إبراهيم ولوط مثلين على القيام بحق الله، في العبادة والتوبة، فنجد العبودية الخالصة عند إبراهيم وآل بيته، والعبودية الكاملة عند لوط، كما نجد عاقبة الانحرافات عن أمر الرسل عليهم الصلاة والسلام، نلاحظ أن الأمر بالعبادة يدخل فيه طاعة الله في كل أمر، كما نلاحظ في القصتين كيف يكرم الله أهل طاعته

المقطع الرابع

بأنواع الكرامة، نلاحظ أن في قصة لوط معنى هو امتداد للمعنى الذي وجدناه في قصة نوح، أن القرابة لا تنفع صاحبها إذا لم يكن إيمان، فالقصتان امتداد للقصص الثلاث السابقة، والقصص في هذه السورة بمجموعها تمضي على نسق واحد مع مواضيع المقطع الأول، وتمهد للمقطع الأخير، وقد لاحظنا أن بداية المقطع الثاني كانت: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ .. ثم عطفت عليها قصة هود وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ثم عطفت عليها قصة صالح وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ثم كان بعد ذلك قصة إبراهيم وأضيافه، وقوم لوط وبدأت وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثم تأتي الآن قصة شعيب عليه السلام مع قومه وبدايتها ب وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فكأن قصة شعيب معطوفة على قصة قوم نوح وعاد وثمود، وجعل الله عزّ وجل في الوسط قصة إبراهيم مما يشير إلى وحدة السورة، وأن قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام تخدمان في المحور نفسه، محور العبادة الذي سيعود السياق صريحا في شأنه في قصة شعيب في المقطع الرابع: *** المقطع الرابع ويمتد من الآية (84) إلى نهاية الآية (95) وهذا هو: [سورة هود (11): الآيات 84 الى 95] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

التفسير

التفسير: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي: وأرسلنا شعيبا إلى ساكني مدين أو إلى بني مدين قال ابن كثير: وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريبا من معان بلادا تعرف بهم يقال لها مدين، فأرسل الله لهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أمرهم بعبادة الله وحده، كما أمر كل

[سورة هود (11): آية 85]

رسول وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لا تنقصوا المكيل بالمكيال، ولا تنقصوا الموزون بالميزان بل أدوهما كاملين أخذا وعطاء إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي في معيشتكم ورزقكم فأنتم بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو المعنى: إني أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون من شرك وخيانة وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ أي مهلك والمراد به إما عذاب الاستئصال في الدنيا، أو عذاب الآخرة وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أى أتموهما بالعدل، نهاهم أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي حسن في العقول لزيادة الترغيب فيه، وجئ به مقيدا بالقسط ليعني: ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوا في حقهم شيئا، أشياءهم المعنوية وأشياءهم المادية نقصا حسيا أو معنويا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ العيث: أشد الفساد نحو السرقة والغارة وقطع السبيل، بدأ بالدعوة إلى عبادة الله، ثم بالدعوة إلى عدم نقص المكيال والميزان وإيفائهما، ثم بالدعوة إلى إعطاء الناس القيمة الحقيقية لأشيائهم، ثم بالدعوة إلى ترك الفساد أصلا في الأرض. ثم ذكرهم فقال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم خير لكم في الدنيا والآخرة، بشرط أن تؤمنوا، والحقيقة أن بقية الله خير للكفرة أيضا، لأنهم يسلمون منها من تبعة البخس والتطفيف وما يترتب عليهما من شرور اجتماعية، إلا أن فائدتها أظهر في حق أهل الإيمان للسلامة من الشرور مع حصول الثواب مع النجاة من العقاب، بينما لا تظهر الثمرات كاملة مع عدم الإيمان، ومن ثم نقول: إن النظام الاقتصادي الإسلامي لا يقوم وتظهر ثمراته كاملة إلا في مجتمع مؤمن، وقد أفادنا النص تعظيم الإيمان والتنبيه على جلالة شأنه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي برقيب، أي افعلوا ذلك لله عزّ وجل، لا تفعلوه ليراكم الناس؛ إذ الله هو الحفيظ؛ فاحفظوا نعمه بترك البخس، واحفظوا أوامره ليحفظكم ويحفظ أموالكم، فماذا كان جوابهم؟ لقد كان جوابهم مختلفا عما عهدناه في الأجوبة التي مرت معنا في القصص السابقة، فالسورة تعرض لنا أكثر من نموذج قالُوا على سبيل التهكم يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا قال الحسن: إي والله إن صلاته لتأمر أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم، وهكذا أنكروا عليه أن يأمرهم وينهاهم، وهكذا اعتبروا أنهم أحرار في عبادة من

[سورة هود (11): آية 88]

شاءوا، وأنهم أحرار في النظام الاقتصادي الذي ارتضوه ولو كان ظالما وهي لغة الكفر في كل زمان ومكان، ثم قالوا على سبيل الاستهزاء إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أي أأنت العاقل الراشد؟! وهو منطق كثير ممن يردون دعوة الله مستهزءين بفهم وفقه وعقل الدعاة، فكأنهم يقولون بكلمتهم المستهزئة: إنك لأنت السفيه الضال، وكدأب كل رسول في إقامة الحجة قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على بصيرة فيما أدعو إليه وَرَزَقَنِي مِنْهُ أي من عنده رِزْقاً حَسَناً قيل: أراد النبوة، وقيل: أراد الرزق الحلال الذي لا بخس فيه ولا تطفيف، ويحتمل الأمرين، والتقدير: أخبروني إن كنت على حجة واضحة من ربي، وكنت نبيا على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أى لم أكن لأنهاكم عن أمر وأرتكبه، ولم أكن لأسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر قدر استطاعتي للإصلاح ما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهدا وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أي وما كوني موفقا لإصابة الحق فيما آتي وأذر إلا بمعونة الله وتأييده عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي اعتمدت في جميع أموري وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في كل أموري في السراء والضراء وكل حال وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ أي فيصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء الأقوام من العذاب وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ في الزمان، فهم أقرب الهالكين منكم، أو في المكان، فمنازلهم قريبة منكم، أو فيما يستحق به الهلاك وهو الكفر والمساوئ، هددهم بالغرق أو الريح أو الرجفة؛ بسبب خلافه، نسأل الله بمنه وكرمه ألا يمنعنا بغض أو شقاق أو خلاف عن أن نقبل الحق الخالص كائنا ما كان، وقد دل خطابه عليه السلام لهم على أن زمنه متأخر عن زمن قوم لوط، وعلى هذا فالترتيب في سورة هود بين القصص ترتيب زمني: نوح ثم هود ثم صالح ثم إبراهيم ولوط ثم شعيب وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ في سالف ذنوبكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيما تستقبلونه في الأعمال السيئة إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ومن رحمته غفرانه لأهل الجفاء من المؤمنين وَدُودٌ ومن مودته أنه يحب أهل الوفاء من الصالحين، ومن تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا، وهكذا أقام عليهم الحجة إن من خلال النظر في شأنه، أو النظر في أمر الغابرين، أو النظر في طبيعة

[سورة هود (11): آية 91]

ما يدعوهم إليه، فماذا كان جوابهم؟ كان جوابهم جواب المستكبرين الطغاة: قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ أي ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي من قولك والظاهر أنهم أرادوا أنهم لا يفهمون صحة ما يقول، لأن كلامه في منتهى الوضوح وكيف وهو كما قال الثوري: كان يقال له خطيب الأنبياء وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أي لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها، فما أنت إلا واحد، وعشيرتك ليست على دينك وَلَوْلا رَهْطُكَ أي قومك وعشيرتك لَرَجَمْناكَ أي بالحجارة. والمعنى: ولولا عشيرتك لقتلناك شر قتلة، وكان رهطه من أهل ملتهم فلذلك أظهروا الميل إليهم، والإكرام لهم وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أي ليس لك عندنا شأن، فأنت لا تعز علينا، ولا تكرم حتى نكرمك من القتل، ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم من أهل ديننا. فأجابهم لتقوم عليهم الحجة قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ قال لهم هذا لأن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله، وحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله، لأن الله إذ أرسل رسولا جعل الأدب معه أدبا مع الله، ألا ترى قوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (النساء: 13) وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي: ونسيتم الله وجعلتموه كالشئ المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والمعنى: أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة، فقد اتخذتم ربكم وراءكم فنبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي قد أحاط بأعمالكم علما فلا يخفى عليه شئ منها وهو مجازيكم عليها وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على طريقتكم وهو تهديد لهم، أي اعملوا متمكنين من عداوتي مطبقين عليها إِنِّي عامِلٌ على طريقتي سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي بذله وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ في دعواكم وزعمكم وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي وانتظروا العاقبة إني معكم منتظر وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أي هامدين لا حراك بهم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ أي ألا هلاكا لهم كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ لأن طريقهم واحد. فوائد:

1 - قال ابن كثير: «ذكرنا هاهنا (أي في سورة هود) أن أتتهم صيحة، وفي (الأعراف) رجفة، وفي (الشعراء) عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، ففي الأعراف لما قالوا لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ناسب أن يذكر هناك الرجفة فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها، وأرادوا إخراج نبيهم منها. وهاهنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قال فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهذا من الأسرار الدقيقة. 2 - يلاحظ أنه في آخر قصة عاد ومدين جاء قبل (لما) حرف الواو وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً ... وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً ... بينما جاء قبل (لما) في قصة ثمود ولوط حرف الفاء وقد علل ذلك النسفي: أن مجئ الفاء في قصة ثمود ولوط لأنهما وقعا بعد ذكر الموعد إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ في قصة لوط وذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ في قصة ثمود قال: فجئ بالفاء الذي هو للتسبب كقولك وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت، وأما الآخريات فقد وقعتا مبتدأتين، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة. 3 - بمناسبة قوله تعالى وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ ... نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم هذه القصة عن ابن أبي ليلى الكندي قال: كنت مع مولاي أمسك دابته، وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا من داره فقال: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا، وشبك بين أصابعه. 4 - بمناسبة قوله تعالى على لسان شعيب: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ... ذكر ابن كثير مجموعة روايات نذكرها مع حذف الأسانيد. روى الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن أخاه مالكا قال: يا معاوية إن محمدا صلى الله عليه وسلم أخذ جيراني، فانطلق إليه فإنه قد كلمك وعرفك، فانطلقت معه فقال: دع جيراني فقد كانوا أسلموا فأعرض عنه فقام مغضبا فقال: أما والله لئن فعلت إن الناس يزعمون إنك لتأمرنا بالأمر وتخالف إلى غيره، وجعلت أجره وهو يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقول؟» فقال: إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون

نقول

إنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره، قال فقال: «أوقد قالوها- أي قائلوها- ولئن فعلت ما ذاك إلا علي وما عليهم من ذلك من شئ أرسلوا له جيرانه». وروى أيضا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: يا محمد علام تحبس جيراني؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقول؟» فجعلت أعرض بينهما كلاما مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبدا، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فهمها فقال: «قد قالوها- أو قائلها منهم؟ - والله لو فعلت لكان علي وما كان عليهم، خلوا عن جيرانهم». ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد .. عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال: سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولون عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمعتم الحديث عنى تعرفه قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم عنه» إسناده صحيح. وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به، ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه. وروى قتادة .. عن مسروق قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت: تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم، قالت: فعله بعض نسائك، فقال: ما حفظت وصية العبد الصالح إذا وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ وروى عثمان بن أبي شيبة ... عن أبي سليمان الضبي قال: كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها: وما كنت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. نقول: قال صاحب الظلال تعليقا على قصة شعيب عليه السلام: (وهذا دور من أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة، ينهض به شعيب في قومه أهل مدين .. ومع الدعوة إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى، هي قضية الأمانة والعدالة في التعامل بين الناس، وهي وثيقة الصلة بالعقيدة في الله، والدينونة له وحده، واتباع شرعه وأمره. وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة، ولم يدركوا العلاقة بين المعاملات المالية والصلاة المعبرة عن الدينونة لله).

وقال صاحب الظلال تعليقا على قول قوم شعيب لشعيب: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا: فهم لا يدركون- أو لا يريدون أن يدركوا- أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم. كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة. وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معا بالمعاملات .. قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولي. وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها- فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره .. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله. وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم- وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف- فلقد قامت أزمة في «الكنيست» مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها- من غير اليهود- أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده- مهما تعرضت للخسارة- فأين من يدعون أنفسهم «مسلمين» من هذا الاستمساك بالدين. إن بيننا اليوم ممن يقولون:- إنهم مسلمون- من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق. وبخاصة المعاملات المادية. وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم، يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ .. ما للإسلام والعري فى الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما

كلمة في السياق

للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله «المتحضرون»؟ فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا. وهم يتساءلون ثانيا. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد .. فما للدين والمعاملات الربوبية، وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون، الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى لهى بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية- النظرية الأخلاقية مثلا- ويعدونها تخليطا من أيام زمان. فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولي. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة. وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق .. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود. وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان.) كلمة في السياق: وهكذا رأينا في هذا المقطع كيف أن رسولا آخر لله قد دعا إلى عبادة الله وحده وإلى الاستغفار، كما دعا إلى سلوك نظيف يكون أثرا عن عبادة الله، وكيف رد عليه قومه، وماذا كانت عاقبة هذا الرد، وقد بقي معنا من السورة مقطعان، مقطع يبدأ بالحديث عن موسى عليه السلام وقصته مع فرعون وقومه وعاقبة هؤلاء، ثم يعظ ويذكر بانيا على ما مر من قبل في السورة، ومقطع أخير وفيه توجيهات مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مبنية على ما مر من قبله .. في السورة. ***

المقطع الخامس

المقطع الخامس بين يدي هذا المقطع: يبدأ هذا المقطع بالحديث عن موسى عليه السلام ورسالته إلى فرعون، ولا يذكر مضمون هذه الرسالة، لأنه قد علم من سياق السورة مضمون رسالات الله وهو عبادة الله، وفي المقطع حديث عن عاقبة فرعون وقومه، وتهديد ووعيد لكل ظالم. يمتد المقطع من الآية (96) إلى نهاية الآية (108) وهذا هو: [سورة هود (11): الآيات 96 الى 108] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بالمعجزات وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي وبالحجة الواضحة، وقد يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهر الآيات، فيكون من ذكر الخاص بعد العام إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي قومه فَاتَّبَعُوا أي قومه أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ليس فيه رشد ولا هدى وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فكما اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدمهم يوم القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي فأدخلهم النار وله في ذلك الحظ الأوفر من العذاب الأكبر وَبِئْسَ الْوِرْدُ أي المورد الْمَوْرُودُ أي الذي وردوه وكيف يكون أمره رشيدا من هذه عاقبته؟ والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، كما يستعمل الغي في كل ما يذم، وقد شبه فرعون في الآية بالمتقدم الذي يتقدم الماشية إلى الماء، وشبه أتباعه بالماشية، واستعمال لفظة الورد والمورود لا يخفى وجه الإعجاز فيه، لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش والنار ضده، فما أبشعها من إمامة إمامته وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ أي الدنيا لَعْنَةً أي اتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ رفدهم أي بئس العون المعان، أو بئس العطاء المعطى أن يعطوا لعنة الدنيا والآخرة، وبعد أن ذكر الله تعالى خبر مجموعة الأنبياء المذكورين في السورة مع أقوامهم قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي أخبارها أي ذلك النبأ في هذه السورة بعض أنباء القرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ أي عامر وَحَصِيدٌ أي هالك، فبعضها باق، وبعضها لم يبق له أثر، شبه النوع الأول بالزرع القائم على ساقه، وشبه النوع الثاني بالذي حصد وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب ما به أهلكوا، من الكفر، وتكذيب الرسل فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ أي فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله آلهتهم، حجرا كانت أو بشرا الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ

[سورة هود (11): آية 102]

اللَّهِ أي التي يعبدونها ويدعونها من دون الله مِنْ شَيْءٍ فلا نفعوهم ولا أنقذوهم لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي عذابه وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي تخسير وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة، فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى أي: أهلها، أي: وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم وَهِيَ ظالِمَةٌ لنفسها أو لغيرها، وهو إنذار لكل ظالم لنفسه أو لغيره بوخامة العاقبة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ أي مؤلم شَدِيدٌ أي صعب على المأخوذ وهذا تحذير لكل قرية ظالمة وتحذير لكل ظالم فعلى كل ظالم أن يبادر بالتوبة ولا يغتر بالإمهال إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما قص الله من قصص الأمم الهالكة لَآيَةً أي لعبرة وعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي لمن اعتقد صحته ووجوده وبنى على ذلك فحذر وخاف، والآية تتضمن معنى مفهوما من السياق: إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين لعظة واعتبارا على صدق وعودنا في الآخرة، ذلِكَ يَوْمٌ أي يوم القيامة الذي فيه عذاب الآخرة مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمعون للحساب والثواب والعقاب أولهم وآخرهم وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وَما نُؤَخِّرُهُ أي وما نؤخر اليوم المذكور إلا لانتهاء مدة معدودة، أو ما نؤخر هذا اليوم إلا لتنتهي المدة التي ضربناها لبقاء الدنيا. قال ابن كثير: أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من ذرية آدم، وضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة ولهذا قال: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها يَوْمَ يَأْتِ أي يوم القيامة لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أي لا تتكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي من الناس معذب ومنهم منعم فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ الزفير في الأصل: هو أول نهيق الحمار وَشَهِيقٌ هو آخره، أو هما إخراج النفس ورده، والزفير عادة يكون بعد الشهيق، ولكن لما هم فيه من العذاب أصبح تنفسهم زفيرا، وأخذهم النفس شهيقا عياذا بالله من ذلك خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ المراد سماوات الآخرة وأرضها، وهي دائمة مخلوقة للأبد إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من تعذيبهم بغير النار من زمهرير وأنواع أخرى من العذاب، أو المعنى: إلا من شاء ربك إخراجه

[سورة هود (11): آية 108]

بسبب وجود شئ من الإيمان في قلوبهم إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ بالشقي والسعيد وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال ابن كثير: معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله، فله المنة عليهم دائما، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، ونلاحظ أن المقطع الأول من السورة ختم بقوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وهذا المقطع ختم بقوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. والملاحظ أن المقطعين الأول والخامس انتهيا بالكلام عن العاقبة النهائية للكافرين والعابدين، وما بين ذلك كانت القصص تركز على العاقبة الدنيوية للطرفين، والعبرة دائما بالعاقبة، أما ما يكون قبل ذلك من عتو، أو انتصار، أو ظلم، فهذا كله لا يساوي شيئا، وفي هذا درس بليغ للعابدين، فليحرص المسلمون أن يقوموا بحق الله في عبادته، وليحاسبوا أنفسهم على كل تقصير، بملازمة الاستغفار، والعاقبة في الدنيا والآخرة لهم. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ نذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية. كما نلفت نظر أهل البصائر إلى ما نسمع به يوميا- تقريبا- من كارثة تقع في مكان ما في العالم، من غرق، أو خسف، أو حرق، أو غير ذلك، فالغافل يمر بهذا كله

وكأنه شئ عادي، وأصحاب القلوب يرون في هذا كله انتقام الله، ويرون في كل حادثة عبرة، وفي كل عقوبة عظة لأنفسهم أو لغيرهم. 2 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ نذكر بقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (النبأ: 28) وبقوله تعالى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (طه: 108) وفي حديث الصحيحين في موضوع الشفاعة «ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم». 3 - بمناسبة قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ذكر ابن كثير ما رواه أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر عن عمر قال: لما نزلت فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ سألت النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت يا رسول الله علام نعمل؟ على شئ قد فرغ منه أم على شئ لم يفرغ منه؟ فقال «على شئ قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسر لما خلق له». 4 - وفي حكمة قوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ بعد الاستثناء في قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ قال ابن كثير: (لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة، أن ثم انقطاعا، أو لبسا، أو شيئا بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع، كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته، وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ كما قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (الأنبياء: 23) وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقد جاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: «يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» وفي الصحيح أيضا «فيقال: يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا). 5 - من المواطن التي كثر فيها الجدل بين المفسرين الاستثناء الوارد في الآيات الأخيرة من هذا المقطع ومن ثم اقتضى ذلك أن نقف وقفة بهذه المناسبة:

أقوى الاتجاهات على الإطلاق عند المفسرين أن يقال الأشقياء نوعان: نوع في قلوبهم إيمان، ونوع ليس في قلوبهم إيمان، فالاستثناء من أجل أن يظهر الله عزّ وجل أن ليس كل شقي يبقى أبدا، بل إن منهم من شاء إخراجه من النار بعد خلود طويل وهم الذين في قلوبهم إيمان. والسعداء نوعان: سعيد يدخل الجنة ابتداء، وسعيد يتأخر دخوله، إما لكونه من أهل الأعراف، وإما لكونه ينجو بعد عذاب، وهذا النوع خلوده الأبدي قاصر في ابتدائه، فمن ثم ذكر الاستثناء ليبين أن مدة من دوام السموات والأرض ابتداء، لا تكون قسم من السعداء في الجنة. والاتجاه الثاني: أن يقال ذكر الاستثناء في المقامين ليعلمنا الله عزّ وجل أن هذا الخلود ليس واجبا بذاته، بل هو موكول إلى الله، ليبقى المسلم متذكرا أن مشيئة الله مطلقة، ولولا أن الله عزّ وجل ذكر في مكان آخر الخلود الأبدي لأهل الجنة وللكافرين من أهل النار ما فهمنا الخلود الأبدي، وبذلك يعلمنا الله عزّ وجل أن نذكر مشيئته حتى في القضايا القطعية. ولي في الاستثناء فهم لم أره لأحد أذكره وأستغفر الله أن أقول على كتابه ما ليس لي به علم، هذا الفهم هو: أن الاستثناء ورد ليخرج التغير الذي يطرأ على السموات والأرض عند قيام الساعة. ليبين أن الدوام في النار والجنة ليس فيه أي طارئ فيكون المعنى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أمر القيامة فإنه لا يطرأ عليهم مثل هذا الطارئ بل هو الخلود الأبدي الذي لا يتخلف ولا ينقطع إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ من تعذيب أهل نقمته وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من أمر القيامة فإنه لا يكون مثله لأهل الجنة عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي عطاء غير منقطع، ولتوضيح هذا المقام أقول: إن هذا الكون حادث لكنه أبدي، يطرأ عليه طارئ القيامة فيتغير يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فإذا ما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فإنهما يكونان خالدين فيها خلودا يشبه خلود السموات والأرض. وحتى لا يفهم فاهم أن هناك احتمال قيامة ما، بين الله عزّ وجل أن ما شاءه من انقطاع لديمومة السموات والأرض يوم القيامة مستثنى من هذا الدوام.

المقطع السادس

وعندي فهم آخر لهذا الاستثناء لم أر من ذكره وهو: إن المسلم إذا مات دخل الجنة، وأن الكافر إذا مات دخل النار، وهذا وهذا خالدان فيما هما فيه، إلا ما شاء الله، أي عند قيام القيامة فعندئذ يخرجان إلى المحشر ولا نار، حتى يدخلا الجنة والنار مرة ثانية. ولا أرجح من هذه الاتجاهات إلا الأول، لأنه هو الذي رجحه المفسرون الثقات. 6 - من أوائل من طرح أفكارا ضالة في التاريخ الإسلامي الجهم بن صفوان الذي ينسب إليه الجهميون، ومن عقائد هذه الفرقة نفي الصفات للذات الإلهية، ونفي الكلام، والقول بخلق القرآن. ومن عقائدهم فناء الجنة. قال النسفي: كفرت الجهمية بأربع آيات عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أُكُلُها دائِمٌ (الرعد: 96) وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (النحل: 96) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (الواقعة: 33). *** المقطع السادس بين يدي المقطع: رأينا أن محور سورة هود الأمر بالعبادة، ورأينا المقطع الأول وأنه فصل في موضوع العبادة، وفي نهاية العابدين والكافرين، ورأينا المقاطع التالية، كيف أنها مثلت لعاقبة الرافضين والعابدين. والآن يأتي المقطع الأخير، ونلاحظ أنه مبدوء بذكر العبادة ومنته بذكر العبادة: فالآية الأولى منه فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ .. والآية الأخيرة منه وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وفي الوسط قوله تعالى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ... وقوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ... فالمقطع الأخير جاء بعد كل المقدمات التي تجعل عند الإنسان الاستعداد للتطبيق الخالص، ومن ثم فهو مقطع عمل في الغالب. يمتد المقطع من الآية (109) إلى نهاية السورة (123) وهذا هو:

[سورة هود (11): الآيات 109 الى 123] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

التفسير

التفسير: يبدأ المقطع بالنهي عن الشك في ضلال من يعبدون غير الله فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي كل مشرك فعبادتهم باطلة وجهل وضلال ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي حظهم من العذاب، كما وفينا آباءهم أنصباءهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي كاملا. والمعنى: لا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادة هؤلاء كما أصاب أمثالهم قبلهم، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ووعيد للكافرين بالانتقام منهم، وهكذا علمتنا الآية أن نجزم بضلال الكافرين وأن نجزم بسوء عاقبتهم، وإذ مر معنا من قبل ما نفهم منه سنة الله عزّ وجل في استئصال أهل الشرك. وإذ جاء النهي بعد ذلك عن الشك في ضلالهم والوعد بعقابهم، فقد آن الأوان لنعرف سنته تعالى فيمن استجابوا لدعوة الله إذا انحرفوا وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ اختلف في فهمه اجتهادا في محله، واختلف في التأويل ظلما وبغيا، وحدث التفرق والخلاف وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أن لا يعاجل المستجيبين لدعوته بالعذاب المستأصل مع كثرة الذنب والخطأ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعذاب المستأصل لأهل الباطل، ولكن سنته في هؤلاء ليست كذلك وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من العذاب، أو من التوراة فلا تأويل باطل «أي وراءه شك بالكتاب، أو مما هم فيه من الاختلاف أن يكونوا على خطأ فلا طمأنينة قلب مع الباطل والضلال مُرِيبٍ أي بالغ في الريبة وَإِنَّ كُلًّا من المحسنين والمسيئين أي من المختلفين لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي إلا ليجزينهم ربك بعملهم إن خيرا فخير. وإن شرا فشر، أي إلا ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم من إيمان وجحود وحسن وقبيح إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عليم بأعمالهم جميعها، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها. وهكذا علمتنا الآيات الأولى في هذا المقطع أن نجزم بضلال من يعبد غير الله، وأن نجزم بسوء عاقبته، كما علمتنا أن من كان من أهل الكتاب ففيه سنة ماضية ألا يستأصله

[سورة هود (11): آية 112]

الله بعذاب، ولكنه سيحاسبه على عمله، ومن خلال العرض نفهم أن علينا أن لا نختلف في كتابنا، وأن نتمسك بما فيه، وأن نخضع للحق الذي أنزله، فلا نتأول ولا نزل فنكون كاليهود. وإذ استقرت هذه المعاني تأتي الآن مجموعة أوامر ونواه: 1 - فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها غير عادل عنها وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي وليستقم من تاب معك بأن رجع إلى الله مخلصا. 2 - وَلا تَطْغَوْا أي ولا تخرجوا عن حدود الله إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يغفل عن شئ، ولا يخفى عليه شئ، فهو مجازيكم فقفوا عند حدوده. 3 - وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تميلوا إليهم، ولا ترضوا حالهم، ولا تتعاونوا معهم على إثم، ولا تلتحقوا بهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بسبب هذا الركون وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يقدرون على منعكم من عذابه ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أفادت (ثم) هنا استبعاد النصرة أبدا، فالنصرة من الله مستبعدة حال الركون، أي ثم لا ينصركم هو لأنه حكم بتعذيبكم بسبب الركون. 4 - وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أي: غدوة وعشية، دخل في الطرف الأول الفجر، والطرف الثاني الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي وساعات من الليل، والزلف: جمع زلفة وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، دخل في ذلك المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَناتِ مطلقا يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ مطلقا وأعظم الحسنات التي تذهب الذنوب الصلوات الخمس، وفي الحديث «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» ذلِكَ إشارة إلى هذه الأوامر ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي عظة للمتعظين وفي قوله (للذاكرين) تصريح بأن الذي يتذكر هو من تحقق بصفة الذكر، فكان ذاكرا. وَاصْبِرْ ختم هذه الأوامر والنواهي بالصبر لأنه لا يتم شئ من هذه الأوامر والنواهي إلا بالصبر، فلا الاستقامة، ولا الوقوف عند الحدود، ولا عدم الركون للظالمين، ولا إقامة الصلوات تكون إلا بالصبر. والمعنى: اصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه، ثم بشر المطيعين والصابرين وسماهم محسنين فقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل يثيبهم ويزيدهم، وفي هذا إشارة إلى أن المحسنين هم من اجتمع لهم تنفيذ هذه الأوامر والنواهي.

[سورة هود (11): آية 116]

وبعد هذه المجموعة من الأوامر والنواهي: يأتي الآن حض وتوجيه نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان حكمة الاختلاف وغير ذلك مما سنرى. فَلَوْلا أي فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أي أولو فضل، يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ بالنهي عن الكفر والمعاصي إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ أي ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي، والنجاة للناهين وحدهم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الكافرون والساكتون ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي شهواتهم، والمعنى: اتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والترفه، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنئ، ورفضوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونبذوه وراء ظهورهم وَكانُوا مُجْرِمِينَ هذا هو وصفهم الذي يستحقونه الإجرام، وهكذا عجب الله- عزّ وجل- ألا يوجد في القرون الماضية، بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات، والفساد في الأرض إلا قليلا، هم الذين أنجاهم الله- عزّ وجل- عند حلول غضبه، وفجأة نقمته، ثم بين الله عزّ وجل سنته في الإهلاك، فأخبر أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط فقال: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ولم يقل صالحين وإنما قال: مصلحون نزه ذاته تعالى عن الظلم، وجعل من الظلم أن يهلك قرية وأهلها مصلحون، ومن تتبع ما حل بالبلاد والقرى خلال العصور من عذاب فإنه يجد العذاب مرافقا للفساد، ثم بين حكمة الاختلاف وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أي متفقين على الطاعات والإيمان عن اختيار، ولكن لم يشأ ذلك وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي في الكفر وفي الإيمان، ولكن شاء اختلافهم لعلمه بما سيختارونه إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي إلا المرحومين فهؤلاء متفقون على الحق، فهؤلاء عصمهم الله عن الاختلاف، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال مالك: فريق في الجنة وفريق في السعير، أي خلقهم للذي علم أنهم سيصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق، ولم يخلقهم لغير الذي علم أنهم سيصيرون إليه وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (السجدة: 13) أخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره- لعلمه التام وحكمته النافذة- أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار،

[سورة هود (11): آية 120]

وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، وهكذا حضت هذه المجموعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح والاتفاق على الخير، والاجتماع عليه والفرار من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة. ثم ختمت السورة بتبيان حكمة ما ورد فيها وبتوجيهات أخيرة. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين، وخذل أعداءه الكافرين، كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد؛ ليكون لك بمن مضى من أخوانك من المرسلين أسوة، ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وَجاءَكَ فِي هذِهِ أي السورة الْحَقُّ فليست خيالا بل هي وقائع ثابتة وَمَوْعِظَةٌ يرتدع بها وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي وذكرى يتذكر بها المؤمنون، وبهذا ندرك مظهرا من مظاهر هذا الإعجاز في القرآن، كيف أنه اجتمع فيه الحق والتذكير والوعظ، ونادرا ما تجد هذه الأشياء مجتمعة إلا في كلام الله، أو في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من كان على قدم رسوله صلى الله عليه وسلم، إن هذا القرآن- الذي هو كلام الله- قد عرض الحق كله بأسلوب الوعظ والتذكير، وفي ذلك وحده مظهر واضح الدلالة على أنه من عند الله وَقُلْ يا محمد لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما جئت به من ربك على وجه التهديد اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على طريقكم ومنهجكم، وحالكم وجهتكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ أي على طريقنا ومنهجنا وَانْتَظِرُوا أي بنا ما تنتظرون من الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أي أن ينزل بكم من الله ما وعد وأوعد، وقد أنجز الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعده ونصره وأيده، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، ومكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ختمت السورة بقوله وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تخفى عليه خافية، عالم غيب السموات والأرض، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فله الخلق والأمر، وإليه المرجع والمآب، فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم، وإذا كان الشأن كذلك فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي فلتجتمع لك العبادة والتوكل، وقرن العبادة بالتوكل دليل على ارتباطهما ببعضهما فمن لا توكل له لا يستقيم على العبادة. ومن توكل على الله كفاه وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم، وسيجزيك ويجزيهم، وسينصرك وحزبك في الدارين.

كلمة في السياق

قال صاحب الظلال: وهكذا تختم السورة بما بدئت به بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة، والرجعة إلى الله في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون، وأغوار النفس، وأطواء القرون. وهكذا يلتقي جمال التنسيق في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال التوجيه والاتجاه في هذا القرآن. وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. كلمة في السياق: بدأت سورة هود عليه السلام بتبيان أن الحكمة من إنزال القرآن على ما هو عليه من إحكام وتفصيل: أن يعبد الله وحده، ثم بينت السورة في مقاطعها اللاحقة أن الرسل جميعا بعثوا في ذلك، وأن أقوامهم عوقبوا بسبب من إعراضهم عن ذلك، وبين المقطع الخامس أن سنة الله هذه مستمرة في تعذيب الكافرين في الدنيا والآخرة، وإذ اتضح هذا الأمر فإن المقطع الأخير جاء ليؤكد استحقاق الذين لم يستجيبوا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعذاب، كما يحذرنا أن نكون كبني إسرائيل في اختلافهم في الكتاب، وهاهنا يأتي أمر بالاستقامة وإقام الصلاة، وتأتي دعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتختم السورة بالأمر بالعبادة كما كان بدؤها بذلك. فوائد: 1 - يلاحظ أن المقطع الأخير في السورة حوى من جملة ما حوى التوجيهات التالية: أ- الجزم بأن المشركين على ضلال، والجزم بالعقوبة في حقهم. ب- أن المختلفين من أهل الكتاب يمهلون فلا يستأصلون، وحسابهم آت. ج- وجوب الاستقامة، والوقوف عند الحدود، وعدم الميل للظالمين، والركون إليهم، وإقامة الصلاة، ووجوب الصبر. د- وجوب الإصلاح، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. هـ- الإقبال على الله بالعبادة والتوكل، فإذا كانت هذه المعاني كلها قد جاءت في سياق السورة التي محورها العبادة، عرفنا ارتباط هذه المعاني كلها بموضوع العبادة.

2 - في قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ كلام كثير حول «لما» وقد اخترنا أنها هنا بمعنى «إلا» كهي في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (الطارق: 4) وقد طال كلام المفسرين حولها لكثرة القراءات فيها، أما هي في قراءة حفص فلا تحتمل غير ما ذكرنا. 3 - من الأشياء التي يغفل المسلمون عنها كثيرا في عصرنا الموضوع الذي وجهنا إليه قوله تعالى وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ذكر النسفي عن الموفق أنه صلى خلف الإمام، فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له فقال: هذا فيمن ركن فكيف بالظالم، وأفظع الظلم تعطيل كتاب الله ورفضه، وتجد الكثيرين من المسلمين يركنون إلى من عطل كتاب الله ورفضه، ومن الظلم الاعتداء على عباد الله، وكل أنواع الظلم لا يجوز الركون لأهلها، بل تجب معاداتهم قال النسفي: (ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له يموت. فقال دعه يموت) ومن أعظم البلاء أن نرى أن أفظع أنواع الركون يقوم به بعض من يعتبرون- عند العامة- من علماء المسلمين. قال النسفي: وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي: ما من شئ أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا، أي أميرا، فقد كانوا يسمون الأمير عاملا. وهذا إذا كان العامل ظالما. 4 - عن الحسن قال: جعل الله الدين بين لاءين (ولا تطغوا، ولا تركنوا) فانظر هذا الفقه العظيم لدين الله، وانظر كيف يفهم العلماء الربانيون دين الله، وإن أكثر ما يقع فيه الانحراف: الطغيان والركون. فإذا وجد الطاغية ووجد الركون إليه فقد عم البلاء وطم. 5 - مما يعين على فهم قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ الروايات التالية وقد ذكرها جميعا ابن كثير ننقلها عنه مع حذف الأسانيد، واختيار أجمع الروايات. أ- روى الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني عنه أحد استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له».

ب- وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله يتوضأ. وقال: «من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه». د- وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيئا؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا». هـ- روى مسلم في صحيحه ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر». و- وروى الإمام أحمد ... عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة». ز- روى ابن جرير ... عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن» فإن الله قال: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ. ح- روى البخاري ... عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم». ط- روى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قال: قلنا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: «غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».

ي- روى الإمام أحمد ... عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة، فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا أبا عثمان، ألا تسألني لم أفعل هذا؟، قلت: ولم تفعله؟، قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق. وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. ك- روى الإمام أحمد ... عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن». ل- روى الإمام أحمد ... عن أبي ذر قال: يا رسول الله أوصني، قال: «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» قال: قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: «هي أفضل الحسنات». م- روى الحافظ أبو يعلى الموصلي ... عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبد: لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست (¬1) ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات». ن- روى الحافظ أبو بكر البزار ... عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله ما تركت من حاجة ولا داجة (¬2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال: بلى. قال: «فإن هذا يأتي على ذلك». 6 - بمناسبة قوله تعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ذكر ابن كثير الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» نسأل الله أن يرزقنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يرزقنا العفو والعافية وحسن الختام. 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ نقول: إن هؤلاء هم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضا «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على ¬

_ (¬1) أي محت. (¬2) الداجة: هي ما كانت أقل شأنا من الحاجة.

كلمة أخيره في سورة هود

ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي». رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. وحتى الفرقة الناجية إذا حدث بغي وحسد فيما بين أبنائها حدثت فرقة. قال قتادة: أهل رحمة الله أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبناؤهم. 8 - من الأسباب التى فهمناها من السورة، أن عذاب الاستئصال يمكن أن يصيب الكافرين كما يمكن أن يصيب قرى فسدت، ولم يبق فيها مصلحون، ومما فهمناه من السورة أن المختلفين في الكتاب يمهلون: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ومن هاهنا نفهم سر بقاء فرق أهل الكتاب، كما نفهم سر بقاء الفرقة الإسلامية الضالة وعدم استئصالها. فذلك جزء من السنن الإلهية. كلمة أخيره في سورة هود: قلنا إن محور سورة هود من سورة البقرة، هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقد رأينا أن السورة في مقاطعها جميعا فصلت موضوع العبادة وما يدخل فيها وما ينبثق عنها، وما هي عاقبة أهلها وعاقبة المعرضين عنها، وكل ذلك على نسق عجيب تلتقي فيه البدايات بالنهايات وتنسجم الأواسط مع هذه البدايات والنهايات، وكل ذلك يجري على نسق واحد مع الوحدة القرآنية الشاملة، فتفصل سورة هود في محورها من سورة البقرة، وفيما ينسجم مع تفصيل سورة يونس لمحورها من سورة البقرة كذلك. ........... جاء في سورة هود الدرس الأول، وفيه تقرير معان، ثم جاءت قصص توضح هذه المعاني، ثم جاء درس أخير وفيه تعقيبات وتوجيهات تنسجم مع الدرس الأول ومع قصص السورة. يقول صاحب الظلال ذاكرا ما في الدرس الأخير من تعقيبات تنسجم مع مسرى السورة وسياقها: «والتعقيب الأول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص:

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ* وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ* وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحيا بالخوف من عذاب الآخرة الذي يعرض في مشهد شاخص من مشاهد يوم القيامة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ* وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ* يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ. يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى، ومن مشهد القيامة، لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد- صلى الله عليه وسلم- شأنهم شأن من قبلهم في الحالين. وإذا كان عذاب الاستئصال لا يقع عليهم في الأرض، فذلك لكلمة سبقت من ربك إلى أجل، كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلافهم فيما جاءهم من كتاب. ولكن هؤلاء سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد. فاستقم أيها الرسول على طريقتك أنت ومن تاب معك، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وأشركوا، وأقم الصلاة واصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ* وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ* وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إلا قليل من الذين ينهون عن الفساد في الأرض. أما الكثرة فكانت ماضية فيما هي فيه، فاستحقت الهلاك. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ، وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ* وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ.

وكشف عن سنة الله في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدرا من الاختيار: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وفي النهاية يسجل السياق غرضا من أغراض هذا القصص هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر الرسول أن يلقي للمشركين كلمته الأخيرة، ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب الله. وأن يعبد الله ويتوكل عليه، ويدع له أخذ الناس بما يعملون: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ* وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ. فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وبهذا ينتهي الكلام عن سورة هود عليه السلام، وهذا أوان الشروع في تفسير سورة يوسف عليه السلام. ***

سورة يوسف

سورة يوسف وهي السورة الثانية عشرة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الأولى من قسم المئين، وآياتها مائة وإحدى عشرة (وهي مكية)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

نقل عن الألوسي في سورة يوسف عليه السلام

نقل عن الألوسي في سورة يوسف عليه السلام: قال الألوسي: (وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه على أصحابه زمانا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت، وقيل: هو تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعلت إخوة يوسف عليه السلام به، وقيل: إن اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما انتهى إليه فنزلت، وقيل: إن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فنزلت. ويبعد القولين الأخيرين- فيما زعموا- ما أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال: يا محمد من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم: والله إن محمدا ليقرأ القرآن، كما أنزل في التوراة، فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك، وفي القلب من صحة الخبر ما فيه، ووجه مناسبتها للتي قبلها اشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم السلام من الأقارب، وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب، وأيضا قد وقع فيما قبل فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وقوله سبحانه وتعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده، وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما هو أقوى شاهد على الرحمة، وقد جاء عن ابن عباس. وجابر بن زيد أن يونس نزلت. ثم هود. ثم يوسف، وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة). كلمة في سورة يوسف ومحورها: تبدأ سورة يوسف بقوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ .... وتنتهي سورة يوسف بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ* ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. تأمل هذه البداية والنهاية وتذكر: أن سورة يونس جاءت مفصلة للآية الأولى في

البقرة: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وأن سورة هود مفصلة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وسنرى أن سورة الرعد تأتي مفصلة لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها .... فالمفروض على حسب نظريتنا التي مشينا عليها أن يكون محور سورة يوسف ما بين قوله تعالى في البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وأول آية تصادفنا بعد قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ... هي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وإذا تأملنا مقدمة سورة يوسف ونهايتها، أدركنا أن محور السورة هو هذا. فسورة يوسف تبدأ بتقرير أن منزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم هو الله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه هذا القرآن كان من الغافلين، وتختم السورة بنفي أن يكون هذا القرآن مفترى من دون الله، وما بين ذلك تأتي قصة يوسف عليه السلام، بتفصيل وترتيب عجيبين ليكون ذكرها في هذا المقام دليلا على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أنه لا يرقى إليه ريب ولا شك، وأنه لا يكون إلا من عند الله بما حواه من تفصيل لكل شئ وهداية ورحمة. وإذن فسورة يوسف فيها الدليل على: أن منزل هذا القرآن هو الله، وأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون مكذوبا على الله، وأن ذكر قصة يوسف على مثل هذا البيان والتفصيل والكمال والعظة والصدق والدقة والبلاغة في اللفظ والأسلوب والعرض وبما يصدق ما في الكتب السماوية السابقة، كل ذلك دليل على أن مثل هذا الكمال لا يصدر إلا عن المحيط علما بكل شئ وهو الله جل شأنه. إن محور سورة يوسف هو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ إن السورة تؤكد أن هذا القرآن تنزيل من الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وتقيم الدليل على ذلك بما حوته من إعجاز.

لقد ختمت سورة يوسف بقوله تعالى: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. فهذا الختام يوحي أن سورة يوسف علامة ونموذج على هذا التصديق، وعلى هذا التفصيل ... ومن تأمل ما وصلنا من الكتب السابقة، وجد دليل هذا التفصيل والتصديق، ولو أن الكتب السابقة وصلتنا بلا تحريف ولا تبديل، لكنا أقدر على التدليل، ولكن إذا كان إرميا من عهده يتحدث عن أقلام النساخ الكاذبة، فماذا نقول نحن؟!. ومع كل التحريف والتبديل فإننا نجد مع ذلك كيف أن هذا القرآن تفصيل لكل شئ وتصديق الذي بين يديه. ولنضرب مثالا على التفصيل: نلاحظ مثلا أن أسفار موسى عليه السلام الخمسة، والتي يسميها بعضهم التوراة، والتي نؤكد أنها ليست التوراة، وإنما التوراة جزء منها مع التحريف والتبديل كما أثبتنا ذلك أثناء الكلام عن سورة الأعراف- هذه الأسفار الخمسة تكاد تكون موجودة في القرآن، وهي جزء من المعاني الموجودة فيه. فسفر التكوين مثلا، والذي يتألف من قصة آدم، ثم قصة نوح، ثم قصة إبراهيم، ثم قصة يعقوب ويوسف، نجده كله تقريبا في القرآن، ما عدا حشوا لا يترتب عليه فائدة، أو كذبا مختلقا كما سنرى. وسفر الخروج مثلا يكاد يكون محتوى في سورة الأعراف وغيرها. وسفر العدد يكاد يكون محتوى في سورة الأعراف، وسورة المائدة، وسفر اللاويين وسفر التثنية تجدهما مبثوثين في القرآن في أمكنة متفرقة. وإذا تأملت ما في الزبور من معان، وما في الإنجيل من قصص ومعان، وأخبار الرسل، وتاريخ بني إسرائيل، تجده كله يكاد يكون موجودا في القرآن، حتى إن قارئ القرآن، وقارئ كتب العهد القديم والجديد، يكاد لا يستغرب ما يقرأ، فإذا كان هذا بعض ما في هذا القرآن أدركنا رشحة من رشحات كون هذا القرآن وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ. وأما كون هذا القرآن وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فإنك تجد أن كثيرا مما تعرض له القرآن موجودة أصوله في الكتب السابقة، ولو أن هذه الكتب قد وصلتنا كما أنزلت لرأينا المطابقة الكاملة، ولكن هذه الكتب حرفت وبدلت. ولنضرب مثالا على التحريف والتبديل الذي يراه القارئ بوضوح في سفر التكوين، الذي ذكر فيه قصة يوسف وإخوته.

تجد مثلا في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين كلاما عن سارة، وشيخوختها، بينما نجد في الإصحاح العشرين أنها من الجمال بحيث تكون محل طمع الملوك. وفي الإصحاح الحادي والعشرين: كلام عن هاجر وإسماعيل، وأن إبراهيم طرحهما في برية بئر السبع، مع أن البداهة التاريخية تحكم أن العرب المستعربة من نسل إسماعيل، وقريش من نسل إسماعيل، والعرب أعرف الخلق بأنسابها، ولم تزل قصة زمزم والحرم متوارثة عند العرب، فأي تحريف مثل هذا التحريف!. وفي الإصحاح الثاني والعشرين دعوى أن الذبيح إسحاق مع أن الإصحاح يقول «خذ ابنك وحيدك» فكيف يكون الذبيح إسحاق وهو ليس الابن الوحيد لإبراهيم بنص التوراة نفسها. ونلاحظ أيضا أن التوراة الحالية تذكر أكثر من تعليل لتسمية بئر السبع ففي كل مرة يذكر سبب يختلف عن الآخر للتسمية، وهذا يدل على التناقض. وكثير من الإصحاحات تنسب الزنا للأنبياء بالبنات وغيرهن. وفي الإصحاح الخامس والثلاثين نجد العبارة التقليدية التي تدلل على أن كتابة هذه الأسفار كانت متأخرة جدا وهي عبارة «إلى اليوم». كما نلاحظ في هذا الإصحاح أنه يذكر أن رأوبين بن يعقوب زنى بسرية أبيه وفي الإصحاح الثامن والثلاثين أن يهوذا زنى بكنته، وأمثال هذا السخف كثير كل هذا وأمثاله مما أشرنا إلى بعضه أثناء الكلام عن سورة الأعراف يرينا مقدار التحريف الذي حدث في هذه الأسفار، ومن ثم كان القرآن مصدقا بالجملة لما بين يديه مما نراه الآن، ولو كان التحريف لم يطرأ لرأينا التصديق التفصيلي مع التصديق الإجمالي: وإذا كانت التوراة الحالية قد كتبت في عصور متأخرة جدا- كما تشهد نصوصها- وأعظم ما يشهد لذلك ما نقلناه من قبل، وهو ما ورد في آخر سفر التثنية في الإصحاح الرابع والثلاثين عن موت موسى، ودفن في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم». فهذا يدل على أن الأسفار ليست التوراة بل فيها بعض التوراة ويدل على أن هذه الأسفار الخمسة كتبت بعد آماد متطاولة جدا.

ومن ثم نجد التخاليط، والتحريف، والتبديل، والنقص، والإسفاف، ونعلم فضل الله على هذه الأمة إذ جعل قرآنها محفوظا بحفظه، ونعلم أن القيمة التاريخية للروايات السابقة لا تساوي شيئا، ومن ثم نرى أن النقل عن هذه الكتب يعطيها اعتبارا لا تستحقه لخيانة أهلها فيها، وتقصيرهم في حفظها، ولولا أن رسولنا عليه الصلاة والسلام سمح لنا أن نحدث عن بني إسرائيل ما نقلنا، وبمناسبة الكلام عن قصة يوسف عليه السلام نقول: إن قصة يوسف في سفر التكوين تمتد من الإصحاح السابع والثلاثين، إلى نهاية الإصحاح الخمسين، تستوعب حوالي (24) صفحة مكتوبة بحروف صغيرة، وكثافة سطور، ولكن شتان بين الموجود في القرآن والموجود هناك، إن في الأسلوب، أو العرض، أو البلاغة، أو الإحاطة والشمول، أو في ذكر التفاصيل التي تحتاجها العبرة، ونفي الحشو الذي لا يترتب عليه شئ، هذا مع الاختصار، وفوق كل هذا فهذه رواية الله لهذه القصة لم تشب ولم تخالط، وتلك رواية الخونة والكاذبين والمحرفين، وكثيرا ما نقل المفسرون المسلمون عن التوراة في تفسير سورة يوسف على ما فيها، ونحن سنسير على سننهم فننقل في الحدود التي فصلت معنى ذكره القرآن، ولا نلتفت إلى ما سوى ذلك، وحتى هذا الذي ننقله نحب أن نذكر في شأنه أننا لا نذكره إلا لمجرد الاستئناس، ومن تذوق طعم الحق في هذا القرآن عرف نوع طعم ما سواه، وإذ جرنا الكلام إلى هذه النقطة ننقل ما ذكره ابن كثير عند قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ في هذه السورة لمناسبته هذا المقام مع حذف الأسانيد وترك المكرر قال: (ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة، المشتملة على مدح القرآن، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب، ما رواه الإمام أحمد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال: فغضب، وقال «أمتهوكون (¬1) فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» وروى أيضا ... عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها ¬

_ (¬1) التهوك: هو التحير.

عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، قال: فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين». وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي ... عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالسا عند عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس (¬1)، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم، فضربه بقناة معه، قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس، فجلس فقرأ عليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... إلى قوله تعالى .. لَمِنَ الْغافِلِينَ فقرأها عليه ثلاثا وضربه ثلاثا فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال، قال: مرني بأمرك أتبعه، قال: انطلق فامحه، بالحميم (¬2) والصوف الأبيض، ثم لا تقرؤه ولا تقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة، ثم قال: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا في يديك يا عمر؟» قال: قلت: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه. واختصر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية؛ فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون» فقال عمر: فقمت، فقلت: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبك رسولا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد روى الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ... عن سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة (¬3)، فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين. يقولان: إن ¬

_ (¬1) السوس: بلدة بخوزستان دانيال. (¬2) الحميم: هو الماء الساخن. (¬3) أي: صحفا.

رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة، وإن نهانا عنها رفضناها، فلما قدما عليه قالا: إنا بأرض أهل الكتاب، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا، أفنأخذ منه أو نترك؟ فقال: لعلكما كتبتما منه شيئا، فقالا: لا، قال: سأحدثكما: انطلقت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني، فقلت: هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال: نعم. فأتيت بأديم، فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرع (¬1)، فلما رجعت قلت: يا نبي الله، وأخبرته، قال: «ائتني به» فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب، فلما أتيت به قال: «اجلس اقرأ علي» فقرأت ساعة، ثم نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يتلون، فتحيرت من الفرق، فما استطعت أن أجيز منه حرفا، فلما رأى الذي بي رفعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه وهو يقول: «لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا» حتى محا آخره حرفا حرفا. قال عمر رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمة، قالوا: والله ما نكتب منه شيئا أبدا، فخرجا بصفنتهما، فحفرا لها فلم يألوا أن يعمقا، ودفناها، فكان آخر العهد منها. وهكذا روى الثوري ... عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه. وروى أبو داود في المراسيل ... عن عمر نحوه. والله أعلم.) نقلنا هذه النقول بين يدي سورة يوسف عليه السلام، ليعلم أن ما سننقله أثناء تفسيرها ليس من أجل أن نستهدي فيه، بل إما لنرده مقيمين الحجة على أهله، أو لنستأنس حيث استأنس العلماء في قضية يحتملها النص القرآني، أو لنقارن. ............ تتألف سورة يوسف عليه السلام من مقدمة، وقصة وخاتمة، والقصة نفسها تتألف من مشاهد فلنبدأ عرض المقدمة. ¬

_ (¬1) الأكرع: جمع كراع وهو ما دق من عظم الساق.

مقدمة سورة يوسف عليه السلام

مقدمة سورة يوسف عليه السلام وهي ثلاث آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) التفسير: الر هي هنا تؤدي ما يؤديه أمثالها من إشارة إلى الإعجاز، ومن إشارة إلى مفاتيح الوجدة القرآنية، ومن إشارة إلى جرس السورة، إلى غير ذلك تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن الذي من خصائصه أنه واضح جلي، يفصح عن كل الأشياء بغاية البيان فيفسرها ويبينها. والإشارة في تلك إلى آيات هذه السورة الظاهر أمرها في الإعجاز، والتي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا هذا القرآن قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموا معانيه، وتعملوا، وتتحققوا. فتكونوا عقلاء حقا، والمنة بنزول القرآن على العرب واضحة لما في ذلك من تشريف للعرب والعربية، والمنة على العالم بنزول هذا القرآن بهذه اللغة. لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني فهي أشرف اللغات، كما أن القرآن أشرف الكتب، كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف الرسل، وقد نزل القرآن في أشرف البقاع، بسفارة أشرف الملائكة، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة: وهو رمضان. فكمل من كل الوجوه. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ القاص: هو الذي يأتي بالقصة على حقيقتها. والقصص إما بمعنى

فوائد

المقصوص، أو بمعنى الاقتصاص. واشتقاق القصص من قص أثره إذا اتبعه، لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، وعلى أن معنى القصص: الاقتصاص، يكون المعنى: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص، والمقصوص يدل عليه ما بعده. والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب، فإنك لا ترى اقتصاصه في كتب الأولين مقاربا لاقتصاصه في القرآن، وعلى أن معنى القصص المقصوص يكون المعنى: نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث. وإنما كان أحسن لما يتضمن من العبر والحكم والعجائب، عدا عن كونه حقا وواقعيا بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي بإيحائنا إليك هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل الوحي لَمِنَ الْغافِلِينَ يعني وإن الشأن والحديث إنك كنت من قبل إيحائنا إليك هذا القرآن من الجاهلين به. فوائد: 1 - من الأسباب التي تجعل القصص القرآني أحسن القصص أن غيره إما واقعي، أو خيالي. فإن كان خياليا فإنه لا يصلح أن يكون هاديا ولا موجها، ولا يصلح أن يكون ميزانا يوضع فيه كل شئ في محله، من عواطف، وعقلانيات، وغير ذلك، وإن كان واقعيا فقد يغيب بعضه أو يزاد عليه، أو لا يكون مغطيا للموضوع بما يشمل الزمان والمكان، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة. أما القصة القرآنية فنجدها قد استكملت ما لم يستكمل في غيرها، هذا مع كونها جاءت بأبلغ عبارة، وأعظم أسلوب وأوجز عرض، هذا مع أنك تجد في كل آية من المعاني والتوجيهات والهداية ما لا يحيط به إلا الله الذي أنزله. 2 - في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ دليل على أن التذكر الكامل لا يكون إلا بهذا القرآن، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق فطرة، وأصفاهم قلبا، وأعظمهم عقلا. كان من قبل القرآن غافلا، فما بال غيره! فلا تذكر إلا بهذا القرآن. وبهذا الوحي. وكل طريق آخر للتذكير طريق قاصر، ومن مظاهر الكمال في تذكير القرآن أنه يذكر بالغيب والشهادة في شئون الدنيا والآخرة، بما يسع الخلق، ويدل على الخالق بما يسع النفس والعقل والقلب والروح ... 3 - ورد في أسباب نزول قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ... أكثر من رواية ذكرها ابن كثير وهذه هي مع حذف

كلمة في السياق

الأسانيد: روى ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فنزلت: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وروى أيضا ... عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن قال: فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فأنزل الله عزّ وجل الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثم تلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا؟ فأنزل الله عزّ وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية. وذكر الحديث. ورواه الحاكم أيضا. وروى ابن جرير بسنده عن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة، فقالوا: يا رسول الله حدثنا. فأنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ثم ملوا ملة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث، ودون القرآن- يعنون القصص- فأنزل الله عزّ وجل الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الآية، فأرادوا الحديث فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة يوسف هو قوله تعالى في سورة البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا. ونلاحظ أن المقدمة ذكرت أن الله عزّ وجل يقص في هذا القرآن أحسن القصص، وكيف أن محمدا عليه الصلاة السلام كان قبل الوحي غافلا، فلم يكن متعلما ولا مقبلا على التعلم، وقد وصف القرآن في هذه المقدمة بالبيان، فإن يكون كتاب هذا شأنه في مثل هذا البيان، وفي مثل هذا الحسن، وفي اختيار القصة الهادفة، وأن يكون منزلا على مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أميته، وعدم تعلمه، إن هذا كله لا يمكن أن يكون، لولا أن هذا القرآن من عند الله، فالسورة إذن تعالج موضوع الريب والشك بشكل يختلف عما عالجته سور أخرى، فإذا اتضح هذا فلننتقل إلى عرض مشاهد قصة يوسف عليه السلام: *** المشهد الأول ويمتد من الآية (4) إلى نهاية الآية (6) وهذا هو:

التفسير

[سورة يوسف (12): الآيات 4 الى 6] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) التفسير: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ أي اذكر يا محمد قصة يوسف إذ قال لأبيه. وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام جميعا يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ من الرؤيا وهي المنام لا الرؤية أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ الشمس والقمر هما أبواه، والأحد عشر كوكبا إخوته. هذا هو تأويله الذي سنراه في آخر السورة. وقد فهم يعقوب الرؤيا التي يشير تعبيرها إلى خضوع إخوته له، وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك فيبغون له الغوائل حسدا منهم له. ولهذا قال له قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيحتالوا لك حيلة يهلكونك فيها إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة، فيحملهم الشيطان على الحسد والكيد. وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الاجتباء الذي دلت عليه رؤياك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي يختارك ويصطفيك لنبوته وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير الرؤيا وتفسيرها، أو تأويل أحاديث الأنبياء، والأول أقوى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي بإرسالك، والإيحاء إليك، وإدخالك الجنة. وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي أهل يعقوب وهم نسله، وإتمام نعمته عليهم بأن يصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وهو الخليل وَإِسْحاقَ ابن إبراهيم إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ يعلم من يحق له الاجتباء حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة رؤيا يوسف عليه السلام يذكر بعض المفسرين حديثا في أسماء هذه الكواكب، وهو حديث مردود من حيث السند. 2 - ومن وصية يعقوب لابنه يوسف عليه السلام بعد أن قص عليه الرؤيا. أخذ ابن كثير هذا الأدب. قال ابن كثير: ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر كما ورد في حديث «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود». 3 - يلاحظ أن التوراة الحالية المحرفة تذكر أن أم يوسف ماتت يوم ولدت بنيامين، ومن ثم فإن من سيسجد له لن تكون أمه المباشرة بل هي زوجة أبيه، وهذا أحد اتجاهين عند المفسرين. 4 - بمناسبة ذكر رؤيا يوسف عليه السلام يذكر ابن كثير حديثين متعلقين في موضوع الرؤيا. قال: ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره» وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت». 5 - روى الإمام أحمد عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» ورواه البخاري كذلك. وروى البخاري أيضا عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال «فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا: نعم، قال: «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا». 6 - يلاحظ أن الأب قد أطلق على الجد وجد الجد في قوله تعالى: عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ. 7 - قصة يوسف أصل أصيل في فهم موضوع الرؤى، وللرؤى في حياة البشرية

أهمية كثيرة، والرؤيا الصادقة هي البقية الباقية من معاني النبوة، لأن الرؤيا في حق الأنبياء وحي قال ابن عباس: (رؤيا الأنبياء وحي). 8 - في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر التكوين قصة رؤيا يوسف وهذه هي: (ثم حلم أيضا حلما آخر وقصه على إخوته، فقال: إني حلمت حلما أيضا، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي وقصه على أبيه، وعلى إخوته. فانتهره أبوه، وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمت به، هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض. فحسده إخوته، وأما أبوه فحفظ الأمر) هذا كل ما ذكر حول قصة الرؤيا على أبيه، ومن ثم نجد أن القرآن صدق ما قبله إجمالا، وقد فصل القرآن ما لم يفصله النص التوراتي المنقول إلينا. وبمناسبة الكلام عن رؤيا يوسف قال صاحب الظلال: (وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام، وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة. إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد. ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك في مصر. وثانيا من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقيق رؤى تنبئية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده .. لأنه موجود بالفعل. والسبب الأول يكفي .. ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت. فما هي طبيعة الرؤيا؟. تقول مدرسة التحليل النفسي: إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي. وهذا يمثل جانبا من الأحلام. ولكنه لا يمثلها كلها. (وفرويد) ذاته- على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته- يقرر أن هناك أحلاما تنبئية. فما طبيعة هذه الأحلام التنبئية؟. وقبل كل شئ نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفته لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها. إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب، وبعض سنن الله في هذا الوجود.

المشهد الثاني

ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤيا على هذا النحو .. إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل، أو الحاضر المحجوب. وإن ما نسميه ماضيا أو مستقبلا إنما يحجبه عنا عامل الزمان، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان. وإن حاسة ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة، ليست علما ولكنها استشفاف، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس، وفي الرؤى لبعضهم، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان، أو هما معا في بعض الأحيان. وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئا عن حقيقة الزمان. كما أن حقيقة المكان ذاتها- وهي ما يسمى بالمادة- ليست معلومة لنا على وجه التحقيق: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وأستطيع أن أكذب كل شئ قبل أن أكذب حادثا وقع لي، وأنا في أمريكا وأهلي في القاهرة. وقد رأيت فيما يرى النائم ابن أخت لي شابا وفي عينه دم يحجبها عن الرؤية. فكتبت إلى أهلي أستفسر عن عينه بالذات. فجاءني الرد بأن عينه قد أصيبت بنزيف داخلي وأنه يعالج .. ويلاحظ أن النزيف الداخلي لا يرى من الخارج، فقد كان منظر عينه لمن يراها بالعين المجردة منظرا عاديا. ولكنها كانت محجوبة عن الإبصار بالنزف الداخلي في قاعها. أما الرؤيا فقد كشفت عن هذا الدم المحجوب في الداخل. ولا أذكر غير هذه لأنها وحدها تكفي.) ولننتقل إلى المشهد الثاني في القصة: *** المشهد الثاني ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (20) وهذا هو: [سورة يوسف (12): الآيات 7 الى 20] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)

التفسير

التفسير: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ لِلسَّائِلِينَ أي علامات ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شئ، وعبرة ومواعظ لمن سأل عن قصتهم واستخبر عنها، فإنها خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه. وفي ورود هذه القصة في القرآن آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن هذا القرآن من عند الله؛ إذ تلاها محمد صلى الله عليه وسلم على الخلق دون أن يسمعها من أحد، ودون أن يتلو كتابا إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين، وهو أخوه الشقيق من أمهما راحيل أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ

[سورة يوسف (12): آية 9]

عُصْبَةٌ أي جماعة فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة والمعنى: أنه يفضلهما في المحبة علينا وهما صغيران لا كفاية فيهما ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقته، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في غلط في تدبير أمر الدنيا، إذ لو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا، وخطؤه عندهم أن قدم يوسف وأخاه عليهم وأحبهما أكثر اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي أرضا مجهولة بعيدة عن العمران، يقولون: هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم، أعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم. إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحون منه وتخلون أنتم بأبيكم. ومعنى يخل لكم وجه أبيكم: أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد يوسف أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب. أو من بعد قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ أي تائبين إلى الله مما جنيتم عليه، أضمروا التوبة قبل الذنب. أو المعنى: أو يصلح حالكم عند أبيكم ومعه قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أجمله لأنه لا فائدة من تعيينه لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، صرفهم الله عن قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة. ومن التمكين له في مصر وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في مقر البئر، وما غاب منه عن عين الناظر فذلك أقل من القتل لأن القتل عظيم يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ به شيئا. أي إن كنتم عازمين على ما تقولون. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الفرع الذي لا ذنب له وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل والخطر عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه، ورقة عظمه، مع مكانه من الله، ممن أحبه طفلا صغيرا، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه. يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما. رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه. ولما تواطئوا على أخذه وطرحه في البئر قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أي لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونشفق عليه، وهذه توطئة ودعوى، وهم يريدون خلاف ذلك. دل هذا على أن عادته حفظه منهم، وأنه كان متخوفا عليه منهم، لا كما تزعم الرواية الحالية للتوراة المحرفة أن يعقوب أرسله إليهم

[سورة يوسف (12): آية 12]

ابتداء، وأن التآمر عليه كان بعد إذ رأوه قادما من عند أبيه، فهذا يتنافى مع الفراسة التي عليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَرْسِلْهُ مَعَنا أي ابعثه معنا غَداً يَرْتَعْ أي يتسع في أكل الفواكه وغيرها وَيَلْعَبْ بما يباح كالصيد والرمي والركض وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي إني ليحزنني ذهابكم به. أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع. وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة، ولما كان عليه من الكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ أي وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم، فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، اعتذر إليهم بأن ذهابهم به مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، وأنه يخاف عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه، برعيهم ولعبهم. فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي فرقة مجتمعة مقتدرة على الدفع إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أي إن لم نقدر على حفظ بعضنا فنحن إذا عاجزون عن حماية أي شئ، ومن ذلك مواشينا وغيرها. وقد أجابوا عن عذره الثاني دون الأول، لأن الأول كان يغيظهم فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي وعزموا على إلقائه في البئر، وفي قوله تعالى وَأَجْمَعُوا تبشيع لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب، وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراما وبسطا وشرحا لصدره وإدخالا للسرور عليه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطيبا لقلبه وتثبيتا. قال النسفي: أوحى إليه في الصغر، كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا أي لتحدثن إخوتك بما فعلوه بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف، لعلو شأنك، وكبرياء سلطانك، وفي ذلك إشعار له ألا يحزن مما هو فيه، فإن له من ذلك فرجا ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم ويعليك، ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع، وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك. ويحتمل أن يكون المعنى: وأوحينا إليه وهم لا يشعرون. أي آنسناه بالوحي، وأزلنا عن قلبه الوحشة وهم لا يشعرون لتنبئنهم بأمرهم هذا، والأول أقوى وأوجه وأصح. وسياق القصة يشهد له وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في ظلمة الليل يَبْكُونَ مظهرين الأسف والجزع والتغمم لأبيهم على يوسف. والظلمة أستر للمعتذر الكاذب. وأنسب للمتصنع. قال الأعمش: لا تصدق باكية بعد إخوة

[سورة يوسف (12): آية 17]

يوسف. وفي كلمة الأعمش تنبيه كريم للمسلم ألا يكون غرا. ثم قالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو، أو في الرمي وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي ثيابنا وأمتعتنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وهو الذي كان قد جزع منه وحذر منه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فإنك لا تصدقنا لشدة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا مع أن واقع الحال أننا صادقون وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب مفترى من أجل أن يؤكدوا ما تمالئوا عليه من المكيدة. ولكن ذلك لم يرج على نبي الله يعقوب. بل قال لهم معرضا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ زينت أو سهلت أَمْراً عظيما ارتكبتموه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، أي فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، والصبر الجميل: هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي على الرزء فيه، أو على ما تذكرون من الكذب والمحال. ثم أخبر تعالى عما جرى ليوسف عليه السلام في الجب حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيدا فريدا. وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة تسير، والسياق يعرفنا إنها سائرة إلى مصر فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلى دَلْوَهُ أي أرسل الدلو ليملأها، ويظهر أن يوسف تشبث بالدلو، فنزعه وأخرجه واستبشر به قالَ يا بُشْرى وفي قراءة يا بشراي هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً أي وأخفوه متاعا للتجارة، إذ البضاعة ما يقطع من المال للتجارة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عليم بما فعل الجميع وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقدرا سابقا، وفي هذا درس لرسولنا عليه الصلاة والسلام وأتباعه أن الله عالم بما يصيبهم من الأذى، وهو قادر على الإنكار. ولكنه سيملي للظالمين ثم يجعل العاقبة والحكم عليهم كما جعل ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي وباعوه بثمن مبخوس أي ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا. وهل البائع هنا السيارة في مصر كما تدل الآية اللاحقة، أو إخوة يوسف. قولان للمفسرين. رجح ابن كثير أن البائع هنا إخوته، وعلل فقال: لأن قوله وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ إنما أراد أخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه. فترجح من هذا أن الضمير في شروه إنما هو لإخوته. أقول: والذي رجحه ابن كثير هو

فوائد

الذي يتفق مع رواية التوراة الحالية. وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك هذا الرأى. دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ هذا تفسير للثمن البخس الذي باعوه فيه، ومعنى معدودة أي قليلة تعد عدا. ولا توزن لقلتها. ورواية التوراة الحالية كما سنرى، أنهم باعوه بعشرين درهما وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ومن ثم باعوه بثمن طفيف. ويحتمل أن يكون المعنى واشترى الرفقة يوسف من إخوته، وكانوا فيه غير راغبين لأنهم اعتقدوا أنه آبق. وأن وجوده في البئر بسبب فراره من أسياده، وأن أسياده باعوه لهم لأن من طبعه الإباق أي الفرار من أسياده. وقد ذهب قتادة إلى أن الضمائر كلها في الآية تعود على السيارة. والمعنى وباعه السيارة في مصر بثمن بخس، وكانوا فيه من الزاهدين، بسبب أنهم في الأصل لم يدفعوا فيه ثمنا ولم يعرفوا له قيمة. ولو كنا نثق برواية التوراة الحالية ما التفتنا إلى تفسير قتادة، ولكن لعدم ثقتنا بروايتها ذكرناه. لأنه المتبادر إلى الذهن من السياق ولا يترتب على الخلاف عمل، والعبرة قائمة على أي من المحملين حملنا الآية. فوائد: 1 - إخوة يوسف كما هم مذكورون في التوراة الحالية: 1 - رأوبين بن ليئة وهو أكبرهم سنا. 2 - شمعون بن ليئة وهو الثاني في السن. 3 - لاوي بن ليئة وهو الثالث في السن. 4 - يهوذا بن ليئة وهو الرابع في السن. 5 - دان بن بلهة جارية راحيل وهو الخامس في السن. 6 - نفتالي بن بلهة وهو السادس في السن. 7 - جاد بن زلفة جارية ليئة وهو السابع في السن. 8 - أشير بن زلفة وهو الثامن في السن. 9 - يساكر بن ليئة وهو التاسع في السن. 10 - زبولون بن ليئة وهو العاشر في السن. 11 - يوسف بن راحيل وهو الحادي عشر في ترتيب السن. 12 - بنيامين بن راحيل وهو أصغر الإخوة على حسب رواية التوراة الحالية وبه ماتت أمه راحيل حين ولادته.

وعلى هذا فإن الشمس والقمر: أبوه وزوجة أبيه. 2 - في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر التكوين من التوراة الحالية. أن سن يوسف عند ما حلم أحلامه سبع عشرة سنة، وفي هذا الإصحاح «فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام» وفي هذا الإصحاح قصة التآمر والتنفيذ مخلوطة بكثير من التحريف، ومن تأمل الإصحاح وجده يدل على ما فيه من تحريف، فالتآمر والتنفيذ كانا في الإصحاح في ساعة واحدة، ومع أن الإصحاح يذكر أن رأوبين هو الذي اقترح إلقاءه في البئر، واقترح ترك قتله، ومع أنهم نفذوا ذلك مباشرة، ثم مرت قافلة الإسماعيليين فاقترح يهوذا؟ أن يبيعوه. ثم يذكر الإصحاح أن قافلة تجار مديانيين؟ هي التي أخرجته. ثم يقول الإصحاح: «وباعوا يوسف للإسماعيليين» فهل البائع إخوته كما اقترح يهوذا، أو البائع المديانيون؟ ثم يذكر الإصحاح «ورجع رأوبين إلى البئر وإذا يوسف ليس في البئر، فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته وقال: الولد ليس موجودا وأنا إلى أين أذهب». فكيف يتم التوفيق بين هذا الكلام: الجميع ألقوه في الجب، ويهوذا يقترح بيعه بعد ذلك، ثم يباع، ثم يبحث عنه رأوبين، فأين كان رأوبين وهو الذي اقترح إلقاءه في البئر، وباشر معهم التنفيذ والبيع؟. ثم يذكر الإصحاح بعد هذا «فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم، وأرسلوا القميص الملون وأحضروه إلى أبيهم وقالوا ... » وفي الإصحاح أن يعقوب هو الذي قال إن الوحش قد افترس ابنه وليس فيه شك يعقوب في الأمر، مع أن فيه رفض يعقوب للتعزية. ويلاحظ أن الرواية تذكر أن القميص قد غمس في الدم؛ ولا تذكر الرواية أن القميص كان ممزقا لأنهم خلعوه عن يوسف قبل إلقائه في الجب، فهل يغيب عن مثل يعقوب أن يتعرف على كون الوحش لم يأكله من خلال القميص. وهكذا نجد أن التحريف يفضح نفسه. فالحمد لله الذي جعل القرآن معصوما محفوظا، وجعله يدل على صدقه وكونه حقا بألفاظه ومعانيه. فمن قارن ما ذكره القرآن في هذا المقام، وما تنقله التوراة عرف الحق من الباطل. ولننقل هذا المقطع من هذا الإصحاح بعد أن رأينا ما فيه مما يؤكد ما هو المشهور المعروف أن هذه الأسفار قد جمعت بعد مئات السنين وكتبت من الروايات الشفهية، فهي لا تساوي- من حيث الثبوت- أمام النقد العلمي شيئا، فمن أراد الحق، فليس أمامه إلا القرآن، ليعرف الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولا أدل من ظهور التحريف في هذا الإصحاح بالذات من هذين التعبيرين:

«واجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين». «وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط» ففي التعبير الأول كان الإسماعيليين هم المشترين، وفي التعبير الثاني كان المديانيون هم البائعين في مصر ولرئيس شرطة فرعون. فإذا كنت تجد في صفحة واحدة من التناقضات ما ذكرنا فهل تبقى أي قيمة لروايات هذه الكتب؟ لقد أنقذ القرآن البشرية من الشك بأصل الوحي. إذ أعطاها الصيغة الكاملة للحق فيما تعرض له، فشتان بين كلام الله الذي لم يشب وبين الكلام الذي خالطه ما خالطه، ومن أجل أن يتضح لك جلال القرآن فاقرأ رواية الأسفار وتذكر ما لاحظناه عليها: «فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه. فقال بعضهم لبعض: هو ذا هذا صاحب الأحلام قادم. فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش ردئ أكله، فنرى ماذا تكون أحلامه فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم، وقال لا نقلته، وقال لهم رأوبين: لا تسفكوا دما. اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا إليه يدا. لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه. فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه. وأخذوه وطرحوه في البئر. وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء. ثم جلسوا ليأكلوا طعاما، فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كثيراء، وبلسانا ولاذنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر. فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه. تعالوا فنبيعه للإسماعيليين ولا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا. فسمع له إخوته. واجتاز رجال مديانيون تجار. فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر. ورجع رأوبين إلى البئر وإذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه. ثم رجع إلى إخوته وقال الولد ليس موجودا. وأنا إلى أين أذهب. فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم، وأرسلوا القميص الملون وأحضروا إلي أبيهم. وقالوا وجدنا هذا. حقق أقميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه وقال قميص ابني وحش ردئ أكله. افترس يوسف افتراسا. فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحا على حقويه وناح على ابنه أياما كثيرة. فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه. فأبى أن يتعزى وقال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية. وبكى عليه أبوه.

وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط». 3 - يذكر بعض المفسرين أثناء قصة يوسف اسم من أخرج يوسف من البئر وهو اسم عربي، ويسمون فرعون مصر الذي كان يحكم مصر أثناء بيع يوسف في مصر ويعطونه اسما عربيا، وليس في ذلك من دليل لا من كتاب، ولا سنة، ولا رواية عربية، ولا رواية يهودية، لأن قصة يوسف لم تكن معروفة عند العرب أصلا، ولأن الرواية اليهودية لم تذكر شيئا من هذا، ولا يترتب على ذكر الاسم من حيث العظة والعبرة شئ، إلا أن الملاحظ أن رواية التوراة الحالية تذكر اسم الإسماعيليين نسبة إلى إسماعيل عليه السلام فتكون القافلة عربية. أما هل كانت مصر وقتذاك محكومة من قبل العرب؟. الذي يذكره قاموس لاروس أن مصر كانت محكومة من قبل الهكسوس من سنة 2160 إلى سنة 1580 قبل الميلاد، وأن مجئ بني إسرائيل إلى مصر كان في تلك الفترة، والهكسوس الذين يسمونهم الرعاة اجتاحوا مصر من فلسطين. فهذا يؤكد أنهم كانوا عربا. كما يذكر قاموس لاروس أن اليهود قد اضطهدوا في ظل الملوك الوطنيين، وهذا يعني أن الاضطهاد كان بعد زوال حكم الهكسوس. فإذا كانت التوراة الحالية تذكر أن مدة بقاء بني إسرائيل في مصر كانت (570) سنة، فهذا يعني أن مجئ يوسف إلى مصر كانت بعد فترة من حكم الهكسوس، فإذا صح أن فرعون موسى كان رعمسيس الثاني الذي تؤكد الوثائق أنه أصدر منشورا عممه على مصر، يعلن فيه ألوهيته، وهذا مما يرجح أنه فرعون موسى. فعندئذ يكون مجئ بني إسرائيل إلى مصر في حوالي سنة (1795) قبل الميلاد أي في أواسط حكم الهكسوس. لأن رعمسيس الثاني قد مات كما يذكر قاموس لاروس سنة 1225 ق. م فهي إذن سنة الغرق، وهي سنة الخروج من مصر. والله أعلم. وعلى كل حال تبقى هناك قضية لا خلاف عليها هي أن مجئ يوسف إلى مصر كان في زمن الهكسوس، وأن الخروج كان في ظل حكم الوطنيين لمصر، ومن ثم نلاحظ أن الاصطلاحات التي يذكرها القرآن أثناء الكلام عن يوسف تختلف عنها في غيرها، فههنا في قصة يوسف تستعمل كلمة الملك، بينما في قصة موسى تستعمل كلمة فرعون. ونلاحظ أن بعض المفسرين المسلمين، كما ذكرنا، يسمون اسم ملك مصر في زمن دخول يوسف إلى مصر اسما عربيا هو الريان بن الوليد، ويسمون اسم الذي استخرجه

من البئر اسما عربيا هو مالك بن الخزاعي. أما من أين أتوا بهذه التسميات، وما مقدار الثقة بها؟ فهذا الذي لا نستطيع الجزم بشيء منه، ولكن أن يكون الذي استنقذه عربيا، وأن يكون حاكم مصر وقتذاك عربيا فذلك جائز. ينقل ابن كثير عن محمد بن إسحاق أن ملك مصر وقتذاك هو الريان بن الوليد رجل من العماليق. أي من الكنعانيين لأن أرض كنعان كانت تسمى بها فلسطين قديما. وسكانها هم الكنعانيون والعماليق من الكنعانيين. والذي يذكره قاموس لاروس أن الهكسوس اجتاحوا مصر من قبل أرض كنعان. 4 - هناك خلاف بين المفسرين حول نبوة إخوة يوسف. فهل هم أنبياء، وإذا كانوا أنبياء فكيف وقعوا في هذه المعصية؟ الذين قالوا إنهم أنبياء قالوا كان ذلك قبل النبوة. قال ابن كثير: واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر. ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل. ولم يذكروا سوى قوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (البقرة: 136) وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط، كما يقال للعرب قبائل، وللعجم شعوب. يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون. ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم. والله أعلم). 5 - بمناسبة قوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ذكر ابن كثير حديثا مرسلا هو: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقال: «صبر لا شكوى فيه». ونقل عن الثوري قوله «أنه قال: ثلاث من الصبر: أن لا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك». 6 - في القسم الذي يتحدث عن يعقوب ويوسف عليهما السلام مما يسمونه التوراة الحالية كلام مذهل، يعجب الإنسان كيف يوجد مثله في كتاب ديني يقص الحق للأسوة والعمل إذ فيه حديث عن أن رأوبين بن يعقوب زنى ببلهة سرية أبيه وأم إخوته دان ونفتالي، وأن يهوذا زنى بكنته زوجة ابنه، وأن بنت يعقوب دينة بنت ليئة قد زنى بها ابن حمور الحوي. ومثل هذا الكلام يرد في التوراة الحالية حتى في حق الأنبياء، وهذا كله يدل على أن اليهود- عليهم اللعنة- الذين هم أجرأ الناس على قتل الأنبياء.

المشهد الثالث من قصة يوسف عليه السلام

هم أجرأ الناس كذلك على تشويه سمعتهم، فما أحلى الحق الذي جاءنا به القرآن وما أغضه، وما أطراه، وما أسخف من يعرض عنه إلى سواه. ولننتقل إلى المشهد الثالث من قصة يوسف عليه السلام. *** المشهد الثالث من قصة يوسف عليه السلام ويمتد من الآية (21) إلى نهاية الآية (35) وهذا هو: [سورة يوسف (12): الآيات 21 الى 35] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

التفسير

التفسير: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو عزيز مصر وقتذاك كما سنعرف من السياق لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ أي اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما، أي حسنا مرضيا .. وقد فسر الضحاك ذلك بطيب معاشه ولين لباسه. ووطئ فراشه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أي لعله إذا تدرب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي أو نتبناه ونقيمه مقام الولد وَكَذلِكَ أي وكما أنقذنا

[سورة يوسف (12): آية 22]

يوسف من إخوته وعطفنا عليه قلب العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وجعلناه يتصرف فيها بأمره ونهيه وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي من تعبير الرؤيا وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي فعال لما يشاء لا يمنعه أحد عما يشاء وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد وَلَمَّا بَلَغَ أي يوسف أَشُدَّهُ أي منتهى استعداد قوته أي استكمل عقله وتم خلقه آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة وهو العلم مع العمل، واجتناب ما يجهل فيه، أو حكما بين الناس وفقها وَعِلْماً أي آتيناه مع الحكم العلم. وقد فسرهما ابن كثير بأنهما النبوة وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في هذا تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، تقيا في عنفوان أمره، وفي ذلك بشارة لكل محسن وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي طلبت من يوسف أن يواقعها، فحاولته على نفسه ودعته إليها، وذلك أنها أحبته حبا شديدا لحسنه وجماله وبهائه، فحملها ذلك على أن تتجمل وتهيأ الوسائل للوصول وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي تعال وأقبل قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله معاذا إِنَّهُ رَبِّي أي إن الشأن والحديث أنه سيدي ومالكي أي زوجها أَحْسَنَ مَثْوايَ أي أكرمني فما جزاؤه أن أخونه في أهله إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي الخائنون أو الزناة، ويحتمل أن يعود الضمير على الله عزّ وجل، والأول أقوى، ذكرها بحق سيده عليه، ألا يخونه في أهله، فلعلها تتذكر حق زوجها عليها فلا تخونه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ هم عزم وَهَمَّ بِها هم طبع بلا عزم، أو هم خطرة، ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه. لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي رأى آية من آيات الله تزجره عن المطاوعة كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ أي خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ أي الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا أي من جملة عبادنا الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصهم الله لطاعته. أي كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره؛ إنه من عباد الله المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي وتسابقا إلى الباب، هي للطلب، وهو للهرب. نفر منها يوسف فأسرع يريد الباب ليخرج، وأسرعت وراءه لتمنعه من الخروج وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي اجتذبته من خلفه فانشق قميصه حين هرب منها إلى الباب، وتبعته تمنعه وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ أي وصادفا بعلها مقبلا، يريد أن يدخل، فلما رأته احتالت لتبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة، ولتخويف يوسف طمعا في أن يواطئها خيفة منها ومن مكرها قالَتْ ما

[سورة يوسف (12): آية 26]

جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أي فاحشة إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أي يحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي يضرب ضربا شديدا موجعا، ولم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءا لأنها قصدت العموم أي كل من أراد بأهلك سوءا فحقه أن يسجن أو يعذب، لأن ذلك أبلغ فيما قصدت من تخويف يوسف. فلما عرضته للسجن والعذاب ووجب عليه الدفع عن نفسه، ولم يعد مجال للستر عليها وعدم فضيحتها انتصر يوسف عليه السلام لنفسه بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وفي كونه من أهلها تكون شهادته أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وكانت شهادته إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي من قدامه فَصَدَقَتْ أي في قولها إنه راودها على نفسها لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره، فقدت قميصه، فيصح ما قالت وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من ورائه فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبه أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها، فقدت قميصه من ورائه فَلَمَّا رَأى زوجها قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ علم براءة يوسف وصدقه وكذبها قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت به عرض هذا الشاب من جملة كيدكن. وقد وجه الخطاب لها ولعامة جنسها إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ لأنهن ألطف كيدا، وأعظم حيلة، وبذلك يغلبن الرجال. ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي اضرب عن هذا صفحا، أي فلا تذكره لأحد وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أي من جملة القوم المتعمدين للذنب. ويبدو أنه كان لينا سهلا لدرجة أنه لم تثر غيرته، أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه، ولم يحدث شئ، ولا نتوقع ممن يعيشون في الترف ولا دين لهم حاجزا إلا مثل هذه المواقف، بل أسوأ منها من الدياثة والقيادة. وما يجري في عصرنا لا يحتاج معه هذا الكلام إلى دليل وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ أي وقالت جماعة من النساء في المدينة التي وقعت فيها الحادثة امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها، لتنال شهوتها منه قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد شغفها حبه يعني خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في خطأ واضح وبعد عن طريق الصواب، أي في صنيعها هذا من حبها فتاها، ومراودتها إياه عن نفسه، وهكذا شاع الخبر وانتشر وذلك دأب ما يجرى في القصور والصالونات- عند ما لا يوجد تدين عندهم- أن رائحة الفضائح لا تزال عابقة فيها فَلَمَّا

[سورة يوسف (12): آية 32]

سَمِعَتْ أي زوجة العزيز بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن لها، وقولهن ما قلنه، سميت الغيبة في هذا المقام مكرا لأنها في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره، أو سمي قولهن مكرا لأنهن أردن من كلامهن شيئا آخر. قال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف فأحببن أن يرينه فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته، ومشاهدته، فعند ذلك أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن وَأَعْتَدَتْ وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي ما يتكئن عليه من فرش ونمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات، مسترخيات، والسكاكين في أيديهن- كما سنرى- أن يدهشن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن، فيجرحن أيديهن وهن لا يشعرن وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، دل ذلك على أن الترف كان في تلك المرحلة موجودا. فكون الحاكمين وقتذاك هم الرعاة الهكسوس لم يحل دون أن تغرقهم مصر في نعيمها وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ يبدو أنها كانت قد وضعته في مكان لا يرينه فيه أثناء الدخول والجلوس لتتم المفاجأة فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائق، والجمال الفائق وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي وجرحنها، كن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فدهش لما رأينه، فخدشن أيديهن وكأن لسان حالها وقتذاك يقول: أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا، فكيف ألام أنا؟ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها لله من صفات العجز، وتعجبا من قدرته على خلق جميل مثل يوسف ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية، وثبتن بها الحكم لما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان. وكأن لسان الحال يقول: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأيناه قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله، ولا يلام من يحب مثله، هذا منطقها، وهو منطق من لا يحجزها دين ولا عقل وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي بالغ في الامتناع والتحفظ، ولا يزال مستزيدا منهما، ثم قالت تتوعده وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ من إعطائي مرادي منه لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ أي من المذلين المهانين، مع السراق والسفاك والأباق في السجن، كما سرق قلبي وأبق مني وسفك دمي بالفراق، فلا يهنأ له ثم طعام أم شراب أو نوم، كما منعني هنا كل ذلك. ومن لم يرض بمثلي في الحرير على السرير أميرا، فليكن في السجن على الحصير حسيرا. فلما سمع يوسف تهديدها قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي من ركوب المعصية أي الفاحشة، ولم قال يدعونني

[سورة يوسف (12): آية 34]

والسياق لم يذكر غيرها يبدو أنه رأى رغبة الجميع به، وإجماع الجميع على أن عليه أن يرحم سيدته فيعطيها مرادها وهو منطق الناس إذا لم يكن إيمان وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أميل إليهن، والصبوة: الميل إلى الهوى، ومنه الصبا لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لم يعلم سواء أو من السفهاء، وهكذا فزع إلى الله في طلب العصمة، مبينا أنه إن وكل إلى نفسه فليس له في محنة الجمال طاقة إن استمر الامتحان. واختار السجن على سعير امتحان الشهوة، فما أصعب هذا الامتحان، وما أكمل يوسف عليه السلام، إذ أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرئاسة، ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء توبته. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أي أجاب دعاءه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعوات الملتجئين إليه الْعَلِيمُ بكل حال ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ثم ظهر لهم من المصلحة مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ وهي الشواهد على براءته، كقد القميص، وشهادة الشاهد، وجرح الأيدي، وغير ذلك. لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي إلى زمان، فكأنها اقترحت أن يسجن زمانا حتى تبصر ما يكون منه، وطاوعها زوجها لإبداء عذر الحال، وإرخاء الستر على القيل والقال، وللإيهام أنهم سجنوه لأنه راودها عن نفسها، وإنهم سجنوه لذلك، ولهذا نلاحظ أن يوسف عليه السلام امتنع فيما بعد من الخروج إلا بعد إثبات البراءة، وما كان سجنه- والله أعلم- إلا باستنزال المرأة زوجها المطواع على رأيها. قال النسفي: وقد طمعت أن يذله السجن ويسخره لها، أو خافت عليه العيون، وظنت فيه الظنون، فألجأها الخجل من الناس والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب لتشتفي بخبره إذا منعت من نظره اه. أقول: ومن ثم لم تقترح في الأصل إلا السجن أو العذاب، ولم تذكر القتل وهذا يدل على تمكن الحب. فوائد: 1 - هذه الآيات من سورة يوسف يقابلها فيما يسمونه التوراة الحالية الإصحاح التاسع والثلاثون من سفر التكوين، وفيه أن فوطيفار خصي فرعون ورئيس الشرط هو الذي اشترى يوسف وسلمه شئون البيت، وفيه مراودة امرأته ليوسف ورفض يوسف وجوابه لها (هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ماله قد دفعه إلى يدي ليس هو

في هذا البيت أعظم مني ولم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله) والملاحظ أن هذا المعنى سجله القرآن إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فتأمل عظمة هذا القرآن، إذ يأتي بأعظم المعاني وأغزرها وأصدقها بأوجز تعبير وألطفه وأدقه وأصدقه، ثم إن الإصحاح لا يحدثنا عن كثير من التفصيلات، وإن كان يحدثنا بإجمال عن خلو البيت مرة، وإمساكها يوسف وهربه منها. وفي الإصحاح غلط وخطأ وكذب وعدم دقة ونقص. لا تخفى على المتأمل ومن أمثالها نعرف نعمة الله إذ أنزل هذا القرآن فيه بيان وتفصيل لكل شئ، ومن مثل هذا نعرف كيف أن هذه السورة جاءت لتحقق إقامة الحجة على إعجاز هذا القرآن من خلال هذا العرض الصادق والعجيب لقصة يوسف عليه السلام. 2 - نلاحظ أن التوراة الحالية لم تذكر اسم زوجة سيد يوسف إلا أن المفسرين المسلمين يذكرون أن اسمها زليخا، وبعضهم يسميها راعيل. وذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت أخت الملك الريان بن الوليد، وليس هناك من مصدر لمثل هذا إلا روايات أهل الكتاب المعاصرين للمفسرين وكثير منها لا يصح الاتكاء عليه أصلا. 3 - عند قوله تعالى وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ يقف المفسرون وقفات طويلة فلتراجع، وقد اخترنا في شأنها ما حكاه الكسائي أنها لغة لأهل حوران وقعت لأهل الحجاز ومعناها تعال: وفي الكلمة قراءات أخرى ونحن في هذا الكتاب نمشي على قراءة حفص. 4 - وعند قوله وَهَمَّ بِها كلام كثير للمفسرين وهم متفقون بأن همه غير همها، همها عزم، فما هو همه؟ سنرى الجواب وقد ذهب بعضهم إلى أن الهم لم يحدث أصلا واعتبروا أن قوله تعالى وَهَمَّ بِها متصل بما بعده وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها هم طبع، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم، إلا أن بعضهم يرفض هذا الرأى لأن علماء العربية لا يرون أن مثل هذا الوجه يقبله استقراء لغة العرب، وبعضهم قال هم بها، أي هم بضربها، وأجود شئ أن يحمل همه على أنه خطرة نفس لم يقبلها قلبه، فهي من نوع الهم الموجود في الحديث المخرج في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشرة أمثالها، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها».

5 - وفي تفسير (البرهان) في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كلام كثير للمفسرين كذلك، وليس في هذا الكلام الكثير من شئ يمكن أن يكون قاطعا في هذا الموضوع، والتوراة الحالية ساكتة عن مثل هذا وأكثر المفسرين على أنه رأى صورة أبيه يعقوب عاضا على إصبعه بفمه. ذكر ذلك ابن كثير عن ابن عباس، وسعيد، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، وأبي صالح، والضحاك، ومحمد بن إسحاق وغيرهم. إلا أن الذي يرجحه النسفي أن البرهان هو النظر في دلائل التحريم. ذكر ذلك بعد أن ذكر القول الذي يورده بعضهم في معرض: أنه هم بها فأراه الله صورة يعقوب ... قال: (ويدل على بطلانه قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولو كان ذلك منه أيضا لما برأ نفسه من ذلك، وقوله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفا عنه. وقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ولو كان كذلك لخانه بالغيب. وقوله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ولأنه لو وجد منه ذلك لذكرت توبته واستغفاره كما كان لآدم ونوح وذي النون وداود عليهم السلام. وقد سماه الله مخلصا، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام وجاهد نفسه مجاهدة أولي العزم ناظرا في دلائل التحريم حتى استحق من الله الثناء. قال ابن جرير: والصواب أن يقال إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به. وجائز أن يكون صورة يعقوب وجائز أن يكون صورة الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك، ولا حجة قاطعة على تعيين شئ من ذلك، قال ابن كثير: فالصواب أن نطلقه كما قال الله تعالى). 6 - يختار ابن جرير أن الشاهد الذي شهد ليوسف كان صبيا في المهد. ويختار غيره أنه كان رجلا. قال ابن كثير بعد أن نقل كلام ابن جرير وقد ورد منه حديث مرفوع، فقال ابن جرير ... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم أربعة وهم صغار» فذكر فيهم شاهد يوسف، ورواه غيره عن حماد بن سلمة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «تكلم أربعة صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» للآلوسي تحقيق عند قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ننقله كله لما فيه من فوائد، قال: (ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها، وكان طفلا في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم «تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ماشطة، ابنة فرعون،

وشاهد يوسف عليه السلام. وصاحب جريج. وعيسى ابن مريم عليهما السلام» وتعقب ذلك الطيبي بقوله: يرده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت: أمه اللهم أجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي، وقال اللهم لا تجعلني مثله» ا. هـ، ورده الجلال السيوطي فقال. هذا منه جار على عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده. وابن حبان في صحيحه. والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث الصحيحين المشار إليه آنفا زيادة على الأربعة «الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب» الخ فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك، ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة الأخدود، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر، ونظمتها فقلت: تكلم في المهد النبي محمد … ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبرى جريج ثم شاهد يوسف … وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي … يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها … وفي زمن الهادي المبرك يختم اهـ، وفيه أنه لم يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم، وإنما أراد أن يبين أن الحديث الدال على الحصر وغيره تعارضا وذلك يحتاج إلى التوفيق. 7 - ورد أكثر من حديث يتكلم عن حسن يوسف، ومن ذلك ما ورد في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة. قال: «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطي يوسف وأمه شطر الحسن» قال السهيلي: معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطى شطر حسنه. أقول: قال بعضهم لقد أعطي محمد صلى الله عليه وسلم الحسن كله. فليوسف شطره، ولمحمد صلى الله عليه وسلم كله: وأجمل منك لم تر قط عيني … وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب … كأنك قد خلقت كما تشاء

ملاحظات

8 - بمناسبة استعصام يوسف عليه السلام يورد ابن كثير الحديث الوارد في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه». ملاحظات: 1 - من قصة يوسف تعرف أن أفظع فتنة يمكن أن تمر بإنسان هي فتنة الجمال، ومن ثم نلاحظ أن يوسف استقبل الإلقاء في البئر بصبر، واستقبل العبودية بصبر، واستقبل السجن بصبر، ولكنه شكا هذه الشكوى الحارة عند ما تعرض لفتنة الجمال، قال وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ وقال قبل ذلك: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ففتنة الجمال هي الفتنة التي تعصف برأس الحكيم؛ ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». 2 - إن كثيرا من الناس يتساهلون في إدخال أنواع من الرجال إلى بيوتهم بحيث يكون بين هؤلاء الرجال والنساء علاقة: من ذلك من يوصل الحاجيات إلى البيوت، أو أصدقاء الرجل، أو غير ذلك من خادم وتابع، وفي كل صورة من هذه الصور نوع تعرض وتعريض للفتنة، إلا إذا ضبطت هذه الأمور ضوابط الشرع. 3 - من المعروف عن العرب شدة الحمية في شأن العرض وخاصة في بيوتاتهم الكريمة، فإذا لاحظنا هذا الموقف الذي وقفه عزيز مصر من زوجته مع افتراض أنه هكسوسي فهذا يدعونا إلى افتراض أن النفسية الحاكمة وقتذاك قد داخلها من الترف والفساد، ما أفقدها خصائصها الأصيلة، وهذا لا يكون إلا إذا كان الترف والفساد قد استمر أكثر من جيل، وهذا يدعونا إلى أن نستأنس في أن مجئ يوسف كان- تقريبا- في أواسط حكم الهكسوس لمصر، إذ يكون هذا الترف والفساد بدأ ينخر النظام حتى سقط في النهاية بعد حوالي قرنين ونيف من مجئ يوسف وبني إسرائيل إلى مصر. ومن خلال تسجيلنا لهذه الملاحظة المستمدة من قصة يوسف في القرآن، ومما عرفناه مما لم يذكره القرآن، ندرك كيف أن إعجاز هذا القرآن لا يتناهى، وندرك كيف أن شيئا ما

المشهد الرابع

لا يمكن أن ينقض حرفا من القرآن، وندرك كيف أن سورة يوسف فيها دليل ودليل على إعجاز القرآن بطريقة مفردة. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن محورها من سورة البقرة هو قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. *** المشهد الرابع ويمتد من الآية (36) إلى نهاية الآية (42) وهذا هو: [سورة يوسف (12): الآيات 36 الى 42] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

التفسير

التفسير: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ تحدد التوراة الحالية أنهما ساقي الملك وخبازه قالَ أَحَدُهُما أي الساقي إِنِّي أَرانِي أي في المنام أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا، وهي إما من باب تسمية العنب بما يؤول إليه، أو على لغة أهل عمان. إذ يسمون العنب خمرا وَقالَ الْآخَرُ أي الخباز إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي أخبرنا بتأويل ما رأيناه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي من الذين يحسنون تعبير الرؤيا، أو من المحسنين في العمل إلى أهل السجن قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في يومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي ببيان ماهيته وكيفيته قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما أي التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي أي مما أوحى به إلي ربي، ولم أقله عن تكهن وتنجم إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ هذا تعليل لما قبله. أي علمني ذلك وأوحى به إلي لأني رفضت واجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي هجرت طريق الكفر والشرك وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى واتبع طريق المرسلين، وأعرض عن طريق الضالين فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم، ويجعله إماما يقتدى به في الخير، وداعيا إلى سبيل الرشاد ما كانَ لَنا أي ما صح لنا معشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ صنما كان أو غيره ذلِكَ أي التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا إذ أوحاه إلينا وأمرنا به وَعَلَى النَّاسِ إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فضل الله، فيشركون به ولا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم فيتبعونهم، وهكذا لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، اتخذها فرصة فوصف نفسه بما هو فوق علم

فائدة

العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما، فيقول اليوم يأتيكما طعام كذا وطعام كذا. فيكون كذلك، ثم ذكر الآباء ليريهما أنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه بما ذكر من أخبار الغيوب، ليقوي ثقتهما به، وجعل ذلك كله تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد كما سيأتي، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ويقبح إليهما الشرك. قال النسفي: وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه لم يكن من باب التزكية. فائدة: روى ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبا (أي في الإرث) ويقول: والله لمن شاء لاعنته عند الحجر ما ذكر الله جدا ولا جدة. قال الله تعالى يعني إخبارا عن يوسف: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ .... .............. ولنعد إلى السياق. فبعد هذه المقدمة التي قدمها يوسف أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما، فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ في هذا النداء خطاب لهما بصفة صحبة المكان إيناسا لهما أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ الذي ذل كل شئ لعز جلاله، وعظمة سلطانه، أي أأن تكون لكما أرباب شتى يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا خير لكما، أم أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية؟! ما تَعْبُدُونَ أنتما وأمثالكما ممن على دينكما مِنْ دُونِهِ أي من دون الله إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي من حجة ولا برهان والمعنى سميتم ما لا يستحق الألوهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء لا مسميات لها ما أنزل الله بتسميتها حجة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله، ثم بين ما حكم به فقال: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فكل نوع من أنواع العبادة يؤدى لغيره شرك وكفر وضلال ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الثابت الذي دلت عليه البراهين. والمعنى: هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد وإخلاص العمل لله هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل فيه الحجة والبرهان والذي يحبه ويرضاه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فلهذا كان أكثرهم مشركين، وهكذا جعل سؤالهما

[سورة يوسف (12): آية 41]

سببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير، والإقبال عليه. والإنصات إليه، ولما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا، ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا، ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه، وهو واقع لا محالة قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا الظان هو يوسف عليه السلام، فإن كان تأويله بطريق الاجتهاد فالظن على حقيقته، وإن كان بطريق الوحي فالظن بمعنى اليقين، وكان كلامه للناجي في ظنه، وهو الساقي، ويبدو أنه قال ذلك خفية عن الآخر لئلا يشعره أنه هو المطلوب اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك، وصفني بصفتي، وقص عليه قصتي لعله يرحمني ويخلصني مما أنا فيه فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك، وكان ذلك النسيان من جملة مكايدة الشيطان لئلا يخرج نبي الله من السجن فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ أي مكث في السجن بضع سنين، والبضع ما بين الثلاث إلى التسع. وأكثر المفسرين على أن مدة مكثه سبع سنين. وبهذا ينتهي المشهد. فوائد: 1 - هذا المشهد الذي مر معنا موجود في التوراة الحالية في الإصحاح الأربعين من سفر التكوين. ولكن شتان بين العرضين وليس لنا ما نأخذه من هذا الإصحاح إلا أن هناك قضية خلافية بين المفسرين حول قوله تعالى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ. هل الضمير يعود على يوسف أو على الساقي والراجح عن مفسرينا أن الضمير يعود على الساقي، والتوراة الحالية ترجح هذا الاتجاه إذ تقول: (ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف بل نسيه) كما أن في هذا الإصحاح كلام يوسف للساقي (وتذكرني لفرعون وتخرجني من هذا البيت لأني قد سرقت من أرض العبرانيين وهنا أيضا لم أفعل شيئا حتى وضعوني في السجن) وليس في الإصحاح دعوة يوسف للساقي وزميله، وليس في الإصحاح ذكر للسبب الذي به سجنا سوى أنهما أذنبا. وبعض المفسرين المسلمين يذكر أن سبب سجنهما توهم فرعون أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه، وفي الإصحاح مزيد تفصيل حول الرؤيا وتعبيرها، وفيه تصريح بأن يوسف واجه كلا من

الاثنين بتعبير رؤياه صراحة، وبهذه المناسبة نقول: إن من يتأمل هذا المشهد ويقارنه بما ورد في هذا الشأن في سفر التكوين يجد في هذا المشهد وحده معجزة، فإصحاح سفر التكوين لا تكاد تجد فيه أي مظهر من مظاهر النبوة وهديها وكلامها ودعوتها، بينما تجد القرآن يذكر لك الموضوع كأنك تراه بكل حيثياته الهادية، وبكل ما يدل على شخصية يوسف كما هي في نبوتها وما يليق بهذه النبوة من هدى. وللمقارنة ننقل الإصحاح كله. الإصحاح الأربعين: (وحدث بعد هذه الأمور أن ساقي ملك مصر والخباز أذنبا إلى سيدهما ملك مصر، فسخط فرعون على خصييه رئيس السقاة ورئيس الخبازين، فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيت السجن المكان الذي كان يوسف محبوسا فيه. فأقام رئيس الشرط يوسف عندهما فخدمهما، وكانا أياما في الحبس. وحلما كلاهما حلما في ليلة واحدة كل واحد حلمه كل واحد بحسب تعبير حلمه. ساقي ملك مصر وخبازه المحبوسان في بيت السجن. فدخل يوسف إليهما في الصباح ونظرهما وإذا هما مغتمان. فسأل خصيي فرعون اللذين معه في حبس بيت سيده قائلا لماذا وجهاكما مكمدان اليوم: فقالا له حلمنا حلما وليس من يعبره. فقال لهما يوسف أليست لله التعابير. قصا علي. فقص رئيس السقاة حلمه على يوسف وقال له كنت في حلمي وإذا كرمة أمامي. وفي الكرمة ثلاثة قضبان وهي إذا أفرخت طلع زهرها وأنضجت عناقيدها عنبا. وكانت كأس فرعون في يدي، فأخذت العنب، وعصرته في كأس فرعون وأعطيت الكأس في يد فرعون. فقال له يوسف هذا تعبيره. الثلاثة القضبان هي ثلاثة أيام. في ثلاثة أيام أيضا يرفع رأسك ويردك إلى مقامك، فتعطي كأس فرعون في يده كالعادة الأولي حين كنت ساقيه. وإنما إذا ذكرتني عندك حينما يصير لك خير تصنعه إلي إحسانا وتذكرني لفرعون وتخرجني من هذا البيت لأني قد سرقت من أرض العبرانيين. وهنا أيضا لم أفعل شيئا حتى وضعوني في السجن. فلما رأى رئيس الخبازين أنه عبر جيدا قال ليوسف كنت أنا أيضا في حلمي، وإذا ثلاثة سلال حوارى على رأسي. وفي السل الأعلى من جميع طعام فرعون من صنعة الخباز. والطيور تأكله من السل عن رأسي. فأجاب يوسف وقال: هذا تعبيره، الثلاثة السلال هي، ثلاثة أيام. في ثلاثة أيام أيضا يرفع فرعون رأسك عنك ويعلقك على خشبة وتأكل الطيور لحمك عنك. فحدث في اليوم الثالث يوم ميلاد فرعون أنه صنع وليمة لجميع عبيده ورفع رأس رئيس السقاة ورأس رئيس الخبازين بين عبيده. ورد رئيس السقاة إلى سقيه. فأعطى

الكأس في يد فرعون. وأما رئيس الخبازين فعلقه كما عبر لهما يوسف. ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف بل نسيه). 2 - عند ما ذكر الله لنا في سورة الأنعام أسماء ثمانية عشر رسولا ذكر هناك من جملتهم يوسف عليه السلام. ثم بعد ذلك قال الله عزّ وجل أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وعلى هذا فيوسف عليه السلام قدوة، وهذا المشهد الذي مر معنا يعطينا إذن القدوة لمن ابتلي بالسجن، ومما نلاحظه في هذا الموضوع أن يوسف عليه السلام كان محسنا في سجنه، وإن إحسانه كان عاما مع أن من حوله كانوا مشركين، وأنه كان لا يترك فرصة تمر إلا ويدعو فيها إلى الله. وقد استنتج بعض المفسرين أن يوسف عليه السلام كان في السجن مشتهرا بالجود والأمانة، وصدق الحديث، وحسن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير، والإحسان إلى أهل السجن، وعيادة مرضاهم، والقيام بحقوقهم. ونلاحظ أن يوسف عليه السلام لم يستنكف أن يقول لساقي الملك اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ولكنه طلب جميل وبأسلوب عفيف. 3 - التوراة الحالية تذكر أن سن يوسف عند ما ألقاه إخوته في البئر كان سبعة عشر عاما، وتذكر أنه عند ما خرج من السجن كان سنة ثلاثين سنة. وتذكر أنه بقي سنتان بعد خروج الساقي من السجن. فإذا اعتبرنا رأى أكثر المفسرين أن مدة سجنه كانت سبع سنين تكون المسألة على الشكل التالي: أن المراودة كانت وسنة ثلاث وعشرون، وأن رؤيا الفتيين كانت وسنه ثمانية وعشرون سنة، وعلى هذا فإن رواية التوراة الحالية تفيد أنه بقي في السجن سبع سنين وليس في المسألة نص قاطع. 4 - هناك اتجاه للمفسرين أن الرؤيين للفتيين كانتا مختلقتين، ورواية التوراة الحالية ترجح الرأي الآخر كما رأينا وهو الرأي الذي يقول: إنهما رؤييان حقيقة وهو ما نرجحه. 5 - بمناسبة قول يوسف عليه السلام بعد تعبيره الرؤيين قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ يذكر ابن كثير الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت». وفي مسند أبي يعلى عن أنس مرفوعا «الرؤيا لأول عابر» أي: تقع كما يفسرها أول مفسر. أقول: على شرط أن يكون المعبر يعبر عن علم لا عن جهل.

نقل عن الظلال

6 - قصة يوسف عليه السلام تعتبر ركنا من أركان علم التعبير لأن فيها أربع رؤى وتعبيراتها، ولقد قاس المعبرون على ذلك واستنبطوا قواعد، واستخرجوا أسسا بنوا عليها علم التعبير، والملاحظ: أن علم التعبير عند المسلمين هو أوسع منه عند غيرهم، فلقد كتب علماء المسلمين في هذا الموضوع الكتب المطولة وأساس ذلك كله ما ورد في الكتاب والسنة من تأويل الرؤى. نقل عن الظلال: بمناسبة قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال صاحب الظلال: (إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته؛ سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة. أو أمة، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته، وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده. وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم، وتجعله منازعا في أولى خصائص ألوهيته- سبحانه- فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري. أو يقول: أنا ربكم الأعلى. كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية، ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية- أي التي تكون هي مصدر السلطات- جهة أخرى غير الله سبحانه .. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية. والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله، ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده. والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان.

ويوسف- عليه السلام- يعلل القول بأن الحكم لله وحده فيقول: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى «العبادة» التي يختص بها الله وحده. إن معنى عبد في اللغة: دان، وخضع، وذل ... فعند ما نزل هذا النص أول مرة كان المقصود به هو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده، سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية. فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله- سبحانه- بها نفسه، ولم يجعلها لأحد من خلقه. وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف- عليه السلام- اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم. فالعبادة- أي الدينونة- لا تقوم إذا كان الحكم لغيره. وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. فكله حكم تتحقق به الدينونة. ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله- حكما معلوما من الدين بالضرورة- لأنها تخرجه من عبادة الله وحده .. وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعا. وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه .. فكلهم سواء في ميزان الله. ويقرر يوسف- عليه السلام- أن اختصاص الله- سبحانه- بالحكم تحقيقا لاختصاصه بالعبادة. هو وحده الدين القيم: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وهو تعبير يفيد القصر. فلا دين قيم سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم، تحقيقا لاختصاصه بالعبادة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وكونهم «لا يعلمون» لا يجعلهم على دين الله القيم. فالذي لا يعلم شيئا لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه .. فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين، لم يعد من الممكن عقلا وواقعا وصفهم بأنهم على هذا الدين. ولم يقم جهلهم عذرا لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام. ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء. فاعتقاد شئ فرع عن العلم به .. وهذا منطق العقل والواقع .. بل منطق البداهة الواضح) ولننتقل إلى المشهد الخامس في القصة.

المشهد الخامس

المشهد الخامس ويمتد من الآية (43) إلى نهاية الآية (57) وهذا هو: [سورة يوسف (12): الآيات 43 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)

التفسير

التفسير: وَقالَ الْمَلِكُ ملك مصر إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي مهازيل والعجف: الهزال الذي ليس بعده وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي وسبعا يابسات يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي يا أعيان المملكة من الحكماء والعلماء والسحرة أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي تؤولون وتفسرون، ومعنى عبرت الرؤيا: أي ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، ونحوه أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان، وأصل الأضغاث: ما جمع من أخلاط النبات وحزم من أنواع الحشيش فاستعيرت لذلك والتقدير: أضغاث من أحلام وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يحتمل كلامهم أنهم أرادوا بالأحلام المنامات الباطلة، فقالوا ليس لها عندنا تأويل إنما التأويل للمنامات الصحيحة، ويحتمل أنهم اعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بخابرين وَقالَ الَّذِي نَجا من القتل مِنْهُما من صاحبي السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي وتذكر يوسف وما شاهد منه بعد مدة، وهذه المدة تحددها التوراة الحالية بأنها سنتان، وتذكره كان حين استفتى الملك في رؤياه، وأعضل على الملك تأويلها. وعندئذ تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤيا هو رؤيا صاحبه وطلبه إليه أن يذكره عند الملك فقال: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ

[سورة يوسف (12): آية 46]

بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ أي أنا أخبركم بتفسيره عمن عنده علمه فابعثوني إليه لأسأله، فبعثوه فجاء فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي أيها البليغ في الصدق وإنما قال له ذلك لأنه ذاق وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء تفسيرها كما أول أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك وأعوانه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ الحق في أمرها، وفضلك ومكانك من العلم فيطلقونك من محنتك، فعند ذلك ذكر له يوسف تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما وصاه به، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي متواليات وكلامه يفيد الأمر والتقدير: ازرعوا سبع سنين متواليات فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ كيلا يأكله السوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين كأنه قال: إن أمامكم سبع سنين مخصبة ممطرة، فمهما استغللتم في هذه السبع السنين فادخروه في سنبله ليكون أبقى له، وأبعد عن إسراع الفساد إليه، إلا المقدار الذي تأكلونه، وليكن قليلا لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد، وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات لذلك قال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ أي ممحلات يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي في السنين المخصبة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي تحرزون وتخبئون ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد أربع عشرة سنة عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يأتيهم الغيث وهو المطر وَفِيهِ يَعْصِرُونَ العنب والزيتون وغير ذلك، فيتخذون الأشربة والأدهان، أول البقرات السمات، والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا أن العام الثامن بعد الشدة يجئ مباركا، كثير الخير، غزير النعم، وذلك من جهة الوحي وَقالَ الْمَلِكُ بعد أن رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه ائْتُونِي بِهِ أي أخرجوه من السجن وأحضروه فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه من السجن قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي إلى الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أي إن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله وهو مجازيهن عليه، امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه، مما نسب إليه، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه بل كان ظلما وعدوانا. قال النسفي: (إنما تثبت يوسف، وتأنى في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة؛ ليظهر براءة ساحته، عما رمي به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط

[سورة يوسف (12): آية 51]

منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير، وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها) والملاحظ أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن، وذلك من كمال كرمه وحسن أدبه، ورجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة المقطعات أيديهن، ودعا امرأة العزيز فإما أنهن معروفات أو أن يوسف حدد أسماءهن قالَ أي الملك لهن ما خَطْبُكُنَّ أي ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ أي هل وجدتن منه ميلا إليكن قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تعجبا من قدرته على خلق عفيف مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ أي من ذنب قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي ظهر واستقر أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي في قوله هي راودتني عن نفسي، ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن أنه لم يتعلق بشيء مما قذف به ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ* وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا الكلام هل هو كلام امرأة العزيز؟ أو قول يوسف معللا سبب امتناعه من الخروج حتى تثبت براءته؟ قولان للمفسرين وقد رجّح ابن تيمية وابن كثير أن هذا من تتمة كلام امرأة العزيز، ولم يذكر ابن جرير وابن أبي حاتم إلا القول الذي يدل على أنه من كلام يوسف، وعلى القول أن هذا من تتمة كلام امرأة العزيز يكون المعني: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة لست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي إلا من عصمه الله إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ذكرت بغفران الله الذنب، وبرحمة الله مستعطفة، راجية وعلى القول بأن هذا كلام يوسف يكون المعنى: ذلِكَ أي امتناعي عن الخروج لِيَعْلَمَ أي العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي بظهر الغيب في حرمه، أو ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بظهر الغيب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي وليعلم أن الله لا يسدد كيد الخائنين، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها، ثم أراد أن يتواضع لله، ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكيا، وليبين أن ما فيه من الأمانة بتوفيق الله وعصمته فقال: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي من الزلل وما أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها

[سورة يوسف (12): آية 54]

في عموم الأحوال أو في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهم الذي هو الخطرة البشرية لا عن طريق القصد والعزم إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي إن النفس البشرية بطبيعتها تأمر بالسوء، وتحمل عليه لما فيه من شهواتها وحظوظها إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة، أو إلا وقت رحمة ربي. يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت العصمة، أو إن النفس لأمارة بالسوء، ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، وبعد أن ذكر النسفي وقرر هذا الوجه، وهو أن هذا كلام يوسف ذكر وجه أن يكون هذا كلام امرأة العزيز إلا أنه وجهه غير التوجيه الذي وجهه إياه ابن كثير، وهذا كلامه: (وقيل هو من كلام امرأة العزيز أي ذلِكَ الذي قلت لِيَعْلَمَ يوسف أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ ولم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصدق فيما سئلت عنه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين فر مني وقلت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ وأودعته السجن، وتريد الاعتذار مما كان منها، إن كل نفس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت، وإنما جعل من كلام يوسف، ولا دليل عليه ظاهر، لأن المعنى يقود إليه، وقيل هذا من تقديم القرآن وتأخيره، أي قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ متصل بقوله ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. وسواء كان كلام امرأة العزيز، أو كان كلام يوسف عليه السلام، فالدرس المستفاد منه لا يتغير، أن العاقبة الحميدة للأمانة، والعاقبة الذليلة للخيانة. وَقالَ الْمَلِكُ حين تحقق براءة يوسف عليه السلام، ونزاهة عرضه مما نسب إليه ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي أجعله خالصا لنفسي، أي أجعله من خاصتي، وأهل مشورتي. فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي خاطبه الملك، وعرفه، ورأى فضله وبراعته، وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قالَ أي الملك ليوسف إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أي ذو مكانة ومنزلة أَمِينٌ أي مؤتمن على كل شئ قالَ يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي ولني على خزائن أرضك أرض مصر، والخزائن هي الأهراء التي يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأحوط، والأصلح، والأرشد إِنِّي حَفِيظٌ أي أمين أحفظ ما تستحفظنيه عَلِيمٌ أي عالم بوجوه التصرف، هذا تعليل لطلبه، وصف نفسه بالأمانة، والكفاية، وهما طلبة الملوك ممن يولونه، وهما الصفتان اللتان يحتاجهما

[سورة يوسف (12): آية 56]

كل عمل. وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلبه ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا. قال النسفي. (قالوا: وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عمالة من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة، وإذا علم النبي، أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله، ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به، وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، وكان في حكم التابع له). وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي ومثل ذلك التمكين الظاهر مكنا ليوسف في الأرض. أرض مصر. والتمكين الإقدار وإعطاء المكنة يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ أي كل مكان أراد أن يتخذه منزلا لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها، ودخولها تحت سلطانه نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا أي بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم مَنْ نَشاءُ أي من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ كما لم نضع صبر يوسف على أذى إخوته، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز، فلهذا أعقبه الله عزّ وجل النصر والتأييد في الدنيا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يخبر تعالى أن ما ادخره لنبيه يوسف عليه السلام، ومن كان على قدمه من المؤمنين المتقين في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من التصرف، والنفوذ في الدنيا. فوائد: 1 - هذا المشهد الذي مر معنا موجود في التوراة الحالية في الإصحاح الحادي والأربعين وليس في الإصحاح كثير من التفصيلات فليس فيه أن رئيس السقاة يقص على يوسف الرؤيا، ثم يرجع بذلك إلى الملك، وليس فيه طلب يوسف سؤال النسوة وما جرى فيه، وذلك غير مستغرب. لأن التوراة الحالية روايات مجموعة بعد زمن طويل من نزولها. ولعل من أعظم الأدلة على أن التوراة الحقيقية كانت ضائعة، هذا النص الموجود في سفر الملوك الثاني في الإصحاح الثاني والعشرين والإصحاح الثالث والعشرين وفيهما: (فقال حلقيا الكاهن العظيم لشافان الكاتب قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب. وسلم حلقيا السفر لشافان فقرأه .... فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق ثيابه ... اذهبوا واسألوا الرب لأجلي ولأجل الشعب ولأجل كل يهوذا من جهة كلام

هذا السفر الذي وجد لأنه عظيم هو غضب الرب الذي اشتعل علينا من أجل أن آباءنا لم يسمعوا لكلام هذا السفر ..... وقرأ في آذانهم كل كلام سفر الشريعة الذي وجد في بيت الرب .... ) فإذا كان سفر الشريعة قد عثر عليه في زمن الملك يوشيا الذي لم يكن بينه وبين سبي بابل إلا ملكان هما: يهوآحاز، ويهوياتيم فما بالك ببقية التوراة، وما بالك بما جرى لها بعد سبي بابل، فإذا عرفنا أن المعروف أن التوراة قد جمعت من الروايات الشفهية بعد غزو بابل، أدركنا ما طرأ عليها، وعرفنا نعمة الله الذي أنزل هذا القرآن، مستوعبا التوراة والإنجيل والزبور، وزائدا على الجميع، بمجموع ما فيه، ومن ثم نجد فيه مثل هذا الكمال. فهذا الفصل الذي رأيناه من قصة يوسف يستوعب ما ورد في الإصحاح الحادي والأربعين: ويزيد عليه بتفصيلات كثيرة هي من اللباب في باب الهداية. هذا مع الدقة والصدق والخلو من الحشو والخطأ والباطل، وتحريفات أقلام النساخ الكاذبة، ونلاحظ أن الإصحاح الحادي والأربعين في التوراة الحالية يقص قصة زواج يوسف عليه السلام من بنت كاهن أون، وليس في ذلك أي إشارة إلى أن زوجته هذه هي زوجة سيده، وإنما أشرنا إلى هذا المعنى لأن بعض المفسرين يستطردون في هذا المقام فينقلون نقولا إما أنها من روايات أهل الكتاب، أو من اختلاق القصاص، وليس عليها من دليل قائم من كتاب أو سنة أو حتى رواية توراة مختلطة، فإذا استقرت هذه المعاني أصبح بإمكاننا أن ننقل الإصحاح كله، ومن قراءته يدرك القارئ الفارق العظيم بين القرآن وغيره، ويرى مظهرا من مظاهر الإعجاز، ويعرف بذلك كيف أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عند بشر، ويعرف لم كانت سورة يوسف نموذجا على الإعجاز الذي ينفي الريب عما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو الإصحاح الحادي والأربعون: (وحدث من بعد سنتين (¬1) من الزمان أن فرعون رأى حلما. وإذا هو واقف عند النهر. وهو ذا سبع بقرات طالعة من النهر حسنة المنظر وسمينة اللحم. فارتعت في روضة. ثم هو ذا سبع بقرات أخرى طالعة وراءها من النهر قبيحة المنظر ورقيقة اللحم. فوقفت بجانب البقرات الأولى على شاطئ النهر فأكلت البقرات القبيحة المنظر والرقيقة اللحم البقرات السبع الحسنة المنظر والسمينة. واستيقظ فرعون ثم نام فحلم ثانية، وهو ذا سبع سنابل طالعة في ساق واحد سمينة وحسنة، ثم هو ذا سبع سنابل رقيقة وملفوفة بالريح الشرقية ثابتة، وراءها. فابتلعت السنابل الرقيقة السنابل ¬

_ (¬1) أي بعد خروج الفتيين من السجن بسنتين.

السبع السمينة الممتلئة، واستيقظ فرعون وإذا هو حلم. وكان في الصباح أن نفسه انزعجت فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها، وقص عليهم فرعون حلمه، فلم يكن من يعبره لفرعون: ثم كلم رئيس السقاة فرعون قائلا أنا أتذكر اليوم خطاياي. فرعون سخط على عبديه فجعلني في حبس بيت رئيس الشرط أنا ورئيس الخبازين، فحلمنا حلما في ليلة واحدة. أنا وهو حلمنا كل واحد بحسب تعبير حلمه. وكان هناك معنا غلام عبراني عبد لرئيس الشرط فقصصنا عليه فعبر لنا حليمنا. عبر لكل واحد بحسب حلمه. وكما عبر لنا هكذا حدث. ردني أنا إلى مقامي، وأما هو فعلقه فأرسل فرعون ودعا يوسف فأسرعوا به من السجن، فحلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون فقال فرعون ليوسف حلمت حلما وليس من يعبره. وأنا سمعت عنك قولا إنك تسمع أحلاما لتعبرها فأجاب يوسف فرعون قائلا ليس لي. الله يجيب بسلامة فرعون. فقال فرعون ليوسف إني كنت في حلمي واقفا على شاطئ النهر. وهو ذا سبع بقرات طالعة من النهر سمينة اللحم وحسنة الصورة فارتعت في روضة، ثم هو ذا سبع بقرات أخرى طالعة وراءها مهزولة وقبيحة الصورة جدا ورقيقة اللحم. لم انظر في كل أرض مصر مثلها في القباحة. فأكلت البقرات الرقيقة والقبيحة البقرات السبع الأولى السمينة. فدخلت أجوافها ولم يعلم أنها دخلت في أجوافها فكان منظرها قبيحا كما في الأول. واستيقظت ثم رأيت في حلمي، وهو ذا سبع سنابل طالعة في ساق واحد ممتلئة وحسنة ثم هو ذا سبع سنابل يابسة رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها فابتلعت السنابل الرقيقة السبع الحسنة فقلت للسحرة ولم يكن من يخبرني. فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد، قد أخبر الله فرعون بما هو صانع، البقرات السبع الحسنة، هي سبع سنين، والسنابل السبع الحسنة هي سبع سنين، هو حلم واحد، والبقرات السبع الرقيقة القبيحة التي طلعت وراءها هي سبع سنين، والسنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية تكون سبع سنين جوعا، هو الأمر الذي كلمت به فرعون. قد أظهر الله لفرعون ما هو صانع هو ذا سبع سنين قادمة شبعا عظيما في كل أرض مصر ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا. فينسى كل الشبع في أرض مصر، ويتلف الجوع الأرض ولا يعرف الشبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده. لأنه يكون شديدا جدا. وأما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين فلأن الأمر مقرر من قبل الله والله مسرع ليصنعه.

فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا ويجعله على أرض مصر. يفعل فرعون فيوكل نظارا على الأرض، ويأخذ خمس غلة أرض مصر فى سبع سني الشبع، فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن ويحفظونه. فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر. فلا تنقرض الأرض بالجوع. فحسن الكلام في عيني فرعون. وفى عيون عبيده، فقال فرعون لعبيده هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله. ثم قال فرعون ليوسف بعد ما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك، أنت تكون على بيتي وعلى فمك يقبل جميع شعبي. إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك. ثم قال فرعون ليوسف انظر. قد جعلتك على كل أرض مصر. وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف. وألبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه. وأركبه في مركبته الثانية. ونادوا أمامه اركعوا. وجعله على كل أرض مصر. وقال فرعون ليوسف أنا فرعون فبدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر. ودعا فرعون اسم يوسف صفنات فعنيح وأعطاه أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة. فخرج يوسف على أرض مصر، وكان يوسف ابن ثلاثين سنة لما وقف قدام فرعون ملك مصر، فخرج يوسف من لدن فرعون واجتاز في كل أرض مصر. وأثمرت الأرض في سبع سني الشبع بحزم. فجمع كل طعام السبع الذي حواليها جعله فيها، وخزن يوسف قمحا كرمل البحر كثيرا جدا حتى ترك العدد إذ لم يكن له عدد وولد ليوسف ابنان قبل أن تأتي سنة الجوع. ولدتهما له أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون. ودعا يوسف اسم البكر قنسى قائلا لأن الله أنساني كل تعبي وكل بيت أبي، ودعا اسم الثاني أفرايم قائلا لأن الله جعلنى مثمرا في أرض مذلتي. ثم كملت سبع سني الشبع الذي كان في أرض مصر. وابتدأت سبع سني الجوع تأتي كما قال يوسف. فكان جوع في جميع البلدان. وأما جميع أرض مصر فكان فيها خبز. ولما جاعت جميع أرض مصر وصرخ الشعب إلى فرعون لأجل الخبز قال فرعون لكل المصريين اذهبوا إلى يوسف. والذي يقول لكم افعلوا وكان الجوع على كل وجه الأرض. وفتح يوسف جميع ما فيه طعام وباع للمصريين. واشتد الجوع في أرض مصر. وجاءت كل الأرض إلى مصر إلى يوسف لتشتري قمحا. لأن الجوع كان شديدا في كل الأرض.).

2 - لفت نظرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواقف في قصة يوسف عليه السلام، رحمة بهذه الأمة. فلنر ذلك: في المسند والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى الآية (والمعنى: وإذ لم نشك نحن فإن إبراهيم لم يقل كلمة شكا) ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» وفي هذا الشأن بيان للرخصة رحمة بأفراد هذه الأمة، حتى لا يظن أحد من هذه الأمة أن عليه أن يقف موقف يوسف في رفض الخروج حتى تثبت البراءة، وفي لفظ الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر». وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر» قال ابن كثير: هذا حديث مرسل. وكما قلنا فإن رسولنا عليه الصلاة والسلام يعطي هذه الأمة رخصة في هذا المقام: وإلا فما أوقف الله رسوله صلى الله عليه وسلم موقفا إلا وتصرف فيه التصرف الأعلى والأكمل والأرقى. 3 - في طلب يوسف الولاية من سلطة كافرة بناء على كفايته، وأمانته في القيام بمضمونها، وقبوله ما يشبه الوزارة في دولة كافرة، وهو محل القدوة، دليل على أن حكم الله في هذا الموضوع مرتبط بمصلحة الإسلام والمسلمين ومصلحة الخلق، وهو موضوع يحتاج إلى موازنات كثيرة، وشورى من أهلها إن وجدوا، وقد غلط ناس ظنوا أن المشاركة في وزارة أو غيرها في كل سلطة كافرة حرام بإطلاق، وفى ثناء يوسف عليه السلام على نفسه دليل على أنه يجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة. وهاتان قضيتان مهمتان في عصرنا. ففي عصرنا حيث يتحكم الكفر ويحكم. وحيث فرضت أنظمة كافرة على أقطار إسلامية، تجد بعض المسلمين يترددون في المشاركة في الحكم، أو في رفضه، وتجدهم يترددون في ترشيح أنفسهم لمناصب

الدولة، والذي نفهمه من قصة يوسف عليه السلام أنه يستطيع المسلم أن يزكي نفسه في بعض الحالات، وأن يستلم منصبا من مناصب الدولة إذا كان في ذلك خدمة لدين الله، أو مصلحة للمسلمين، أو منفعة عامة للخلق، لا يرافقها إثم، ويتدخل في هذا الموضوع عامل النية، وموقف أهل الحق. فإذا ارتأى أهل الحق لأحدهم أن يفعل شيئا فعليه أن يفعل على شرط تصحيح النية. وفى كتابنا (دروس في العمل الإسلامى) بيان لهذا الموضوع، وليس كلامنا في عمل يتنافى مع العقيدة، أو يضطر صاحبه للنفاق، أو لعمل آثم. والموازنة دائما بين الجيد والأجود، والعزيمة والرخصة، واختيار أخف الشرين، وأهون الضررين صعبة. وتحتاج إلى توفيق إلهي. إن الذين يخطئون المسلم الصالح الذي يقبل وزارة في بلد كالهند الحالية يحكمون على الإسلام بالدمار هناك، والذين يقبلون النعال ويركبون متن النفاق للوصول إلى وزارة لا يخدمون فيها إلا الكفر، ليسوا إلا طلاب دنيا. والقاعدة: إذا وجد أهل الشورى من أهل الحق، ورأوا رأيا، أو رأت أكثريتهم رأيا فهو الفيصل في كل زمان ومكان. لأن قضايا الحياة من التعقيد بحيث لا يسع المسلمين فيها موقف لين، أو موقف صلب. ولقد قال الألوسي عند قوله تعالى حكاية عن يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلا وكان متعينا لذلك، وما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فأنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها» والمراد في غير ما ذكر) اهـ كلام الالوسي 4 - مر معنا أن الرؤيا لأول عابر، ونلاحظ أن حاشية فرعون ومن عرض عليهم رؤياه قالوا عنها أضغاث أحلام، وهم أول من قال فيها كلمة، ومع ذلك لم تعتبر كلمتهم، ومن هنا نفهم، أن الرؤيا لأول عابر بعلم، أما الجهلة فهؤلاء ليسوا معبرين، وإنما هم متقولون، فالعبرة للعابر الأول الذي اتصف بأهلية التعبير. 5 - للآلوسي تحقيق في التفريق بين الرؤيا والحلم يذكره بمناسبة قوله تعالى قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وهذا هو كلامه قال: (والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع، وقال بعضهم: الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم

مطلقا، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشئ الحسن، وغلب الحلم على خلافه، وفي الحديث «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وقال التوربشتي: الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا، والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع صلى الله عليه وسلم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمى ما كان من الله تعالى وما كان من الشيطان باسم واحد، فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح؛ لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشئ بالبصر والبصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان؛ لأن أصل الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له) أهـ وهو كلام حسن. ولننتقل إلى المشهد السادس: ***

المشهد السادس

المشهد السادس ويمتد من الآية (58) إلى نهاية الآية (101) وهذا هو: [سورة يوسف (12): الآيات 58 الى 101] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

التفسير

التفسير: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ليمتاروا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ بلا تعريف وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي لا يعرفونه لأنهم فارقوه وهو صغير حدث، وباعوه للسيارة، وما كانوا

[سورة يوسف (12): آية 59]

يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، فلهذا لم يعرفوه وهو فيما هو فيه، وأما هو فعرفهم، وفي الإصحاح الثاني والأربعين من التوراة المحرفة الحالية ذكر إرسال يعقوب أولاده لمصر ليشتروا قمحا وفيه (ولما نظر يوسف إخوته عرفهم فتنكر لهم وتكلم معهم بجفاء وقال لهم من أين جئتم فقالوا من أرض كنعان لنشتري طعاما، وعرف يوسف إخوته وأما هم فلم يعرفوه) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي أوفى لهم كيلهم وحمل لهم أحمالهم قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أي بنيامين أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي أتمه وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي المضيفين، وقد رأوا من حسن إنزاله وضيافته الكثير، وفي هذا ترغيب لهم على الرجوع إليه ثم رهبهم فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي فلا أبيعكم طعاما وَلا تَقْرَبُونِ أي فإن لم تأتوني به فلا تأتوا إلي قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنخادعه عنه ونحتال حتى ننزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك لا محالة، لا نفرط فيه ولا نتوانى عنه، وعدوه أنهم سيحرصون على مجيئه إليه بكل ممكن، ولا يبقون مجهودا في هذا الشأن وَقالَ لِفِتْيانِهِ أي لغلمانه الكيالين اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها فِي رِحالِهِمْ أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي لعلهم يعرفون حق ردها، وحق التكرم بإعطاء البدلين إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وقد تكون الحكمة في فعله أنه خشي ألا يجدوا بضاعة بها يرجعون، أو ظنا منه أن ما فيهم من الديانة يعيدهم لرد الأمانة، أو أنه لم ير أن من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ بالطعام وأخبروه بما فعل قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ يشيرون إلى ما قاله يوسف لهم فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ فبه نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن أن يناله مكروه، وكانت ككلمتهم يوم أخذوا يوسف وقد وعدوه بحفظه ولهذا قال لهم هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ يعني: أنكم قلتم في يوسف كما تقولون في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك، وكأن لسان حاله يقول هل أنتم صانعون به كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيبونه عني، وتحولون بيني وبينه فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي سيرحم كبري وضعفي، ووجدي بولدي، وأرجو من الله أن يرده علي، ويجمع شملي به، لأنه خير الحافظين وأرحم الراحمين وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي ما نظلم في القول

[سورة يوسف (12): آية 66]

ولا نتجاوز الحق وهذه علامة صدقنا في قولنا. أو ما نطلب وراء ما فعل بنا، أو أي شئ نطلب وراء هذا هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي إذا أرسلت أخانا معنا، نأتي بالميرة إلى أهلنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ أي وسق بعير باستصحاب أخينا ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي سهل متيسر في مقابلة أن يأخذوا معهم أخاهم فقط. وهذه الحكمة الرئيسية في وضع بضاعتهم في رحالهم أن يوسف أراد أن تكون لهم حجة في المجئ بأخيهم قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي حتى تعطوني ما أتوثق به من عند لله أي أراد أن يحلفوا له بالله، لأن الحلف بالله مما يؤكد به العهود لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به، أي لا تمتنعوا من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، بأن تغلبوا كلكم فلا تقدرون على تخليصه فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ بأن حلفوا له، أكده عليهم قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي الله على ما نقوله من طلب الموثق وإعطائه وكيل، أي رقيب مطلع وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ الجمهور على أنه خاف عليهم العين لجماعتهم، وجلالة أمرهم، ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم، كانوا مجهولين، وقيل: إنه أحب ألا يفطن بهم فيكاد لهم، وهذا من كمال التأديب وكمال الاحتياط. وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي إن كان الله أراد بكم سوءا لم ينفعكم، ولم يدفع عنكم ما أشرت عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة. أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ بين لهم أنه لا حاكم إلا الله، ومن ثم أمرهم بالتوكل عليه، والتوكل: تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه. وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي متفرقين ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ أي دخولهم من أبواب متفرقة مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما يغني عنهم ذلك شيئا قط، وقد حدث لهم ما ساءهم بعد من إضافة السرقة إليهم، وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله. وتضاعف المصيبة على أبيهم إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي شفقته عليهم، أو هي دفع إصابة العين لهم وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي وإنه لذو علم لتعليمنا إياه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك أي علم الأنبياء وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضم إليه أخاه بنيامين قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

[سورة يوسف (12): آية 70]

بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا، وجمعنا على خير. ويبدو أنه أمره بكتمان ذلك عنهم، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده، معززا مكرما معظما فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي هيأ أسبابهم، وأوفى الكيل لهم جَعَلَ السِّقايَةَ هي مشربة من فضة. وفي التوراة الحالية (وطاسي طاس الفضة تضع في فم عدل الصغير). فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي في متاع بنيامين ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي نادى مناد أَيَّتُهَا الْعِيرُ العير: هي الإبل التي عليها الأحمال والمراد: يا أصحاب الجمال إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فلما سمعوا التهمة قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ أي صاعه الذي يكيل به وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي وسق بعير من طعام. مكافأة لمن حصله وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي كفيل أن أؤديه لمن جاء به، فتعجبوا أن يرمى أمثالهم بمثل هذه التهمة، مع ما دل عليه حالهم من أمانتهم، إذ ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم كما تذكر التوراة الحالية، لذلك قالوا قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ أي ما كنا نوصف قط بالسرقة. والمعنى: لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا أنه ليس من سجايانا الإفساد والسرقة قالُوا فَما جَزاؤُهُ الضمير يعود إما إلى السارق، أو إلى المسروق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي في جحودكم وادعائكم البراءة، أي شئ تكون عقوبته إن وجدنا فيكم الآخذ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي السارق يدفع إلى المسروق منه، وفي التوراة الحالية (فقال نعم بحسب كلامكم هكذا يكون الذي يوجد معه يكون لي عبدا وأما أنتم فتكونون أبرياء) كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي هذه شريعتنا أن نجزي السراق بالاسترقاق، وهذا الذي أراد يوسف أن يصل إليه، ولهذا بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء أخيه تورية فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ أي فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة. وفي التوراة الحالية (ففتش مبتدئا من الكبير حتى انتهى إلى الصغير، فوجد الطاس في عدل بنيامين) ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم. وإلزامهم إلزاما لهم بما يعتقدونه، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف، أي علمناه إياه، ثم فسر الله ما كاد ليوسف فقال: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في شريعته، وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ هذا ثناء ضمني على يوسف إذ المعنى: نرفع

نقل

درجات في العلم من نشاء، كما رفعنا درجة يوسف عليه السلام وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي وفوق كل ذي علم أرفع درجة منه في علمه، أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم وهو الله عزّ وجل. قال الحسن البصري في تفسيرها: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزّ وجل. وقال سعيد بن جبير: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال: الحمد لله، فوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس: بئس ما قلت، الله العليم فوق كل عالم». نقل: بمناسبة قوله تعالى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ .. قال صاحب الظلال: (إن هذه النص يحدد مدلول كلمة «الدين» - في هذا الموضع- تحديدا دقيقا .. إنه يعني: نظام الملك وشرعه .. فإنه نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته. إنما هذا نظام يعقوب وشريعة دينه، وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعته، فطبقها يوسف عليهم عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيه .. وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها «الدين» هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا. إنهم يقصرون مدلول «الدين» على الاعتقاد والشعائر .. ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويؤدي الشعائر المكتوبة .. داخلا في «دين الله» مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع، وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في الأرض .. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول «دين الملك» بأنه نظام الملك وشريعته وكذلك «دين الله» فهو نظامه وشريعته .. إن مدلول «دين الله» قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر .. ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وإفراده سبحانه بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء، وتقرير ربوبيته وحده للناس أي: حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين «الله» ومن هم في «دين الملك» أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه. أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ويدينون لغير الله في النظام والشرائع!

[سورة يوسف (12): آية 77]

وخير لنا من أن ندافع عن الناس- وهم في غير دين الله- ونتلمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر دينه وحدوده! خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول «دين الله» ليدخلوا فيه أو يرفضوه .. هذا خير لنا وللناس أيضا .. خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه- وأنهم في دين الملك لا في دين الله- قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام ومن دين الملك إلى دين الله! كذلك فعل الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه- وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان .. » ولنتابع عرض القصة: قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ أي يوسف فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي مقالتهم إنه سرق كأنه لم يسمعها وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي أنتم شر منزلة في السرقة، وكأنه أراد سرقته من أبيه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي بما تقولون أو تكذبون من اتهامكم بنيامين وأخيه بالسرقة، ولما تعين أخذ بنيامين وتقرر بمقتضى اعترافهم شرعوا يترفقون له، ويعطفونه عليهم قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ أي بدله يكون عندك عوضا عنه على وجه الاسترقاق أو الاسترهان، فإن أباه يتسلى به. وفي التوراة الحالية المحرفة في الإصحاح الرابع والأربعين من سفر التكوين نجد: (ثم تقدم إليه يهوذا وقال استمع يا سيدي ليتكلم عبدك كلمة في أذني سيدي. ولا يحم غضبك على عبدك. لأنك مثل فرعون. سيدي سأل عبيده قائلا هل لكم أب أو أخ فقلنا لسيدي لنا أب شيخ وابن شيخوخة صغير مات أخوه وبقي هو وحده لأمه وأبوه يحبه. فقلت لعبيدك انزلوا به إلي فأجعل نظري عليه. فقلنا لسيدي لا يقدر الغلام أن يترك أباه، وإن ترك أباه يموت. فقلت لعبيدك إن لم ينزل أخوكم الصغير معكم لا تعودون تنظرون وجهي. فكان لما صعدنا إلى عبدك أبي أننا أخبرناه بكلام سيدي، ثم قال أبونا ارجعوا اشتروا لنا قليلا من الطعام. فقلنا لا نقدر أن ننزل وإنما إذا كان أخونا الصغير معنا ننزل. لأننا لا نقدر أن ننظر وجه الرجل وأخونا الصغير ليس معنا. فقال لنا عبدك أبي أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت لي اثنين. فخرج الواحد من عندي وقلت إنما هو قد افترس افتراسا. ولم أنظره إلى الآن. فإن أخذتم هذا أيضا من أمام وجهي وأصابته أذية تنزلون شيبتي بشر إلى الهاوية. فالآن متى جئت إلى عبدك أبي والغلام ليس معنا ونفسه مرتبطة بنفسه يكون

[سورة يوسف (12): آية 79]

متى رأى أن الغلام مفقود أنه يموت. فينزل عبيدك شيبة عبدك أبينا بحزن إلى الهاوية. لأن عبدك ضمن الغلام لأبي قائلا إن لم أجئ به إليك أصر مذنبا إلى كل الأيام. فالآن ليمكث عبدك عوضا عن الغلام عبدا لسيدي، ويصعد الغلام مع إخوته. لأني كيف أصعد إلى أبي والغلام ليس معي لئلا انظر الشر الذي يصيب أبي) ولنا على هذا النقل ملاحظة سريعة هي أن النص قيد البدل بأنه يهوذا، بينما النص القرآني ترك ليوسف الخيار في أن يأخذ من يشاء، وهذا من تحريف النساخ كما سنرى في آخر القصة. وبعد أن اقترحوا أن يأخذ أحدهم مكانه أثنوا عليه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي إلينا فأتمم إحسانك، أو بشكل مطلق أي من عادتك الإحسان فاجر على عادتك ولا تغيرها قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ أي نعوذ بالله معاذا من أن نأخذ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إذ هو منطق العدل، ولم يكن ذلك إلا كما قلتم واعترفتم وألزمتم به أنفسكم إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ أي إن أخذنا بريئا بمن وقع بمثل ما رأيتم، أي إن أخذنا بدله ظلما، لأنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصاع في رحله، واستعباده فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم؟! فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي فلما يئسوا من يوسف وإجابته إياهم، أو فلما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين خَلَصُوا أي انفردوا عن الناس نَجِيًّا أي يتناجون فيما بينهم يديرون أمرهم على أي صفة يذهبون، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم قالَ كَبِيرُهُمْ هل المراد هنا كبيرهم في السن فيكون رأوبين؟ أو المراد به كبيرهم في الشأن، والعقل والوفاء فيكون يهوذا؟ وهو رواية التوراة الحالية أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي لتردنه إليه، وقد تعذر هذا وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه. والمعنى: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم، أو ومن قبل هذا تفريطكم كائن في يوسف، وبسبب هذا فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أي في الرجوع إليه راضيا عني أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي إما بالخروج منها أو بالموت، أو بتخليص بنيامين، أو بالإيحاء إلى يعقوب ببراءتنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع حتى يكون عذرا لهم عنده،

[سورة يوسف (12): آية 82]

ويتنصلوا إليه ويبرءوا مما وقع، فقال: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمنا من سرقته وتيقنا، إذ الصواع استخرج من وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي وما علمنا أنه سيسرق، حين أعطيناك المواثيق، وما كنا في الغيب عالمين أنه سرق له شيئا عند ما سألنا جزاء السارق، فقلنا ما قلنا وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها أي مصر. أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي والقافلة التي رافقناها عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته قالَ أي بعد أن رجعوا إليه، وقالوا له ما قال لهم أخوهم بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً هذا مثل قوله لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب، اتهمهم بسبب سابقتهم وبدلالة حالهم. كأنه قال: من أدرى ذلك الرجل أن السارق يسترق لولا فتواكم وتعليمكم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي لا شكوى معه، ثم ترجى من الله تعالى: أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف، وبنيامين، ومن بقي في مصر فقال عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ ولم يقل بهما لأنهم أصبحوا ثلاثة جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي في الحزن والأسى الْحَكِيمُ في أفعاله وقضائه وقدره الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به وَقالَ يا أَسَفى أي يا أسفي، والأسف: أشد الحزن والحسرة عَلى يُوسُفَ جدد له حزن الابنين الحزن الدفين الأول، دل هذا على أن الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضا عنده وطريا وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم وعلى هذا فمعنى كظيم: ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق. وفسرها بعضهم بأنه كئيب حزين. قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي لا تفتأ أي لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تفارق تذكر يوسف حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أي ضعيف القوة مشفيا على الهلاك أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ حقيقة أي إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك العجز أو الهلاك. قالوا له هذا رقة له، وشفقة عليه، ورأفة به، وهم في الظاهر سبب ما هو فيه، دل ذلك على مبلغ حزنه. قال النسفي: ويجوز للنبي أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ لأن الإنسان مجبول على ألا يملك نفسه عند الحزن، ولذلك حمد صبره قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس أي ينشره وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أي إنما أشكو إلى ربي داعيا له، وملتجئا إليه فخلوني وشكايتي وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي وأعلم من رحمته أنه يأتيني

[سورة يوسف (12): آية 87]

بالفرج من حيث لا أحتسب، ولعلها إشارة إلى تيقنه أنه سيلقى يوسف، ويحدث ما رأى يوسف في رؤياه، أو لعله أشار إلى معرفته من قبل الوحي أن يوسف لم يمت، ثم ندب بنيه إلى الذهاب في الأرض مستعلمين أخبار يوسف وأخيه يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي فتعرفوا منهما، وتطلبوا خبرهما، والتحسس يكون في الخير، والتجسس يكون في الشر، ثم نهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله، وألا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فقال وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي ولا تقنطوا من رحمة الله وفرجه إِنَّهُ أي إن الأمر والشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لأن من آمن يعلم أنه متقلب في رحمة الله ونعمته، وأما الكافر فلا يعرف رحمة الله ولا تقلبه في نعمته، فييأس من رحمته فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ تقدير الكلام فذهبوا فدخلوا مصر، ودخلوا على يوسف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أي الهزال من الشدة والجوع، أو أنهم شكوا الضر من الجدب والقحط وقلة الطعام وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا لها فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أي وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، أوهب لنا أخانا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ خاطبوه بلغة الإيمان. وعندئذ كشف لهم نفسه قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أي هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ لا تعلمون قبحه، أو إذ أنتم في حد السفه والطيش. أو إذ أنتم عاصون. قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل. قال ابن كثير: والظاهر- والله أعلم- أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك. والله أعلم لما ضاق الحال واشتد الأمر، فرج الله تعالى من ذلك الضيق قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ والاستفهام هنا يدل على الاستعظام. أي إنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من زمن وهم لا يعرفونه، وهو مع هذا يعرفهم، ويكتم نفسه قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي وإنما ذكر أخاه وهم قد سألوه عن نفسه لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالألفة بعد الفرقة. ذكر نعمة الله بالسلامة والكرامة، ولم يبدأ بالملامة والعتاب إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ الله بترك معصيته، وفعل طاعته وَيَصْبِرْ على قضاء الله وقدره، وعن المعاصي وعلى الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ والسياق يدل على أن المحسن من

[سورة يوسف (12): آية 91]

اجتمع له التقوى والصبر. وقد قالوا في تفسيرها: من يتق مولاه، ويصبر على بلواه، لا يضيع أجره في دنياه وعقباه قالُوا معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق، والسعة والملك، والتصرف والنبوة أيضا على قول من لم يجعلهم أنبياء. وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك وفضلك علينا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ أي وإن شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، ولسان الحال يقول: لا جرم أن الله أعزك بالملك، وأذلنا بالتمسكن بين يديك قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أي لا تأنيب عليكم، ولا عتب، ولا تعيير، وقوله اليوم يفيد أنني لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم زادهم الدعاء بالمغفرة فقال يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي إذا رحمتكم وأنا الفقير القتور، فما ظنكم بالغني الغفور اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي يصير بصيرا، أو يأت إلي وهو بصير وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي بجميع آل يعقوب. لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكى وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي خرجت من مصر قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف والكبر، إذ التفنيد النسبة إلى الفند: وهو الخرف وإنكار العقل، والمعنى: لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني قالُوا أي أسباطه تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي لفي خطئك القديم من حب يوسف، أو لفي نفس ذهابك القديم عن الصواب في إفراط محبتك ليوسف، وعلى كل فقد قالوا كلمة غليظة ما ينبغي أن تقال لأب، فكيف إذا كان رسولا فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أي حامل القميص أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً أي فرجع مبصرا قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ إشارة إلى أقواله السابقة إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أو لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أو إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين: قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ أي سل الله مغفرة ما ارتكبنا في حقك وحق ابنك، إنا تبنا واعترفنا بخطايانا قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أخر الاستغفار إما لوقت، أو ليتعرف حالهم في صدق التوبة، أو إلى أن يسأل يوسف هل عفا عنهم إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي من تاب إليه تاب عليه فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أي ضم إليه أَبَوَيْهِ أي يعقوب وزوجته، أي خالته، والخالة أم وَقالَ لهم بعد ذلك ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ

[سورة يوسف (12): آية 100]

من الجور والقحط والجهد وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي على السرير، أي أجلسهما معه على سريره وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ أي تعبير وتفسير رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ وهي التي قصها الله تعالى في ابتداء القصة قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي صادقة وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي إلي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ولم يذكر الجب لقوله لا تثريب عليكم، وهذا من كمال ذوقه ولطفه وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية لأنهم كانوا أصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ أي أفسد بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي لطيف التدبير لما يشاء، أي إذا أراد أمرا قيض له أسبابا، وقدره ويسره إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ أي بمصالح عباده الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده، فإن أخر الآمال إلى آجال فلحكمة، أو حكم بالائتلاف بعد الاختلاف فلحكمة، وكل أفعاله حكمة، ثم دعا بعد أن تمت عليه النعمة باجتماعه بأبويه وإخوته وما من الله به عليه من النبوة والملك رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي السلطان وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير الرؤيا، أو تفسير كتب الله، واستعماله للفظ (من) في الحالين وهي تفيد التبعيض إشارة إلى أنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يا خالق السموات والأرض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي أنت تتولاني بالنعمة في الدارين، بوصل الملك الفاني بالملك الباقي، تَوَفَّنِي مُسْلِماً طلب الوفاة على حال الإسلام مع أنه رسول معصوم ليقتدي به قومه، ومن بعده ممن ليس بمأمون العاقبة وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو على العموم. وهكذا انتهت القصة ولم يبق من السورة إلا خاتمتها. فوائد: 1 - هذا المشهد الطويل الأخير موجود في التوراة الحالية من الإصحاح (42) إلى الإصحاح (47) من سفر التكوين وتحريف النساخ والرواة في هذه الإصحاحات ظاهر، فمثلا تذكر رواية التوراة الحالية أن يوسف عليه السلام في الرحلة الأولى احتجز أحد إخوته وهو شمعون، ويعتمد هذا بعض المفسرين. يذكر هذا في الإصحاح الثاني والأربعين ولكنا نلاحظ بعد ذلك أن الإصحاح الثالث والأربعين يذكر كيف أن الجوع عض يعقوب وأهله حتى أمرهم بالعودة إلى مصر فرفضوا إلا أن يأخذوا بنيامين، وليس في هذا التباطؤ ما يشير إلى أن هناك أخا يحتاج إلى إنقاذ. وفي هذا الإصحاح نجد هذا

النص (وخذوا أخاكم وقوموا ارجعوا إلى الرجل والله القدير يعطيكم رحمة أمام الرجل حتى يطلق لكم أخاكم الآخر وبنيامين وأنا إذا عدمت الأولاد عدمتهم) فما معنى أن يقول: حتى يطلق لكم أخاكم الآخر وبنيامين. مع أن بنيامين على حسب هذه الرواية لم يبرح بعد. والإصحاحات هذه لا تذكر إلا رحلتين ثم الجلاء العام إلى مصر. فهذا النقل الذي نقلناه يدل على التحريف الواقع، وهو أن رحلة من الرحلات قد أغفلت. وهي الرحلة الثانية التي أخذ فيها بنيامين. فبقى بسبب ذلك أحد إخوته في مصر من أجله، وخلط موضوع الرحلة الثانية في موضوع الرحلة الأولى والثالثة، إذ الإصحاحات تذكر أنه بعد اكتشاف سرقة بنيامين مباشرة كشف يوسف نفسه، فليس بين الإعلان عن عبودية بنيامين وكلام يهوذا له، ثم كشفه لهم أنفسهم إلا دقائق فما الفائدة إذن من كل العملية التي عملها يوسف في وضع الصاع في رحل أخيه إذا كان الأمر كذلك؟ ثم لا نجد إطلاقا أي كلام عن شمعون الذي احتجزه يوسف في المرة الأولى على زعم رواية التوراة الحالية بعد العودة. كل هذا يدل على أن الزمن قد عمل في تحريف الرواية، وأن أقلام النساخ الكاذبة قد عملت عملها، والله عزّ وجل في القرآن قد صحح الخطأ وبين لنا الحقيقة. وهذا النص الذي نقلناه وحده كاف ليرينا نوعا من أنواع الإعجاز في هذا القرآن، ومن ثم فإننا لا نستطيع أن نأخذ من هذه الإصحاحات شيئا يعتد به، بل على العكس نقول إن هذه الإصحاحات فيها من النقص والتحريف والإجمال ما أكمله القرآن وسدده وفصله، فمثلا تذكر الإصحاحات أنه بعد اكتشاف الصاع في رحل بنيامين (وحمل كل واحد على حماره ورجعوا إلى المدينة) فلا تذكر الجمال مع أن النص القرآني يقول أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فهل من المعقول في رحلة كهذه أن يكون الحمار هو أداة الحمل، الظاهر أن الحمار لركوبهم ولا بد أن يكون معهم جمال، وفي الإصحاحات كما رأينا في النقل عن خطاب يهوذا ليوسف اقتراح من يهوذا أن يحل محل بنيامين في العبودية، والقرآن يذكر أن كبيرهم هو الذي بقي في مصر من أجل بنيامين، وكبيرهم هو رأوبين، مع أن التوراة تذكر أن الذي احتجز أول مرة هو شمعون، ومع أن المفسرين المسلمين يحتملون أن يكون المراد بكلمة كبيرهم، كبيرهم في الرأي، أو رئيسهم في رحلتهم، إلا أننا نؤثر ألا نجزم في هذا الموضوع برأي ونبقي النص القرآني على ظاهره. حتى إن ابن كثير يرفض رواية التوراة جملة في كون أم يوسف راحيل كانت ميتة عند ما ورد يعقوب عليه السلام إلى مصر، أخذا بظاهر النص القرآني وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ إلا أن مفسرين آخرين لا

يستبعدون أن يكون المراد هنا خالته زوجة أبيه لأن حكمها حكم الوالدة. وخلال الكلام عن يوسف هنا يذكر بعض المفسرين روايات كثيرة مرجعها كلام أهل الكتاب وليس في ذكرها كبير طائل ما دام الأصل الأكبر لروايات أهل الكتاب لا يمكن الاعتماد عليه في هذا الموضوع. 2 - تذكر الإصحاحات المذكورة أن عدد بيت يعقوب عند ما سكنوا مصر كان سبعين نفسا، كما تذكر أن المجئ إلى مصر بعد سنتين من سني الجوع، وأنهم سكنوا في أرض جاسان وهي تقع شمالي القاهرة الحالية، وإلى الغرب من قناة السويس الحالية، وفيها أن يعقوب عاش بعد دخولهم مصر سبع عشرة سنة، فكانت أيام يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة، وأنه أوصى ألا يدفن في مصر بل يدفن في أرض آبائه، وقد فعل يوسف ما أوصاه به أبوه، وأما يوسف فقد دفن في أرض مصر، ولكنه أوصى أن يحمل إذا خرج بنو إسرائيل من مصر. 3 - يلاحظ أن سفر التكوين الذي هو السفر الأول من أسفار التوراة ينتهي بكلام عن يوسف، وإذا استعرضناه فإننا لا نجد أمرا فيه ذا شأن إلا وهو موجود في القرآن بشكل أصح وأدق، حتى إنك لا تجد شيئا غريبا عنك إلا بعض تفصيلات لا تفيد ذكرا ولا عظة ولا تشريعا ولا شيئا، وما من شئ فيه قد ذكره القرآن إلا وقد ذكره في السياق المناسب والمكان الذي يكون فيه أكثر عطاء. فمثلا في الإصحاح التاسع والأربعين نجد وصية يعقوب لأولاده عند موته، وقد قص القرآن علينا هذه الوصية في سورة البقرة، وهي الوصية الحقيقية التي تتفق مع منطق الأنبياء، أما في هذا الإصحاح فلا نجد مثل هذه الوصية الجامعة للجميع، وإنما نجد كلاما عن كل ولد من الأولاد وبهذه المناسبة نقول إنه يوجد في هذا الإصحاح هذا النص (لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب) وفي كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) بينا في الفصل الخامس كيف أن أصل هذا النص لا يمكن أن يحمل إلا على أنه بشارة برسولنا عليه الصلاة والسلام، فإذا اتضح ما أسلفنا علمنا كيف أن هذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه، وفي قصة يوسف نموذج على ذلك، ومن ثم جاءت في السياق الكلي للقرآن في محور التدليل على أن هذا القرآن من عند الله لا ريب في ذلك. 4 - بمناسبة قوله تعالى: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى محارب بن دثار قال: كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السحر فاغفر لي، قال:

فاستمع الصوت، فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً قال ابن كثير: (وقد كان هذا سائغا في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره. وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذا يا معاذ؟» فقال: إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله، فقال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها». وفي حديث آخر: أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة- وكان سلمان حديث عهد بالإسلام- فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت». والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم، لهذا خروا له سجدا، فعندها قال يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ (الأعراف: 53) أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر. 6 - يذكر ابن كثير روايات متعددة عن المفسرين في الزمن الذي كان بين إلقاء يوسف في الجب وبين لقائه بأبيه، ومرجع هذه الروايات كلها روايات أهل الكتاب. وإذا رجعنا إلى التوراة الحالية فإن المدة التي يمكن استخلاصها هي اثنان وعشرون عاما، إذ ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة عاما، وخرج من السجن وهو ابن ثلاثين. وكانت سنو الشبع سبعا، وجاء يعقوب إلى مصر بعد سنتين من الجوع. 7 - بمناسبة قوله تعالى على لسان يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. قال ابن كثير: (وهذا الدعاء يحتمل أن يكون يوسف عليه السلام قاله عند احتضاره، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع إصبعه عند الموت ويقول: «اللهم في الرفيق الأعلى»، ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله وانقضى عمره، لا أنه سأله ذلك منجزا، كما يقول الداعي لغيره: أماتك الله على الإسلام، ويقول الداعي: اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. ويحتمل أنه سأل ذلك منجزا، وكان ذلك سائغا في ملتهم

كما قال قتادة: قوله (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) لما جمع الله شمله، وأقر عينه، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها، اشتاق إلى الصالحين قبله، وكان ابن عباس يقول: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام، وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس أنه أول نبي دعا بذلك، وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام، وكما أن نوحا أول من قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً (نوح: 28) ويحتمل أنه أول من سأل إنجاز ذلك، وهو ظاهر سياق قول قتادة، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا. روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنيا الموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي». وأخرجاه في الصحيحين. وعندهما: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إما محسنا فيزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب. ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي». وروى الإمام أحمد ... عن أبي أمامة قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ورققنا، فبكى سعد ابن أبي وقاص. فأكثر البكاء، وقال يا ليتني مت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد أعندي تتمنى الموت؟» وردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال: «يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير لك». وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إلا أن يكون قد وثق بعمله، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمله إلا خيرا». وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به، وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت، كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا (الأعراف: 126) وقالت مريم لما أجاءها المخاض- إلى جذع النخلة يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (مريم: 23) لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت وقد قالوا: يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا* يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (مريم: 27، 28) فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله، فكان آية عظيمة ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه، وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي في قصة المنام والدعاء، الذي فيه «وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني

إليك غير مفتون». وروى الإمام أحمد ... عن محمود بن لبيد مرفوعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب» فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة فقال: اللهم خذني إليك فقد سئمتهم وسئموني. وقال البخاري رحمه الله لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى. قال: اللهم توفني إليك، وفي الحديث: «إن الرجل ليمر بالقبر- أي في زمان الدجال- فيقول يا ليتني مكانك» لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون). 8 - أكثر المفسرين على أن السبب الذي دعا يعقوب إلى توصية أبنائه في الدخول من أبواب متفرقة هو خشيته عليهم من العين وليس في ذلك نص عن رسولنا عليه الصلاة السلام إلا أن النصوص كثيرة في إثبات أن العين حق وفي كتاب الأساس في السنة وفقهها نجد تفصيل ذلك. 9 - لا يوجد شئ في التوراة الحالية يشير إلى ماهية السرقة التي اتهم بها يوسف والتي أشار إليها إخوته بقولهم: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وليس عن رسولنا عليه الصلاة والسلام كلام في هذا الموضوع، إلا أن ابن كثير ينقل عن محمد بن إسحاق عن مجاهد القصة التالية- والله أعلم بصحتها ولا ندري من أين نقلها مجاهد:- قال مجاهد: «كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت إليها منطقة (¬1) إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان من اختبأها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته، وكان لها به وله، فلم تحب أحدا حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام فأتاها فقال: يا أخية سلمي إلي يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فوالله ما أنا بتاركته، ثم قالت: فدعه عندي أياما انظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه- أو كما قالت- فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟. ¬

_ (¬1) المنطقة: كل ما شد به الوسط.

فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، قال: فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ 10 - بمناسبة الكلام عن يوسف عليه السلام تكثر الروايات الإسرائيلية التي ينقلها بعضهم على أنها أحاديث وهي ليست كذلك وابن كثير نقل الكثير منها ورده ولم نشأ أن نعرج عليه 11 - من استعطاف إخوة يوسف ليوسف من أجل أخيهم وهم لا يعرفون أنه يوسف ندرك أن الشفاعة إلى الحاكم في محلها جائزة، إلا أنها في الإسلام خصت بما دون الحدود، أما الحدود إذا وصلت إلى السلطان فلا يجوز لأحد أن يشفع فيها وفي كتاب الأساس في السنة وفقهها مزيد بيان. 12 - من قصة يوسف عليه السلام ندرك طرفا من حكمة الله في أفعاله، فما من فعل لله إلا وهو عين الحكمة، ولكن قصور النظر وسوء الفهم وعمى القلب تبعد عن رؤية حكمة الله في أفعاله، فمن رأى المحن المتوالية التي أصابت يوسف عليه السلام وآله، وما ترتب على ذلك من دخول يعقوب إلى مصر لتنشأ أمة جديدة في ظروف مواتية، ومن رأى كيف أن هذا كان عبرة للخلق جميعا، حتى قصة الله في توراته وقرآنه، أدرك كثرة الحكم. 13 - إن دروس قصة يوسف عليه السلام كثيرة، ومن أهمها أنه لا عاقبة لكيد الظالمين ولا لخيانتهم، وأن العاقبة للاستقامة في كل حال، فليستقم العبد على أمر الله لتكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. 14 - من خلال قصة يوسف عليه السلام ندرك كثيرا من الخصائص العالية والنازلة للنفس البشرية عامة 15 - بعض المفسرين ظن- كأثر عن تسمية يوسف بالعزيز- أنه حل محل سيده في منصبه، إلا أننا نلاحظ أن المنصبين مختلفان. ورواية التوراة الحالية تذكر أن منصب سيد يوسف كان رئيس الشرطة، بينما منصب يوسف كان شيئا آخر يمكن أن يسمى أنه نائب الملك المفوض، أو الوزير المفوض، ومن ثم فإننا نرجح أن كلمة العزيز كانت لقبا لكل ذي منصب خطير كلقب الباشا مثلا في مصر قديما.

مختارات من تعليقات صاحب الظلال على قصة يوسف

16 - في كتاب مالك بن نبي (الظاهرة القرآنية) كلام عن قصة يوسف في القرآن مقارنة مع قصة يوسف في التوراة الحالية، وتعليق عليها، وكانت له ملاحظات قيمة، ولكنه وقع في عدة أخطاء في هذا الفصل فاقتضى التنوية، ومن ملاحظاته في هذا الفصل بعد أن قارن بين فقرات من الرواية التوراتية الحالية لقصة يوسف وبين آيات من القرآن: (إن سوق التاريخ واحد تماما في كلتا الروايتين، ومع ذلك فإن التأمل السريع يكشف لنا عن عناصر خاصة تميز كلتيهما على حدة، فرواية القرآن تنغمر في مسحة روحانية نشعر بها في صفات الشخصيات وكلماتها التي يتحرك بها المشهد القرآني، فهناك قدر كبير من حرارة الروح في كلمات يعقوب ومشاعره في القرآن، فهو نبي أكثر منه أبا، وتبرز هذه الصفة على الأخص في طريقته في التعبير عن يأسه عند ما يعلم باختفاء يوسف، كما تتجلى في طريقته في تصوير أمله حين يدفع بنيه إلى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه، وامرأة العزيز نفسها تتحدث في الرواية القرآنية بلغة تليق بضمير إنساني وخزه الندم، وأرغمته طهارة الضحية ونزاهتها على الاستسلام، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها، وتقر بخطيئتها، وفي السجن يتحدث يوسف بلغة روحية محلقة، سواء مع صاحبيه، أم مع السجان، فهو يتحدث كنبي يؤدي رسالته إلى كل نفس يرجو صلاحها) (¬1). مختارات من تعليقات صاحب الظلال على قصة يوسف: إن القصة تعرض شخصية يوسف- عليه السلام- وهي الشخصية الرئيسية في القصة- عرضا كاملا في كل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة، وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها .. ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء. وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان. وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات، ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة. ¬

_ (¬1) الظاهرة القرآنية- الطبعة الأولى 1958 ص 245.

وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز. وفى مساحات متناسبة من رقعة العرض، ومن أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال .. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول .. ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها ووضوح انطباعات البيئة .. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية والأضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، في إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا. وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة .. ونموذج «العزيز» وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه. ونموذج «الملك» في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد. وهذا الحشد من الحركات والمشاعر. وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف: إخوة يوسف والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها. ثم تزين لهم «المحلل الشرعي» الذي يخرجون به من تلك الجريمة. ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية- وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم صلوات الله وسلامه وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم، وحاجتهم النفسية- من ثم- إلى مبرر للجريمة، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها. .... وامرأة العزيز في صراع الشهوة التي تعمي عن كل شئ في اندفاعها الهائج الكاسح، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية. والتي تستخدم- مع ذلك- كل مكر الأنثى وكيدها، سواء في تبرئة نفسها

أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به، وتحديد عقوبة لا تؤدي بحياته. أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها، أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها، الأنثى التي لا تحس في إرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا. ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيتها. وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعتها. - ... يوسف العبد الصالح- الإنسان- ...... وهو يواجه الفتنة بكل بشريته- مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه- وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه يمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها .. لقد ضعف حين همت به .... ، ولكن الخيط الآخر شده وأنقذه من السقوط فعلا. ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة. ومنطق البيئة، وجو القصور، ونسوة القصور أيضا. ولكنه تمسك بالعروة الوثقى .. ليست هنالك لمحة واحدة مزورة في واقعية الشخصية وطبيعتها، وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني. ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه. والعزيز. وشخصيته بطبيعتها الخاصة. وبطبيعة سمت الإمارة، ثم بضعف النخوة، وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها وفيه تتم كل خصائص بيئته. والنسوة. نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه .. اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه، بعد ما شغفها حبا والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة، ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف. ثم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن به ويستنكرن موقفها، وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها. ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن: حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ نأخذ ذلك من قولة يوسف عليه السلام: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ .. فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده، ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده. والبيئة التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله. ثم من خلال ذلك التصرف في أمر

يوسف، على الرغم مما بدا من براءته. ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها؛ ولا يهم أن يذهب برئ كيوسف ضحيتها: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ. - فإذا تابعنا شخصية يوسف- عليه السلام- فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية، المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية، المتمثلة في كونه «العبد الصالح- الإنسان- بكل بشريته، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه» .. فهو في السجن وظلماته- مع الظلم وظلماته- لا يغفل عن الدعوة لدينه، في كياسة وتلطف- مع الحزم والفصل- وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها .. كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصيته وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه. وهو- مع هذا كله- بشر، فيه ضعف البشر فهو يتطلب الخلاص من سجنه، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم. وإن كان الله- سبحانه- شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ. فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ... ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين، وقد رأى الملك رؤياه، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة، حتى تذكر صاحب السجن يوسف- بعد ما تمت التربية الربانية للعبد الصالح. فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره- حتى إذا ما طلب الملك- بعد تأويله لرؤياه- أن يأتوه به، أجاب في هدوء المطمئن الواثق؛ وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته: ................ ..... ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية، مطمئنة ساكنة واثقة، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة. ................ ........ ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى، وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة.

نجد يوسف وهو يواجه- للمرة الأولى- إخوته بعد ما فعلوا به تلك الفعلة القديمة؛ وهو في الموقف الأعلى- بالقياس إليهم- والأقوى .. ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته. ونجده وهو يدبر- بتدبير الله له- كيف يأخذ أخاه. فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة، الضابطة الصابرة. ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببنيه، وحن يوسف إلى أبويه وأهله، ورق لإخوته والضر باد بهم، فكشف لهم عن نفسه في عتاب رقيق، وفي عفو كريم، يجئ في أوانه، وكل الملابسات توحي به، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك. ................ ........ وفي النهاية يجئ ذلك الموقف الجليل الرائع .... موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه، وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه .. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه، ويناجيه خالصا له، وذلك كله مطروح وراءه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ إنها شخصية موحدة متكاملة، بكل واقعيتها الممثلة لمقوماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها. ................ ........ ويعقوب .. الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف، وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها. ... ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة. .... ثم نلتقي بهذه الشخصية- بكل واقعيتها تلك- وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له .. أخي يوسف .. وقد طلبه منهم عزيز مصر- يوسف- الذي لا يعرفونه في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف. .... ثم نلتقي به في فجيعته الثانية، والدا ملهوفا ونبيا موصولا .. ذلك بعد أن دبر الله

ليوسف كيف يأخذ أخاه. فيختلف أحد أبناء يعقوب- صاحب الشخصية الخاصة فيهم- متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة. مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه، إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله. وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلى نجد ذات الملامح وذات الواقعية وهو يشم ريح يوسف في قميصه، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه ................ ......... إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح، الواقعية المشاعر والتصرفات، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف. ................ ....... والواقعية الصادقة الأمينة النظيفة السليمة في الوقت نفسه، لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع، فى هذا المستوى الرائع. ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعتها في مكانها وزمانها، وفي بيئتها وملابساتها. فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجئ في أوانها؛ وتجئ في الصورة المتوقعة لها. وتجئ في مكانها من مسرح العرض. متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها .. الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا .. حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة- في حدود المنهج النظيف اللائق «بالإنسان» - في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها- ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف- لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري؛ وكما لو كانت هي محور حياته كلها، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها. كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق. إن الجاهلية إنما تمسح الكائن البشري باسم الصدق الفني. وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها، فتنشئ منها مستنقعا واسعا عميقا، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية. وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا. الواقع. إنما تفعله لأن «بروتوكولات صهيون» تريد هذا تريد تجريد «الإنسان» إلا

كلمة في السياق

من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية، وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها، وتستغرق فيه كل طاقاتها؛ فهذه أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون. ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب «العلمية» المؤدية إلى ذات الهدف. تارة باسم «الداروينية» وتارة باسم «الفرويدية» وتارة باسم «الماركسية» أو «الاشتراكية العلمية» وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة. والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة، وتسجل سماتها العامة، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية. ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد: إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية؛ إنما كان يحكمها «الرعاة» الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام قريبا منهم، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم: نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب «الملك» في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى- عليه السلام- من بعده بلقبه المعروف «فرعون» ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف- عليه السلام- في مصر. فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة، وهي أسر «الرعاة» الذين سماهم المصريون «الهكسوس» كراهية لهم، إذ يقال: إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة: «الخنازير» أو «رعاة الخنازير» وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن. إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة. وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام .. ديانة التوحيد الخالص .. وهو في السجن وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة) اهـ. كلمة في السياق عند ما تقرأ قصة يوسف- عليه السلام في القرآن، وتقرؤها في التوراة الحالية المحرفة، تجد نفسك أمام كلام في القرآن هو القمة في البلاغة والعذوبة، وتجد كلاما تدلك معانيه على أنه كلام الله من خلال ما يعطيك من عبر ومن عظات ومن دروس

ترفع النفس البشرية إلى درجات رفيعة، بينما لا تحس هذا الإحساس أثناء قراءتك للتوراة الحالية المحرفة بسبب ما طرأ على هذه التوراة من تحريف، ولأن الله جعل للقرآن الهيمنة على كل كتاب سابق، فإذا وجد الإنسان مثل هذا الكمال في العرض، ومثل هذه الدقة في تفصيل حق ضاعت تفصيلاته حتى عند أهله، ندرك كيف أنه بهذه السورة تقوم الحجة على الخلق في أن هذا القرآن من عند الله، وهذا يؤكد ما لاحظناه أن محور سورة يوسف هو قوله تعالى في سورة البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... وقد لاحظنا كيف أن السورة بدأت بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ..... فقصة يوسف في هذه السورة دليل على أن هذا القرآن منزل من عند الله على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه السورة- لمن تأملها- تقطع دابر كل ريب في أي قلب راغب بالحق، حريص عليه، ويتكامل هذا المعنى في أذهاننا بعد استعراضنا لخاتمة السورة. ***

خاتمة السورة

خاتمة السورة وتمتد من الآية (102) إلى نهاية الآية (111) وهذه هي: [سورة يوسف (12): الآيات 102 الى 111] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) التفسير: ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف عليه السلام والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم

[سورة يوسف (12): آية 103]

مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار الغيوب السابقة نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمك به لما فيه من العبرة والعظة وإقامة الحجة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي عزموا على ما هموا به من إلقاء يوسف عليه السلام في البئر وَهُمْ يَمْكُرُونَ أي بيوسف ويبغون له الغوائل، والمعنى: أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي، لم تحضر بني يعقوب حين اتفقوا على إلقاء أخيهم في البئر، ولست ممن درس ويدرس حتى تتعلم مثل ذلك بواسطة الدراسة، فلا كتب أهل الكتاب موجودة عندك، ولا مترجمة، ولا يوجد من تأخذ عنه، إذ لو كان لعرف، وليس هذا شائعا عند قومك حتى تعرفه، فقامت الحجة على كل أحد بأن هذا القرآن من عند الله يوحيه إليك، ومع وضوح الحجة في هذا الأمر وقيام الدليل القطعي، فالأمر وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ أي ولو اجتهدت كل الاجتهاد على إيمانهم بِمُؤْمِنِينَ لا بسبب من قصور الحجة، ولا بسبب من قصور الدليل، ولكن لانطماس عين البصيرة وصمم القلب والكبر، الذي يمنع من الانصياع للحق، هذا مع أنك يا محمد متبرع بتعليمهم لا تطالبهم على ذلك بأجر، مع أنه لا علم في هذا العالم أشرف ولا أكرم ولا أعظم مما تعلمهم إياه وتدعوهم إليه ولذلك قال وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أو على القرآن أو على الهدى مِنْ أَجْرٍ مال أو غيره أي وما تسألهم على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من مكافأة، وإنما تفعله ابتغاء وجه الله، ونصحا لخلقه، وفي هذا دليل آخر على أنك رسول الله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما هو إلا عظة من الله للعالمين، وحث على طلب النجاة بواسطة رسول من رسله من أجل أن يتذكروا ويهتدوا وينجوا في الدنيا والآخرة. ملاحظة حول السياق: نلاحظ في السورة السابقة على سورة يوسف أنه بعد ذكر القصص قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. فبعد أن ذكر هناك القصص، ذكر الحكمة من إيرادها، وهي إقامة الحجة على ضرورة عبادة الله، وترك عبادة غيره، إذ لم تنفع عبادة غيره هذه القرى، بل دمرتهم وهكذا يأتي اسم الإشارة (ذلك) ليبين الحكمة من إيراد هذه القصص في ما يحقق هدف السورة ضمن

ولنعد إلى السياق

محورها الآمر بالعبادة، وهاهنا في قصة يوسف عليه السلام نلاحظ أنه بعد ما قص الله علينا قصة يوسف قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ، وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ليبين لنا ربنا الحكمة من إيراد هذه القصة بما يحقق الهدف من إيرادها ضمن المحور العام لها وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .... بما يقوم به الحجة على الخلق فلننتبه إلى هذا المعنى الذي تستشعر فيه وحدة السورة، مع وحدة الربط بينها وبين السياق القرآني العام ولنعد إلى السياق: لقد رأينا فيما مر من خاتمة السورة أن الحجة على الناس تقوم بذكر قصة يوسف في القرآن، ولكن يحول دون الإيمان عمى عن الآيات، ثم تأتي الآن آية لتبين أن عمى هؤلاء عن الآيات والحجج في السورة يجري على نسق واحد، مع عماهم عن آيات الله في الأرض والسماء، ومن ثم قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ أي من علامة ودلالة على الخالق وصفاته فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها على الآيات وَهُمْ عَنْها أي عن الآيات مُعْرِضُونَ أي لا يعتبرون بها، وإذا آمنوا فإن إيمانهم يرافقه شرك فقال: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ وبأنه خلقهم وخلق السموات والأرض وما فيهما من آيات إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ بوثن أو بشر أو حجر أو قمر أو شمس أو طبيعة أو غير ذلك، فقد أقام الله الحجة على خلقه بهذا القرآن، ومع ذلك لم يؤمن أكثرهم، وأقام الحجة على خلقه بآياته في الكون ومع ذلك لم يلتفتوا إليها، وأكثر من يلتفت إليها يؤمن بالله على شرك، فليس القصور في الحجة، ولكن في العمى والسلوك المنحرف، ثم أنذر الله عزّ وجل هؤلاء فقال: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ أي عقوبة تغشاهم وتشملهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ إن لم يؤمنوا واستمروا على شركهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها فإذا كان الأمر أنهم بين مداهمة عذاب الله، أو مداهمة القيامة، فكيف لا يؤمنون، وكيف يشركون، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أمام جحودهم وأمام شركهم. قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أي طريقي ومسلكي وسنتي، والإشارة في الآية إلى الدعوة السابقة المتمثلة بالإيمان والتوحيد والمعني: هذه سبيلي التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد: ثم فسر هذه السبيل بقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أي أدعو إلى دينه

نقول من الظلال

بحجة واضحة غير عمياء مع يقين وبرهان أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي أدعوا إلى سبيل الله أنا، ويدعو إليه من اتبعني، فهو ومن اتبعه عليه الصلاة والسلام يدعون إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي، أو المعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وأنزهه وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو ند أو ولد أو والد أو صاحبة أو وزير أو مشير أو أن يكون معه فاعل وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مع الله غيره، فسبيله عليه الصلاة والسلام، وسبيل أتباعه الدعوة إلى الإيمان والتوحيد على بصيرة، مع تنزيههم الله وإخلاصهم في توحيده، فإذا لم يجتمع للداعية إلى الله هذه المعاني لا يكون على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، مع التلبس الكامل بالتنزيه والتحقق بالتوحيد، مع الدعوة البصيرية المبصرة التي لا تلتبس حجتها الواضحة، وما أقل من تجتمع له هذه المعاني في عصرنا، وحتى في العصور التي جاءت بعد عصر السلف، وهكذا أقام الله عزّ وجل الحجة لرسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم بمضمونها وبحاله عليه الصلاة والسلام حال أتباعه، بعد أن أقام الحجة عليهم- كما رأينا- بمضمون قصة يوسف. ومن الآية الأخيرة ندرك أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم على الدعوة إلى الإيمان والتوحيد بالبرهان المبصر والحجة الواضحة، مع التلبس بكمال التنزيه وكمال التوحيد، واجتماع هذه المعاني هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشكلة عصرنا أن كثيرا من الدعاة إلى الله لا يعطون الدعوة إلى الإيمان والتوحيد مداها، كما أن الكثيرين منهم يدعون إلى جوانب ليست الحجة فيها واضحة، فمن من الدعاة قد تحقق بالتنزيه الكامل لله إقرارا واستشعارا، ومن من الدعاة من لا يسير إلا على ما قامت عليه الحجة العقلية أو النقلية، ومن من الدعاة يعطي الدعوة إلى التوحيد والإيمان مكانهما الصحيح الأول. ومن من الدعاة لا يعارض الصحيح بالضعيف ويتلبس بما دل عليه حديث موضوع، ويناقض عقلا بنقل، أو نقلا بعقل. نقول من الظلال: ننقل هنا ثلاثة نقول من الظلال: الأول حول قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. قال صاحب الظلال: (والآيات الدالة على الله وحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون. معروضة للأبصار والبصائر. في السموات وفي الأرض يمرون عليها صباح مساء، آناء الليل

وأطراف النهار. وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر. موحية تخايل للقلوب والعقول ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق. وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها. لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد. لحظة تأمل في الخضم الزاخر، والعين الفوارة والنبع الروي. لحظة تأمل في النبتة النامية، والبرعم الناعم، والزهرة المتفتحة، والحصيد الهشيم، لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء، والسمك السابح في الماء، والدود السارب، والنمل الدائب، وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام .. لحظة تأمل في صبح أو مساء في هدأة الليل أو في زحمة النهار .. لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب .. إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب والتأثر المستجيب. ولكنهم يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لذلك لا يؤمن الأكثرون! وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك- فى صورة من صوره- إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنقي القلب أولا بأول كل خالجة شيطانية وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف لتكون كلها لله. خالصة له دون سواه، والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد) والنقل الثاني من الظلال حول قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ .. قال صاحب الظلال: (مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقديرهم للأحداث والأشياء والأشخاص. مشركون سببا من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء. مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه. مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله. مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله .. لذلك يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي، روى الترمذي- وحسنه- من رواية ابن عمر، «من

حلف بغير الله فقد أشرك» وروى أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إن الرقى والتمائم شرك» وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة فقد أشرك» وعن أبي هريرة- بإسناده- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه» وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك». وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء»؟ فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان. وهناك الشرك الواضح الظاهر، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شئون الحياة الدنيوية في شرع يتحاكم إليه- وهو نص في الشرك لا يجادل عليه ... والأمر في مثل هذه الشئون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة العبيد .. إنه عندئذ لا يكون ذنبا ولكنه شرك، لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله .. وهو من هذه الناحية أمر خطير .. ومن ثم يقول الله .. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ .. والنقل الثالث حول قوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال صاحب الظلال: (هذه طريقي فمن شاء فليتابع، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي، فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شئ آخر غير الجاهلية وأن يتميزوا بتجمع خاص

ولنعد إلى السياق

آصرته العقيدة المتميزة وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا! إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين .. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس .. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصلية، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ. والذين يظنون أنهم يصلون إلى شئ، عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام .. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! .. إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟) اهـ ولنعد إلى السياق: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا لا ملائكة نُوحِي إِلَيْهِمْ فلست بدعا من الرسل حتى يستغرب الناس بعثتك مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي المدن لأنهم أحلم وأرق طباعا وألطف، وأكثر ألفة وتألفا لكثرة العشرة والخلطة، فإرسالك إذن على نفس السنة أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم المكذبة للرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، فمن نظر اعتبر وآمن. فالله عزّ وجل يلفت نظر هؤلاء إلى مجموعة سنن له من تأملها آمن، وانتفى ريبه وشكه برسالة رسول الله وبالكتاب المنزل عليه، وفي الوقت نفسه فمن نظر وتدبر عاقبة الماضين في نجاة المؤمنين وإهلاك الكافرين اتعظ وآمن وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الله، بفعل طاعته واجتناب معصيته أَفَلا تَعْقِلُونَ عن الله آياته وسننه، ثم بين الله سنته في نصرة رسله أنها لا تأتي بسرعة، وفي قصة يوسف عليه السلام نموذج حَتَّى إِذَا

[سورة يوسف (12): آية 111]

اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي يئسوا من إيمان القوم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي وظن أقوامهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوه، أو وظن المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه، وهناك قراءة بتشديد الذال، ومعناها على هذا: وأيقن الرسل أن قومهم كذبوهم جاءَهُمْ نَصْرُنا أي جاء الأنبياء والمؤمنين بهم النصر فجأة من غير احتساب فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ أي النبي ومن آمن به وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم وكيف جعلنا العاقبة لهم كما رأيت نموذج ذلك في قصة يوسف عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ أي عظة لأصحاب العقول، وقد رأينا في قصة يوسف كيف نقل من غيابة الجب إلى نهاية الحب، ومن الحصير إلى السرير. فصارت عاقبة الصبر سلامة وكرامة، ونهاية المكر وخامة وندامة ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى أي ما كان القرآن حديثا مفترى كما زعم الكفار، ولا يتصور أن بالإمكان أن يفترى هذا القرآن على الله إلا مجنون وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب المنزلة من السماء فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، وقد رأينا في قصة يوسف نموذجا، وكتاب هذا شأنه منزل على الرسول الأمي ما كان ليكون إلا من عند الله وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجليلة، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات، وبالجملة فإن القرآن تفصيل لكل شئ يحتاج إليه في الدين لأنه كما قال النسفي: القانون الذي تستند إليه السنة والإجماع والقياس، ومن هذه الآية ومن قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ فهم العلماء أنه ما من قضية إلا ولله فيها حكم، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، وكتاب هذا شأنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالله وأنبيائه في الدنيا والآخرة. وكتاب هذا شأنه فيه الهدى في كل أمر، وفيه الرحمة في شأن الدنيا والآخرة، في شأن الجسد والقلب، في شأن الروح والعقل، في شأن الفرد والمجتمع، كتاب هذا شأنه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله، وهكذا حطمت سورة يوسف الريب في سياقها العام،

وأعطت في كل آية من آياتها دروسا لا تنتهي، ومن دروسها العامة ما قاله النسفي: قال أبو منصور رحمه الله: في ذكر قصة يوسف عليه السلام وإخوته تصبير لرسول لله صلى الله عليه وسلم على أذى قريش كأنه يقول: إن إخوة يوسف مع موافقتهم إياه في الدين ومع الأخوة عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر، وصبر على ذلك، فأنت مع مخالفتهم إياك في الدين أحرى أن تصبر على أذاهم، ومن دروسها: أن على أهل الإيمان أن يثقوا بحسن العاقبة. وبمناسبة قوله تعالى حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ... قال صاحب الظلال: تلك سنة الله في الدعوات لا بد من الشدائد ولا بد من الكروب حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجئ النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجئ النصر من عند الله فينجو الذين يستحقون النجاة ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرا ماحقا لا يقفون له ولا يصده عنهم ولي ولا نصير. ذلك كيلا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا. فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة لذلك يشفقون أن يدعوها فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطروحها وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة! إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحا معينا محدودا في هذه الأرض وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة، والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية- والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل، إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال، ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود، ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! .. ويجب أن

فوائد

يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا وأنه من ثم لا تنضم إليها- في أول الأمر- الجماهير المستضعفة المستخفة إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق بعد جهاد يطول أو يقصر، وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا، وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد في الجب، وفي بيت العزيز، وفي السجن وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس .. ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا- كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب- وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، على غير صلة دراسية بين محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الكتب فما كان ممكنا أن يكون ما جاء به حديثا مفترى، فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. اهـ فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ يذكر ابن كثير مجموعة من الأحاديث والآثار ينتظمها أنها في موضوع الشرك الخفي أو الظاهر. وكعادتنا في حذف الأسانيد والاكتفاء برواية من المكرر ننقل الروايات التالية: (في الصحيحين: أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك) وفي صحيح مسلم: أنهم كانوا إذا قالوا: لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد قد» أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا، وقال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: 13) وهذا هو الشرك الأعظم: يعبد مع الله غيره، كما في الصحيحين: عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». وقال الحسن البصري في قوله: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس وهو مشرك بعمله ذلك يعني قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا

قَلِيلًا (النساء: 142) وثم شرك آخر خفي لا يشعر به غالبا فاعله، كما روى حماد ابن سلمة .... عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه- أو انتزعه- ثم قال: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. وفي الحديث: «من حلف بغير الله فقد أشرك». رواه الترمذي وحسنه. وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». وفي لفظ لهما «الطيرة شرك، وما منا إلا .. ، ولكن الله يذهبه بالتوكل». وروى الإمام أحمد ... عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟ قال: قلت: خيط رقي لي فيه، فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم شرك» قالت: قلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت، فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما». وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد .... عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلت على عبد الله ابن عكيم وهو مريض نعوده، فقيل له: لو تعلقت شيئا، قال: أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق شيئا وكل إليه». وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة ابن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة فقد أشرك». وفي رواية «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له». وروى مسلم ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك». وروى الإمام أحمد ... عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر». قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا

جاز الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟». وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك». قالوا: يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك». وروى الإمام أحمد ... عن رجل من بني كاهل قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام عبد الله ابن حرب وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل». فقال له من شاء الله أن يقول: فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه». وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه النسائي من حديث يعلى بن عطاء سمعت عمرو بن العاص سمعت أبا هريرة قال: قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي، قال: «قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شئ ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه». وزاد الإمام أحمد في رواية له في آخره «وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم». 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى تثار قضيتان: الأولى: أنه لا نبوة ولا رسالة في النساء. والقضية الثانية: أنه لا نبوة في أهل البادية: وفي القضية الأولى يقول ابن كثير بمناسبة الآية: (يخبر تعالى أنه أرسل رسله من الرجال لا من النساء وهذا قول جمهور العلماء، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة، وأن الله تعالى لم يوح إلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع، وزعم بعضهم أن سارة امرأة الخليل. وأم موسى. ومريم بنت عمران أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية (القصص: 7)، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى عليه السلام، وبقوله تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (آل عمران: 42) وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم

من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم: إنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ (المائدة: 75) فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن). وفي القضية الثانية نقول: من المعروف أن المدينة أكثر ملاءمة لنمو الأخلاق الاجتماعية، والبلاغ على أهلها أسهل: ومن ثم كانت سنة الله ألا يرسل رسولا من أهل البادية. قال قتادة في قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود، فالقرية في الآية إذن تقابل البادية وليس شرطا أن تكون القرية كبيرة، وأما يعقوب عليه السلام فسكناه في البادية عارض، ولذلك ذكرهم يوسف عليه السلام بمنة الله عليهم، فقال: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ .... 3 - ينقل ابن كثير كلاما كثيرا للمفسرين في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إذ هذه الآية من الآيات التي يحتدم حول فهمها النقاش، وما ذكرناه أثناء التفسير هو أجود ما يقال فيها فتأمله. ولنذكر هنا روايتين ذكرهما ابن كثير على نفس النسق الذي اعتمدناه. روى الأعمش عن مسلم عن ابن عباس في قوله حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ. وروى ابن جرير بسنده عن إبراهيم بن أبي حمزة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير قال: أخبرنا أبا عبد الله كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلا.

كلمة في سورة يوسف

كلمة في سورة يوسف: قلنا إن محور سورة يوسف في السياق القرآني العام هو قوله تعالى- والله أعلم- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وقد جاءت سورة يوسف مبتدأة بقوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ. ثم بدأت القصة، ثم جاءت الخاتمة. ومن تأمل مقدمة السورة وخاتمتها، والقصة فيها، علم يقينا أن هذا القرآن من عند الله، وانتفى لديه كل شك وريب، وأن هذا القرآن منزل على محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان من قبل إنزاله عليه من الغافلين، كما نصت مقدمة السورة. فالسورة إذن من حيث ارتباطها بمحورها تحقق هدفا عدا عن أهدافها الخاصة. وهكذا نجد أن كل سورة من السور تحقق بالنسبة للسياق القرآني العام الذي تتمثل به الوحدة القرآنية العظمى هدفا مرتبطا بهذا السياق، عدا عما تحققه من أهداف في سياقها الجزئى. ***

سورة الرعد

سورة الرعد وهي السورة الثالثة عشرة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الأولى من قسم المئين، وآياتها ثلاث وأربعون وهي مكية وبعضهم يرى أنها مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الرعد

قال الألوسي في تقديمه لسورة الرعد: (جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس وعلي ابن أبي طلحة: أنها مكية وروي ذلك عن سعيد بن جبير قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال: سألت ابن جبير عن قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هل هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية. وأخرج مجاهد عن ابن الزبير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس، ومن طريق ابن جريج وعثمان عن عطاء عنه، وأبو الشيخ عن قتادة: أنها مدنية إلا أن في رواية الأخير استثناء قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ .. الآية فإنها مكية. وروي أن أولها إلى آخر وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية مدني، وباقيها مكي. وفي الإتقان: يؤيد القول بأنها مدنية ما أخرجه الطبراني وغيره عن أنس: أن قوله تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ نزل في قصة أربد بن قيس، وعامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال والذي يجمع به بين الاختلاف أنها مكية إلا آيات منها. وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي .. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية، ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل، وأيضا أنه تعالى قد أتى هنا مما يدل على توحيده عزّ وجل ما يصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ .. وأيضا في كل من السورتين ما فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، هذا مع اشتراك آخر تلك السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لا يخفى، وجاء في فضلها ما أخرجه ابن أبي شيبة والمروزي في الجنائز أنه كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد، فإن ذلك يخفف عن الميت، وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه) اهـ وقال صاحب الظلال في سورة الرعد: (هذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيقاع واحد، وجو واحد، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها، والتي تفعم النفس وتزحم بالصورة والظلال والمشاهد والخوالج والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات، والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا وهو مستيقظ، مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات. إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي مطارق وإيقاعات. صورها ظلالها. مشاهدها

كلمة في سورة الرعد ومحورها في السياق القرآني العام

موسيقاها. لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك ......... وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق، وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة: في السموات المرفوعة بغير عمد، وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية وجنات وزروع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد- وفي البرق يخيف ويطمع، والرعد يسبح ويحمد، والملائكة تخاف وتخشع، والصواعق يصيب بها من يشاء، والسحاب الثقال والمطر في الوديان. والزبد الذي يذهب جفاء، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس. وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه: تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل، يلم بالشارد والوارد، والمستخفي والسارب ويتعقب كل حي، ويحصي عليه الخواطر والخوالج. والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون مكشوفا لعلم الله، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. إنها تقرب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى المحيطة بالكون ظاهره وخافيه جليله ودقيقه، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف ترجف له القلوب، وذلك إلى الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال إلى مشاهد القيامة. وصور النعيم والعذاب وخلجات الأنس في هذا وذلك. إلى وقفات على مصارع الغابرين وتأملات في سير الراحلين. وفي سنة الله التي مشت عليهم فإذا هم داثرون). كلمة في سورة الرعد ومحورها في السياق القرآني العام: إن محور سورة الرعد من سورة البقرة هو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والدليل على ذلك: 1 - نلاحظ أن مقدمة السورة كانت: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ

مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ فتأمل قوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ من أول سورة الرعد وقوله فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ من آيتي سورة البقرة 2 - لاحظ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ثم لاحظ في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ .... وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ .... اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ .... اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ .... لتجد أن الله يعرفنا عليه جل جلاله في سورة الرعد كما عرفنا على ذاته الكريمة هناك. 3 - لاحظ في سورة البقرة: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ... ولاحظ في سورة الرعد: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ .. مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ويلاحظ بشكل بارز في سورة الرعد كثرة الأمثال. 4 - لاحظ في سورة البقرة قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وفي سورة الرعد وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ .... وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ... وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ... ولاحظ في سورة البقرة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وفي سورة الرعد: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ* وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ* وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ*

فأنت تلاحظ نقاط التشابه الكثيرة بين سورة الرعد وبين الآيتين اللتين قلنا إنهما محور سورة الرعد من سورة البقرة، ثم هما يأتيان بعد قليل من قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا والتي قلنا عنها إنها محور سورة يوسف، كما أن سورة الرعد تأتي مباشرة بعد سورة يوسف. وعلى هذا فسورة الرعد تفصيل لقضايا مجملة في الآيتين من سورة البقرة، فهي تعريف على الله، وهي عرض لأقوال للكافرين، وفيها أمثال كثيرة يضربها الله عزّ وجل، وفيها تدليل على أن هذا القرآن حق، وفيها تفصيل لسمات الذين يستحقون الاهتداء بهذا القرآن، وفيها تفصيل لصفات الفاسقين، وفيها وفيها مما ستراه من خلال التفسير، مما يؤكد لك أن ما اتجهنا إليه في هذا التفسير صحيح، إن في موضوع الوحدة القرآنية، أو في محاور السور بناء على ذلك ولعلنا لاحظنا أن نوعية التفصيل في القرآن تختلف عن أي نوع من أنواع التفصيل المعروف عند البشر، لقد ظهر الله عزّ وجل في القرآن كما ظهر في هذا الكون، فهو الظاهر بآياته، سواء كانت آياته في الكون، أو آياته في القرآن. وكما أنك ترى الكون أجزاء وأجزاء، وكل جزء فيه يرجع إلى أصل كبير، ثم تجد الأشياء كلها ترجع إلى نوع عجيب من الوحدة يعرفه العالمون. كنا أشرنا إليه في كتابنا عن الله جل جلاله- فكذلك هذا القرآن يظن الجاهل أنه لا رابطة بين آياته فضلا عن سوره، ولكن من فتح الله على قلبه يرى كيف أن هذا القرآن كهذا الكون، تجده على أدق نظام، وعلى أدق ترتيب، وعلى أدق انسجام، وعلى أعظم مظهر من مظاهر الوحدة الكلية التي تربط بين آياته وسوره، مما لا يعرف حتى العالمون عنه إلا القليل. ونحب قبل أن نبدأ عرض سورة الرعد أن نلفت النظر إلى أن قضية الضلال والهداية وأسبابهما، وهي من المعاني الرئيسية في سورة الرعد فليتنبه لذلك لأن فهم هذه القضية يشكل جزءا عظيما من أجزاء المعرفة الصحيحة. تتألف السورة من مقدمة هي آية واحدة، وثلاثة مقاطع كما سنرى.

المقدمة

المقدمة: وهي آية واحدة وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرعد (13): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) التفسير: في هذه المقدمة ثلاثة معان: 1 - المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ تلك إشارة إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب- والله أعلم- في هذا المقام هذا الجزء منه، وهو هذه السورة من باب ذكر العام وإرادة الخاص، والإشارة بتلك تفيد التفخيم والتعظيم. والمعنى: تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها. فهذا هو المعنى الأول، وفيه تنبيه على جلالة هذه السورة في هذا القرآن الجليل. 2 - وَالَّذِي أُنْزِلَ أي القرآن كله إِلَيْكَ يا محمد مِنْ رَبِّكَ الله الْحَقُّ فالقرآن كله حق، وهو منزل من الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المعنى الثاني 3 - وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بأن هذا القرآن من عند الله أنزله على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، دل ذلك على أن الأقل هم الذين يؤمنون، أربط ذلك بمحور سورة الرعد من سورة البقرة: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وهكذا جاءت المقدمة مشيرة إلى موضوع السورة، ورابطة إياه بالمحور، ثم بعد ذلك تأتي المقاطع الثلاثة في السورة، داعية إلى الإيمان، مبرهنة على أن هذا القرآن حق، مقيمة الحجة على الكفر وأهله.

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد من الآية (الثانية) حتى نهاية الآية (السابعة) وهذا هو: [سورة الرعد (13): الآيات 2 الى 7] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

التفسير

التفسير: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أي خلقها مرفوعة بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، أي ترون السموات مرفوعة بغير عمد فلا حاجة إلى البرهان على ذلك مع الرؤية، وذلك دليل قدرته عزّ وجل وحكمته ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق بجلاله. قال ابن كثير: من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لمنافع عباده، ومصالح بلاده، وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر في الدلالة على التسخير الذي فيه المصلحة للخلق كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وهو انقضاء الدنيا بقيام الساعة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال النسفي: أمر ملكوته وربوبيته يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يبينها، وآياته هنا كتابه المنزل لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لعلكم توقنون بأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه، وهكذا عرفنا أن الله عزّ وجل جعل تدبيره وتفصيل آياته علامتين تدلان على الرجوع إليه، فمن لم ير في كمال تدبيره في خلقه، وفي كمال تفصيله في آياته، ما يدل على الرجوع إليه، فإنه لم يعرف حكمة التدبير والتفصيل. وهكذا عرفنا أن التدبير والتفصيل علامتان على اليوم الآخر، فلم يكن التدبير عبثا، ولم يكن التفصيل عبثا، بل من أجل أن تعرف أيها الإنسان أنك راجع إليه فمحاسب. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ قال ابن كثير: أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا راسيات، أي ثابتات في أمكنتهن وَأَنْهاراً أي وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي وجعل فيها من كل الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي ومن كل الثمرات جعل فيها الصغير والكبير، والحلو والحامض، هكذا فسر النسفي في هذا المقام الزوجية، وقال ابن كثير: أي من كل شكل صنفان. ولم يفسر ما المراد بالصنف. وفي فوائد هذا المقطع كلام عن هذا الموضوع فإنه من المواضيع التي لثقافة العصر تأثير في تبيانها يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا، وقد رأينا في سورة الأعراف كيف دل مثل هذا التعبير على دوران الأرض إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الأرض بما هي عليه والجبال ورسوها، والأنهار وجريانها، والثمرات والزوجية فيها، وغشيان الليل النهار لَآياتٍ أي لدلالات وعلامات على أن لها صانعا عليما حكيما قادرا لِقَوْمٍ

[سورة الرعد (13): آية 4]

يَتَفَكَّرُونَ أما الذين لا يتفكرون فإنهم عمي عن رؤية الآيات وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي أراض يجاور بعضها بعضا، ثم هي مع التجاور مختلفة، فهذه طيبة تنبت ما ينفع الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنفع الناس، وهذه تربتها حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاحقة، ما بين كريمة إلى زهيدة، وما بين صلبة إلى رخوة، وذلك دليل على قادر مريد مدبر موقع لأفعاله على وجه دون وجه وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ أي وفي الأرض حدائق وبساتين من أعناب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ الصنوان: جمع صنو وهي الشجرة لها رأسان وأصلها واحد، فالصنوان: هو الأصول المجتمعة في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار، أي وفي الأرض أنواع الزروع، وأنواع النخيل ذات الساق الواحدة، أو السيقان المتعددة يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ أي في الثمر، فهذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها، وطعومها ورائحها وأوراقها؛ فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وهذا في غاية المرارة، وهذا بين بين، وهذا اجتمع فيه هذا وهذا، وهذا أصفر، وهذا أبيض، وهذا أسود، وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء، ثم يكون هذا الاختلاف الكثير، الذي يكاد لا ينحصر ولا ينضبط إِنَّ فِي ذلِكَ أي في اختلاف الأراضي وجنات الأعناب والزروع والنخيل المتعدد الأصل وغير المتعدد، واختلاف الثمرات مع كون الماء الذي به نماء النبات واحدا لَآياتٍ لدلالات على الخالق المختار المريد العظيم لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أما الذين لا عقول لهم فإنهم لا يرون هذه الآيات رؤية عاقلة، تدلهم على الله، ثم إنه بعد أن أقام النص القرآني الحجة على وجود الله، وعلى قدرته، وعلى اليوم الآخر، فإنه بعد ذلك يعرض علينا بطريقة القرآن المعجزة ثلاثة مواقف للكافرين هي: إنكارهم لليوم الآخر، واستعجالهم العذاب، واقتراحهم الآيات، وهذه المواقف الثلاثة تعرض بعد أن تقدم الرد عليها فيما سبق من الآيات، فالله المدبر للأمر المفصل للآيات، الرافع للسماوات، المسيطر على العرش، المسخر للشمس والقمر، الجاعل الأرض على ما هي عليه، الخالق للجبال بما تؤدي به مهمتها، الخالق الأنهار، الخالق الثمار، الخالق الليل والنهار، الجاعل الأرض أنواعا، المخرج من الماء الواحد أنواع الثمار، هذا الإله لا يعجزه أن يعيد خلق الإنسان وأن يبعثه

الموقف الأول

من جديد، ولا يعجزه أن يعاقب من كفر بأنواع العذاب الدنيوي، ثم إن آياته أكثر وأكبر وأبهر من أن يقترح عليه آيات أخرى تدل عليه، كيف ومن آياته ما رأيناه لمن تفكر وعقل، فإذا اتضح هذا فلنر كيف عرض القرآن هذه المواقف للكافرين في السياق الذي تبطل فيه هذه المواقف قبل عرضها الموقف الأول: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي فقولهم هذا حقيق بأن يتعجب منه؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك كانت الإعادة أهون شئ عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب، كيف وقد شاهدوا من آياته وآثار صفاته ما هو أعجب مما كذبوا به، وهكذا بين لنا القرآن أن البعث بديهية من البديهيات لمن عرف الله وعرف آياته، ثم بين أن هؤلاء الذين يستبعدون البعث ولا يؤمنون باليوم الآخر إنما هم كفار بالله أصلا، ومن ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إذ لو كانوا يؤمنون بالله ويعرفونه حق المعرفة لآمنوا بالبعث، دل ذلك على أن الإيمان بالله يستتبع- بالضرورة- الإيمان باليوم الآخر، فمن عرف قدرة الله لا يستكثر عليها أن تعيد الخلق، ومن عرف عدله عرف ضرورة وجود اليوم الآخر، ومن عرف حكمته عرف ضرورة وجود اليوم الآخر، ومن عرف عزته وانتقامه وكرمه ورحمته عرف ضرورة اليوم الآخر، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ جزاء لهم على كفرهم بالله واليوم الآخر وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون، وقد دل تكرار (أولئك) على تعظيم الأمر. هذا هو الموقف الأول من مواقف الكافرين، وقد رأينا كيفية عرضه، وعرفنا أن العجب هو عدم الإيمان باليوم الآخر وليس الإيمان به، وأي عجب أعجب من أن يدعي الإنسان معرفة الله ثم لا يرتب على ذلك ما تقتضيه هذه المعرفة. الموقف الثاني: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أي هؤلاء الكافرون المكذبون بِالسَّيِّئَةِ أي بالعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي قبل العافية، من شدة كفرهم وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي عقوبات أمثالهم من المكذبين، فما لهم لم يعتبروا بها؟ والمثلة: العقوبة، لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، لقد أوقع الله نقمته بالأمم المكذبة الخالية، وجعلهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم، ومع ذلك فهؤلاء يستعجلون العذاب وما استعجالهم إلا لعدم إيمانهم ولكفرهم.

الموقف الثالث

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس، مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار، وهذا سر عدم إيقاع ما رغبوا به من الاستعجال بالعقوبة وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ومن ثم فإنه لا يفوته هارب ولا مسئ، فهو يمهل ولا يهمل. الموقف الثالث: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فهم لا يكتفون بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عنادا مع كثرتها، وكفى بهذا القرآن معجزة تضمنت معجزات لا تنتهي، ومن ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابلة اقتراحاتهم المتعنتة إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي أنت رجل أرسلت منذرا مخوفا لهم من سوء العاقبة، وناصحا كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر، وصحة ذلك حاصلة بأي آية كانت، والآيات كلها سواء في حصول صحة الرسالة بها وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي من الأنبياء يهديهم إلى الدين ويدعوهم إلى الله بآية خص بها، لا بما يريدون، فلست بدعا من الرسل، إذن فكما أن كل أمة أرسل لها رسول فأنت رسول لهذه الأمة، ويحتمل أن يكون المراد بالهادي في الآية (الله عزّ وجل) فهو الذي يهدي من يستحق الهداية، وإنما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم الإنذار، فهؤلاء الذين لم يؤمنوا ويقترحوا الآيات، عليك إنذارهم، والله هو الهادي من يستحق الهداية، وهؤلاء لا يستحقون الهداية، وهذا الاتجاه الثاني في التفسير هو الذي نرجحه لانسجامه مع محور المقطع في سورة البقرة كما سنرى. فوائد: 1 - في كتابنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الكلام عن المعراج قلنا إن السماء في القرآن تطلق ويراد بها مطلق العلو، وتطلق ويراد بها الكون مما سوى الأرض، وتطلق ويراد بها السموات السبع التي سقفها عرش الرحمن، وفي سورة البقرة عند قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ... رجحنا أن المجرات والنجوم قد خلقت قبل الأرض، وأن الأرض قد خلقت قبل السموات السبع التي هي غيبية- على الأكثر- وفي سورة هود بينا أن أول مخلوق هو العرش ثم الماء، وهاهنا في سورة الرعد بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها نرجح أن المراد في السموات هنا ليست السموات السبع الغيبية التي نؤمن بها غيبا، ولكن المراد بها ما سوى الأرض بقرينة تَرَوْنَها فنحن لا

نرى إلا هذه النجوم والمجرات والكواكب، وقد رجحنا من قبل أن هذه مخلوقة قبل الأرض والسموات السبع، وللموضوع تتمة ستأتي في مناسباتها. 2 - في كتابنا عن الله عزّ وجل: إن في ظاهرة الحكمة، أو في ظاهرة الإرادة، أو في ظاهرة العناية، فصلنا بما يخدم قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وبما يرينا كيف أن مثل هذا التسخير المدهش لصالح الحياة على الأرض دليل على الخالق عزّ وجل بما لا يقبل شكا ولا نقضا. فليراجع 3 - قد يفهم كثير من الخاطئين قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ فهما خاطئا، فيظن أن المراد بالمد هنا التسطيح الذي يقابل الكروية، والكروية ثابتة في القرآن في أكثر من آية- كما نرى في هذا التفسير- فاقتضى التنبيه. وقد رأينا كيف فسر ابن كثير المد في الآية، وفي كتابنا عن الله عزّ وجل نقلنا ما يدل على أن الأرض لو كانت أصغر مما هي عليه لما أمكن في قوانين هذا الكون أن تنشأ عليها الحياة، فالله عزّ وجل يشير إلى هذه النعمة التي هي مظهر علمه وحكمته وقدرته في هذا المقام؛ ليدلل بآثار صفاته على صفاته وأسمائه التي تدل على ذاته جل جلاله 4 - في عصرنا هذا أدرك الإنسان- أكثر من أي عصر مضى- معنى قوله تعالى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إذ كتب الجغرافيا والجيولوجيا مليئة بالنص على أنه لولا الجبال لكانت القشرة الأرضية معرضة بشكل هائل للتشققات والزلازل والاضطرابات بما يستحيل معه نشوء الحياة وهو موضوع سيمر معنا في محله بشكل أكثر تفصيلا 5 - بمناسبة قوله تعالى وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال صاحب الظلال: (والمشهد الأول يتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريقة علمهم وبحثهم إلا قريبا، هي أن كل الأحياء- وأولها النبات- تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان مظنونا أن ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة، أو متفرقة في العود وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في إثارة الفكر إلى تدبر أسرار الخلق بعد تملي ظواهره.) 6 - عند قوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال النسفي (وهي أرجى آية في كتاب الله حيث ذكر المغفرة مع الظلم وهو بدون التوبة، فإن التوبة تزيلها وترفعها) اهـ ولنلاحظ أنه اجتمع في الآية اقتران ذكره المغفرة بشدة العقاب لتربية الرجاء والخوف في القلب، فهما جناحا القلب في سيره إلى الله. روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ

لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» 7 - عند قوله تعالى: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ يذكر ابن كثير حديثا رواه الترمذي بإسناد حسن غريب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ قال: «الدقل والفارسي والحلو والحامض». 8 - رجحنا أن السموات المذكورة في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أن المراد ما سوى الأرض، وليس المراد فيها السموات السبع، خصوصا لأننا لا نراها، وقد ذهب ابن كثير أن المراد بها السموات السبع وسننقل لك من قوله لنرى تصوره للسماوات السبع، ثم لنرى من خلال ذلك صحة ما ذهبنا إليه: قال: «فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض، وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها، وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة كما قال تعال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ الآية (الطلاق: 12) وفي الحديث: «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد. كتلك الحلقة في تلك الفلاة». وفي رواية: «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجل) اهـ. فإذا كانت السموات السبع كما ذكر والله عزّ وجل قال تَرَوْنَها وهو يرجح أن ترونها عائدة إلى السموات فهو يقول: أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة. ونحن لا نرى هذه السموات السبع التي ذكرها، وإنما نرى ما سوى الأرض من الأكوان المنظورة، فدل ذلك على أن ما ذهبنا إليه هو الأرجح، والذي نحب أن نلفت نظرك إليه هنا أنك ترى ابن كثير كغيره من المفسرين يرون أن ما بين الأرض والسماء الدنيا خمس مائة سنة، وهكذا النسبة بين كل سماء، وهذا يرجح ما ذهبنا إليه أن المراد بالسماوات السبع المذكورة، والتي يتحدث عنها القرآن والسنة، ويتكلم عنها المفسرون، أنها سماوات غيبية مغيبة عنا، إذ لو لم تكن كذلك وكانت النجوم والمجرات داخل السماء الدنيا- كما يذهب بعضهم- لكان البعد بين الأرض والسماء أكثر من خمسمائة سنة، مهما كان نوع السنة التي يقاس بها هذا البعد، وهو

كلمة في السياق

موضوع سنرى حيثياته فيما يأتي من هذا التفسير. 9 - فهم الحسن البصري من قوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ .... الآية: أن الآية تلفت النظر إلى معنى آخر غير المعنى الحرفي، واعتبر أن في الآية مثلا بدليل ختمها بقوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فقد مثل اختلاف القلوب فى آثارها وأنوارها وأسرارها باختلاف قطع الأرض في أنهارها وأزهارها وثمارها كلمة في السياق: نلاحظ أن هذا المقطع عرفنا على الله بلفت نظرنا إلى أفعاله- عزّ وجل- ومظاهر قدرته، ثم عدد لنا مواقف للكافرين تتنافى مع معرفة الله عزّ وجل، وختم المقطع بقوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فإذا تذكرنا قوله تعالى من سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ... وتذكرنا أن هذا النص تأسيس لموضوع الآية اللاحقة من سورة البقرة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... ثم تأملنا معاني سورة الرعد، فإننا نجد أن المقطع الأول من سورة الرعد تأسيس لمعاني المقطعين اللاحقين بما يفصل آيتي سورة البقرة، إذ سورة الرعد كلها تعريف على الله وأفعاله، وعرض لأقوال الكافرين ومواقفهم، ورد عليها، وتبيان لقضية الضلال والهداية، ومن يستحق الهداية، ومن يستحق الضلال، وإقامة حجة على مسارب الضالين. والمقطع الأول من سورة الرعد يضع أساسا في إقامة الحجة على منكري، البعث وعلى المستعجلين بالعذاب، وعلى مقترحي الآيات، فليس لهؤلاء حجة، بل الحجة قائمة عليهم، فالمقطع الأول في سورة الرعد يفصل معاني في الآية الأولى من الآيتين اللتين تشكلان محور سورة الرعد من سورة البقرة، لكنه تفصيل على طريقة القرآن المعجزة في التفصيل، ولنر المقطع الثاني في سورة الرعد، وسنجد فيه تفصيلا واضحا لمحور السورة من سورة البقرة: ***

المقطع الثاني من سورة الرعد

المقطع الثاني من سورة الرعد ويمتد من الآية (8) إلى نهاية الآية (25) وهذا هو: [سورة الرعد (13): الآيات 8 الى 25] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)

التفسير

التفسير: كما بدأ المقطع الأول بالتعريف على الله، ثم بنى على هذه المعرفة، كما هو الحال في الآيتين اللتين هما محور هذه السورة من سورة البقرة، وبما فصل بعضا من معاني الآيتين فكذلك هذا المقطع: فتأمله: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفي عليه شئ، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات، سواء كانت تحمل ذكرا أو أنثى، تماما أو خداجا، حسنا أو قبيحا، طويلا أو قصيرا إلى غير ذلك وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي وما تغيضه الأرحام أي وما تنقصه وَما تَزْدادُ أي وزيادتها ويحتمل الغيض والزيادة بعدد الولد، فإنها تشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأربعة، وأحيانا يكون سقطا. ويحتمل أن يكون الغيض والزيادة بجسد الولد، فإنه يكون تاما ومخدجا، ويحتمل أن يكون الغيض والزيادة بمدة الولادة، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند الحنفية وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك، ويحتمل أن يكون المعنى ويعلم غيض الأرحام وازديادها بمعنى قلتها وكثرتها وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، ومن كان هذا شأنه فإنه يعلم الحق ويهدي إليه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الخلق وَالشَّهادَةِ أي ما يشاهده الخلق أي يعلم كل شئ مما يشاهده العباد، ومما يغيب عنهم، ولا يخفي عليه منه شئ الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شئ دونه، فهو أكبر من كل شئ الْمُتَعالِ على كل شئ سَواءٌ أي في علمه مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي سواء في علمه من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه ويعلمه لا يخفى عليه شئ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي متوار مختف في مقر بيته في ظلام الليل وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ذاهب في سربه نهارا، أو ذاهب في طريقه ووجهه نهارا، فكلاهما في علم الله سواء، المختفي في ظلام الليل والظاهر الماشي في بياض النهار وضيائه لَهُ أي لمن أسر ومن جهر، ومن استخفى ومن سرب مُعَقِّباتٌ أي جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي قدامة ووراءه يَحْفَظُونَهُ فمهمتهم إذن الحفظ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه، والتقدير على هذا: له

[سورة الرعد (13): آية 12]

أمر الله يحفظونه، أي له معقبات من نظام هذا العالم- الذي هو بأمره- يحفظونه، فللإنسان معقبات يحفظونه بأمر الله، قال أبو أمامة: ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الحال الجميلة بكثرة المعاصي، فحفظ الملائكة نعمة يغيرها الله إذا تغيرت الأنفس نحو الشر وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أي عذابا فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لا يدفعه شئ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله مِنْ والٍ أي من يلي أمرهم ويدفع عنهم، وإذا كان هذا شأن الله فإنه يعلم الحق ويهدي إليه ويطالب به هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ قال ابن كثير: البرق وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب خَوْفاً وَطَمَعاً أي خائفين من وقوع الصواعق عند لمع البرق، وطامعين في الغيث. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ بالماء أي ويخلقها منشأة جديدة وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ كما يسبح له كل شئ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الصاعقة معروفة فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء، كما قال ابن كثير، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي يشكون في عظمته وأنه لا إله هو وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي شديد الأخذ أو شديد القوة، والمماحلة في الأصل: شدة المماكرة والمكايدة، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف لاستعمال الحيلة واجتهد فيه، وإذن فالمعنى الحرفي: أنه شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون في مقابلة مكرهم وكيدهم لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ الحق ضد الباطل والمعنى: أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطي الداعي سؤاله، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه، ويحتمل أن يكون المراد بدعوة الحق دعوة التوحيد، فدعوة التوحيد دعوته وحده وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله، أو ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ من طلباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ أي فمه وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي وما الماء ببالغ فاه والتقدير: والذين يدعون من دونه لا يستجيبون إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه، أي كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه من جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم قال مجاهد: (كباسط كفيه: يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبدا). تصور الآن

[سورة الرعد (13): آية 15]

رجلا فوق بئر عميق يمد يده إلى الماء من بعيد فهل يستجيب له الماء ليشرب؟! فكذلك دعاء هؤلاء لآلهتهم، أو فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها آخر، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا ختم الآية بقوله: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا غيره لم يستطع الاستجابة، ثم أخبر تعالى عن سلطانه الذي قهر كل شئ ودان له كل شئ، ولهذا يسجد له كل شئ. فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سجود تعبد وانقياد طَوْعاً أي طائعين كسجود الملائكة والمؤمنين وَكَرْهاً أي وكارهين كما يفعل المنافقون والكافرون في حال الشدة والضيق، أو بخضوعهم لقهر الله وسننه وَظِلالُهُمْ أي تسجد معهم لله بِالْغُدُوِّ أي بالبكر وَالْآصالِ جمع أصيل: وهو آخر النهار، فظلالهم خاضعة لسنن الله، وفي ذلك سجودها، فمن كان هذا شأنه في خلق البرق والرعد، وإنشاء السحاب وإرسال الصواعق، وشدة المحال، واستجابة الدعاء، وخضوع كل شئ له، فإنه يعلم الحق ويهدي إليه، ويطالب به، وهو حري أن يعبد ويطاع، ويتبع شرعه ورسله، ثم قرر الله تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء، يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لنفسها ولا لعابديها- بطريق الأولى- نفعا ولا ضرا، فهي لا تحصل لهم منفعة، ولا تدفع عنهم مضرة، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له!، فهذا على نور من ربه ومن ثم قال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ هذا هو الجواب الوحيد على السؤال، إذ من الواضح أن السموات والأرض مربوبة مقهورة مسيرة مسخرة، فمن ربها ومسيرها وقاهرها ومسخرها، إنه ليس إلا جواب واحد هو: أن فاعل ذلك هو الله، ولأنه لا جواب إلا هذا الجواب، أجاب به، وأقام الحجة عليهم به، لأنه من الواضح والظاهر أنه ما من شئ مما يعبدون يمكن أن يكون ربا للسماوات والأرض قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه آلهة لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يستطيعون أن ينفعوا أنفسهم أو يدفعوا ضررا عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم! فكيف آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب؟ فما أبين ضلالتكم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الكافر والمؤمن؟ أو من لا يبصر شيئا ومن لا يخفى عليه شئ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أي ملل الكفر بأنواعه واتجاهاته،

[سورة الرعد (13): آية 17]

ودين الله، وشرعه وهدايته؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في القدرة على الخلق، بسبب من اشتباه مخلوق الله بمخلوق الشركاء حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق، كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء، ونعبدهم كما يعبد؟ فإذ لم يكن الأمر كذلك- من أنه ليس لله شركاء خلقوا مثل خلق الله- فقد قامت عليهم الحجة إذ اتّخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق، فالاستفهام إنكاري قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا خالق غيره، ولا يستقيم في منطق الحق أن يكون له شريك في العبادة، وليس له شريك في الخلق، وهذا من أعظم الأدلة لأهل السنة والجماعة على أن الله خالق أفعال العباد، لا كما يقول المعتزلة، فمن قال إن الله لم يخلق أفعال الخلق وهم خلقوها فإنه يلزم على قوله أن يتشابه الخلق على المخلوقين وَهُوَ الْواحِدُ أي المتوحد بالربوبية الْقَهَّارُ أي الذي يغلب ولا يغالب، والذي ما عداه مربوب ومقهور، ومن كان هذا شأنه فهو الحري وحده بالطاعة والعبادة، فهو وحده يعلم الحق ويقرره ويبينه ويطالب به، ويلزم به، ويعاقب عليه. وهذا كله مقتضى ربوبيته ووحدانيته وقهره، ومن ثم قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قال النسفي في معناها: أنزل من السحاب مطرا فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها أي كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره، والأودية جمع واد: وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، وفي تنكير الأودية نكتة: وذلك أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. قال ابن كثير عن هذا المثل: وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علما كثيرا، ومنها من لا يسع الكثير من العلوم بل يضيق عنها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه، والزبد: هو ما على وجه الماء من الرغوة، والرابي: هو المنتفخ المرتفع على وجه السيل، هذا هو المثل الأول في هذه الآية، إذ اشتملت هذه الآية على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه، والمثل الثاني قوله تعالى وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية، أي ليجعل حلية، أو ابتغاء متاع من الحديد والنحاس والرصاص يتخذ منها الأواني وما يتمتع به في الحضر والسفر، فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه، والحلية: هي الزينة من ذهب أو

كلمة في السياق

فضة ... والمعنى: أن لهذه الفلذات عند غليانها زبدا مثل زبد الماء كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي كذلك يضرب الله مثل الحق والباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً أي متلاشيا أي لا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس، يذهب ولا يرجع منه شئ وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والحلي والأواني فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أي فيثبت كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي ليظهر الحق من الباطل، قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الآية. هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله فَأَمَّا الزَّبَدُ وهو الشك فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. قال النسفي: (قال الجمهور: وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب، والحق والباطل، فالماء القرآن نزل لحياة الجنان كالماء للأبدان، والأودية للقلوب، ومعنى بقدرها بقدر سعة القلب وضيقه، والزبد هواجس النفس ووساوس الشيطان، والماء الصافي المنتفع به مثل الحق، فكما يذهب الزبد باطلا ويبقى صفو الماء، كذلك تذهب هواجس النفس ويبقى الحق كما هو، وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية، وأما متاع الحديد والنحاس والرصاص فمثل للأعمال الممدة بالإخلاص المعدة للخلاص، فإن الأعمال جالبة للثواب دافعة للعقاب، كما أن تلك الجواهر بعضها أداة النفع للكسب، وبعضها آلة الدفع في الحرب، وأما الزبد فالرياء والخلل والملل والكسل). كلمة في السياق: لقد قلنا: إن محور سورة الرعد هو آيتا سورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ بدأت هاتان الآيتان بالحديث عن الله وضربه الأمثال، وموقف الناس من المثل، وانقسامهم بذلك إلى قسمين: مهتدين،

[سورة الرعد (13): آية 18]

وضالين، وأن الذين استحقوا الضلال هم الموصوفون بالصفات المذكورة، وهاهنا في سورة الرعد بدأ المقطع الثاني بالحديث عن الله، وعلمه المحيط، وعظمته وعنايته بالإنسان، وقانونه العادل في خلقه. ثم تحدث عن مظاهر من قدرته وعظمته وانتقامه، ثم ضرب مثلا لمن يعبده ويعبد غيره، ثم قرر خضوع الخلق كلهم له، ثم قرر ربوبيته ووحدانيته وقهره، ثم ضرب مثلا للحق الذي أنزله ووقعه في القلوب، وحال القلوب معه، واستحقاق هذا الحق للبقاء والمكث في الأرض، ليوصلنا بذلك كله إلى ما أعد للمسلمين له، وما أعد للرافضين هداه، ثم ليقارن بين الذين علموا الحق والذين لا يعلمونه، وبين صفات الذين علموا الحق واستجابوا له، وصفات الذين رفضوا الحق ولم يستجيبوا له، وهي نفس الصفات المذكورة في سورة البقرة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... فالمقطع إذن تفصيل لآيتي سورة البقرة اللتين هما محور هذه السورة، إن معرفة الله توصل إلى أنه هو وحده الذي يعلم الحق، وهو الذي ينزله ويبينه. ولكن الناس يختلفون في موقفهم منه، فيقبله بعضهم ويرفضه آخرون، والبقاء الحقيقي للحق وحده، والثواب الحقيقي والجزاء الصارم إنما يكونان يوم القيامة، والذين يستجيبون للحق لهم مواصفاتهم، والذين لا يستجيبون لهم مواصفاتهم. فلنر كيف عرضت المعاني فيما تبقى من المقطع: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي: الجنة ورضوان الله تعالى للذين أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره وصدقوا وحيه وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ برفضهم هديه لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي لو ملكوا أموال الدنيا وملكوا معها مثلها لبذلوه ليدفعوا عن أنفسهم عذاب الله، وأنى لهم ذلك، ومع بعد ذلك عنهم فإن الله لا يتقبل منهم أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ أي في الدار الآخرة، أي يناقشون على النقير والقطمير والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي ومرجعهم بعد المحاسبة النار وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس المكان الممهد جهنم، ثم قارن الله عزّ وجل بين الفريقين فقال: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى أي لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا، لا يضاد شئ منه شيئا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، لا يستوي من كان كذلك ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه

[سورة الرعد (13): آية 20]

ولا اتبعه، أفهذا كهذا؟ لا استواء. فالاستفهام في الآية إنكاري، أي إنه لمستنكر بعد كل هذا وبعد ما ضرب الله من المثل وما جاء به من الهدى أن تقع شبهة لا يعرف فيها الحق، إنه ليس إلا العمى وحده هو السبب في عدم رؤية الحق، ثم ختم الله الآية بقوله: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة الذي يعملون على قضايا عقولهم فينظرون ويستبصرون، فمن لا عقل له لا يتذكر، ومن لم يتذكر فهو أعمى، وقد دل ذلك على أن العقول السليمة مركوز فيها الحق، فإذا نزل عليها الوحي تذكرت، أما القلوب التي لا تتذكر فإنها وصلت إلى العمى الكامل، ولذلك كله علاماته، ومن ثم فإن الله عزّ وجل ذكر بعد هذه الآية خصائص الفريقين، مقدما صفات أهل الحق، فمن وجد من نفسه صفات أهل الحق فإنه من المهتدين، ومن وجد من نفسه صفات أهل الباطل فإنه من الظالمين. أول هذه الصفات: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وعهد الله ما أوثقوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، فهم يفون لله بعهده أنه الرب وهم عبيد، ثم هم لا ينقضون ما أوثقوه على أنفسهم من المواثيق بينهم وبين الله، أو بينهم وبين العباد. خصص الوفاء بعهد الله ثم عمم ليدخل فيه كل عهد واجب الوفاء شرعا. وثاني هذه الصفات: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويدخل في ذلك صلة الأرحام والإحسان إليهم، وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف. قال النسفي: (ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان .. إنما المؤمنون إخوة، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم والذب عنهم، والشفقة عليهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر) الصفة الثالثة: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لمعرفتهم به وبجلاله. الصفة الرابعة: وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ في الدار الآخرة فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويراقبون الله فيما يأتون ويذرون من الأعمال، فيكون أمرهم على السداد والاستقامة، في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم. الصفة الخامسة: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ صبروا عن المحارم والمآثم، وصبروا على المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكاليف لله وحده، لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب في الجزع، قال صاحب الظلال: (والصبر ألوان. وللصبر مقتضيات. صبر على تكاليف الميثاق من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد ..... الخ، وصبر على النعماء والبأساء. وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر. وصبر على

[سورة الرعد (13): آية 23]

حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور .. وصبر وصبر وصبر .. كله ابتغاء وجه ربهم لا تحرجا من أن يقول الناس: جزعوا، ولا تجملا ليقول الناس: صبروا. ولا رجاء في نفع من وراء الصبر. ولا دفعا لضر يأتي به الجزع. ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله والصبر على نعمته وبلواه. صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع .. ) الصفة السادسة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي داوموا على إقامتها بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي. الصفة السابعة: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين سِرًّا وَعَلانِيَةً أي في السر والجهر لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار. وصدقة السر في النفل أفضل، وصدقة الجهر في الفرض أفضل نفيا للتهمة. الصفة الثامنة: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم، وإذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، وإذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا، وإذا رأوا منكرا أمروا بتغييره، قال صاحب الظلال: (والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في المعاملات اليومية لا في دين الله، ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة. فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس، وتوجهها إلى الخير وتطفئ جذوة الشر وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية. فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة .. ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها فأما. حين تحتاج السيئة إلى القمع ويحتاج الشر إلى الدفع فلا مكان لمقابلتها بالحسنة لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي، ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا .. إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم، والمفسدين في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف واستثارة الألباب والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب) وبعد فهذه مجموعة صفات ذكرها الله عزّ وجل، فمن استجمع هذا الصفات والخصائص فهو الجدير بالحق، البصير به، المهتدي بهداية الله، المستحق لما أعده الله لأهل الحق أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدنيا وهي الجنة؛ لأنها التي أرادها الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات إقامة يخلدون فيها يَدْخُلُونَها

[سورة الرعد (13): آية 24]

وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ قال ابن كثير: (أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها، من الآباء والأهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم، حتى أنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانا من الله وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته .. ) قال النسفي: (ووصفهم بالصلاح ليعلم أن الأنساب لا تنفع بنفسها. والمراد (أي بقوله: من آبائهم) أبوا كل واحد منهم، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم) وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ بالهدايا وبشارات الرضا مِنْ كُلِّ بابٍ قائلين سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ أي هذا الثواب بسبب صبركم عن الشهوات وعلى أمر الله. دل ذلك على أن الصبر هو الخلق الجامع فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي الجنة. قال ابن كثير في تفسير الآية: (أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا ومن هاهنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام) وبهذا تم وصف أهل الحق وخصائصهم ومواصفاتهم: الذين يتذكرون، والذين يهتدون ويقبلون هدى الله، والذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، وتأتي الآية الأخيرة في المقطع لتحدد صفات الأشقياء العمي الذين لا يعرفون الحق ولا يهتدون إليه؛ بسبب من أعمالهم التي هي على النقيض من أعمال أولئك وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من رحم وإيمان وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم، وتطبيق شرائع الجاهلية والصد عن سبيل الله أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وهي الإبعاد من الرحمة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي سوء عاقبة الدنيا إن أريد بالدار الدنيا، ويحتمل أن يراد جهنم وبسوئها عذابها. فائدة: بمناسبة قوله تعالى أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ قال صاحب الظلال: (إن هنالك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير، فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق .. هم الذين يفسدون في الأرض؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض وتزكو بهم الحياة: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما

يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ* وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ* وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- هو الحق. ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة وبعهد الله على آدم وذريته، أن يعبدوه وحده فيدينوا له وحده، ولا يتلقوا عن غيره، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه. ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه، ويخافون سوء الحساب، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة، ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة، ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية، ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان. إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة التي تسير على هدى الله وحده والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه .. إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء التي لا تعلم ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده والتي تتبع- من ثم- مناهج أخرى غير المنهج الذي ارتضاه للصالحين من عباده .. إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية أنها كلها من مناهج العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم- هو وحده الحق الذي لا يجوز العدول عنه ولا التعديل فيه .. إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديموقراطية فكلها سواء في كونها من مناهج العمي الذين يقيمون من أنفسهم أربابا من دون الله، تصنع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة وتشرع للناس ما لم يأذن به الله، وتعبدهم لما تشرع فتجعل دينونتهم لغير الله .. وآية هذا الذي نقوله استمدادا من النص القرآني- هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها .. سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية .. وسواء في ذلك الأشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديموقراطية إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد وتحلل، ومن شقاء ومن قلق، لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه هو الحق وحده ولا تلتزم- من ثم- بعهد الله وشرعه، ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه.

كلمة في السياق

إن المسلم يرفض- بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق- كل منهج للحياة غير منهج الله وكل مذهب اجتماعي، أو اقتصادي، وكل وضع كذلك سياسي غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد، الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله، فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه إن هذا الاعتراف- فوق أنه بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي- فهو في الوقت ذاته لا يسلم الخلافة في هذه الأرض للعمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض .. فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العمي! .. ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العمي، يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون فلم تسعد قط ولم ترتفع «إنسانيتها» قط، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم.) كلمة في السياق: وهكذا فصل هذا المقطع نوع تفصيل بعض الإجمال الموجود في الآيتين اللتين هما محور هذه السورة من سورة البقرة. لماذا يهتدي المهتدون؟ لماذا يضل الضالون؟ كيف يستقبل القلب الضال هدى الله؟ كيف يستقبل القلب المهتدي هدى الله؟ ماذا يترتب على الإيمان بالله ومعرفته؟ كل ذلك نجد جوابه في هذا المقطع. ولنعقد مقارنة بين الآيتين اللتين هما محور سورة الرعد من سورة البقرة وبين هذا المقطع. ولنعقد مقارنة بين الآيتين اللتين هما محور سورة الرعد من سورة البقرة وبين هذا المقطع: في آيتي سورة البقرة نجد قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وفي هذا المقطع من سورة الرعد نجد: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى .... إلى قوله تعالى كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ونجد في هذه الفقرة أكثر من مثل إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ ..... أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها وعند ما نتأمل آية سورة البقرة وهذه الفقرة من المقطع نجد فيهما ما يزيدنا معرفة بالله وما ينبغي أن يبتنى على هذه المعرفة، وفي آيتي سورة البقرة نجد: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ

الفوائد

الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وفي هذا المقطع من سورة الرعد نجد: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى ثم في آيتي سورة البقرة نجد: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وفى هذا المقطع من سورة الرعد نجد: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ....... إلى قوله تعالى وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وهكذا نجد كيف أن هذا المقطع كان نوع تفصيل لآيتي سورة البقرة، وهو وإن لم يكن تفصيلا على الطريقة المعهودة للبشر لكنه تفصيل يفوق كل تفصيل، وإذا كان محور السورة قد فصل في صفات من يستحق الضلال، فإن المقطع هاهنا قد فصل في صفات من يستحق الهداية ومن يستحق الضلال، هذا مع إقامة الحجة على الضالين، ولقد عمق المقطع عندنا معاني هي: أن الله المحيط علما بكل شئ ينزل وحيا ويضرب مثلا، وأن على خلقه أن يستجيبوا، كما عرفنا أن معرفة الله تقتضي تنزيها وخشية واستجابة له، وعرفنا أن سبب الضلال والهداية يعود إلى استعدادات القلوب وصفات الإنسان، وعرفنا أن لأهل الحق العاقبة في الدنيا والآخرة، وأن الحق وحده هو الذي يبقى، كما عرفنا أن الباطل يتعدد ويتجدد كما يتعدد الزبد ويتجدد ولكن عينه لا تبقى، وأما الحق فإن عينه باقية، وفي ذلك بشارة لمن يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عزّ وجل هو الحق، وهي معان تطويها كلها آيتا البقرة، وسورة الرعد تفصلها هذا التفصيل الرائع، بمقاطعها الثلاثة وقد رأينا كيف فصل المقطع الأول بعض ما في الآيتين نوع تفصيل، وكذلك المقطع الثاني، وسنرى بعد ذكر فوائد هذا المقطع كيف يفصل المقطع الأخير بعض ما انطوى في آيتي سورة البقرة نوع تفصيل. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نذكر الأحاديث والآثار التالية: أ- في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم- وهو أعلم بكم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون».

ب- وروى الإمام أحمد ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير». ج- قال ابن كثير: وقال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، ألا إن الأجل جنة حصينة. 2 - وفي قوله تعالى: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ كلام كثير للمفسرين، والذي نذهب إليه أن المعنى: أن تسخير ملائكة لحفظ الإنسان جزء من النظام الكلي المحكوم بالقدر، جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر الله» فالكون في شقيه الغيبي والمشاهد قد جعل الله له نظاما بأمره، هذا النظام يربط به الحسي بالغيبي، والغيبي بالغيبي، والحسي بالحسي بما لا يعلمه إلا الله عزّ وجل، وكجزء من هذا النظام تسخير الله ملائكة لحفظ الإنسان، لا من قدر قدره الله عليه، ومن ثم تجد حالات عجيبة تجري في هذا الكون يحس بها الإنسان أن مجريات الأمور كانت تقتضي شيئا لكنه لم يقع كما تقتضيه هذه المجريات 3 - في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ بيان لسنة من سنن الله إدراكها مهم لكل إنسان، وخاصة لمن يشتغلون في التربية والتوجيه والسياسة والاجتماع، ومن ثم جعلتها جمعية العلماء في الجزائر في زمن عبد الحميد بن باديس شعار العمل لها، ولقد ألفت المؤلفات الكثيرة في مضمونها، فبدون تغيير للنفس لا يطمع الإنسان بأحسن، وبدون تغيير لأنفس الأمة لا تطمع الأمة بأحسن، كما أن التغير نحو الأسوأ لا بد أن يرافقه تغيير في الحال، إلا إذا شاء الله أن يعفو، فالأنفس التي ألفت الذلة وعانتها إذا لم ترب على الجهاد لا تطمع بتغيير الحال، والأنفس التي ألفت الفوضى إذا لم ترب على النظام لا تطمع بتغيير الحال، والأمة التي ألفت السيادة إذا لم تحتفظ بالحالة النفسية لها عند ما حصلت السيادة لن تدوم لها، ومن ألف التوفيق مع الله وهو طائع إذا واقع المعصية ولم يقلع عنها فلا يطمع باستمرار التوفيق. نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم بسنده إلى جهم عن إبراهيم: قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.

4 - بمناسبة قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ نقول: في هذا المقام يذكر المفسرون اتجاها في التفسير، هذا الاتجاه يذكر أن الرعد ملك، وأن البرق سوطه الذي يسوق به السحاب، والذي نقوله في تفسير هذا الموضوع إذا صحت الروايات فيه هو: إن بعض الأسباب الحسية ربطها الله بأسباب غيبية، كالموت سببه الحسي المرض، وسببه الغيبي سحب الروح من قبل الملك، والجميع بأمر الله وقدرته، فعند ما يثبت بالدليل الشرعي أن سببا حسيا مرتبط بسبب غيبي فقد وجب الإيمان في هذه الحالة بكل من السببين: الغيبي والحسي، ولا يجوز نفي أحدهما بحال، ومما وقع فيه كثير من الإسلاميين في الخطأ سببه النفي أو الإثبات القاصر، وفي هذا المقام- مقام هذه الآية- نقول: إن للرعد سببا حسيا، وللبرق سبب حسي هو ما يتكلم عنه علماء الطبيعة، ولتصريف السحاب أسباب غيبية الله أعلم بها، فعلماء المسلمين يذكرون أن المكلف بأمر الأرزاق ميكائيل، فإذا ورد حديث صحيح حول موضوع الرعد والبرق وصلة الملائكة به، فإنه محمول على ذكر السبب الغيبي الذي لا ينفي السبب الحسي، فإذا أدركت هذا الموضوع عرفت قاعدة مهمة تستطيع أن تفهم بها كثيرا من النصوص، وبمناسبة هذه الآية ننقل هذه الآثار التي ذكرها ابن كثير. - روى الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرني أبي كنت جالسا إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد، فمر شيخ من بني غفار، فأرسل إليه حميد فلما أقبل قال: يا ابن أخي وسع الله فيما بيني وبينك فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه، فقال له حميد: ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الشيخ سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك» والمراد والله أعلم أن نطقها الرعد وضحكها البرق؛ وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال: يبعث الله الغيث فلا أحسن منه مضحكا ولا آنس منه منطقا، فضحكه البرق، ومنطقه الرعد وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحجاج حدثنا أبو مطر عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» أقول: إن المسلم مع بحثه عن القانون العلمي، والحقيقة العلمية الكونية، ومع إثباته لها، فإنه له إحساساته الإيجابية التي تجعله يرى في هذا الكون ما لا يراه الكافر، فيذكره ذاك بالله تذكيرا يعبر عنه بذكر أو دعاء أو خشية أو أنس.

5 - بمناسبة قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ننقل أولا ما ذكر كسبب نزول لها، ثم نثني بذكر حديث حول كثرة الصواعق في آخر الزمان: أ- روي في سبب نزول هذه الآية ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال: «اذهب فادعه لي» قال فذهب إليه فقال: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: له من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو أم من فضة هو أم من نحاس هو؟ قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا رسول الله: قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك قال لي كذا وكذا فقال لي: «ارجع إليه الثانية» فذهب فقال له مثلها. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك فقال «ارجع إليه فادعه» فرجع إليه الثالثة قال: فأعاد عليه ذلك الكلام فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عزّ وجل سحابة حيال رأسه فرعدت فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف (¬1) رأسه فأنزل الله عزّ وجل وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الآية ب- روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول: من صعق قبلكم الغداة؟ فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان» 6 - بمناسبة ضرب الله المثل حول الزبد في السيل والمعادن المذابة قال ابن كثير: (وقد ضرب الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا، وهما قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ الآية ثم قال أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ الآية وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين (أحدهما) قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ الآية والسراب إنما يكون في شدة الحر، ولهذا جاء في الصحيحين فيقال لليهود يوم القيامة فما تريدون؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا فيقال: ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا. قال تعالى ثم في المثل الآخر: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ الآية وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ¬

_ (¬1) القحف: هو أعلى الدماغ.

لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» فهذا مثل مائي وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد ... عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها- قال-: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار، فتغلبوني فتقتحمون فيها» وأخرجاه في الصحيحين أيضا فهذا مثل ناري. 7 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ذكر ابن كثير مجموعة أحاديث وآثار ننقلها جميعا مع حذف السند: (قال الإمام أحمد ... عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟» قالوا الله ورسوله أعلم. قال: «أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك: وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء- قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب» سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ورواه أبو القاسم الطبراني ... عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض، حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عزّ وجل: هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» وقال عبد الله بن المبارك عن بقية بن الوليد حدثنا أرطاة بن المنذر سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن

المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان (¬1) من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه «ملك يستأذن» ويقول الذي يليه للذي يليه: «ملك يستأذن» حتى يبلغ المؤمن، فيقول: ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا، حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم، ثم ينصرف. رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الألهاني قال سمعت أبا أمامة فذكر نحوه وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان 8 - من السياق، ومن الآيات التي وصفت أهل الحق وأهل الضلال نعرف أنه بمقدر التحقق بصفات أهل الخير، وبصفات أهل الشر، يكون استحقاق الإنسان للهداية، أو للضلال، أو للجزاء، أو للعقاب. فليكثر الإنسان من تأمل هذه الصفات، وليسع للتحلي والتخلي مع الترقي في المقامات الصالحة، فإن كل مقام يحتاج إلى أن يبذل الإنسان جهدا ليتمكن فيه، وبعض المقامات تحتاج إلى مران كثير كالصبر ابتغاء وجه الله، وكدرء السيئة بالحسنة. 9 - مظاهر الإعجاز والكمال في هذا القرآن لا تنتهي، وهناك حد أدنى من هذه المظاهر موجود في كل كلمة، وفي كل جملة، وفي كل آية، وفي كل مجموعة آيات، وفي كل مقطع، وفي كل قسم، وفي كل سورة، وفي القرآن كله، وقد يكون الإعجاز أكثر ظهورا في كلمة أو في آية أو في سورة تأمل قوله تعالى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فههنا صورة إنسان يتترس بالحسنات من السيئات التي توجه إليه، فكلما وجهت إليه سيئة دفعها بحسنة، إن من تأمل هذه الصورة يدرك مظهرا من مظاهر الإعجاز الواضح في الكلمة القرآنية. *** ¬

_ (¬1) أي صفان من الخدم.

المقطع الثالث والأخير من سورة الرعد

المقطع الثالث والأخير من سورة الرعد ويمتد من الآية (26) إلى نهاية الآية (43) وهذا هو: [سورة الرعد (13): الآيات 26 الى 43] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

ملاحظة حول المضمون والسياق

ملاحظة حول المضمون والسياق: نلاحظ أنه كما بدأ المقطعان السابقان بلفظ الجلالة (الله) فقد بدأ هذا المقطع بذلك: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ. ثم نلاحظ أن الآية الثانية في المقطع هي قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ كما أن آخر آية في المقطع هي قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. فانظر إلى الآيتين اللتين هما محور سورة الرعد من سورة البقرة تجد أن بينهما وبين ما ورد في المقطع تشابها: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً .... إنه لمن الواضح أن هناك تشابها بين قوله تعالى في سورة الرعد وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ وبين قوله تعالى في سورة البقرة وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ إن هذا التشابه ليؤكد الصلة بين السورة ومحورها، بما تستطيع به الجزم أن سورة الرعد تفصيل لكلتا الآيتين، ففيها أقوال للكافرين ورد عليها، وإقامة حجة، وفيها تفصيل لظاهرتي الهداية والضلال، وفيها تعريف على الله، ولذلك كله صلة بآيتي سورة البقرة تفسير المقطع الثالث: يبدأ المقطع بالتذكير أن الله هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتر على من يشاء؛ لما له في ذلك من الحكمة والعدل، ثم بين أن الكافرين يفرحون بما أوتوا من الحياة الدنيا، وليس ما أوتوا منها إلا استدراجا لهم وإمهالا، وفي هذا السياق حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الآخرة قال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي ويضيق على من يشاء، والمعنى: الله وحده هو الذي يوسع الرزق ويضيقه دون غيره، وفي هذا تعريف على الله بأنه هو القابض الباسط،

[سورة الرعد (13): آية 27]

وفي هذا كذلك تدليل على وجود الله إذ ظاهرة القبض والبسط في هذا الكون إن في موضوع المال، أو فيما يتأتى فيه معنى القبض والبسط في عالم الأرواح والأجساد لا يمكن أن يعللها ذو فطرة سليمة إلا بوجود ذات خلقت وجعلت كل شئ في محله وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي وفرحوا بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر، لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يؤجروا بنعيم الآخرة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ أي إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجلة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سريعة، وهذا مما يغفل عنه الكافرون، ويتذكره المؤمنون، وفي هذا المقام يذكر ابن كثير حديثين: ا- روى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد أخي بني فهر قال: قال. رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة. ب- قال ابن كثير: وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك ميت (والأسك الصغير الأذنين) فقال: «والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه». أهـ. .......... وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إن الكافرين يقترحون الآيات من أجل أن يؤمنوا في زعمهم، وكأن أدلة الإيمان ناقصة أو غير كافية، إنه إن كان اقتراحهم الآيات من أجل أن يؤمنوا بالله، فالأدلة على وجود الله أكثر من كل كثير، أو من أجل أن يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن أعظم آية، أو من أجل أن يؤمنوا بالقرآن ففيه من الإعجاز والآيات ما لا يحاط به، ومن ثم كان الجواب قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أي ويرشد إلى دينه من رجع إليه بقلبه، وعلامتهم ما سيأتي من أوصافهم، والمعنى أنه هو المضل والهادي، سواء جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآية على وفق ما اقترحوا، أو لم يجبهم إلى سؤالهم، فإن الهداية والإضلال ليسا منوطين بذلك. ملاحظة حول السياق: في آيتي سورة البقرة اللتين هما محور هذه السورة قوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وهنا قال تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ هناك بين سبب إضلاله لمن

ولنعد إلى السياق

ضل، وهنا يبين سبب هدايته لمن اهتدى، وهناك فصل في صفات من استحق الإضلال حتى لا تلتبس الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... وهنا بين صفات من يستحقون الهداية الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ومن ثم ندرك كيف أن سورة الرعد تفصيل لمحورها من سورة البقرة، ولكنه ليس التفصيل المعتاد في طرائق البشر أو الداخل تحت طوقهم، ولكنه تفصيل معجز لا يمكن أن يكون إلا من الله المحيط علما بكل شئ، فإذا ما عرفنا أن سورة البقرة مدنية، وسورة الرعد مكية على القول الراجح: وإذا ما رأينا أن سورة البقرة جعلت في أول القرآن ثم جاءت السور الأخرى مفصلة على هذه الشاكلة المعجزة .... مع كون هذا القرآن نزل مفرقا منجما على رجل أمي في أمة أمية، إن هذا وحده كاف للتدليل على أنه من عند الله، فكيف إذا كان هذا واحدا من مظاهر إعجازه، وكيف إذا كان إعجازه واحدا من معجزاته؟ نسأل الله ألا يضلنا، ونسأله أن يتوفانا على كمال الإيمان وأن يلحقنا بالصالحين. ولنعد إلى السياق: لقد وصف الله عزّ وجل من يستحق هدايته بأنه من أناب أي رجع إلى الله واستعان به وتضرع إليه، ثم وصف هؤلاء فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كالتسبيح والتهليل والاستغفار أو بالقرآن، فقلوبهم تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرا أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ أي بسبب ذكره تطمئن قلوب المؤمنين، ثم بشر أهل الإيمان فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ أي أصابوا خيرا وطيبا وَحُسْنُ مَآبٍ أي وحسن مرجع. وهكذا بين الله عزّ وجل من يستحق هدايته وبشرهم، وفي ذلك رد على الكافرين الذين يقترحون الآيات، وإقامة حجة عليهم أن ضلالهم ليس بسبب عدم كفاية الآيات؛ بل لمرض فيهم وقصور عندهم عن الخير، ذلك هو أول رد عليهم، وفيما يأتي من المقطع ردود أخرى كما سنرى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك، إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، وقد فسر كيف أرسله بقوله فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم، وأنت خاتم الأنبياء لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي لتقرأ عليهم الكتاب العظيم فتبلغهم رسالة الله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ

[سورة الرعد (13): آية 31]

أي بعثناك وحال هذه الأمة أنهم يكفرون بالرحمن الذي هو البليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شئ، فهم يكفرون بالرحمن ولا يقرون به، ويأنفون من وصف الله به كما أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوابسم الله الرحمن الرحيم، وقالوا ما ندري ما الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به، معترف له مقر بالربوبية والألوهية هو ربي لا إله إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي في جميع أموري وَإِلَيْهِ مَتابِ أي وإليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أي عن مقارها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ حتى تتصدع وتتزايل قطعا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن؛ لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف، قال ابن كثير في تفسيرها: (أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك، لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون جاحدون له.» اه ويحتمل أن يكون المعنى: ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، وتنبيئهم لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه، وإنما حذف الجواب ليذهب الفكر أكثر من مذهب، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث كما بعث غيره من الرسل، وتلا هذا القرآن، وكان القرآن بهذه المثابة، فأي آية يطلب الكافرون ليؤمنوا.؟! قال صاحب الظلال (ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض- إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟ إن طبيعة هذا القرآن ذاتها. طبيعته في دعوته وفي تعبيره. طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره .. إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به، والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال، وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد.

[سورة الرعد (13): آية 32]

وأحيوا ما هو أحمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام، والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها. وتحول الأرض عن جمودها وتحول الموتى عن الموات) اهـ. بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي مرجع الأمور كلها إلى الله عزّ وجل، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهد الله فلا مضل له، وإذ كان الأمر كذلك فلا يستغرب المؤمنون عدم إيمان الكافرين، ومن ثم قال الله تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أي من إيمان جميع الخلق، ويعلموا أو يتبينوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ولكنه جل جلاله له يهدي إلا من يستحق الهداية، وسبقت له من الله العناية. وقد استعمل اليأس في الآية بمعنى العلم لتضمنه معناه؛ لأن اليائس عن الشئ عالم بأنه لا يكون، كما استعمل النسيان في معنى الترك لتضمنه ذلك، وإذن فطلب هؤلاء الآية ليهتدوا ليس في محله، إذ الآية موجودة، والطريق إلى الإيمان معروف، وما عليهم إلا أن يسلكوا وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أي داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت، من صنوف البلايا والمصائب، في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أي أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويتطاير عليهم شررها، ويتعدى إليهم شرورها، والمعنى: لا تزال القوارع تصيب الكافرين بسبب تكذيبهم، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، وهذا وحده آية مستمرة لمن كان له قلب، فكيف يطلبون الآيات، ثم بين الله عزّ وجل استمرار إنزاله القوارع بالكافرين ومن حولهم فقال حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي لا خلف في موعده. وبهذا تم الرد الثاني على اقتراح الكافرين آية، وكما توجه الخطاب في الرد الأول والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ .. كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فإن الرد الثالث يبدأ بتوجيه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك. وفي الرد الثالث تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزية له. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي فلك فيهم أسوة وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه واقتراحهم عليه الآيات فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي أنظرتهم وأجلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ قال النسفي: (وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم

[سورة الرعد (13): آية 33]

استهزاء به، وتسلية) فقد فهم النسفي إذن أن هذا رد على اقتراحهم المذكور في بداية هذا المقطع، فطلب الآية فيه التنقيص للرسول صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بصدقه، ومن ثم لفت الله نظرهم إلى هذا، ولفت نظرهم إلى ما أنزله الله من عقوبات بأمثالهم ليريهم خطأ هذا الذي هم عليه، وأنه إن كانت سنته الإملاء، فسنته بعد الإملاء الأخذ، وفي ذلك تهديد ووعيد ورد، ثم تأتي الآية اللاحقة وفيها ذكر قيوميته تعالى، وذكر استحقاقهم العقوبة بشركهم، وذكر سنته فيمن يريد إضلاله، وفي ذلك آيات لمريد الإيمان: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ أي حفيظ عليم رقيب عَلى كُلِّ نَفْسٍ صالحة أو طالحة بِما كَسَبَتْ من خير أو شر لا تخفى عليه خافية، والتقدير: أفمن هو كذلك هل هو كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها؟ وقد حذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو ما يأتي وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي أصناما وأندادا وأوثانا قُلْ سَمُّوهُمْ أي أعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، ولذلك قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بل أئنبّئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض، وهو العالم بما في السموات والأرض فإذا لم يعلمهم، علم أنهم ليسوا بشيء، والمراد نفي أن يكون له شركاء، والمعنى: أتخبرونه في حالة تسميتهم آلهة بما لا وجود له؛ لأنه لو كان لها وجود في الأرض لعلمها، لأنه لا تخفى عليه خافية أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، فأي سخف هذا السخف؟ أن يعطى لشئ اسم ليس له حقيقة، ويعامل على أساس أن اسمه حقيقة بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي كيدهم للإسلام، أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي عن سبيل الله، فالله لا يوفقهم لسلوك سبيله جزاء لهم على ما هم عليه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من أحد يقدر على هدايته، وفي هاتين الآيتين رد ضمني على اقتراحهم الآيات بإقامة الحجة عليهم ببطلان ما هم فيه، من تسويتهم الله بخلقه، وسيرهم في غير طريقه، وصدهم عن سبيله، فاستمرارهم على ما هم عليه من الباطل، ورفضهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الدليل على سفههم، وقد علمنا من خلال العرض سببا من أسباب استحقاق الإنسان الضلال، وهو اتخاذه لله شريكا، وبعد إقامة الحجة يأتي الإنذار: لَهُمْ أي الكافرين عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالقتل والأسر بأيدي المؤمنين، أو بأنواع المحن والبلايا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أي المدخر لهم أَشَقُّ أي

[سورة الرعد (13): آية 35]

أشد من عذاب الدنيا بكثير، لدوامه وشدته، فإن عذاب الدنيا له انقضاء وذاك دائم أبدا، ونار جهنم بالنسبة إلى نار الدنيا سبعون ضعفا، وفيها من صنوف العذاب الكثير: وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي من حافظ من عذابه، ثم تأتي بشارة لأهل التقوى وإنذار لأهل الكفر بآية واحدة مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي صفتها ونعتها أُكُلُها دائِمٌ أي ثمرها دائم الوجود لا ينقطع وَظِلُّها أي دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس ففواكهها ومطاعمها ومشاربها وروحها كل ذلك لا انقطاع ولا فناء تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي الجنة الموصوفة عقبى المتقين أي منتهى أمرهم وَعُقْبَى أي ومنتهى أمر الْكافِرِينَ النَّارُ نعوذ بالله من ذلك. ثم يستكمل الرد الثالث على اقتراح الآيات بآيتين فيهما رد ضمني على الاقتراح، وفيهما رد على نوع آخر من الكافرين وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم قائمون بمقتضاه يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كفرح النجاشي وقسيسيه بالقرآن يوم قرأه عليهم جعفر وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي ومن أحزابهم- وهم كفرتهم الذين يتحزبون ضد هذا الدين- من ينكر بعضه ويقر بعضه، كما يفعل المبشرون والمستشرقون في عصرنا، لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم، ولكنهم يجعلونه مستمدا من كتبهم، وينكرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء جميعا قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ومن كان مضمون الوحي الذي أنزل إليه ذلك، فذلك دليل على أنه حق، والإنكار له إنكار لعبادة الله وتوحيده إِلَيْهِ أَدْعُوا أي إلى الله أدعو وَإِلَيْهِ أي وإلى الله لا إلى غيره مَآبِ أي مرجعي، وإذ كان هذا دأبي وعملي ودعوتي، فكيف ترد هذه الدعوة وتكفر، وهي دعوة كل رسول ومن ثم قال: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، والمعنى- كما قال ابن كثير:- (وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا شرفناك به، وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي) وقال النسفي في معناها: (ومثل ذلك الإنزال أنزلناه، مأمورا فيه بعبادة الله وتوحيده، والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء) فإذا كان مضمون هذا الوحي كمضمون كل وحي سابق، فكيف ينكر هذا الدين، وكيف يكفر بهذا الرسول!، وهكذا قامت الحجة على مقترحي الآيات في هاتين الآيتين مرتين، مرة بموقف قسم من أهل

[سورة الرعد (13): آية 38]

الكتاب من هذه الرسالة، ومرة بمضمونها بعد أن بدأ الرد الثالث بتسفيه ما هم عليه، وعلى هذا فإن الرد الثالث كان ردا بالمضمون، المضمون الباطل الذي هم عليه، والمضمون الحق الذي هو هذه الدعوة، فمن أين يحق لهم بعد هذا أن يطلبوا آية، وفي ثنايا الرد على مقترحي الآيات رد على أحزاب أهل الكتاب الكافرين بوحدة رسالات الله، ووحدة مضمونها الظاهرين في هذه الدعوة، ثم ختم الله الرد الثالث بتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق الموحى إليه، وأن عليه ألا يبالي باقتراحاتهم وإنكارهم ومجادلاتهم فقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي آراءهم بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الثابت من الله المؤيد بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي من ناصر ينصرك وَلا واقٍ يقيك منه، وهذا من باب التهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين، وألا يزلزل المؤمن عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الثبات بمكان، وفيه وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة، بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والحجة المحمدية، وبهذا انتهى الرد الثالث في سياق هذا المقطع على مقترحي الآيات ليأتي الرد الرابع: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لاحظ قوله تعالى أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ ولاحظ ما ذكرناه من أن هذه المجموعات كلها رد على قول الكافرين في الآية الثانية من هذا المقطع: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ تجد ارتباطا بين المجموعة الجديدة، وسياق المقطع وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ فلست بدعا من الرسل، بل أنت واحد منهم، يجري عليك ما يجري عليهم وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً أي نساء وأولادا لأنهم بشر وهم قدوة، وفي ذلك رد على التصورات الخاطئة في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ليس في وسعه إتيان الآيات على ما يقترحه قومه؛ وإنما ذلك إلى الله لِكُلِّ أَجَلٍ أي لكل وقت، أو لكل زمن، أو لكل مدة كِتابٌ ينزله الله عزّ وجل ليحكم هذه المدة، ويفرض على أهل هذا الزمن اتباعه، فالتوراة والزبور والإنجيل لزمن، وهذا القرآن لباقي الزمان ومن ثم قال الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي يمحو الله ما يشاء منها فينسخه، ويثبت ما شاء منها فيقبضه، حتى نسخت كلها بالقرآن الحكيم الذي أنزله الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أي وعند الله أُمُّ الْكِتابِ أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب فيه فهو الذي

[سورة الرعد (13): آية 40]

يحكم الأزمنة كلها وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي في كل الأحوال سواء أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو توفيناك قبل ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب وَعَلَيْنَا الْحِسابُ أي وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم لا عليك؛ فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم، وهكذا واسى الله رسوله صلى الله عليه وسلم وذكره بما يجب عليه، وأقام الحجة على الكافرين المقترحين للآيات، بأن ذلك إلى الله، وأنه يكفيهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم له خصائص الرسل، وتظهر فيه سنة الله في إنزاله الكتب لكل زمان، ويكون محمد عليه الصلاة والسلام قد أنزل عليه الكتاب الحاكم لبقية الزمان، وهو رد على مقترحي الآيات، ورد على الكافرين من أهل الكتاب، ثم تأتي آية تقيم عليهم الحجة، وترد عليهم من خلال لفت نظرهم إلى آية واقعة، وهي التوسع الدائم لدار الإسلام على حساب دار الكفر، فذلك تأييد من الله فيه معنى الآية، وهو الذي تم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الكفر نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتح على المسلمين من بلادهم، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات النصرة والغلبة، وعلامات التوفيق، فما أكثر الآيات إذن وهم يطلبون آية، فما يطلبونه موجود، وطلب المزيد دون رؤية الموجود لا يفيد وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أي لا راد لحكمه إذ المعقب هو الذي يكر على الشئ فيبطله، وقد حكم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس، فلا أحد يستطيع أن يحول دون هذا، ولقد كان هذا كله مما هو مذكور في التاريخ من غلبة المسلمين على قلة العدد والعدد، واندحار الكفر على كثرة العدد والعدد، وحيث أقام المسلمون دينهم كان لهم هذا وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا، بتسليط المؤمنين عليهم بالقهر والغلبة، وفي هذا السياق- سياق التبشير بانتشار الإسلام- يذكرنا الله عزّ وجل بالمكر الهائل الذي يقابل به أعداء الله هذا الدين، فيبشر المؤمنين ويقوي ثقتهم به جل جلاله وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كفار الأمم الخالية بأنبيائهم والمكر: إرادة المكروه في خفية فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً وإذ كان الأمر كذلك فمكرهم لا قيمة له، ثم فسر كيف أن المكر له جميعا بقوله: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ لأن من علم ما تكسب كل نفس هو وحده الذي له المكر كله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي لمن العاقبة المحمودة، أي لمن تكون الدائرة والعاقبة، لهم أو لأتباع الرسل؟ إنها لأتباع الرسل في الدنيا

[سورة الرعد (13): آية 43]

والآخرة، وبهذا التهديد والوعيد ختم الرد على مقترحي الآيات. ثم يختم المقطع، وتختم السورة كلها بهذه الآية. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا أي لم يرسلك الله فأنت مدع قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم، شاهد علي بما بلغت من الرسالة، وشاهد عليكم بما تفترونه من الكذب، وقد أنزل علي، وأظهر على يدي من الأدلة على رسالتي ما قامت به الحجة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يشهد على رسالتي كذلك، والمراد بهم من أسلم من أهل الكتاب، فإسلامهم دليل على صحة رسالته، لأنهم لم يسلموا إلا لما علموه من التبشير في كتبهم، وقد كتبنا في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) فصلا خاصا عن البشارات برسولنا صلى الله عليه وسلم في الكتب الدينية العالمية. كلمة في السياق: كانت الآية الأولى في المقطع الأخير حديثا عن الله، ثم جاءت الآية الثانية فيه وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا .... وجاءت الآية الأخيرة: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..... وبين ذلك ومع ذلك، وقبل ذلك ردود متعددة على الكافرين، فقد بدأت السورة بقوله تعالى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ فهذه البداية تقرر أن القرآن آيات، فالمقدمة ترد من البداية على مقترحي الآيات بأن الآيات هي القرآن، وتقرر أن هذا القرآن حق، وأن أكثر الناس لا يؤمنون، ثم تتابع السورة أقوال الكافرين وتردها، وتعلل سبب عدم إيمان الناس، ففيما بين المقدمة والخاتمة، وما بين المقاطع نفسها، وما بين ذلك كله ومحور السورة في السياق القرآني من اتصال ما قد رأيت، فسبحان الله منزل هذا القرآن، وخالق هذا الكون ظاهرهما أجزاء وباطنهما وحدة متكاملة. فوائد: 1 - في تفسير كلمة طوبى كلام كثير للمفسرين قال ابن كثير: (قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس (في تفسير طوبى) فرح وقرة عين، وقال عكرمة: نعم مآلهم. قال الضحاك: غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي: خير لهم، وقال قتادة: هي كلمة عربية يقول الرجل طوبى لك أي أصبت خيرا، وقال في رواية طوبى لهم حسنى لهم. وَحُسْنُ مَآبٍ أي مرجع، وهذه الأقوال شئ واحد لا منافاة بينها، وقال سعيد ابن جبير عن ابن عباس (طوبى لهم) قال: هي أرض الجنة بالحبشية. وقال سعيد بن

مسجوع: طوبى اسم الجنة بالهندية. وكذا روى السدي عن عكرمة طوبى لهم أي الجنة، وبه قال مجاهد. وقال العوفي عن ابن عباس: لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ وذلك حين أعجبته ..... ) 2 - بمناسبة قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ يذكر ابن كثير الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن». 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ يذكر ابن كثير أن لفظ القرآن، قد يطلق على كل من الكتب المتقدمة، ويستشهد على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خفف على داود القرآن فكان يأمر بدابته أن تسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يده». فالمراد بالقرآن في هذا الحديث الزبور، ومن ثم يكون معنى الآية، ولو أن كتابا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى .... لكان هذا القرآن، إلا أن قتادة قدر المحذوف في الآية تقديرا آخر فقال: لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم .. وما اعتمده ابن كثير والنسفي ونقلناه في صلب التفسير وهو الأولى 4 - وبمناسبة الكلام عن عظمة القرآن، وأنه به تقوم الحجة أثناء الكلام عن آية وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً .... قال ابن كثير: فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. 5 - وفي سبب نزول قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ..... ذكر ابن كثير ما ذكره ابن أبي حاتم بسنده عن عطية العوفي قال: قلت له: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ... الآية قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه. فأنزل الله هذه الآية. قال: قلت: هل تروون هذا الحديث عن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا روي عن ابن عباس والشعبي وقتادة وغير واحد في سبب نزول هذه الآية. والله أعلم.

6 - في قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أكثر من قول للمفسرين أحدها: ما ذكرناه في صلب التفسير وهو ما ينزله الله بالكافرين من بأس، وبعضهم فسرها بغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعقر دار الكفر وجوارها. روى أبو داود الطيالسي بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ قال سرية أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ قال محمد صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ قال فتح مكة. والذي نراه في هذا المقام أن سنة الله أن ينزل بعقر دار الكافرين وما جاورها قوارعه المستمرة إلى يوم القيامة، إما كعذاب أو كتسليط عليهم، وقد كان تسليط رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش نموذجا على جزء من هذه السنة. 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا .... يذكر ابن كثير حديث الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. 8 - قراءة حفص التي شرحناها عند قوله تعالى: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ تضم الصاد، وهناك قراءات متواترة تفتح الصاد فيكون المعنى: لقد صد هؤلاء الكافرون عن سبيل الله كما زين لهم المكر والكيد للإسلام وأهله فاستحقوا بشركهم وكيدهم وصدهم عن سبيل الله الضلال، فعقوبة الإضلال من الله لا تكون بلا سبب. 9 - عند قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ينقل ابن كثير مجموعة أحاديث ننقلها جميعا مع حذف الأسانيد (قال ابن كثير: وفي الصحيحين: من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت. فقال: «إني رأيت الجنة- أو أريت الجنة- فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا». وقال الحافظ أبو يعلى ... عن جابر قال: بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب: يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال: «إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم

به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهدا لبعضه، وعن عتبة بن عبد السلمي أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال فيها عنب؟ قال: «نعم» قال: فما عظم العنقود؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر» رواه الإمام أحمد. وقال الطبراني ... عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى» وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» رواه مسلم، وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة سمعت زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال «نعم والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة» قال: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى، قال: «تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه». رواه الإمام أحمد والنسائي. وقال الحسن بن عرفة ... عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا» وجاء في بعض الأحاديث «أنه إذا فرغ منه عاد طائرا كما كان بإذن الله تعالى» وقد قال الله تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (الواقعة: 32، 33) وقال: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (الإنسان: 14) وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا .... ) أهـ. أقول: رأينا في بداية هذه الفائدة النصوص التي تذكر أن الجنة دنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورآها، وهذه النصوص من جملة ما استندنا إليه في أن السموات السبع والعرش من المخلوقات المغيبة عنا، فالملائكة سكان السموات غيب، والجنة- وهي فوق السماء السابعة- غيب، ودليل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دنت إليه، ورآها ولم يرها غيره، فالسّماوات السبع- والله أعلم- لا تخرج عن هذه الطبيعة فهي موجودة ولكنها مغيبة عنا 10 - بمناسبة الكلام عن الظل الدائم في الجنة في قوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها

يذكر ابن كثير حديث الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها» ثم قرأ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ 11 - بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً يذكر ابن كثير حديث الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» كما يذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام «أربع من سنن المرسلين: التعطر والنكاح والسواك والحناء» أي لشيب الرأس واللحية. 12 - من الآيات التي دار حولها نقاش كثير بين العلماء واختلفوا في فهمها على أقوال متعددة، آية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وقد ذكرنا في صلب التفسير أرجح ما ترجح عندنا، ولزيادة الفائدة نذكر هنا تلخيص ابن كثير لهذه الأقوال ننقله بحاله ما عدا الأسانيد، قال ابن كثير بعد أن ذكر القول الذي رجحناه: (قوله: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ اختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: يدبر أمر السنة فيمحو الله ما يشاء، إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت، وفي رواية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال كل شئ إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما، وقال مجاهد يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران، وقال منصور سألت مجاهدا فقلت: أرأيت دعاء أحدنا يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فاثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم وأجعله في السعداء. فقال حسن، ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر فسألته عن ذلك فقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ الآيتين قال يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فأما كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يغير، وقال الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة إنه كان كثيرا يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. رواه ابن جرير وقال ابن جرير ... عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال- وهو يطوف بالبيت وهو يبكي-: اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة.

وقال حماد ... عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا ورواه شريك عن هلال بن حميد عن عبد الله بن عليم عن ابن مسعود بمثله، وقال ابن جرير ... عن إبراهيم أن كعبا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: وما هى؟ قال: قول الله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الآية ومعنى هذه الأقوال: أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء، قد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد ... عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان الثوري به وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي حديث آخر «إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض» وقال ابن جرير ... عن ابن عباس قال إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوت- والدفتان لوحان- لله عزّ وجل كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وقال الليث بن سعد ... عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» وذكر تمام الحديث. رواه ابن جرير وقال الكلبي يمحو الله ما يشاء يثبت وقال: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، فقيل له من حدثك بهذا؟ فقال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رباب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية فقال يكتب القول كله حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شئ ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك أكلت وشربت دخلت وخرجت ونحو ذلك من الكلام وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب، وقال عكرمة عن ابن عباس: الكتاب كتابان: فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وقال العوفي عن ابن عباس في قوله يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يقول: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت. وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ يقول: يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وجملة ذلك عنده في أم

الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب، وقال قتادة في قوله يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ كقوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال قالت كفار قريش لما نزل وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ما نرى محمدا يملك شيئا وقد فرغ الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم، إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ونحدث في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم، وقال الحسن البصري يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال من جاء أجله يذهب، ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله، وقد اختار هذا القول ابن جرير رحمه الله وقوله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال الحلال والحرام، وقال قتادة أي جملة الكتاب وأصله، وقال الضحاك وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال كتاب عند رب العالمين، وقال سنيد بن داود حدثني معتمر عن أبيه عن يسار عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون، ثم قال: لعله كن كتابا فكان كتابا. وقال ابن جريج عن ابن عباس وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ قال: الذكر) أقول: لقد رجحنا أن المراد بالآية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من شرائعه وَيُثْبِتُ ما يشاء منها وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي اللوح المحفوظ، وقد ذهب بعض علماء التوحيد أن ما يطرأ عليه المحو هو صحف الملائكة التي كتبت فيها أحداث السنة، وأما اللوح المحفوظ فلا يطرأ عليه جديد لأنه مظهر من مظاهر علم الله. 13 - حمل بعضهم قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أن المراد به عبد الله ابن سلام قاله مجاهد. قال ابن كثير: (وهذا القول غريب لأن هذه الآية مكية) والذين اتجهوا إلى أن المراد به عبد الله بن سلام إما أنهم جعلوا الآية مدنية، أو أنهم جعلوا إسلام عبد الله بن سلام متقدما على الهجرة إلى المدينة، والذي نرجحه ما رجحه ابن كثير من كونها عامة في كل من أسلم من اليهود والنصارى، وأنها مكية، وما يروى خلاف ذلك فليس من القوة بحيث يعتمد. 14 - ونختم هذه الفوائد بفائدة من حقها التقديم ولكنها أخرت لاعتقادنا أنها مهمة هذه الفائدة لها علاقة بالدعوة إلى الله والتربية، لقد رأينا أن هذه السورة أحد مضامينها الرئيسية تعليل ظاهرة الهداية والضلال، ومما قاله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ومن تم فإن

كلمة في محل سورة الرعد

الدعاة إلى الله ينبغي أن يلاحظوا هذا في الدعوة والتربية، فيركزوا موضوع التوبة والإنابة، وموضوع الإيمان بالله والإكثار من ذكره، وبقدر ما ينجح الداعية في هذه البداية يكون نجاحة في النهايات، ومن ثم فإننا نلاحظ أن أنجح الناس في نقل الإنسان من حال إلى حال هم صالحوا الصوفية، لأنهم يبدءون مع المريد هذه البداية، إذ يأمرونه بالاستغفار والذكر، ويركزون على المذاكرة في معرفة الله وعيوب النفس، ومن ثم فإننا نوصي كل مسلم بالإكثار من الصلاة، لأنها أعلى من كل ذكر، وبالإكثار من الأذكار، وليلتزم المسلم بحد أدنى من الأذكار المأثورة لا يتخلى عنها في صيف أو شتاء أو سفر أو حضر، ويزيد عليها ما شاء إذا واتته الهمة، وليكن له حظه اليومي من الاستغفار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير وليحافظ على أذكار الصلاة وقيام الليل وسنة الضحى كلمة في محل سورة الرعد: سورة الرعد هي السورة الرابعة من هذه المجموعة من هذا القسم من أقسام القرآن. وقد غطت هذه السور الأربع الآيات الأولى من سورة البقرة حتى الآية (27) فهي تقابل من حيث التغطية آل عمران والنساء والمائدة في القسم الأول، إلا أن نوع التغطية والتفصيل يختلف. والابتداء في سورة الرعد ب (المر) يشبه الابتداء في القسم الأول ب (الم) من حيث الاحتواء على حرف زائد على (الم) وهو الراء هنا وهو الحرف المميز في هذا القسم وكما كان بعد (الم) في القسم الأول سورتا الأنفال وبراءة وهما تغطيان معنى في أعماق سورة البقرة، فإن ما بعد سورة الرعد سورة هي سورة إبراهيم تغطي معنى في أعماق سورة البقرة كما سنرى، وبسورة إبراهيم تنتهي هذه المجموعة، فتكون خمس سور لتأتي المجموعة الثانية، وهي مبدوءة بسورة الحجر المبدوءة ب (الر) وهي كذلك خمسة، ثم تأتي المجموعة الثالثة والأخيرة من قسم المئين الذي ينتهي بسورة القصص وسنرى بعد عرض سورة إبراهيم وقبل سورة الحجر ما هي الأسباب التي جعلتنا نعتبر أن سورة إبراهيم هي نهاية المجموعة الأولى، فإلى عرض سورة إبراهيم عليه السلام ***

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم وهي السورة الرابعة عشرة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة والأخيرة من المجموعة الثانية من قسم المئين وآياتها اثنتان وخمسون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة إبراهيم عليه السلام

قال الألوسي في تقديمه لسورة إبراهيم عليه السلام: (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة، والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك، وهو الذي عليه الجمهور، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً .. الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين. وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة. وقال الإمام: إذا لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام فنزولها بمكة والمدينة سواء إذ لا يختلف الغرض فيه، إلا أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ فتظهر فائدته. يعني أنه لا يختلف الحال وتظهر ثمرته إلا بما ذكر، فإن لم يكن ذلك فليس فيه إلا ضبط زمان النزول وكفى به فائدة .... وارتباطها في السورة التي قبلها واضح جدا؛ لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب، وبيان أنه مغن عما اقترحوه ما ذكر، وافتتحت هذه بوصف الكتاب والإيمان، إلى أنه مغن من ذلك أيضا، وإذا أريد (بمن عنده علم الكتاب) الله تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة، وأيضا قد ذكر في تلك إنزال القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك، وصرح بها هنا، وأيضا تضمنت تلك الإخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، وتضمنت هذه الإخبار من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا: ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن الله، وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن «عليه توكلت» وحكى هنا عن إخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه، وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه، واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل، واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء الله في قوله سبحانه ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً إلى آخره، وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك مما ذكر، وذكر هنا نحو ذلك، إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات، وما ذكر ثانيا نعما، وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الأخرى، وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة، وذكر هنا أيضا، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك، وأيضا قال الجلال السيوطي: إنه ذكر في الأولى قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ وذلك مجمل في أربعة مواضيع: الرسل، والمستهزئين، وصفة الاستهزاء، والأخذ، وقد فصلت الأربعة في قوله تعالى أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ ... الآيات وقد اشتركت السورتان- مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه- بأن

كلمة في سورة إبراهيم ومحورها

كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء ... ) كلمة في سورة إبراهيم ومحورها: عند ما نتأمل سورة البقرة لنجد فيها محورا لسورة إبراهيم يتفق مع معناها وجرسها وروحها، فإننا نجده محورا بعيدا جدا عن محور سورة الرعد حتى ليكاد يكون في آخر سورة البقرة والمحور الذي نعثر عليه هو: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. تأمل هاتين الآيتين، وتأمل بداية سورة إبراهيم: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ..... ثم تأمل قوله تعالى فيها وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ .... وكما أنه بعد الآية التي ذكر فيها الظلمات والنور جاءت آية مبدوءة بقوله تعالى (ألم تر) في سورة البقرة فإنك ترى في سورة إبراهيم هذه الكلمة تتكرر. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ .... أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً ..... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً .... وكما كان في الآية الثانية من المحور كلام عن إبراهيم فإن كلاما عن إبراهيم يأتي كذلك في السورة وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ............ فسورة إبراهيم تفصل في موضوع الإخراج من الظلمات إلى النور، وتلفت النظر إلى كل ما يساعد عليها، وتضرب مثلا على أنواع من الخروج من الظلمات إلى النور، ثم توجه الخارجين من الظلمات إلى النور إلى معان من ظلمات الحياة فتخرجهم منها إلى النور.

وقد دلنا على أن هذه هي نهاية المجموعة الأولى من قسم المئين المعاني، فإن سورة الحجر وما بعدها تبدأ بتغطية سورة البقرة من بدايتها ........... تتألف سورة إبراهيم من ثمان مجموعات وخاتمة هي آية واحدة، وهي بمجموعها تشكل مقطعا واحدا، ينتظم هذه المجموعات كلها محور واحد. وتخدم كل مجموعة هذا المحور بشكل من الأشكال وكل مجموعة توصل إلى ما بعدها، وكل مجموعة لاحقة تتصل بما قبلها فلنر السورة من خلال العرض.

المجموعة الأولى

المجموعة الأولى وهي أربع آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) التفسير: الر كِتابٌ أي هذا الكتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا محمد لِتُخْرِجَ النَّاسَ به بالدعوة إليه والتربية عليه مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الضلالة والغي إلى الهدى والرشد، من ظلمات الشهوة والجهل والكفر، والشرك والشك، إلى نور الإسلام بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتيسيره وتسهيله وتوفيقه لمن قدر له الهداية على يدي رسوله صلى الله عليه وسلم المبعوث عن أمره بهذا القرآن إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ أي الذي لا يمانع ولا يغالب، بل هو القاهر لكل ما سواه الْحَمِيدِ أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك وكذبوك. وبعد أن ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، توعد الكافرين بالويل الذي هو نقيض النجاة، وهو اسم معنى كالهلاك، ثم وصف الكافرين فقال: الَّذِينَ

[سورة إبراهيم (14): آية 4]

يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي يختارونها ويؤثرونها ويقدمونها عليها، ويعملون للدنيا وينسون الآخرة، ويتركونها وراء ظهورهم وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه والدعاة إليه وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجا، وما هم بواجدين فيها شيئا من ذلك، ولكنه الحقد عليها واللؤم من طبائعهم، قال ابن كثير في تفسيرها: (أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا أي مائلة حائلة، وهي مستقيمة في نفسها، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق لا يرجى لهم- والحالة هذه- صلاح) ومن ثم ختم الله الآية بقوله أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي عن الحق، وقد وصف الضلال بالبعد مع أن البعد للضال، لأنه هو الذي يباعد صاحبه عن طريق الحق، ولأن فعل الضلال ملازم له لا يفارقه وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي إلا متكلما بلغتهم، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا منهم ما يريدون، وما أرسلوا به إليهم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما هو مبعوث له وبه، فلا يكون لهم حجة على الله، ولا يقولون له لم نفهم ما خوطبنا به فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ من آثر سبب الضلالة وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ من آثر سبب الاهتداء بعد البيان وإقامة الحجة وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغالب على مشيئته الْحَكِيمُ في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك، ولا يخذل إلا أهل الخذلان، ويوفق من يستحق التوفيق بفضله ومنه. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة إبراهيم عليه السلام هو قوله تعالى في سورة البقرة اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وقد بدأت سورة إبراهيم بأن بينت أن الله عزّ وجل قد أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم من أجل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، فإذا كان الله عزّ وجل قد أجمل في سورة البقرة موضوع الإخراج من الظلمات إلى النور، فههنا فصل ذاكرا الأسباب، إن عملية الإخراج من الظلمات إلى النور إنما تتم بالقرآن بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإخراج إلى النور إنما يكون بالسير في صراط الله عزّ وجل، فالنور هو صراطه المستقيم، ومن هذه البداية ندرك أن السورة فيها تفصيل لموضوع الخروج من الظلمات إلى النور.

فوائد

فوائد: 1 - لقد وصف الله الكافرين في الآيات بثلاث صفات: ا- الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. ب- ويصدون عن سبيل الله. ج- ويبغونها عوجا. وهي صفات يشترك فيها كل كافر، فكل كافر يعتبر الحياة الدنيا أصلا ويجعلها الميزان لكل تصرف، وكل كافر يصد عن السبيل في الحقيقة، وكل كافر يحرص على أن يجد ثغرات في سبيل الله ليهاجمها، ويحرص على أن يحرف سبيل الله ويعوجها- إن استطاع- باستعماله كل الوسائل حتى لا تبقى سبيل الله مستقيمة. 2 - إذا جمعنا قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مع قوله تعالى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ نفهم منهما أنه ما من أمة لها لسان خاص إلا وقد بعث الله لها رسولا، فما يفهمه بعض الناس أن الرسل لم يبعثوا إلا في المنطقة العربية، أو في منطقة بلاد الشام، وما جاورها فإنه ليس صحيحا. فكل أمة لها لسانها بعث الله لها رسولا منها بلغتها. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يبعث الله عزّ وجل نبيا إلا بلغة قومه». والحكمة في ذلك هي: ألا يكون لهم على الله حجة؛ فلا يقولون له لم نفهم ما خوطبنا به، فإن قال قائل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس جميعا بل إلى الإنس والجن وهم على ألسنة مختلفة فالجواب: إن هذا القرآن إما أن ينزل بجميع الألسنة، أو بواحد منها، ولا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك فتعين أن ينزل بلسان واحد، وكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم أقرب إليه 3 - دلتنا الآيات أن صراط الله هو النور، وأن الخروج إليه يكون بالرسول والقرآن. والقرآن موجود والسنة موجودة، ووراث رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودون ينوبون مناب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإخراج من الظلمة إلى النور كما دلتنا الآيات أن بالبيان تقوم الحجة، وأن إضلال الله وهدايته أثر عن عدله وفضله، وأثر عن الاستحقاق بسبب الخصائص والصفات. فالخروج من الظلمات إلى النور لا يكون إلا بالله، والله عزّ وجل جعل لذلك سننا وأسبابا، وقد حدد الله عزّ وجل في هذه الآيات هذه السنن

والأسباب بشكل عام، وبعد أن عرفنا في هذه الآيات الأربع أسباب الخروج من الظلمات إلى النور، تأتي الآن آيات أربع، تتحدث عن موسى عليه السلام وتكليفه من الله أن يخرج قومه من الظلمات إلى النور، وبعض السنن التي لها علاقة في هذا الموضوع، مما يفهم منه أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور بواسطة الرسول هو سنة الله في كل زمان، فلنر آيات المجموعة الثانية ***

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (الخامسة) إلى نهاية الآية (الثامنة) وهذه هي: [سورة إبراهيم (14): الآيات 5 الى 8] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) التفسير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ قال ابن كثير في تفسيرها: (وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم، وتدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا). وإذن إخراج الناس بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن من الظلمات إلى النور يشبهه إخراج بني إسرائيل من الظلمات إلى النور بموسى عليه السلام والتوراة. وقد فهمنا أن التكليف الأول لموسى عليه السلام في هذه الآية هي الإخراج من الظلمات إلى النور، والتكليف الثاني هو: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي وأنذرهم بوقائعه التي أوقعها بالأمم أو بنعمه التي أنعمها عليهم. قال ابن كثير: (أي بأياديه ونعمة عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم). ثم ذكر ابن كثير حديثا رواه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى. وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قال: «بنعم الله». ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم إِنَّ فِي

[سورة إبراهيم (14): آية 6]

ذلِكَ أي في أيام الله لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على البلايا والضراء شَكُورٍ على العطايا والسراء. ثم قص الله علينا نماذج من فعل موسى عليه السلام في الإخراج والتذكير بأيام الله وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مذكرا لهم بأيام الله كما أمره الله اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي ويتركون إناثكم أحياء وَفِي ذلِكُمْ أي وفي ذلك الإنجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك أنتم عاجزون عن القيام بشكرها، ومما قاله موسى عليه السلام لبني إسرائيل كذلك وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي وآذن ربكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك والغفلة لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي لئن شكرتم يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها لأزيدنكم نعمة إلى نعمة وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها في الدنيا والآخرة وَقالَ مُوسى كذلك لبني إسرائيل إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي والناس كلهم فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ أي محمود وإن لم يحمده من كفره. فوائد: 1 - أيام الله فسرها الحديث بأنها نعم الله، ولكن نعمة الله في هذا المقام ترافقها نقمة، فنعمة الله على بني إسرائيل بإنجائهم من فرعون ترافقها نقمة الله على فرعون، ومن ثم فأيام الله يدخل فيها نعمه على قوم ونقمه على قوم. 2 - قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يفيد أنه لا يأخذ العبرة من أيام الله إلا من اجتمع له صفتا الصبر والشكر، وقد ورد في الحديث «الصبر نصف الإيمان». أقول: والشكر نصفه الثاني. قال النسفي: (إذ الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر). وإذن فكأن الله قال: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن ظهرت عليه ثمرتا الإيمان الرئيسيتان: الصبر، والشكر. قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن أمر المؤمن كله عجب لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له». 3 - قول موسى عليه السلام لقومه في هذه الآيات الأربع نجدها في الإصحاحات

الإصحاح التاسع والعشرون

التاسع والعشرين، والثلاثين من سفر التثنية، مع سطر من نهاية الإصحاح الثامن والعشرين، ننقلها هنا لنرى كيف أن هذا القرآن إعجازاته لا تنتهي، فما تحويه آيات ثلاث منه تحتاج إلى الصفحات من غيره، كما ننقله لهدف آخر سنراه عند ما نبدأ الحديث عن الآيات اللاحقة لهذه الآيات، ثم إننا ننقله استئناسا لنرى كيف خاطب موسى عليه السلام قومه، فنرى تفصيل ما أجمله القرآن، مع ملاحظة ما ذكرناه من قبل حول أمثال هذه النصوص في نهاية الإصحاح الثامن والعشرين جاء هذا النص: (هذه هي كلمات العهد الذي أمر الرب موسى أن يقطعه مع بني إسرائيل في أرض موآب فضلا عن العهد الذي يقطعه معهم في حوريب) ثم جاء بعد ذلك الإصحاحان التاسع والعشرون، والثلاثون وهذان هما: الإصحاح التاسع والعشرون ودعا موسى جميع إسرائيل وقال لهم أنتم شاهدتم ما فعل الرب أمام أعينكم في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده، وبكل أرضه التجارب العظيمة التي أبصرتها عيناك وتلك الآيات والعجائب العظيمة ولكن لم يعطكم الرب قلبا لتفهموا وأعينا لتبصروا وآذانا لتسمعوا إلى هذا اليوم فقد سرت بكم أربعين سنة في البرية لم تبل ثيابكم عليكم ونعلك لم تبل على رجلك لم تأكلوا خبزا ولم تشربوا خمرا ولا مسكرا لكي تعلموا أني أنا الرب إلهكم ولما جئتم إلى هذا المكان خرج سيحون ملك حشبون وعوج ملك باشان للقائنا للحرب فكسرناهما وأخذنا أرضهما وأعطيناها نصيبا لرأوبين وجاد ونصف منسى فاحفظوا كلمات هذا العهد واعملوا بها لكي تفلحوا في كل ما تفعلون أنتم واقفون اليوم جميعكم أمام الرب إلهكم رؤساؤكم أسباطكم شيوخكم وعرفاؤكم وكل رجال إسرائيل وأطفالكم ونساؤكم وغريبكم الذي في وسط محلتكم ممن يحتطب حطبكم إلى من يستقي ماءكم لكي تدخل في عهد الرب إلهك وقسمه الذي يقطعه الرب إلهك معك اليوم لكي يقيمك اليوم لنفسه شعبا وهو يكون لك إلها كما قال لك وكما حلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب وليس معكم وحدكم أقطع أنا هذا العهد وهذا القسم بل مع الذي هو هنا معنا واقفا اليوم أمام الرب إلهنا ومع الذي ليس هنا معنا اليوم لأنكم قد عرفتم كيف أقمنا في أرض مصر وكيف اجتزنا في وسط الأمم الذين مررتم بهم ورأيتم أرجاسهم وأصنامهم التي عندهم من خشب وحجر وفضة وذهب لئلا يكون فيكم رجل أو امرأة

الإصحاح الثلاثون

أو عشيرة أو سبط قلبه اليوم منصرف عن الرب إلهنا لكي يذهب ليعبد آلهة تلك الأمم لئلا يكون فيكم أصل يثمر علقما وأفسنتينا فيكون متى سمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه قائلا يكون لي سلام إني بإصرار قلبي أسلك لإفناء الريان مع العطشان لا يشاء الرب أن يرفق به بل يدخن حينئذ غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة فيقول الجيل الأخير بنوكم الذين يقومون بعدكم والأجنبي الذي يأتي من أرض بعيدة حين يرون ضربات تلك الأرض وأمراضها التي يمرضها بها الرب كبريت وملح كل أرضها حريق لا تزرع ولا تنبت ولا يطلع فيها عشب ما كانقلاب سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم التي قلبها الرب بغضبه وسخطه ويقول جميع الأمم لماذا فعل الرب هكذا بهذه الأرض لماذا حمو هذا الغضب العظيم. فيقولون لأنهم تركوا عهد الرب إله آبائهم الذي قطعه معهم حين أخرجهم من أرض مصر وذهبوا وعبدوا آلهة أخرى وسجدوا لها آلهة لم يعرفوها ولا قسمت لهم. فاشتعل غضب الرب على تلك الأرض حتى جلب عليها كل اللعنات المكتوبة في هذا السفر واستأصلهم الرب من أرضهم بغضب وسخط وغيظ عظيم وألقاهم إلى أرض أخرى كما في هذا اليوم السرائر للرب إلهنا والمعلنات لنا ولنبينا إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة. الإصحاح الثلاثون ومتى أتت عليك كل هذه الأمور البركة واللعنة اللتان جعلتهما قدامك فإن رددت في قلبك بين جميع الأمم الذين طردك إلهك إليهم ورجعت إلى الرب إلهك وسمعت لصوته حسب كل ما أنا أوصيك به اليوم أنت وبنوك بكل قلبك وبكل نفسك يرد الرب إلهك سبيك ويرحمك ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بددك إليهم الرب إلهك إن يكن قد بددك إلى أقصاء السموات فمن هناك يجمعك الرب إلهك ومن هناك يأخذك ويأتي بك الرب إلهك إلى الأرض التي امتلكها آباؤك فتمتلكها ويحسن إليك ويكثرك من آبائك ويختم الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا ويجعل الرب إلهك كل هذه اللعنات على أعدائك وعلى مبغضيك الذين طردوك وأما أنت فتعود تسمع لصوت الرب وتعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها

اليوم فيزيدك الرب إلهك خيرا في كل عمل يدك في ثمرة بطنك وثمرة بهائمك وثمرة أرضك لأن الرب يرجع ليفرح لك بالخير كما فرح لآبائك إذا سمعت لصوت الرب إلهك لتحفظ وصاياه وفرائضه المكتوبة في سفر الشريعة هذا. إذا رجعت إلى الرب إلهك بكل قلبك وبكل نفسك. إن هذه الوصية التي أوصيك بها اليوم ليست عسرة عليك ولا بعيدة منك ليست هي في السماء حتى تقول من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذها لنا ويسمعنا إياها لنعمل بها ولا هي في عبر البحر حتى تقول من يعبر لأجلنا البحر ويأخذها لنا ويسمعنا إياها لنعمل بها بل الكلمة قريبة منك جدا في فمك وفي قلبك لتعمل بها. انظر قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر بما أني أوصيتك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها فإني أنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلكون. لا تطيل الأيام على الأرض التي أنت عابر الأردن لكي تدخلها وتمتلكها أشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك الحياة والموت والبركة واللعنة فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك. إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك والذي يطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم إياها. 4 - بمناسبة قوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ذكر النسفي بعض الحكم منها (الشكر قيد الموجود وصيد المفقود) ومنها (إذا سمعت النعمة نغمة الشكر تأهبت للمزيد) ومما ذكره ابن كثير بمناسبة الآية الحديث: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» أقول: ويفهم من الآية أن المعصية كفران عملي للنعم. 5 - وبمناسبة قوله تعالى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ يذكر ابن كثير ببعض الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل أنه قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب

كلمة في السياق

رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر». 6 - البلاء في اللغة العربية من أسماء الأضداد، فقد يراد به النعمة، وقد يراد به النقمة والاختبار، وقد رجحنا أثناء التفسير أن المراد به في النص هنا النعمة، وأشرنا هنا إلى هذا لاحتمال النص الوجه الثاني. كلمة في السياق: بينت السورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن موسى عليه السلام بعث من أجل هذا، ومن أجل التذكير بنعم الله، ولاحظنا أن مما ركز عليه موسى موضوع الشكر على النعم، والتحذير من الكفران، فدل ذلك على أن من صراط الله الشكر على النعم. وفهمنا كذلك من الآيات أن من صراط الله الصبر والشكر بل هما مفتاحا الهداية، وعرفنا من السياق أن أدب الداعية إلى الله الإلحاح على التذكير بالنعم، والإلحاح على موضوع الصبر والشكر، والتخويف من الكفر، وهكذا فإن السورة توضح لنا موضوع الخروج من الظلمات إلى النور شيئا فشيئا، ولقد عرفنا حتى الآن أن من الظلمات الكفر، ومحبة الدنيا، والصد عن سبيل الله، والرغبة في انحرافها، والكفر بنعم الله، والهلع، وإذ استقرت هذه المعاني يتجه الآن الخطاب لهذه الأمة من أجل إخراجها من الظلمات إلى النور، من خلال تذكيرها بأيام الله في المخالفين للرسل، وذلك موضوع المجموعة الثالثة ***

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وتمتد هذه المجموعة من الآية (9) حتى الآية (18) [سورة إبراهيم (14): الآيات 9 الى 18] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)

التفسير

التفسير: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ أي خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هل هذا خطاب من موسى عليه السلام لقومه أو خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة؟ ذهب ابن جرير إلى الأول ورجح ابن كثير الثاني؛ بسبب أن قصة عاد وثمود ليست في التوراة. فلو كان هذا من كلام موسى عليه السلام لقومه وقصصه عليهم لكانت هاتان القصتان في التوراة، هذه حجة ابن كثير في كون هذا الخطاب مستأنفا لهذه الأمة، وقد رأينا فيما نقلناه من كلام التوراة الحالية مما له علاقة في مقام الخطاب المذكور في الآيات السابقة ما يرجح ما ذهب إليه ابن كثير، وهذا من الأسباب التي حملتنا على نقل ما نقلناه قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ هذا تفسير للأمم التي أراد الله أن نتذكر أخبارها، والمعنى أن هذه الأمم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات ومنها المعجزات فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي أخذوا أناملهم بأسنانهم تعجيبا، أو عضوا عليها تغيظا، أو أنهم بهذه العملية أشاروا إلى الرسل يأمرونهم بالسكوت، أو أنهم ردوا أيديهم في أفواه الرسل كيلا يتكلموا، أو أنهم ردوا أيديهم إلى أفواههم من أجل ألا يجيبوا الرسل جوابا إيجابيا. ورجح ابن كثير قول مجاهد: وهو أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم، وعلى هذا القول يكون المعنى، فرد الأقوام أيادي الرسل أي نعمهم بأفواههم، أورد الأقوام قدراتهم وجعلوها في أفواههم بمعنى أن كل طاقاتهم سخروها للرد اللساني ابتداء وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من الإيمان والتوحيد والعبادة وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ أي موقع في الريبة قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ الاستفهام للإنكار أي إن وجود الله وإلهيته لا يحتملان الشك لظهور الأدلة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما يَدْعُوكُمْ أي إلى الإيمان والعبادة لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي إذا آمنتم وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي

[سورة إبراهيم (14): آية 11]

إلى وقت في الدنيا قد سماه وبين مقداره. قالُوا أي كل قوم من الأقوام المكذبة إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوة دوننا، وكيف نتبعكم ونحن متساوون معكم في البشرية؟ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة بينة. وقد جاءتهم رسلهم بالبينات وإنما أرادوا آية يقترحونها تعنتا قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ أي ما نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي صحيح أنا بشر مثلكم في البشرية وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي بالرسالة والنبوة كما من علينا وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي على وفق ما سألتم إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بعد سؤالنا إياه، وإذنه لنا في ذلك. والمعنى: أن الإتيان بالآية التي قد اقترحتموها ليس إلينا ولا باستطاعتنا، وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم. هذا الأمر من الرسل للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم ثم قال الرسل: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي وأي عذر في ألا نتوكل عليه وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، وما يمنعنا من التوكل عليه وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا أي من الكلام السيئ والأفعال السخيفة. وهذا من الرسل حلف على الصبر على أذى أقوامهم وألا يمسكوا عن دعائهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أفاد التكرار التثبيت على مقام التوكل. والمعنى: فليثبت المتوكلون على توكلهم. وهنا لجأ الأقوام إلى التهديد بإخراج الرسل من أوطانهم ونفيهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أي من ديارنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي في ديننا أي ليكونن أحد الأمرين: إخراجكم أو عودكم، وحلفوا على ذلك فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا وعد من الله بإهلاك الظالمين واستخلاف المؤمنين إذا تحققوا بصفتين ذلِكَ أي الإهلاك والإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي أي موقفي وهو موقف الحساب، أو خاف قيامي عليه بالعلم وَخافَ وَعِيدِ أي عذابي، أي وعيدي، هذا لمن خاف مقامه بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي، والمعنى أن إهلاك الأعداء واستخلاف الأولياء منوطان بوجود التقوى وَاسْتَفْتَحُوا أي واستنصر الرسل على أعدائهم، أو واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل، أو واستنصر

[سورة إبراهيم (14): آية 16]

الجميع الله وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم أي بأن لم يفلح باستفتاحه وهم مكذبو الرسل، والجبار: هو المتجبر في نفسه، والعنيد: هو المعاند للحق، وكيف لا يخيب ويخسر حين يجتهد الأنبياء في الابتهال إلى الله ربهم العزيز المقتدر، ومع خيبة الجبارين المعاندين في الاستفتاح في الدنيا فإن أمامهم عذاب النار مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وراء هنا بمعنى أمام أي من أمام الجبار العنيد جهنم، أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلدا يوم المعاد، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد، وهو إما وصف لحاله في الدنيا لأنه مرصد لجهنم فكأنها بين يديه، وهو على شفيرها، وإما وصف لحاله في الآخرة حين يبعث ويوقف وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ إذا ألقي في النار، والصديد هو ما يسيل من جلود أهل النار يَتَجَرَّعُهُ أي يشربه جرعة جرعة أي يتغصصه ويتكرهه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة؟ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي إن أسباب الموت تأتيه من كل جهة، أو من كل مكان، وهذا تصوير لما يصيبه من الآلام، أي لو كان ثمة موت لكان كل واحد منها مهلكا وَما هُوَ بِمَيِّتٍ لأنه لو مات لاستراح ولا راحة لهم بل عذاب وَمِنْ وَرائِهِ أي ومن بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله، أو أغلظ، أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ، أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله، وأدهى وأمر، ثم ضرب الله مثلا لأعمال الكفار عامة الذين عبدوا معه غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح فانهارت، وعدموها أحوج ما كانوا إليها مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ هذه جملة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، والمعنى: مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شئ فلم يجدوا شيئا، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة، فلا يقدرون على شئ من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في مثل هذا اليوم، وأعمال الكفرة: المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام، وعتق الرقاب، وفداء الأسرى، وإطعام الأضياف، وغير ذلك، شبهها الله في حبوطها- لبنائها على غير أساس الإيمان بالله تعالى ورسله- برماد طيرته الريح العاصف لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أي لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شئ، أي لا يرون له أثرا من ثواب كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شئ ذلِكَ أي سعيهم وعملهم على

نقل

غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن طريق الحق، أو عن الثواب. نقل: بمناسبة قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قال صاحب الضلال: (هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية .. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها. فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل، بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية. لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم، فلا يبقى لهم كيان مستقل وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى .. وعند ما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا يبقى مجال لحجة ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية إن التجمع الجاهلي- بطبيعة تركيبه العضوي- لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله. إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته. لحساب التجمع الجاهلي والتميع في تشكيلاته وأجهزته. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره .. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل وإن كانوا طغاة منجبرين: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ .. لا بد من أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم، إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم .. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم، بعد إذ نجاهم الله. وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة

الفوائد

فينقسم القوم إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا .. عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين، ولتمكن للمؤمنين في الأرض، ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته، غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة. الفوائد: 1 - من قوله تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فهم المفسرون أن المعرفة الدقيقة للتاريخ متعذرة، وبذلك شككوا بالكثير مما يذكره بعضهم من أنساب متصلة ضاربة في القدم. قال ابن كثير: وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله أنه قال في قوله تعالى: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ كذب النسابون. وقال عروة بن الزبير ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان. 2 - قال ابن كثير في قوله تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ: (وهذا يحتمل شيئين (أحدهما) أي أفي وجوده شك فإن الفطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال، فإن سبق شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما، فلا بد لها من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شئ وإلهه ومليكه؛ والمعنى الثاني في قولهم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى) أقول: الملاحظ أنه في العصور المتأخرة أصبح نفي وجود الله- بله الشك به- هو الفلسفة التي تتبناها دول من أكبر دول العالم، وتروج لها وتزخرفها آلاف الكتب وملايين النشرات وتبني عليها مذاهب وتقوم عليها تكتلات، وعلى أهل الإيمان أن يقابلوا ذلك بما يكافئه 3 - ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ ذكر بهذه

المناسبة بعض الآيات التي تشبهها في المعنى فقال: كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ .... (الصافات: 171 - 173) وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (الأعراف: 137) اهـ ومن خلال النظر في هذه الآيات ندرك أن الله عزّ وجل من سننه أن تكون العاقبة للمتقين، وأنه ربى المسلمين على أن يعرفوا هذه السنة ويعتقدوها، فهي جزء من معرفة الله، وهي من النور الذي يخرج الله إليه عباده كما يفهم من السياق. 4 - بمناسبة قوله تعالى وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يذكر ابن كثير أنواع عذاب أهل النار وأن الماء الصديد واحد من هذه الأنواع، وله كلام نفيس بمناسبة هذه الآية وما بعدها ننقله مع حذف الأسانيد. قال: (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق، فهذا حار في غاية الحرارة، وهذا بارد في غاية البرد والنتن كما قال تعالى: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ* وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (ص: 57، 58) وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم، وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده، وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم، وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: «صديد أهل النار». وفي رواية «عصارة أهل النار». وقال الإمام أحمد .. عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ قال: «يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (محمد: 15) ويقول وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ الآية (الكهف: 29). وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به، وقوله (يتجرعه) أي يتغصصه ويتكرهه أي يشربه قهرا وقسرا لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد كما قال تعالى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (الحج: 21). وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي يردده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته وبرده الذي لا يستطاع وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه، قال عمر بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق، وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره، وقال إبراهيم التيمي: من

موضع كل شعرة أي من جسده حتى من أطراف شعره، وقال ابن جرير وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من أمامه وخلفه، وفي رواية وعن يمينه وشماله، ومن فوقه ومن تحت أرجله، ومن سائر أعضاء جسده، وقال الضحاك عن ابن عباس: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها (فاطر: 36) ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال، ولهذا قال تعالى وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وقوله وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ مؤلم شديد أغلظ من الذي قبله، وأدهى وأمر، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ* طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ* فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ* ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (الصافات: 64 - 68) فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم، وتارة في شرب حميم، وتارة يردون إلى جحيم، عياذا بالله من ذلك، وهكذا قال تعالى هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ* يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (الرحمن: 43، 44) وقال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ* كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ* خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ* ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ* ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ* إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (الدخان: 43 - 50) وقال وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ* لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ. (الواقعة: 41 - 44) وقال تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ* هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ* وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (ص: 55 - 58) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم وتكراره وأنواعه وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عزّ وجل جزاء وفاقا وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. (فصلت: 46) اهـ كلام ابن كثير ولننتقل إلى المجموعة الرابعة: ***

المجموعة الرابعة

المجموعة الرابعة وتمتد من الآية (19) حتى نهاية الآية (23) وهذه هي: [سورة إبراهيم (14): الآيات 19 الى 23] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) التفسير: أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم والخطاب- كما قال النسفي- لكل أحد أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالحكمة والأمر ولم يخلقهما عبثا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقا آخر على شكلهم، أو على خلاف شكلهم، إعلاما بأنه قادر على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بعظيم ولا متعذر ولا ممتنع بل هو سهل عليه، ذكرنا الله بهاتين الآيتين بما ينفي الشك به، كما أخبرنا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، ومن ثم ينقلنا إلى عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة:

[سورة إبراهيم (14): آية 22]

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي برزت الخلائق كلها برها وفاجرها لله الواحد القهار، أي اجتمعوا له في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شئ يستر أحدا، ومعنى برزوهم لله- والله تعالى لا يتوارى عنه شئ يبرز له-: أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم، وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية، وأخرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه فَقالَ الضُّعَفاءُ أي في الرأي وهم السفلة والأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله وحده لا شريك له، وعن موافقة الرسل وهم السادة والرؤساء الذين استصغروهم وصدوهم عن الاستماع إلى أنبيائهم واتباعهم إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي تابعين، فمهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي فهل تقدرون على دفع شئ مما نحن فيه؟، قالُوا أي فقالت القادة لهم لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وليس هذا جوابا مباشرا ولكن لما كان قول الضعفاء، توبيخا لهم وعتابا على استغوائهم لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم قالوا لهم مجيبين معتذرين لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ أي لو هدانا الله إلى الإيمان في الدنيا لهديناكم إليه، أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي: لاغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا أي مستويان علينا الجزع والصبر، لا هذا يفيدنا ولا هذا. قال ابن كثير: (والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها) ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي من منجى ومهرب جزعنا أم صبرنا، وهل هذا من كلام المستكبرين أو من كلام الجميع؟ قولان للمفسرين، والظاهر أنه من كلام المستكبرين، ثم أخبر تعالى عما خطب به إبليس أمام أتباعه بعد ما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس- لعنه الله- يومئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغبنا إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم، قال تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي لما حكم بالجنة والنار لأهليهما، ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو البعث والجزاء على الأعمال على ألسنة رسله الذين جعل في اتباعهم النجاة والسلامة، وعدا حقا وفى الله به وَوَعَدْتُكُمْ أي بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء فَأَخْلَفْتُكُمْ أي كذبتكم وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من تسلط واقتدار ولا دليل ولا حجة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أي لكني دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي فأسرعتم إلى جانبي أي بمجرد الدعوة، هذا

[سورة إبراهيم (14): آية 23]

وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه فَلا تَلُومُونِي لأنني عدوكم فكيف ألام إذا دعوتكم إلى أمر قبيح وقد حذركم الله مني؟ وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان، فإن الذنب ذنبكم لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي بمغيثي أي: فلا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه، ما أن بنافعكم ومنقذكم مما أنتم فيه، وما أنتم بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم أي في الدنيا ومعنى كفره بإشراكهم إياه: تبرؤه منه، واستنكاره له، ومعنى إشراكهم الشيطان بالله: طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة غير الله إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هل هذا من تتمة كلام إبليس يحكيه الله لنا، أو هو كلام مستأنف؟ قولان للمفسرين. ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال، عطف بمآل السعداء فقال: وَأُدْخِلَ أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا خالِدِينَ فِيها أي ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الإدخال من الملائكة، والإذن من الله تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ المراد به إما تسليم بعضهم على بعض في الجنة، أو تسليم الملائكة عليهم. نقل: بمناسبة قوله تعالى: فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال صاحب الظلال: (والضعفاء هم الضعفاء هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله. والضعف ليس عذرا، بل هو الجريمة، فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفا، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به. والعزة لله، وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية- التي هي ميزته. ومناط تكريمه- أو ينزل كارها. والقوة المادية- كائنة ما كانت- لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية فقصارى

كلمة في السياق

ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد تؤذيه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال: من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين في العقيدة وفي التفكير وفي السلوك؟ من ذا الذي يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مكانا .. كلا إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء، إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان. إن المستضعفين كثرة. والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة، وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان! إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير، فهي دائما قادرة على الوقوف لهم لو أرادت فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان! إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء .. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة.) كلمة في السياق: بدأت السورة بتبيان الحكمة من إنزال الكتاب وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ثم جاء كلام عن موسى عليه السلام، وتكليفه بإخراج قومه من الظلمات إلى النور، وتذكيرهم بأيام الله، وما قاله لهم، وبذلك عرفنا أن مهمة الرسل الإخراج من الظلمات إلى النور، والتذكير بأيام الله، ثم يتوجه الخطاب إلى هذه الأمة بتذكيرها بأيام الله، وفعل الله للرسل، وفعله بالمكذبين بالرسل في الدنيا والآخرة. وفي المجموعة الثالثة رأينا خطاب الرسل لأقوامهم في عملية الإخراج من الظلمات إلى النور، وموقف أقوامهم منهم، كما رأينا في المجموعة الرابعة عملية الإخراج من النور إلى الظلمات التي يقوم بها الشيطان، كما عرضها هو وقبيله في النار. وقد عرفنا من السياق أن الشك في الله من الظلمات، وأن الإيمان من النور، وأن التوكل على الله من النور،

فوائد

وأن الصبر من النور، وأن إيذاء الرسل من الظلمات، وأن معرفة أن الله خلق السموات والأرض بالحق طريق إلى النور، وأن معرفة أن الله قادر على استبدال الخلق بخلق آخر طريق إلى النور، وأن طريق الشيطان إلى الظلمات مجرد الوسوسة المزخرفة الكاذبة، وأن الإيمان والعمل الصالح طريق إلى النور والجنة. فوائد: 1 - ذكر الشيخ أحمد الزروق في كتابه (قواعد التصوف) أن مما يذهب بالشك أن يكرر الإنسان قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وكنت أتسأل عن دليل هذا القول حتى اشتغلت بتفسير سورة إبراهيم فلاحظت أن مجئ هاتين الآيتين آت في سياق دعوة الرسل وشك أقوامهم فيما يدعونهم إليه، ومن ثم فالآيتان دواء للشك ودواء من الوسوسة، ثم هما آتيتان في الوسط بين مشهدين من مشاهد يوم القيامة يصفان مآل الكافرين الشاكين المستجيبين للشيطان 2 - بمناسبة قوله تعالى حكاية عن أهل النار سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ينقل ابن كثير قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عزّ وجل، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله، فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا: إنما أدرك أهل الجنة بالصبر تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك فعند ذلك قالوا سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا الآية. 3 - هل الخطبة التي ألقاها إبليس تكون قبل دخول الكافرين النار أو بعد ذلك؟ يرجح ابن كثير وغيره أنها بعد دخول النار، مستشهدا بكثير من الآيات، وبقوله تعالى في الآيات وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي بدخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار، إلا أنه لرفع العهدة فيما يبدو يذكر اتجاها آخر وهو أن هذه الخطبة كانت بعد فصل القضاء وقبل دخول النار قال: (ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وهذا لفظه وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد: حدثني دخين الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين، فقضى بينهم، ففرغ من القضاء قال المؤمنون قد

قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا؟ فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم، وذكر نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم إليه، فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط، حتى آتي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى أظفر قدمي، ثم يقول الكافرون: هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ثم يعظم نحيبهم وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). 4 - يلاحظ النسفي ملاحظة وهي أن الله عزّ وجل إذا خاطب الكفار واعدا إياهم بالتوبة من ذنوبهم إذا آمنوا يذكر كلمة (من) قبل الذنب، كما ورد في هذه السورة لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وكما ورد في سورة نوح وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وكما ورد في سورة الأحقاف يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بينما لا تذكر كلمة (من) في نفس المقام في خطاب المؤمنين، فمثلا في سورة الصف بعد قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ .... يأتي قوله تعالى يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ قال: وغير ذلك مما يعلم بالاستقراء، وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد) مر معنا حتى الآن من هذه السورة أربع مجموعات: المجموعة الأولى: مقدمة السورة. والمجموعة الثانية: الكلام عن موسى عليه السلام. والمجموعة الثالثة: المبدوءة ب أَلَمْ يَأْتِكُمْ .... المنتهية بقوله تعالى ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ والمجموعة الرابعة: المبدوءة بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ .... وكل من المجموعة الثالثة والرابعة مبدوءة بخطاب أَلَمْ يَأْتِكُمْ أَلَمْ تَرَ والآن يأتي خطاب ثالث مبدوء ب أَلَمْ تَرَ .... وفيه ذكر لطريق من طرق الخروج من الظلمات إلى النور تضمنه المجموعة الخامسة. ***

المجموعة الخامسة

المجموعة الخامسة وتمتد من الآية (24) إلى نهاية الآية (27) وهذه هي: [سورة إبراهيم (14): الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) التفسير: أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا وقد فسر هذا المثل بقوله كَلِمَةً طَيِّبَةً هي لا إله إلا الله كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ كالنخلة وغيرها من الشجر المثمر أَصْلُها ثابِتٌ فى الأرض ضارب بعروقه فيها وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي أعلاها، ورأسها في السماء تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أي تعطي ثمرها في كل وقت وقته الله لإثمارها بِإِذْنِ رَبِّها أي بتيسير خالقها وتكوينه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيتعظون لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ هي كلمة الكفر والشرك والضلال كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ وهي كل شجرة لا يطيب ثمرها ولا أصل ثابت لها كشجرة الحنظل اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي استؤصلت من فوق الأرض ما لَها مِنْ قَرارٍ أي لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له في الفطرة البشرية ولا فرعا صالحا ولا ثمرا طيبا، ومن ثم لا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل، وهكذا شبه كل قول كافر لا يعضد بحجة بأنه داحض غير ثابت. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هو قول لا إله إلا الله، أي يديمهم على

نقل

الإيمان بسبب كلمة التوحيد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإذا فتنهم أعداء الله أو وسوس لهم شياطين الإنس والجن لم يزالوا ثابتين وَفِي الْآخِرَةِ الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ فلا يهديهم ولا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شئ وهم في الآخرة أضل وأزل بسبب اتصافهم بصفة الظلم التي يدخل فيها الشرك الذي هو أعظم أنواع ظلم الإنسان لنفسه وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ فمشيئته مطلقة لا يسأل عما يفعل، ومن ثم فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين. نقل: بمناسبة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً قال صاحب الظلال: (إن الكلمة الطيبة- كلمة الحق- لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة .. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل ولا تقوى عليها معاول الطغيان ... - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان- سامقة متعالية، تطل على الشرك والظلم والطغيان من عل- وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء- مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن. وإن الكلمة الخبيثة- كلمة الباطل- لكالشجرة الخبيثة، وقد تهيج وتتعالى وتتشابك ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض .. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء. ليس هذا وذاك مجرد مثل يضرب ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع إنما هو الواقع في الحياة ولو خفي في بعض الأحيان. والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به- فقلما يوجد الشر الخالص- وعند ما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال.)

فوائد

فوائد: 1 - قال النسفي: (والكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أصلها تصديق بالجنان، وفرعها إقرار باللسان، وأكلها عمل الأركان، وكما أن الشجرة شجرة وإن لم تكن حاملا، فالمؤمن مؤمن وإن لم يكن عاملا، ولكن الأشجار لا تراد إلا للثمار، فما أقوات النار إلا ثمار من الأشجار إذا اعتادت الإخفار في عهد الإثمار). 2 - رأينا أن الكلمة الطيبة وهي «لا إله إلا الله» وأن القول الثابت هو «لا إله إلا الله» والفطرة هي الأرض، فلا إله إلا الله جذورها ضاربة عميقة في الفطرة، وثمارها كل عمل صالح، وكل خلق طيب، وساقها وورقها وكل شئ فيها يستفاد منه، وبهذه الكلمة يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن ثم فبقدر فهمها وتردادها تقوى جذورها، وتبسق فروعها، ويطيب أكلها، ففي حديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جددوا إيمانكم قيل: يا رسول الله كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله». وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن قتادة أن رجلا قال: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، فقال «أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا فركب بعضه على بعض أكان يبلغ السماء؟ أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ قال: ما هو يا رسول الله؟ قال: «تقول لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، عشر مرات، في دبر كل صلاة، فذاك أصله في الأرض، وفرعه في السماء». 3 - هل الشجرة الطيبة التي ضرب الله بها مثلا شجرة بعينها، أو كل شجرة متصفة بما ذكر القرآن؟، قولان للمفسرين، وهل كل شجرة خبيثة تتصف بما وصف الله تدخل تحت قوله الشجرة الخبيثة أو أنها شجرة بعينها؟. قولان للمفسرين، والنصوص تشير إلى النخلة والحنظلة. فهل الأحاديث النبوية تحدد أو تمثل؟ قولان. وعلى كل فالشجرتان: النخلة والحنظلة نموذجان كاملان للمثلين - روى أبو يعلى بمسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقناع عليه بسر فقال: «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» فقال «هي النخلة» (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) قال: «هي الحنظل» قال شعيب: فأخبرت بذلك أبا العالية فقال: كذلك كنا نسمع»

- وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني عن شجرة تشبه- أو- كالرجل المسلم لا يتحات ورقها صيفا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال ابن عمر فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان؛ فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال ما منعك أن تتكلم؟ قلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم وأقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا. 4 - بمناسبة قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ يذكر ابن كثير أحاديث كثيرة نجتزئ منها ما يلي: قال البخاري: حدثنا أبو الوليد ... عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ورواه مسلم أيضا وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية ... عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثا ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط (¬1) من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني- على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي ¬

_ (¬1) - الحنوط: ما يطيب به الميت.

تليها، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام. فيقولان: له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال فيأتي من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، سود الوجوه، معهم المسوح (¬1)، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت، فيجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها، على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (الأعراف: 40) فيقول الله اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا ثم قرأ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (الحج: 31) فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر ¬

_ (¬1) - المسوح: جمع مسح: كساء من الشعر.

بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجئ بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة». ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجه من حديث المنهال بن عمرو به. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق ... عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة فذكر نحوه. وفيه بالنسبة للمؤمنين «حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عزّ وجل أن يعرج بروحه منه قبلهم». وفي آخره «ثم يقيض له- أي للكافر- أعمى أصم أبكم، وفي يده مرزبة، لو ضرب بها جبل لكان ترابا، فيضرب به ضربة فيصير ترابا، ثم يعيده الله عزّ وجل كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شئ إلا الثقلين». قال البراء: ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار). .... وقال الإمام عبد بن حميد رحمه الله في مسنده ... عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه،- وإنه ليسمع قرع نعالهم- فيأتيه ملكان، فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقال له انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة». قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «فيراهما جميعا» قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة. رواه مسلم عن عبد بن حميد به وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب به. وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا أدخل المؤمن قبره، وتولى عنه أصحابه، جاء ملك شديد الانتهار، فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول المؤمن: أقول: إنه رسول الله وعبده، فيقول الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار، قد أنجاك الله منه، وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة، فيراهما كليهما، فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي فيقال له: اسكن، وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، أقول كما يقول الناس، فيقال له: لا دريت، هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة أبدلت مكانه مقعدك من النار». قال جابر فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يبعث كل عبد في القبر على ما مات، المؤمن على

إيمانه، والمنافق على نفاقه». إسناده صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. .... وقال ابن حبان في صحيحه ... عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة، بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي إلى روح الله، فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم. فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غم، فيقول: قد مات أما أتاكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي إلى غضب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض». ... وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر الميت- أو قال أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما منكر، والآخر نكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول- أي قبل أن يموت- هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، في سبعين، وينور له فيه ثم يقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون: فقلت مثلهم، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، فيقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك». ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. .. وقال الإمام أحمد رحمه الله ... عن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء- يعني بنت الصديق- رضي الله عنها تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال «إذا دخل الإنسان قبره، فإذا كان مؤمنا أحف به عمله: الصلاة والصيام قال: فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده، ومن نحو الصيام فيرده، قال. فيناديه: اجلس. فيجلس فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: من؟ قال محمد، قال أشهد أنه رسول الله، قال وما يدريك، أدركته؟ قال: أشهد أنه رسول الله، قال: يقول: على ذلك عشت، وعليه مت، وعليه تبعث، وإن كان فاجرا أو كافرا جاءه الملك ليس

بينه وبينه شئ يرده، فأجلسه فيقول له ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال أي رجل؟ قال محمد، قال يقول والله ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، قال له الملك على ذلك عشت، وعليه مت، وعليه تبعث، قال ويسلط عليه دابة في قبره، معها سوط ثمرته جمرة مثل عرف البعير- تضربه ما شاء الله، صماء لا تسمع صوته فترحمه» .... وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه (نوادر الأصول) ... عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي جاء ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره بوالديه فرد عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا منع منه، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا، كلما دنا لحلقة طردوه، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذه بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة وهو متحير فيها فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلة الرحم، فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه، فجاءته صدقته فصارت له سترا على وجهه، وظلا على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي أخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم، وأدخلاه مع ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عزّ وجل، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته، فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه، فجاءته أفراطه (¬1) فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم، فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا، فاستخرجته ¬

_ (¬1) من مات من أبنائه قبل البلوغ

من النار، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاء حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا، فجاءته صلاته علي فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى باب الجنة فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة». قال القرطبي بعد إيراد هذا الحديث من هذا الوجه هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة أورده هكذا في كتابه التذكرة. .... قال أبو داود ... عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل». تفرد به أبو داود.) 5 - رأينا أن محور هذه السورة هو قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وقد رأينا في هذه المجموعة أن (لا إله إلا الله) هي وسيلة الوصول إلى النور في الدنيا والآخرة، ومن ثم فإن علينا أن نكثر من قول لا إله إلا الله. وقد فهمنا من الآية أن: لا إله إلا الله لها ثمارها في كل زمن، وفي كل عصر، وفي كل مكان، وعند كل مؤمن، ولا يزال الناس يأكلون من هذه الثمار خلقا طيبا وإحسانا كثيرا ولننتقل إلى المجموعة السادسة وفيها كذلك ذكر لوسائل الخروج من الظلمات إلى النور ***

المجموعة السادسة

المجموعة السادسة وتمتد من الآية (28) إلى نهاية الآية (41) وهذه هي: [سورة إبراهيم (14): الآيات 28 الى 41] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

التفسير

التفسير: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمة الله كفرا، وذلك لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر، وبدلوا تبديلا، واللفظ يعم كل الكفار، وهو في حق بعض الأقوام أظهر، كالعرب في عصرنا، وأهل مكة، إذ بدلوا دين إبراهيم وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي دار الهلاك والصيغة تدل على أن الكلام في القادة والرؤساء الذين يسيرون بمن تابعهم إلى الهلاك جَهَنَّمَ هي دار البوار يَصْلَوْنَها أي يدخلونها وَبِئْسَ الْقَرارُ أي وبئس المقر جهنم وَجَعَلُوا أي هؤلاء الذين دخلوا جهنم لِلَّهِ أَنْداداً أي شركاء عبدوهم معه ودعوا الناس إلى ذلك، جعلوهم له أمثالا أو في التسمية لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قال البيضاوي: وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد ولكن لما كان نتيجته جعل كالغرض قُلْ تَمَتَّعُوا هذا تهديد ووعيد من الله لهم، أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا، فمهما يكن من شئ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ فإن مرجعكم ومآلكم إليها، والأمر بالتمتع هنا يفيد الخذلان والتخلية، والتمتع كما فسره ذو النون المصري أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أضاف عباده إلى نفسه تشريفا لهم، ووصفهم بأعلى أوصافهم وهو الإيمان يُقِيمُوا الصَّلاةَ بالمحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يدخل في ذلك أداء الزكوات، والنفقة على القربات، والإحسان إلى الأجانب في الخفية والجهر، وإخفاء التطوع أفضل، وإعلان الواجب أفضل، إلا لمصلحة في الحالتين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة فالخلال المخالة أي الصداقة فليبادر العبد في الدنيا بالصلاة والإنفاق لخلاص نفسه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ قال النسفي: من السحاب ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ

[سورة إبراهيم (14): آية 33]

فمن كان كذلك تستحق له العبادة بالصلاة ويجب أن يطاع بالإنفاق مما رزق وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وكل ذلك فيه رزق لكم فاشكروه بالصلاة والإنفاق مما رزقكم وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي يدأبان في حركتهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات، وهذا كله يقتضي شكرا بالصلاة والإنفاق وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان لمعاشكم وسباتكم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي وهيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم، فهو يعلم احتياجكم قبل خلقكم، ويعلم ما تسألونه قبل وجودكم، فخلقه وسهله لكم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لا تطيقون عدها، وبلوغ آخرها، حتى على سبيل الإجمال، فكيف على سبيل التفصيل إِنَّ الْإِنْسانَ المراد به الجنس لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها كَفَّارٌ شديد الكفران للنعمة، أو ظلوم في الشدة يشكو ويسخط، كفار في النعمة يجمع ويمنع. ثم بعد هذه الآيات ستأتي آيات تحدثنا عن إبراهيم عليه السلام ودعائه للبلد الحرام بتجنيبه الأصنام، وغير ذلك من دعواته كما سنراها، فما صلة ذلك بالآيات قبلها: إذا تذكرنا بداية هذه المجموعة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً ... وأن المفسرين يحملون هذا- كما سنراه- على أهل مكة، أدركنا الصلة بين قصة إبراهيم عليه السلام وما سبقها، وإذا رأينا من دعاء إبراهيم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي .... ورأينا فيما مر قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ... عرفنا الصلة بين ما مر وما سيأتي، وإذا رأينا في كلام إبراهيم وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وتذكرنا قوله تعالى فيما مر وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ... أدركنا كذلك الصلة بين الفقرتين، فإذا تأملنا هذه المجموعة كلها من آخرها فما سبقه، من قصة إبراهيم عليه السلام، إلى نعم الله في السموات والأرض، نعرف كيف أن زعماء مكة بدلوا نعمة الله كفرا وأشركوا به، وكيف أن الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله بالصلاة والإنفاق هو وضع للأمر في نصابه الصحيح الذي رغب فيه إبراهيم عليه السلام، وإنما فصلنا بهذه الكلمة بين الفقرتين في المجموعة السادسة ليقبل القارئ وفي ذهنه صورة عن صلة قصة إبراهيم عليه السلام بما قبلها،

[سورة إبراهيم (14): آية 35]

فقصة إبراهيم عليه السلام تذكير بكل الحقائق التي غفلت عنها قريش والناس، والتي لفتت الآيات السابقة النظر إليها وأمرت بها. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ أي واذكر إذ قال إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي البلد الحرام مكة آمِناً أي ذا أمن وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي أولادي وذريتي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ومعنى جنبني أي أبعدني أي ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ جعلن مضلات على طريق التسبيب؛ لأن الناس ضلوا بسببهن فكأنهن أضللنهم فَمَنْ تَبِعَنِي أي على ملتي، وكان حنيفا مسلما مثلي فَإِنَّهُ مِنِّي أي هو بعضي لفرط اختصاصه وَمَنْ عَصانِي فيما دون الشرك فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تغفر وترحم لمن تاب وآمن رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعض أولادي وهم إسماعيل ومن سيلد منه بِوادٍ هو وادي مكة غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي لا يكون منه شئ من زرع قط، عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ المراد به بيت الله، وسمي محرما لأن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به، وجعل حوله حرما لمكانه، أو لأنه لم يزل ممنعا يهابه كل جبار، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بذكرك وعبادتك. فما أعظم الصلاة وما أغلى قيمتها عند الله ورسله فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً أي قلوبا مِنَ النَّاسِ أي من قلوب الناس تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم من البلاد الشاسعة، وتطير نحوهم شوقا وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي مع سكناهم واديا ليس فيه شئ منها، بأن تجلب إليهم من البلاد القريبة والشاسعة، وقد كان ذلك كله لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النعمة إذ تهوي إليهم الأفئدة، وإذ يرزقون أنواع الثمرات في واد ليس فيه شجر ولا ماء رَبَّنا في تكرار النداء التضرع واللجوء إلى الله إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أي تعلم السر كما تعلم العلن وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هل هذا من كلام إبراهيم، أو من كلام الله تصديقا لإبراهيم عليه السلام؟ قولان للعلماء ومعنى وما يخفى على الله من شئ أي وما يخفى على الله شئ ما الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ تذكر التوراة الحالية المحرفة أن إسماعيل ولد لإبراهيم وعمره ابن ست وثمانين سنة، وأن إسحاق ولد له وعمره مائة سنة، وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة بهبة الولد فيه أعظم، لأنها حال وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة، من أجل النعم، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم إِنَ

[سورة إبراهيم (14): آية 40]

رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي لمجيب الدعاء رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي وبعض ذريتي، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله له أنه يكون في ذريته كفار رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي واستجب دعائي أو تقبل عبادتي رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أي آدم وحواء، أو قاله قبل النهي واليأس من إيمان أبيه وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يوم يثبت الحساب أو يوم يقوم أهل الحساب من قبورهم، وبهذا انتهت المجموعة السادسة من هذه السورة فوائد: 1 - ساق ابن كثير أسانيد كثيرة إلى علي وعمر وابن عباس في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً بأنهم قريش، وبنو المغيرة يوم بدر، وبنو أمية يوم أحد، قال ابن كثير بعد تصحيحه هذا القول: وإن كان المعنى يعم الكفار فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها نذكر ما قاله ابن حبيب رحمه الله (إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين) وما رواه البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا». وبمناسبة هذه الآية نقول: إن الشكر هو المخلص من مقام الظلم والكفران، ولكن الشكر نفسه هو من نعم الله فهو يحتاج إلى شكر قال الشافعي: (الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها) ومن ثم فالشكر الذي يخلص من الكفران هو أن تحمد وتعمل، وتعترف لله بالفضل وعلى نفسك بالتقصير 3 - في قوله تعالى على لسان إبراهيم فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال ابن كثير (وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك) أي لا تجويز وقوع المغفرة على الشرك. أقول: إن أهل السنة والجماعة يفرقون في كتبهم بين الجائز العقلي في حق الله، وبين الجائز الشرعي، فعندهم يجوز عقلا أن يغفر الله كل ذنب، ولكن لإخباره أنه لا يغفر الشرك فإنه من الواجب الاعتقاد أن

غفران الشرك مستحيل الوقوع، وقول إبراهيم هنا وقول عيسى عليهما السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يؤيد هذا التقسيم. 4 - روى عبد الله بن وهب بسنده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الآية. وقول عيسى عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية. ثم رفع يديه ثم قال: «اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي وبكى. فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد- وربك أعلم- وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. فقال: اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» 5 - يلاحظ أن الله تعالى قال في سورة البقرة: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً بتنكير البلد وهنا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً بتعريف البلد فما حكمة التعريف والتنكير؟ نكره حيث أراد أن يجعله آمنا من جملة البلدان الآمنة، وعرفه حيث أراد أن يخصه بالخروج من الخوف إلى الأمن الدائم. 6 - يلاحظ أن من سنة إبراهيم عليه السلام الدعاء لنفسه ولوالديه وللمؤمنين وللذرية، كما يلاحظ حرصه على استمرار الخير في ذريته وذلك خلق ينبغي أن يتحقق فيه كل مسلم. 7 - بمناسبة قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون. 8 - فسرنا قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ بمعنى لمجيب الدعاء، وذلك من باب قولك: سمع فلان كلام فلان إذا تلقاه بالإجابة والقبول، ومنه سمع الله لمن حمده. 9 - بمناسبة قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي نقل النسفي عن ابن عباس قوله: لا يزال من ولد إبراهيم ناس على الفطرة إلى أن تقوم الساعة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: رأينا أن المجموعة الأولى في هذه السورة تبين الحكمة من إنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأن المجموعة الثانية بينت أن موسى عليه السلام قد كلف بما كلف به محمد صلى الله عليه وسلم وأن الثالثة والرابعة ذكرت بالأقوام السابقين، وما كان بينهم وبين رسلهم، وعاقبة الكافرين في الدنيا والآخرة، وأن المجموعة الخامسة ذكرت بآثار كلمة التوحيد وكلمة الكفر على أصحابها وعلى الناس، وأن المجموعة السادسة لفتت النظر إلى فعل الكافرين بتبديل نعمة الله، والآن تأتي مجموعتان كل منهما مبدوءة بنهي «ولا تحسبن» «فلا تحسبن» *** المجموعة السابعة وتمتد من الآية (42) الى نهاية الآية (46) وهذه هي [سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 46] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)

التفسير

التفسير: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قال ابن كثير: يقول تعالى: ولا تحسبن الله يا محمد غافلا عما يعمل الظالمون أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عليهم عدا إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ أي يؤخر عقوبتهم الكاملة لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي لا تقر في أماكنها من شدة هول ما ترى، ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: مُهْطِعِينَ أي مسرعين مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعيها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظرون إلى أنفسهم. قال ابن كثير: أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر، لا يطرفون لحظة، لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة، لما يحل بهم عياذا بالله العظيم من ذلك ولهذا قال: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي وقلوبهم خاوية خالية، ليس فيها شئ لكثرة الوجل والخوف، يقال: قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جراءة، ثم قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ أي يوم القيامة، أي أنذرهم يوم القيامة فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي عند معاينة العذاب والذين ظلموا هم الكافرون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحد من الزمان قريب؛ نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك فيقال لهم: وَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي حلفتم في الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، ويحتمل أن يكون المراد بيوم يأتيهم العذاب يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، ويحتمل أنه أريد به يوم موتهم معذبين بشدة السكرات، ولقاء الملائكة بلا بشرى بينما كانوا في وهمهم يعيشون، كأنهم خالدون وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي وقررتم في مساكن من سبقكم من الكفار مطمئنين طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلكم في الظلم والفساد، لا تحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله، وكيف كان عاقبة ظلمهم فتعتبرون وترتدعون وَتَبَيَّنَ لَكُمْ بالأخبار أو المشاهدة للآثار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ إذ أهلكناهم وانتقمنا منهم وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا، وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة، والمعنى: أنهم قد رأوا، وبلغهم ما أحل الله بالأمم المكذبة قبلهم، ومع هذا لم يكن لهم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقع الله بهم لهم مزدجر ومن ثم قال وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي مكروا مكر الأقوام

الفوائد

السابقين الذين استفرغوا فيه جهدهم، وهو ما فعلوه من تأييد الكفر وإبطال الإسلام وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ أي وما كان مكرهم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي ليزول منه الإيمان وأهله شبه أهل الإيمان بالجبال الفوائد: 1 - هذه المجموعة تنهى الدعاة عن ظن السوء بالله، بأن يظنوا الغفلة بالله عن عمل الظالمين، والمؤمن لا يقع في مثل هذا، ولكن عليه أن يتذكر رقابة الله دائما، كما تأمر المجموعة بالإنذار باليوم الآخر، وفي هذا لفت نظر للدعاة أن يكونوا يقظين منذرين 2 - رأينا تفسير قراءة حفص في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وهناك قراءة متواترة أخرى قرأ بها الكسائي وهي بفتح لام «لتزول» وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وإنه كان مكرهم يزيل الجبال. وهذا وصف لمكرهم بالشدة والكبر، ومع ذلك فإن الله يفسده، ومن رأى مكر الكافرين في عصرنا عرف معنى هذه القراءة عمليا، ومن رأى ثبات المؤمنين في عصرنا عرف معنى قراءة حفص عمليا.

المجموعة الثامنة

المجموعة الثامنة وتمتد من الآية (47) إلى نهاية الآية (51) وهذه هي: [سورة إبراهيم (14): الآيات 47 الى 51] فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) التفسير: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والتقدير مخلف رسله وعده، وإنما أخر الرسل وقدم الوعد ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي ذا عزة لا يمتنع عليه شئ أراده، وغالب لا يغالب ولا يماكر ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض وَالسَّماواتُ أي وتبدل السموات غير السموات وَبَرَزُوا أي وخرجوا من قبورهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ذكر الوحدانية بجانب القهارية هنا ليعلم أن الملك يومذاك لواحد غلاب لا يغالب، فلا مستغاث لأحد إلى غيره، وهذا يفيد أن الأمر يومذاك في غاية الشدة وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين المفسدين يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة مُقَرَّنِينَ أي قرن بعضهم مع بعض أو مع الشياطين، أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين فِي الْأَصْفادِ والأصفاد هي القيود والأغلال سَرابِيلُهُمْ أي قمصهم وثيابهم التي يلبسونها مِنْ قَطِرانٍ وهو مادة معروفة تتحلب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ فيهنأ به الإبل الجربى فيحترق الجرب بحدته وحره، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون، منتن الريح، فيطلى به جلود أهل النار، حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ليجتمع عليهم لذع القطران وحرقته

[سورة إبراهيم (14): آية 51]

وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. وكل ما وعده الله أو أوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقدر، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة نعوذ بالله من سخطه وعذابه» اهـ النسفي وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي وتعلوها باشتعالها، وخص الوجه لأنه أعز موضع في ظاهر البدن كالقلب في باطنه لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت أو كل نفس من مجرمة ومطيعة سيجازيها لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم، فسيثيب المؤمنين على طاعتهم إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي يحاسب جميع العباد في أسرع من لمح البصر. فوائد: 1 - هذه المجموعة توجه الداعية نحو الثقة المطلقة بوعد الله في النصرة في الآخرة وفي الدنيا؛ لأن مقتضى اتصافه بأسمائه: العزيز، ذي الانتقام، الواحد، القهار، يقتضي أن يكون ما أخبر عنه حاصلا، ومقتضى عدله أن يجازي الأنفس على عملها، ومن ثم فالثقة بوعد الله سمة رئيسية من سمات الداعية ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. 2 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ قال ابن كثير: (جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي (¬1) ليس فيها معلم لأحد» وقال الإمام أحمد ... عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ قالت: قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: «على الصراط». وقال قتادة عن حسان ابن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ قال: قالت: يا رسول الله فأين الناس يومئذ؟ قال: «لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد من أمتي، ذاك أن الناس على جسر جهنم») ¬

_ (¬1) قرصة النقي: خبز نخل مرة بعد مرة.

وبمناسبة هذه الآية يثور سؤال: هل التبديل- الذي هو التغيير- تغيير ذات، أو تغيير أوصاف؟ قولان قال النسفي: (واختلف في تبديل الأرض والسماوات فقيل: تبدل أوصافها، وتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها وتسوى ولا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها، وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا وقيل: تخلق بدلها أرض وسماوات أخر وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يحشر الناس على بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة ... ) وقال الألوسي: (والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومن قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها وقد يكون في الصفات كما في قولك: «بدلت الحلقة خاتما» إذا غيرت شكلها ومنه قوله سبحانه: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين) ثم ذكر الألوسي أقوالا كثيرة للمفسرين عن هذا التبديل ثم قال: ولا مانع أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى، وعلقه على الحديث الذي رواه مسلم والذي فيه «هم في الظلمة دون الجسر»: ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه) 3 - قال الألوسي عن القطران: (هو ما يحلب من شجر الأبهل فيطبخ وتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحرة الشديدة، وقد تصل حرارته إلى الجوف، وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار حتى قيل إنه أسرع الأشياء اشتعالا. وفي التذكرة أنه نوعان ... وأنه إن سل بنفسه يقال زفت وإن كان بالصناعة فقطران) 4 - بمناسبة قوله تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ يذكر ابن كثير هذين الحديثين: - روى الإمام أحمد والإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب».

- وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه: «النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار». ***

خاتمة السورة

خاتمة السورة وهي آية واحدة وهي الآية (الثانية والخمسون) وهذه هي: [سورة إبراهيم (14): آية 52] هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) التفسير: هذا أي الذي ورد في السورة بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي كفاية في التذكير والموعظة، وبه تقوم الحجة الكاملة عليهم وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أي بهذا البلاغ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بمجموع ما جاء في السورة وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ذوو العقول فيخرجون بهذا البلاغ من الظلمات إلى النور. وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال: (إن الشرك بالله- المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله- يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة في كل شأن من شئون الحياة خالصة لله وحده، ويكفي أن يدين العبد لله في جوانب من حياته بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله. حتى تتحقق صورة الشرك حقيقة وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة، والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق طبيعته. إن العبد الذي لا يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشرائع من عند غير الله، ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله. ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر تفرض عليه هذه الأخلاق والعادات والتقاليد والأزياء- مخالفة لشرع الله وأمره- إن هذا العبد يزاول الشرك (الخفي أو الجلي) فى أخص حقيقته ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في أخص حقيقتها هذا ما يغفل عنه الناس اليوم فيزاولونه في ترخيص وتميع، وهم لا يحسبونه

الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل زمان ومكان. والأصنام .. ليس من الضروري أن تتمثل في تلك الصورة الأولية الساذجة .. فالأصنام ليست سوى شعارات للطاغوت، يتحفى وراءها لتبعيد الناس باسمها- وضمان دينونتهم له من خلالها إن الصنم لم يكن ينطق أو يسمع أو يبصر .. إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها يتمتم حولها بالتعاويذ والرقى .. ثم ينطق باسمها بما يريد هو أن ينطق لتعبيد الجماهير وتذليلها فاذا رفعت في أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام والكهان ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال ... فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها! إذا رفعت «القومية» شعارا أو رفع «الوطن» شعارا أو رفع «الشعب» شعارا أو رفعت «الطبقية» شعارا .. ثم أريد الناس على عبادة هذه الشعارات من دون الله وعلى التضحية لها بالنفوس والأموال والأخلاق والأعراض. بحيث كلما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعليماته مع مطالب تلك الشعارات ومقتضياتها، نحيت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعاليمه ونفذت إرادة تلك الشعارات- أو بالتعبير الصحيح الدقيق: إرادة الطواغيت الواقفة وراء هذه الشعارات كانت هذه هي عبادة الأصنام من دون الله .. فالصنم ليس من الضروري أن يتمثل في حجر أو خشبة. ولقد يكون الصنم مذهبا أو شعارا إن الإسلام لم يجئ لمجرد تحطيم الأصنام الحجرية والخشبية ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة من موكب الرسل الموصول ولم تقدم من أجله تلك التضحيات الجسام وتلك العذابات والآلام لمجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب. إنما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة .. ولا بد من تتبع الهيئات والصور في كل وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة، وتقرير ما إذا كانت توحيدا أم شركا؟ ودينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام! والذين يظنون أنفسهم في «دين الله» لأنهم يقولون بأفواههم «نشهد أن لا إله إلا

فائدة

الله وأن محمدا رسول الله» ويدينون لله فعلا في شئون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث .. بينما هم يدينون فيما وراء هذا الركن لغير الله- ثم هم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وأخلاقهم- أرادوا أم لم يريدوا- ليحققوا ما تتطلبه منهم الأصنام الجديدة. فإذا تعارض دين أو خلق أو عرض مع مطالب هذه الأصنام نبذت أوامر الله فيها ونفذت مطالب هذه الأصنام ... الذين يظنون أنفسهم «مسلمين» وفي «دين الله» وهذا حالهم .. عليهم أن يستفيقوا لما هم فيه الشرك العظيم!!! إن دين الله ليس بهذا الهزال، إن دين الله منهج شامل لجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها، والدينونة لله وحده في كل تفصيل وكل جزئية من جزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها- فضلا على أصولها وكلياتها- هي دين الله- وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. وإن الشرك بالله لا يتمثل- فحسب- في الاعتقاد بألوهية غير الله ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه. وإن عبادة الأصنام لا تتمثل في إقامة أحجار وأخشاب بقدر ما تتمثل في إقامة شعارات لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات. ولينظر الناس في كل بلد لمن المقام الأعلى في حياتهم؟ ولمن الدينونة الكاملة؟ ولمن الطاعة والاتباع الامتثال؟ فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله، وإن كان لغير الله- معه أو من دونه- فهم في دين الطواغيت والأصنام .. والعياذ بالله .. ! هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ .. ) فائدة: لخصت هذه الآية مقاصد السورة بأنها البلاغ، والإنذار، والعلم بوحدانية الله، والتذكير، فهي بلاغ للناس بأن هذا القرآن وحده هو الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهي إنذار بما تهدد الله به الكافرين في القرآن، وعلى لسان موسى عليه السلام، وبما فعل الله بالمكذبين، وبما حدثنا الله عنه من شأن الكافرين، وهي إنذار لمن يبدل نعمة الله كفرا، وهي إنذار للظالمين بما أعد لهم.

كلمة في سورة إبراهيم

وهي كذلك لتعليم الناس الوحدانية، فالله عزّ وجل واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله، فهي تعلم الناس الوحدانية من خلال ظاهرة الخلق، ومن خلال آثار الوحدانية في الحياة البشرية، ومن خلال بعثة الرسل ونصرتهم، ومن خلال دعوتهم وحالهم. وهي تذكر أولي الألباب في الطريق إلى النور من خلال الخطاب المباشر أَلَمْ يَأْتِكُمْ* أَلَمْ تَرَ* أَلَمْ تَرَ* أَلَمْ تَرَ* وَلا تَحْسَبَنَّ* فَلا تَحْسَبَنَّ ومن خلال انفعالهم بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن خلال القدوة بالرسل، وبمجموع مقاصد السورة نعرف كيف تتم عملية الخروج من الظلمات إلى النور بالبلاغ والإنذار، والتركيز على التوحيد والتذكير. كلمة في سورة إبراهيم: رأينا أن محور سورة إبراهيم هو قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وسورة إبراهيم تحدد بم يكون الإخراج، فالإخراج بالقرآن، وسبب الخروج محمد صلى الله عليه وسلم، والسورة توجه، وتبين آلية الخروج وبم تتم: فالمخرج تقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ .... أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً .... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً .. قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ... وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا .... وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ .... فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ... فهذه مجموعة أمور توجه عملية الإخراج من الظلمات إلى النور ولتتم به.

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المئين

إن سورة إبراهيم عليه السلام تفصل في محورها، ومع ذلك فإن لها سياقها الخاص: تبدأ بذكر الحكمة من إنزال القرآن، وتثني بأن ذلك كان هو الهدف من بعثة موسى عليه السلام، ثم تخاطب المكلفين ألا يرفضوا، ثم تلفت النظر إلى قدرة الله لتصل إلى مشهد من مشاهد يوم القيامة، ثم تذكر بكلمة التوحيد، ثم تأمر بالصلاة والزكاة، ثم تذكر بحقوق الحرم، فهي بذلك تذكر بأن الطريق إلى النور هو: كلمة التوحيد، والصلاة، والإنفاق، والحج، وإذ كان الكثيرون من الناس سيرفضون دعوة الله فإن المجموعتين الأخيرتين في السورة تذكران رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله يمهل ولا يهمل، وأن وعده آت لا محالة، ثم تأتي خاتمة السورة مذكرة بأغراض السورة وهكذا شأن كل سورة من سور القرآن، لها سياقها الخاص، ولها محورها الذي تفصل فيه، وكل سورة لها محلها في السياق القرآني العام كلمة في المجموعة الأولى من قسم المئين: إن التكامل واضح في سور المجموعة الأولى من قسم المئين، كما أن التكامل واضح بين هذه المجموعة وبين المجموعتين الأخيرتين من قسم المئين كما سنرى: جاءت سورة يونس في هذه المجموعة فنفت الريب عن القرآن، وأكدت أنه هدى، ثم جاءت سورة هود فدلت على الطريق إلى الله، وعلى الطريق للاهتداء بكتابه والطريق هو العبادة لله وحده، ثم جاءت سورة يوسف فعمقت الإيمان بالقرآن وعمقت ضرورة الاهتداء به، ثم جاءت سورة الرعد فبينت أن للاهتداء وللضلال سننا، فمن تجنب سنن الضلال وتبع طرق الهداية فإنه يهتدي، وحتى لا يظن ظان أن الهداية تكون بلا هاد، وحتى يتعمق معنى السير في طريق الهداية، فقد جاءت سورة إبراهيم لتفصل في ذلك كله. وهكذا نجد أن المجموعة الأولى من قسم المئين تشكل وحدة متكاملة فيما بينها، وتظهر لك هذه الوحدة على كمالها لو أنك وضعت محاور سور المجموعة من سور البقرة بجانب بعضها. ونحن سنضع هذه المحاور بجانب بعضها لتتأمل الصلة بين الآيات، ثم لتدرك ما ذكرناه من تكامل، ثم لنتذكر ما قلناه من قبل إن محاور القسم- أو المجموعة في القسم- من سورة البقرة تشكل مع بعضها وحدة موضوعية.

الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا، ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ هذه هي محاور سور المجموعة الأولى من قسم المئين، ولو أنك تأملتها لوجدت معاني يكمل بعضها بعضا، فكذلك سور المجموعة، إذ ترسم طريق الهداية من بدايته إلى نهايته، وهي بهذا تضع الأساس الذي ستبني عليه المجموعة الثانية من قسم المئين كما سنرى. ............. في هذه المجموعة من قسم المئين يصل النور إلى القلب، ويزداد اليقين وتتضمن صفات الخير، ويتخلص الإنسان من صفات الشر، وبذلك يصبح عنده استعداد للتلقي في أمور أخرى، وذلك هو موضوع المجموعة الثانية من قسم المئين. ستأتي المجموعة الثانية في قسم المئين لتعالج موضوع الاهتداء ببعض الكتاب وإهمال بعض، ولتعالج موضوع الاستسلام المطلق لله بالاستسلام له في كل ما شرع، ولتعالج احتمالات الانحراف في هذه الأمة، ولتعالج موضوع التسليم لله في رزقه لعباده، الرزق الحسي والرزق المعنوي، ولتعالج موضوع الاختلاف في الكتاب، وكلها مواضيع مهمة في حياة الإنسان، وحياة الأمم، وإنما تأتي المجموعة الثانية لتعالج هذه المواضيع بعد أن وضعت المجموعة الأولى من قسم المئين الأساس النظري والعملي للتلقي الكامل في هذه الشئون، والأمر أوسع من ذلك بكثير ولكنا نحرص ألا يتشعب بنا البحث فيفوتنا توضيح المسرى العام للتكامل القرآني ***

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله واصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

المجموعة الثانية من قسم المئين

كلمة في المجموعة الثانية من قسم المئين: رأينا أن المجموعة الأولى من قسم المئين عمّقت اليقين ودلّت على النور وأخرجت من الظلمات، ثمّ تأتي المجموعة الثانية من قسم المئين وأولها سورة الحجر التي تفصّل في مقدمة سورة البقرة من جديد تفصيلا غير الذي فصّلته سورة يونس، ثمّ تأتي بعد ذلك سورة النحل والإسراء والكهف ومريم فتفصّل في الآيات (210، 211، 212، 213) من سورة البقرة. سورة النحل تفصّل في الآية (210) وهي هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ولذلك فإن أول آية في سورة النحل هي: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ... وسورة الإسراء تفصّل في الآية (211) وهي سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ولذلك تجد في سورة الإسراء قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ .... وسورة الكهف تفصّل في الآية (212) وهي زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ولذلك تجد في سورة الكهف إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وسورة مريم تفصّل في الآية (213) وهي كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. ولذلك تجد في سورة مريم وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. والتدليل على ما ذكرناه هنا سيأتي بتوسع فيما بعد إن شاء الله. إن الآيات (210، 211، 212، 213) من سورة البقرة آتية بعد قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ

مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وإذن فهي آتية في حيّز الدعوة إلى الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان، ولذلك فإن السور الأربع التي جاءت تفصّل الآيات الأربع قد عمّقت معنى الدخول في الإسلام كله وترك اتباع- خطوات الشيطان- كما سنرى- وبما أن سورة الحجر كانت مقدمة لهذه السور الأربع فإنها ذكرت مثل هذا المعنى فقالت كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ* الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أقساما، قبلوا قسما وردوا قسما، فسورة الحجر والسور الأربعة بعدها تشكل كلا متكاملا ضمن قسمها وهذا سيتضح معنا بشكل أكمل عند ما نستعرض سور المجموعة كلها. ***

سورة الحجر

سورة الحجر وهي السّورة الأولى من المجموعة الثانية من قسم المئين وهي السّورة الخامسة عشرة بحسب رسم القرآن وهي مكيّة وآياتها تسع وتسعون

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

تقديم الألوسي لسورة الحجر

[تقديم الألوسي لسورة الحجر] قال الألوسي في تقديمه لسورة الحجر: (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة. ومجاهد. وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وقوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ وذكر الجلال السيوطي في الإتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت: وينبغي استثناء قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ الآية لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة، وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن إنها مكية بلا خاف .. من قلة التتبع وهي تسع وتسعون آية، قال الداني وكذا الطبرسي: بالإجماع وتحتوي- على ما قيل- على خمس آيات نسختها آية السيف. ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتحت به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك، وأيضا ذكر في الأولى طرف من أحوال المجرمين في الآخرة، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض ما ذكر، وأيضا ... فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، وأيضا في كل من تسلية نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ما فيه وغير ذلك مما لا يحصى». كلمة في سورة الحجر ومحورها: سورة الحجر هي كالمقدمة للسور الأربع الآتية بعدها، وهي في الوقت نفسه تفصّل في مقدمة سورة البقرة، فمحورها هو الآيات الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إنك لو تأملت سورة الحجر فإنك ستجد فيها: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ* وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ* لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ. كما نجد فيها: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا فالسورة تفصّل في شأن المتقين، كما تفصّل في شأن الكافرين الذين لا ينفع معهم إنذار، إنها تفصّل في مقدمة سورة البقرة، مع تركيز على تفصيل أحوال الكافرين. قال صاحب الظلال: (محور هذه السورة الأول هو إبراز المصير المخوّف الذي ينتظر الكافرين المكذبين .. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات متنوعة الموضوع والمجال، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل سواء في ذلك القصة، ومشاهد الكون، ومشاهد القيامة، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله وتعقب عليه). إن السورة تركز على تفصيل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ولذلك فهي تدلنا على صفات هذا النوع من الكافرين الذين لا ينفع معهم إنذار، إن من خلال المعنى أو من خلال القصة، وتردّ على الذين يتصورون أن الله لا يعذب: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وتضرب الأمثلة على أنواع من تعذيبه للكافرين في الدنيا. هذا هو محور سورة الحجر الرئيسي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إنها شرح لحال الكفار وموقفهم من الإنذار، وهي في الوقت نفسه توجيه للنذير كيف يفعل وكيف يوجّه نذارته، وبماذا يقابل رفضهم للإنذار، كما أن فيها تعليلا لهذه الحالة من الكفر الطاغي الأعمى: لاحظ هذه التوجيهات للنذير: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. إنك عند ما تقرأ هذه التوجيهات في محلها تجد أنّ كل توجيه منها يأتي في محله بما يخدم محور السورة وسياقها. ومن قبل قلنا: إن أي سورة في القرآن لها محورها من سورة البقرة، وهي تفصّل فيه، وفي بعض امتداداته من سورة البقرة نفسها، فهي تجذب الشئ إلى نظيره، وسورة الحجر تصلح أن تكون نموذجا على ذلك، فهي تفصّل في مقدمة سورة البقرة، وفي بعض امتدادات هذه المقدمة، بحيث يتألف من مجموع ذلك المقدمة الكاملة للسور الأربع التالية، إن السور الأربع التالية لسورة الحجر تناقش أهم الدوافع والصوارف في شأن حمل الإسلام كله، من ثمّ فإن سورة الحجر تفصّل في محورها من سورة البقرة، وتفصّل في امتداداته ضمن سياقها الخاص ليشكّل ذلك مقدمة كاملة للسور بعدها، فإذا كانت السور بعدها تناقش الدوافع والصوارف لحمل الإسلام كله، فإن سورة الحجر تتحدث عن الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها تنذر وتوجّه وتوطّئ، وكل ذلك سنراه عند عرضها، وسنعرض سورة الحجر على مجموعات بدلا من عرضها كمقاطع للتسهيل على القارئ. ***

المجموعة الأولى وتمتد حتى نهاية الآية (15) وهذه هي

المجموعة الأولى وتمتدّ حتى نهاية الآية (15) وهذه هي: 15/ 15 - 1 التفسير: الر سبق الكلام عن هذه الأحرف تِلْكَ أي: ما تضمنته هذه السورة من الآيات آياتُ الْكِتابِ أي: معجزات الكتاب وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي: كثير الإبانة

[سورة الحجر (15): آية 2]

والتوضيح، فالقرآن مبين عن الله وصفاته مبين عن الله ورسله، مبين عن سنن الله وشرعه ودينه، مبين عن طبيعة الإنسان وخصائص الإنسان وأدواء الإنسان وطرق علاجها، بل إنه مبين لكل شئ يحتاجه الإنسان رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ هذا إخبار عن الكفار أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ويتمنّون لو كانوا مسلمين في الدنيا، ومتى يكون هذا؟ هل هو عند النزع إذا كشف الحجاب، أو يكون يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين، أو إذا رأوا عصاة المسلمين يخرجون من النار، أو إذا رأوا المسلمين يعبرون على الصراط، أو إذا رأوا أهل الجنة في الجنة، أو عند هذا كله؟ أقوال للعلماء، ولم استعملت ربما التي تفيد التقليل في هذا المقام مع أن تمني الإيمان والإسلام في هذه المقامات قطعي وكثير وكبير؟ الجواب: إنما جئ ب (ربما) للإشعار بأن ما سيرونه من أهوال يشغلهم عن التمني، وبناء عليه يصدر الله عزّ وجل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أمرا فيه إهانة لهم فيقول ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي ويشغلهم أملهم وأمانيهم عن حقيقة أنفسهم وعما أمامهم وعن الحق الذي أنزل إليك وعما كلفوا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي سوء صنيعهم، والمعنى: اقطع طمعك من ارعوائهم لأن الإنذار وعدمه في حقهم سواء. كلمة في السياق: نلاحظ أن الآية الأولى في السورة لها صلة بالآية الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة) الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (سورة الحجر) ثم نلاحظ الصلة المباشرة بين تتمة المجموعة وبين قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. بدأ ذلك بقوله تعالى رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وتأتي بقية المجموعة لتعلّل سبب هذا الأمر، ومن خلال ذلك نعرف أن الكلام في المجموعة عن نوع من الكفار لا يؤثر فيهم الإنذار وكل ذلك مرتبط بمقدمة سورة البقرة.

فوائد

فوائد: 1 - [اشتغال الكافر في الدنيا بالأكل والتمتع والأمل فقط] فهمنا من الآية أن الأكل والتمتع في الدنيا والأمل هي كل شئ بالنسبة للكافر، وأن هذه القضايا الثلاث تشغلهم عن كل شئ، وإذا تأملنا حال الكافرين، وحاولنا أن نلخّص أحوالهم لم نجد أبلغ مما وصفهم القرآن به، وفي ذلك مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني، إذ مثل هذه الإحاطة في النفس البشرية، وهذا البيان البليغ يخرجان عن طوق البشر، وفي الآية تنبيه عظيم للمؤمنين على أن إيثار التلذذ والتمتع والانشغال بالآمال الكاذبة وما يؤدي إلى طول الأمل وإلى أن تصبح هذه الأخلاق عميقة الجذور في النفس والقلب، كل ذلك ليس من أخلاق المؤمن، كما أنّ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بتركهم يشير إلى أنّ الواجب في حق هؤلاء ازدراؤهم واحتقار ما هم فيه، وأي ازدراء أكبر من أن يؤمر المكلّف بالتبليغ أن يترك من هذا شأنه! وفي عصرنا حيث تعتبر قضية الطعام والمتاع ميزان التقدم، وحيث تقوم الحركات السياسية كلها على تعليق نفس الإنسان بالآمال الدنيوية ندرك أهمية هذا التوجيه في التربية الإسلامية. 2 - [حول اختلاف العلماء في اللحظة التي يود الكافرون فيها لو كانوا مسلمين] رأينا اختلاف العلماء في اللحظة التي يودّ الكافرون فيها لو كانوا مسلمين ولا شك أن ندامتهم تحصل لهم في كل لحظة يتاح لهم أن يراجعوا ما هم فيه، ومن ثم قصّ الله علينا قولهم يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وقصّ الله علينا قولهم رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... وهكذا تعددت أقوال العلماء، لأن كلّا منهم نظر إلى ما قصّه الله علينا من أمنية في مقام فذهب إلى أن الآية تريد هذا المقام، إلا أن هناك أربعة أحاديث يذكرها ابن كثير تعتبر نصا في الموضوع، حديثان منها رواهما الطبراني، وحديث رواه الطبراني وابن أبي حاتم، وحديث منها رواه ابن أبي حاتم، والأسانيد مختلفة ومعانيها قريبة من بعضها، ومن ثم نكتفي بذكر الحديث الرابع الذي أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا هو: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومنهم- أي من المسلمين الذين أدخلوا النار- من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه، على قدر ذنوبهم وأعمالهم، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى، فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان، والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله وكتبه ورسله، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء.

3 - حول تهديد الله للكافرين بقوله سبحانه ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ..

فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشئ فيما مضى فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. 3 - [حول تهديد الله للكافرين بقوله سبحانه ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا .. ] قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا .. فيه تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (إبراهيم: 30) وقوله كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (المرسلات: 46) ولهذا قال: وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي عن التوبة والإنابة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة أمرهم ولنعد إلى التفسير. إنّه بعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يدع هؤلاء الكافرين لما هم فيه ذكر تعليلات ذلك الأمر: (1) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ أي مكتوب مَعْلُومٌ وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها المحدّد في الكتاب وَما يَسْتَأْخِرُونَ عن هذا الأجل المضروب. أخبر الله عزّ وجل أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم، فإذا كانت سنة الله كذلك فهؤلاء الكافرون المعاندون لك يا محمد سيأتيهم أجلهم، ومن ثم فدعهم فيما هم فيه ونحن نتولى شأنهم. (2) وعلة أخرى للأمر بتركهم: هي أقوالهم المتعنّتة التي تخرجهم عن طور استحقاق الدعوة والإنذار، لأن أقوالهم تخرجهم عن الاتزان والإنصاف وَقالُوا أي الكفار يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن الذي تدعو إليه إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والمعنى: إنك لتقول قول المجانين حيث تدّعي أن الله نزّل عليك الذكر لَوْ ما أي هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ أي يشهدون بصدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فقوم هذا منطقهم: السباب، واقتراح خرق نظام الكون، لا يستحقون الاهتمام وإنما الترك، ومع ذلك فقد ردّ الله عليهم أقوالهم ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا تنزيلا ملتبسا بالحق والحكمة، إما بالرسالة وإما بالعذاب، والعذاب له أجل والرسالة لها أهلها وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي لو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ولما تأخر عذابهم، هذا ردّ على طلبهم تنزل الملائكة، وأما اتهامهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنون بسبب تنزل الذكر عليه

[سورة الحجر (15): آية 9]

فالردّ عليه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من التغيير والتبديل، قال النسفي: وهو رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ولذلك قال (إِنَّا نَحْنُ) فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع، وأنه هو الذي نزله محفوظا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتولّ حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فوقع التحريف، ولم يكل حفظه القرآن إلى غيره، وقد جعل قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) دليلا على أنه منزل من عنده آية. إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرّق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه، أو الضمير في (له) لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ) اهـ. فنسبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الجنون مع أن هذا القرآن من عند الله، والأدلة قائمة على ذلك- يدل على أن هؤلاء وصلوا في الطغيان على الله ورسوله حدا لا يصلح معه إلا الترك. (3) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي فرق السابقين، والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وإذن لم يزل دأب الأمم الماضية الاستهزاء بالرسل، فهؤلاء ماضون على سنن السابقين كَذلِكَ أي كما سلكنا الكفر أو الاستهزاء في شيع الأولين نَسْلُكُهُ أي الكفر أو الاستهزاء فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ من هذه الأمة بسبب تحققهم بصفة الإجرام عقوبة لهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالله أو بالذكر وَقَدْ خَلَتْ أي مضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي طريقتهم التي سنّها في إهلاكهم أو في شأنهم، ومن ثم فهؤلاء الذين هذا شأنهم، وهذا حالهم، لا يطمع بإسلامهم، ومن ثم فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ... (4) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ أي ولو أظهرنا لهم أوضح آية وهو فتح باب من السماء فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي يصعدون لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي حيّرت أو حبست من الإبصار، أو سدّت، أو أخذت أو شبّه عليها بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ فما يحدث لنا ليس حقيقة، والمعنى: أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم

نقول

في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسّر لهم معراج يصعدون فيه إليها ورأوا من العيان ما رأوا لقالوا: هو شئ نتخايله لا حقيقة له؛ لقوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق، وناس هذا شأنهم لا يقابلون إلا بالترك لأنه لا فائدة من إنذارهم، وفي قوله تعالى: فَظَلُّوا إشعار بأنه حتى لو جعل عروجهم بالنهار إذ هو محل الظلول ليكونوا مستوضحين لما يرون لما كان موقفهم إلا ذلك، وقوله تعالى: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا فيه إشعار بمزيد جرمهم بأنهم مهما يحدث لهم فإنهم يعتبرونه تسكيرا للأبصار ولذلك استعملوا أكثر من مؤكد. نقول: 1 - [كلام لصاحب الظلال عن سنة الله أنه على حسب العمل يكون الأجل] بمناسبة قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ قال صاحب الظلال: «وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم يمنحه الله للقرى والأمم، لتعمل، ومن سنته جل جلاله أنه على حسب العمل يكون الأجل. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت كان أجلها مديدا حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى، عندئذ تبلغ أجلها وينتهي وجودها، إما إطلاقا بالهلاك والدثور، وأما وقتيا بالضعف والانزواء. ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم. فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير الخلافة في الأرض بعمارتها، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي حتما. إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل مرتب على عملها ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ. 2 - [كلام لصاحب الظلال حول الآية وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قال صاحب الظلال: «ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب فتح لهم فيها يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب مفتوحا أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها .. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكر أبصارنا

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة الأولى بمحور السورة

وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل. بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا ساحر فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسحور. يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء، ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان، وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل، فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء، وبلا تحرج، وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف. إنه نموذج بشري للمكابرة يرسمه التعبير، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الأولى بمحور السورة] ذكرنا أن محور هذه المجموعة من سورة الحجر هو مقدمة سورة البقرة وخاصة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وفي هذه المجموعة من الآيات رأينا أن الله أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ثم رأينا علل هذا الأمر في الفقرات الأربع التي جاءت بعد الأمر، وقد عرفنا من الآيات مواصفات الكفار الذين أصبح الإنذار وعدمه في حقهم سواء. وهم الذين همّهم الطعام والشراب والمتعة، واللاهون بالأمل، والسابّون للرسول، والمقترحون للآيات، والمستهزءون بالرسل، والمجرمون، والمؤولون للآيات إذا رأوها، وإذن فليس كل كافر لا ينذر وإلا لتعطّل الإنذار والتبليغ، وإنما من وصل إلى حالة من الكفر هذه مواصفاتها، ولكوننا لا نعلم- إلا بإعلام الله بالوحي وقد انقطع الوحي- أن كافرا قد أصبح كذلك فنحن مطالبون بالتبليغ والإنذار. فوائد: [حول مدى ترابط آيات المجموعة الأولى ببعضها البعض] لقد رأينا أن الآية الأولى في هذه السورة تشير إلى أن في هذه السورة معجزات من معجزات هذا القرآن المبين، وأول ما نراه في المجموعة السابقة من هذه المعجزات هو هذا البيان العجيب في التصوير والعرض لمعان لا تخطر على بال بشر كقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا ... كما رأينا في الآيات من مظاهر الإعجاز هذا النوع الجازم من الكلام الذي ليس فيه مظهر من مظاهر الضعف البشري، ومن ذلك هذا الجزم في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (16) حتى نهاية الآية (22) وهذه هي

لَحافِظُونَ وإنها لمعجزة واضحة في هذه الآية إلى قيام الساعة أليس في حفظ هذا القرآن بحروفه وكلماته ولهجاته وقراءاته معجزة تتحدى على الدهر؟. *** المجموعة الثانية وتمتدّ من الآية (16) حتى نهاية الآية (22) وهذه هي: 15/ 22 - 16 التفسير: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ أي خلقنا فيها بُرُوجاً أي نجوما أو منازل للنجوم، أو مدارات ومسارات لها، أو منازل للشمس والقمر بالنسبة للأرض وَزَيَّنَّاها أي السماء لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها أي السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي ملعون إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي حاول سرقة المسموع من عالم الغيب فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ أي جزء من مادة النجوم مُبِينٌ أي ظاهر للمبصرين وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها ووسعناها بالقدر الذي تحتاجه نشأة الحياة

[سورة الحجر (15): آية 20]

والإنسان عليها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثابتة تجعلها متزنة غير مضطربة وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بقدر فهو موزون بميزان الحكمة لا تصلح فيه زيادة ولا نقصان بحيث لا يطغى نوع على نوع أو على بقية الأنواع، أو جنس على جنس أو على بقية الأجناس وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها أي في الأرض مَعايِشَ أي ما يعاش به والمعايش جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين من الأنعام والدواب وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي وما من شئ ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي وما نعطيه إلا بمقدار معلوم على حسب المشيئة والحكمة البالغة والرحمة وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ قال ابن كثير: (أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر .. ) وقال النسفي: (وأرسلنا الرياح حوامل بالسحاب لأنها تحمل في جوفها كأنها لاقحة بها من لقحت الناقة حملت ... ). وفي الفوائد عودة على هذا الموضوع. فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي من السحاب ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي فجعلناه لكم سقيا بأن أنزلناه لكم عذبا منتفعا به وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي أنتم لستم بقادرين على أن تملكوا خزائنه وتعطوه، أو أنتم لستم قادرين حتى على خزنه. قال ابن كثير: (ويحتمل أن المراد: وما أنتم له بحافظين بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الأرض، ولو شاء الله تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا وحفظه في العيون والآبار والأنهار، وغير ذلك ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم). أقول: ويحتمل معنى آخر يذكره المفسرون كما سنرى في سورة الفرقان، وهو أن مجموع الماء الموجود في الأرض لا يزيد ولا ينقص، ومن ثم فحبس هذا الماء على الأرض وفي جوّها ما كان ليكون لولا أن الله جعل هذه الأرض على ما هي عليه، فالآية قد يراد بها هذا، أي وما أنتم بحابسين هذا الماء على الأرض وجوها حتى لا يفر من جو الأرض، ولكن الله هو الذي فعل لكم ذلك. وبهذا انتهت المجموعة. نقل: [لصاحب الظلال حول آيات الله في السماء] بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. قال صاحب الظلال: (والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها. وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي تنتقل فيها في مدارها وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة،

جلاله) عن هذه الظواهر وغيرها بالتفصيل هناك. ولا نرى أن نسهب في هذه وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وهي لفتة هنا إلى جمال الكون، فليست الضخامة وحدها، وليست الدقة وحدها إنما الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا، وينشأ من تناسقها جميعا. وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم، توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد .. ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهوم، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد. إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه، ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة: وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. ومع الزينة الحفظ والطهارة: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ لا ينالها ولا يدنسها ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته. فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها، وبالغاوين من أبناء آدم فيها. أما السماء- وهي رمز للسمو والارتفاع- فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها. إلا محاولة منه ترد كلما حاولها: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ. وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شئ يسترق؟ كل هذا غيب من غيب الله، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه، لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة؛ ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة. فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعلى مصون لا يناله دنس ولا رجس، ولا يخطر فيه شيطان، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد).

فوائد

فوائد: 1 - [قضية استراق الشياطين السمع وعقاب الله لهم قضية غيبية يجب الإيمان بها] بمناسبة قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ نقول: إن ظاهرة الشهب وتعليلها الطبيعي معروف، ولكن كثيرا من ظواهر هذا الكون قد يكون لها علاقة بقضية غيبية تعرف عن طريق خبر المعصوم، ومن ذلك هذه القضية، فالنصوص القرآنية والحديثية تحدثنا أن لهذه الظاهرة صلة بمنع الشياطين من استراق خبر السماء، والذي يبدو أن الشياطين بتركيبهم يستطيعون أن يسمعوا ما لا يسمعه البشر من أمر السماء، ومن ثم فليس لظاهرة الرجم صلة بموضوع المركبات الفضائية والأقمار الصناعية، على أن المشتغلين في هذا الموضوع يلحظون احتمال الإصابة بالشهب، ومن ملاحظتنا للنصوص التي تشير إلى موضوع استراق السمع، ومن معرفتنا عن الشهب في أن نورها المتألق أثر عن اصطدام جرمها في جو الأرض ندرك أن المكان الذي يستطيع الشياطين الوصول إليه محدود، وأن السماء الغيبية التي أخبرتنا عنها النصوص ليست كما قد يظن بعضهم أنها بعد المجرات كلها بالنسبة للأرض، وهذا المقام الذي نحن فيه يدل على ما ذهبنا إليه من أن السموات السبع التي فوقها عرش الرحمن مغيبة عنا، فهي داخلة في عالم الغيب، وأن كل ما نراه إنما هو السماء بالمعنى اللغوي، واقرأ هذا الحديث الصحيح الذي ذكره ابن كثير عن هذه الآية فلعله يساعدك على التحقق مما قلناه. قال فقد روى البخاري عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان». قال علي وقال غيره: صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر، ووصف سفيان- وهو أحد رواة الحديث- بيده، وفرّج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض. فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض. وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض. فتلقى على فم الساحر أو الكاهن، فيكذب معها مائة كذبة فيصدق، فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا كذا، فوجدناه حقّا- للكلمة التي سمعت من السماء-؟!. 2 - [الظواهر الكونية أحد الأدلة القاطعة على وجود الله تعالى] هذه المجموعة من الآيات التي مرّت معنا تتحدث عن ظواهر كونية متعددة كلها تشير وتدل على وجود الله بما لا يقبل جدلا، ونحن قد تحدثنا في كتابنا (الله جل

3 - سبق المفسرين القدامى لعصرهم بتفسيرهم الآية وأرسلنا الرياح لواقح ..

المواضيع هنا، لأن ما تحدثنا عنه هناك نحتاج إلى أن ننقله مرات ومرات في هذا التفسير ونحن في الأصل نعتبر سلسلة الأصول الثلاثة مقدمة لهذه السلسلة (الأساس في المنهج). 3 - [سبق المفسرين القدامى لعصرهم بتفسيرهم الآية وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ .. ] استطاع المفسرون القدامى أن يسبقوا عصرهم إلى حد ما في فهم قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً. إلا أن تفصيلات كثيرة في شأن الكون في عصرنا أعطتنا تصورا أكثر وضوحا لهذه الآية: هذه التفصيلات تدلنا على أن في هذه السورة- زيادة على إعجازها العام- معجزات أخرى، لقد عرف الناس في عصرنا أن السحاب أنواع، بعضه فيه كهربائية سالبة، وبعضه فيه كهربائية موجبة، وأن للرياح دورا في الجمع بين أنواع السحاب، ولقد رأينا أن ابن كثير ذكر موضوع تلقيح الشجر بواسطة الرياح وهي قضية عرف عصرنا كثيرا من أسرارها. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الثانية بالمجموعة الأولى وبمحور السورة] - جاءت هذه المجموعة تتحدث عن أدلة وجود الله عزّ وجل، وعن آيات الله الحق في هذا الكون بما تقوم به الحجة على الكافرين، فبعد أن ذكر الله عزّ وجل في المجموعة الأولى موقف الكافرين من الرسالة والرسول والوحي، جاءت هذه المجموعة لتنسف مواقف الكافرين من أساسها، ومن هذا الجانب ندرك الصلة بين المجموعة وما سبقها. ... - بعد مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ والملاحظ أن المجموعة التي مرّت معنا تحدثت عن الأرض والسماء والثمرات وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن سورة الحجر تفصّل في مقدمة سورة البقرة وبعض امتدادات معانيها، فسورة الحجر لها سياقها الخاص وهي تفصّل في محورها الخاص وامتداداته لتؤدي دورها في قسمها ومع مجموعتها. ***

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (23) إلى نهاية الآية (25) وهذه هي

المجموعة الثالثة وتمتدّ من الآية (23) إلى نهاية الآية (25) وهذه هي: 15/ 25 - 23 التفسير: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ هذا إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته وأنه أحيا الخلق ثم يميتهم، وقد قرّر الله عزّ وجل هذا الموضوع تقريرا مؤكدا، فظاهرة الإحياء والإماتة تدل على الله بشكل قطعي، وقد برهنّا على ذلك في ظاهرة الحياة من كتابنا عن (الله جل جلاله) وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي: الباقون بعد هلاك الخلق كلهم، إن صفة الإماتة المتجددة تدل على الموت النهائي، وظاهرة الموت النهائي تدل على صفة البقاء للحي القيوم وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ أي من جنسكم وهم كل حي من لدن آدم وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أي من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، ومن كان هذا علمه كيف يكفر وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ أي وهو وحده يقدر على حشرهم ويحيط بحصرهم إِنَّهُ حَكِيمٌ يضع الأمور مواضعها عَلِيمٌ واسع العلم. ذكر قدرته على الإحياء والإماتة، وعلمه بما مضى وما هو آت، ثم ذكر الحشر، وختم بوصف ذاته بالحكمة والعلم، فعرفنا على حكمة الحشر ووقوعه، وعرّفنا على ذاته، فكيف يكفر به الكافرون، وكيف لا يطيع رسله المستهزءون.

فوائد: حول أقوى الأقوال في تفسير الآية ولقد علمنا المستقدمين منكم ..

فوائد: [حول أقوى الأقوال في تفسير الآية وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ .. ] 1 - في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أقوال كثيرة للمفسرين، وقد اخترنا لك من هذه الأقوال ما اعتبرناه هو القول الأقوى، وهو الذي نقله ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله، وبعد أن ذكر ابن كثير هذا نقل اتجاها آخر هو الذي غلب على مفاهيم الأكثرين. فلننقل ما ذكره ابن كثير، ثم نعلّق عليه. قال ابن كثير بعد أن ذكر القول الأول ومن ذهب إليه قال: وروى ابن جرير ... عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وقد ورد فيه حديث غريب جدا فروى ابن جرير عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأة حسناء- قال ابن عباس لا والله ما رأيت مثلها قط- وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا- يعنى لئلا يروها وبعضهم يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل الله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وكذا رواه أحمد، وابن أبي حاتم في تفسيره، ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما، وابن ماجه من طرق عن نوح بن قيس الحدّاني وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحكي عن ابن معين تضعيفه، وأخرجه مسلم وأهل السنن، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقد رواه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك، وهو النّكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ في الصفوف في الصلاة وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر، وقد قال الترمذي هذا أشبه من رواية نوح بن قيس والله أعلم. وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذاكر محمد بن كعب في قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ أنها في صفوف الصلاة فقال محمد بن كعب ليس هكذا وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ الميت والمقتول الْمُسْتَأْخِرِينَ من يخلق بعد وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيرا». نلاحظ من هذا النقل الذي نقلناه عن ابن كثير أكثر من معنى:

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة الثالثة بالمجموعة الثانية وبمحور السورة

2 - من خلال النقاش الذي ناقش فيه ابن كثير هذا الاتجاه في التفسير، نعرف أهمية الاختصاص في العلوم الشرعية، وأن أهل الاختصاص في كل علم هم أدقّ الناس نظرا فيه، فالمفسر، والفقيه، وعالم الحديث، وعالم التوحيد، وعالم الأخلاق، لكل من هؤلاء في اختصاصه نظرات تفوق نظر غير المختص. فالذين يريدون أن يلغوا كل شئ فلا فقه، ولا مذاهب، ولا علم توحيد، ولا علم سلوك، ولا ولا بدعوى العودة إلى الكتاب والسنة، أمثال هؤلاء تروج دعواهم، حيث لا علم، فإنه ما من أحد من أصحاب الاختصاصات الشرعية تكلم في اختصاصه إلا ضمن الكتاب والسنة، وضمن أدق معايير الفهم للكتاب والسنة. 3 - في هذه المجموعة تدليل على وجود الله عزّ وجل من خلال ظاهرة الحياة، كما أن فيها تدليلا على اليوم الآخر من خلال التعريف على الله وصفاته، فمن عرف علم الله وقدرته على الخلق، والإعادة، وحكمته، أدرك أن اليوم الآخر من حيث الإمكان ممكن، ومن حيث ضرورة تحقيق العدل فهو ضروري. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الثالثة بالمجموعة الثانية وبمحور السورة] تأتي المجموعة التي مرّت معنا مكمّلة للمجموعة السابقة عليها، من حيث إقامتها الحجة على الكافرين، وهذا هو محلها بالنسبة لسياق سورة الحجر، وهذا الذي يربطها بشكل مباشر بمحورها من مقدمة سورة البقرة. ولكن المجموعة، مع هذا، تفصّل في امتدادات المحور من سورة البقرة، فلنتذكر بعض ما مرّ معنا من قبل: بعد مقدمة سورة البقرة التي ذكرت المتقين والكافرين والمنافقين جاء قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ثم بعد آيات جاءت آيتان تقيمان الحجة على الكافرين بظاهرتي الحياة والعناية: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ولقد جاءت المجموعة التي مرّت معنا تتحدث عما تحدثت عنه الآية الأولى من هاتين الآيتين، فتحدثت عن الإحياء والإماتة، والرجوع إلى الله، فإذا ما عرفنا أنه بعد آيتي البقرة تأتي قصة آدم، وأنه بعد هذه المجموعة من سورة الحجر تأتي قصة آدم، أدركنا الدور الذي تؤديه سورة الحجر، إنها

المجموعة الرابعة وتمتد من الآية (26) حتى نهاية الآية (48) وهذه هي

تذكّر بالمعاني الرئيسية في سورة البقرة التي أوصلت إلى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً إنها تذكر بالمعاني نفسها، لتوصل إلى المعاني التي وردت في السور الأربع اللاحقة، التي تفصّل في الدوافع والصوارف التي تؤثر في حمل الإسلام كله. من هذا ندرك أن لسورة الحجر سياقها الخاص وأنها مرتبطة ارتباطا مباشرا بمحورها من سورة البقرة. وأنها تفصّل. في امتدادات هذا المحور على ترتيب وروده في سورة البقرة. وأنّها تأخذ محلها ضمن قسمها (قسم المئين) وأنها تؤدي دورا خاصا ضمن مجموعتها في قسم المئين. وهذا بعض ما في القرآن من إعجاز، وبعض ما في سورة الحجر من معجزات. المجموعة الرابعة وتمتدّ من الآية (26) حتى نهاية الآية (48) وهذه هي: 15/ 35 - 26

نقول

15/ 48 - 36 نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال حول مناسبة ورود قصة آدم عليه السلام في سورة الحجر] قال صاحب الظلال بمناسبة ورود قصة آدم عليه السلام في سورة الحجر: (ولقد مرت بنا هذه القصة معروضة مرتين من قبل. في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف. ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص، في معرض خاص، في جو خاص. ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع، واختلفت طريقة الأداء، واختلفت الظلال، واختلف الإيقاع. مع المشاركة في بعض المقدمات والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف. تشابهت مقدمات القصة في السور الثلاث؛ في الإشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه فيها: ففي سورة البقرة سبقها في السياق: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وفي سورة الأعراف سبقها: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. وهنا سبقها: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ

مَوْزُونٍ* وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. ولكن السياق الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض .. في البقرة كانت نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق الله للناس ما فيها جميعا: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت له الملائكة لما خفي عليهم سره: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ؟. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره. وسكنى آدم وزوجه الجنة. وإزلال الشيطان لهما عنها وإخراجهما منها. ثم الهبوط إلى الأرض للخلافة فيها، بعد تزويده بهذه التجربة واستغفارهما وتوبة الله عليهما .. وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده معهم، فكان هذا متصلا باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض، وعهده معه والتجربة لأبي البشر. وفي الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها، وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها. حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولى. ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه. وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود .. ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره. وطلبه من الله أن ينظره إلى يوم البعث، ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد. ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلون من ثمرها إلا شجرة واحدة، هي المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة. ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما، وعتاب الله لآدم وزوجه، وإهباطهم إلى الأرض جميعا للعمل في أرض المعركة الكبرى: قالَ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* قالَ: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ... ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود الجميع كرة أخرى. وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار. ثم انتهى فريق إلى الجنة وفريق إلى النار: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ

2 - كلام صاحب الظلال حول قوله تعالى ونفخت فيه من روحي

الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وأسدل الستار. فأما هنا في هذه السورة فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم، وسر الهدى والضلال، وعواملهما الأصيلة في كيان الإنسان .. ومن ثم نصّ ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون ونفخه فيه من روحه. وخلق الشيطان من قبل من نار السموم. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافا من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون. وطرده ولعنته. وطلبه الإنظار إلى يوم البعث وإجابته. وزاد أن إبليس قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين. إنما سلطانه على من يدينون له ولا يدينون لله. وانتهى بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل. تبعا لنقطة التركيز في السياق. وقد استوفت بيان عنصري الإنسان، وبيان سلطة الشيطان.) 2 - [كلام صاحب الظلال حول قوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي] وبمناسبة قوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال صاحب الظلال: (وقد كان ما قاله الله. فقوله تعالى إرادة. وتوجه الإرادة ينشئ الخلق المراد. ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني. فالجدل على هذا النحو عبث عقلي. بل عبث بالعقل ذاته، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم. وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحام له في غير ميدانه، ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية، وخطأ في المنهج من الأساس ... بينما العقل الإنساني ليس مدعوا أصلا للفصل في الموضوع. لأن الله يقول: إن هذا قد كان. ولا يقول: كيف كان. فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه. وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده- غير التسليم بالنص- لأنه لا يملك وسائل الحكم. فهو حادث والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته. ولا على الأزلي في خلقه للحادث وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية- وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة. يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي أصله وهو آدم عليه السلام مِنْ صَلْصالٍ أي من طين يابس غير مطبوخ مِنْ حَمَإٍ أي من طين أسود متغير مَسْنُونٍ أي مصور. فالإنسان خلق من طين أسود مصور قد يبس. قال النسفي: وفي الأول كان ترابا، فعجن بالماء طينا، فمكث فصار حمأ، فخلص فصار سلالة، فصوّر ويبس فصار صلصالا .... وَالْجَانَّ أي أبا الجن، كآدم للناس خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ أي من نار الحر الشديد النافذ في المسام وَإِذْ أي واذكر إذ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ في إعلام الملائكة ماذا سيخلق تشريف للملائكة، وتعليم لخلقه أن يعلموا بفعلهم من يستأهل الإعلام فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي أتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي وجعلت فيه الروح وأحييته، وإضافة الروح إلى ذاته تشريف لها كقولنا بيت الله فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي اسقطوا على الأرض ساجدين أي اسجدوا له فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي امتنع واستكبر أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ وهل إبليس من الملائكة أو لا؟ قولان للعلماء ومذهب الحسن أنه ليس من الملائكة قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ في أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي: أيّ غرض لك في إبائك السجود قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي لا يصح مني أن أسجد لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ رفض أمر الله بعلة باطلة، وهكذا شأن كل رافض لأمر الله قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من السماء أو من الجنة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي: مرجوم مطرود من رحمة الله أي ملعون وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أتبعه الله لعنة لا تزال متصلة به، لا حقة له، متوافرة عليه إلى يوم القيامة. قال النسفي: «ضرب يوم الدين حدا للعنة لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم، والمراد به إنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه» قالَ رَبِّ فهو إذن معترف بالربوبية لله، معترف بوجود الله، فليس كل من اعترف بوجود الله وربوبيته مؤمنا مسلما ناجيا فَأَنْظِرْنِي أي فأخرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت لأنه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك وانظر إلى آخر أيام

[سورة الحجر (15): الآيات 37 إلى 38]

التكليف، ومن ثم كان الجواب قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي يوم القيامة وكلامه يدل على أنه كان عالما أن هناك ساعة وبعثا، فهو مؤمن في الظاهر بالله واليوم الآخر، ومع ذلك حكم الله بكفره لأنه اعترض على حكم الله قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي فبإغوائك إياي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أي المعاصي فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا، وقد علم الخبيث أن بني آدم مقرهم الأرض من قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أي ولأضلنهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ استثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلونه منه، وهكذا أقسم الخبيث أن يحبب لأبناء آدم المعاصي، ويرغّبهم فيها، ويزعجهم إليها إزعاجا قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي هذا طريق حق عليّ أن أراعيه وهو ألا يكون لك سلطان على عبادي إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أي لموعد الغاوين أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من أتباع إبليس جُزْءٌ مَقْسُومٌ أي نصيب معلوم مقرّر، ثم لما ذكر حال أهل النار عطف عليه ذكر أهل الجنة إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا ما يجب اتقاؤه مما نهوا عنه فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها أي يقال لهم ادخلوها بِسَلامٍ أي سالمين أو مسلما عليكم، تسلم عليكم الملائكة، آمِنِينَ أي من الخروج منها والآفات فيها، آمنين من كل خوف وفزع، لا إخراج ولا انقطاع ولا فناء وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ الغل: هو الحقد الكامن في القلب، أي إن كان لأحدهم غل في الدنيا على آخر نزع الله ذلك في الجنة وطيّب قلوبهم، ويدخل في ذلك تطهير قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة، نزع من القلوب الغل وألقى فيها التوادّ والتحابّ، فالمتحابون في الله في الدنيا لهم من أخلاق أهل الجنة ونعيمها نصيب إِخْواناً دل ذلك على أن الأخوة والغل متنافيان، فليحرص المسلم أن يطهّر قلبه من الغل في علاقته مع المؤمنين عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي ينظر بعضهم إلى بعض لا يَمَسُّهُمْ فِيها أي في الجنة نَصَبٌ أي تعب وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ وهذا من تمام النعمة، وأي نعمة أعظم من الخلود في النعيم. [نقل: لصاحب الظلال حول غواية الشيطان لبني آدم] قال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.

فوائد

وبذلك حدّد إبليس ساحة المعركة. إنها الأرض: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وحدد عدّته فيها إنه التزيين. تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه. وهكذا لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمّله، وتظهره في غير حقيقته وردائه فليفطن الناس إلى عدة الشيطان؛ وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء. ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك. إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته، فليس للشيطان- بشرطه هو- على عباد الله المخلصين من سبيل وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله، ويجردها له وحده ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان. هذا الشرط الذي قرره إبليس- اللعين- قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سنة الله، أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه وأن يحميه ويرعاه. ومن ثم كان الجواب هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ هذا صراط. هذا ناموس. هذه سنة. وهي السنة التي ارتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال. إِنَّ عِبادِي المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم، لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة وهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله، إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين. فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءا من عباد الله المخلصين. إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فأما من يخلصون أنفسهم لله. فالله لا يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع، ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب. فوائد: 1 - [حديث بمناسبة ذكر خلق آدم والجان في المجموعة الرابعة] بمناسبة ذكر خلق آدم والجان في هذه المجموعة نذكر الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأحمد عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم». 2 - [سلاح الشيطان التزيين والإغواء وكيف يتغلب عليه المخلصون] من قوله تعالى: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ

3 - سلاح ابن آدم ضد الشيطان هو الاستعاذة بالله

لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ نعلم أن سلاح الشيطان التزيين والإغواء: تزيين الشهوات، تزيين المعاصي، تزيين الدنيا، تزيين المنكر، تزيين الحال السيئ. الإغواء عن الحق، الإغواء عن صراط الله، الإغواء عن السنن. ومن تتمة الآيات نعلم أن عباد الله المخلصين ليس للشيطان عليهم سلطان، وعباد الله وردت صفاتهم في أكثر من مكان في القرآن كقوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً (الفرقان: 63) وقد فصّلنا ذلك في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) فليراجع. وأما المخلصون: فهم من اجتمع لهم العلم والعمل والإخلاص فأخلصوا. قال الحسن البصري: (الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم). فإذا كان المخلصون على خطر عظيم، فمن هم مظنة النجاة؟. الجواب: المخلصون. والطريق إلى التحقق بصفة المخلصين هو الإكثار من تذكر الدار الآخرة. قال تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. (ص: 45 - 46) فبقدر ما يتذكر إنسان الآخرة يقرب من هذا المقام. 3 - [سلاح ابن آدم ضد الشيطان هو الاستعاذة بالله] ذكر ابن كثير عند قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ كلاما رواه ابن جرير عن يزيد بن قسيط ولم يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلاصته: أن ابن آدم يغلب الشيطان بالاستعاذة منه بالله، وأن الشيطان يغلب ابن آدم عند الغضب والهوى وهي معان صحيحة، فلنحذر من الغضب والهوى، ولنكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان. 4 - [حول أبواب جهنم السبعة وأتباع إبليس] بمناسبة قوله تعالى عن النار: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قال ابن كثير: «أي: قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه- أجارنا الله منها- وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بقدر عمله). أقول: وتفصيلات هذا الموضوع لم نطالب بعلمها. وما نقلناه هنا من أقوال إنما نقلناه لمجرد استكمال التصورات عن اليوم الآخر من خلال ما ورد من أقوال السلف، ولا يلزمنا في هذا الباب إلا ما ورد في كتاب ربنا وما ثبت عن رسولنا عليه الصلاة

5 - كلام ابن كثير عند الآية ونزعنا ما في صدورهم من غل ...

والسلام. 5 - [كلام ابن كثير عند الآية وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ... ] عند قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ* لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ قال ابن كثير: (وقد روى سعيد في تفسير: حدثنا ابن فضالة عن لقمان عن أبي أمامة قال: لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري. وهذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة» وقال ابن جرير حدثنا الحسن حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام عن محمد- هو ابن سيرين- قال استأذن الأشتر على علي رضي الله عنه وعنده ابن طلحة فحبسه ثم أذن له، فلما دخل قال: إني لأراك إنما حبستني لهذا؟ قال: أجل، قال: إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني قال: أجل، إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وقال ابن جرير أيضا: حدثنا الحسن بن محمد حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا أبو مالك الأشجعي، حدثنا أبو حبيبة (مولى لطلحة) قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. [تعليق: للمؤلف حول موضوع (الغلّ) في الآية وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ .. ] ولنا تعليق على موضوع (الغل) نقول: إن الشيطان قد يحرّش بين المؤمنين، فيقع بينهم ما يقع، فإذا دخلوا في طور سيئ جرهم ذلك إلى ما هو أسوأ، وهكذا، فإذا كانت لهم نية صالحة في قضية يحتملها الاجتهاد فإنه يرجى للجميع النجاة، ولكن بعد وقفة، أفلا تكفي هذه الوقفة كي يبتعد الإنسان عن كل موطن يؤدي إلى أن يكون في قلبه غل على إخوانه، أو أن يكون سببا في إيجاد غل في قلب غيره عليه. كلمة في السياق: [حول مدى الترابط بين المجموعات الأربعة السابقة وصلة المجموعة الرابعة بالمحور] 1 - لهذه المجموعة صلة بما قبلها من حيثيات متعددة، فقد ذكر فيها خلق

الإنسان، بعد أن ذكر فيما قبلها خلق الحياة والأشياء، وإذا كانت المجموعة الأولى في السورة قد تحدثت عن الكافرين، فإن في المجموعات الثانية والثالثة والرابعة إقامة حجة على الكفر والكافرين. 2 - إن المجموعة التي مرّت معنا عللت لظاهرتي الهداية والضلال بما يعرف معه سبب الكفر الذي حدثتنا عنه المجموعة الأولى كما رسمت طريق الاهتداء. 3 - إن مجئ قصّة آدم عليه السلام في سورة الحجر يشبه مجئ قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة، من حيث إن المعاني التي سبقت قصة آدم عليه السلام هنا قد جاء شبهها في قصة آدم هناك، كما أن الخاتمتين متشابهتان في أن كلّا منهما تحدثت عن الناجين والهالكين، لكن في القصة هنا معان هي محل التركيز في سياق سورة الحجر. 4 - رأينا أن المحور الأساسي لسورة الحجر هو مقدمة سورة البقرة، وخاصة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ والملاحظ أن سورة الحجر بعد أن وصفت الكافرين وأقامت عليهم الحجة تأتي مجموعة فيها لتقول: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ إن هناك ناسا يستبعدون أن يعذّب الله أحدا لجهلهم بجلال الله، ولذلك تأتي المجموعة اللاحقة من السورة لتصحح مفاهيم هؤلاء. 5 - جاء الأمر الأول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السورة في قوله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهو أمر للنذير أن يعرض عن الكافرين لعدم فائدة الإنذار في حقهم، وفي المجموعة اللاحقة يأتي أمران جديدان للنذير: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ* وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. فهناك أمر بالإخبار عن رحمة الله ونعمته، وهناك أمر بالإخبار عن ضيوف إبراهيم الآتين بالبشارة لإبراهيم وبالعذاب لقوم لوط، وهذا يفيد أن على النذير أن يبين لعباد الله ما يعرفون به الله، وذلك ينفع هؤلاء وتقوم به الحجة على أولئك فلنر المجموعة الخامسة.

المجموعة الخامسة وتمتد من الآية (49) إلى نهاية الآية (84) وهذه هي

المجموعة الخامسة وتمتدّ من الآية (49) إلى نهاية الآية (84) وهذه هي: 15/ 84 - 49

نقل: لصاحب الظلال تعليقا على ورود القصص في سياق المجموعة

نقل: [لصاحب الظلال تعليقا على ورود القصص في سياق المجموعة] قال صاحب الظلال تعليقا على ورود القصص في هذا السياق: (هذا القصص يساق بعد مقدمة: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ فيجئ بعضه مصدقا لنبأ الرحمة، ويجئ بعضه مصدقا لنبأ العذاب .. كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة فيصدق ما جاء فيها من نذير: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ* وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ* ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ. فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر، حل بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل .. وكذلك يصدق هذا القصص ما جاء في مطالع السورة في شأن الملائكة حين يرسلون: قالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ* لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ. فتبدو السورة وحدة متناسقة، يظاهر بعضها بعضا .. وذلك مع ما هو معلوم من أن السور لم تكن تنزل جملة إلا نادرا، وأن الآيات الواردة فيها لم تكن تنزل متتالية تواليها في

التفسير

المصحف. ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي، فلا بد من حكمة في ترتيبها على هذا النسق. التفسير: لما أتم الله عزّ وجل ذكر الوعد والوعيد في نهاية قصة آدم عليه السلام أتبعه بقوله: نَبِّئْ عِبادِي أي أخبر عبادي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي أني ذو مغفرة وذو رحمة وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ أي وأني ذو عذاب أليم، وقد جاء هذا عقب ما تقدم من الوعد والوعيد في نهاية قصة آدم تقريرا لما ذكر، وتمكينا له في النفوس، وعباده هم الذين مرّ ذكرهم بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وهكذا اتضح كيف يكون الموقف من الكافرين ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ لأنهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أما عباد الله فهؤلاء يربون على مقامي: الخوف والرجاء، وعلى معرفة سنن الله ومن ثم وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ أي وأخبر أمتك عن أضياف إبراهيم، لأن هذا الإخبار يدلهم على سنة الله في أوليائه، وعلى سنته في أعدائه في الدنيا بعد أن عرفوا من قصة آدم عليه السلام ونهايتها سنته في أوليائه وأعدائه في الآخرة، كما أن في هذا الإخبار تعريفا لهم على سنته في إنزال الملائكة الذي اقترحه الكافرون في أول السورة، فهو ينزلهم إما لتكريم رسول أو لتعذيب المكذبين، وفي المجموعة تذكير وتدليل على أنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، كما أن في هذا الإخبار إعجازا إذ يتحدث عن دقائق ما كانت لتذكر لولا أن هذا القرآن من عند الله إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على إبراهيم فَقالُوا سَلاماً أي نسلم سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون، وقد ذكر في مكان آخر رده للسلام وتقديمه للطعام وسبب خوفه منهم وذلك عند ما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة قالُوا لا تَوْجَلْ أي لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي إسحاق، والمعنى إنك مبشّر آمن فلا توجل قالَ متعجبا من أن يكون ذلك مع كبره وكبر زوجته ومتحققا للوعد أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي أبشرتموني مع مس الكبر بأن يولد لي؟ أي إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر فبأي أعجوبة تبشرونني، وفهمنا كلمة الأعجوبة من ما الاستفهامية بقوله فَبِمَ فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقا وبشارة بعد بشارة قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي باليقين الذي لا لبس فيه فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي من الآيسين من ذلك، فأجابهم

[سورة الحجر (15): آية 56]

بأنه ليس يقنط فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي إلا المخطئون طريق الصواب، أي لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها، ثم شرع يسألهم عما جاءوا له قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي أيها الملائكة المرسلون من الله قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي قوم لوط إِلَّا آلَ لُوطٍ أي إلا أهله المؤمنين إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها ليست من المؤمنين قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي المهلكين في العذاب وإنما قالوا قدرنا، والمقدر الله لقربهم من الله، وتكليفهم منه بذلك فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه سرورك، وتشفّيك من أعدائك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون فيه، أي يشكون ويكذبونك وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي باليقين من عذابهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي في الإخبار بنزوله بهم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي في آخر الليل، أو بعد ما يمضي شئ صالح من الليل وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وسر خلفهم وامش وراءهم يكون أحفظ لهم ولتكون مطّلعا عليهم وعلى أحوالهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما حلّ بهم من العذاب والنكال، والحكمة في ذلك لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقّوا لهم في موضع لا تجوز فيه الرقة، أو جعل النهي عن الالتفات من أجل مواصلة السير وترك التواني والتوقف، لأن من يلتفت لا بد له من أدنى وقفة وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي حيث أمركم الله بالمضي إليه. وتدعي التوراة الحالية المحرّفة أن المكان الذي ذهب إليه هو صوغر- بلد قريبة من سدوم- وعمورة قريتي قومه اللتين عذبتا وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أي وأوحينا إليه وحيا مبتوتا مقضيا ذلِكَ الْأَمْرَ وهو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح ودابرهم آخرهم أي يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ تذكر التوراة الحالية أن سكن لوط كان في سدوم، وأن مجئ الملائكة إليها وأن رجالها جميعا جاءوا إلى لوط يَسْتَبْشِرُونَ أي فرحين بالملائكة طمعا منهم في ركوب الفاحشة قالَ أي لوط إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ أي بفضيحة ضيفي، لأن من أساء إلى ضيفي فقد أساء إليّ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي ولا تذلوني وتهينوني بإذلال ضيفي وإهانته. قال ابن كثير: وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في سورة

[سورة الحجر (15): آية 70]

هود، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله، وعطف بذكر مجئ قومه ومحاجته لهم، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيّما إذا دلّ دليل على خلافه». قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي: أو ما نهيناك أن تضيف أحدا، أو أوما نهيناك عن أن تجير أحدا أو تدفع عنه، فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة قالَ هؤُلاءِ بَناتِي أي أزواجكم فالنّبي أب لقومه، أو أنه عرض عليهم أن يزوجهم بناته، وكان نكاح المؤمنات من الكفار جائزا إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم تريدون قضاء الشهوة، فلتكن فيما أحلّ الله دون ما حرّم، هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا سيصبحهم من العذاب المستقر- نعوذ بالله من الغفلة- ولهذا قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي في غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه، والصواب الذي يدعون إليه يَعْمَهُونَ أي يتحيرون ويترددون فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وهي ما جاءهم من الصوت القاصف مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. قال ابن كثير: وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم، وقد تقدم الكلام عن السجيل في سورة هود بما فيه كفاية فَجَعَلْنا عالِيَها أي عالي قرى قوم لوط سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي حجارة من طين مستحجرة قوية شديدة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين المتأملين، وسمي المتفرس المتأمل متوسما لأنه كأنه يعرف باطن الشئ بسمة ظاهرة، والمعنى: إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسّمه بعين بصره وبصيرته فيه معجزات كثيرة وَإِنَّها أي هذه القرى يعني آثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد وهم يبصرون تلك الآثار، قال ابن كثير: «أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع مسالكه مستمرة إلى اليوم» أي من أراد التوسم فإنه ميسر له إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ هي للمتوسمين آيات وللمؤمنين آية، والمعنى: إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله. وحتى لا يفهم فاهم أن هذه حادثة مفردة وليست سنة مطردة. قال تعالى: وَإِنْ كانَ أي وإنه كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي قوم شعيب،

[سورة الحجر (15): آية 79]

والأيكة: الشجر الملتف لَظالِمِينَ بشركهم بالله، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة وَإِنَّهُما أي قرى قوم لوط، وقرية شعيب. قال ابن كثير: وقد كانوا قريبا من قوم لوط، بعدهم في الزمان ومسامتين لهم بالمكان، ولهذا قال: وإنهما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح مسلوك مطروق، وقد مرّ معنا في سورة الأعراف تحقيق مكان قوم شعيب وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود، والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام، وآثارهم لا زالت قائمة مدهشة الْمُرْسَلِينَ كذبوا صالحا نبيهم عليه السلام، ومن كذّب برسول فقد كذّب بجميع المرسلين وَآتَيْناهُمْ آياتِنا كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. وفي ذلك آيات تدل على صدق صالح عليه السلام فَكانُوا عَنْها أي عن الآيات مُعْرِضِينَ أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أي ينقبون في الجبال بيوتا آمن، لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تنهدم، ومن نقب اللصوص، أو كانوا ينحتونها من غير خوف ولا احتياج إليها، بل أشرا وبطرا وعبثا، أو آمنين من عذاب الله يحسبون أن الجبال تحميهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي بالعذاب مُصْبِحِينَ أي وقت الصباح من اليوم الرابع من قول صالح لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة، واقتناء الأموال النفيسة، وما كانوا يستقبلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنّوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيّق عليهم في المياه. فسنة الله إذن جارية في إهلاك من كذّب رسله، ولكن لكل شئ أجل عنده، وقد ذكرنا في مقدمة تفسير هذه المجموعة صلتها بما قبلها، ولنذكر هنا صلة هذه المجموعة بالمجموعة الأولى من السورة. في أول السورة نجد ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ثم وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ* ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ وهذه المجموعة التي مرّت معنا فيها تمثيل على هذا الإهلاك التمتع والأمل. وكنا قد ذكرنا إلى ما يشير إلى عمق الصلة بين أواسط السورة وبدايتها ونهايتها، وكل ذلك ضمن محور السورة، وبما يحقق كون السورة مرتبطة بما بعدها من السور، ولعلّ

نقول من الظلال

هذا مظهر من مظاهر ما أشارت إليه الآية الأولى في السورة من كون هذه السورة فيها من معجزات هذا القرآن. نقول من الظلال: 1 - [تعليق على قصتي إبراهيم ولوط عليهما السلام في السورة] قال صاحب الظلال تعليقا على قصتي إبراهيم ولوط في سورة الحجر: (وقد وردت هذه الحلقة من قصة إبراهيم وقصة لوط عليه السلام في مواضع متعددة بأشكال متنوعة، تناسب السياق الذي وردت فيه. ووردت قصة لوط وحده في مواضع أخرى. وقد مرّت بنا حلقة من قصة لوط في الأعراف، وحلقة من قصة إبراهيم ولوط في هود .. فأما في الأولى فقد تضمنت استنكار لوط لما يأتيه قومه من الفاحشة، وجواب قومه: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ وإنجاءه هو وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وذلك دون ذكر لمجئ الملائكة إليه وائتمار قومه بهم. وأما في الثانية فقد جاءت قصة الملائكة مع إبراهيم ولوط مع اختلاف في طريقة العرض. فهناك تفصيل في الجزء الخاص بإبراهيم وتبشيره وامرأته قائمة. وجداله مع الملائكة عن لوط وقومه. وهو ما لم يذكر هنا. وكذلك يختلف ترتيب الحوادث في القسم الخاص بلوط في السورتين .. ففي سورة هود لم يكشف عن طبيعة الملائكة إلا بعد أن جاءه قومه يهرعون إليه وهو يرجوهم في ضيفه فلا يقبلون رجاءه، حتى ضاق بهم ذرعا وقال قولته الأسيفة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ. وأما هنا فقدم الكشف عن طبيعة الملائكة منذ اللحظة الأولى، وآخرها حكاية القوم وائتمارهم بضيف لوط. لأن المقصود هنا ليس هو القصة بترتيبها الذي وقعت به، ولكن تصديق النذير، وأن الملائكة حين ينزلون فإن القوم لا ينظرون ولا يمهلون). 2 - [كلام حول الآية وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ: (والتعبير على هذا النحو يكشف عن مدى الشناعة والبشاعة الذي وصل إليه القوم في الدنس والفجور في الفاحشة الشاذة المريضة. يكشف عن هذا المدى في مشهد أهل المدينة يجيئون جماعة، يستبشرون بالعثور على شبان يعتدون عليهم جهرة وعلانية. هذه العلانية الفاضحة في طلب هذا المنكر- فوق المنكر ذاته- شئ بشع لا يكاد الخيال يتصور وقوعه لولا أنه وقع. فقد يشذ فرد مريض فيتوارى بشذوذه، ويتخفى بمرضه،

3 - كلام حول الآية فأخذتهم الصيحة مشرقين والتي تليها

ويحاول الحصول على لذته المستقذرة في الخفاء وهو يخجل أن يطلع عليه الناس. وإن الفطرة السليمة لتتخفى بهذه اللذة حين تكون طبيعية. بل حين تكون شرعية. وبعض أنواع الحيوان يتخفى بها كذلك. بينما أولئك القوم المنحوسون يجاهرون بها ويتجمهرون لتحصيلها، ويستبشرون جماعات وهم يتلمظون عليها! إنها حالة من الارتكاس معدومة النظير). 3 - [كلام حول الآية فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ والتي تليها] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ: (وقد خسف بقرى لوط بظاهرة تشبه ظاهرة الزلازل أو البراكين وتصاحبها أحيانا ظاهرة الخسف وتناثر أحجار ملوثة بالطين وهبوط مدن بكاملها تسيح في الأرض. ويقال: إن بحيرة لوط الحالية وجدت بعد هذا الحادث. بعد انقلاب عمورة وسدوم في باطن الأرض، وهبوط مكانها وامتلائه بالماء. وقرى لوط في طريق مطروق بين الحجاز والشام يمر عليها الناس. وفيها عظات لمن يتفرس ويتأمل، ويجد العبرة في مصارع الغابرين. وإن كانت الآيات لا تنفع إلا القلوب المؤمنة المتفتحة المستعدة للتلقي والتدبر واليقين: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) 4 - [تعليق على ورود قصتي قومي شعيب وصالح في السورة] وعلّق صاحب الظلال على ورود قصتي قوم شعيب وقوم صالح في سورة الحجر فقال: وقد فصّل القرآن قصة شعيب مع قومه: أهل مدين وأصحاب الأيكة في مواضع أخرى. فأما هنا فيشير إشارة إلى ظلمهم وإلى مصرعهم تصديقا لنبأ العذاب في هذا الشوط، ولإهلاك القرى بعد انقضاء الأجل المعلوم الوارد في مطالع السورة. ومدين والأيكة كانتا بالقرب من قرى لوط. والإشارة الواردة هنا وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ قد تعني مدين والأيكة، فهما في طريق واضح غير مندثر، وقد تعني قرية لوط السالفة الذكر، وقرية شعيب، جمعهما لأنهما في طريق واحد بين الحجاز والشام، ووقوع القرى الدائرة على الطريق المطروق أدعى إلى العبرة، فهي شاهد حاضر يراه الرائح والغادي. والحياة تجري من حولها وهي دائرة كأن لم تكن يوما عامرة. والحياة لا تحفلها وهي ماضية في الطريق.

الفوائد

أما أصحاب الحجر فهم قوم صالح، والحجر تقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وهي ظاهرة إلى اليوم. فقد نحتوها في الصخر في ذلك الزمان البعيد، مما يدل على القوة والأيد والحضارة .... ). ثم علّق على قوله تعالى: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فقال: (وهذه اللمحة الخاطفة من الأمن في البيوت الحصينة في صلب الجبال، إلى الصيحة التي تأخذهم فلا تبقي لهم مما جمعوا ومما كسبوا ومما بنوا ومما نحتوا .. شيئا يغني عنهم ويدفع الهلاك الخاطف. هذه اللمحة تلمس القلب البشري لمسة عنيفة. فما يأمن قوم على أنفسهم أكثر مما يأمن قوم بيوتهم منحوتة في صلب الصخور. وما يبلغ الاطمئنان بالناس في وقت أشد من اطمئنانهم في وقت الصباح المشرق الوديع .. وهاهم أولاء قوم صالح تأخذهم الصيحة مصبحين وهم في ديارهم الحصينة آمنون. فإذا كل شئ ذاهب، وإذا كل وقاية ضائعة، وإذا كل حصين موهون. فما شئ من هذا كله بواقيهم من الصيحة. وهي فرقعة ريح أو صاعقة، تلحقهم فتهلكهم في جوف الصخر المتين). الفوائد: 1 - [سبب نزول الآية نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ... ] بمناسبة قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .. قال ابن كثير: وذكر في نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناس من أصحابه يضحكون فقال: «اذكروا الجنة واذكروا النار». فنزلت: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ... رواه ابن أبي حاتم وهو مرسل. وروى ابن جرير بسنده عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: طلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: «ألا أراكم تضحكون». ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: «إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط عبادي نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .... 2 - [سنة الأنبياء مع أصحابهم في الحرب] وبمناسبة حكايته تعالى ما أمر به لوط يوم أمر بالخروج: وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ لفت النظر ابن كثير أن رسولنا عليه الصلاة والسلام كان يفعل هكذا يقدم أصحابه أمامه قال ابن كثير: «وهكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي في الغزو إنما يكون ساقة يزجي

3 - بعض الأحاديث حول فراسة المؤمن

الضعيف ويحمل المنقطع (¬1)». أقول: بل سنته الدائمة عليه الصلاة والسلام ذلك أنه كان يقدم أصحابه أمامه ويقول: «خلوا ظهري للملائكة») 3 - [بعض الأحاديث حول فراسة المؤمن] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ نقل ابن كثير بعض الأحاديث عن فراسة المؤمن قال: وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي سعيد مرفوعا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وروى ابن جرير .. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله». وعن ابن جرير أيضا .. عن ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله». وروى ابن جرير أيضا .. عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم». ورواه الحافظ أبو بكر البزار ... 4 - [حول شرف قسم الله تعالى بحياة محمد صلّى الله عليه وسلّم في الآية لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ .. ] وعند قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال ابن كثير: «أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال عمرو بن مالك النّكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلّى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يقول وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ رواه ابن جرير. وقال قتادة: في سكرتهم أي: في ضلالهم يَعْمَهُونَ أي يلعبون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لَعَمْرُكَ لعيشك إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون). ¬

_ (¬1) يزجي الضعيف: أي يسوقه حتى يلحق بالركب. والمنقطع: هو المنفرد.

المجموعة السادسة وتمتد من الآية (85) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (99) وهذه هي

المجموعة السادسة وتمتدّ من الآية (85) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (99) وهذه هي: 15/ 99 - 85 التفسير: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا ملتبسا بالحق، لا باطلا وعبثا، أو إلا بسبب العدل والإنصاف اللذين سيكتملان يوم الجزاء

[سورة الحجر (15): آية 86]

على الأعمال وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي وإن القيامة لآتية، وسميت القيامة ساعة لتوقعها كل ساعة. وذكر مجئ الساعة في هذا المقام فيه إشارة إلى أن الله ينتقم لك فيها من أعدائك أيها الرسول، ويجازيك على حسناتك، ويجازيهم على سيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك، ومن ثم فسوف يعلم هؤلاء الكافرون ومن ثم ذرهم، ومن ثم فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ الخلاق الذي خلق كل شئ، العليم بحالك وحالهم فلا يخفى عليه ما يجري بينكم، وهو يحكم بينكم، وفي هذا تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة؛ فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شئ، العليم بما تمزّق من الأجساد وتفرّق في سائر الأقطار، وفي هذا تثبيت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يطمئن فيذر ويصفح. في أول السورة قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهاهنا قال له فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع آيات وهي الفاتحة مِنَ الْمَثانِي هي من التثنية وهي التكرير لأن الفاتحة مما يتكرر في الصلاة، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أي ما وراء الفاتحة لأن اسم القرآن يقع على البعض كما يقع على الكل، ويحتمل أن يكون ذكر الفاتحة تشريفا. ثم ذكر القرآن كله بما في ذلك الفاتحة، وبناء على هذه النعمة العظيمة لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً أي أصنافا مِنْهُمْ أي من كفارهم الأغنياء، أي لا تتمنّ أموالهم وما متعوا به من النساء وغير ذلك، يعني قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة- وإن عظمت- فهي إليها حقيرة وهي القرآن العظيم، فعليك أن تستغني به، ولا تمدنّ عينيك إلى متاع الدنيا وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي إن لم يؤمنوا حرصا منك على أن يتقوّى بمكانهم الإسلام والمسلمون وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ أي وتواضع لمن معك من المؤمنين فقراء وأغنياء وَقُلْ للناس جميعا إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي بيّن النذارة أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بمن كذّب وتولى، وهكذا تتحدد المواقف من الكافرين: ذَرْهُمْ فَاصْفَحِ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ كما تتحدّد من المؤمنين نَبِّئْ عِبادِي .... وَاخْفِضْ جَناحَكَ ... ولنعد إلى السياق:

[سورة الحجر (15): الآيات 90 إلى 93]

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ* الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فهم هذه الآيات على غاية من الأهمية، لأنها تعرّضت لداء الأمم السابقة مع كتبها، وهو داؤنا اليوم، كما أن فهمها مهم لبناء الأمرين اللاحقين عليها، وللتدليل على أن سورة الحجر مقدمة للسور اللاحقة ضمن السياق القرآني العام. كَما أي مثلما، وأين نعلق هذه الكاف؟ يذهب النسفي إلى أنها متعلقة بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ والمقتسمون كما روى البخاري عن ابن عباس هم أهل الكتاب جزّءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، فصار المعنى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، كما أنزلنا على أهل الكتاب كتبا، فآل أمرهم إلى أن جزّءوا كتبهم واقتسموها، فطبّقوا بعضها وأهملوا بعضا آخر، ولذلك قال الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ أي الكتاب المنزّل عليهم، لأن القرآن كما يطلق على كتابنا يطلق على الزبور والإنجيل والتوراة، وقد رأينا دليل ذلك في سورة الرعد عِضِينَ أي أجزاء آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، عملوا ببعض وتركوا بعضا، بتواطؤ العلماء والزعماء فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أقسم بذاته وربوبيته ليسألن يوم القيامة واحدا واحدا من هؤلاء المقتسمين عما عملوه، مفرطين في شأن كتبهم اعتقادا وعملا فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ من الشرائع كلها والشعائر كلها فاجهر به وأظهره. ولنقف وقفة: [عند قوله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ] عرفنا من الآيات السابقة أن داء الأمم السابقة الكفر ببعض كتبها والإيمان ببعض، وقد أصاب هذا الداء أمتنا قديما وحديثا، ومن ثم وحتى لا تقع هذه الأمة في هذا الداء، أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يجهر بكل ما أنزل إليه، وأن يعرض عن المشركين، فأشعرنا بذلك أنه من الشرك التسليم لبعض الكتاب ورفض بعضه، فإذا اتضح هذا وعرفنا أن السور اللاحقة لسورة الحجر تفصّل في حيز قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا، ندرك أن ذكر هذا المعنى هنا له مغزى خاص فيما له علاقة في السياق القرآني العام. ولنعد إلى السياق: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ يقال صدع بالحجة، إذا تكلّم بها جهارا

[سورة الحجر (15): آية 95]

أي أحدث في الباطل صدعا بالأوامر التي أمرك الله بها كلها وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ استهانة بهم واحتقارا لشأنهم، وقد دلّت الآية في هذا السياق أن داء الأمم السابقة في تفريق الكتب لا يداويه إلا جهر أهل الحق بالحق كله إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين، الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله بالاستهزاء والتحقير، ولا تخفهم؛ فإن الله كافيك إياهم، وحافظك منهم، إن هذه الآية جاءت بعد الأمر بالصدع، فهي وعد من الله عزّ وجل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتطمين وتثبيت بأنه معه إذا بلّغ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم يوم القيامة، دلّ ذلك على أنه لا يستهزئ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا مشرك كافر وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فيك، أو في القرآن، أو في الله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي فافزع فيما نابك إلى الله بالذكر الدائم وكثرة السجود؛ يكفك الله ويكشف عنك الغم وَاعْبُدْ رَبَّكَ أي ودم على عبادة ربك حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت يعني: ما دمت حيا فاشتغل بالعبادة، دلّ ذلك على أن باب العبادة واسع، فكل عمل هو طاعة لله عبادة، حتى المباح إذا رافقته نية صالحة، ومعنى الآيات الثلاثة: وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم ضيق صدر وانقباض فلا يهمنّك ذلك، ولا يثنينّك عن إبلاغك رسالة الله، وقابل ذلك بالتسبيح والسجود، فإن الله يفرج عنك، واستمر على عبادة الله حتى تموت، دلّ ذلك على أن رجل الدعوة إذا لم يقابل الإيذاء بالسجود والتسبيح فإنه لا يستطيع الاحتمال والاستمرار، فالسجود والتسبيح هما زادا رجل الدعوة. ملاحظة: [حول تحديد مكانة سورة الحجر بالنسبة لما بعدها بمدى تشابهها بسورة الأعراف] مما يفيد في تحديد مكانة سورة الحجر بالنسبة لما بعدها أن نشير إلى هذا التشابه بين سورة الحجر وسورة الأعراف. لاحظ خاتمة الأعراف وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ* إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ولاحظ خاتمة سورة الحجر فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. ثم لاحظ تعدد ورود كلمة (لقد) (ولقد) في السورتين بشكل يلفت

كلمة في المجموعة الأخيرة وفي سورة الحجر: حول أفكارها وترابطها وصلتها بالمحور

النظر. ثم لاحظ المعاني: في سورة الأعراف: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ... وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا .... وفي سورة الحجر: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ... وَالْأَرْضَ ... وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ .... وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ .... فسورة الحجر تقوم بدور سورة الأعراف، كما سنرى- في حيثية من الحيثيات. كلمة في المجموعة الأخيرة وفي سورة الحجر: [حول أفكارها وترابطها وصلتها بالمحور] 1 - بدأت سورة الحجر بالكلام عن الكافرين، وأمرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتركهم، ثمّ أقامت عليهم الحجة بخلق الكون والحياة والإنسان، وعلّلت لضلالتهم، وذكرت استحقاقهم العذاب، واستحقاق المتقين النعيم، وعلّلت لذلك، بأن الله شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وذكرت نموذجا دنيويا على رحمته في قصة إبراهيم عليه السلام، وذكرت نماذج دنيوية على تعذيبه في قصة لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر، ثمّ عللت لتعذيبه وإنعامه بأنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، ثمّ هو قد أنزل القرآن، فكيف يترك الناس سدى، وبناء عليه فإن على الرسول النذير أن يعمل، وأن يعلن، وأن يتخذ مواقف، وأن يرد على مواقف، ومن تأمل هذه المعاني كلها رأى السورة على غاية من الوحدة والانسجام، وعلى غاية من الترابط والتسلسل. 2 - يلاحظ أن ما بين بداية السورة وخاتمتها صلات: في بدايتها: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ... وفي نهايتها فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. وفي بدايتها إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وفي نهايتها وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وكما أن هناك تلاحما بين البداية والنهاية فهناك تلاحم ما بين النهاية والواسط: في الواسط وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وفي النهاية وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ فالسورة على غاية من الانسجام في سياقها الخاص. 3 - والسورة تفصّل في مقدمة سورة البقرة، فهي محورها: تفصّل في الفلاح

نقول من الظلال

الذي سيناله أهل التقوى، وتفصّل في أن الله هو منزل القرآن، وتفصّل في ضرورة اتباع القرآن، وتفصّل في أحوال الكافرين، وفيما يستحقون من عذاب في الدنيا والآخرة، وتفصّل فيما ينبغي أن يكون عليه حال النذير من إعراض، أو تبليغ، أو تسبيح، أو سجود، أو عبادة. نقول من الظلال: 1 - [الربط بين الآيتين (85) و (87) من المجموعة الأخيرة في السورة] قال صاحب الظلال رابطا بين قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ... وبين الآية التي جاءت بعدها وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ: والمهم أن وصل هذا النص بآيات خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق والساعة الآتية لا ريب فيها، يشي بالاتصال بين هذا القرآن، والحق الأصيل الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه الساعة. فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق، وهو يكشف سنن الخالق، ويوجه القلوب لإدراكها، ويكشف أسباب الهدى والضلال، ومصير الحق والباطل، والخير والشر، والصلاح والطلاح. فهو من ذلك الحق ومن وسائل كشفه وتبيانه. وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، ثابت ثبوت نواميس الوجود، مرتبط بتلك النواميس. وليس أمرا عارضا ولا ذاهبا. إنما يبقى مؤثرا في توجيه الحياة وتصريفها وتحويلها، مهما يكذب المكذبون، ويستهزئ المستهزءون. ويحاول المبطلون الذين يعتمدون على الباطل وهو عنصر طارئ زائل في هذا الوجود. ومن ثم فإن من أوتي هذه المثاني وهذا القرآن العظيم، المستمد من الحق الأكبر، المتصل بالحق الأكبر .. لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشئ زائل في هذه الأرض من أعراضها الزوائل. ولا يحفل بمصير أهل الضلال، ولا يهمه شأنهم في كثير ولا قليل. إنما يمضي في طريقه مع الحق الأصيل: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. 2 - [حول الآية وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ .. ] وعند قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ قال صاحب الظلال: (وليس المقصود هو أن يقنع المحرومون بحرمانهم ويدعوا المتمتعين لمتاعهم، حين تختل الموازين الاجتماعية وينقسم المجتمع إلى محرومين ظلما ومتمتعين بغيا، فالإسلام الذي يقوم على الحق، ويقرر أن الحق هو قوام هذا الوجود لا يرضى

3 - الربط بين الآيتين (87) و (90) من المجموعة الأخيرة في السورة

الظلم أصلا. إنما هو معنى خاص في هذا السياق. للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول، والمتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل في الطريق إلى توجيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى إهمال القوم المتمتعين، والعناية بالمؤمنين فهؤلاء هم أتباع الحق الذي جاء به والذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما؛ وأولئك هم أتباع الباطل الزائل الطارئ على صميم الوجود). 3 - [الربط بين الآيتين (87) و (90) من المجموعة الأخيرة في السورة] وقد ربط صاحب الظلال بين قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وبين قوله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فقال بمناسبة هذا السياق: لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم .. كما أنزلنا على المقتسمين فلست بدعا من الرسل الذين آتيناهم الكتاب، فأصل الكتاب واحد، ومنزله واحد، وكل الكتب نزلناها نحن، فما يجوز أن ينكر بعضها من أنزلنا عليهم من قبل. فالذي ينزل الكتب هو أعلم بحاجة الناس في كل عصر. وهؤلاء الذين فرقوا القرآن وجعلوه عضين (جمع عضة وهو الجزء، من عضى الشاة أي فصل بين أعضائها) واقتسموه: قسما مقبولا وقسما مردودا .. هؤلاء حالفوا عن مقتضى إعطائهم الكتاب فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وما وراء السؤال معروف. فوائد: 1 - [حول ما قيل في السبع المثاني بمناسبة آية وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي .. ] في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أقوال ذكرنا أرجحها في صلب التفسير، فهناك من ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني: السبع الطول على خلاف في السابعة، هل هي يونس؟ أو الأنفال وبراءة؟ وهناك من ذهب إلى أن السبع المثاني التي تتكرر في القرآن هي الأمر والنهي، والتبشير والإنذار، والأمثال، والنعم، والأخبار، وهناك قول بأنها الفاتحة، وقد ورد في ذلك أكثر من حديث مذكور عند الكلام عن سورة الفاتحة. وبعد أن ذكر ابن كثير حديثين في هذا المقام قال (فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطول بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ من وجه ومتشابه من وجه، وهو القرآن العظيم أيضا. كما أنه عليه الصلاة والسلام لما

2 - الربط بين الآيتين (87) و (88) من المجموعة الأخيرة في السورة

سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فأشار إلى مسجده. والآية نزلت في مسجد قباء فلا تنافي؛ فإن ذكر الشئ لا ينفي ذكر ما عداه، إذا اشتركا في تلك الصفة والله أعلم). 2 - [الربط بين الآيتين (87) و (88) من المجموعة الأخيرة في السورة] الصلة بين قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وبين ما بعدها لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ... واضحة إذا المعنى: استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عماهم فيه من المتاع والزهرة الفانية، ومن هاهنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» إلى أنه يستغني به عما عداه. قال ابن كثير: (وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث). والخطاب وإن توجه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو خطاب لكل فرد من أمته. قال ابن عباس فيها: «نهي الرجل أن يتمنى ما لصاحبه» وفي سبب نزول قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... أخرج ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره ابن كثير عن أبي رافع صاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ضاف النبي صلّى الله عليه وسلّم ضيف ولم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر يصلحه. فأرسل إلى رجل من اليهود: «يقول لك محمد رسول الله أسلفني دقيقا إلى هلال رجب» قال لا إلا برهن. فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال: «أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه». فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا إلى آخر الآية كأنه يعزيه عن الدنيا. 3 - [حديث بمناسبة الآية وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ يذكر ابن كثير الحديث الموجود في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذّبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق». 4 - [حول بعض الاتجاهات في تفسير المقتسمين في آية كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ .. ] رجحنا أثناء التفسير ما رواه البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ* الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ وهو الذي لا يحتمل غيره وذكرنا هناك أن هناك اتجاهات أخرى في تفسير المقتسمين. ومن ذلك تفسير المقتسمين بأنهم الذين تحالفوا

5 - روايات في تفصيل قوله تعالى فو ربك لنسئلنهم أجمعين ..

على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم، ومن ذلك تفسير العضين بالسحر، على لغة قريش، وفي ذلك يذكر ابن إسحاق رواية عن ابن عباس هي بمثابة سبب نزول؛ لأننا رأينا أن ابن عباس في الرواية الصحيحة عنه قد فسر الآيات بما اعتمدنا هناك، وعلى هذا وفي حالة صحة ما نقله ابن إسحاق عن ابن عباس يكون سبب النزول مما يدخل ضمن عموم الآية من باب: خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، أو أن ما ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس كان تأريخا لنزول الآية وليس تفسيرا لها، ويكون بعض ما في كلام ابن إسحاق من كلامه هو لا من كلام ابن عباس، وعلى كل فهذه رواية ابن إسحاق: أخرج ابن إسحاق بسنده الذي ذكره ابن كثير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: وأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم قولوا لأسمع، قالوا: نقول: كاهن؟ قال: ما هو بكاهن، قالوا: فنقول: مجنون؟ قال: ما هو بمجنون، قالوا: فنقول: شاعر؟ قال: ما هو بشاعر، قالوا: فنقول: ساحر؟ قال ما هو بساحر. قالوا: فماذا نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر، فتفرقوا عنه بذلك وأنزل الله فيهم الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ... 5 - [روايات في تفصيل قوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ .. ] وفي تفصيل قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ نذكر هذه الروايات: روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قال: «عن لا إله إلا الله». وقال عبد الله بن مسعود والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر. فيقول: ابن آدم ماذا غرّك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟. 6 - [قول ابن مسعود بمناسبة الآية فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ] قال ابن مسعود: ما زال النبي صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا حتى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فخرج هو وأصحابه.

7 - روايات حول قوله تعالى إنا كفيناك المستهزئين

7 - [روايات حول قوله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] عند قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ذكر ابن كثير ما أخرجه البزار عن يزيد بن درهم عن أنس. قال: سمعت أنسا يقول في هذه الآية إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فغمزه بعضهم فجاء جبريل- قال: أحسبه قال: فغمزهم- فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. كما ذكر ما ذكره ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: كان عظماء المستهزئين خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم: من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن أبي رفعة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه فقال: «اللهم اعم بصره وأثكله ولده». ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومن بني سهم ابن عمر بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سعد، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن ملكان. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاستهزاء أنزل الله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ إلى قوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. 8 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن نعيم بن عمار أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره». ثم ذكر ابن كثير من رواه غير أحمد ثم قال: ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا حزبه أمر صلى». 9 - [حول التفسير الصحيح لقوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وتعليق عليه] هناك اتجاه يتجه إليه بعض كفرة الصوفية في تفسير قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ إذ يفسرون اليقين بمعرفة الله، ويزعمون أنه متى حصّل الإنسان هذه المعرفة سقط عنه التكليف، وابن كثير يركز في هذا المقام على التفسير الصحيح لهذه الآية ثم يرد على هذا الاتجاه وهذا كلامه. (وقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ روى البخاري ... عن سالم قال: الموت. وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر كما روى ابن جرير عن سالم بن عبد الله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت. وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة

كلمة في سورة الحجر وعلاقتها بالسور التي بعدها

وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (المدثر: 43 - 47) وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء- امرأة من الأنصار- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير» ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه ولله الحمد والمنة. والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسئول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها؛ فإنه جواد كريم). أقول: ويظهر أن هذا الاتجاه الذي رده ابن كثير موجود قديما وأصحابه كفار بلا شك، ومن ثم نجد الجنيد يقول عن ناس يتركون الصلاة لأنهم في زعمهم قد وصلوا قال: نعم وصلوا ولكن إلى سقر. ولا زال هذا النوع من الصوفية الكفرة موجودين حتى الآن. وحكم الله فيهم أن يقتلوا أو يتوبوا. كلمة في سورة الحجر وعلاقتها بالسور التي بعدها: تشبه سورة الحجر سورة الأعراف من ناحيتين: 1 - في أسلوبها، وكثير من مضامينها، ومعانيها، وكلماتها.

2 - وفي كون ما بعد سورة الأعراف تفصيل لمعنى ضارب في أعماق سورة البقرة، ونحن عند ما نفتش عن محاور للسور الأربعة بعد الحجر فإننا نراها في الآيات التالية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «هذه محور سورة النحل». سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «هذه محور سورة الإسراء». زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ «هذه محور سورة الكهف». كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «هذه محور سورة مريم». هذه الآيات الأربع جاءت في سياق أمر من أهم الأوامر وهو الدخول في الإسلام كله، وفي سياق نهي هو الانتهاء عن اتباع خطوات الشيطان، ولقد ذكرنا أثناء تفسير سورة البقرة كيف أن كل معنى من معاني هذه الآيات الأربع يخدم هدف هذا الأمر والنهي، ولكن خدمته لهذا الأمر والنهي يحتاج إلى تفصيل شامل، ومن ثم جاءت سور كاملة تفصّل هذه الآيات. ولذلك فإن سورة الحجر من هذه الحيثية تعتبر مقدمة لهذه السور، وهذه السور الخمس بمجموعها تشكل مجموعة مربّية على هذه المعاني القرآنية. ومن ثم نلاحظ ورود قوله تعالى في سورة الحجر: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ وهو معنى له صلة بالدخول في الإسلام كله، ثمّ إن سورة الحجر قد فصّلت قطاعات كثيرة في سورة البقرة هي بمثابة المقدمة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.

بين يدي السور الأربع التالية: (النحل، الإسراء، الكهف، ومريم)

وهكذا فإن سورة الحجر مقدمة للسور الأربع التي تفصّل الآيات الداخلة في حيز هذه الآية وهذا شئ ليس لنا عليه دليل إلا المعاني. بين يدي السور الأربع التالية: [(النحل، الإسراء، الكهف، ومريم)] مرّ معنا من قبل أن كلّ سورة تأتي بعد سورة البقرة لها محورها من سورة البقرة، وأن السورة تفصّل في محورها وفي امتدادات معاني هذا المحور من سورة البقرة، وقد رأينا نماذج كثيرة على ذلك، وقد آن الأوان أن نذكر جديدا في موضوع الوحدة القرآنية. ........... إنك تجد آية من آيات سورة البقرة قد أتت محورا لسورة من السور، كآية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ... فهذه الآية كما رأينا جاءت محورا لسورة إبراهيم عليه السلام، ولو أنك رجعت إلى هذه الآية في سورة البقرة لوجدتها آتية في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ .. لقد رأينا أثناء عرضنا لسورة البقرة أن المقطع الثاني من القسم الثالث يبدأ بهذه الآية وقد جاء في سياقها قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فهذه الآية تخدم سياق مقطعها وقسمها، فهي آتية في حيز معيّن، والملاحظ أن الآية الآتية في حيز ما، عند ما تأتي كمحور لسورة، فإن السورة في هذه الحالة تفصّل بما يخدم تفصيل المحور مراعى في ذلك محل هذا المحور في سياقه، لاحظ كمثال على ذلك أن سورة إبراهيم قد ورد فيها قوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ. فسورة إبراهيم تفصّل محورها الآتي في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ .... يبدأ القسم الثالث من أقسام سورة البقرة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا

فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ثم تأتي بعد ذلك مباشرة أربع آيات تخدم هذا المعنى الذي بدأ به هذا القسم. وسنرى أن السور الأربع الآتية كل منها يفصّل في آية من هذه الآيات فتكون كل منها محورا لسورة من السور الأربع. ولكن كما رأينا فكل آية من هذه الآيات آتية في حيّز الأمر بالدخول في الإسلام كله، وفي حيز النهي عن اتباع خطوات الشيطان، ولذلك فإن كل سورة من السور الأربع تفصّل محورها المرتبط بسياقه من سورة البقرة، فهي تفصّل آيه في الحيّز الذي جاءت فيه، ولذلك فإننا نجد في السور الأربع ما له صلة بتعميق التمسك في الإسلام كله، وبتعميق البعد عن متابعة خطوات الشيطان، زيادة على ما في السور الأربع من تفصيل للآية التي هي محور السورة. وسنرى ذلك واضحا إذا جاءت مناسبته فلنبدأ عرض سورة النحل. ***

سورة النحل

سورة النّحل وهي السّورة الثانية من المجموعة الثانية من قسم المئين وهي السّورة السّادسة عشرة بحسب رسم القرآن وهي مكيّة وهي مائة وثمان وعشرون آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة النحل

قال الألوسي في تقديمه لسورة النّحل: «وتسمى كما أخرجه ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس: لما عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده، وأطلق جمع القول بأنها مكية، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله عنهم، وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحد، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إلى قوله سبحانه: بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة، وبقيتها نزلت بالمدينة، وهي مائة وثمان وعشرون آية، قال الطبرسي وغيره: بلا خلاف، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث، وقيل أربع، وقيل خمس في سائر المصاحف، وتحتوي على المنسوخ، قيل على أربع آيات بإجماع، وعلى آية واحدة على اختلاف فيها، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزءون المكذبون له صلّى الله عليه وسلّم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بقوله عزّ وجل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله. وفي البحر بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه، فإن قوله سبحانه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وانظر كيف جاء في المتقدمة يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع وفي المتأخرة أَتى بلفظ الماضي لأن المستقبل هنا سابق على الماضي كمّا. كلمة في سورة النحل ومحورها: تأتي سورة النحل تفصيلا لقوله تعالى في سورة البقرة: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الآتية في حيز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا

أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإذا كانت آية هَلْ يَنْظُرُونَ .... جاءت معانيها لتخدم معنى الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان فإن سورة النحل جاءت تفصيلا لهذا كله. ومن ثم نلاحظ في سورة النحل مثل قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ .... وهو يصل بسبب إلى قوله تعالى إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ .... وَقُضِيَ الْأَمْرُ. فإذا عرفنا أن هذه أول آية في سورة النحل أدركنا الصلة بين السورة والآية. كما نجد في سورة النحل قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو يصل بسبب إلى الآية التي هي محور هذه السورة، كما نجد في سورة النحل: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وهي تصل بسبب إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ونجد قوله تعالى فيها إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وهي تصل بسبب إلى الأمر بالدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان. ... وإذن فمن الآن نستطيع أن نقول: جاءت الآية هَلْ يَنْظُرُونَ .... في سورة البقرة لتخدم الأمر بالدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان ... لأن من لا يؤمن بالله وباليوم الآخر وما يكون فيه لا يطبق الإسلام كله ولا يترك اتباع خطوات الشيطان وكيف يفعل ذلك؟ وفيه ما فيه من ترك لذاذات وشهوات، وتأتي سورة النحل لتفصّل مقاطعها في كل ما يحتاجه هذا المعنى من تفصيلات: إنّ في تصوير ما سيحدث يوم القيامة، أو في التدليل على وجود الله الذي يعتبر الإيمان باليوم الآخر فرع الإيمان به، أو في التدليل على اليوم الآخر، أو في التذكير به، أو فيما ينبغي على أهل الإيمان بالله واليوم الآخر من التزام كامل بالأوامر والنواهي، مع تفصيلات لبعض هذه الأوامر والنواهي، تميّز مواقف هذه الأمة المؤمنة بالله واليوم الآخر، مع تفصيلات تطمئن المسلم في دنياه وأخراه، مع توجيهات للداعية لهذا الدين، إلى غير ذلك مما سنراه .. مما يخدم الآية المفصّلة في الحيّز الذي جاءت هي لخدمته. ...

تتألف سورة النحل من قسمين رئيسيين: القسم الأول يمتد من أول السورة حتى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ... وهو تسع وثمانون آية، والقسم الثاني من قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... إلى نهاية السورة وهو تسع وثلاثون آية. القسم الأول يضع الأساس النظري. والقسم الثاني يبني على الأساس النظري فيأمر وينهى ويوجّه ويؤدّب. والقسم الأول ثلاثة مقاطع والقسم الثاني مقطع واحد يتألف من مقدمة هي آية واحدة وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. ثم من خمس مجموعات. ولنبدأ عرض السورة:

القسم الأول ويتألف من ثلاثة مقاطع

القسم الأول ويتألف من ثلاثة مقاطع [المقطع الأول من القسم] ويمتدّ من أول السورة حتى نهاية الآية (18) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 16/ 18 - 1

التفسير

التفسير: أَتى أَمْرُ اللَّهِ هذا إخبار منه تعالى عن اقتراب الساعة ودنوّها معبّرا بصيغة الماضي الدالّ على التحقيق والوقوع لا محالة، والمراد بأمره: أمره بقيام الساعة، والتعبير بالماضي عن المستقبل مستعمل عند العرب ويفيد بلاغيا التحقيق. فقوله تعالى هنا أَتى أَمْرُ اللَّهِ يفيد أن أمره بمنزلة الآتي الواقع لقرب وقوعه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي فلا تستعجلوا الله فإن الله لا يعجل لعجلة أحد، أو فلا تستعجلوا عذاب الله إذا جاء أمره، والخطاب للكافرين لأنهم هم الذين يستعجلون قرب ما تباعد فإنه آت وكأن قد. ثم إنه تعالى نزّه نفسه عن إشراكهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تبرّأ جلّ وعزّ عن أن يكون له شريك وعن إشراكهم، واتصال هذا المعنى باستعجالهم النابع عن استهزائهم وتكذيبهم يدل على أن ذلك من الشرك، فلو عرفوا الله ووحّدوه لأسلموا له، ولم يستعجلوا ويستهزءوا ويكذّبوا، ومن هنا نفهم أن التوحيد أوسع بكثير مما يظنّه الجاهلون، كما سنرى يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ أي بالوحي أو بالقرآن وهو من الوحي، وسمي الوحي والقرآن روحا لأنه يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، أو لأنه يحيي القلوب

[سورة النحل (16): آية 3]

الميتة مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أي لينذروا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا هذه هي محور دعوة الأنبياء والرسل، وهذا محور الوحي كله التوحيد، فكل وحي أنزله الله إنما هو من أجل تقرير التوحيد وتأكيده وتفهيمه وتعليمه، فدعوة الرسل من بدايتها إلى نهايتها، وكل ما شرع الله لعباده إنما هو من أجل تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها، والقرآن الكريم الذي هو أعظم كتاب منزل إنما هو من أوله لآخره شرح لهذه الحقيقة، وتعليم لها، وتذكير بها، وحماية لها فَاتَّقُونِ أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري، وإذ كان الوحي كله من أجل التوحيد، فقد بدأت الآيات تعرّفنا على الله، وتؤكّد وحدانيته، وتدلّنا عليه وعلى أنّه واحد خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لا للعبث، ومن كان هذا فعله الذي هو آثار صفاته يتعالى عن أن يشرك به غيره لذلك قال: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ هو المستقل بخلق السموات والأرض. وحده، فلهذا يستحق أن يعبد وحده فكيف يشركون به غيره، وهو خالقهم، وخالق كل ما يحتاجون إليه، مما ستأتي تفصيلاته، ألا إنها الخصومة لله رب العالمين، ومن ثم نجد السياق يقرّر: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أي مهينة ضعيفة، فلما استقل ودرج فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي إذا هو يخاصم ربه تعالى، ويكذّبه، ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا، وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة، ومن رأى آلاف الكتب التي تطرح يوميا في عصرنا، وكلها خصومة لله، وإنكار لوجوده، أدرك الوصف، والآية كما هي إنكار على الإنسان، فإن فيها تدليلا على الله، فإن هذا الإنسان الذي أصله هذه النطفة في حقارتها وصغرها، هو هذا المنطيق المجادل المخاصم ليس لبني البشر فحسب بل لله رب العالمين. ولقد قال صاحب الظلال عند هذه الآية خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ: (ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير، بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم، الذي يخاصم خالقه فيكفر به، ويجادل في وجوده، أو في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة، فهكذا يصوره التعبير، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير، لتبدو المفارقة كاملة، والنقلة بعيدة، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين: مشهد النطفة المهينة الساذجة، ومشهد الإنسان الخصيم المبين وهو إيجاز مقصود في التصوير).

[سورة النحل (16): آية 5]

وهكذا نجد أن السورة بدأت بتبيان أن استعجال العذاب شرك، ثم بينت أن الرسل بعثوا بالتوحيد، ثم بدأت تقرر أدلة التوحيد إجمالا وتفصيلا لا من خلال ظاهرة الخلق وظاهرة العناية، إذ كل شئ مسخّر للإنسان، فمن الذي فعل هذا كله إلا الله الواحد الأحد. وَالْأَنْعامَ أي الإبل والبقر والغنم والماعز خَلَقَها فليس ثم خالق غيره لَكُمْ فِيها دِفْءٌ من أصوافها وأوبارها وأشعارها تلبسون وتفترشون وغير ذلك وَمَنافِعُ في نسلها ودرّها وَمِنْها تَأْكُلُونَ لحما وَلَكُمْ فِيها زيادة على ما مرّ جَمالٌ فالمتعة في النظر إليها نعمة كذلك حِينَ تُرِيحُونَ أي وقت رجوعها من المرعى فإنّها تكون أمدّه خواصر وأعظمه ضروعا وأعلاه أسنمة وَحِينَ تَسْرَحُونَ أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى. قال النسفي: (منّ الله تعالى بالتجمل بها، كما منّ بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، لأن الرعيان إذا روّحوها بالعشي، وسرّحوها بالغداة، تزيّنت بإراحتها وتسريحها الأفنية، وفرحت أربابها وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس، وإنما قدمت الإراحة على التسريح لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع). وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. والمعنى وتحمل الإبل أحمالكم إلى بلد لم تكونوا واصلين إليه لو لم تخلق الإبل إلا بجهد ومشقة، لأنكم ستضطرون أن تحملوا أثقالكم على ظهوركم في الحج والعمرة والغزو والتجارة، وما جرى مجرى ذلك، فخفّف الله عنكم بأن خلقها لكم تستعملونها أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلق هذه، ويسّر لكم الاستفادة منها، وكما خلق لكم الأنعام فقد خلق لكم غيرها وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً أي خلقها للركوب وللزينة وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ للركوب والزينة، ويدخل في ذلك السيارات والطيارات والقطارات والسفن وغير ذلك. [نقل: لصاحب الظلال حول قوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.: (يعقّب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة.

[سورة النحل (16): آية 9]

ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم، فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد، أو حين تكتشف، فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها. ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها، ومقدرات الحياة كلها، ومن ثم يهيئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخّض عنه القدرة، ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل. استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة. ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان. وستجدّ وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان. والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ). ... وفي وسط الحديث عن نعم الله المادية على الإنسان نبّه على الطرق المعنويّة الدينية إذ هي أعلى أنواع النعم، وكثيرا ما يقع في القرآن مثل هذا إذ يعبر بك السياق من أمر حسي إلى أمر معنوي مناسب، ثم يعود السياق إلى ما كان عليه وذلك أسلوب في التربية آثاره جليلة وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ قال الزجاج: (معناه وعلى الله تبيين الطريق الواضح المستقيم، والدعاء إليه بالحجج). والسبيل القصد هو الطريق المستقيم والخط المستقيم هو أقرب بعد بين نقطتين وَمِنْها جائِرٌ أي ومن الطرق حائد مائل زائغ عن الاستقامة. قال ابن عباس وغيره: هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، فطريق الحق بيانه على الله وكل طريق إلا طريقه ظالمة مائلة زائفة زائغة حائدة لا توصل إليه فهي مضيعة، والأعمال فيها مردودة ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته فقال: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي لخلق فيكم الهداية كما بيّنها لكم، ولكنه أمضى فيكم سنته وأقام عليكم الحجة.

[سورة النحل (16): آية 10]

ثم يعود السياق إلى تعداد النعم الحسيّة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ قال ابن كثير: وهو العلو ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ أي جعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه، ولم يجعله ملحا أجاجا وَمِنْهُ شَجَرٌ أي وأخرج لكم منه شجرا فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ أي بالمطر إذ الأنهار والعيون والآبار كل ذلك أصله مطر الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ بأن يخرجها من الأرض بهذا الماء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي دلالة. وحجة على وجوده ووحدانيته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته وعنايته وإرادته، أما الذين لا يتفكرون فهؤلاء وحدهم الذين لا يرون، فمن تفكّر رأى، وإن هؤلاء الذين يلحدون مصيبتهم أنهم لا يتفكرون، ولا يشعرون أنهم لا يتفكرون بل يظنون أنفسهم أنهم مفكرون، ثمّ عدّد الله نعما عظيمة وجسيمة أخرى على هذا الإنسان: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ للسكن والإبصار وغير ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كل منهما يؤدي وظيفته في المساعدة على صلاحية الحياة للاستمرار وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ لخدمة هذا الإنسان، إن الكرة الأرضية جزء من المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية جزء من المجرّة، والمجرّة جزء من هذا الكون الواسع، فالنجوم تخدم وجود هذا الإنسان على الأرض بأشكال شتى، ومن ذلك اهتداء الإنسان في ظلمات البر والبحر بها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي لدلالات واضحات وليس آية واحدة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لقوم عندهم عقل يحكّمونه فيعرفون الظاهرة وما تدلّ عليه، وذكر العقل بعد ذكر الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم للإشارة على أن الدلالة في هذه على القدرة أبهر والشهادة فيها على الكبرياء والعظمة أبين ومن ثمّ فيكفي أن يكون للإنسان عقل حتى يعرف الله بذلك وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي وما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وسهل وجبل وغير ذلك مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ لكل ألوانه الكثيرة التي تثير إحساسات الشعور بالجمال والمتعة والتفكير عند الإنسان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ آلاء الله ونعمه فيشكرونها، ونلاحظ في أكثر من مكان في هذه الآيات أن الله يمنّ على الإنسان بما خلق مما يثير إحساسات المشاعر الجمالية التي هي نعمة من نعمه تعالى، فإن يخلق كل شئ للإنسان، وأن يخلق هذا الإنسان بحيث يستفيد من هذا الكون بكل أنواع الاستفادة من الإحساس بجماله إلى غير ذلك، فهذا كله يدل على الله بشكل قطعي، وتفصيلات هذا في كتابنا (الله جل جلاله) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ

[سورة النحل (16): آية 15]

العظيم المتلاطم الأمواج المخيف، يمنّ الله على عباده بتذليله وتيسيره لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا فلحم حيواناته أكثر أنواع اللحوم طراوة وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساؤكم لكم، وإنّما يتزيّن من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم وَتَرَى الْفُلْكَ أي السفن مَواخِرَ فِيهِ أي جواري تجري فيه جريا، وتشق الماء شقا وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والتصدير والاستيراد وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على ما أنعم عليكم به وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تضطرب، ومن المعروف الآن في علم الجيولوجيا أنه لولا الجبال لكانت تمزقات القشرة الأرضية والبراكين والزلازل من الكثرة بحيث تستحيل الحياة وَأَنْهاراً أي وجعل فيها أنهارا وَسُبُلًا أي طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي إلى مقاصدكم وَعَلاماتٍ أي وجعل فيها علامات وهي معالم الطرق وكل ما يستدل به السابلة من جبل وغير ذلك وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أي وبالنجم خصوصا هم يهتدون، وهل المراد به نجم واحد فيكون نجم القطب، أو كل جنس النجم فيكون المراد كل النجوم؟ المرجح الثاني، وهداية الإنسان في صحرائه وبحره وأرضه بواسطة النجم شئ معروف على تفاوت بين الناس في هذا الموضوع، ومن المعلوم أن الدول البحرية تصدر كتبا سنوية ليستطيع البحارة بواسطة آلات معينة أن يعرفوا مكانهم من خلال مواقع النجوم في اللحظة التي هم فيها أَفَمَنْ يَخْلُقُ وهو الله كَمَنْ لا يَخْلُقُ كغيره ممّن سمّوهم آلهة أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعرفون أن العبادة لا تنبغي إلا له إقرارا وشكرا، ثم نبّه على كثرة نعمه وإحسانه فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي لا تضبطوا عددها، ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تستطيعوا القيام بحقها من أداء الشكر، وإنّما أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيها على أن ما وراءها لا ينحصر ولا يعدّ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذّبكم لعذّبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنّه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير، قال ابن جرير في ذلك: إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة، وهكذا قررت الآيات وحدانية الله من خلال تقرير أنه الخالق وحده، وأنّه هو الذي سخّر كل شئ لصالح الإنسان، فقامت الحجة على وجوده بذلك، وعلى استحقاقه وحده العبادة شكرا له.

كلمة في السياق: حول معاني المقطع ومدى صلته بمحور السورة

كلمة في السياق: [حول معاني المقطع ومدى صلته بمحور السورة] بدأت السورة بتقرير أن يوم القيامة آت، ونزّهت الله عن الشرك، وبيّنت أن الرسل بعثوا بالتوحيد. ثم ذكرت بعض ما خلق الله، وعدّدت نعمه، وفي ذلك برهان على التوحيد، ومن ثم برهان على اليوم الآخر، وهكذا وضعت هذه الآيات الأساس الأول في فهم قضية التوحيد التي تبنى عليها طاعة الله في كل ما أمر، والتي هي الأساس لفهم قضية اليوم الآخر المؤيد الأول لهذا التوحيد في مدلوله الواسع الذي منه الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان، إن الآيات التي مرّت معنا أفهمتنا أن الله سيقيم القيامة، والذي فعل هذا كله حري أن يطاع في كل أمر، وأن يتبع دينه كله شكرا له، فلنتذكر أن الآية التي هي محور سورة النّحل قالت: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إن هذه الآية جاءت بعد الأمر بالدخول في الإسلام، وترك اتباع خطوات الشيطان، فكأنها تقول: ادخلوا في الإسلام، واتركوا خطوات الشيطان، فها هي القيامة قد قامت، فهل تنتظرون قيامها لتعقلوا؟ إنّه لا ينفعكم وقتذاك عمل، وهاهنا بدأ هذا المقطع بالتذكير أن أمر الله آت ليطالبنا بعد ذلك بالتوحيد والشكر اللذين يقابلهما الشرك والكفران: الأولان إسلام، والآخران من اتّباع خطوات الشيطان. فوائد: 1 - [روايات بمناسبة قوله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ ...... ذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء، ثم ينادي مناد فيها: يا أيها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول نعم ومنهم من يشك، ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض هل سمعتم؟ فيقولون نعم: ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فو الذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا، وإن الرجل ليمدّن حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا- قال: ويشتغل الناس».

2 - حديث بمناسبة الآية خلق الإنسان من نطفة ..

2 - [حديث بمناسبة الآية خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بشر بن جحاش قال: بصق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كفه ثم قال: يقول الله تعالى: ابن آدم: أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سوّيتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق؟ وأنّى أوان الصدقة؟». 3 - [مسائل فقهية بمناسبة الآية وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها .. ] تثور مسائل فقهية بمناسبة قوله تعالى وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ فقد دلّ النص على جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال فما حكم إنزاء الحمر على الخيل؟ وما حكم أكل لحم الخيل خاصة وقد ذكرت مع نوعين حرّم الله أكل لحومها، فممن ذهب إلى حرمة أكل لحم الخيل أبو حنيفة وحجته الآية، بأن الله علّل خلقها للركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام، ومنفعة الأكل أقوى، والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكيم أن يذكر في مواضع المنّة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما، وذهب بقية الأئمة إلى جواز ذلك، وقد تحدث ابن كثير عن الموضوعين اللذين ذكرناهما عند الآية فقال: (هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده، يمتن به عليهم، وهو الخيل والبغال والحمير، التي جعلها للركوب والزينة بها وذلك أكبر المقاصد منها، ولما فصلها من الأنعام وأفردها بالذكر استدلّ من استدل من العلماء ممّن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها، كالإمام أبي حنيفة رحمه الله، ومن وافقه من الفقهاء، بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير، وهي حرام، كما ثبتت به السنة النبوية، وذهب إليه أكثر العلماء، وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير بسنده عن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول: قال الله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ فهذه للأكل وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها فهذه للركوب، وروى الإمام أحمد في مسنده ... عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث صالح بن يحيى بن المقدام- وفيه كلام- به، وروى الإمام أيضا ... عن المقدام بن معد يكرب قال: غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة فقرم (¬1) أصحابنا إلى اللحم، فسألوني رمكة (¬2)، فدفعتها إليهم، فحبلوها:- أي ربطوها بالحبل- ليذبحوها وقلت: ¬

_ (¬1) الصائفة: أي في الصيف، وقرم: أي اشتاقوا. (¬2) الرمة: القدس.

4 - إحدى المعجزات القرآنية في الآية ويخلق ما لا تعلمون

مكانكم حتى آتي خالدا فأسأله، فأتيته فسألته فقال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزوة خيبر، فأسرع الناس في حظائر يهود، فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم. ثم قال: «أيها الناس: إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود، ألا لا يحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم لحوم الحمر الأهلية، وخيلها وبغالها، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير». 4 - [إحدى المعجزات القرآنية في الآية وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ] من المعجزات الموجودة في الآيات السابقة ما ورد في قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ هذه المعجزة متضمّنة في قوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ فبعد أن ذكر أدوات الركوب المعروفة وقت نزول هذا النص، أشارت الآية إلى مركوبات للإنسان ستخلق لا يعلمها الإنسان حين نزول النص، وهذا الذي رأيناه في عصرنا أكثر من أي عصر مضى، وإذ كان القرآن خطابا لكل عصر، فهذا يفيد أن ما سيخلقه مما يركبه الإنسان ويكون زينة له سيكون متطورا يأتي في العصور اللاحقة ما لا يعلمه أهل العصور السابقة. ولننتقل إلى المقطع الثاني ويتألف من ست مجموعات ومقدمة، ومن ثم فسنعرض كل مجموعة من مجموعاته على حدة ***

المقطع الثاني من القسم وهو الآيات (19 - 64)

المقطع الثاني [من القسم وهو الآيات (19 - 64)] ويتألف من مقدمة وست مجموعات ويمتد من الآية (19) إلى نهاية الآية (64) وسنعرضه على أجزاء بسبب طوله بادئين بعرض مقدمة المقطع. مقدمة المقطع الثاني وتمتد من الآية (19) إلى نهاية الآية (23) وهذه هي: 16/ 23 - 19 التفسير: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ يخير تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، وفي الآية وعيد يفيد أنّه تعالى سيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرا فخير؛ وإن شرا فشر وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي والآلهة الذين يدعونهم الكفار لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا، فكيف إذا كان زيادة على ذلك ميتا أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي لا يدرون متى تكون الساعة، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟! إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شئ وهو خالق كل شئ، وهكذا نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين أحياء لا يموتون، عالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون أموات جاهلون بالبعث، ومعنى أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ:

[سورة النحل (16): آية 22]

أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أي غير جائز عليهم الموت، بينما هم بالعكس من ذلك إما أموات على الحقيقة، أو يمكن أن يطرأ عليهم الموت، والضمير في (يبعثون) للداعين، أي لا تشعر هذه الآلهة المزعومة متى تبعث عبدتهم، وفيه تهكّم بالمشركين، وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟ وفيه دلالة على أنّه لا بد من البعث إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ثبت بما مرّ أنّ الإلهية لا تكون لغير الله، فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي للوحدانية وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الإقرار بالوحدانية، وعن مضموناتها، وعن عبادة الله لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أي سرهم وعلانيتهم أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وهم الذين أشركوا به غيره. قال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ: «فالذين لا يسلّمون بهذه الحقيقة، ولا يؤمنون بالآخرة- وهي فرع عن الاعتقاد بوحدانية الخالق وحكمته وعدله- هؤلاء لا تنقصهم البراهين، إنما تكمن العلة في كيانهم وفي طباعهم. إن قلوبهم منكرة جاحدة لا تقر بما ترى من الآيات، وهم مستكبرون لا يريدون التسليم بالبراهين والاستسلام لله والرسول. فالعلة أصلية، والداء كامن في الطباع والقلوب. والله الذي خلقهم يعلم ذلك منهم. فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون. يعلمه دون شك ولا ريب ويكرهه فيهم. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ فالقلب المستكبر لا يرجى له أن يقتنع أو يسلم. ومن ثم فهم مكروهون من الله لاستكبارهم الذي يعلمه من يعلم حقيقة أمرهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون. كلمة في السياق: هذه الآيات مقدمة لمجموعات المقطع الثاني، وهي امتداد للمقطع السابق من حيث إنها تقرر وحدانية الله، وتقرر مجئ اليوم الآخر، وتقيم الحجة على المشركين وتتوعدهم وتصفهم بالمستكبرين، وأن الله لا يحبهم، وبعد هذه المقدمة تأتي المجموعة الأولى في هذا المقطع وهي تحدد موقف المستكبرين من القرآن، وما يستحقون بسبب ذلك، وموقف المؤمنين من القرآن وما يستحقون بسبب ذلك، ومن ثم فالمجموعة هذه تحدّد جزاء من

المجموعة الأولى من المقطع الثاني وتمتد من الآية (24) إلى نهاية الآية (34) وهذه هي

دخل بالإسلام كله، وجزاء من اتبع خطوات الشيطان، وهكذا تسير السورة شيئا فشيئا في التربية على الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان من خلال التعريف على الله، والتحذير مما أعده الله لمن استكبر عن الدخول في دينه. فلنر المجموعة الأولى من المقطع الثاني. المجموعة الأولى من المقطع الثاني وتمتدّ من الآية (24) إلى نهاية الآية (34) وهذه هي: 16/ 34 - 24

التفسير

التفسير: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء المستكبرين الذين لا يحبهم الله ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أي أيّ شئ أنزل ربكم قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديث الأولين وأباطيلهم، أي لم ينزل شيئا، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، وهي الخرافة، هذا منطق المستكبرين قديما، وهو منطقهم حديثا، فالقلوب واحدة، والمرض واحد، وإنما يعبّر كل جيل عن الماهية بأسلوبه الخاص لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي قالوا ذلك إضلالا للناس؛ فحملوا أوزار- أي أثقال- ضلالهم كاملة، وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضل والمضل شريكان، والذين أضلّوهم بغير علم هم الذين لا يعلمون أنّهم ضلّال. قال مجاهد في الآية: أي يحملون أثقال ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئا. قال ابن كثير: كما جاء في الحديث ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي ألا ساء الحمل حملهم قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أنهم فعلوا ما فعل هؤلاء من الاستكبار عن اتّباع الرسل والصدّ عن سبيل الله، ونشر الدعايات الكاذبة عنه فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي اجتثه من أصله وأبطله، دلّ هذا على أنهم أقاموا بناء على فلسفتهم الباطلة، كما تقوم اليوم أحزاب الكفر والضلال على فلسفات كافرة، كلها يراد به الكيد للإسلام والمسلمين، ولقد رأينا الكثير من هؤلاء كيف ينهار بناؤهم، ويخرّ عليهم ما بنوه فيكون ضدّهم ويحطّمهم فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي سقط عليهم السقف الذي

[سورة النحل (16): آية 27]

بنوه وَأَتاهُمُ الْعَذابُ أي في الدنيا مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من حيث لا يحتسبون، ولا يتوقعون، ولقد رأيناها إذ سلط على أمثال هؤلاء في بلادنا أخلص أتباعهم فساموهم العذاب، وهكذا ضرب الله مثلا لهؤلاء الذين يحتالون كل حيلة في إضلال الناس، وإحالتهم إلى الكفر بكل وسيلة، وبعد أن بيّن ما يفعل بهم في الدنيا بيّن ما يفعل بهم في الآخرة ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلّهم بعذاب الخزي سوى ما عذبوا به في الدنيا، فيظهر فضائحهم، وما كانت تكنّه ضمائرهم وما كانوا يسرونه من المكر فيخزيهم على رءوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرّعا وموبّخا وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، وتحاربون وتعادون في سبيلهم، أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا؟ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي في ذلك المقام، والذين أوتوا العلم هم الأنبياء والعلماء الربانيون الذين كانوا يدعون هؤلاء المستكبرين ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم ويشاقّونهم، هؤلاء السادة في الدنيا والآخرة، المخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة، هؤلاء يقولون في هذا المقام إِنَّ الْخِزْيَ أي الفضيحة وَالسُّوءَ أي العذاب عَلَى الْكافِرِينَ تغطيهم وتحيط بهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تقبض أرواحهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر بالله والإشراك به فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ متبرءين من أفعالهم، وهل هذا الإلقاء عند الاحتضار، وهذا القول للملائكة عند قبض الروح، أو هو حالهم يوم يبعثون؟ قولان للعلماء بَلى أي كنتم تعملون السوء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهل هذا من كلام الملائكة لهم عند قبض الروح، أو من قول العلماء لهم في عرصات القيامة، أو من كلام الله لهم ردا عليهم؟ أقوال للعلماء فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هذا يرجح أن الإلقاء والقول والردّ كان في عرصات القيامة وإن كان يحتمل قبل ذلك كما سنرى من تعليق ابن كثير على نهاية الآية فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ قال ابن كثير: (أي بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم). كلمة في السياق: لاحظنا في مقدمة هذا المقطع أن كلمة المستكبرين وردت أكثر من مرة قُلُوبُهُمْ

فائدة: حول موضوع (الكبر) كأحد السلوك البشري وكيفية العلاج منه

مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وفي ما مرّ معنا من المجموعة انصب الكلام على هؤلاء المستكبرين وختم به فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فالمجموعة التي نحن فيها ترتبط بما قبلها ارتباطا تاما كما رأينا، كما أنها ترتبط بما بعدها، ومجموعات هذا المقطع كلها مترابطة، والمقطع كله مرتبط بما قبله وما بعده كما سنرى، والآن لنتذكر شيئا: قلنا: إن سورة النحل تفصل آية من سورة البقرة واقعة في حيّز قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فسورة النحل تفصّل في حيز هذا الأمر وهذا النهي، وقد لاحظنا أن هذا المقطع بآياته التي مرت معنا قد ركز على استنكار الاستكبار وهو الخلق الأول من أخلاق الشيطان، والخطوة الأولى من خطاه. والآن لاحظ شيئا آخر: قلنا: إن سورة النحل تفصّل لتخدم قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فلنلاحظ أن الآيات التي فسرناها من هذه المجموعة ورد فيها قوله تعالى: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ إن السلم الذي فرض عليهم أن يدخلوا فيه كله فاستكبروا عنه، سيعطونه كاملا يوم القيامة، ولكن لا ينفعهم، فإذا لاحظنا ما ورد من كلام عن الكبر الذي هو سبب خطوة الشيطان الأولى في رفضه للسجود لآدم، ومجئ كلمة السّلم في هذا السياق ندرك أن اتجاهنا صحيح في العرض، ولله الحمد والمنة، ونعوذ به أن نقول على كتابه ما ليس لنا به علم. فائدة: [حول موضوع (الكبر) كأحد السلوك البشري وكيفية العلاج منه] إن موضوع الكبر من أدقّ المواضيع المتغلغلة في السلوك البشري، وقد فسّر الرسول صلّى الله عليه وسلّم الكبر بأنه غمط الناس وبطر الحق، فأي موقف للإنسان رفض فيه حقا مع معرفة أنه حق، أو انتقص خلق الله، فإنه بذلك يكون سالكا خطوات الشيطان، ومن غمط الناس ما نراه من استكبار الكثيرين عن الأخذ عن العلماء الربانيين أو طاعتهم أو التواضع لهم، إذ إن الله عزّ وجل جعل التواضع لعباده تواضعا له، وهذا هو امتحانه الأكبر، إن إبليس لم يستنكف عن عبادة الله، ولكن عند ما كلفه ربه بالسجود لمخلوق مثله ظهر كبره وكفره، وكثيرون من الخلق- تجدهم- على غاية من العبادة، ولكنهم يأنفون من طاعة غيرهم ومن اتباعه، ولو كان في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين، ومن ثم نجد المسلمين لا يلتقون إلا قليلا على عمل جماعي منظم لصعوبة انقياد بعضهم لبعض،

[سورة النحل (16): آية 30]

مع أنهم يعطون أعداء الله من الانقياد- أحيانا- ما لا يعطونه لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وكل ذلك مظهر من مظاهر الكبر، واتباع لخطوات الشيطان، إلا من عصم ربي وحفظ ممن يحررون مواقفهم فيمنعهم من الاتباع أو الانقياد، أو العمل المشترك مانع شرعي محرر، ولنعد إلى تفسير المجموعة: فبعد أن بيّن الله عزّ وجل موقف المستكبرين مما أنزل، وعقوبتهم الدنيوية والأخروية على هذا الموقف يخبرنا الله عزّ وجل عن موقف أوليائه ممّا أنزل وما يكافئهم به في الدنيا والآخرة: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك واتباع خطوات الشيطان ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أيّ شئ أنزل ربكم قالُوا خَيْراً أي قالوا: أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به، هذا هو موقفهم مما أنزل الله: ثناء عليه؛ فاستحقوا خيري الدنيا والآخرة، ومن ثم أخبر الله عما يعدهم به فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي من أحسن عمله في الدنيا، أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أخبر بأن دار الآخرة خير أي: من الحياة الدنيا والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا، وإحسان العبد إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح، وقد عرّف الله المحسنين في أكثر من مكان في كتابه، وفي الفوائد كلام. والحسنة التي يعطيها الله مكافأة في الدنيا قد تكون أمنا وطمأنينة، وقد تكون نصرا وفوزا، وقد تكون كل ذلك مع غيره، ومن ثم نكّرها فقال (حسنة) ثم وصف الدار الآخرة فقال: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فجنات عدن هي دار المتقين، والعدن: الإقامة يَدْخُلُونَها فلنحرص على التحقق بالتقوى لندخلها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي بين أشجارها وقصورها لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ قال ابن كثير: وفي الحديث: «إن السحابة لتمر بالملإ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم، فلا يشتهي أحد منهم شيئا إلا أمطرته عليهم، حتى إن منهم لمن يقول: أمطرينا كواعب أترابا فيكون ذلك». كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي مثل هذا الجزاء يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله، ثم أخبر تعالى عن حال المتقين عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلّصون من الشرك والدنس وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بعملكم، فالملائكة تسلّم عليهم وتبشرهم بالجنة، وقد مر معنا من قبل أن نسمة المؤمن تدخل الجنة بعد الموت، والدخول الكامل بالجسم والروح إنما يكون بعد البعث.

[سورة النحل (16): الآيات 33 إلى 34]

ثم ختم الله هذه المجموعة بهاتين الآيتين: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ* فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وقبل أن نفسرهما نحب أن نذكر كلمة حول السياق. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة النحل هو قوله تعالى من سورة البقرة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. الآتي في حيز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ .... وقد رأينا أن المجموعة التي بين أيدينا حدثتنا عن مآل الذين يرفضون الدخول في السلم في الدنيا، وعن مآل الذين يدخلون فيه بقبولهم كتابه. ورأينا أن الذين يرفضون كتاب الله هم المستكبرون الذين يتبعون خطوات الشيطان، ثم تأتي هاتان الآيتان وفي الآية الأولى منهما شبه بآية البقرة لدرجة اتحاد بعض الألفاظ لتختم بهما هذه المجموعة، فهذا دليل كذلك على أن اتجاهنا في فهمنا للوحدة القرآنية، والسياق العام صحيح والحمد لله. فلنفسر الآيتين: هَلْ يَنْظُرُونَ أي هؤلاء المستكبرون المشركون، نلاحظ أن الخطاب عاد كما بدأ في أول المجموعة فكما بدأت المجموعة بخطاب المستكبرين، بضمير الغائب: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا ... فالآن يتجه الخطاب إليهم بضمير الغائب إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أي هل ينتظر هؤلاء المستكبرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فيكون حالهم كما وصف الله منذ قليل الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ... ومن ثم ندرك أن ما ورد من قبل إنما هو تفصيل يخدم هذه الآية. أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ قال ابن كثير في تفسيرها: أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال، ويشهد له أول آية في السورة أَتى أَمْرُ اللَّهِ كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فتمادوا في الشرك والاستكبار والمكر حتى ذاقوا بأس الله وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ أي فيما أذاقهم لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به، فلهذا أصابتهم عقوبة الله فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم وَحاقَ بِهِمْ ما

كلمة في السياق

كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وأحاط بهم جزاء استهزائهم. كلمة في السياق: رأينا أن مقدمة هذا المقطع هي امتداد في معانيها للمقطع الأول، ورأينا ما بين المقدمة والمجموعة الأولى من ترابط. والآن لنرى ما بين المجموعة التي مرت معنا، وما بين المقطع الأول من ترابط: لا شك أنك لحظت الصلة بين قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ... وبين قوله تعالى في نفس المجموعة الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ... والآن تذكر الصلة بين أول السورة التي هي بداية المقطع الأول: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وبين آية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ. فإذا تذكرت هذه الصلة تعرف الارتباط بين المجموعة الثانية، والمقطع الأول، ثم إذا تذكرت أن قوله تعالى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فيه إشارة إلى استعجالهم العذاب من باب الاستهزاء، وختم هذه المجموعة بقوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تدرك الصلة بشكل أعمق بين هذه المجموعة والمقطع الذي سبقها، وكل ذلك ضمن السياق القرآني العام. فوائد: 1 - [حول التعريف بكلمتي الإحسان والتقوى وسبب ذكرهما معرفتين غالبا في القرآن] بمناسبة قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أقول: إن كلمات الإحسان والتقوى معرّفتان كثيرا في القرآن الكريم. وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا). تعريف دقيق من خلال النصوص القرآنية والحديثية لموضوعي التقوى والإحسان، ولكون هذين المقامين قد علّق الله على التحقق فيهما ما علّق، فإنه من المستحسن أن يرجع الإنسان إلى ذلك الكتاب، وباختصار فإن الإحسان: فعل الأحسن في مصطلح الشرع، مع الإخلاص لله فيه، في حالة شعورية عليا يراقب فيها الإنسان الله عزّ وجل. قال عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وأما التقوى: فهي ملكة في القلب تتكوّن من سلوك طريق معين، وتنتج إذا وجدت آثار معينة، وعلامتها معاني محددة، وقد جمعنا في موضوعها صفحات كثيرة في كتابنا المشار إليه. 2 - [حول المعارك التي تدور حول تأويل آيات وأحاديث الصفات] هناك معارك عنيفة تدور حول تأويل آيات وأحاديث الصفات ما بين المعتزلة

والأشاعرة، وما بين الأشاعرة وبعض الحنابلة والمحدثين، وهناك معارك عنيفة جدا بين كل المسلمين وفرق الباطنية في التأويل الذي يشتطون فيه حتى لا يبقوا كلمة قرآنية في محلها. والملاحظ أن أشد الناس حربا للتأويل يضطرون لتأويل بعض النصوص بصرفها عن ظاهرها الحرفي إلى غيره بسبب من الأسباب، وإذن فلا بد من تأويل ولكن إذا توفرت شروط معينة، كأن يكون هناك ضرورة للتأويل، وكأن يكون المتأول من الراسخين في العلم، وكأن يكون التأويل بما لا يجعل النصوص تتناقض، وكأن يكون ضمن ما تتحمله لغة العرب، نقول هذا بمناسبة مرور آية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ فهذه الآية وسورتها تفصلان قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ فالأشاعرة يؤولون قوله تعالى إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بتقدير كلمة الأمر هنا، أي إلا أن يأتيهم أمر الله في ظلل من الغمام والملائكة، وقد أخذوا ذلك من آية النحل التي ذكرت كلمة الأمر هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ غير أن الآخرين يردون بأنّ سورة البقرة استعملت حرف العطف الواو الذي يقتضي الجمع وهاهنا استعمل حرف العطف (أو) الذي يفيد مجئ أحد المذكورين، مما يشير إلى أن المقامين بينهما شئ من الاختلاف، وأنا أميل في هذه الأمور إلى ترك التأويل احتياطا، مع مراعاة جانب التنزيه كفريضة واجبة. ولننتقل الآن إلى المجموعة الثانية في هذا المقطع الذي هو المقطع الثاني: ولنقدم لها بكلمة رأينا أن مقدمة هذا المقطع قد انتهت بقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ. ثم رأينا المجموعة الأولى تقول: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمستكبرين ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والآن تأتي المجموعة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي المستكبرون أنفسهم. وسنرى أن كل مجموعة من مجموعات هذا المقطع مبدوءة إما بقوله للمستكبرين أو بموقف. فالصلة إذن بين مقدمة المقطع، وبين كل مجموعات المقطع على غاية الوضوح، وعلامة البداية لكل مجموعة واضحة، وعلامة البداية والنهاية للمقطع كله واضحة كما سنرى، وهكذا فإن المجموعة الثانية المؤلفة من ثلاث آيات تتضمن قولا للمشركين وردا عليه:

المجموعة الثانية من مجموعات المقطع الثاني وتمتد من الآية (35) إلى نهاية الآية (37) وهذه هي

المجموعة الثانية من مجموعات المقطع الثاني وتمتد من الآية (35) إلى نهاية الآية (37) وهذه هي: 16/ 37 - 35 التفسير: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ممّا لم ينزل به سلطانا، وهذا الكلام يقوله واحد من ثلاثة: إما إنسان يريد أن يحمل الله مسئولية أفعاله ليبرئ نفسه من أي فعل؛ أو إنسان يريد أن يحتج بمشيئة الله على جواز ما يفعله، فكون الله شاء يعني عنده أنّه أباح، أو إنسان يقول هذا الكلام استهزاء بالمؤمنين الذين يؤمنون بأن كل شئ بمشيئة الله فهؤلاء يستهزءون بالمؤمنين، مدّعين أن ما يفعلونه صحيح لأنه مشيئة الله، وهي اتجاهات خاطئة لأن مشيئة الله لا تنافي مسئولية الإنسان، ولأن هناك فارقا بين مشيئة الله ورضاه، فكل شئ بمشيئته، ولكن ليس كل شئ بأمره، وهو موضوع سنتحدث عنه في الفوائد، وقد ردّ الله عليهم أبلغ ردّ بأكثر من حجة:

[سورة النحل (16): آية 36]

«الرّدّ الأول: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كذّبوا الرسل وحرموا الحلال وقالوا مثل هذه الأقوال فماذا حدث لهم؟ لقد عذّبهم الله غير ظالم لهم، كما قال تعالى في الآيتين السابقتين: وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ* فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ... فتعذيب من قبلهم الذين قالوا مثل قولهم دليل على بطلان أقوالهم التي عرضناها لأن الله لا يظلم أحدا. الردّ الثاني: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليس على الرسل إلا أن يبلغوا الحق بمنتهى البيان الذي به تقوم الحجة، وهذه الكلمة هي الرد الثاني على اتجاهاتهم، فإذا كان صحيحا ما ذهبوا إليه فلم يبعث الله الرسل؟ ويأمرهم بالبلاغ؟ ثمّ قرّر الله عزّ وجلّ أنّه قد بعث في كل أمة رسلا من أجل التوحيد وترك اتباع الطاغوت، فكيف يكون هذا فعله ثمّ يدّعون أنّ في الشرك واتباع الشيطان رضاه. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحّدوه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي الشيطان، أي اجتنبوا طاعته واتباع خطواته، ثم وضع الله مسألة المشيئة في إطارها الصحيح فقال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ لاختياره الهدى واستحقاقه له بدليل نهاية الآية وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي لزمته لاختياره لها واستحقاقه ذلك، ومن ثم قال تعالى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ حيث أهلكهم الله وأخلى ديارهم عنهم، فعقوبته لهم دليل على إنكاره عليهم؛ وإلا لم يعاقبهم؟ لا كما زعموه في فهمهم لموضوع المشيئة. صحيح أن كل شئ بمشيئة الله، ولكن هذا لا ينفي اختيار الإنسان، ولذلك سمّى الله هؤلاء بالمكذّبين، وكلمة مكذّب اسم فاعل، لقد اختار هؤلاء طريق الضلال فأضلّهم الله قال ابن كثير: (فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية- وهي تمكينهم من ذلك قدرا- فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة) ثم أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي لا يهدي من اختار الضلال، يدل على ذلك القراءة المتواترة التي تفتح ياء يضل، أو لا يهدي من أضل في مواقفه غيره، أو لا يهدي من استحق الإضلال، فإن مجموع القراءات الواردة في هذا النص تحتمل مجموعة الأوجه، وما من وجه إلا وهو يعبر عن معنى صحيح.

فوائد: حول أدق مواضيع المعرفة: معرفة شمول الإرادة الإلهية، وموضوع الاختيار عند الإنسان

لهذا الموضوع وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم، ويدفعون عذابه الذي أعدّ لهم، وينقذونهم من عذابه ووثاقه وهكذا انتهت هذه المجموعة. فوائد: [حول أدق مواضيع المعرفة: معرفة شمول الإرادة الإلهية، وموضوع الاختيار عند الإنسان] إن من أدق مواضيع المعرفة معرفة شمول الإرادة الإلهية، ومعرفة أن الإنسان مختار، وأنه لا تنافي بين عموم الإرادة الإلهية واختيار الإنسان، وأن صفة الإرادة لله غير أوامره وغير رضاه، فالله يأمر ولا يرضى إلا عما يأمر به، فهناك تلازم بين الرضا والأمر، وليس هناك تلازم بين الرضى والإرادة، إن كل شئ بإرادة الله، وهذا لا يتنافى مع اختيار الإنسان؛ لأن قدرة الله على وفق إرادته، وإرادته على وفق علمه، والعلم كاشف لا مجبر. فالله عزّ وجل علم أزلا أن فلانا سيفعل، وعلمه ليس مجبرا، فأراد ذلك، فأبرزه بقدرته، فكونه أراده وأبرزه بقدرته لا يعني أنه أجبر، لأنه لو لم يرده لم يكن، ولو لم يبرزه لم يوجد فهو وحده الخالق، على أن ما ذكرناه من ترتيب الإرادة على العلم إنما هو لمجرد الإفهام، وليس هناك من ترتيب في الأزل، فالله علم أزلا وأراد أزلا. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الثانية بالمحور وبالمجموعة الثالثة] رأينا أن محور سورة النحل هو الآية التي تنذر الكافرين في سياق الأمر بالدخول في الإسلام، وترك اتباع خطوات الشيطان، وفي هذه المجموعة التي مرّت معنا نسف لحجة من حجج الكافرين، وبيان أن كل الرسل قد بعثوا بعبادة الله واجتناب الطاغوت، والأمر بالعبادة دعوة إلى الدخول في السلم، والأمر باجتناب الطاغوت، نهي عن طاعة الشيطان واتباع خطواته، وهكذا أدّت هذه المجموعة دورها ضمن سياق السورة، وقد رأينا في مقدمة الكلام عنها محلها الخاص ضمن السياق الخاص لسورة النحل، والآن تأتي مجموعة ثالثة في هذا المقطع، وتبدأ بذكر موقف للكافرين، وهو: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ... ثمّ تردّ عليه، فالمجموعة الجديدة تنسجم مع سياق السورة، فما دامت السورة تفصّل الآية التي تنذر الكافرين باليوم الآخر إن لم يدخلوا في الإسلام كله، فإنّ ذلك يقتضي كلاما عن هذا اليوم الذي ينكره الكافرون، لقد كانت مقدمة هذا المقطع حديثا عن المستكبرين. ثم جاءت المجموعة الأولى فذكرت موقفا لهم وردّت عليه. ثم جاءت المجموعة الثانية فذكرت موقفا وردّت عليه، ثم تأتي المجموعة الثالثة الآن فتذكر موقفا وترد عليه. وهذه هي المجموعة وتتألف من خمس آيات:

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (38) إلى نهاية الآية (42) وهذه هي

المجموعة الثالثة وتمتدّ من الآية (38) إلى نهاية الآية (42) وهذه هي: 16/ 42 - 38 نقل: [عن صاحب الظلال حول قضية البعث وكونها مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ* إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: (ولقد كانت قضية البعث دائما هي مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام منذ أن أرسل الله رسله للناس، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويخوفونهم حساب الله يوم البعث والحساب. وهؤلاء المشركون من قريش أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، فهم يقرون بوجود الله ولكنهم ينفون عنه بعث الموتى من القبور. يرون هذا البعث أمرا عسيرا بعد الموت والبلى وتفرق الأشلاء والذرات. وغفلوا عن معجزة الحياة الأولى .. وغفلوا عن القدرة الإلهية، وأنها لا تقاس إلى تصورات البشر وطاقتهم. وأن إيجاد شئ لا يكلف تلك القدرة شيئا، فيكفي أن تتوجه الإرادة إلى كون الشئ ليكون. وغفلوا كذلك عن حكمة الله في البعث. وهذه الدنيا لا يبلغ أمر فيها تمامه. فالناس

التفسير

يختلفون حول الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر. وقد لا يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في هذه الأرض لأن إرادة الله شاءت أن يمتد ببعضهم الأجل، وألا يحل بهم عذابه الفاصل في هذه الديار، حتى يتم الجزاء في الآخرة ويبلغ كل أمر تمامه هناك. والسياق يرد على تلك المقولة الكافرة، ويكشف ما يحيط بها في نفوس القوم من شبهات فيبدأ بالتقرير: بَلى. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا ومتى وعد الله فقد كان ما وعد به لا يتخلف بحال من الأحوال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقيقة وعد الله. وللأمر حكمته: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ فيما ادعوا أنهم على الهدى؛ وفيما زعموا من كذب الرسل، ومن نفي الآخرة؛ وفيما كانوا فيه من اعتقاد ومن فساد. والأمر بعد ذلك هيّن إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ والبعث شئ من هذه الأشياء يتم حالما تتوجه إليه الإرادة دون إبطاء). التفسير: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ قال النسفي: معطوف على وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من كون هذه بداية مجموعة وتلك بداية مجموعة والمعنى: أنهم حلفوا فأقسموا بالله جهد أيمانهم، أي اجتهدوا في الحلف وغلّظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، فقد استبعدوا ذلك، وكذّبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك، وحلفوا على نقيضه، فقال تعالى مكذبا لهم ورادا عليهم بَلى أي بلى سيكون ذلك وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي لا بد منه لأنه لا يخلف الميعاد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يبعثون أو يجهلون، فلجهلهم يخالفون الرسل، ويعتون في الكفر، ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي للمكلفين الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من كل شئ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في أيمانهم وأقسامهم ومواقفهم، هذه هي الحكمة الأولى للبعث التي يسجلها الرد الأول على المنكرين، ثم يقول تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذا إخبار منه تعالى عن قدرته على ما يشاء وأنه لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء وإنما قوله تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه، فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون، إنّه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد

[سورة النحل (16): آية 41]

فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف، والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات؟ ثم يكمل الله الرد فيقول: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي في حقه ولوجهه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا فأوذوا في الله، ومنعوا من عبادة الله وحده لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي تبوئة حسنة مأوى ورزقا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما أعطوا في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو يعلم الذين كفروا لعملوا لذلك، ولرغبوا في الدين، ولكنهم جهلة، ثم وصف الذين يستأهلون هذا المقام فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا على مفارقة الأوطان وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يفوضون الأمر إلى ربهم، ويرضون بما أصابهم في دين الله، اجتمع لهم الصبر والتوكل، فأحسن الله لهم العاقبة في الدنيا والآخرة. وبهذا تم الرد الأول، والسؤال الآن ما علاقة الكلام عن الصابرين المتوكلين المهاجرين بالرد؟ الجواب إن حكمة البعث هي أن يعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فينالوا جزاءهم، وكذلك أن ينال من تحمّل في دين الله جزاءه الكريم من الله، ومن ثم كانت الآيتان الأخيرتان جزءا من الرد، إلا أنهما عرضتا هذا العرض ليحملا مع كونهما ردا معنى مستقلا هو التهييج على الهجرة، والصبر، والتوكل. فائدة: [كلام ابن كثير حول الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ .. والتي تليها] مما قاله ابن كثير بمناسبة الآيتين الأخيرتين: (يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه. ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم: عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعفر بن أبي طالب، ابن عم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصديقة، رضي الله عنهم وأرضاهم، فوعدهم الله تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال ابن عباس والشعبي وقتادة: المدينة. وقيل: الرزق الطيب قاله مجاهد، ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوّضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا عوّضه الله بما هو

خير له منه، وكذلك وقع؛ فإنهم مكّن الله لهم في البلاد وحكّمهم على رقاب العباد، فصاروا أمراء حكاما، وكل منهم للمتقين إماما، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي مما أعطيناهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادّخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله، ولهذا قال هشيم، عن العوام، عمن حدثه: أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادّخر لك في الآخرة أفضل، ثم قرأ هذه الآية: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ثم وصفهم تعالى فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة. ولننتقل إلى المجموعة الرابعة، وتتألف من ثمان آيات:

المجموعة الرابعة وتمتد من الآية (43) إلى نهاية الآية (50) وهذه هي

المجموعة الرابعة وتمتدّ من الآية (43) إلى نهاية الآية (50) وهذه هي: 16/ 50 - 43 ملاحظة: [مقارنة بين طريقة عرض المجموعات السابقة والمجموعة الرابعة] لاحظنا أن كل مجموعة من المجموعات السابقة تسجل موقفا للكافرين وترد عليه، وفي كل مرة كانت تذكر الموقف بشكل صريح، ثم ترد عليه، أما هذه المجموعة فلم تسجل الموقف صراحة بل ردت عليه، ومن خلال الرد عرفنا هذا الموقف، وهذا الموقف هو ما ذكره ابن كثير فقال: قال الضحاك عن ابن عباس: لما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنكر العرب ذلك أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً

التفسير

أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ الآية (يونس: 2) وقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني سلوا أهل الكتب الماضية أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا، قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى (يوسف: 109) ليسوا من أهل السماء كما قلتم». هذا هو الموقف الذي ترد عليه الآيات، وهكذا نجد أن مجموعات المقطع- وإن كانت تسجيلا لمواقف الكافرين وردا عليها، إلا أنها- تسجل هذه المواقف بأساليب متنوعة. التفسير: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهي سنة الله إذن في أن يرسل رجالا من البشر فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرا، وسمّي الكتاب ذكرا لأنه موعظة وتنبيه للغافلين إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أن هذه سنة الله في هذه القضية بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ البينات: المعجزات: والزبر: الكتب. والمعنى: أرسلوا بالمعجزات والكتب، وهما علامتان على الرسالة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن وهو كتاب ومعجزة بآن واحد فاجتمعت لك به علامتا الرسالة لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من ربهم لعلمك بما أنزل الله عليك، وحرصك عليه، واتباعك له، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق، وسيد ولد آدم فتفصّل لهم ما أجمل، وتبين لهم ما أشكل وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في تنبيهاته فينتبهوا، دل هذا على أن مما ينبغي أن يحرص عليه قارئ القرآن التفكر، لأنه بذلك يكون قد حقق حكمة من حكم إنزال هذا القرآن، وبعد أن ردّ الله شبهتهم، وأقام عليهم الحجة، هدّدهم واصفا إياهم بأنهم يمكرون السيئات بموقفهم هذا في إثارة الشبهة حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم والقرآن: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي مكروا المكرات السيئات في محاربة الله ورسوله وكتابه، بمواقفهم وأقوالهم، ودعاء الناس إلى ذلك، وحملهم الناس على هذا المكر أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما فعل بمن تقدمهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي بغتة من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية في

[سورة النحل (16): آية 47]

ليلهم ونهارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي فإنهم لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي متخوفين وهو أن يهلك أحدا قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون متوقعون وهو خلاف حالة مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. قال ابن كثير في تفسيرها: أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد، ثم قال تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، فهو يحلم عنكم مع استحقاقكم، والمعنى: أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيكم فلرأفته ورحمته، فكفّوا إذن عن مكركم السيئات، وآمنوا برسول الله، وادخلوا في دينه، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، وبعد أن أنذرهم لفت نظرهم إلى خضوع الأشياء كلها له، وفي ذلك ترغيب لهم أن يوافقوا الأشياء فلا يشذوا عنها، وأن يشاركوا الملأ الأعلى بكمالاته أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ أي ترجع ظلاله من موضع إلى موضع عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أي ذات اليمين وذات الشمال، أي بكرة وعشيا سُجَّداً لِلَّهِ أي هذه الظلال خاضعة له تعالى: وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون، أي الأشياء نفسها خاضعة صاغرة، كما أن ظلالها ساجدة، والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، بحيث ترجع الظلال من جانب، إلى جانب منقادة لله تعالى، غير ممتنعة عليه فيما سخّرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، غير ممتنعة، أو لم يروا ذلك؟ أي: أو لم يروا خضوع الأشياء كلها لله فيخضعوا ويسلموا وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ فملائكة السموات والأرض تسجد، ودواب الأرض والسموات ساجدة وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن السجود له تعالى والخضوع يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فهم خاضعون خائفون وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فهم مطيعون. فإذا كانت الأشياء كلها خاضعة ساجدة، وإذا كان الملائكة ساجدين خائفين مطيعين، فما بال هؤلاء لا يسجدون ولا يخافون ولا يطيعون أي فما لهم لا يدخلون في السلم كافة.

كلمة في السياق: في صلة المجموعة الرابعة بمقدمة المقطع الثاني وبالمحور، وترابط المجموعات السابقة

كلمة في السياق: [في صلة المجموعة الرابعة بمقدمة المقطع الثاني وبالمحور، وترابط المجموعات السابقة] 1 - سجلت هذه المجموعة موقفا للمستكبرين، وردت عليه، ووعظتهم، ولفتت نظرهم وهذا يذكّرنا بمقدمة المقطع الثاني، ويذكّرنا بأن هذه المجموعة استمرار لمجموعاته. 2 - جاء في أول السورة قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. .. وقد جاءت هذه المجموعة لتناقش استغراب من استغرب أن يوحي الله إلى بشر، وتأتي المجموعة التالية مبدوءة بقوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ فالمجموعتان السابقة واللاحقة إذن مرتبطتان بالمقطع الأول أيّ رباط، ارتباط التوحيد بالرسالة، وارتباط التوحيد باليوم الآخر، كما ورد في مقدمة هذا المقطع: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ فالمجموعتان السابقة واللاحقة مرتبطتان بالمجموعة قبلهما التي ردّت على منكري اليوم الآخر، والمجموعات الثلاث مرتبطة بمقدمة المقطع أيّ ارتباط، والمقطع الثاني مرتبط بالمقطع الأول بروابط كثيرة، والمجموعات الثلاث تخدم السياق الكلي للقرآن، فتخدم الآية التي هي محور السورة في حيزها من سورة البقرة، فتعمّق معنى الإنذار باليوم الآخر، وتعمّق معنى الدخول في السلم كافة، وكل ذلك في تداخل لا يحيط بجماله وكماله إلا الله، وقبل أن نذكر فوائد هذه المجموعة نذكر المجموعة الخامسة، ونفسرها للارتباط الكامل بينها وبين المجموعة السابقة، حتى لتكادان أن تكونا مجموعة واحدة: يتقرر في أولاها الوحي والرسالة، ويتقرر في الثانية التوحيد، ثمّ نذكر بعد ذلك بعض الفوائد المتعلقة بالمجموعتين.

المجموعة الخامسة: وتتألف من خمس آيات، وتمتد من الآية (51) إلى نهاية الآية (55) وهذه هي

المجموعة الخامسة: وتتألف من خمس آيات، وتمتد من الآية (51) إلى نهاية الآية (55) وهذه هي: 16/ 55 - 51 ملاحظة: [موضوع المجموعة تصحيح أفظع انحرافات المستكبرين وهو الشرك وصلة المجموعة بما قبلها] رأينا أن كل مجموعة في هذا المقطع تسجل موقفا وتردّ عليه، إلا أنه في المجموعة الرابعة ردت على موقف دون تسجيله فعلم من الرد، وهذه المجموعة تقرر موضوعا هو تصحيح لأفظع انحرافات المستكبرين وهو الشرك، ونلاحظ أن هذا التصحيح جاء عقب لفت النظر في آخر آيات المجموعة الرابعة إلى خضوع الأشياء كلها لله. التفسير: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ بإعطاء غير الله خصائص الإلهية من عبادة أو طاعة استقلالية أو حاكمية إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فلا تنبغي العبادة بمعانيها كلها إلا له، فله السجود، وله الخضوع، وله الطاعة، وله الانقياد؛ لأنه مالك كل شئ وخالقه وربه فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي فخافوني وحدي، ومن التركيب نفهم أنه لا يجوز أن يكون في قلب الإنسان رهبة إلا من الله، وإذا وجدت بحكم الجبلة فعليه أن يدافعها وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ أي الطاعة واصِباً أي واجبا ثابتا دائما خالصا، وإذ كان الأمر كذلك، له ملك كل شئ، وعلى كل

[سورة النحل (16): آية 53]

شئ طاعته، فكيف يتقى غيره! ومن ثم قال: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ أي تخافون وتحذرون، وتحاولون وقاية أنفسكم منه، ثم أخبر تعالى أن ما بالعباد من رزق ونعمة ونصر فمن فضله عليهم، وإحسانه لهم قال: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي وأيّ شئ اتصل بكم من نعمة: عافية، وغنى، وخصب، فهو من الله فكيف تشركون معه غيره! ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ من مرض وفقر، وجدب، وخذلان، ومصائب وخوف، وغير ذلك فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي ترفعون أصواتكم إليه بالدعاء والاستغاثة، أي فما تتضرّعون إلا إليه؛ لعلمكم الفطري أنه لا يقدر على إزالته إلا هو، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه وتسألونه، وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يوحّدون في الشدائد، ويشركون في الرخاء، أقام الحجة على التوحيد أولا بالوحي، ثم بخضوع كل شئ له إذ ما من شئ يشذ عن النظام الذي خلقه، ثم بكون النعم كلها منه، فهو الذي أوجدها وسخرها وأنعم بها، ثم بالالتجاء إليه وحده عند الشدة لما ركبت عليه الفطرة البشرية، وهكذا ردّت هذه المجموعة الشرك. وعرّفت التوحيد، ثم ختمت بقوله تعالى لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ كأن هذا جواب سؤال هو: ما غرض هؤلاء من الشرك؟ الجواب: هو كفران النعمة التي آتاهم الله إياها، فهم يشركون لمجرد الكفران، تذكر أوائل السورة خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وبعد أن بين الله غرضهم الخبيث المريض من الشرك أوعدهم فقال: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي اعملوا ما شئتم، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا، فسوف تعلمون عاقبة ذلك، بعد أن أقام عليهم الحجّة، وبيّن سبب شركهم الذي لا يقبله عقل سليم، هدّدهم هذا التهديد الشديد فمن لم تؤثّر فيه الحجة فلعل الوعيد يفيده. قال صاحب الظلال: (هذا النموذج الذي يرسمه التعبير هنا: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ، ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. .. نموذج متكرر في البشرية. ففي الضيق تتوجه القلوب إلى الله، لأنها تشعر بالفطرة ألّا عاصم لها سواه. وفي الفرج تتلهى بالنعمة والمتاع، فتضعف صلتها بالله، وتزيغ عنه ألوانا من الزيغ تبدو في الشرك به وتبدو كذلك في صور شتى من تأليه قيم وأوضاع ولو لم تدع باسم الإله.

فوائد المجموعتين الرابعة والخامسة

ولكن يلجأ إلى بعض مخاليقه يدعوها للنصرة والإنقاذ والنجاة؛ بحجة أنها ذات جاه أو منزلة عند الله، أو بغير هذه الحجة في بعض الأحيان. كالذين يدعون الأولياء لإنقاذهم من مرض أو شدة أو كرب .. ) فوائد المجموعتين [الرابعة والخامسة]: 1 - [حول الآية وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ .. وكون السنة بيان للكتاب] من قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ نفهم أن من مهمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبيان الكتاب، ومن ثم فإن كل أفعاله صلّى الله عليه وسلّم وأقواله وأحواله بيان للكتاب، حتى إن المتتبّع ليستطيع أن يرجع كل ما أثر في السنة عنه عليه الصلاة والسلام إلى موضوع البيان، ومن ثم فإن الكتاب لا يفهم بدون السنة، فنحن لا نعرف كيف ننفّذ الكثير من أوامر الله، كأوامره بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولا نستطيع أن نفهم الحدود في الكثير من النواهي، كالربا وأكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك إلا من خلال السنة، فهي الشرح العملي والنظري للكتاب، فهناك تلازم كامل بين الكتاب والسنة، فمن لم يعرف السنة لا يستطيع أن يفهم الكتاب، ومن ثم فإننا جعلنا هذه السلسلة (الأساس في المنهج) تشتمل على ثلاثة أقسام الأساس في التفسير والأساس في السنة وفقهها والأساس في قواعد المعرفة وضوابط الفهم للنصوص. وما يصاب المسلمون بشيء أفظع من جهل بالكتاب والسنّة إنك لا تعرف حدود وقيود ما أمر الله به ونهى، ولا تعرف وضع الأمور في مواضعها، إن في التصور أو في السلوك، إلا من خلال السنة الشارحة للكتاب، ومن ثم تسمى السنة في القرآن بالحكمة، حتى إن الشافعي يرى أن كل حكمة مقرونة بالكتاب في القرآن إنما يراد بها السنة، فلا تقف همتك دون استيعاب الكتاب والسنة 2 - [حديثان بمناسبة الآية فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يذكر ابن كثير حديثين في الصحيحين: أ- «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم». ب- «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَكَذلِكَ أَخْذُ

3 - إحدى المعجزات القرآنية في الآية ولله يسجد ما في السماوات ..

رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. 3 - [إحدى المعجزات القرآنية في الآية وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ .. ] قال الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ يفهم من ظاهر الآية أن في السموات دواب، كما في الأرض دواب، وفي عصرنا يزداد الكلام عن احتمالات وجود حياة في أجرام كجرم أرضنا، ونحن الآن لا نستطيع أن نجزم بشيء، ولكن على فرض اكتشاف جرم فيه حياة فإن الآية يمكن أن تحمل عليه، أما إذا لم يتبين مثل ذلك فالآية تحمل على أن المذكور فيها يراد به دواب الجنة والله أعلم. ولننتقل إلى المجموعة السادسة في هذا المقطع وهي المجموعة الأخيرة، وهي كسابقاتها تسجل مواقف للمستكبرين، وتردّ عليها، وبهذه المجموعة ينتهي هذا المقطع الذي يتألف من مقدمة وست مجموعات، فإذا اعتبرنا المقدمة مجموعة يكون المقطع مؤلفا من سبع مجموعات.

المجموعة السادسة وتمتد من الآية (56) إلى نهاية الآية (64) وهذه هي

المجموعة السادسة وتمتد من الآية (56) إلى نهاية الآية (64) وهذه هي: 16/ 64 - 56 التفسير: قال صاحب الظلال: (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ فإذا هم يحرّمون على أنفسهم بعض الأنعام لا يركبونها أو لا يذوقون لحومها. أو يبيحونها

للذكور دون الإناث- كما أسلفنا في سورة الأنعام- باسم الآلهة المدّعاة، التي لا يعلمون عنها شيئا، إنما هي أوهام موروثة من الجاهلية الأولى والله هو الذي رزقهم هذه النعمة التي يجعلون مما لا يعلمون نصيبا منها، فليست هي من رزق الآلهة المدعاة لهم ليردوها عليها، إنما هي من رزق الله، الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه. وهكذا تبدو المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء .. الرزق كله من الله. والله يأمر ألا يعبد سواه، فهم يخالفون عن أمره فيتخذون الآلهة. وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما نهاهم عنه. وبهذا تتبدّى المفارقة واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة. وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت، يجعلون نصيبا من رزق الله لهم موقوفا على ما يشبه فعل الجاهلية. ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه «عجل السيد البدوي» يأكل من حيث يشاء لا يمنعه أحد، ولا ينتفع به أحد، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على اسم الله، وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا لله، ولا باسم الله، ولكن باسم ذلك الولي، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقهم الله، وهو حرام نذره على هذا الوجه، حرام لحمه ولو سمي اسم الله عليه لأنه أهلّ لغير الله به. تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ بالقسم والتوكيد الشديد فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لأنه- يحطم فكرة التوحيد). ونعيد تفسير هذه الآية بعد أن رأينا كلام صاحب الظلال فيها: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم أي ويجعلون لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ الله يرزقهم، ويجعلون قسما منه لآلهتهم الباطلة؛ تقربا إليها، بل يفضلونها على جنابه سبحانه تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ أي تكذبون في أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها. أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليجازيهم عليه أوفر الجزاء في نار جهنم. فهذا أول موقف من مواقف المستكبرين في هذه المجموعة: يسجل ويرد عليه بآن واحد، إذ يتقربون بما رزقهم الله لمن لا يشعر بفعلهم أصلا، فأي حماقة وأي ظلم وأي جهل؟ ثم يخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله؛ فعبدوها معه، فأخطئوا خطأ فظيعا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا،

[سورة النحل (16): آية 57]

ولا ولد له، ثم أعطوه من يعتبرونه أخس القسمين من الأولاد وهم في مفاهيمهم الجاهلية لا يرضونها لأنفسهم، ثم زادوا على ذلك أن عبدوها، وهذا هو الموقف الظالم الثاني للمستكبرين في هذه المجموعة وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ فيقعون بذلك كما مر بثلاثة من أفظع أنواع الكفر سُبْحانَهُ عن قولهم وإفكهم أي تنزيها لذاته من نسبة الولد إليه وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور، يجعلون لهم البنين، ويجعلون لله البنات سبحانه. ثم ذكر الله عزّ وجل نظرتهم إلى البنات، ممّا يدل على أن تصورهم عن الذات الإلهية في غاية الفساد، فهم يختارون لأنفسهم الذكور، ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله، لدرجة أن الواحد منهم إذا بشّر بالأنثى يكاد يهلك، أليس هذا يدل على أنهم يضعون الله في المقام الأدنى من مقام أنفسهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي كئيبا مغتمّا فهو أسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس وَهُوَ كَظِيمٌ أي ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن، مملوء حنقا على المرأة يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يكره أن يراه الناس؛ فيستخفي منهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أي من أجل سوء المبشّر به، ومن أجل تعييرهم أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشّر به على هون وذل، أم يئده، بأن يدفنها حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية؟ أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟! أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما قالوا وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف فما أسوأ محاكمتهم وما أسوأ حكمهم؟. قال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية: (ومن عجب أن ينعق الناعقون بلمز العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية- في مسألة المرأة، نتيجة لما يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ولا يكلف هؤلاء الناعقون اللامزون أنفسهم أن يراجعوا نظرة الإسلام، وما أحدثته من ثورة في التطورات والأوضاع وفي المشاعر والضمائر وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها ضرورة واقعية ولا دعوة أرضية ولا مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية. إنما أنشأتها العقيدة الإلهية الصادرة عن الله الذي كرم الإنسان، فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى. ووصفها بأنها شطر النفس البشرية، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على الله.).

[سورة النحل (16): آية 60]

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أي صفة النقص أي صفة السوء، وهي هنا الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهنّ خشية الإملاق وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الكمال المطلق من كل وجه، ومن ذلك الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب في تنفيذ ما أراد الْحَكِيمُ في إمهال العباد وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي بكفرهم ومعاصيهم ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت مسمى عنده تقتضيه الحكمة، أو إلى يوم القيامة، وإذن فهو لا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا، دلّت الآية على أن المستكبرين يستحقون العقوبة بسبب ظلمهم، لولا أن حكمة الله اقتضت الإنظار فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فهو آت مهما أنظروا، فكل آت قريب وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ يكرهون البنات ويجعلونها لله، ويكرهون أن يكون لأحدهم شريك في ماله ويجعلون لله شريكا في ملكه، ويكرهون أن يستخف أحد برسلهم وهم يستخفون برسل الله ويستهزءون بهم ويكرهون أراذل المال ويجعلونها له، ويجعلون لأصنامهم أكرمها، فقد أقاموا الله بالمقام الأدنى من أنفسهم وأصنامهم وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي ويقولون الكذب مع ذلك وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي عند الله، وإن كان ثمّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى وهي الجنة، إن كان البعث حقا، فهم يفعلون ما يفعلون، ويظلمون ما يظلمون، ويسبّون الله ما يسبّون، وينسبون لله جل شأنه من الصفات الدنيا ما ينسبون، ومع ذلك يعتبرون أن لهم مقاما عنده يؤهلهم لخيري الدنيا والآخرة لا جَرَمَ أي حقا، أَنَّ لَهُمُ النَّارَ فهي التي يستحقونها وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي مقدّمون عنده، ولكن إلى النار معجّلون إليها، ثم ختم الله هذه المجموعة، وهذا المقطع كله بآيتين: تَاللَّهِ يقسم بذاته الكريمة لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي أرسلنا رسلا إلى من تقدمك من الأمم فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والتكذيب والاستهزاء وأمثال ما مر معك، فلا تتعجب من تزيين أعمال هؤلاء لهؤلاء على سوئها فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي فالشيطان قرين الكافرين في الدنيا، المتولي لإضلالهم بالغرور وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في القيامة، دلت الآية على أن مواقف المستكبرين التي مرّت معنا كلها من تزيين الشيطان واتباع خطواته، ثم قال الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ أي للناس

ملاحظة حول السياق: توضيح لمدى ترابط آيات المجموعة وصلتها بالمحور

الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه وَهُدىً للقلوب والعقول وَرَحْمَةً لمن تمسك به، ومن ثم قال لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فهو هدى لقلوبهم وعقولهم وسلوكهم، ورحمة لهم في كل حال. فالقرآن فيه بيان لكل شئ، ولكن يستفيد منه المؤمنون، فهو رحمة لهم وهدى، وبهذا انتهت المجموعة السادسة، وانتهى بها المقطع الثاني. وقد دلنا على انتهائه أنه جاءت بداية جديدة تشبه بدايته. فقد بدأ المقطع بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ .... والآن يأتي قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً .... فهذه بداية المقطع الثالث. ملاحظة حول السياق: [توضيح لمدى ترابط آيات المجموعة وصلتها بالمحور] لاحظ أنه قد جاء في وسط هذه المجموعة قوله تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى مما يشعرنا أنّ هذه المواقف للكافرين سببها كفرهم بالآخرة، فالكفر بالآخرة هو سبب هذه الجرأة على الله. لاحظ صلة هذا بمقدمة المقطع إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ثم لاحظ أنّ المقطع أفهمنا بآيته قبل الأخيرة أن مواقف الكافرين إنما هي من تزيين الشيطان لهم، فإذا تذكرنا أن المجموعات الستة في المقطع قد تحدثت عن مواقف للمستكبرين، وإذا تذكّرنا أن الكبر هو خلق الشيطان الأول، أدركنا أن المقطع كان حديثا عن خطوات الشيطان التي نهينا عن اتباعها، وإذا تذكّرنا الكلام الكثير عن اليوم الآخر في المقطع، وإذا تذكرنا ختم المقطع بقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أدركنا صلة المقطع بمحور السورة، وبحيز محور السورة من البقرة، إذ يأمر بالدخول في السّلم كافّة، وإذا تذكّرنا هذه الآية، وتذكّرنا الآية الثانية من سورة النحل يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ أدركنا الصلة ما بين مقاطع السورة .. ومن كل ما مرّ معنا ندرك ارتباط سلامة التصور عن الذات الإلهية بسلامة التصور عن اليوم الآخر، بموضوع الدخول في الإسلام كله، بموضوع عدم اتباع خطوات الشيطان، وعلى عكس ذلك، فإنه يترتب على فساد التصور عن الله واليوم الآخر؛

فوائد

اتباع لخطوات الشيطان وعدم دخول في السلم كله. فوائد: بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يذكر ابن كثير بعض الآثار والأحاديث التي تفيد تعدي أثر ظلم الظالم، وعدل العادل لغيرهما. قال ابن كثير: (قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال: كاد الجعل (¬1) أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ الآية وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم. وروى ابن جرير ... عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه؛ قال: فالتفت إليه فقال: بلى والله حتى إن الحبارى (¬2) لتموت في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن أبي حاتم ... عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (لعلهم ذكروا زيادة العمر) فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة، يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر». ملاحظة: [العلامة على تحديد مقاطع السورة] رأينا أن المقطع الثاني بدأ بكلمة (والله) وكذلك المقطع الثالث يبدأ بنفس الكلمة إنه من خلال هذه العلامة، ومن خلال المعاني حدّدنا مقاطع السورة. ¬

_ (¬1) - الجعل: حيوان يشبه الخنفساء. (¬2) الحبارى: طائر يشبه الإوزة إلى حد كبير.

المقطع الثالث ويمتد من الآية (65) إلى نهاية الآية (89) وهذا هو

المقطع الثالث ويمتد من الآية (65) إلى نهاية الآية (89) وهذا هو: 16/ 89 - 65

التفسير

التفسير: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فتلك نعمة من أجلّ نعمه تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لدلالة واضحة على الله وقدرته وعنايته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي يفهمون الكلام ومعناه، ويسمعونه سماع إنصاف وتدبّر، لأنّ من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي في الإبل والغنم والبقر والماعز لَعِبْرَةً أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي بطون النعم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ أي فضلات وَدَمٍ لَبَناً أي نسقيكم من بين هذا وهذا لبنا خالِصاً لا أثر فيه لدم ولا فرث، لا في اللون ولا في الطعم ولا في الرائحة سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في الحلق، وفي هذه الآية معجزة عظيمة زائدة على الإعجاز العام في القرآن، سنراها في الفوائد، ولما ذكر الله نعمته على خلقه باللبن وكونه شرابا سائغا ثنّى بتذكير الناس بما يتخذونه من أشربة مما خلق، والفعل فعله، من أجل أن يحرّك في أنفسهم الشعور بنعم

[سورة النحل (16): آية 67]

الله وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي من عصيرها تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً أي خمرا وَرِزْقاً حَسَناً كالخل والدبس والنقيع، وفي الآية كلام كثير سنراه في الفوائد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لدلالة واضحة على الله الذي خلق لهذا الإنسان ما خلق، ولكن هذه الآية يدركها أصحاب العقول، لذلك قال: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وناسب ذكر العقل هاهنا لذكر السكر الذي حرّمه الله على هذه الأمة صيانة لعقولها. ثم ذكّر الله تعالى بآية أخرى ونعمة أخرى وَأَوْحى رَبُّكَ أي ألهم وهدى وأرشد إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي مما يعرش الناس، أي يرفعون من سقوف البيوت، أو ما يبنون للنحل من الأماكن التي تعسل فيها ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي وألهمها أن كلي من كل الثمرات فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ: أي فإذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل الله لا تضلين فيها ذُلُلًا أي مذللة لك أي مسهّلة عليك، فهي ترعى حيث شاءت ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ هو العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ منه أبيض وأصفر وأحمر، وخروجه من بطونها يكون عن طريق فمها فِيهِ أي في العسل شِفاءٌ لِلنَّاسِ لم يقل فيه الشفاء للناس لأنه ليس شفاء من كل داء، بل فيه شفاء للناس من أدواء تعرض لهم، وقد ألفت المؤلفات الكثيرة، شرقية وغربية في العسل كدواء كما سنرى في باب الفوائد إِنَّ فِي ذلِكَ أي في مجموع ما مرّ من هداية النحل، إلى الشفاء بما يخرج منه لَآيَةً ولكن لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أما الذي لا يتفكر فإنه قد أعمته الألفة عن رؤية الآية فلم يعد يشعر بما تدلّ عليه، ثم قال تعال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ فتذكروا نعمته عليكم في ذلك ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ فاعرفوه بصفة الإحياء والإماتة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى أخسه وأحقره وهو الهرم لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي لينسى ما يعلم، أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عليم بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل، أو إلى الإفناء من الإحياء، قدير على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء، بعد أن ذكّرهم في الآيات السابقة على هذه الآية بمجموعة من نعمه عزّ وجل ذكّرهم هنا بكمال قدرته وتصرفه، وعجزهم وقهرهم تحت سلطانه؛ ليدركوا افتقارهم في كل حال إليه، فهم مفتقرون إلى نعمه، مفتقرون إليه، ثم قال تعالى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ رزق هذا أكثر من هذا، وجعل هذا مالكا وهذا مملوكا، وهذا لا يملك شيئا.

[سورة النحل (16): آية 72]

وسنرى حكمة ذلك في باب الفوائد فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي فما الذين فضّلوا بالرزق- وهم الملّاك- برادي رزقهم أي: بمعطين رزقهم لمملوكيهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فيستووا مع عبيدهم في الرزق، أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ هذه حجتهم وفلسفتهم ذكرها الله عزّ وجل في عدم رد ما فضلوا به على مماليكهم أنهم لو فعلوا لجحدوا نعمة الله عليهم الذي فضّلهم على غيرهم، وبهذا أقام الله الحجة على المشركين فهو مثل ضربه الله لهم معناه: أنتم لا ترضون أن تسووا بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء، وتعتقدون أنني راض عن ذلك. والآية تحتاج إلى كلام كثير سنراه في الفوائد. وهكذا بدأت هذه المجموعة بالتذكير بنعم الله ثم بالتذكير بقهره، ثم بإقامة الحجة على المشركين لتحرير التوحيد، والآن تعود للتذكير بالنعمة، وتقرير التوحيد بآن واحد وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً. قال ابن كثير: «يذكر الله تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم. ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور، ثم ذكر الله تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة: وهم: أولاد البنين) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من المطاعم والمشارب، وهذا من كمال نعمته عليكم، وإذ كان الأمر كذلك فكيف تشركون. ومن ثم قال: أَفَبِالْباطِلِ الباطل هو الشئ الذي لا حقيقة له يُؤْمِنُونَ أي يصدّقون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ التي يحسونها ويتنعّمون بها يَكْفُرُونَ يضيفونها إلى غيره ولا ينسبونها إليه، وهذا دأب المشركين خلال العصور، ومن ذلك ملاحدة عصرنا الذين يخلعون على الطبيعة خصائص الإلهية، ويجعلونها هي الخالقة الرازقة. وبعد أن ذكّر الله بنعمه، وأقام الحجة على المشركين أخبر عن المشركين، وماذا يفعلون؟ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً فالله هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده، وغيره لا يملك أن يرزق أدنى شئ وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي لا يملكون الرزق، ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم، ومن كان كذلك فكيف يعبد؟ ولا شك أن الذين يعبدون من دون الله ما يعبدون

[سورة النحل (16): آية 74]

يفلسفون ذلك ويموّهونه، ويحاولون تقريبه إلى الأذهان بضرب الأمثال. ولذلك قال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي إنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره، ثم ضرب الله مثلين لإبطال شركهم وإقامة الحجة عليهم. المثل الأول: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرّف، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه ما يشاء، فهل يستوي هذا مع هذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحا بيّنا لا يجهله إلا غبي، قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن الحمد والعبادة لله. قال مجاهد عن هذا المثل: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى فهل يستوي هذا وهذا؟ المثل الثاني: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ الأبكم: هو الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم وَهُوَ كَلٌّ أي ثقل وعيال وكلفة عَلى مَوْلاهُ أي على من يلي أمره ويعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ أي يبعثه لا يَأْتِ بِخَيْرٍ فلا تنجح مساعيه، فحيثما يرسله ويصرفه في مطلب أو حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجاح هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي ومن هو سليم الحواس نفّاع ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو يأمر الناس بالعدل والخير وَهُوَ أي في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على سيرة صالحة ودين قويم، وهذا مثل آخر للوثن وللحق تعالى، يعني: أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء، ولا يقدر على شئ بالكلية، فلا مقال ولا فعال، وهو مع هذا كلّ على من يتولاه، والله عزّ وجل يفيض على عباده من آثار رحمته، فينزل وحيا ويرسل رسلا، وينزل كتبا تعرّف الناس على العدل الخالص، وله الصفات العليا والأسماء الحسنى، فكيف يشرك المشركون؟ ولمّا كان هذان المثلان قد ذكرا من باب تقريب المعاني إلى الأذهان، وقد يترتب عليه في الأذهان الكليلة تصور لا يليق بالعظمة، أتبع الله ذلك بآية تتحدث عن عظمة الله بما يخلع القلوب وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه وَما أَمْرُ السَّاعَةِ في قرب كونها، وسرعة

[سورة النحل (16): آية 78]

قيامها، مع أنها تغيير لنظام الكون كله إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي إلا كرجع طرف أو الأمر أقرب من ذلك. وفسر بعضهم (أو) هنا بمعنى بل. والمعنى بل أمر الساعة أقرب من لمح البصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق، وهذا بعض مقدوراته. أخبر تعالى بذلك عن كمال علمه في علمه غيب السماوات والأرض، واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطّلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وعن كمال قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون. ثم يعود السياق إلى تعداد نعم الله. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ فهذه وسائل الإدراك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أنه جل جلاله ركّب فيكم هذه الأشياء لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه، واجتلاب العلم الذي يوصل إلى شكر المنعم، وعبادته والقيام بحقوقه، فماذا فعل الناس فيها؟ استعملها الكثيرون فأفادتهم، ولكن لم يحققوا بها ما خلقت له، وهو الوصول إلى الشكر، والقليل هم الذين شكروا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (سبأ: 13) ثم لفت نظرهم إلى آيات من آيات الله أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ أي مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك فِي جَوِّ السَّماءِ أي في هواء السماء والمراد بها السماء لغة وهي جهة العلو ما يُمْسِكُهُنَّ في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إِلَّا اللَّهُ بقدرته فإنه الخالق لكل شئ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فالمؤمن هو الذي يرى آيات الله في هذه الظاهرة وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً السكن: هو الذي يسكن إليه الإنسان، وينقطع إليه من بيت أو إلف لما يسببه له ذلك من سكينة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً المراد بذلك قباب الجلود وهي معروفة قديما، ويدخل في ذلك بيوت الشعر كذلك، لأنها من جلود الأنعام تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل، والظعن: الارتحال. منّ الله عليهم بالخيام التي يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها في إقامتهم في السفر والحضر، ومن ثم قال: وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي قراركم في منازلكم، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر وَمِنْ أَصْوافِها أي أصواف الغنم وَأَوْبارِها أي وأوبار الإبل وَأَشْعارِها أي وأشعار المعز أَثاثاً أي متاعا

[سورة النحل (16): آية 81]

للبيت ولكم، فالأثاث يطلق على البسط والثياب وحاجيات البيوت وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي وشيئا ينتفع به إلى مدة من الزمان أي إلى أجل مسمى، ووقت معلوم. وفي الآية إشارة إلى معنى سنراه في الفوائد وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا كالأشجار والسقوف وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً الأكنان جمع كن: وهو ما سترك من كهف أو غار، وفسّرها ابن كثير: بالحصون والمعاقل وهو معنى أدق وأعم، والنّعمة فيه أظهر، وخاصة في الحرب وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ السرابيل هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن تَقِيكُمُ الْحَرَّ أي والبرد إلا أنه سبحانه اكتفى بأحد الضدين لأن الوقاية من الحر قد لا يتفطن إليها الإنسان وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي ودروعا من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم، والبأس: شدة الحرب، والسربال: عام يقع على ما كان من حديد أو غيره كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم، وما تحتاجون إليه ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته، لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي تسلمون لله فتؤمنون وتنقادون وتدخلون في دينه ولننتبه جيدا إلى قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ كلمة حول السياق: [حول صلة الآيات (65 - 81) بمحور السورة وعرض لمضمون المقطع] رأينا أن محور هذه السورة هو قوله تعالى من سورة البقرة: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الآتية في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فهذه السورة تذكّر الإنسان باليوم الآخر من أجل أن يدخل في الإسلام كله، ويترك خطوات الشيطان، والتذكير باليوم الآخر يقتضي تذكيرا بالله؛ لأنّ من لم يؤمن بالله حق الإيمان، ويعرفه حق المعرفة، لا يؤمن باليوم الآخر. وقد رأينا أنّ هذا المقطع قد سار معدّدا نعم الله، ومعرّفا على الله حتى آخر آية عرضناها لينهيها بقوله: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ. فهذه الخاتمة تذكرنا بأن الله ما أنعم على هذا الإنسان هذه النعم الكبيرة إلا من أجل الإسلام، فإذا لم يسلم الإنسان لله فإنه لا يكون قد أدى شكر الله، ولا يكون قد حقق الحكمة من وجوده الذي سخر الله له كل شئ، وقد أنزل الله هذا الإسلام من أجل أن يدخل فيه الإنسان دخولا كاملا، بتطبيقه جميعه، فمن لم يدخل في الإسلام كله فإنه لم

ولنعد إلى السياق

يحقق الشكر، ومن ثم نجد التناقض الكبير الذي عليه أكثر الخلق. ولنعد إلى السياق: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام كله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فلا تبعة عليك في ذلك، لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر الواضح الكامل البيان، وقد كان يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضّل به عليهم ثُمَّ يُنْكِرُونَها بأفعالهم حيث يرفضون الدخول في الإسلام كله وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي وأكثرهم الجاحدون أي غير المعترفين، فهم بين اثنين: إما إنسان يعترف بالنعم ولا يبني عليها الدخول الكامل في الإسلام، أو إنسان يجحد أصلا نعمة الله كهؤلاء الملحدين الذين لا يؤمنون بالله أصلا، فضلا عن أن يدخلوا في دينه، وفي سبب نزول هذه الآية يذكر ابن أبي حاتم بسنده إلى مجاهد أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله فقرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً فقال الأعرابي: نعم، قال وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً الآية قال الأعرابي نعم، ثم قرأ عليه، كل ذلك يقول الأعرابي: نعم. حتى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي فأنزل الله يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ولنعد إلى الكلام عن السياق: رأينا كيف خدم هذا المقطع حتى الآن موضوع الدخول في الإسلام كله، وهو الموضوع الذي تخدمه هذه السورة، وتخدمه الآية التي هي محور هذه السورة من سورة البقرة، ومضمونها التذكير باليوم الآخر، كطريق لإيصال الإنسان إلى الدخول في الإسلام كله، ومن ثم نلاحظ أن هذا المقطع يختتم بمجموعة آيات: أول آية فيها مبدوءة بقوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ... وآخر آية فيها مبدوءة بنفس المطلع وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ونلاحظ أن الآية الأخيرة قد ختمت بقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وفي هذا الختام الذي يذكر الله فيه أنه ما من قضية من قضايا الوجود إلا ولله فيها الحكم الحق- وما خالفه ضلال وقد بيّنه في كتابه، أو بيّن الطريق إلى الوصول إليه في كتابه، ومجموع هذه الأحكام هي الإسلام الذي أمر الله بالدخول فيه، ومن هذا ندرك أن

[سورة النحل (16): آية 84]

المجموعة الآتية تخدم بشكل مباشر محورها من سورة البقرة وهو آية هَلْ يَنْظُرُونَ .... وبما يحقق حيّزها وهو ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... بشكل مباشر. فلنر المجموعة الأخيرة من هذا المقطع: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليها وهو رسولها، أي: واذكر يوم نحشر من كل أمة نبيا يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب، والإيمان والكفر ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، والمعنى أنّه لا حجة لهم ولذلك لا يؤذن لهم بالاعتذار، دلّل بعدم الإذن على أنه لا حجة لهم ولا عذر وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ولا يسمح لهم بالاسترضاء، أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل، وذلك مقام رهيب، الأنبياء هم الشهود على الكافرين، والكافرون يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة، ولا بالإدلاء بحجة وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الذين كفروا وأشركوا الْعَذابَ بأن يدخلوا النار فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي ولا هم يمهلون قبله لا يؤخر عنهم ولا يفتر وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أي الذين يعبدونهم في الدنيا قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا أي آلهتنا التي جعلناها شركاء الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي نعبد مِنْ دُونِكَ فتبرأت منهم آلهتهم أحوج ما يكونون إليها فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أي قالت لهم الآلهة: كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا كذّبتهم آلهتهم لأنها كانت جمادا لا تعرف من عبدها، أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة؛ تنزيها لله عن الشرك وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ إلقاء السلم يعني: الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا، أي وألقى الذين كفروا يومئذ السلم لله بأن استسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، أسلموا حيث لا ينفعهم إسلامهم، وتركوا الإسلام حين كانوا مكلفين به وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وبطل عنهم ما كانوا يفترون، من أن لله شركاء، وأنهم ينصرون ويشفعون، لقد ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله، فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير، ثم بين الله عزّ وجل جزاء الذين جمعوا بين الكفر والصد عن سبيل الله فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم. وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي وحملوا غيرهم على الكفر ومنعوهم من الدخول في الإسلام زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ

[سورة النحل (16): آية 89]

الْعَذابِ أي عذابا على كفرهم، وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق بِما كانُوا يُفْسِدُونَ أي بسب كونهم مفسدين في الأرض بصد الناس عن سبيل الله، وإبعاد الناس عن الإسلام وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي واذكر يوم نبعث في كل أمة نبيّهم شهيدا عليهم من جنسهم وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي على أمتك أي اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع، ثم ذكر الله ما شرّف به رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا من إنزال هذا القرآن عليه وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً أي مبيّنا لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين والدنيا. قال ابن مسعود: (قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شئ) فما من قضية من القضايا التي يحتاجها الإنسان كفرد والإنسانية كلها- إلا ولله فيها الحكم الحق، ومجموع هذه الأحكام هي الإسلام. وفي الفوائد تفصيل حول هذا الموضوع، ثم أكمل الله وصف كتابه بعد أن بين أنه تبيان لكل شئ فقال: وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ فكما أن القرآن فيه تبيان لكل شئ ففيه كذلك دلالة إلى الحق، ورحمة للمسلمين وبشارة لهم بالجنة، وهكذا استقر المقطع على تبيان أن الإسلام تفصيله في هذا القرآن الذي فيه بيان كل شئ، وفيه الهدى والرحمة والبشارة للمسلمين، وبهذا انتهى المقطع. الفوائد: 1 - [إحدى المعجزات القرآنية في الآية وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً .. ] في قوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ معجزة زائدة على الإعجاز العام الموجود في هذا القرآن، هذه المعجزة تتمثل في كون القرآن تحدث عن موضوع لم يعرف بمنتهى الدقة العلمية على ما حدّث به القرآن إلا بعد قرون، فالحديث عنه في القرآن بهذه الدقة يدل على أن هذا القرآن من عند الله فلنر الموضوع: إن آلية تشكل الحليب كما يتحدث عنه العلم الحديث على الشكل التالي: بعد أن يتمثل الطعام، ويصل إلى الأمعاء، تمتص الزغيبات المعوية ما فيه من غذاء، مبقية الفضلات- وهي الفرث- في الأمعاء، فيلقي الغذاء في الدم، وهذه أول تصفية، ثمّ يمر الدم وهو يحمل الغذاء على الغدد اللبنية فتفرز هذه الغدد الحليب من الدم ليذهب إلى الثدي، وتلك التصفية الثانية، وهكذا من بين فرث ودم يخرج الحليب، هذا الذي ذكره القرآن قبل أن يصل العلم إلى مثل هذه الدقة في تحديد آلية

2 - أول آية تشير إلى الخمر تلميحا هي ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ..

الوصول إلى الحليب يدل بما لا يقبل جدلا على أنّ منزل هذا القرآن هو العليم بكل شئ. قال صاحب الظلال: (وقد بقي هذا كله سرا إلى عهد قريب، وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها، فضلا عن أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة. وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن: فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة. والقرآن عبر هذه الحقائق العلمية البحتة- يحمل أدلة الوحي من الله مع خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها، ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين). 2 - [أول آية تشير إلى الخمر تلميحا هي وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً .. ] أول آية نزلت تشير إلى الخمر غامزة منها هي قوله تعالى وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إذ عطفت الرزق الحسن على السّكر، والعطف يقتضي التغاير، فدل ذلك على أن السّكر ليس من الرزق الحسن، فكانت غمزة في الخمر ومقدمة لتحريمه، وللعلماء استنباطات من الآية: قال ابن كثير بعد أن ذكر الآية: (دلّ على إباحته شرعا قبل تحريمه ودل على التسوية بين المسكر المتّخذ من النخل والمتخذ من العنب، كما هو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وجمهور العلماء، وكذا حكم سائر الأشربة المتّخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك). 3 - [حول كون عسل النحل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ] وعند قوله تعالى عن العسل: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ قال ابن كثير: (روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال: «اسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال: «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا. ثم جاء فقال: يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا فبرئ).

قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت، فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالا، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلّى الله عليه وسلّم عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي الصحيحين من حديث هشام بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الحلواء والعسل، هذا لفظ البخاري، وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وأنهى أمتي عن الكي». وروى البخاري ... عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن كان في شئ من أدويتكم- أو يكون في شئ من أدويتكم- خير: ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لدغة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي». ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به. وروى الإمام أحمد ... عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن كان في شئ شفاء: فشرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية تصيب ألما وأنا أكره الكي ولا أحبه». ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري عن عبد الله بن الوليد به. ولفظه «إن كان في شئ شفاء: فشرطة محجم» وذكره وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه. وروى الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه .... عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن». وهذا إسناد جيد تفرّد بإخراجه ابن ماجه مرفوعا. وقد رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه.

4 - فوائد حول النحل وعسله

4 - [فوائد حول النحل وعسله:] بمناسبة الكلام عن النحل والعسل نقول: إن الكتب التي ألفت عن عجائب النحل ومملكته في عصرنا لا يمكن إحصاؤها، والكتب والمقالات التي كتبت عن الاستطباب بالعسل لا تكاد تحصى، وقد ألفت في ذلك رسائل جامعية وصدرت أبحاث علمية طبية عن جهات متخصصة كثيرة في هذا العالم، بحيث أصبح محل العسل في العلاج الطبي مشتهرا شهرة تبلغ حدّ البديهية في كل مكان في العالم، وندر أن تدخل مكتبة من المكتبات إلا وتجد فيها كتابا عن العسل والنحل، وفي هذه الفائدة أحب أن أنقل لك فقرات تزيد الإيمان من كتاب «النحلة تسبح الله» لمؤلفه محمد حسن الحمصي حفظه الله: قال عن النحلة: «إنها لربما تطير بضعة كيلو مترات، بل لربما وصلت في طيرانها هذا حول الخلية إلى حدود دائرة نصف قطرها أحد عشر كيلو مترات ثم تعود إلى خليتها من غير أن تضل» «لقد وهب الله النحلة من حاسة الشمّ ما تستطيع به أن تميز الرائحة الخاصة بمجموعتها» «إن الدلالة على مكان يحتاج إلى أمرين اثنين: أولهما التعبير عن المسافة، وثانيهما التعبير عن الاتجاه، فللتعبير عن المسافة .. تلجأ إلى نوعين من الرقص: أحدهما الرقص الدائري، والآخر الرقص الاهتزازي، وللتعبير عن اتجاه مصدر الغذاء بالنسبة للخلية، فإن الرقص الدائري يدل على أن الغذاء قريب، وحول الخلية (في حدود 50 مترا) يمكن للشغالة رؤيته بمجرد طيرانها من الخلية، فلا حاجة لتحديد الاتجاه. أما في حالة بعد مصدر الغذاء فإن اتجاه الحركة المستقيمة في (الرقص الاهتزازي) يشير إلى اتجاه مصدر الغذاء، ويصنع مع الخط الشاقولي- تقريبا- الزاوية التي يصنعها الطريق مع الشمس. فتحفظ النحلات الشغالات مقدار هذه الزاوية. وتنطلق من مقرها متقيدة بالاتجاه المطلوب والمسافة المطلوبة. وهناك تعثر على نبع فياض من الرحيق. والغريب في الأمر أن النحل يستعمل الشمس كبوصلة للوصول إلى مسكنه أو بستان عمله، تماما كما يفعل الإنسان. ...... فجعلت (يد الصانع الحكيم) لكل نحلة ثلاث عيون بسيطة تؤلف مثلثا رأسه إلى الأعلى، تستعملها للرؤية ضمن المسافات القريبة، داخل الخلية، أو لدى فحص

الأزهار التي تأخذ منها الرحيق وحبوب اللقاح في الحقول. كما جعلت لكل نحلة زوجا من العيون المركبة، الكبيرة الحجم، تستعملها للرؤية البعيدة، الواسعة النطاق. فالنحلة الملكة تتألف العين المركبة لديها من 4900 عديسة متساوية في الحجم، وموزعة توزيعا تستطيع معه الرؤية من جميع الاتجاهات. وذلك حتى تستطيع أن تحدد طريقها أثناء طيرانها السريع، عند ما تخرج للتلقيح. أما النحلة الشغالة فإن عينها المركبة تتألف من 6300 عديسة متساوية في الحجم، وموزعة توزيعا تستطيع معه الرؤية من جميع الاتجاهات في نفس الوقت. وأما النحلة الذكر فإن عينها المركبة تتألف من 13090 عديسة. عدد كبير لا شك، وسيزداد استغرابنا عند ما ما نعلم أن العديسات العلوية أكبر من السفلية. ولكن دهشتنا هذه ستزول عند ما نعلم أن مهمة الذكر تتطلب هذه الدقة في البصر. إن مهمته الوحيدة- كما نعلم- هي التقليح. ولذلك فهو مزود بعينين مركبتين قادرتين على متابعة النحلة الملكة أثناء طيرانها أينما ذهبت. .... إنها طائرة تستطيع أن تغير اتجاه طيرانها تغييرا مفاجئا، بل إنها تستطيع أن تحول اتجاه طيرانها، تحويلا مفاجئا، من الأمام إلى الخلف. .... إنها على الرغم من صغر حجمها، وضعف جسمها، ورقة أجنحتها الشفافة تستطيع أن تطير بسرعة فائقة نسبيا. حتى إن سرعتها لتصل إلى حدود 30 كم في الساعة. وهي سرعة عظيمة إذا ما قورنت بصغر أجنحتها وقوتها المحدودة. .... كما أن القدرة الإلهية أودعت في جناح النحلة إمكانية تذبذب بالغ السرعة يصل في الطيران السريع إلى أربعمائة ذبذبة في الثانية الواحدة. إنه لشئ مدهش حقا أن تبلغ حركة جناح النحلة علوا وانخفاضا 400 مرة في الثانية الواحدة.» وقال المؤلف تحت عنوان (العسل دواء شاف) مستفيدا من الرسائل الطبية الإسلامية حول فوائد العسل العلاجية ما يلى: «وقبل أن نخوض في عرض الآراء العلمية، للاستطباب بالعسل لا نرى بأسا في أن

نلقي نظرة سريعة على أوصاف العسل. من المتعارف عليه أن للعسل أربعة ألوان هي: 1 - العسل الأبيض. 2 - العسل الكهرماني الفاتح. 3 - العسل الكهرماني. 4 - العسل الكهرماني الداكن (الغامق). ولقد أشار المولى سبحانه إلى اختلاف ألوان العسل في الآية الكريمة ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ. ولكأني بهذه الآية الشريفة، وهي تربط بين اختلاف ألوان العسل من جهة واختلاف الثمر الذي يرعى النحل زهوره، واختلاف الأراضي التي يسلكها النحل من جهة أخرى ... تشير إلى حقيقتين علميتين، عن سبب اختلاف ألوان العسل: أولى هاتين الحقيقتين العلميتين: أن اختلاف مرعى النحل يؤثر تأثيرا كبيرا في لون العسل .. وذلك لأن نوعية الرحيق وقف على نوعية الأزهار التي يرعاها النحل. وثاني الحقيقتين العلميتين: أن اختلاف تركيب التربة الكيماوي بين بقاع الأرض المختلفة .. يؤدي إلى اختلاف لون العسل .. ذلك أن رحيق الأزهار يعتمد اعتمادا كبيرا على ما يمتصه النبات من المعادن التي في التربة .. وحيث كانت كمية المعادن تختلف باختلاف بقاع الأرض .. فإن من الطبيعي لذلك أن يختلف لون العسل. وأما الحقيقة العلمية الثالثة، في اختلاف لون العسل، والتي لم تشر إليها الآية القرآنية المارة الذكر، فهي أن اختلاف لون العسل يعتمد أيضا على الأقراص الشمعية المستعملة في الخلية. .. فإذا كانت هذه الأقراص جديدة أعطت عسلا فاتح اللون .. وإذا كانت قديمة أعطت عسلا داكنا. ولكن التمحيص في هذه الحقيقة العلمية المؤثرة في لون العسل .. يدلنا على عظمة القرآن، كما يشير إلى بلاغته التي اقتضت أن يعطي من الحقائق العلمية ما يتطلبه

التركيب الكيماوي للعسل

الموقف، وبصورة بالغة اللطف .. حتى يتمكن الإنسان من تفهمها وهضمها تماما. ذلك أن هذه الحقيقة العلمية الثالثة، المؤثرة في لون العسل .. على الرغم من صحتها .. فهي ذات تأثير عارض ليس بطبيعي .. إذ إن اختلاف الأقراص الشمعية بين القدم والجدة، إنما مرده إلى ما يحدثه الإنسان اليوم، الذي يضع الأقراص القديمة في خلية النحل .. أما عسل النحل .. كما يصنعه النحل .. دون أن تتدخل فيه يد الإنسان الطمّاع .. فإنه لا يتأثر مطلقا بهذه الحقيقة العلمية الثالثة .. لأنه لا أثر لها، ولا وجود لها، في الأحوال الطبيعية. ومن أجل ذلك لم تشر الآية الكريمة إلى هذا الأمر مطلقا؛ لأنها تعالج قضية العسل، كما ينتجه النحل، وفقا للوحي الإلهي. التركيب الكيماوي للعسل: ومهما يكن من أمر اختلاف لون العسل فإنه بجميع ألوانه يحتوى على المركبات التالية: 1 - الغلوكوز- سكر العنب- (الحقيقة أن الموجود في العسل من السكر هذا إنما هو الغلوكوز (سكر العنب) والفروكتوز (سكر الفاكهة) وتركيبهما الكيماوي واحد، لذلك عددناهما مركبا واحدا؛ غير أنه تجدر الملاحظة- كما يقول الدكتور ظافر العطار- أن الفروكتوز لا يحتاج إلى الأنسولين لحرقه): وهو يوجد بنسبة 75% وهو السكر الأساسي الرئيسي الذي تسمح جدران الأمعاء بمروره إلى الدم على عكس بقية الأنواع من السكاكر- وخاصة السكر الأبيض المعروف علميا بسكر القصب- التي تتطلب من جهاز الهضم إجراء عمليات متعددة من التفاعلات الكيماوية، والاستقلابات الأساسية، حتى تتم عملية تحويله إلى سكاكر بسيطة أحادية كالغلوكوز- يمكن للدم امتصاصها من خلال جدر الأمعاء. هذا وإن سكر (الغلوكوز) الذي في العسل .. بالإضافة إلى كونه سهل الامتصاص .. فإنه سهل الادخار .. ذلك أنه يتجه بعد الامتصاص إلى الكبد مباشرة فيتحول إلى غلوكوجين، يتم ادخاره فيه لحين الحاجة .. فإذا ما دعت الضرورة

لاستخدامه .. يعاد إلى أصله (غلوكوز) يسير مع الدم، ليستخدم كقوة محركة في العضلات. ومن الملاحظ أن القيمة الحرارية للعسل مرتفعة جدا، لاحتوائه على الغلوكوز .. وقد ثبت أن كيلو غراما واحدا من العسل يعطي 3150 حريرة (كالوري). 2 - بعض الأحماض العضوية بنسبة 08، 0% ثمانية إلى عشرة آلاف. 3 - كمية قليلة من البروتينات. 4 - عدد لا بأس به من الخمائر الضرورية لتنشيط تفاعلات الاستقلاب في الجسم، وتمثيل الغذاء .. ونستطيع أن نتبين الأهمية الكبرى لهذه الخمائر التي توجد في العسل إذا ما عرفنا وظائفها المبينة فيما يلي: أ- خميرة (الأميلاز): وهي تحول النشاء الذي في الخبز ومختلف المواد النشوية إلى سكر عنب (غلوكوز). ب- خميرة (الأنفزتاز): وهي التي تحول سكر القصب (السكر العادي) إلى سكاكر أحادية (غلوكوز وفراكتوز) يمكن امتصاصهما في الجسم. ج- خميرتا (الكاتالاز) و (البيروكسيداز): الضروريتان في عمليات الأكسدة والإرجاع التي تتم في الجسم. د- خميرة (الليباز): الخاصة بهضم الدسم والمواد الشحمية. 5 - أملاح معدنية بنسبة 18، 0% وعلى الرغم من ضآلة نسبتها، فإن لها أهمية كبرى، تجعل العسل غذاء ذا تفاعل قلوي، مقاوما للحموضة، له أهمية كبرى في معالجة أمراض الجهاز الهضمي المترافقة بزيادة كبيرة في الحموضة (والقرحة). ومن أهم العناصر المعدنية التي في العسل: البوتسيوم والكبريت والكالسيوم والصوديوم والفوسفور والمغنزيوم والحديد والمنغنيز .. وكلها عناصر معدنية ضرورية لعملية بناء أنسجة الجسم الإنساني وتركيبها. 6 - كميات قليلة من الفيتامينات .. لها وظائف حيوية (فيزيولوجية) مهمة، نفصلها على الشكل التالي:

الخواص العلاجية للعسل

أ- فيتامين ب 1: وهو موجود بنسبة 15، 0% لكل كيلو غرام من العسل وله دور أساسي في عمليات التمثيل الغذائي داخل الجسم، ولا سيما بالنسبة للجملة العصبية. ب- فيتامين ب 2: ويوجد بنسبة 5، 1 ملغ/ كغ .. وهي النسبة نفسها التي يوجد بها في لحم الدجاج .. وهو يدخل في تركيب الخمائر المختلفة التي تفرزها الغدد في الجسم. ج- فيتامين ب 3: بنسبة 2 ملغ/ كغ .. وهو فيتامين مضاد لالتهابات الجلد. د- فيتامين ب 5: بنسبة 1 ملغ/ كغ. هـ- فيتامين ث: المضاد للنزيف. و- فيتامين ج: بنسبة 50 ملغ/ كغ .. وهو يزيد من مناعة الجسم ومقاومته للأمراض. 7 - حبيبات غروية وزيوت طيارة، تعطيه رائحة وطعما خاصا. 8 - مواد ملونة تعطيه لونه الجميل. الخواص العلاجية للعسل: بعد أن تعرفنا على التركيب الكيماوي للعسل، وأهمية مركباته للإنسان نستطيع أن نخوض في خواصه العلاجية، مع شئ من الإيجاز والتبسيط. ويمكننا أن نجمل ذلك في الملاحظات التالية: أولا: إن أهم خواص العسل أنه وسط غير صالح لنمو البكتريات (الجراثيم) والفطريات .. لذلك فهو قاتل للجراثيم، مبيد لها أينما وجد. على عكس ما شاع في الولايات المتحدة منذ ثلاثين سنة من أن العسل ينقل الجراثيم، كما ينقلها الحليب بالتلوث. ولقد قام الطبيب الجراثيمي (ساكيت) باختبار أثر العسل على الجراثيم بالتجربة العملية. فزرع جراثيم مختلف الأمراض في العسل الصافي .. وأخذ يترقّب النتائج. ولشد ما كانت دهشته عظيمة .. عند ما رأى أن أنواعا من هذه الجراثيم قد ماتت خلال بضع ساعات في حين أن أشدها قوة تستطيع البقاء حية خلال بضعة أيام.

ثانيا: العسل يتألف بصورة رئيسية من الغلوكوز المستخدم في علاج كثير من الأمراض

لقد ماتت طفيلات الزحار (الديزنتريا) بعد عشر ساعات من زرعها في العسل .. وماتت جراثيم حمى الأمعاء (التيفوئيد) بعد أربع وعشرين ساعة .. وجراثيم التيفوس (أو على الأصح العامل المرضي للتيفوس) ماتت بعد ثمان وأربعين ساعة .. أما جراثيم الالتهاب الرئوي .. فقد ماتت في اليوم الرابع .. وهكذا لم تجد الجراثيم في العسل إلا قاتلا ومبيدا لها. كما أن الحفريات التي أجريت في منطقة الجيزة بمصر .. دلت على وجود إناء، فيه عسل، داخل الهرم، مضى عليه ما ينوف على ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام .. وعلى الرغم من مرور هذه المدة الطويلة جدا، فقد ظل العسل محتفظا بخواصه لم يتطرق إليه الفساد .. بل إنه ظل محتفظا بالرائحة المميزة للعسل. ثانيا: [العسل يتألف بصورة رئيسية من الغلوكوز المستخدم في علاج كثير من الأمراض] إن العسل الذي يتألف بصورة رئيسية من الغلوكوز (سكر العنب) يمكن استعماله في كل الاستطبابات المبنية على الخواص العلاجية للغلوكوز كأمراض الدورة الدموية، وزيادة التوتر، والنزيف المعوي، وقروح المعدة، وبعض أمراض المعي في الأطفال، وأمراض معدية مختلفة مثل التيفوس، والحمى القرمزية، والحصبة وغيرها .. بالإضافة إلى أنه علاج ناجع للتسمم بأنواعه. هذا .. وإن وجوده المستمر، في خلايا الكبد، وبنسبة ثابتة تقريبا، يشير إلى دوره المفيد، في تحسين وبناء الأنسجة والتمثيل الغذائي. ولقد استعمل الغلوكوز حديثا، وعلى نطاق واسع، ليزيد من مقاومة الكبد للتسمم. ثالثا: في علاج فقر الدم: يحتوى العسل على عامل فعال جدا له تأثير كبير على الخضاب الدموي (الهيموغلوبين) ولقد جرت دراسات حول هذا الأمر في بعض المصحات السويسرية أكدت التأثير الفعال للعسل على خضاب الدم حيث ازداد قوام الخضاب في الدم من 57% إلى 80% في الأسبوع الأول أي بعد أسبوع واحد من المعالجة بالعسل. كما لوحظت زيادة في وزن الأطفال الذين يتناولون العسل تفوق الزيادة في الأطفال الذين لا يعطون عسلا.

رابعا: العسل يسرع في شفاء الجروح

رابعا: العسل يسرع في شفاء الجروح: لقد ثبت للدكتور (كريتسكي) أن العسل يسرع في شفاء الجروح .. وعلل ذلك بأن العسل يزيد في كمية (الفلوتاتيون) التي يفرزها الجرح .. تلك المادة التي تنشط نمو الخلايا وانقسامها (الطبيعي) .. الأمر الذي يسرع في شفاء الجروح. ولقد دلت الإحصائيات التي أجريت في عام 1946 على نجاعة العسل في شفاء الجروح .. ذلك أن الدكتور: (س. سميرنوف) الأستاذ في معهد تومسك الطبي .. استعمل العسل في علاج الجروح المتسببة عن الإصابة بالرصاص في 75 حالة .. فتوصّل إلى أن العسل ينشط نمو الأنسجة لدى الجرحى الذين لا تلتئم جروحهم إلا ببطء. وفي ألمانيا يعالج الدكتور (كرونيتز) وغيره آلاف الجروح بالعسل وبنجاح، مع عدم الاهتمام بتطهير مسبق، والجروح المعالجة بهذه الطريقة تمتاز بغزارة إفرازاتها إذ ينطرح منها القيح والجراثيم. وينصح الدكتور (بولمان) باستعمال العسل كمضاد جراحي للجروح المفتوحة .. ويعرب عن رضاه التام عن النتائج الطيبة التي توصّل إليها في هذا الصدد لأنه لم تحدث التصاقات أو تمزيق أنسجة أو أي تأثير عام ضار. خامسا: العسل علاج لجهاز التنفس: استعمل العسل لمعالجة أمراض الجزء العلوي من جهاز التنفس .. ولا سيما- التهاب الغشاء المخاطي وتقشره، كذلك تقشر الحبال الصوتية وتتم المعالجة باستنشاق محلول العسل بالماء الدافئ بنسبة 10 خ خلال 5 دقائق. وقد بين الدكتور (كيزلستين) أنه من بين 20 حالة عولجت باستنشاق محلول العسل .. فشلت حالتان فقط .. وظهر التحسن في ثماني عشرة حالة .. في حين أن الطرق العلاجية الأخرى فشلت فيها جميعا .. وهي نسبة عالية في النجاح كما ترى. ولقد كان لقدرة العسل المطهرة واحتوائه على الزيوت الطيارة أثر كبير في أن يلجأ معمل ماك (MAK) الألماني إلى إضافة العسل إلى مستحضراته المضادة للسعال، الأمر الذي أدى إلى زيادة تأثير هذه المستحضرات بشكل ملموس. هذا ويستعمل العسل ممزوجا بأغذية وعقاقير أخرى كعلاج للزكام .. وقد وجد أن

سادسا: العسل وأمراض الرئة

التحسن السريع يحدث باستعمال العسل ممزوجا بعصير الليمون بنسبة نصف ليمونة في 100 غ من العسل. سادسا: العسل وأمراض الرئة: استعمل ابن سينا العسل لعلاج السل في أطواره الأولى .. كما أن الدكتور (ن. يوريش) أستاذ الطب في معهد كييف يرى أن العسل يساعد العضوية في كفاحها ضد الإنتانات الرئوية كالسل، وخراجات الرئة، والتهابات القصبات وغيرها .. وعلى الرغم من أن البيانات الكثيرة للعلماء دليل على وجود خواص مضادة للسل في العسل ولكن من المؤكد أن العسل يزيد من مقاومة الجسم عموما .. الأمر الذي يساعد على التحكم في العدوى. سابعا: العسل وأمراض القلب: عضلة القلب .. التي لا تفتأ تعمل باستمرار على حفظ دوران الدم، وبالتالي تعمل على سلامة الحياة .. لابد لها من غذاء يقوم بأودها. وقد تبين أن العسل، لوفرة ما فيه من (غلوكوز) يقوم بهذا الدور .. ومن هنا وجب إدخال العسل في الطعام اليومي لمرضى القلب. ثامنا: العسل وأمراض المعدة والأمعاء: إن المنطلق الأساسي لاستعمال العسل كعلاج لكافة أمراض المعدة والأمعاء المترافقة بزيادة في الحموضة، هو كون العسل غذاء ذا تفاعل قلوي، يعمل على تعديل الحموضة الزائدة. ففي معالجة قروح المعدة والأمعاء .. ينصح بأخذ العسل قبل الطعام بساعتين أو بعده بثلاث ساعات. وقد تبيّن أن العسل يقضي على آلام القرحة الشديدة، وعلى حمو الجوف والقيء، ويزيد من نسبة هيموغلوبين الدم عند المصابين بقروح المعدة والاثنى عشر. ولقد أثبتت التجربة اختفاء الحموضة بعد العلاج بشراب العسل، كما أظهر الكشف بأشعة رونتجن (التصوير الشعاعي) اختفاء التجويف القرحي في جدار المعدة، لدى عشرة مصابين بالقرحة من أصل أربعة عشر مريضا .. وذلك بعد معالجتهم بشراب

تاسعا: العسل وأمراض الكبد

العسل، لمدة أربعة أسابيع .. وهي نسبة في الشفاء عالية معتبرة. تاسعا: العسل وأمراض الكبد: إن كافة الحوادث الاستقلابية تقع في الكبد تقريبا .. الأمر الذي يدل على الأهمية القصوى لهذا العضو الفعال .. وقد ثبت بالتجربة .. أن (الغلوكوز) الذي هو المادة الرئيسية المكونة للعسل، يقوم بعمليتين اثنتين: 1 - ينشط عملية التمثيل الغذائي في الكبد. 2 - ينشط الكبد لتكوين الترياق المضاد للبكتريا .. الأمر الذي يؤدي إلى زيادة مقاومة الجسم للعدوى. كما أنه تبين أن للعسل أهمية كبيرة في معالجة التهابات الكبد والآلام الناتجة عن حصوات الطرق الصفراوية. عاشرا: العسل وأمراض الجهاز العصبي: إن هذه الخاصة نابعة أيضا من التأثير المسكن للغلوكوز في حالات الصداع والأرق، والهيجانات العصبية .. ولقد لاحظ الأطباء الذين يستعملون العسل في علاج الأمراض العصبية، قدرته العالية على إعطاء المفعول المرجو. حادي عشر: العسل للأمراض الجلدية والارتيكاريا (الحكة): نشر الباحثون العاملون في عيادة الأمراض الجلدية، سنة 1945، في المعهد الطبي الثاني، في موسكو .. مقالة عن النجاح في علاج سبعة وعشرين مريضا، من المصابين بالدمامل والخراجات .. تم شفاؤهم بوساطة استعمال أدهان العسل كمراهم. ولا يخفى ما للأدهان بالعسل من أثر في تغذية الجلد، وإكسابه نضارة ونعومة. ثاني عشر: العسل وأمراض العين: استعمل الأطباء في الماضي العسل كدواء ممتاز لمعالجة التهابات العيون، واليوم وبعد أن اكتشفت أنواع كثيرة من العقاقير والمضادات الحيوية، لم يفقد العسل أهميته .. فقد دلت الإحصائيات على جودة العسل في شفاء التهابات الجفون والملتحمة، وتقرح

ثالث عشر: العسل ومرض السكر

القرنية، وأمراض عينية أخرى. ومن أكثر المتحمسين للاستطباب بمراهم العسل، الأساتذة الجامعيون في منطقة (أوديسا) في الاتحاد السوفيتي، وخصوصا، الأستاذ الجامعي «فيشر» والدكتور «ميخايلوف» .. حتى إن تطبيب أمراض العين بمراهم العسل انتشر في منطقة (أوديسا) كلها. وقد كتب الدكتور ع. ك أوساولكو مقالا ضمنه مشاهداته وتجاربه في استعمال العسل لأمراض العين، وقد أوجز النتائج التي توصل إليها في النقاط التالية: 1 - يبدي العسل- بدون شك- تأثيرا ممتازا على سير مختلف آفات القرنية الالتهابية، فكل الحالات المعندة على العلاجات العادية، والتي طبقنا فيها المرهم ذا السواغ العسلي تحسنت بسرعة غريبة، كما أن عددا من حادثات التهاب القرنية على اختلاف منشئه، أدى تطبيق العسل صرفا فيها إلى نتائج علاجية طيبة. 2 - يمكننا أن ننصح باستعمال العسل كسواغ من أجل تحضير معظم المراهم العينية باعتبار أن للعسل نفسه تأثيرا ممتازا على سير جميع آفات القرنية .. 3 - من المؤكد أن ما توصلنا إليه من نتائج يدعو المؤسسات الصحية كافة والتي تتعاطى طب العيون أن تفتح الباب على مصراعيه لتطبيق العسل على نطاق واسع في معالجة أمراض العيون. ثالث عشر: العسل ومرض السكر: نشر الدكتور (دافيدوف) الروسي عام 1915 خلاصة لأبحاثه في استعمال العسل لمرض السكر .. فبين ما خلاصته أن استعمال العسل لمرض السكر مفيد جدا في الحالات التالية: 1 - كنوع من الحلوى ليس منها ضرر. 2 - كمادة غذائية تضاف إلى نظام المريض الغذائي .. لأن المريض إذا تناول العسل، لا يشعر بعده بأي رغبة في تناول أي نوع من الحلوى الممنوعة عليه .. وهذا عامل مهم في الوقاية. 3 - كمادة مانعة لوجود مادة (الأسيتون) الخطرة في الدم، إذ إن ظهور

رابع عشر: العسل واضطرابات طرح البول

(الأسيتون) في الدم يحتم استعمال السكريات، واتباع نظام أكثر حرية في الغذاء، على الرغم من مضارها للمريض، وذلك للحيلولة دون استمرار وجوده، والعسل باعتباره مادة سكرية يعمل على الحؤول دون وجوده. 4 - كمادة سكرية لا تزيد، بل على العكس تنقص، من إخراج سكر العنب، وإطراحه، وقد تم تفسير ذلك علميا بعد أن تم اكتشاف (هرمون) مشابه (للأنسولين) في تركيب العسل الكيميائي. هذا وقد بين الدكتور (لوكهيد) الذي كان يعمل في قسم الخمائر بأوتاوا، عاصمة كندا أن بعض الخمائر المقاومة للسكر وغير الممرضة للإنسان تظل تعيش في العسل. رابع عشر: العسل واضطرابات طرح البول: يرى الدكتور (ريمي شوفان) أن الفركتوز (سكر الفواكه) - الذي يحتوي العسل على نسبة عالية منه- يسهل الإفراز البولي أكثر من الغلوكوز (سكر العنب)، وأن العسل أفضل من الاثنين معا، لما فيه من أحماض عضوية، وزيوت طيارة وصباغات نباتية تحمل خواص فيتامينية. ولئن كثر الجدل حول العامل الفعال الموجود في العسل الذي يؤدي إلى توسيع الأوعية الكلوية، وزيادة الإفراز الكلوي (الإدرار) إلا أن تأثيره الملحوظ لم ينكره أحد منهم، حتى إن الدكتور (ساك) بيّن أن إعطاء مائة غرام ثم خمسين غراما من العسل يوميا أدى إلى تحسين ملموس، وزوال كل من التعكر البولي والجراثيم العضوية. خامس عشر: العسل والأرق وأمراض الجهاز العصبي: لقد أثبتت المشاهدات السريرية الخواص الدوائية للعسل في معالجة أمراض الجهاز العصبي: فقد بين البروفسور (ك. بوغوليبوف) و (ف. كيسيليفا) نجاح المعالجة بالعسل لمريضين مصابين بداء الرقص (وهو عبارة عن تقلصات عضلية لا إرادية تؤدي إلى حركات عفوية في الأطراف) ففي فترة امتدت ثلاثة أسابيع أوقفت خلالها كافة المعالجات الأخرى، حصل كل من المريضين على نتائج باهرة، لقد استعادا نومهما الطبيعي، وزال الصداع، ونقص التهيج، والضعف العام. سادس عشر: العسل ومرض السرطان:

سابع عشر: العسل والأمراض النسائية

لقد ثبت لدى العلماء المتخصصين أن مرض السرطان معدوم بين مربي النحل المداومين على العمل بين النحل. ولكنهم حاروا في تفسير هذه الظاهرة. فمال بعضهم إلى الاعتقاد بأن هذه المناعة ضد مرض السرطان، لدى مربي النحل .. مردّها إلى سم النحل .. الذي يدخل مجرى الدم باستمرار، نتيجة لما يصابون به من لسع النحل أثناء عملهم. ومال آخرون إلى الاعتقاد بأن هذه المناعة هي نتيجة لما يتناوله مربو النحل من العسل المحتوي على كمية قليلة من الغذاء الملكي، ذي الفعالية العجيبة، وكمية أخرى من حبوب اللقاح. ولقد مال كثير من العلماء إلى الرأي الثاني .. خصوصا بعد ما تم اكتشافه من أن نحل العسل، يفرز العناصر الكيماوية على حبوب اللقاح، تمنع انقسام خلاياها .. وذلك تمهيدا لاختزانها في العيون السداسية، إن هذه المواد الكيماوية الغريبة، التي تحدّ من انقسام حبوب اللقاح، والتي يتناولها الإنسان بكميات قليلة جدا مع العسل .. لربما كان لها أثر كبير في الحد من النمو غير الطبيعي لخلايا جسم الإنسان .. وبالتالي منع الإصابة بمرض السرطان. وعلى كل حال .. ما زالت الفكرة مجرد شواهد وملاحظات .. لم يبت العلم فيها بشيء شأنها في ذلك شأن الكثير من الملاحظات التي لم يبت فيها .. ولا يزال مرض السرطان لغزا يحير الأطباء .. ويجهد الدارسين. سابع عشر: العسل والأمراض النسائية: إقياء الحامل، وحالات الغثيان التي تصاب بها، أمور أرّقت الأطباء، لقد أجهدهم إيجاد الدواء المناسب، حتى إن الطب النفسي قد خاض غمار تطبيب هذه الحالات، على الرغم من عدم جدواه في ذلك، بسبب طول مدة المعالجة، وغلاء كلفته المادية. ولقد توصل حديثا بعض العلماء إلى استعمال حقن وريدية تحتوي على 40% من محلول العسل- الصافي- كان لها أثر فعال في الشفاء. هذا وقد تبين أن إدخال العسل في الراتب الغذائي للمرأة الحامل يؤدي دورا كبيرا في

ثامن عشر: العسل غذاء مثالي

مساعدتها أثناء فترة الحمل. ثامن عشر: العسل غذاء مثالي: إن العسل غذاء مثالي لجسم الإنسان، يقيه الكثير من المتاعب، التي تجلبها له بقية الأغذية الاصطناعية الأخرى. وإن القيمة الغذائية للعسل تكمن في خاصيتين اثنتين متوافرتين فيه: 1 - إن العسل غذاء ذو تفاعل قلوي .. يفيد في تطرية وتنعيم جهاز الهضم .. وتعديل شئ من الحموضة الناتجة عن الأغذية الأخرى. 2 - إن العسل يحتوي على مضادات البكتريا (الجراثيم) .. فهو بذلك يحمي الأسنان من نقص الكالسيوم، وبالتالي يحول دون النخر، على نقيض السكاكر الأخرى، التي تتحلل بقاياها بوساطة البكتريا، الأمر الذي يؤدي إلى تكوين أحماض، منها حمض اللبن، الذي يمتص الكالسيوم من الأسنان تدريجا .. فيحدث النخر فيها. تاسع عشر: العسل غذاء جيد للأطفال والناشئين: فهو يعمل على تغذية الطفل، ولقد جرب الأثر الفعال للعسل على الأطفال في بعض المصحات السويسرية حيث جرى تقسيم الأطفال إلى ثلاث فئات: قدّم للفئة الأولى نظام غذائي اعتيادي، وقدّم للفئة الثانية النظام السابق نفسه مضافا إليه العسل وقدّم للفئة الثالثة النظام الغذائي نفسه للفئة الأولى مع إضافة أدوية مختلفة عوضا عن العسل لزيادة الشهية أو لرفع نسبة الخضاب. فأعطت الفئة الثانية التي أعطيت عسلا أحسن النتائج بالنسبة للحالة العامة، وأعلى زيادة في الوزن، وأعلى نسبة لخضاب الدم، ويرى الدكتور (زايس) أن المواد الفعالة في العسل التي تؤثر على قوام الخضاب هي ما يحويه العسل من مواد معدنية كالحديد والنحاس والمنغنيز. العشرون: العسل يقاوم الشيخوخة ، ويؤخر ظهور أعراضها، بفضل ما يحويه من عناصر سهلة الهضم والامتصاص، وبتأثير ما به من غذاء ملكي، يشتمل على بعض الهرمونات المنشطة. الحادي والعشرون: العسل مفيد ، لتزويد أصحاب الأعمال، بكفاءة المجهود اللازم

عسل النحل والمواد السكرية

لتأدية عملهم الشاق، وبصورة خاصة يحتاج إليه الرياضيّون بعد الانتهاء من تدريباتهم الشاقة لسهولة امتصاصه، واتحاد مواده القلوية مع حمض اللبن الذي يحدث الشعور بالتعب والإرهاق. عسل النحل والمواد السكرية: بعد هذه النظرة العجلى في الخواص العلاجية للعسل لا بأس في أن نلقي نظرة سريعة على مزايا عسل النحل بالنسبة للسكر. ذلك أن عسل النحل يتصف بكثير من المزايا، إذا ما قورن بالمواد السكرية المستعملة، ويمكننا أن نجمل تلك المزايا بالملاحظات التالية: 1 - إن تمثيل عسل النحل في الجسم سهل وسريع. 2 - لا يضر عسل النحل بالكلى ولا يسبب تلف أنسجتها. 3 - يزود عسل النحل الفرد بأعظم وحدات النشاط بأقل صدمة للجهاز الهضمي. 4 - لا يسبب اضطرابات في الأغشية الرقيقة للقناة الهضمية. 5 - يساعد الرياضيين على استعادة قواهم سريعا بعد المجهود الشاق. 6 - له تأثير طبيعي كامن ويجعل عملية الإخراج سهلة. ومما يلفت النظر أن تناول كميات كبيرة من عسل النحل بدلا من أي مادة حلوة ثانية، لا يحدث أي ضرر للجسم، بل نجد أن النفع منه أكيد، وقد وجد أن العسل وسط صالح يساعد على حفظ الفيتامينات، في حين أنه وسط غير صالح للجراثيم بل مبيد لها. 5 - [حديث بمناسبة الآية وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه البخاري عند تفسيره هذه الآية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل، والهرم، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة القبر، وفتنة الدجّال، وفتنة المحيا والممات». 6 - [العقل في الاصطلاح الشرعي] وبمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يقول ابن كثير: (والأفئدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح وقيل الدماغ).

7 - كلام ابن كثير عند الآية سرابيل تقيكم الحر وتعليق المؤلف عليه

أقول: إن كثيرا من الناس يغلطون بين العقل الذي عليه مدار التكليف والعقل الذي يقبل التكليف ويلتزم به، فهذا طور فوق ذلك الطور، والعقل في الاصطلاح الشرعي: قد يطلق على هذا أو على هذا، كما أن كثيرين من الناس يغلطون في موضوع القلب في الاصطلاح الشرعي، إن هناك القلب الحسي الذي ينبض بالدم، وهناك قلب مرتبط به نوع ارتباط هو الذي يتحدث عنه الشارع وهو صاحب التعمق بالإيمان، أو بالكفر، أو بالمرض، أو بالسلامة، وهذا القلب مقرّه الصدر لا الدماغ، فقد حدّد الله مكانه بقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: 46) هذا القلب هو مركز العقل الذي يقبل التكليف، ويتفاعل معه، وعنه تنبثق الإرادة الحميدة إن كان سليما، ولقد تكلّمنا- عن مثل هذه الشئون تفصيلا في كتابنا (تربيتنا الروحية) فليراجع، لأن فيه تصحيحا للكثير من المفاهيم، إن للدماغ محله في المحاكمات، ومن ثمّ اعتبره بعضهم هو العقل، وللقلب محله في القرارات ومن ثمّ اعتبره بعضهم هو العقل، والأمر فيه تفصيلات، وله حيثيات، وهناك مصطلحات لغوية وشرعية وعرفية يجب أن يحسب لها حسابها في فهم هذا الموضوع، كما أن هناك حقائق علمية ينبغي أن تعرف، وعلى ضوء ذلك كله يفهم محل الدماغ، ومحل القلب، في قضية العقل. 7 - [كلام ابن كثير عند الآية سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وتعليق المؤلف عليه] ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ قول عطاء الخراساني وهو: «إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً. وما جعل من السهل أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال؟ ألا ترى إلى قوله: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر؟ ألا ترى قوله: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ (النور: 43) لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفونه؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وما تقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر. والذي أقوله: إن هذا القرآن خاطب البشر كلهم بما يسع البشر جميعا، ومن إعجازه أن هذا الخطاب للبشر كان من الإعجاز بحيث وسع العصور والأقوام بما يقربهم ولا يبعدهم، وبما يألفون، لا بما ينكرون، ومن ثم نجد أهل كل عصر فهموا القرآن

8 - مشهد من مشاهد يوم القيامة وعذاب الكافرين فيه

بثقافة عصرهم، ولم يجدوا فيه مستنكرا، وهكذا، ومن ثم فإنه ما دام يخاطب العرب أولا فإن العربي يشعر أنه يخاطب من حيث يعرف. 8 - [مشهد من مشاهد يوم القيامة وعذاب الكافرين فيه] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يقول ابن كثير: «فإنه إذا جئ بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فيشرف عنق منها على الخلائق، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه فتقول: إنّي وكّلت بكل جبار عنيد، الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا، وبكذا، وتذكر أصنافا من الناس كما جاء في الحديث، ثم تنطوي عليهم وتتلقّطهم من الموقف كما يتلقط الطائر الحب. قال الله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً* وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً*، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً. (الفرقان: 12 - 14) وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً. (الكهف: 53) وقال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ* بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (الأنبياء: 49، 50). 9 - [كلام النسفي عند الآية (89) وكلام للمؤلف حول خطأين يقع فيهما كثير من الناس] عند قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ قال النسفي: (أي: من أمور الدين، أما في الأحكام المنصوصة فظاهر وكذا فيما ثبت بالسنة، أو بالإجماع، أو بقول الصحابة، أو بالقياس، لأن مرجع الكل إلى الكتاب، حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ*، وحثنا على الإجماع فيه بقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وقد رضي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمته باتباع أصحابه بقوله: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرف الاجتهاد والقياس، مع أنه أمرنا به بقوله: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبيانا لكل شئ) اهـ. أقول: وإن أعظم ما وقع فيه المسلمون من أخطاء خطئان: الخطأ الأول : هو نسيانهم أنه ما من قضية من قضايا الوجود إلا ولله فيها الحكم الحق، وأنه لا يسع المسلم أن يخرج عن حكم الله أو يتخلى عنه، ونتج عن هذا أن كثيرا من أبناء المسلمين- حكومات وأفرادا- أخذوا يستوردون الأفكار والعادات والقوانين

الخطأ الثاني

والدساتير بدون قيود. الخطأ الثاني: أنه قد غاب عن كثير من المسلمين أن القرآن إنما كان تبيانا لكل شئ، بأن ذكر الحكم صراحة، أو دلّ على الطريق الذي يسلك للوصول إلى الحكم من سنة أو قياس أو إجماع، ومن ثم قامت مدارس الاجتهاد التي تضع نظريات استنباط الحكم، وألفت الكتب الكثيرة التي تتحدث عن الأحكام، فأخطأ بعض الناس بأن نظروا إلى عمل الأئمة المجتهدين ومدارسهم على أنه خارج عن الدين، أو زائد عليه. نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال عند الآية وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ] بمناسبة قوله تعالى وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قال صاحب الظلال: «واللمسة الثانية في الرزق. والتفاوت فيه ملحوظ. والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل الله لبعضهم على بعض في الرزق. ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة الله. فليس شئ من ذلك جزافا ولا عبثا. وقد يكون الإنسان مفكرا عالما عاقلا، ولكن موهبته في الحصول على الرزق وتنميته محدودة، لأن له مواهب في ميادين أخرى. وقد يبدو غبيا جاهلا ساذجا ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته. والناس مواهب وطاقات. فيحسب من لا يدقق أن لا علاقة للرزق بالمقدرة، وإنما هي مقدرة خاصة في جانب من جوانب الحياة. وقد تكون بسطة الرزق ابتلاء من الله، كما يكون التضييق فيه لحكمة يريدها ويحققها بالابتلاء .. وعلى أية حال فإن التفاوت في الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لاختلاف في المواهب- وذلك حين تمتنع الأسباب المصطنعة الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلفة- والنص يشير إلى هذه الظاهرة التي كانت واقعة في المجتمع العربي؛ ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي يزاولونها، والتي سبقت الإشارة إليها. ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق الله الذي أعطاهم ويجعلونه لآلهتهم المدعاة. فهو يقول عنهم هنا: إنهم لا يردون جزءا من أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق. (وكان هذا أمرا واقعا قبل الإسلام) ليصبحوا سواء في الرزق، فما بالهم يردون جزءا من مال الله الذي رزقهم إياه على آلهتهم المدّعاة؟ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فيجازون النعمة بالشرك. بدل الشكر للمنعم المتفضل الوهاب؟» 2 - [كلام صاحب الظلال حول مشهد الطير مسخرات في جو السماء] وبمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ قال

3 - كلام صاحب الظلال عند الآية والله جعل لكم من بيوتكم سكنا

صاحب الظلال: (ومشهد الطير مسخّرات في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ، ويلحظ بعين الشاعر الموهوب. وإن تحليقة طائر في السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين يلمسه. فينتفض للمشهد القديم الجديد .. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ بنواميسه التي أودعها فطرة الطير، وفطرة الكون من حولها، وجعل الطير قادرا على الطيران، وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران. وأمسك بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .. فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر. وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق، بالإيمان والعبادة والتسبيح، والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير، قادرون على إبداع ألوان من روائع القول في بدائع الخلق والتكوين، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء». 3 - [كلام صاحب الظلال عند الآية وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً] وبمناسبة قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال صاحب الظلال: (والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشرّدون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة. وذكرها في السياق يجئ بعد الحديث عن الغيب، وظل السكن ليس غريبا عن ظل الغيب، فكلاهما فيه خفاء وستر. والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة. ونستطرد هنا إلى شئ عن نظرة الإسلام إلى البيت، بمناسبة هذا التعبير الموحي: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً .. فهكذا يريد الإسلام البيت مكانا للسكينة النفسية والاطمئنان الشعوري، هكذا يريده، مريحا تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة، أو باطمئنان من فيه بعضهم لبعض، وبسكن من فيه كل إلى الآخر: فليس البيت مكانا للنزاع والشقاق والخصام. إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام. ومن ثم يضمن الإسلام للبيت حرمته، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه. فلا يدخله داخل إلا بعد الاستئذان، ولا يقتحمه أحد- بغير حق- باسم السلطان، ولا يتطلع أحد على من فيه لسبب من الأسباب، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم

ولننتقل إلى القسم الثاني في السورة

أو غيبة، فيروع أمنهم، ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت، ويعبر عنه ذلك التعبير الجميل العميق). ولننتقل إلى القسم الثاني في السورة: فبعد أن أقام الله الحجة على الخلق بوجوب الدخول في الإسلام كله، وذكّرهم بما أعده للكافرين والمسلمين يوم القيامة، وأقام الحجة على مجئ يوم القيامة، يأتي القسم الثاني ليقرّر ويوجّه ويربي، ويذكّرهم بجوانب من الإسلام ينبغي الدخول فيها، فهو يبني على ما سبقه في السورة، ويفصّل في موضوع الدخول في الإسلام كله، ويفصّل في موضوع اجتناب اتباع خطوات الشيطان، ويذكر أشياء كثيرة سنرى محل كل منها في السياق. ................ .. يبدأ القسم بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... إنه بعد هذه الجولات الطويلة التي حدثتنا عن الله عزّ وجل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ .. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ .. وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً .... وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ... وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ... وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ... وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ... وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ... وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا ... بعد هذا الحديث الطويل عن الله عزّ وجل، يأتي القسم الثاني في السورة مبتدئا بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... فالله الذي عرفتموه والذي هذا شأنه يأمركم بالعدل والإحسان ..

القسم الثاني ويتألف من مقدمة هي آية واحدة وخمس مجموعات، وسنعرضه على أجزاء لطوله.

القسم الثاني ويتألف من مقدمة هي آية واحدة وخمس مجموعات، وسنعرضه على أجزاء لطوله. مقدمة المقطع [القسم الثاني] وهي الآية (90) وهذه هي: 16/ 90 التفسير: بعد أن حدثنا الله تعالى عن كتابه أنه تبيان لكل شئ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين يأتي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ في كل شئ، في أداء الحقوق، والقيام بالواجبات، فيحدد الحقوق، ويحدد الواجبات، في السياسة، والاقتصاد والاجتماع، فلا عدل إلا ما أمر به، ولا يتحقق العدل في الحياة البشرية إلا بإقامة كتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَالْإِحْسانِ وهو معنى زائد على العدل. فالعدل في كل شئ حسن والإحسان فعل الأحسن وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي وإعطاء ذي القرابة بأن توصل رحمه وهي وإن كانت جزءا من العدل ونوعا من الإحسان إلا أنها مقصودة بذاتها في شريعة الله وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي عن الذنوب المفرطة في القبح وَالْمُنْكَرِ أي ما تنكره العقول السليمة والفطر المستقيمة وَالْبَغْيِ وهو العدوان على الناس، سواء كان العدوان ماديا كأكل أموالهم ظلما. أو معنويا بالتطاول على الناس كبرا أو عجبا يَعِظُكُمْ أي يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتعظون بمواعظ الله. كلمة في السياق: جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ فجاءت تلخص مقاصد هذا القرآن بأن الله في قرآنه يأمر بكذا وينهى عن كذا .....

فكتابه تبيان للعدل والإحسان، وصلة الرحم، وتبيان للفحشاء والمنكر والبغي. فالصلة بين هذه الآية وما قبلها واضحة. وإذا نظرنا إلى الآية من خلال السياق الكلي للقرآن، فإننا نجد الآية تفصيلا لقوله تعالى من سورة البقرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا الذي هو عدل وإحسان وصلة رحم وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ* التي هي فحشاء ومنكر وبغي كما قال تعالى عن الشيطان إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. فالآية إذن تفصّل الأمر الذي جاءت السورة لخدمته، وتفصّل النهي الذي جاءت السورة لتوضيحه ولنعد إلى السياق: ***

المجموعة الأولى من القسم الثاني وتمتد من الآية (91) إلى نهاية الآية (97) وهذه هي

المجموعة الأولى من القسم الثاني وتمتدّ من الآية (91) إلى نهاية الآية (97) وهذه هي: 16/ 97 - 91 بين يدي المجموعة: بعد مقدمة القسم الثاني تأتي المجموعة الأولى، وهي شديدة الارتباط بالسياق المباشر لها من حيث إنها آمرة بالعدل، ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومن حيث كونها تبيانا

التفسير

وهدى، ومن حيث إنها مختومة بالبشارة للمسلمين، فهي مرتبطة ببداية القسم الثاني، ونهاية القسم السابق. كما أنها مرتبطة بالسياق الكلي للقرآن في كونها مفصّلة لحيز محورها من سورة البقرة. يأمر الله عزّ وجل فيها بالوفاء بالعهود، والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكّدة: التفسير: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وأعظم العهود هو البيعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم لخلفائه الراشدين ولأئمة العدل. ويدخل في الآية كل عهد التزم به المسلمون وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها بعد توثيقها وتأكيدها باسم الله، والمراد بالأيمان هنا: الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا ورقيبا، لأن الكفيل راع لحال المكفول به، مهيمن عليه إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ومن ذلك بركم وحنثكم فيجازيكم به وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً أي ولا تكونوا في نقض الأيمان كالمرأة التي تنحي على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته، فتجعله أنقاضا تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي خديعة ومكرا ومفسدة وخيانة أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أي بسبب أن تكون أمة هي أزيد عددا وأوفر مالا من الأمة التي عاقدتموها. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز، فنهوا عن ذلك إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي إنما يختبركم الله بكونهم أربى لينظر- وهو أعلم- أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما وكّدتم من أيمان الحلف، أم تغترون بالكثرة أو بالثروة فتنقضون وتنكثون وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فاحذروا أن تخالفوا دين الله وشرعه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً واحِدَةً حنيفة مسلمة متصافية أي لوفّق بينكم ولما جعل اختلافا، ولا تباغض ولا شحناء وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أي من علم منه اختيار الضلالة وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي من علم منه اختيار الهداية، ومن ثم لم تكونوا أمة واحدة، واقتضى ذلك تحالفات وعهودا، وغير ذلك وَلَتُسْئَلُنَّ أي يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير

[سورة النحل (16): آية 94]

والقطمير، ثم كرر النهي عن اتّخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيدا عليهم وإظهارا لشناعة الفعل فقال وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها أي فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها وَتَذُوقُوا السُّوءَ في الدنيا قبل الآخرة بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بصدودكم عن سبيل الله، وخروجكم من الدين، أو بصدكم غيركم، إما لاستنانه بكم، أو لرؤية الكافر فسادكم فيظنه فسادا في دينكم فيترك دين الله، حذّر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا لئلا تزل قدم بعد ثبوتها. وهذا مثل لمن كان محلّ الاستقامة فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصدود عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به، لم يبق له وثوق بالدين فانصدّ بسببه عن الدخول في الإسلام. ثم قال تعالى وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي في الآخرة وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تقاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها؛ فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خيرا له إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي ثواب الله وجزاؤه خير لمن رجاه، وآمن به، وألزم نفسه به، وحفظ عهده رجاء موعوده، ولهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ثم علل ذلك فقال: ما عِنْدَكُمْ أي من أعراض الدنيا يَنْفَدُ أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود ومحصور متناه وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ أي لا ينفد أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له فإنه دائم لا يحول ولا يزول وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق الإسلام أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هذا قسم منه تعالى مؤكّد أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم، أي ويتجاوز عن سيئها. ثم وعد الله من آمن وعمل صالحا بالحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن فقال: مَنْ عَمِلَ صالِحاً العمل الصالح: هو العمل الموافق لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى من بني آدم وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي وقلبه مؤمن بالله ورسوله، شرط الإيمان، لأن أعمال الكفار غير معتد بها فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً أي في الدنيا قال ابن كثير: (والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت). وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ أي في الآخرة بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. نقول: [من الظلال] 1 - [حول تفسير قوله تعالى وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ .. ] قال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ

2 - حول أثر اتخاذ الأيمان غشا وخداعا في زعزعة العقيدة

أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ: أي بسبب كون أمة أكثر عددا أو قوة من أمة. وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى. ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن (مصلحة الدولة) فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقا لمصلحة الدولة، فالإسلام لا يقرّ مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب .. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية، وبناء الدولة الإسلامية، فنعم العالم بالطمأنينة والثقة، والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام. والنص هنا يحذّر من مثل ذلك المبرر، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ هو ابتلاء من الله لهم، ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم، وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ. 2 - [حول أثر اتخاذ الأيمان غشا وخداعا في زعزعة العقيدة] وقال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ... (واتخاذ الأيمان غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوّه صورتها في ضمائر الآخرين: فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه، لا يمكن أن تثبت له عقيدة ولا أن تثبت له قدم على صراطها. وهو في الوقت ذاته يشوّه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل، ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين بالله. ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في أيمانهم، ومن نظافتهم في معاملاتهم. فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم). 3 - [حول الآية مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً] وبمناسبة قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال صاحب الظلال: (وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به،

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة الأولى من القسم الثاني بمحور السورة بعد عرض مضمون المجموعة

وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته، وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء، والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح، وآثاره في الضمير، وآثاره في الحياة .. وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله. وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة. وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز الله لهم عن السيئات. فما أكرمه من جزاء). كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الأولى من القسم الثاني بمحور السورة بعد عرض مضمون المجموعة] نلاحظ أن هذه الآيات أمرت بالعدل، ونهت عن الظلم، وبينت حكم الله في قضية، وهدت المسلمين إلى أمر رشد في موضوع، وبشّرت المسلمين بما لهم عند الله في الدنيا والآخرة، فارتباط هذه المجموعة بقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ ... إن ارتباطها بما قبلها واضح، فهي وعظ، وفيها أمر ونهي، وفيها هدى وبشرى وبيان. وأما ارتباطها بمحورها من سورة البقرة فإنها تحدثت عن جزء من الإسلام، ونهت عن بعض خطوات الشيطان. ولو أنك فتّشت عمّا تعطف عليه قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ... لما وجدته في سورة النحل، ولكنك لو وضعت هذه الآيات بعد قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها .... لرأيت الارتباط واضحا، ولعله مما يزيد الربط وضوحا هو ما ذكر ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى بريدة في قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ. قال: نزلت في

بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم كان من أسلم بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم على الإسلام فقال: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها البيعة، لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام». فالدخول في الإسلام ترافقه بيعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلى ما يجب الوفاء به من العهود والأيمان هذه البيعة، والآيات- وإن كانت تشمل هذه الحالة وغيرها- إلا أن هذه الحالة داخلة فيها، ومن ثم فالصلة بين الدخول في السّلم، والوفاء بالعهود واضحة. فلننتقل إلى المجموعة الثانية في هذا القسم. ***

المجموعة الثانية من القسم الثاني وهي تمتد من الآية (98) إلى نهاية الآية (103) وهذه هي

المجموعة الثانية من القسم الثاني وهي تمتدّ من الآية (98) إلى نهاية الآية (103) وهذه هي: 16/ 103 - 93 بين يدي المجموعة الثانية: لقد كانت خاتمة القسم الأول وبداية القسم الثاني من سورة النحل هو قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. تأمل صلة ذلك بالمجموعة الثانية ابتداء وانتهاء: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ* وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

التفسير

فالصلة بين هذه الآيات ونهاية القسم السابق واضحة والصلة بينها وبين ما قبلها مباشرة كذلك وواضحة. فالآية السابقة عليها مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... فالآيات تتحدث عن عمل صالح وعن إيمان. التفسير: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي فإذا أردت قراءة القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ أي إبليس الرَّجِيمِ أي المطرود أو الملعون، هذا أمر الله تعالى لعباده إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم. وهذا ندب ليس بواجب. حكى الإجماع على ذلك ابن جرير وغيره من الأئمة إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أي للشيطان سُلْطانٌ أي تسلط وولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي لمن اجتمعت له صفتا الإيمان والتوكل. فالمؤمن المتوكل لا يقبل من الشيطان وساوسه إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فيقبلون وساوسه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بسببه مُشْرِكُونَ أو أنهم أشركوه في عبادة الله، ثم ذكر شبهتين للكافرين حول القرآن. الشبهة الأولى حول النسخ، والشبهة الثانية حول أن يكون لهذا القرآن مصدر بشري: 1 - وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ تبديل الآية مكان الآية هو النسخ قالُوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنه إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي كذاب، فإذا رفع الله آية وأثبت غيرها ورأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها جعلوا ذلك حجة ضد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله تعالى له الأمر المطلق ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة ومن ثم قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحكمة في النسخ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ أي جبريل عليه السلام، أي الروح المقدس. والمقدس: المطهر من المآثم مِنْ رَبِّكَ أي من عنده وأمره بِالْحَقِّ أي نزّله ملتبسا بالحكمة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا بهذا القرآن وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ فهو من ناحية يثبت أهل الإيمان، ومن ناحية هو يهديهم ويبشرهم، وإذا تذكرنا نهاية القسم السابق وهذه النهاية، رأينا الصلة بين هذه المجموعة وتلك، مع أن هذه الآية زادت وصفا وهو كون هذا القرآن بما فيه من إعجاز ومعجزات وتذكير ووعظ يثبّت أهل الإيمان

[سورة النحل (16): آية 103]

2 - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض قريش، وكان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليه ويكلمه بعض الشئ، وذاك كان أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشئ اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، فلهذا قال الله تعالى ردا عليهم في افترائهم ذلك لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ أي القرآن أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل». أقول: لم تزل هاتان الشبهتان هما عماد ما يتمسك به الكافرون ضد القرآن، فقد ألف المستشرقون والمبشرون والأحبار آلاف الكتب في الطعن في الإسلام بسبب وجود الناسخ والمنسوخ، وادّعوا أن لهذا القرآن مصادر بشرية منها أهل الكتاب الموجودون في جزيرة العرب. وقد ردّ القرآن على هاتين الشبهتين. وأقرب رد يقال: هو أن النسخ موجود في التوراة والإنجيل، فكيف ينكرونه على القرآن؟ وأن الموجودين في جزيرة العرب من أهل الكتاب ما كان عندهم ما يقدمونه أصلا، والقرآن يحكم عليهم وعلى غيرهم. وبهذا تنتهي المجموعة الثانية من هذا المقطع، بعد أن قررت الاستعاذة عند التلاوة، وبيّنت صفات الذين لا سلطان للشيطان عليهم. وصفات الذين للشيطان عليهم سبيل. وردت أكبر شبهتين يدّعيهما الكفار حول هذا القرآن. وقد رأينا الصلة ما بين هذه المجموعة وما قبلها، وما بينها وبين نهاية القسم السابق، وبداية القسم الثاني. فلنر الصلة بينها وبين محور السورة. كلمة في السياق: [المجموعة الثانية ومدى صلتها بمحور السورة] إن محور السورة آت في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وكتاب الإسلام القرآن. وقد ذكرت هذه المجموعة أدب تلاوة هذا القرآن. وردت شبهات حوله، وحددت صفات الذين يتبعون خطوات الشيطان، وصفات الذين ليس للشيطان عليهم سبيل.

المجموعة الثالثة من القسم الثاني وهي تمتد من الآية (104) إلى نهاية الآية (113) وهذه هي

فالصلة بين هذه المجموعة ومحورها من سورة البقرة واضحة. المجموعة الثالثة من القسم الثاني وهي تمتدّ من الآية (104) إلى نهاية الآية (113) وهذه هي: 16/ 113 - 104

بين يدي المجموعة الثالثة

بين يدي المجموعة الثالثة: هذه المجموعة تتحدث عن الذين لا يؤمنون بآيات الله، والذين يفترون الكذب على الله. وتتحدث عن الردة عن الإسلام، والإكراه على ترك الإسلام، وعما يغفر الله به لمن فتن عن دينه. والصلة بين هذه المجموعة وما قبلها مباشرة واضحة، فما قبلها كلام عن شبه الكافرين حول هذا القرآن. وهذا كلام عن الذين لا يؤمنون بهذا القرآن. والصلة بين هذه الآيات وبين نهاية القسم السابق واضحة. فتلك حديث عن القرآن والمسلمين، وهاهنا حديث عن القرآن والذين لا يؤمنون، ونؤخر الكلام عن الصلة بين هذه المجموعة ومحورها من سورة البقرة إلى ما بعد تفسير المجموعة. التفسير: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بالقرآن لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ ما داموا مختارين للكفر وَلَهُمْ أي في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم. أخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض وتغافل عما أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بالله، وما أرسل به رسله، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن؛ لأنه لا يترقب عقابا وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي على الحقيقة، الكاملون في الكذب الذين لا يقيّدهم قيد، وهو ردّ لقولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ وقولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ فالآية رد على الشبهتين السابقتين، ومن ثم فالصلة كاملة بين هذه المجموعة وما قبلها مباشرة قال ابن كثير: «أخبر تعالى أن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ليس بمفتر ولا كذاب، لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم شرار الخلق الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، والرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم كان أصدق الناس، وأبرهم وأكملهم علما وعملا، وإيمانا وإيقانا، معروفا بالصدق في قومه، لا يشك في ذلك أحد منهم، بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عزّ وجل».

[سورة النحل (16): آية 106]

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ أي إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه، مكرها لما ناله من ضرب وأذى. وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله، فهو مستثنى من الأحكام التي لها علاقة بالمرتدين وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي طاب به نفسا واعتقده فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ أي الغضب والعذاب بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي ولأن سنته أنه لا يهدي القوم الكافرين ما داموا مختارين للكفر أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها لا جَرَمَ أي لا بد أي حقا أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. ثم بيّن الله عزّ وجل أن هؤلاء الذين أكرهوا على الكفر إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله سيغفر لهم فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي بالعذاب والإكراه على الكفر ثُمَّ جاهَدُوا المشركين بعد الهجرة وَصَبَرُوا على الجهاد إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لَغَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم يوم معادهم، يغفر لهم ما كان منهم من التكلم بكلمة الكفر تقية، رحيم لا يعذبهم على ما قالوا في حالة الإكراه يَوْمَ أي إن الله لغفور رحيم لهم يوم تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ليس أحد يحاجّ عن أحد، لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي تعطى جزاء عملها من خير أو شر وافيا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على ثواب الشر. وهكذا بينت هاتان الآيتان أن علامة عدم اطمئنان القلب بالكفر عند الإكراه هو الهجرة والجهاد إذا تيسرت ظروف ذلك. وقبل أن نكمل تفسير المجموعة الثالثة نحب أن نذكر كلمة حول السياق ثمّ نتابع التفسير. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة النحل هو التذكير باليوم الآخر في معرض الأمر بالدخول في

[سورة النحل (16): آية 112]

الإسلام كله، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان، وعملية الدخول في الإسلام ترتبط بها قضية الإكراه على ترك الإسلام، فإذا حدث فما الحكم وما المخلص؟. كما ترتبط بها قضية الردة، فإذا حدثت فما العقوبة؟. وقد جاءت هذه المجموعة مبينة لهذه القضايا، ومبينة من هم الذين عندهم استعداد للردة وهم الكاذبون. فصلة المجموعة بمحور السورة من البقرة واضح. وبمناسبة الكلام عن الفتنة، والإكراه على ترك الإسلام، يضرب الله مثلا لهؤلاء الذين يفتنون الناس عن دينهم، ويبين ما هو جزاؤهم. فلنعد إلى التفسير: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً أي: من القتل والسبي مُطْمَئِنَّةً أي: لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف. يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أي واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من كل بلد فَكَفَرَتْ أي فكفر أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي بنعمه فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أي بدّلهم بحاليهم الأوليين خلافهما: الجوع بدل الرزق الرغد، والخوف بدل الأمن بِما كانُوا يَصْنَعُونَ أي بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ جاحدين نعمة الله عليهم بهدايتهم إلى دينه على يد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ أي أخذهم العذاب في حال تلبسهم بالظلم، جعل الله هذه القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته، ويمكن أن يكون المراد بهذه القرية قرية من قرى الأولين كانت هذه حالها فضربها الله مثلا. والأكثرون على أنها مكة، ضربت مثلا لكل من يفتن المؤمنين ويكذّب رسل الله، والجوع الذي أصابهم وجد يوم دعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبع كسني يوسف، والخوف الذي أصابهم بسبب سرايا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجيوشه، والعذاب الذي نزل بهم هو ما أصابهم يوم بدر، والعبرة لعموم اللفظ كما نعرف، فهذا المثل في هذا المقام تحذير لمن يرتد، ولمن يفتن المسلمين عن دينهم، ولمن يكذب رسل الله عليهم الصلاة والسلام. ***

المجموعة الرابعة من القسم الثاني وهي تمتد من الآية (114) إلى نهاية الآية (119) وهذه هي

المجموعة الرابعة من القسم الثاني وهي تمتدّ من الآية (114) إلى نهاية الآية (119) وهذه هي: 16/ 119 - 114 بين يدي المجموعة: المجموعة الرابعة فيها نموذج على أمر الله بالعدل ونهيه عن المنكر، ومن ثم فلها صلة بمقدمة المقطع من هذه الحيثية، ولها صلة بذكر النعم، وموضوع الجوع قبلها، وهي مجموعة توجيهية لمن دخل في السلم، وترك اتباع خطوات الشيطان في موضوع من أهم المواضيع كما سنرى، فهي مرتبطة بسياق السورة. ومحور السورة. تفسير المجموعة: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فالعبادة إذن تقتضي الشكر على الحلال الطيب، أما المفهوم الخاطئ الذي يجعل العبادة قرينة الحرمان وتحريم الطيبات والمباح، فإنه مفهوم كافر أو غال وليس هو المفهوم

[سورة النحل (16): آية 115]

الإسلامي في هذا الموضوع. ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم. فهذه التي يجب الامتناع عنها إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على غير اسم الله، و (إنما) في اللغة تفيد الحصر، ومن خلال الحصر نعرف أن الآية قالت إن المحرّم هو هذا دون البحيرة والسائبة وأخواتها مما حرّموه بأهوائهم فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أي فمن احتاج من غير بغي ولا عدوان فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر عند الاضطرار، ولا يعاقب رحمة منه تعالى. ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حلّلوا وحرّموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم فقال: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو أحلّ شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه، ثمّ توعّد على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ أي في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فمتاع قليل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم كما قال: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم فيما هم عليه من الكذب على الله منفعة قليلة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وعذاب ذلك عظيم عند الله، دلّ ذلك على أنّ التحريم والتحليل بالهوى كفر. وبعد أن ذكر الله تعالى ما أحلّ لهذه الأمة، وما حرم عليها، وما رخّص فيه عند الضرورة؛ توسعة على هذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر، ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرّمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي في سورة الأنعام. وَما ظَلَمْناهُمْ أي فيما ضيقنا عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي فاستحقوا ذلك، أي استحقوا ما حرمناه عليهم عقوبة لهم على معاصيهم كما قال تعالى في سورة النساء فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ثم أخبر تعالى هذه الأمة عن سنته في حق العصاة: أن من تاب منهم إليه تاب الله عليه تكرما وامتنانا ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة؛ لغلبة الشهوة عليهم، مرادهم لذة الهوى لا عصيان المولى ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي، وأقبلوا على فعل الطاعات إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد التوبة، أو من بعد

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة بالسياق العام للسورة وبالمحور

الغفلة التي أعقبت توبة لَغَفُورٌ بتكفير ما أكثروا قبل من الجرائم رَحِيمٌ بتوثيق ما وثّقوا بعد من العزائم. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة بالسياق العام للسورة وبالمحور] إن موضوع التحريم والتحليل من أخطر المواضيع في الحياة البشرية، ومن ثمّ فإن الله عزّ وجل هو الذي يحل ويحرم. وقد جعل الله عزّ وجل التحريم والتحليل النابعين عن الهوى من عمل الشيطان، فقال في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإذا فهمنا هذه الآية عرفنا محل المجموعة التي مرت معنا في السياق العام والسياق الخاص: فبالنسبة للسياق العام: فإن هذه السورة آتية لتفصّل في حيز قوله تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومن خطوات الشيطان تحريم الحلال، وتحليل الحرام، ومن الدخول في السلم أن تحل ما أحل الله، وأن تشكر الله على ما أحل، ومن الدخول في السلم أن تتوب إذا عصيت، فهذا محل هذه المجموعة في السياق العام. وأما محلّها في سياق قسمها: فإننا رأينا أن مقدمة القسم هي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. ورأينا أن الشيطان يأمرنا بالسوء والفحشاء في موضوع التحريم والتحليل، كما مر معنا في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ... وهذه المجموعة من الآيات بينت لنا ما حرم الله علينا، وما حرم على من قبلنا، فما زاد على ذلك مما لم تحرمه السنة فمن فعل الشيطان وأمره، أي من الفحشاء والمنكر الذي ينهى الله عنه، وما كان ضمن حدود الله فهو العدل الذي يأمر الله به. فمجموعة الآيات التي مرّت معنا نموذج على ما يأمر الله به من العدل، وعلى ما ينهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي. فالصلة بين المجموعة وسياقها ضمن قسمها واضحة. ***

المجموعة الخامسة من القسم الثاني وتمتد من الآية (120) إلى نهاية الآية (128) أي إلى نهاية السورة وهذه هي

المجموعة الخامسة من القسم الثاني وتمتدّ من الآية (120) إلى نهاية الآية (128) أي إلى نهاية السورة وهذه هي: 16/ 128 - 120 بين يدي المجموعة: هذه هي المجموعة الأخيرة في هذا القسم، وبها تختم السورة، فهي خاتمة للسورة والقسم. ولنقدم لها بمقدمة لها علاقة بالسياق: 1 - إن المحور الذي تخدمه هذه السورة هو الدخول في الإسلام كله، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، وهو إمام في الإسلام، والإسلام الذي أنزل على

التفسير

محمد صلّى الله عليه وسلّم إنما هو استمرار لإسلام إبراهيم عليه السلام. 2 - الإسلام دعوة عالمية وتحاربه قوى كافرة، فما هي آداب الدعوة إلى الإسلام؟ وما هو أدب العقوبة إذا عاقبنا؟ وما هي خصائص الدعاة؟. 3 - إن الله يأمر بالعدل ويأمر بالإحسان، ما هو المثل لذلك؟ فإذا وجدنا أن هذه المعاني تتعرض لها المجموعة الأخيرة من هذا القسم أدركنا صلة هذه المجموعة بقسمها. وأدركنا صلة هذه المجموعة بالمحور فتدبّر الآن تفسير المجموعة. التفسير: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي إنه كان وحده أمة من الأمم؛ لكماله في جميع صفات الخير قانِتاً لِلَّهِ أي خاشعا مطيعا حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان إلى ملة الإسلام وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفى عنه الشرك تكذيبا لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ أي اختصه واصطفاه للنبوة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى الإسلام لله وحده بالعبادة والشريعة وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج إليه في إكمال حياته الطيبة، من نبوة وأموال وأولاد، وذكر حسن، وخلود على ألسنة أهل التوحيد، وقبول في قلوب الناس جميعا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي لمن أهل الجنة. هذا هو النموذج للمسلم الكامل، وما أعطاه الله نموذج للحياة الطيبة التي وعدها عباده الصالحين. هذا النموذج مستجمع لخصال الخير: خاشع، مطيع، مائل عن كل دين إلا دين الإسلام، موحّد، شاكر للنعمة، مستقيم على صراط الله، صالح، وجزاؤه الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن في الآخرة. هذا هو النموذج الكامل للمسلم، والنموذج الكامل للدخول في الإسلام كله، ومن ثم جعله الله قدوة لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا كذلك من إكرامه في الدنيا ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال ابن كثير: أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً .. وقال النسفي: في (ثم) تعظيم منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام

[سورة النحل (16): آية 124]

وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته. وإذن فالنموذج للمسلم الكامل إبراهيم عليه السلام، وبعثة رسولنا عليه الصلاة والسلام إنما هي تجديد لدين إبراهيم، وإحياء له في التوحيد والقدوة، ولما كان عند اليهود (عقدة السبت) لدرجة أنهم يرفضون أي دين لا يعظم السبت، ويعتبرون عدم تعظيم السبت علامة على بطلان أي دين، بيّن الله عزّ وجل في هذا المقام هذا الموضوع، واختيار هذا المقام لتبيان هذا الموضوع؛ لأن إبراهيم لم يكن جزءا من عمله تعظيم السبت، ولأن هذا المثال نموذج على ما يمكن أن يجادل فيه بعض الخلق، والأمر اللاحق هو توجيه حول قضية الدعوة والجدال فيها. فمجيء هذا الموضوع في هذا المقام مفهوم الحكمة، وهو بيان لموقف الإسلام من السبت. فليس السبت جزءا من إسلامنا، ولا من شريعتنا، ولا مما أمر الله به أمتنا. إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي فرض عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي على اليهود، وهل اختلافهم فيه سابق على فرضيته أو بعد فرضيته بأن حفظه بعضهم وضيعه آخرون، أو الاختلاف فيه هو بعد بعثة المسيح عليه السلام؟ أقوال، وفي كل الأحوال يكون المعنى إنما فرض السبت على بني إسرائيل، ويدخل فيه أن بعضهم عظمه وبعضهم لم يعظّمه، كما فعلت القرية التي مسخ الله قسما من أهلها. ويمكن أن يكون المراد- والله أعلم- أن الله ألزمهم بيوم يعظمون الله فيه، واختار لهم الجمعة دون إلزام، فطرح بعضهم فكرة السبت، فرفضها قوم وقبلها آخرون، فألزمهم الله إياها، وسنتعرض للموضوع في الفوائد وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إن كان في التعظيم وعدمه، فيكون المعنى: وهو يحكم بينهم يوم القيامة، فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله، وإن كان في اليوم المفضّل فإن المعنى: أن الله سيبين للجميع أن اليوم المفضّل عنده هو الجمعة. ثم يتوجه الخطاب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وارث ملة إبراهيم عليه السلام. الداعية إلى الإسلام، وهو خطاب لكل فرد من أمته يعلّمه كيفية الدعوة إلى الإسلام: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ قال النسفي: إلى الإسلام بِالْحِكْمَةِ أي بالمقالة الصحيحة المحكمة، وهو الدليل الموضح للحق، المزيل للشبهة، أو بالخطاب المناسب لكل إنسان بحسبه وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ قال ابن كثير: أي بما فيه (أي القرآن) من الزواجر والوقائع بالناس، وذكّرهم بها ليحذروا بأس الله. وقال النسفي في تفسير الموعظة الحسنة: وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها، وتقصد ما ينفعهم فيها.

[سورة النحل (16): آية 126]

وقد يكون المراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن. أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وقد يراد بالموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، وهو ردّ على من يأبى المناظرة في الدين ولكن من يستطيع مثل هذا المقام في الجدال؟؟ وهو التزام الطريقة الحسنى فيه، رفقا ولينا بما يعظ النفوس، ويوقظ القلوب، ويجلو العقول، والجدال غالبا ترافقه إثارة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم، إنما أنت نذير عليك البلاغ، وعلينا الحساب، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، ولمّا كانت الدعوة إلى الله تقابل في كثير من الأحيان بالإيذاء قال تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي إن صنع بكم صنيع سوء: من قتل، أو نحوه، فقابلوه بمثله، ولا تزيدوا عليه وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فالمماثلة في استيفاء الحق عدل، والصبر إحسان، ثم قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم الذي مقامه دائما الإحسان وَاصْبِرْ هذا عزم من الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر ليدلل أن مقام الصبر هو الأرقى وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بتوفيقه وتثبيته، هذا إخبار منه تعالى بأن الصبر لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته وقوّته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكفار إن لم يؤمنوا، أو على من خالفك؛ فإن الله قدّر ذلك، أو على المؤمنين وما فعل بهم، فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي في غمّ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم. والمعنى: ولا يضيقن صدرك من مكرهم، فإنه لا ينفذ عليك مهما أجهدوا أنفسهم في عداوتك، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك، ومؤيدك ومظهرك، ومظفرك بهم. وهذا كله مفهوم من الآية الأخيرة إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي معهم بتأييده ونصره، ومعونته وهديه، وهذه معيّة خاصة، والذين اتقوا: هم الذين يجتنبون المحرمات. والمحسنون: هم الذين يفعلون الطاعات، فهؤلاء الله وليّهم، فهو ولي من اجتنب السيئات، وفعل الطاعات، وقد قالوا: من اتقى في أفعاله، وأحسن في أعماله، كان الله معه في أحواله. ومعيته: نصرته في المأمور، وعصمته من المحظور.

وواضح أن الآيات الأخيرة قد وضعت دستورا للدعوة والدعاة، وقد تحدث صاحب الظلال في أجواء هذا الدستور فقال: (إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أن يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله. والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة، فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه. وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة. ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ. وبالجدال بالتي هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له ولا تقبيح حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما يختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر. ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للّجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله. هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل

بالحجة. فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق، ودفعا لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ. فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في أنفس الناس. والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد ولا يثق أنها دعوة الله. فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله، والعزة لله جميعا. ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون؟!. ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، في الحالات التي قد يكون العفو فيها الصبر أعمق أثرا، وأكثر فائدة للدعوة. فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر. فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها، فالقاعدة الأولى هي الأولى. ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال، وضبط للعواطف، وكبت للفطرة، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ. فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره. ويوصي القرآن الرسول صلّى الله عليه وسلّم- وهي وصية لكل داعية من بعده- ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال. وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله، فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين، وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه).

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة الخامسة بمقدمة القسم الثاني وبالمحور

كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الخامسة بمقدمة القسم الثاني وبالمحور] صلة هذه المجموعة بمقدمة هذا القسم واضحة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وما أمر الله به في هذه المجموعة من اتباع إبراهيم عليه السلام، ومن طرق الدعوة إلى الله، والمماثلة بالعقوبة أو الصبر، والحض على الصبر، كلها من نوع الأمر بالعدل والإحسان. وصلة هذه المجموعة بمحور السورة من البقرة واضحة ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فإبراهيم عليه السلام هو قدوة الداخلين في الإسلام كله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، ونحن مأمورون باتباعه، وليس السبت جزءا من الإسلام. والدعوة إلى الإسلام لها طريقها الخاص بها، ومقابلة الاعتداء بمثله جائزة، والصبر أجود، ومع الصبر لا ينبغي أن يكون حزن أو ضيق من مواقف الآخرين وعليهم، هذه كلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بموضوع الدخول في الإسلام كله، إن في وعد الله بتأييد المتقين المحسنين ونصرتهم، أو بالبشارة بمعيته لمن يدخل في دينه الذي هو عدل وإحسان وإيتاء ذي القربى، والذي هو ترك للفحشاء والمنكر والبغي. وهكذا نلاحظ من خلال المجموعات الخمس التي مرت معنا، وارتباطها بمقدمة القسم الثاني، ونهاية القسم الأول، وصلة القسم الثاني كله بمحور السورة من سورة البقرة، نلاحظ من خلال هذا كله كيف أن الإنسان إذا لم يدرك السياق الخاص للسورة، وارتباط السورة بمحورها، لا يستطيع أن يعرف محلّ الآية، أو المجموعة في الوحدة العامة للسورة، وضمن الوحدة القرآنية العامة. وإن حرصنا على إبراز هذا المعنى جعلنا نؤخّر الكلام عن بعض فوائد ما مرّ معنا حتى لا ينقطع الكلام عن السياق، وقد آن الأوان لنتكلم عن فوائد حول القسم الذي مرّ معنا: الفوائد: 1 - [حديث بمناسبة الآية وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى] بمناسبة قوله تعالى: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى يروي ابن كثير الحديث «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرحم». 2 - [أجمع آية في القرآن إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ .. ] الكلام عن آية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... كثير، إذ هي أجمع

آية في القرآن، ولهذا يقرؤها كل خطيب على المنبر في آخر خطبته لتكون عظة جامعة، وقد نقل ابن كثير في هذا المقام أحاديث وآثارا ننقلها مع حذف الأسانيد: روى الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية. وقال سعيد عن قتادة قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية ليس من خلق حسن- كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه- إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ، كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه، إنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها (قلت) القائل ابن كثير ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها» وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب (معرفة الصحابة) ... عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه! قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما من أنا، فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله». قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية. قالوا: ردّد علينا هذا القول، فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألناه عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر- أي شريفا- وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها. فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا. وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون فكشر (¬1) إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا تجلس؟» فقال: بلى. قال: فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستقبله، فبينما يحدثه إذ شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض فتحرّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له شخص بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى ¬

_ (¬1) - كشّر: أي تبسّم حتى بدت أسنانه.

3 - حديث بمناسبة الآية وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ..

في السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الاولى. فقال: يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة: فقال: «وما رأيتني فعلت؟» قال: رأيتك تشخص بصرك إلى السماء، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال: قال: «وفطنت لذلك؟» فقال عثمان: نعم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتاني رسول الله (يعني جبريل) آنفا وأنت جالس». قال: رسول الله؟؟ قال: «نعم» قال: فما قال لك؟ قال: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» الآية. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وروى الإمام أحمد ... عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا إذ شخص بصره فقال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» الآية». أقول: والرواية الأخيرة تدل على أن ترتيب القرآن توقيفي، فالله عزّ وجل هو الذي أمر بترتيبه على ما هو عليه. 3 - [حديث بمناسبة الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها نذكر ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به فهو كالمدلي جاره إلى غير منعة». أي مثل المورط جاره إلى موقف ليس له فيه حماية. 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة الآية وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً قال ابن كثير: قال عبد الله بن كثير: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده. وهذا القول أرجح وأظهر، سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا. 5 - [أقوال في تفسير الحياة الطيبة التي وعدها الله من آمن وعمل صالحا] تفسير الحياة الطيبة التي وعدها الله من آمن وعمل صالحا في الحياة الدنيا، فيه أكثر من قول. قال ابن كثير: والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة. وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه، وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: إنها هي السعادة، وقال الحسن ومجاهد وقتادة: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة، وقال الضحاك: هي الرزق الحلال والعبادة

6 - كلام ابن كثير حول معنى الاستعاذة في الآية فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله

في الدنيا، وقال الضحاك أيضا: هي العمل بالطاعة والانشراح بها. والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه» ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به. وروى الترمذي والنسائي ... عن فضالة بن عبيد: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قد أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع به». وروى الإمام أحمد ... عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعمه بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» انفرد بإخراجه مسلم. وقال النسفي: المؤمن مع العمل الصالح- موسرا كان أو معسرا- يعيش عيشا طيبا، إن كان موسرا فظاهر، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه- وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى- وأما الفاجر فأمره بالعكس، إن كان معسرا فظاهر، وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يهنأ بعيشه. وقيل الحياة الطيبة القناعة، أو حلاوة الطاعة، أو المعرفة بالله، وصدق المقام مع الله وصدق الوقوف على أمر الله، والإعراض عما سوى الله» 6 - [كلام ابن كثير حول معنى الاستعاذة في الآية فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ... قال ابن كثير: والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر. ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة، وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة واحتجا بهذه الآية. ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي، والصحيح الأول لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة والله أعلم. 7 - [سبب نزول الآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ قال ابن إسحاق في السيرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما بلغني- كثيرا ما كان يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد لبعض بني الحضرمي فأنزل الله وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وكذا قال عبد الله بن كثير، وعن عكرمة وقتادة: كان اسمه يعيش. وروى ابن جرير ... عن ابن عباس

8 - روايات حول قضية الإكراه على الكفر بمناسبة الآية .. إلا من أكره ...

قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم فينا بمكة، وكان اسمه (بلعام) وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلّمه بلعام فأنزل الله هذه الآية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وقال عبيد الله بن مسلم: كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما فكان صلّى الله عليه وسلّم يمرّ بهما، فيقوم فيسمع منهما، فقال المشركون يتعلم منهما فأنزل الله هذه الآية. وقال الزهري عن سعيد بن المسيب: الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فارتد ذلك عن الإسلام وافترى هذه المقالة قبّحه الله. 8 - [روايات حول قضية الإكراه على الكفر بمناسبة الآية .. إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ... ] عند قوله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ قال ابن كثير: «وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء معتذرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك. وروى ابن جرير ... عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن عادوا فعد». ورواه البيهقي بأبسط من ذلك، وفيه أنه سب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله: ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنا بالإيمان فقال: «إن عادوا فعد» وفي ذلك أنزل الله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي؛ إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يستقتل كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه

9 - كلام ابن كثير بمناسبة الآية إن إبراهيم كان أمة قانتا ..

إربا وهو ثابت على ذلك. وروى الإمام أحمد .. عن أيوب عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرّق ناسا ارتدّوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس. فقال: لم أكن لأحرقهم بالنار. إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تعذبوا بعذاب الله». فبلغ ذلك عليا فقال: ويح أم ابن عباس. رواه البخاري. وروى الإمام أحمد أيضا ... عن أبي بردة قال: قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن، فإذا رجل عنده، قال: ما هذا؟ قال: رجل كان يهوديا فأسلم ثم تهوّد، ونحن نريده على الإسلام منذ- قال: أحسبه- شهرين فقال: والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه. فضربت عنقه فقال: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال: «من بدّل دينه فاقتلوه» وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر. والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله. كما ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الله ابن حذافة السهمي- أحد الصحابة-: أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصّر وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك ابنتي، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم طرفة عين ما فعلت، فقال: إذا أقتلك، فقال: أنت وذاك، قال: فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموا قريبا من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية، فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر- وفي رواية- ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى، وطمع فيه ودعاه، فقال له: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله، وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشمتك فيّ، فقال له الملك: فقبّل رأسي وأنا أطلقك فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم. فقبل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ. فقام فقبّل رأسه رضي الله عنهما.». 9 - [كلام ابن كثير بمناسبة الآية إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً ذكر ابن كثير ما قاله ابن

10 - روايات بمناسبة الآية إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ..

مسعود. إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا- قال الراوي-: فقلت في نفسي غلط أبو عبد الرحمن، وقال إنما قال الله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً فقال: تدري ما الأمة؟ وما القانت؟ قلت: الله أعلم. فقال: الأمة: الذي يعلم الخير. والقانت: المطيع لله ورسوله، وكذلك كان معاذ. معلم الخير، وكان مطيعا لله ورسوله، فهذا تفسير ابن مسعود للأمة. 10 - [روايات بمناسبة الآية إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ... ننقل حديثين: 1 - ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا، والنصارى بعد غد». لفظ البخاري. 2 - روى الإمام مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضي بينهم قبل الخلائق». 11 - [حول القصاص بالمثل في الآية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ] عند قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ قال ابن كثير: «يأمر تعالى بالعدل في القصاص، والمماثلة في استيفاء الحق، كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إن أخذ منكم رجل شيئا فخذوا منه مثله. وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال ذو منعة فقالوا: يا رسول الله لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب! فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد.

وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حيث قتل حمزة رضي الله عنه ومثّل به. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين رجلا منهم». فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فأنزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة، وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم، وقد روي هذا من وجه آخر متصل فقد روى الحافظ أبو بكر البزار ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه- أو قال لقلبه- فنظر إليه وقد مثل به فقال: «رحمة الله عليك إن كنت- ما علمتك- إلا وصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع- أو كلمة نحوها- أما والله على ذلك، لأمثلن بسبعين كمثلتك» فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم بهذه السورة وقرأ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر الآية، فكفّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- يعني عن يمينه- وأمسك عن ذلك. وإسناد هذا الحديث فيه ضعف لأن فيه صالحا هو ابن بشير المري- ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري: هو منكر الحديث، وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم: لنمثلن بهم، فأنزل الله فيهم ذلك. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ... عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا، ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين (¬1). فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم، فنادى منادي رسول الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد آمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا- ناسا سماهم- فأنزل الله تبارك وتعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نصبر ولا نعاقب». وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ثم قال: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ الآية (الشورى: 40). وقال: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ثم قال: فَمَنْ ¬

_ (¬1) لنربين: أي لنضاعفنّ.

كلمة في سورة النحل

تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ (المائدة: 45) وقال في هذه الآية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ثم قال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وقوله تعالى وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته. كلمة في سورة النحل: رأينا أن سورة النحل ذكّرت بالله، وباليوم الآخر، من أجل أن تحمل هذا الإنسان على الإسلام لله رب العالمين، وأن الإسلام لله رب العالمين يتمثل بهذا القرآن الذي جعله الله تبيانا لكل شئ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. فمن لم ينظر إلى كل شئ بنور هذا القرآن، ويستسلم في كل شئ لحكم القرآن فليس مسلما. هذا القرآن بجميع أوامره عدل وإحسان وصلة رحم، وبجميع نواهيه نهي عن الفحشاء والمنكر والظلم. فهو يأمر بالوفاء بالعهود والعقود، ويأمر بأكل الطيبات، ويأمر أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وينهى عن نكث العهود، والجرأة على الله في التحليل والتحريم. ويحذّر من الكفر والردة. هذه معان طرقتها السورة. كما تعرضت لأدب تلاوة القرآن، وتحدثت عن الحال الذي به يخرج الإنسان من سلطان الشيطان. وتحدثت عن النموذج الكامل للمسلم: الكامل إبراهيم عليه السلام، فهى من ثم تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. الآتية في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ومن ثم فهي تذكير بكل ما يستجيش عند الإنسان معاني الدخول في الإسلام والاستسلام لله في أمره ونهيه. ***

سورة الإسراء

سورة الإسراء وهي السّورة الثالثة من المجموعة الثانية من قسم المئين وهي السّورة السابعة عشرة بحسب الرّسم القرآني وآياتها مائة واحدى عشرة آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله واصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الإسراء

قال الألوسي في تقديمه لسورة الإسراء: (وتسمى الإسراء، وسبحان أيضا، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور، وقال صاحب الغنيان بإجماع، وقيل إلا آيتين وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ وقيل. إلا أربعا هاتان، وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وقوله سبحانه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وزاد مقاتل قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ الآية. وعن الحسن إلا خمس آيات وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الآية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الآية أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ الآية وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الآية، وقال قتادة: إلا ثماني آيات وهي قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى آخرهن، وقيل غير ذلك، وهي مائة وعشر آيات عند الجمهور، وإحدى عشرة عند الكوفيين. وكان صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي، وغيرهم عن عائشة يقرؤها والزمر كل ليلة، وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم. وطه. والأنبياء: هن من العتاق الأول وهن من تلادي، وهذا وجه في ترتيبها، ووجه اتصال هذه بالنحل- كما قال الجلال السيوطي- أنه سبحانه لما قال في آخرها إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني اسرائيل، وذكر تعالى فيها عصيانهم، وإفسادهم، وتخريب مسجدهم، واستفزازهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإرادتهم إخراجه من المدينة، وسؤالهم إياه عن الروح، ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع، وخطابه مع فرعون، وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض، فأهلك، وورث بنو إسرائيل من بعده، وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون، حيث أرادوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه، ولما كانت هذه السورة مصدرة بقصة تخريب المسجد

وقال صاحب الظلال في سورة الإسراء

الأقصى، افتتحت بذكر إسراء المصطفى صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له بحلول ركابه الشريف، جبرا لما وقع من تخريبه. وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر، ونهاه عن الحزن على الكفرة، وضيق الصدر من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته صلّى الله عليه وسلّم إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه- وحاشاه به- عقّب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه وقيل: وجه ذلك أي وجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة، ومنها عامة، وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم، واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك، وذكر سبحانه هناك في النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ وذكرها هنا في القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى، وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة، إلى غير ذلك مما لا يحصى، فليتأمل والله تعالى الموفق) .. وقال صاحب الظلال في سورة الإسراء: ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه. ففي مطلعها: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ... وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. وعند دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً* تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. وفي حكاية أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن وَيَقُولُونَ: سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وتختم السورة بالآية: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً. كلمة في سورة الإسراء ومحورها: بعد قوله تعالى في سورة البقرة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ

وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يأتي قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وكلتا الآيتين جاءت بعد قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فالآيتان اللتان رأيناهما من سورة البقرة تخدمان هذا الأمر وهذا النهي. وتأتي سورة النحل لتفصّل آية هَلْ يَنْظُرُونَ ... * والمعنى الذي تخدمه كما رأينا، والآن تأتي سورة الإسراء لتفصّل آية: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيما يخدم موضوع الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان. ومن ثم نلاحظ: أن السورة تسمّى سورة بني إسرائيل، وهذا يصل بسبب لقوله تعالى سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ .... ونجد في آخر السورة قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ... وهو يصل بسبب إلى قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ... ونجد قوله تعالى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وهو يصل بسبب إلى قوله تعالى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ونجد في السورة قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا* وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ. وهو يصل بسبب إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وإلى قوله تعالى وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ونجد في السورة لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا .... وهو يصل بسبب إلى قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ... * وسنجد

ما ورد في سورة الإسراء

أثناء عرض السورة تفصيلا لما قلناه. ... إن الله تعالى عند ما ينزل وحيا على أمة، ويختارها لحمل رسالته فهذه نعمة يستوجب كفرها عقابه. وقد أنزل الله وحيا على بني إسرائيل فكفروه فاستحقوا عقابه. وقد أنزل الله على هذه الأمة هذا الإسلام، وأمرهم بالدخول فيه كله، ونهاهم عن اجتناب خطوات الشيطان، وعليهم أن يتعظوا بما حدث لبني إسرائيل، من تسليط غيرهم عليهم عند ما ابتعدوا عن دينه. فالسورة إذن تخدم الدخول في الإسلام، وترك اتباع خطوات الشيطان من خلال التذكير بما جرى ويجري لبني إسرائيل، ومن خلال التعريف على الله بأنه شديد العقاب لمن بدّل نعمته. ... والسورة قد عالجت هذه القضايا بأسلوب القرآن الذي لا يستطيع الإنسان أن يحيط به إلا بقدر ويبقى ما يغيب عن الإنسان هو الأكثر. لأن الله وحده هو الذي يحيط بأسرار كتابه. ... وسنعرض السورة على أنها مقدمة، وخمسة مقاطع، وهو تقسيم اجتهادي، تسوقنا إليه المعاني. ما ورد في سورة الإسراء: أخرج البخاري بسنده إلى عبد الرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم: إنهنّ من العتاق الأول، وهن من تلادي» وفي ذلك إشارة إلى قدم نزول هذه السور وإتقان ابن مسعود لهن. وأخرج الإمام أحمد بسنده إلى أبي لبابة قال: سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان

مقدمة سورة الإسراء وتتألف من ثلاث آيات وهذه هي

يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر». والملاحظ أن هذه السورة سميت في كلا الأثرين بسورة بني إسرائيل. ويلاحظ أن السورة تبدأ بالكلام عن بني إسرائيل يعد الآية الأولى منها وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ .... وتنتهي قبل خاتمتها بالكلام عن بني إسرائيل: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ مقدمة سورة الإسراء وتتألف من ثلاث آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 17/ 3 - 1 التفسير: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ أي محمد صلّى الله عليه وسلّم لَيْلًا أي في جنح الليل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من مكة أو من حرمها إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي إلى بيت المقدس الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ في الزروع والثمار والخيرات وكثرة العباد والدعاة. فقد بورك دينا ودنيا، ومن ثم كانت بلاد الشام بلاد البركات والخيرات لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنري محمدا عليه الصلاة والسلام من آياتنا العظام الدالة على الوحدانية والقدرة وصدق الوحي، فهذه هي الحكمة من الإسراء والمعراج كما سنرى

[سورة الإسراء (17): آية 2]

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة، مجّد الله عزّ وجلّ نفسه، وعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، بمناسبة الكلام عن الإسراء برسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحكمته في ذلك، ثمّ لمّا ذكر أنه أسرى بعبده محمد صلّى الله عليه وسلّم عطف بذكر موسى عليه السلام عبده ورسوله، وما أكرمه به من الكتاب، وكثيرا ما يقرن الله بين ذكر موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وبين ذكر التوراة والقرآن. وفي الكلام عن موسى عليه السلام والتوراة بعد الكلام عن الإسراء إشارة إلى صلة الإسراء بالتدليل على صدق ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم ووحدة الوحي، ووحدة الرسالة، وفي ذكر موسى وقومه بعد الكلام عن الإسراء بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إشارة إلى العبرة في قصة موسى عليه السلام وقومه للذين جاءتهم النبوة الأخيرة، والرسالة الخاتمة كيلا يفعلوا كما فعل الآخرون، فيبدّلوا نعمة الله كفرا، فيستحقوا العقاب وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَجَعَلْناهُ أي كتاب التوراة هُدىً أي هاديا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا أي لئلا تتخذوا، أي لا تتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي ربا تكلون إليه أموركم، فإن الله وحده هو الولي والنصير والمعبود ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي يا ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً في السراء والضراء، والشكر مقابلة النعمة بالثناء على المنعم اعتقادا وقولا وحالا، والخطاب إما لبني إسرائيل أصلا وتخاطب به هذه الأمة تبعا، أو الخطاب لهذه الأمة مباشرة، فبعد أن حدّثها الله عن آية الإسراء، وعما أنزل الله من آياته على موسى عليه السلام خاطبها مطالبا إياها بالشكر. قال ابن كثير في تفسيرها: فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقال النسفي: وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم، وآية رشد الأبناء صحة الافتداء بسنة الآباء إذا كانت حقا وصوابا، وقد عرفتم حال الآباء هنالك، فكونوا أيها الأبناء كذلك. كلمة في السياق: [حول مضمون المقدمة وصلتها بالمحور] هذه مقدمة السورة وفي الإشارة إلى ما منّ الله به على محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإسراء، وما منّ

الفوائد

به على موسى عليه السلام في التوراة. وفي الإشارة إلى مقام الشكر عند نوح ما يدلنا منذ البداية على اتجاه السورة. النعمة تقتضي شكرا فإذ يقص الله بعدها علينا ما عاقب به بني إسرائيل لكفرهم، فإنه يعرفنا بذلك على سنته فيمن لم يشكر. وفي ذلك تربية لهذه الأمة التي سيعطيها الله بيت المقدس وما حوله، والتي أنزل عليها كتابا هاديا، وأرسل لها رسولا بالآيات ألا تكفر النعمة فتسلب. وكفرانها بالنعمة إنما هو بكفرها بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وكفرها بدينه، وعدم التزامها بشريعته، ونحن الآن- سلبت منا فلسطين، وذهبت القدس- ندرك حكمة التحذير في هذه الآيات وما بعدها، ونعرف طريق الخروج مما نحن فيه. في قوله تعالى في ابتداء السورة: سُبْحانَ ... إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ما يشير إلى النعمة لتشكر، وفيها إشارة إلى النقمة إن كفرت النعمة، فالله يسمع ويبصر. ... لاحظ صلة ذلك كله بقوله تعالى في سورة البقرة: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ولاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. الفوائد: 1 - [بعض فوائد وتعليقات لابن كثير حول موضوع الإسراء والمعراج وتعليق المؤلف على ذلك] في تفسير ابن كثير حوالي إحدى وعشرين صحيفة حول الإسراء والمعراج، نقل فيها مجموع الروايات الواردة في هذين الموضوعين، وكان يعلّق على بعضها عند النقل. ثم كتب تعليقا طويلا في النهاية، ونحن في هذه الفائدة سننقل قسما من تعليقه الأخير. ونختار بعض نقوله، ولنا تعليق أخير، ونلفت النظر إلى أن كتابنا (الأساس فى السنة وفقهها) سيكون محل استعراض الأحاديث حول الإسراء والمعراج. (1) مختارات أ- روى الإمام أحمد وأخرجاه في الصحيحين:

(2) من تعليق ابن كثير

عن جابر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه». ب- أخرج البخاري عن أنس قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري، ثم طبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: «افتح قال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد قال: أرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال: قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم (¬1) بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى. ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال له الأول، ففتح- قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مرّ جبريل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بإدريس قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى، فقال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم». (2) من تعليق ابن كثير بعد أن ذكر ابن كثير الروايات في موضوع الإسراء والمعراج ذكر فصلا ثم أعقبه بفصل وبفائدتين وهذه هي: ¬

_ (¬1) - النسم: جمع نسمة وهي النفس.

(فصل)

قال ابن كثير: (فصل): وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة، فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جدا، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرر. قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرا، والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس، راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها- فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السموات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلّى الله عليه وسلّم وعليهما وعلى سائر الأنبياء. حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي: أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق. ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندا ظهره إليه، لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفا بعباده. وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما خانت الصلاة. ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، ومن الناس من يزعم أنه أمّهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه

بيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا، وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى. ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه وفضله بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم، وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل، أو اللبن والخمر، أو اللبن والماء، أو الجميع، فقد ورد أنه في بيت المقدس، وجاء أنه في السماء، ويحتمل أن يكون هاهنا وهاهنا لأنه كالضيافة للقادم والله أعلم. ثم اختلف الناس هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه، أو بروحه فقط؟ على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه، يقظة لا مناما، ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى قبل ذلك مناما ثم رآه بعده يقظة، لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ فالتشبيه إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شئ، ولم يكن مستعظما، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقد قال تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. رواه البخاري، وقال تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (النجم: 17) والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح، لأنها لا تحتاج في حركاتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم. وقال آخرون بل أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بروحه لا يجسده. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن معاوية ابن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن أسري بروحه. قال ابن إسحاق فلم نكر ذلك من قولها لقول الحسن أن هذه الآية نزلت وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. ولقول الله في الخبر عن إبراهيم إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى. قال ثم مضى على ذلك

(فائدة حسنة جليلة)

فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا ونياما فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تنام عيناي وقلبي يقظان». فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه، وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائما أو يقظا، كل ذلك حق وصدق. انتهى كلام ابن إسحاق وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم والله أعلم. (فائدة حسنة جليلة) روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب (دلائل النبوة) من طريق محمد بن عمر الواقدي، حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمرو بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دحية بن خليفة إلى قيصر، فذكر وروده عليه وقدومه إليه. وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل. ثم استدعى من بالشام من التجار، فجئ بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلّم، كما سيأتي بيانه، وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما منعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليّ، ولا يصدقني في شئ قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال: فقلت: أيها الملك ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم إيليا، ورجع تلك الليلة قبل الصباح، قال: وبطريق إيليا عند رأس قيصر فقال بطريق إيليا: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر قيصر وما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم، فعالجته فغلبنا فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول به جبلا، فدعوت إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف (¬1) والبنيان، ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أثر مربط لدابة قال: فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلّى الليلة في مسجدنا. وذكر تمام الحديث. ¬

_ (¬1) - النجاف: أعلى الباب.

(فائدة)

(فائدة) قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير). وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس، وتكلم عليه فأجاد وأفاد، ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشدّاد بن أوس، وأبيّ بن كعب، وعبد الرحمن بن قرظ، وأبي حبة، وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمر، وجابر، وحذيفة، وبريدة، وأبي أيوب، وأبي أمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. 3 - تعليقنا أ- إن الإسراء والمعراج يذكران في باب المعجزات من كتب الحديث والسيرة والدلائل، والمعجزة ما به تقوم الحجة على الناس، وقد قامت الحجة عليهم بالإسراء من حيث إنهم امتحنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد إخباره لهم بالإسراء امتحانات متعددة للتأكد من صدق الحادث، فكان أن وجدوا في كل امتحان ما يدلل على صدقه عليه الصلاة والسلام فيه، وقد رأينا في المختارات نموذجا، وفي مجموع الروايات الواردة في هذا الموضوع نماذج من هذه الامتحانات، وبهذا قامت الحجة على الناس بالمعجزة وحدوثها. ب- رأينا أن الحكمة التي ذكرها القرآن للإسراء هي قوله تعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا وقد كان الإسراء قبيل الهجرة- كما رأينا- فهذا الاطلاع على الآيات كان مقدمة للمرحلة الصعبة- مرحلة المجابهة العسكرية الصعبة- وهذا موسى عليه السلام أراه الله من آياته الكبرى، قبل أن يأمره بمجابهة فرعون وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى * قالَ أَلْقِها يا مُوسى * فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى * قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى * لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى * (طه: 17 - 23).

2 - روايات بمناسبة قوله تعالى عن نوح عليه السلام إنه كان عبدا شكورا

فهذه حكمة من حكم الإسراء والمعراج ومن حكم إراءته عليه الصلاة والسلام الآيات في الإسراء والمعراج أن يرى حقيقة ما يدعو إليه. فهو يدعو إلى الإيمان بالله. ويقال على رأي راجح أنه رأى الله في معراجه، وهو يدعو إلى الإيمان بالرسل، وقد اجتمع بهم، وصلّى بهم، ورأى بعضهم، وهو يدعو إلى الإيمان بالغيب، وقد رأى السموات، ورأى الجنة والنار، ورأى الملائكة والبيت المعمور وسدرة المنتهى، وغيرها من الغيوب. ج- دلّت أحاديث الإسراء والمعراج- وهي متواترة- على وجود سماوات سبع، فوقها عرش الرحمن، وهذا القسم لا شك في كون الروايات تثبته، ومن ثم فإن من أنكر وجود السموات السبع، والعرش، متأولا أو جاحدا، فهو إما على كفر، أو ضلال. فمن ذهب إلى أن المراد بالسماوات هذه الكواكب والنجوم والمجرات مخطئ خطأ عظيما، ونحن في هذا التفسير نحاول أن نثبت أن السموات ترد في القرآن ويراد بها هذه المجرات والنجوم، وأن السماء ترد ويراد بها جو الأرض، وأن السموات ترد ويراد بها هذه السموات التي كان إليها المعراج، والذي نرجحه أنها سماوات غيبية مغيبة، فهي من حيث الوجود موجودة، ولكن وجودا غيبيا كوجود الجن والملائكة والنار. 2 - [روايات بمناسبة قوله تعالى عن نوح عليه السلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً] بمناسبة تسمية الله نوحا عليه السلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال ابن كثير: وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحا عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه؛ فلهذا سمّي عبدا شكورا. روى الطبراني ... عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمّي نوح عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله. وروى الإمام أحمد ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها». وهكذا رواه مسلّم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة به، وقال مالك عن زيد بن أسلم: كان يحمد الله على كل حال، وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة». بطوله، وفيه «فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا فاشفع لنا إلى ربك». وذكر الحديث بكماله.

المقطع الأول ويمتد من الآية (4) إلى نهاية الآية (40) وسنعرضه على مجموعات

المقطع الأول ويمتدّ من الآية (4) إلى نهاية الآية (40) وسنعرضه على مجموعات: المجموعة الأولى من المقطع الأول وهي خمس آيات من الآية (4) إلى نهاية الآية (8) وهذه هي: 17/ 8 - 4 التفسير: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي تقدمنا إليهم وأخبرناهم، وأوحينا إليهم وحيا مقضيا، هذا إذا فسّرنا كلمة الكتاب الآتية بالتوراة وهو الراجح فِي الْكِتابِ أي في التوراة وهذا الذي يقتضيه السياق السابق الذي يتحدّث عن موسى عليه السلام وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الإفساد في الأرض هو مخالفة حكم الله فيها وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي ولتستكبرن عن طاعة الله فتطغون وتبغون فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي وعد عقاب الإفسادة الأولى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ

[سورة الإسراء (17): آية 6]

أي سلّطنا عليكم عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي أشداء في القتال فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي ترددوا للغارة فيها، قال الزجاج: الجواس: طلب الشئ بالاستقصاء وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي جعلنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً النفير: الذين ينفرون للقتال إذ استنفروا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها يعني أن الإحسان والإساءة كلاهما مختص بأنفسكم لا يتعدى النفع والضرر إلى ربكم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي وعد الكرة الآخرة أي إذا أفسدتم الإفسادة الثانية وجاء وعد عقابها لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي بعثنا هؤلاء ليسوءوا وجوهكم أي ليجعلوها بادية المساءة والكآبة فيها، أي يهينوكم ويقهروكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي في التي جاسوا فيها خلال الديار وَلِيُتَبِّرُوا أي وليهلكوا ويدمّروا ويخرّبوا ما عَلَوْا أي ما ظهروا عليه، أو مدة علوهم تَتْبِيراً أي تدميرا وإهلاكا عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الثانية وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا أي وإن عدتم إلى الإفساد والعلو عدنا إلى عقوبتكم وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي سجنا لا محيد لهم عنه به يستقرّون ويحصرون. ملاحظة: [حول الخلاف بين المفسرين في تفسير آيات هذه المجموعة وسببه] هذه الآيات مما كثر فيه الخلاف بين المفسرين، ولا يكثر الخلاف إلا إذا كان لذلك مبرراته، فما هما هاتان الإفسادتان ومتى كانتا؟ ومن هم الأقوام الذين يسلّطون على بني إسرائيل مرة بعد مرة؟ وهل المراد بالكتاب التوراة أو القرآن أو اللوح المحفوظ؟ وهل المرتان حدثتا أو أنهما ستحدثان بعد نزول القرآن أو أن واحدة حدثت من قبل، والثانية في طريقها؟ وهل للأقوام المسلّطين صلة عداء أو ولاء للمسجد الأقصى حتى ذكروا به وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ هذه كلها تحتاج إلى أجوبة دقيقة، ومن ثم وقع الخلاف. قال ابن كثير: (وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلّطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة: أنه جالوت الجزري وجنوده، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت ولهذا قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ الآية. وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل سنحاريب وجنوده، وعنه أيضا وعن غيره أنه بختنصر

كلمة في السياق: في صلة المجموعة بالمحور، وتحقق مثل إفسادتي بني إسرائيل في أمتنا

ملك بابل). وبعد أن يذكر ابن كثير طرفا من أخبار بختنصر يقول: وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها، ولو وجدنا ما هو صحيح أو يقاربه لجاز كتابته وروايته. والله أعلم. ولكن ما قاله ابن كثير لا يجيب على الأسئلة التي ذكرناها كلها، ومن ثم اقتضى هذا منا أن نقف وقفة عند هذا الموضوع سنراه في الفوائد وهو موضوع مهم لأنه قضية عصرنا. كلمة في السياق: [في صلة المجموعة بالمحور، وتحقق مثل إفسادتي بني إسرائيل في أمتنا] رأينا أن محور السورة هو أخذ العبرة مما حدث لبني إسرائيل في إخلالهم بنعمة الوحي والرسالة، وذلك في حيّز الأمر بالدخول في الإسلام جميعه، وترك اتباع خطوات الشيطان كلها، وهذه المجموعة تنصب انصبابا مباشرا على هذا الموضوع، فبنو إسرائيل انحرفوا فأفسدوا، وطغوا وعطلوا شريعة الله؛ فسلّط الله عليهم، فيا هذه الأمة لا تفعلي فعلهم فيسلّط عليك، ثم إذا تابوا ورجعوا يرفع الله البلاء، وأنت يا هذه الأمة كذلك، ثم إذا عاد الإفساد عاد التسليط، فاحذري يا هذه الأمة ذلك. وقد حدث لأمتنا ما حدث لبني إسرائيل من إفساد وبغي فعطلت شريعة الله وعطلت حدوده إلا قليلا، فسلط عليها المغول والتتار والصليبيون ثم المستعمرون الغربيون والشيوعيون واليهود، وليس أمام هذه الأمة خيار: إما التوبة والاستغفار والعودة إلى شريعة الواحد القهار، وإما الدّمار والبوار، ولكن من يسمع ومن يعقل؟ إن من يرى هذا الإسراع في الكفر والمعاصي والاستهتار والتهالك على الشهوات، وكثرة المباهاة بالردة، ومعاداة شرع الله لا يعجب كيف سلط علينا هذا التسليط، ومن رأى تدابر أهل الخير وتقاطعهم وتحاسدهم وتشتت قلوبهم، ومعاداتهم لبعضهم، لم يستغرب تسلط الكفر في داخل البلاد على أهلها، وتسلط الكافرين من خارجها على الجميع. الفوائد: [حول موضوع إفسادتي بني إسرائيل] نحب أن نذكر هاهنا ما وعدنا به من كلام حول الإفسادتين لبني إسرائيل، ونقدم لذلك ببعض المقدمات: 1 - [تقديم لا بد منه لفهم موضوع إفسادتي بني إسرائيل] إن النص يحدثنا عن إفسادتين لبني إسرائيل يرافقهما علو كبير، وهذا مهمّ جدا في فهم هذا الموضوع، لقد أفسد بنو إسرائيل إفسادات كثيرة ولكن لم يرافق كل ذلك علوّ كبير لهم ودولة، كما أنهم قد علوا علوّا كبيرا في مراحل كما حدث في زمن

2 - أوجه تفسير الآيات حسب تحديد زمان وموضوع إفسادتي بني إسرائيل

داود وسليمان عليهما السلام، ولكنه علو لا يرافقه فساد، ولعل ما هم فيه الآن نموذج على علو وفساد: فها هم لهم دولة، وهاهم لهم سلطان وهيمنة عالميان، وهم يستعملون ذلك في إفساد كل شئ. 2 - [أوجه تفسير الآيات حسب تحديد زمان وموضوع إفسادتي بني إسرائيل] يحتمل أن يكون بختنصر موحّدا سلّطه الله على اليهود، ولكن لم تصلنا تفصيلات صحيحة عن وضعه الديني، ومن رأى ما يقوله اليهود في أنبيائهم، والنصارى في عيسى بن مريم لم يستغرب عدم وصول الوصف السليم عن أحد من القدماء. على ضوء هاتين المقدمتين نقول: إن الآيات تذكر أن الذين يسلطون على بني إسرائيل أوّل مرّة هم الذين يسلّطون عليهم ثاني مرّة، يلاحظ ذلك من عودة الضمير على المذكورين أولا في قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ. ويلاحظ أنه جاء في آخر السورة قوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً فهل المراد بالآخرة هنا المرة الآخرة التي وردت من قبل؟ أو المراد بها ما يقابل الدنيا؟ فإذا كان يراد بها ما يقابل الدنيا لم تعطنا شيئا له علاقة في موضوعنا، أما إذا كان لها علاقة بموضوعنا فإنها تلقي ضوءا عليه، كما أن ذكر المسجد ودخول الأقوام إليه، يلقي ضوءا على الموضوع. يبدو بما لا يقبل الجدل أن الإفسادة الأولى هي التي سلّط عليهم بها بختنصر، فهي الإفسادة التي رافقها بغي وطغيان وعتو، والتي يدور حولها كثير من كلام العهد القديم، وما قبل ذلك لا نعرف أنه حدث لبني إسرائيل مثل هذا الدمار، ولم يحدث أن قوما سيطروا على المسجد الأقصى وجاسوا خلال الديار. فهل الإفسادة الثانية هي ما نراه الآن؟ إذ لهم دولة وسلطان، وإفساد وطغيان. يمكن أن نفهم المسألة كذلك إذا كان قوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً إذا كانت الآخرة هنا تفيد (المرة الآخرة). وإذا كان هذا القول جاء متأخرا عن حياة موسى عليه السلام، وإذا كانت الأرض في الآية المراد بها عموم الأرض وليست أرض فلسطين من باب وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً. فإذا كانت هذه الافتراضات صحيحة يكون معنى الآية: وقلنا من بعد موسى لبني إسرائيل اسكنوا الأرض كلها متفرقين، فإذا جاء وعد

الإفسادة الثانية جئنا بكم إلى أرض فلسطين، وعندئذ نسلّط عليكم من سلّطناهم عليكم من قبل، فإن كان بختنصر مسلما فالمسلطون الجدد هم المسلمون بإطلاق، وإن لم يكن كذلك فالعراقيون خاصة وهم مسلمون بفضل الله. هذا احتمال نفهم على ضوئه الآيات فيكون معناها وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ هم بختنصر وجنده فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ بعد مئات السنين بأن جعلنا لكم الغلبة، حتى إذا دخلتم في صراع معهم غلبتموهم، كما حدث إذ غلب المسلمون ومنهم العراقيون حقيقة أو حكما في الصراعات الحالية وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً كما هو الحال الآن إذ تستطيع دولة إسرائيل أن تحشد جيشا كبيرا وتستنفر العالم من ورائها إِنْ أَحْسَنْتُمْ خلال هذه الفترة أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليسوء العراقيون خاصة أو المسلمون عامة وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بالدخول في الإسلام وَإِنْ عُدْتُمْ إلى العلو والإفساد عُدْنا إلى التسليط وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ... ويمكن أن نفهم المسألة فهما آخر بأن نعتبر الإفسادة الأولى هي محاولاتهم الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية، وتسليط الله المسلمين عليهم وعلى ديارهم حول المدينة المنورة، والإفسادة الثانية هي الإفسادة الحالية، ويكون المسلمون الذين غلبوهم أول مرة هم الذين سيغلبونهم المرة الثانية. إذا اجتمع لهم العبودية لله والبأس الشديد فيكون معنى الآيات وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي في القرآن لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي لتطغن طغيانا كبيرا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي الإفسادة الأولى بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا هم الصحابة أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي سيطروا عليها سيطرة تامة وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا* ثُمَّ بعد مئات السنين رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ على المسلمين بأن جعلنا لكم الغلبة وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً كما هم الآن فهم أغنياء ويستطيعون استنفار العالم ضدنا إِنْ أَحْسَنْتُمْ بالدخول في. الإسلام ومتابعة محمد صلّى الله عليه وسلّم أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ

أَسَأْتُمْ برفض الإسلام فَلَها فنفع أعمالكم عائد إليكم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي فإذا جاء وعد الإفسادة الآخرة ليسوء المسلمون وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي الأقصى مستردينه منكم كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ كما أخذوه الأخذة الأولى يوم فتح القدس عمر وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا وليهلكوا في علوهم تَتْبِيراً أي إهلاكا عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بأن يجعلكم مسلمين وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الإفساد في الأرض عُدْنا إلى التسليط عليكم كما سيفعل الله يوم يأتون مع جند الدجال وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي سجنا. وفى قوله تعالى وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ما يقوي هذا الاتجاه في الفهم، لأن الآية تشير إلى أنهم كافرون ولا نحكم بكفرهم إلا بعد رفضهم رسالة المسيح ثم محمد صلّى الله عليه وسلّم. فالإفسادتان متأخرتان على بعثة المسيح، وهذا الاتجاه يقويه أن كلمة عِباداً لَنا تشعر بأنهم المسلمون فهم العباد الحقيقيون لله. وكلمة وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشعر بأنهم المسلمون، فهم أصحاب المسجد، وهم وإن لم يأخذوه من اليهود مباشرة فقد أخذوه ودخلوه المرة الأولى فاتحين. وتكون الآيات مشيرة إلى ما ينبغي فعله لتحرير القدس وفلسطين؟ على أن يخوض المعركة مسلمون اجتمعت لهم العبودية لله والبأس الشديد. وقد كتبنا كتاب (جند الله ثقافة وأخلاقا) على أمل أن يوجد جيل متصف بهذه الصفات. والذي دعانا إلى أن نحمل هذه الآيات على أحد الاحتمالين السابقين هو أننا لم نجد قوما بأعيانهم قد سلطوا على اليهود مرتين في حال اجتماع العلو والإفساد. لقد سلط عليهم بختنصر والرومان وغيرهم، ولكن قوما بعينهم لم يسلطوا عليهم مرتين داخلين المسجد الأقصى هذا الدخول الموصوف فيما نعلم، وعلى كل حال، ففي الآيات بشارة للمسلمين في قوله تعالى وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا فهذا وعيد من الله لهم أنه سيسلط عليهم في كل مرة يفسدون في الأرض وتكون لهم غلبة على المسجد الأقصى، وهاهنا ينبغي أن ننبه المسلمين تنبيها جازما أن هذه الغلبة على المسجد الأقصى لليهود ليست دائمة حتى قيام الساعة، كما يفهم بعضهم من كون المسيح يقتل اليهود عند نزوله فاليهود الذين يقتلهم المسيح يومها هم الذين يأتون مع الدجال، والنصوص تفيد أن المسجد الأقصى وقتذاك يكون بيد المسلمين، وأن القدس تكون عاصمة الخلافة، وهذا كله يتنافى مع الوضع الحالي. يبقى لو أن قائلا قال: ذكر المفسرون القدامى أن المسلط الأول عليهم هو

سنحاريب، والمسلط الثاني هو بختنصر، وكلاهما من أرض العراق، ومن ثم فإن من سلط عليهم أول مرة وثاني مرة هم من شعب واحد، والجواب أن كتب العهد القديم- وإن لم تكن موثوقة تاريخيا، إلا أنه قد يستأنس بها في أمهات المسائل التاريخية تذكر في الإصحاح الثاني والثلاثين من أخبار الأيام الثاني أن سنحاريب ملك آشور قد حاصر أورشليم ولكن الله سلّط على جنده ملكا فأبادوا كل جبار بأس ورئيس وقائد ورجع هو خزيان ثم قتله أبناؤه)، فلم يكن تسليط في هذه المرحلة كما توهم بعض المفسرين الذين ليس لهم مستند إلا الروايات الإسرائيلية، وهي لا تفيد ما توهموه، فلم يجب هذا الكلام على الموضوع المطروح، وهو أن المسلّطين الأولين هم المسلّطون الآخرون. ... وقد حاولنا أن نلقي نظرة على التوراة الحالية المحرفة لعلّنا نجد ما نستأنس به، فوجدنا في التوراة شيئا له علاقة بهذا الموضوع إلى حد ما، إلّا أن التحريف واضح جدا فيها. فمثلا تجد في الإصحاح التاسع والعشرين وهو أحد الإصحاحات الثلاثة التي تحدثت عن العقاب الذي هدّد الله به بني إسرائيل إذا انحرفوا هذه العبارة: (واستأصلهم الرب من أرضهم بغضب وسخط وغيظ عظيم. وألقاهم إلى أرض أخرى كما في هذا اليوم). فكلمة كما في هذا اليوم تشير إلى أن هذه الكلمة وهذه النسخة مكتوبة في زمن بابل أو في التشتيت الأخير، وهذا من جملة الأدلة على أن نسخ التوراة الحالية محرفة، ومع هذا التحريف فإننا نلاحظ كلاما شبيها ببعض ما جاء في الآيات القرآنية. فمثلا في السفر الثامن والعشرين: (يجلب الرب عليك أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر. أمة لا تفهم لسانها. أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد). فهذا يشبه قوله تعالى: عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وفي الإصحاح نفسه: (ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها ... وفي تلك الأمم تطمئن ولا يكون قرار لقدمك بل يعطيك الرب هناك قلبا مرتجفا وكلال العينين وذبول النفس وتكون حياتك معلقة قدامك وترتعب ليلا ونهارا ولا تأمن على حياتك).

وهذا يشبه قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ .. وفي الإصحاح الثلاثين: (يرد الرب إلهك سبيك ويرحمك ويعود فيجمعك من جميع الشعوب التي بددك إليهم الرب إلهك إن يكن قد بددك إلى أقصاء السموات فمن هناك. بجمعك الرب إلهك، ومن هناك يأخذك ويأتي الرب إلهك إلى الأرض التي امتلكها آباؤك فتمتلكها ويحسن إليك ويكثرك أكثر من آبائك). وهذا يشبه قوله تعالى: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ولولا أن التحريف قد حدث في التوراة لكان ما في التوراة تفسيرا صالحا للقرآن في هذا المقام، ولكن لعنة الله على أقلام النساخ الكاذبة. ... يبقى أن يقول قائل: إن المسلّطين الأولين هم بختنصر وقومه، والمسلطون الآخرون هم الرومان الذين احتلوا فلسطين بعد عودة اليهود من سبي بابل، فإذا قال قائل ولكن هؤلاء غير أولئك يقال: لكن يجمعهم وصف الوثنية، وكل منهم قد سيطر ودخل المسجد الأقصى عاتيا، ويمكن أن يقال ردا: إن الآيات تقول: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً وبعد السبي وقبل الغزو الروماني لم تقم لليهود شوكة يكونون فيها أكثر نفيرا. وهناك اتجاه يقول: إن المسلّطين الأولين هم قوم جالوت، والمسلّطون الآخرون هم قوم بختنصر ويجمع القومان صفة البأس الشديد والوثنية. ثم عند ما غلب بنو إسرائيل جالوت وقومه أصبحوا أكثر نفيرا. ولكن عند ما نرجع إلى سفر القضاة الذي يتحدث عما بعد يشوع وقبل طالوت نجده يتحدث عن مجموعة إفسادات: إفسادة سلط عليهم بها (كوشان رشعتايم ملك آرام النهرين) يقول الإصحاح الثالث: (فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين). وإفسادة سلط عليهم فيها (عجلون ملك موآب) ثماني عشرة سنة وإفسادة سلط عليهم فيها (يا بين) ملك كنعان.

وإفسادة سلط عليهم بها (المديانيون) سبع سنين. وإفسادة سلط عليهم بها (الفلسطينيون) أربعين سنة. ويمكن أن يقال: إن المسجد الأقصى وإن يكن قد أسسه إبراهيم عليه السلام إلا أنه لم يأخذ طابعه الذي يعتبر الاستيلاء عليه رمزا لسقوط العز اليهودي إلا بعد داود وسليمان عليهما السلام، وهما كانا بعد المرحلة السابقة كلها. وبعد أن استعرضنا أكثر الاحتمالات التي يمكن أن تفهم على ضوئها الآيات فهل لنا أن نرجّح شيئا؟: ... إننا نرجح أن التفسير الصحيح لقوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد موسى لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ كل الأرض متفرقين فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي: جميعا إلى فلسطين، وأن هذا النص يحدد أن الإفسادة الآخرة بعد تفرقهم في الأرض كلها وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وأما الإفسادة الأولى فتكون قبل ذلك، ومن المعلوم أن التشتيت الشامل على وجه الأرض لبني إسرائيل إنما كان بعد عودتهم من سبي بابل، فيكون التسليط الأول هو تسليط بختنصر، والتسليط الثاني هو الذي يتوقع الآن، بدليل العلو والإفساد. فالإفسادة الأولى كانت لهم دولة وفساد. والآن إفسادهم في الأرض كلها معروف، وسيطرتهم الخفية على بعض بلدان العالم معروفة، واجتمع لهم سلطان ودولة، وأن المرشحين للتسليط عليهم هم العراقيون المسلمون سواء اعتبرنا بختنصر موحّدا أولا، أو المسلمون عامة، إذا كان بختنصر موحدا.

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (9) إلى نهاية الآية (21) وهذه هي

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتدّ من الآية (9) إلى نهاية الآية (21) وهذه هي: 17/ 21 - 9

التفسير

التفسير: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها، أو للملّة التي هي أقوم، أو للطريقة التي هي أقوم في كل شئ، في العقائد والأخلاق، والسلوك، والعبادات، والتشريع وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أي الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا أي أعددنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار. وقد بينت الآيتان خصيصة من خصائص القرآن، هو أنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل، مع التبشير والإنذار، وهذا مظهر من مظاهر إعجازه. إذ تحدث عن كل شئ فهدى فيه إلى أقوم ما يمكن أن يكون فيه، بأسلوب التبشير والإنذار، فأي كتاب يمكن أن يكون كذلك؟ وكيف يكون كذلك لولا أنه من عند الله وبعد أن بيّن الله عزّ وجل خصيصة من خصائص كتابه بين خصيصة من خصائص الإنسان وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي ويدعو الإنسان الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وما له وولده، كما يدعو لهم بالخير، أو يطلب النفع العاجل وإن قلّ، بالضرر الآجل وإن جلّ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي يتسرع إلى طلب كل ما ينفع مما يخطر بباله، ولا يتأنّى فيه تأني المتبصر، وهذا الإخبار من الله عزّ وجل في هذا المقام عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالهلاك والدمار واللعنة، واستعجاله الأمور قبل أوانها، إشارة إلى أن هذا الخلق يعكر الاهتداء، كما أنه إشارة إلى قصور الإنسان ونقصه الذي يحتاج معه إلى تربية وهداية، كما أنه إشارة إلى بعض العوامل التي تبعده عن سلوك طريق الإسلام كالغضب والاستعجال، فإنهما قد يحملانه على سلوك طريق ينفس به عن حقد أو يظنه الأقرب إلى تحقيق الغاية فيترك الإسلام. ومجئ هذا الكلام بعد الكلام عن المسجد الأقصى وبني إسرائيل مربّ وموجّه، فمن الملاحظ في عصرنا أن الحقد على عملية الاحتلال الصهيوني والاستعجال في إنهاء الاحتلال جعلت كثيرا من المسلمين يتخلون عن طريق الإسلام

[سورة الإسراء (17): آية 12]

والقرآن، ويعملون متبنين طرقا أخرى يظنونها أسرع للتحرير، وما نراهم يزدادون إلا تعثرا ويزداد اليهود تمكنا. وهاتان الآيتان- كما سنرى آتيتان في وسط سياق معين وفيهما إشارة إلى أن حلّ القضية الفلسطينية طريقه الاهتداء بالقرآن، والإيمان والعمل الصالح والعمل الدءوب غير المتسرع وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين على موجد حكيم فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي فمحونا الآية التي هي الليل وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة، ويمكن أن يكون المعنى وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين أي الشمس والقمر، فمحونا آية الليل التي هي القمر، حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس، وحيث يتغير حتى يمحى ثم يعود، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شئ لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك فتسكنوا في الليل وتنتشروا في النهار للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار، ولو لم يكن ليل ونهار لما أمكنت الحياة أصلا في قوانين هذا الكون وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي لتعلموا باختلاف الليل والنهار حساب الآجال ومواسم الأعمال، وعدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، وتعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون، والعبادات والمعاملات والإجارات والزمان ومحله من المكان، ولو لم يكن ليل ونهار لضاع حساب أكثر الأشياء، وجهل أكثر الخلق، ولما استراح حراص المكتسبين والتجار وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شئ مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم بيناه بيانا غير ملتبس، فأزحنا عللكم. وما تركنا لكم حجة علينا في ما خلقنا ولا في ما أنزلنا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله فِي عُنُقِهِ يعني أن عمله لازم له لزوم القلادة، أو الغل للعنق لا ينفك عنه سواء كان خيرا أو شرا فإنه لازم له مجازى عليه وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ذلك العمل كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً أي غير مطوي يمكنه قراءته اقْرَأْ كِتابَكَ أي ونقول له: اقرأ كتابك أي كتاب أعمالك. قال النسفي: وكل يبعث قارئا، أي: يستطيع قراءة هذا الكتاب كَفى بِنَفْسِكَ أي كفى نفسك الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي حاسبا أو كافيا، ويسمى الشاهد كافيا لأنّه يكفي المدّعي ما أهمه.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أن السورة بدأت بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى ... ثم: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ .... ثم: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ .... ثم: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ .... وما قبل وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ذكرت الآيتان: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... فالآيات تعرض في سياقها العام مظاهر من نعم الله، ومظاهر من عقوبته ومحاسبته على العمل في الدنيا والآخرة. فإذا تذكرنا أن محور السورة سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ عرفنا أن ما مرّ معنا يسير على نسق واحد مع محور السورة. ومجيء إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بعد الكلام عما عوقب به بنو إسرائيل إشارة إلى النعمة في إنزال هذا القرآن. وذكر طبيعة الإنسان بعدها إشارة إلى ما يسبب الكفر بالنعمة عند الإنسان بتركه الدخول في الإسلام كله، واجتنابه اتباع خطوات الشيطان ومن هنا تعرف كيف يخدم السياق محور السورة. فإذا تقررت النعمة، وتقررت العقوبة، وتقرر أن من نعم الله إنزال هذا القرآن، فإن سياق المجموعة يستمر ليقرّر أمورا تفصل في المحور. فلنر تفسير تتمة المجموعة: ... مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فلها ثواب الاهتداء، وعليها وبال الضلال. أي من اهتدى واتّبع الحق واقتفى أثر النبوة فإنما يحصل عاقبة ذلك- وهي العاقبة الحميدة- لنفسه، ومن ضلّ عن الحق وزاغ عن سبيل الرشاد فإنما يجني على نفسه، وإنما يعود وبال ذلك عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه، أي كل نفس حاملة وزرا فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى والوزر الثقل، والمراد به هنا الذنب وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا هذا إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام

[سورة الإسراء (17): آية 16]

الحجة عليه بإرسال الرسول إليه. وفسّرها النسفي بقوله: وما صح منا أن نعذب قوما عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد أن نرسل إليهم رسولا، يلزمهم الحجة. وحول الآية كلام كثير سيأتي في الفوائد وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أي أهل قرية أَمَرْنا مُتْرَفِيها أي أمرنا متنعميها وجبابرتها بالطاعة فَفَسَقُوا فِيها أي فخرجوا عن الأمر فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي فوجب عليها الوعيد فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أي فأهلكناها إهلاكا وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ أي كثير من الأجيال أهلكناها من بعد نوح وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً وإن أخفوها في الصدور بَصِيراً وإن أرخوا عليها الستور، أي هو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى. وهكذا قررت هذه الآيات أن العذاب لا يكون إلا بعد إقامة الحجة ووجود الضلالة والفسوق وهو معنى يخدم محور السورة ضمن حيزها العام: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ... * وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ثم يقرر الله سنته في طلاب الدنيا وطلاب الآخرة إذ طلب الدنيا هو سبب الانحراف، وطلب الآخرة سبب من أسباب الهداية، فإذا رافقه إيمان صحيح كان سبب النجاة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ أي تفضّلنا عليه من منافعها بما نشاء لِمَنْ نُرِيدُ قيد المعجّل بمشيئته، والمعجّل له بإرادته، وهكذا الحال ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع لهم فقر الدنيا والآخرة، وأما المؤمن التقي فقد اختار الآخرة، فإن أوتي حظا من الدنيا فبها، وإلا كان المنع خيرا له، فإذا كان المؤمن والكافر مستويين في كونهما يعطيان بمشيئة الله، وللمؤمن أجره فلم يكفر الكافرون بسبب الدنيا ووراء ذلك جهنم ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها أي يدخلها تغمره من جميع جوانبه مَذْمُوماً أي ممقوتا مَدْحُوراً أي مطرودا من رحمة الله مبعدا مقصيا حقيرا ذليلا مهانا بسبب سوء تصرفه وصنيعه إذ اختار الفاني على الباقي، سيرا على طبيعته في الاستعجال وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وما فيها من النعيم والسرور وَسَعى لَها سَعْيَها أي وأعطاها حقها من السعي، وكفاءها من الأعمال الصالحة بالدخول في الإسلام واجتناب خطوات الشيطان

[سورة الإسراء (17): آية 20]

وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي مصدّق لله في وعده ووعيده وإخباره، فاجتمع له إسلام الظاهر والباطن، متابعا في ذلك كله رسول الله فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي مقبولا عند الله مثابا عليه كُلًّا أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من رزقه أي نزيدهم من عطائنا ونجعل الآنف منه مددا للسالف لا نقطعه، فنرزق المطيع والعاصي على وجه التفضّل وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا عن عباده، وإن عصوا انْظُرْ بعين الاعتبار كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا في المال والجاه والسعة والكمال، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك، والحسن والقبيح وبين ذلك. ومن يموت صغيرا ومن يعمر حتى يكون شيخا كبيرا وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي: ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من تفاوتهم في الدنيا، فإن منهم من يكون في أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من تفاوتهم في الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها. ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض وفي الصحيحين: «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء» كلمة في السياق: 1 - بدأت المجموعة بذكر صفات للقرآن: أنّه يهدي للتي هي أقوم، وأنه يبشر وينذر، وجاءت المجموعة بتبشير وإنذار، كما جاء ما يساعد على الاهتداء بالقرآن، وجاء فيها كذلك ذكر للعوامل التي تبعد الإنسان عن الاهتداء بالقرآن. 2 - لاحظ الصلة بين بداية المجموعة إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وبين قوله تعالى في أواخر المجموعة مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها مما يؤكد أن المجموعة تتحدث فيما تتحدث عنه عن أسباب في الهداية والضلال. 3 - وللمجموعة صلتها بمحور السورة الذي يهدد من كفر بنعم الله، وصلة بالأمر بالدخول في الإسلام. 4 - ومن العرض ندرك بعض الصلات بين آيات المجموعة: فاستعجال العاجلة يتنافى مع طلب الآخرة، ويتنافى مع الاهتداء بهذا القرآن، وإذ كان الاستعجال طبيعة هذا

نقول

الإنسان فإن أكثر الناس يضلون ويهلكون فيستحقون العذاب الدنيوي والأخروي، وقد جرت سنّة الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا، وقد بعث لهذه الأمة رسولا بوحي ومعه كتاب هو أشرف الكتب، به تقوم الحجة، ويستأهل مخالفة العذاب، وبهذا اتضحت مجموعة الأمور التي تترتب على معرفة الآيات وشكرها، وعاقبة كفرانها، وإذ تستقر مجموعة الحقائق هذه فإن الخطاب في المجموعة التالية يتوجه لطلاب الآخرة، وفيها نموذج على كون هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهي نموذج لمن يريد أن يتحقق بمقام الشكر والعبودية لله. فهي تأتي بعد مجموعتين وبعد مقدمة السورة بانية على ذلك بعد أن وضعت المسلم على كمال الاستعداد لتلقي التوجيه. وإذا نظرنا إلى علاقة المجموعة اللاحقة بالسياق الكلي للقرآن فإنها تكون آتية لتبين طريق الشكر، وتبين جزءا من الإسلام، وجانبا مما يجب اجتنابه من خطوات الشيطان، وقبل أن نذكر المجموعة الثالثة فلنأت بفوائد وبنقول: نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال عند الآية إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] قال صاحب الظلال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان. يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق. ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة. ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار. ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

2 - كلام الألوسي عند الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وتعليق عليه

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان. ويهدي للتي هي أقوم في شأن الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية الصحيحة في سلام ووئام. 2 - [كلام الألوسي عند الآية وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وتعليق عليه] وقال الألوسي بمناسبة قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا قال: قال حجة الإسلام الغزالي: الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف: صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا، فأولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال- وحاشا قدره الشريف صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك- فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به أهـ. أقول: هذا يؤكد ما ذكرناه من قبل أن الحجة تقوم على الكافر إذا سمع تبليغا من مسلم مباشرة أو بالواسطة كالكتاب والراديو ... والمسألة خلافية. 3 - [كلام صاحب الظلال عند الآية وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً .. ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً «والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين، الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالدّعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهّل نفوسهم، وتأسن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.

4 - كلام صاحب الظلال عند الآية وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه

والآية تقرر سنة الله هذه. فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها فعمّ فيها الفسق، فتحللت وترهّلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك، وهي المسئولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك. إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسننا لا تتبدّل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق لأن الله لا يأمر بالفحشاء. ولكن وجود المترفين في ذاته، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا. وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة. فالإرادة هنا ليست إرادة الإجبار القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب. الأمر الذي لا مفر منه لأن السّنة جرت به. والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق. وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفرّ منها، وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كيلا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا. هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح عليه السلام، قرنا بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً». 4 - [كلام صاحب الظلال عند الآية وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ] وقال صاحب الظلال عن قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله، أي ما يقسم له من العمل، وهو كناية عما يعمله، وإلزامه له في عنقه للزومه إياه وعدم مفارقته؛ على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية، فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة فهو يصور عمله مكشوفا، لا يملك

الفوائد

إخفاءه، أو تجاهله أو المغالطة فيه، ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور، فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس، وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع طائر من اليوم العصيب، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار، ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيب: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ... الفوائد: 1 - [الدليل على تدقيق العلماء في قبول الرواية وكلام ابن كثير عند الآية وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى] رأينا معنى قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وفي هذا المقام يحكم العلماء على أن بعض الرواة أخطئوا في لفظة رواها البخاري وهي منسوبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حول (إن الله يخلق للنار خلقا يعذبهم بها حتى تمتلئ) فإن هذا يتنافى مع نص الآية ويتنافى مع روايات صحيحة أخرى، وهذا دليل على أن الرجوع في كل علم للمختصين فيه هو الموقف الحق، وأن الذين يريدون أن يحقّروا لهذه الأمة تحقيقات علمائها وأئمتها مخطئون، وإذ أشرنا إلى هذه المسألة فلننقل ما قاله ابن كثير فيها قال عند الآية المذكورة: (ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اختصمت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال: «وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا، وإنه ينشئ للنار خلقا فيلقون فيها فتقول: هل من مزيد؟ ثلاثا». وذكر تمام الحديث فهذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل، وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه، وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين- واللفظ للبخاري- من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تحاجّت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال «فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه فتقول قط قط فهناك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا). 2 - [كلام علماء التوحيد حول أهل الفترة بمناسبة آية وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا] عند قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يقف علماء التوحيد وقفة طويلة حول أهل الفترة، والذين لم تبلغهم الدعوة، هل هم مخاطبون في

الأصول والفروع، أو في الأصول دون الفروع، أو لا في الأصول ولا في الفروع؟ الأشاعرة: على أنهم ليسوا مطالبين في الأصول ولا في الفروع. والماتريدية على أنهم مطالبون بالأصول، والمعتزلة على أنهم مطالبون بالأصول والفروع، التي يحكم العقل المجرد بحسنها، وكلامهم مردود بالنصوص. ولابن كثير عند هذه الآية كلام طويل حول أولاد الكافرين وأولاد المسلمين، قال عن أولاد المؤمنين: (فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة، وهذا هو المشهور بين الناس، وهو الذي نقطع به إن شاء الله تعالى) وتحدث عن الخلاف في أطفال المشركين، وكيف أن بعض العلماء قال: هم في النار وبعضهم قال: هم في الجنة، وبعضهم توقف في هذا الموضوع ومن كلامه: (ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع كره جماعة من العلماء الكلام فيها). وبمناسبة هذه الآية ذكر ابن كثير مجموعة من الأحاديث ومناقشات العلماء في شأنها ونحن ننقل لك هاهنا الحديث الأول والثالث والخامس مما ذكره وهذه هي: (فالحديث الأول): عن الأسود بن سريع رواه الإمام أحمد .. أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما». وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله غير أنه قال في آخره: «فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها» وكذا رواه إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام؛ ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذا رواه حنبل بن إسحاق عن علي بن المديني به وقال: هذا إسناد صحيح وكذا رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعة كلهم يدلي على الله بحجة». فذكر نحوه، ورواه ابن جرير من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة فذكره موقوفا، ثم قال أبو هريرة

3 - فائدة حول الآية وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ..

فاقرءوا إن شئتم وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا. (الحديث الثالث): عن أنس روى الحافظ أبو يعلى ... عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، والمعتوه، ومن مات في الفترة، والشيخ الفاني الهمّ (¬1) كلهم يكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرز ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا، من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه، قال: فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أنّى ندخلها ومنها كنا نفرّ؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا، قال: فيقول الله تعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية. فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار». وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، بإسناده مثله. (الحديث الخامس): عن ثوبان. روى الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو عن ابن عبد الخالق البزار في مسنده ... عن ثوبان أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم عظّم شأن المسألة، قال: «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم فيقولون: ربنا لم ترسل إلينا رسولا، ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيّظا وزفيرا. فرجعوا إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا- أو أجرنا- منها فيقول لهم ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فيقول: اعمدوا إليها فادخلوها. فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا، فقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول: ادخلوها داخرين». فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما». أقول: دارت معركة علمية ضخمة في التاريخ الإسلامي حول هذه الأحاديث من حيث صحتها وضعفها، ومن حيث مدلولها، وقد رجح ابن كثير أنها بمجموعها تصلح لأن يبنى عليها 3 - [فائدة حول الآية وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها .. ] عند قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَ ¬

_ (¬1) أي: الكبير الهرم

المجموعة الثالثة وهي تمتد من الآية (22) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي

عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. قال ابن كثير: «اختلف القراء في قراءة قوله تعالى: أَمَرْنا فالمشهور قراءة التخفيف واختلف المفسرون في معناها، فقيل معناه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا كقوله تعالى أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فإن الله لا يأمر بالفحشاء. قالوا معناه: أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب، وقيل معناه: أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة، رواه ابن جريج عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا، وقال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء قال ابن كثير: إنما يجئ على قراءة من قرأ أَمَرْنا مُتْرَفِيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب وهو قوله وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها الآية. وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس، وقال العوفي عن ابن عباس وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها يقول أكثرنا عددهم، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة، وعن مالك عن الزهري أَمَرْنا مُتْرَفِيها أكثرنا، وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال .... عن سويد بن هبيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة». قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الغريب المأمورة: كثيرة النسل، والسكة: الطريق المصطفة من النخيل، والمأبورة: من التأبير، وقال بعضهم: إنما جاء هذا متناسبا كقوله: «مأزورات غير مأجورات». ولننتقل الآن إلى المجموعة الثالثة في المقطع الأول. المجموعة الثالثة وهي تمتد من الآية (22) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي: 17/ 40 - 22

التفسير

التفسير: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قال النسفي: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته. وقال ابن كثير: والمراد المكلفون من الأمة: لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً على إشراكك به مَخْذُولًا لأن الرب تعالى لا ينصرك. بل يكلك إلى الذين عبدتهم معه، وهم لا يملكون لك ضرا ولا نفعا لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له. دلت الآية على أن المشرك يستحق الذم والخذلان والإهانة والحرمان. وَقَضى رَبُّكَ أي: أمر أمرا مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالوالدين إحسانا أي بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أف صوت يدل على تضجر أي لا تسمعهما قولا سيئا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ وَلا تَنْهَرْهُما أي ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك لا قولا ولا فعلا بأن يصدر منك إليهما فعل قبيح. ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن وَقُلْ لَهُما بدل التأفف والنّهر قَوْلًا كَرِيماً أي جميلا ليّنا طيبا حسنا بأدب وتوقير وتعظيم كما يقتضيه حسن الأدب، ومن الأدب ألا يدعوهما في وجوههما بأسمائهما فإنه من الجفاء، بل يقول يا أبتاه، يا أماه. وفي قوله تعالى (عندك) من قوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ .... نكتة لطيفة إذ تفيد في هذا المقام: أنهما إذا كانا كلّا على ولدهما، ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشقّ عليه، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق، حتى لا يقول لهما إذا أضجره شئ منهما أف، فضلا عما يزيد عليه، وقد أوصى الله بهما في الآية أبلغ ما تكون الوصية، حيث افتتحها بأن قرن الإحسان إليهما بتوحيده، ثم ضيّق الأمر في مراعاتهما حتى لم

[سورة الإسراء (17): آية 24]

يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها ثم قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما بفعلك. والمعنى: واخفض لهما جناحك الذليل من الرحمة، أي من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، وفسّرها الزّجّاج بقوله: وألن جانبك متذللا لهما من مبالغتك في الرحمة لهما وَقُلْ أي في كبرهما وعند وفاتهما رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. قال النسفي: والمراد بالخطاب غيره عليه السلام، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين (أي بعد الوفاة) أقول: يدعو للأبوين الكافرين وهما حيّان بالهداية. أما بعد الوفاة فلا يجوز الاستغفار لهما إلا بشرط الإيمان، كما مر معنا في سورة التوبة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي بما في ضمائركم، ومن ذلك ما يفيد السياق: من قصد البر إلى الوالدين، ومن النشاط والكرامة في خدمتهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ في نيّاتكم وأعمالكم، أي قاصدين الصلاح فيهما فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ الأوّاب: الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة غَفُوراً هو عام في كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج تحته الجاني على أبويه، التائب من جنايته لوروده على أثره، كما يفهمه السياق، ومن ثمّ فسّر الآية سعيد بن جبير: أنّها في الرّجل تكون منه البادرة إلى أبويه: وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به. وفي رواية: لا يريد إلا الخير. وفي تفسير كلمة الأوّابين أكثر من رأي سنراه في الفوائد. ثمّ لمّا ذكر تعالى برّ الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة، وصلة الرحم، وإيتاء المساكين وأبناء السبيل فقال: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي ذا القرابة منك أيها المكلف حقّه، وحقّه المفروض هو النفقة إذا كانوا محارم فقراء والمواساة لكل ذي قربى إذا وجد الاحتياج وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أي وآت هؤلاء حقوقهم وحقوقهم المفروضة إنما هي الزكاة والمواساة عند المتربة والمخمصة. ثم لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطا فقال: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي ولا تسرف إسرافا. ثم قال: منفّرا عن التبذير والسرف إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم وأشباههم في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته، فما ينبغي أن يتشبّه به ولا أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله، وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ

[سورة الإسراء (17): آية 29]

رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شئ وأعرضت عنهم لفقد النفقة فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي عدهم وعدا حسنا بسهولة ولين. كقولك: إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله، أو كقولك رزقنا الله وإياكم من فضله، على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم، وقد سمّى الرزق رحمة. فدلّ ذلك على أنّ الرزق الحسن نعمة إذا قوبلت بالشكر. والمعنى الدقيق للآية وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك، فردّهم ردّا جميلا، ثمّ أمر تعالى بالاقتصاد في العيش، ذامّا للبخل ناهيا عن السرف وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك فَتَقْعُدَ مَلُوماً إن بخلت مَحْسُوراً إن أسرفت. والمحسور: هو الكليل المنقطع. أي ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شئ تنفقه، فتكون كالحسير الذي عجز عن السفر فوقف ضعفا وعجزا. وقد يكون اللوم والحسر بآن واحد للمسرف. فالمسرف ملوم عند الله وعند الناس يقول الفقير: أعطى فلانا وحرمني. ويقول الغني: ما يحسن تدبير أمر المعيشة، والمسرف ملوم عند نفسه فهو إذا احتاج ندم. وفي ذكر الغل والبسط في الآية تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف. وفي الآية أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ فليس بسط الرزق إليك وَيَقْدِرُ أي وهو الذي يضيّق فلا لوم عليك، يغني من يشاء ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بمصالحهم فيمضيها بَصِيراً بحوائجهم فيقضيها. وفي الآية تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممّا يرهقه من الضيق بأن ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك، ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوّض إلى الله تعالى، فهو الرازق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء. فيغني من يشاء ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة، فهو الخبير البصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، كما جاء في الحديث: «إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه» وقد يكون الغني في حق بعض الناس استدراجا والفقر عقوبة- عياذا بالله من هذا وهذا- وقد يقلّب الله أقواما في هذا وهذا ليبلوهم، وقد جعل الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم هو الأسوة في الأحوال كلها ليقتدي به الجميع وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ

[سورة الإسراء (17): آية 32]

أي خوف أن تفتقروا نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ نهاهم عن قتلهم وضمن أرزاقهم إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي إثما عظيما. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود «قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك.» قال ابن كثير في الآية: هذه الآية دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته فنهى الله تعالى عن ذلك وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى هذا نهي عن مقاربة الزنى ومخالطة أسبابه ودواعيه كالمس والقبلة والخلطة فضلا عن الزنى نفسه إِنَّهُ أي الزنى كانَ فاحِشَةً أي معصية مجاوزة حد الشرع والعقل وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس طريقا طريقه، وبئس مسلكا مسلكه. ثم نهى الله عن قتل النفس بغير حق شرعي وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ بأن ترتكب ما يبيح الدم، أو بأن كانت مباحة الدم أصلا كالحربي. وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة». وفي السنن: «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم». وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي غير مرتكب ما يبيح الدم فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أي تسلطا على القاتل. فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودا، وإن شاء عفا عنه على الدية، وإن شاء عفا عنه مجانا، لما ثبتت السنة بذلك فَلا يُسْرِفْ أي الولي فِي الْقَتْلِ بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي إن الولي منصور على القاتل شرعا وعرفا وقدرا، قال النسفي وهو من الحنيفة: وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد، وبين المسلم والذمي. لأن أنفس أهل الذمة داخلة في الآية لكونها محرمة. أقول: في هذا خلاف بين العلماء وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه وتثميره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ قال النسفي: (أي ثماني عشرة سنة). وفي أول سورة النساء تفصيل لما له علاقة بهذا وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ مع الله بحفظ أوامره ونواهيه، ومع الناس بما تعاهدونهم عليه، وبما تعاقدونهم عليه في المعاملات؛ فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي عنه، أو مطلوبا يطلب من

[سورة الإسراء (17): آية 35]

المعاهد ألا يضيعه، أو إن صاحب العهد كان مسئولا عنه وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ أي من غير تطفيف ولا تبخسوا الناس أشياءهم وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ أي الميزان الْمُسْتَقِيمِ المعتدل الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب ذلِكَ خَيْرٌ أي لكم في معاشكم ومعادكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة أي مآلا ومنقلبا. من آل، إذا رجع، قال قتادة في تفسيرها: أي خير ثواب وأحسن عاقبة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ولا تتبع ما لم تعلم إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال ابن كثير: أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة، وتسأل عنه وعما عمل فيها. وقال النسفي: يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل لك سماعه. ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه، ثم نهى الله عباده عن التجبر والتبختر في المشية فقال: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا مرح أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها، وشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي بتطاولك وتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك كُلُّ ذلِكَ مما مر كانَ سَيِّئُهُ أي قبيحه كالزنا والإسراف والعقوق ... عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ثم بين الله عزّ وجل أن ما أمر به من الأخلاق الجميلة، ونهى عنه من الصفات الرذيلة؛ هو من الحكمة التي أوحاها الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ليأمر بها الناس فقال: ذلِكَ قال النسفي عنها: إشارة إلى ما تقدم من قوله لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هذه الغاية أقول أي إشارة إلى المجموعة التي نحن بصددها مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ قال النسفي: أي مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته،. أقول: وكل ما صدر عن الله من فعل أو أمر أو نهي أو كلام هو عين الحكمة، ومنه هذه الأوامر والنواهي وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً افتتحت هذه الأوامر والنواهي بالنهي عن الشرك، وختمت به، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمة، وإن حيّر الحكماء وطار في جو السماء. قال النسفي: وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم. فَتُلْقى أي إذا أشركت فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً أي تلومك نفسك، ويلومك الله والخلق مَدْحُوراً أي مطرودا من الرحمة. قال ابن كثير: والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم. وبعد هذه الجولة الطويلة من

[سورة الإسراء (17): آية 40]

الأوامر والنواهي، التي تظهر فيها عين الحكمة، وكلها أثر عن التوحيد، يذكر الله عزّ وجل موقفا من مواقف أهل الشرك كله سفه، وكله خطأ، وكله فظاعة وشناعة؛ ليظهر الفارق الكبير بين دين الله وبين ما ابتدعه الناس، وبضدها تتميز الأشياء. وهذا الموقف هو اتخاذ المشركين الملائكة آلهة بعد تسميتهم إناثا، وجعلهم بنات الله، فأخطئوا ثلاث مرات، كل مرة فيها من الشناعة أبشعها أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ أي أخصكم بالذكور وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً أي واختار لنفسه- على زعمكم- البنات. ثم شدّد الإنكار عليهم فقال: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي في زعمكم أن لله ولدا، ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكنّ لكم، وربما قتلتموهن بالوأد. والمعنى الدقيق: أفخصّكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد- وهم البنون- واتخذ أدونهم في مفاهيمكم وهي البنات؟. إن هذا خلاف ما عليه عقولكم. فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها، ويكون أردؤها وأدونها للسادات، إن كلامكم هذا كلام فظيع حيث أضفتم إلى الله الأولاد، وهي من خواص الأجسام ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم تعبدونها وتشركون، وبهذا انتهت المجموعة الثالثة: وانتهى بذلك المقطع الأول من سورة الإسراء كلمة في السياق: [حول تفصيل المجموعة في حيز المحور وعرض لمعانيها] رأينا أن سورة الإسراء تفصّل في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وتفصّل من حيز هذه الآية قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وعلى هذا فمعانيها تدور حول جوانب من الإسلام، أو نوع من خطوات الشيطان، أو أخذ عبرة من بني إسرائيل، أو عرض لعقوبات الله التي ينزلها بمن كفر نعمه، وهذا المقطع الذي مرّ معنا تحدث عما أنزل الله على موسى عليه السلام، وموقف بني إسرائيل من هذا الوحي، وما عاقبهم الله به، ثم حدثنا الله عزّ وجل عن القرآن الكريم، وبعض سنن الله في الأخذ والعقاب والمنع والعطاء في الدنيا والآخرة. ثم تأتي المجموعة الأخيرة آمرة ناهية، ومجيئها في هذا السياق يدلنا على أن طريق الشكر هو هذا، أو على أن هذا جزء من الإسلام ينبغي الالتزام به، وختم المقطع بذكر خطوة من خطوات الشيطان فظيعة هي جعل الملائكة بنات الله فالمقطع فصّل في جزاء من يترك الدخول في الإسلام في الدنيا

نقول من الظلال

والآخرة، وجزاء من ينحرف عن دين الله بعد دخوله فيه، وبعضا من مكارم الأخلاق التي يأمر بها هذا الدين، وبعضا من سيئات الأخلاق التي ينهى عنها. وهذه المجموعة الأخيرة نموذج على هداية هذا القرآن للتي هي أقوم فهي مرتبطة بمقدمة المجموعة السابقة عليها، وهي وما قبلها مرتبطة بالمجموعة الأولى التي فيها بيان لما فعل ببني إسرائيل لمّا انحرفوا عن الوحي الذي نزل عليهم. فالأولى تعظ، والثانية تقرر، والثالثة تأمر وتنهى. ليقدم بذلك المقطع الأول للمقطع الثاني الذي يبيّن أن الحجة تقوم بهذا القرآن، ومع ذلك ينفر منه الكافرون، ويرد على مواقفهم. ومن ثم نجد بداية المقطع الثاني وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. ولا نستعجل الكلام عن المقطع الثاني. ولننقل بعض الفوائد والنقول ذات الصلة بالمجموعة الأخيرة نقول [من الظلال]: 1 - [حول النهي عن الزنا في قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً .. ] قال صاحب الظلال بمناسبة النهي عن الزنا: «ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا .. وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة، وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس- لذات الصلة وذات المناسبة. إن في الزنا قتلا من نواحي شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها، يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلّق أو بعد أن يتخلّق، قبل مولده، أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة، أو حياة مهينة، فهي حياة مضنية في المجتمع على نحو من الأنحاء .. وهو قتل في صورة أخرى. قتل للجماعة التي يفشو فيها، فتضيع الأنساب وتختلط الدماء، وتذهب الثقة في العرض والولد، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات. وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ إن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها، والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة، لا تصح فطرتها ولا تسلّم تربيتها إلا فيه. وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال، منذ التاريخ القديم إلى العصر

2 - حول موضوع النهي عن القتل في قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق

الحديث، وقد يقر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيها. ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها. أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عند ما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده! والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا. وهي مبالغة في التحرّز، لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة فالتحرز من المقاربة أضمن، فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان. ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقّيا للوقوع فيه .. يكره الاختلاط في غير ضرورة. ويحرم الخلوة، وينهى عن التبرج بالزينة. ويحضّ على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع، ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور. وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد. ويحضّ على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم، ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان .... إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال.». 2 - [حول موضوع النهي عن القتل في قوله تعالى وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ] وبمناسبة النهي عن القتل قال صاحب الظلال: والإسلام دين الحياة ودين السلام، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه، وفي الحدود التي يرسمها. وكل نفس هي حرم لا يمس، وحرام إلا بالحق، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه، وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى. وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة». فأما الأولى: فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء. وحياة بكف يد أصحاب

الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل، بل يمضوا في الثأر، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء. وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص، فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة. وأما الثانية: فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة، وهي لون من القتل على النحو الذي بيّناه. وأما الثالثة: فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة، والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه، ودخل في جسم الجماعة المسلمة، واطلع على أسرارها، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها. ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام. بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب، وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ .. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل، فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب فقد جعل الله لوليه- وهو أقرب عاصب إليه- سلطانا على القاتل، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية، فهو صاحب الأمر في التصرف في القتل، لأن دمه له. وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه، والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم- كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل- ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل، والولي مسلّط على دمه بلا مثلة. فالله يكره المثلة والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد نهى عنها فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. يقضي له الله، ويؤيده الشرع، وينصره الحاكم. فليكن عادلا فى قصاصه، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه. وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان

3 - بمناسبة قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ..

الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي. الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى فأما حين يحس أن الله قد ولّاه على دم القاتل، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ. والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا، إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه، ويؤجر عليه. ولكن بعد أن يعطي الحق. فلولي الدم أن يقتص أو يصفح، وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح!». 3 - [بمناسبة قوله تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .. ] وبمناسبة النهي عن قفو ما ليس للإنسان به علم قال صاحب الظلال: «والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة. فلا يقوم شئ فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة. فالتثبّت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم هو دعوة القرآن الكريم ومنهج الإسلام الدقيق ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة. ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم. والأمانة العلمية التي يشيد بها الكثيرون في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسئولا عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد. إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكما على

فوائد المجموعة الثالثة

شخص أو أمر أو حادثة. وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال ورواية تروى. ومن ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل. ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية. وفي الحديث: «إياكم والظن فإن أكذب الحديث». وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا» وفي الحديث الآخر: «إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا». وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبّت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هناك شك ولا شبهة في صحتها إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ حقا وصدقا .. فوائد المجموعة الثالثة: 1 - [حديث حول آية لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا] بمناسبة قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا يذكر ابن كثير ما رواه الإمام أحمد والترمذي بسند حسن صحيح غريب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلا وإما غنى عاجلا». 2 - [كلام ابن كثير عند قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] بمناسبة قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. قال ابن كثير: وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما صعد المنبر قال: «آمين آمين آمين» قيل يا رسول الله علام أمّنت؟ قال: «أتاني جبريل فقال يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك، ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل آمين، فقلت: آمين». وروى الإمام أحمد .... عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال: فبينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقي عليّ من بر أبويّ شئ بعد موتهما أبرهما به؟ قال: «نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهو

3 - تفسير لكلمة (الأواب) في قوله تعالى فإنه كان للأوابين غفورا

الذي بقي عليك من برّهما بعد موتهما» ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن سليمان. روى الإمام أحمد ... عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك؟ فقال: «فهل لك من أمّ؟» قال نعم. قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، ورواه النسائي وابن ماجه من حديث ابن جريج به. وروى الإمام أحمد ... عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب». وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عياش به». 3 - [تفسير لكلمة (الأواب) في قوله تعالى فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً] رأينا تفسير الأوّاب في صلب التفسير غير أن بعض المفسرين فسره بعلامة من علاماته. وقد جمع ابن كثير هذه الأقوال. قال: قال سعيد بن جبير هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به، وفي رواية لا يريد إلا الخير بذلك فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ وقوله فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً قال قتادة للمطيعين أهل الصلاة. وعن ابن عباس: المسبّحين وفي رواية عنه المطيعين المحسنين، وقال بعضهم: هم الذين يصلون بين العشاءين. وقال بعضهم: هم الذين يصلون الضحى، وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً قال: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون: ويصيبون الذنب ثم يتوبون، وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب بنحوه. وكذا رواه الليث وابن جرير عن ابن المسيب به، وقال عطاء بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير، وقال مجاهد عن عبيد ابن عمير في الآية هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها ووافقه مجاهد في ذلك، وقال عبد الرزاق حدثنا محمد بن مسلمة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله: فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً قال: كنا نعد الأواب الحفيظ أن يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا، قال ابن جرير: والأولى في ذلك قول من قال هو التائب من الذنب الرجّاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه، وهذا الذي قاله هو الصواب لأن الأوّاب مشتق من الأوب وهو الرجوع. يقال: آب

4 - اتجاه آخر لمعنى التبذير في الآية ولا تبسطها كل البسط ..

فلان إذا رجع قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (الغاشية: 25) وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم كان إذا رجع من سفر قال: «آئبون تائبون لربنا حامدون». 4 - [اتجاه آخر لمعنى التبذير في الآية وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ .. ] ذكرنا في صلب التفسير ما يفيد معنى التبذير، ونذكر هنا أن هناك اتجاها ثانيا في تفسير التبذير تفسره هذه الحادثة: أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه: لا خير في السرف. فقال: لا سرف في الخير. قال ابن مسعود: التبذير الإنفاق في غير حق، وكذا قال ابن عباس، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذّرا، ولو أنفق مدّا في غير حق كان مبذرا. وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى، وفي غير الحق، والفساد. 5 - [الحقوق المالية المفروضة على المسلم] قد رأينا أن الحق المفروض لذي القربي هو النفقة إن كان فقيرا، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. والحق المفروض للمسكين وابن السبيل الزكاة. وفي المال حق سوى الزكاة. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ما يلقي ضوءا على هذا الموضوع. روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله: إني ذو مال كثير، وذو أهل وولد وحاضرة، (أي قرابة) فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تخرج الزكاة من مالك إن كان؛ فإنها طهرة تطهّرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال: يا رسول الله أقلل؟ قال: «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذّر تبذيرا» فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها، وإثمها على من بدّلها». 6 - [حديثان بمناسبة قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى] وبمناسبة قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى يذكر ابن كثير حديثين: أولهما: أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة: أن فتى شابا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه فقال: «ادنه» فدنا منه قربيا فقال: «اجلس» فجلس فقال: «أتحبه لأمك»؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم» قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم». قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم». قال: أفتحبه

7 - فهم ابن عباس الدقيق للآية ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ..

لعمّتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم». قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم». قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهّر قلبه وأحصن فرجه» قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ. ثانيهما: أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له». 7 - [فهم ابن عباس الدقيق للآية وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً .. ] لابن عباس ترجمان القرآن فهوم دقيقة لكتاب الله من ذلك ما ذكره ابن كثير عند قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. قال ابن كثير: وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة أنه سيملك، لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل عثمان مظلوما رضي الله عنه، وكان معاوية يطالب عليا رضي الله أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم، لأنه أمويّ، وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلّمه الشام، فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليا هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه، كما تفاءل ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة، وهذا من الأمر العجيب، وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال: ... عن زهدم الجرمي: كنا في سمر ابن عباس، فقال إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية، إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان- يعني عثمان- قلت لعلي: اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج فعصاني، وأيم الله ليتأمّرنّ عليكم معاوية وذلك أن الله يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ الآية. وليحملنكم قريش أي يا قريش على سنة فارس والروم، وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس، فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا، ومن ترك- وأنتم تاركون- كنتم كقرن من القرون، هلك فيمن هلك» 8 - [حديث بمناسبة الآية وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] وبمناسبة قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام مسلم: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي ذر: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمّرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم». 9 - [ما قاله ابن عباس عند آية وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ قال ابن كثير: وابن عباس

10 - فوائد من قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم

كان يقول: يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم، هذا المكيال وهذا الميزان، وقال: وذكر لنا أن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يقول: «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله إلا أبدله الله به عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك». 10 - [فوائد من قوله تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] رأينا أن معنى قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ هو: ولا تتبع ما ليس لك به علم. وإذا نهينا عن الاتباع، فقد نهينا كذلك عن القول من باب أولى، فلازم النهي عن اتباع ما ليس لنا به علم ألا نتكلم بما ليس لنا به علم ومن ثم فقد فسر بعض المفسرين الآية بمثل هذا. وقد ذكر ابن كثير هذا الاتجاه فقال: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أي في تفسير قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يقول: لا تقل. وقال العوفي عنه: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم. وقال محمد بن الحنفية: يعني شهادة الزور، وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم. فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله، ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم أي بالظن الذي هو التوهم والخيال كما قال تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات: 12) وفي الحديث: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا» وفي الحديث الآخر: «إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا». وفي الصحيح: «من تحلّم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعرتين وليس بفاعل». 11 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً] وبمناسبة قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً قال ابن كثير: (بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في صحيح مسلم: «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بردان يتبختر فيها، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته، وأن الله خسف به وبداره الأرض. وفي الحديث «من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير». وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب (الخمول والتواضع): ... عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن إذ مرّ عليه ابن الأهيم وعليه جباب خزّ قد نضّد بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف، شامخ بأنفه، ثاني عطفه،

12 - فائدة هامة وجليلة حول الفهم الصحيح لآية ولا تقف ما ليس لك به علم

مصعّر خدّه، ينظر في عطفيه، أي حميق ينظر في عطفيه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدّى حق الله منها، والله إن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة؛ وللشيطان به لعنة، فسمعه ابن الأهيم فرجع يعتذر إليه، فقال لا تعتذر إليّ وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. 12 - [فائدة هامة وجليلة حول الفهم الصحيح لآية وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] وهناك فائدة محلها التقديم ولكن أخرناها لأهميتها. وهي: إن من أهم مناحي الخطأ في فهم النصوص التعسف والتكلف في فهمها، وتحميلها ما لا تحتمل، وإدخال قضايا تحتها ليست داخلة فيها. ومن ذلك أن بعض الناس فهموا من قوله تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بطلان الاجتهاد، وعدم جواز اتباع مجتهدي هذه الأمة. وهذا خطأ. لأن الاجتهاد في المواطن التي أباح الشارع فيها الاجتهاد- إذا كان من أهله- نوع علم. قال تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ (الممتحنة: 10) فالعلم الوارد في هذا النص أثر عن الاجتهاد ومع ذلك سماه الله علما. ثم يجب أن نعلم أن الآية في باب العقائد، وأما في باب الفروع فغالب الظن عند المجتهدين يقام مقام اليقين، ومن ثم أخذنا بخبر الآحاد مع أنه يفيد غالب الظن لا القطع على القول الراجح. والذي جعل خبر الآحاد يفيد القطع واهم. وقد رأينا في أكثر من مكان في هذا التفسير كيف أنّ الواحد قد يهم، وقد يخطئ حتى ولو كان البخاري ومسلم فكيف يبنى على خبره القطع ولننتقل إلى المقطع الثاني من سورة بني إسرائيل. ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (69) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (69) وهذا هو: الفقرة الأولى 17/ 55 - 41

الفقرة الثانية

ملاحظات: حول ارتباط المقطعين الأول بالثاني وعرض لمضمون الثاني مع ملاحظات في سياقه وصلته بالمحور

ملاحظات: [حول ارتباط المقطعين الأول بالثاني وعرض لمضمون الثاني مع ملاحظات في سياقه وصلته بالمحور] 1 - كما أن المقطع الأول ختم باستفهام هو أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً فكذلك هذا المقطع ختم باستفهام هو قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا* أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً. 2 - نلاحظ أن المقطع تعرّض لمجموعة من الأسباب تحول بين الناس وبين الهداية، وأقام فيها الحجة عليهم، كما تعرّض لجزء من قصة آدم عليه السلام فذكر القاعدة في شأن نجاة الإنسان من الشيطان.

مقدمة المقطع والفقرة الأولى من المجموعة الأولى.

3 - نلاحظ أن المقطع عمّق كل ما يساعد على الدخول في الإسلام كله، وما يبعد عن اتباع خطوات الشيطان. وختم المقطع بالتذكير بالنعمة والترهيب من الشرك. 4 - نلاحظ أنه في المقطع الأول ورد الأمر (انظر) - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا وهاهنا نجد في هذا المقطع آية مصدرة بالأمر (انظر) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا. 5 - وإذا لاحظنا أن بداية المقطع الأول هو وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فإن بداية هذا المقطع وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا فالتشابه في بداية المقطعين واضح فإذا علمنا أن بداية المقطع الثالث هي وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... وبداية المقطع الرابع: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ وبداية المقطع الخامس: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ .... عرفنا كيف تدل السورة على مقاطعها، ومن خلال بدايات المقاطع نعرف أن السورة تقيم الحجة على من كفر. وتبين الطريق لمن يريد الشكر، وما ذلك إلا بالدخول في الإسلام واجتناب خطوات الشيطان، وذلك محور السورة الذي تدور حوله معانيها من سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ* سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ والمقطع يتألف من مقدمة هي آية واحدة، ومن مجموعتين مترابطتين، تتألف كل منهما من عدة فقرات. وسنعرض المقطع كله منبهين على صلاته. *** مقدمة المقطع والفقرة الأولى من المجموعة الأولى. التفسير: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ أي لقد كررنا في هذا القرآن المعاني مرة بعد مرة، وكل مرة بأسلوب وطريقة عرض، وجرس وإيقاع ونظم وتمثيل جلّ عن طوق

[سورة الإسراء (17): آية 42]

البشر لِيَذَّكَّرُوا أي ليتعظوا، فإن لم يذكّرهم مقطع منه ذكرهم مقطع آخر، وإن لم يذكرهم مقطع ذكرتهم سورة، وإن لم تذكرهم سورة ذكرتهم سورة أخرى، وإن لم تذكرهم سورة ذكرتهم مجموعة سور، أو قسم من أقسام القرآن. وقوله لِيَذَّكَّرُوا يفيد أن هذا القرآن إنما يأتي الإنسان بما هو مستقر في عقله وقلبه من حقائق إن لم يكن مريضا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً أي وما يزيد هذا القرآن الكافرين والظالمين إلا نفورا عن الحق، وبعدا منه؛ بسبب مرض قلوبهم، وعقولهم، وأنفسهم، وأرواحهم، وانعكاس تصوراتهم، وغلبة شهواتهم؛ هذه الآية هي مقدمة المقطع. وبعد أن بيّن الله عزّ وجل ما تقوم به الحجة بهذا القرآن، وبين هذا الحال الغريب المريض منهم، أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يخاطب عقولهم لمعالجة نفورهم قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي كما يدّعون ويزعمون ويعتقدون إِذاً هذا جواب للافتراض وللقول لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ أي صاحب العرش ومالكه وهو الله سَبِيلًا أي طريقا يتقربون به إليه، قال ابن كثير: يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفا، لو كان الأمر كما يقولون، وأن معه آلهة تعبد لتقرّب إليه، وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك، ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه. ثم نزّه الله ذاته عن قولهم، وبيّن أن كل شئ ينزّهه. وفي هذا رد عليهم وتبيان لهم أنه تعالى يستحق العبادة وحده فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى أي تنزيها له، وترفع جل جلاله عَمَّا يَقُولُونَ أي هو منزّه أن يكون له شريك، ويترفع عن أن يرضى أن يشرك معه غيره، تعالى تعاليا عما يقوله الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى. ومن ثم فهم يعبدونهم ولا يعبدونه عُلُوًّا كَبِيراً أي تعالى تعاليا كبيرا عن مزاعمهم، بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وصف علوه بالكبر للتأكيد على معنى البراءة والبعد مما وصفوه به تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قال ابن كثير: يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض، ومن فيهن أي من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتبجّله وتكبّره عمّا يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي وما من شئ من المخلوقات إلا يسبّح بحمد الله أي يقول سبحان الله وبحمده بلسان المقال، أو بلسان الحال، لأنه يدل الناظر

[سورة الإسراء (17): آية 45]

إليه على تنزه الله، والدال على الخير كفاعله، والأرجح أن تسبيح الأشياء بلسان المقال وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إما لاختلاف اللغات أو لتعسر الإدراك قال ابن كثير: أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس لأنها بخلاف لغاتكم. وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، وهذا أشهر القولين. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً أي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يؤجله وينظره، فإن استمر على كفره وعناده أخذه غَفُوراً لمن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان، ورجع إلى الله وتاب إليه، فيا أيها الناس توبوا إلى الله ونزّهوه كما ينزهه كل شئ، واتخذوا إليه سبيلا يقربكم إليه. لقد رأينا أن الكافرين لا يزيدهم القرآن إلا نفورا. والآن يبين السياق أن الله عزّ وجل يحول بين قلوب الكافرين وهذا القرآن، تنزيها لهذا القرآن أن يصل لقلوب مثل قلوبهم، فالقرآن لا يقبل أن يصل إلى قلب نجس، فهو طاهر وطهارة القلوب هي التي تستأهل سكناه ومعناه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي حجابا ذا ستر أو حجابا لا يرى فهو مستور. ومن ثم فالكافرون تسمع آذانهم ولكن قلوبهم لا تسمع، لأن الحجاب يحول دون الوصول، فهو حائل ومانع أن يصل إليهم شئ مما يقوله، وهل هذا الحجاب هو الأكنّة التي سيذكرها في الآية اللاحقة، أو هو حجاب زائد على تلك الأكنة؟ قولان للمفسرين. رجّح ابن جرير أن الحجاب زائد على وجود الأكنة، فهو إذن حجاب مستور، لا تراه الأبصار، يحول بينهم وبين الهدى. وقد ذكرت الآية سبب استحقاقهم هذا الحجاب وهو كفرهم بالآخرة. فالكفر بالآخرة هو السبب الذي عاقبهم الله به، فجعل بينهم وبين هذا القرآن حجابا وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي: أغطية جمع كنان، وهو الذي يستر الشئ أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفقهوا القرآن وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وهو الثقل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعا ينفعهم ويهتدون به، فهم لكفرهم حيل بينهم وبين القرآن بحجاب وغلاف يغلف قلوبهم وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي موحّدا له دل ذلك على أن القرآن ذكر وأنه إعلان للتوحيد وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ أي رجعوا على أعقابهم نُفُوراً أي نافرين نفورا. دلّ ذلك على أنّ التوحيد القرآني لا يستطيع قبوله، ولا تحمله من لا يؤمن بالآخرة، فعلى فرض أنه أصبح عنده توجّه ما لهذا القرآن فإنه ما يكاد يسمع التوحيد القرآني حتى يولي نافرا هاربا. ثم بيّن الله عزّ وجل أنه عند ما عاقبهم بالأكنّة والحجاب إنما فعل ذلك لأنه الأعلم بطريقة استماعهم وحالهم ومكرهم عند هذا الاستماع فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي نحن أعلم بالحال

[سورة الإسراء (17): آية 48]

أو بالطريقة التي يستمعون القرآن بها. والتقدير: نحن أعلم بالذي به يستمعون القرآن. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي وإذ هم ذوو نجوى أي تناجي أي: كلام سري خفي إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فجنّ، فهذه حالهم إذا استمعوا، تآمر خفي على اتهام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالسحر فصار المعنى: نحن أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون، وبما به يتناجون، فهم يستمعون القرآن هازلين لا جادين، متآمرين على الحق لا متبعين للحق، ومن ثم فقد عاقبهم الله بما عاقبهم به من وجود الحجاب والأكنة. ثم خاطب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم معزيا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فجعلوك أحيانا شاعرا، وأحيانا ساحرا، وأحيانا مجنونا، وهاهنا مسحورا فَضَلُّوا إما بسبب من ذلك، أو في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه، فلا يقدر عليه، فهو متحيّر في أمره، لا يدري ما يصنع؛ ومن ثم قال: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا. كلمة في السياق: إن الإسلام: هو الاستسلام لله، والاستسلام لله استسلام لكتابه. وهذا يقتضي فهما لكتابه. إذ الاستسلام أثر الفهم. ولكن الله عزّ وجل حال بين كتابه وبين الناس إلا إذا آمنوا به وباليوم الآخر، ثم حاولوا سماع القرآن وفهمه بشكل جاد. وفي هذه المجموعة بيّن الله عزّ وجل أنه قد صرّف في هذا القرآن بما يؤدي إلى التذكر. ولكن الكافرين ينفرون منه؛ وما ذلك إلا لأن الله حال بينهم وبينه؛ بسبب كفرهم باليوم الآخر، وشركهم، وطريقتهم التي بها يستمعون القرآن، ومن ثم نفهم معنى قول ابن عمر (كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن) فالإيمان بالله واليوم الآخر، والرسول، والإقبال الجاد على الاستماع، والفهم، للتذكر، والعمل، ينبغي أن يسبق. والصلة بين ما مر معنا وبين السياق القرآني العام، وبينه وبين قوله تعالى في المقطع السابق إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وبينه وبين وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ في المقطع السابق واضحة. فالسورة تربي وتعلل وتقيم الحجة بما يخدم الاستسلام لله تعالى، والتلقي عنه، وترك اتباع خطوات الشيطان. والقيام بحق النعمة، وإذ كانت العلة الرئيسية لموقف الكافرين من القرآن هو كفرهم باليوم الآخر، فستأتي الآن آيات تذكر نفيهم لليوم

[سورة الإسراء (17): آية 49]

الآخر، وشبهتهم فيه والرد عليهم: ... وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أي عظاما وترابا وغبارا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي يوم القيامة خَلْقاً جَدِيداً أي خلقا مجددا بعد أن بلينا وصرنا عدما لا يذكر، وهكذا أنكروا البعث لمجرد استبعادهم الإنشاء بعد التمزق والتشتت. فحجتهم ما ألفوه لا ما هو حقيقة في نفس الأمر بالنظر إلى قدرة الله، وقد جاء الجواب قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أي صيروا حجارة أو حديدا؛ إذ هما أشد امتناعا من العظام والرفات عن الحياة في رأيهم أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي مما يعظم في تصوركم عن قبوله الحياة، أو عن إمكانية عودتكم إلى الحياة بعد أن تكونوه ممّا في السموات والأرض فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا أي إذا صرنا إلى ما صرنا إليه كأن كنا حجارة أو حديدا، أو خلقا آخر شديدا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا. فهو الذي يعيدكم كرّة أخرى. والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويرده إلى حال الحياة بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحي، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره. فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى الحالة الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شئ من الحياة، وهو أن تكونوا حجارة كما يحدث فعلا لبعض الأجسام إذ تتحجّر، أو حديدا، لكان قادرا أن يردكم إلى الحياة؛ أما ترون أنه هو الذي خلقكم أول مرة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ الإنغاض: هو التحريك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل. أي فسيهزون رءوسهم تعجبا واستهزاء وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ أي البعث استبعادا له ونفيا قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي هو قريب فاحذروا ذلك، فإنه سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت آت يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي الرب تعالى فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي تجيبون حامدين إجابة لأمره، وطاعة لإرادته وَتَظُنُّونَ يوم تقومون من قبوركم إِنْ لَبِثْتُمْ في الدنيا أو في القبر إِلَّا قَلِيلًا كلمة في السياق: بدأ هذا المقطع بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ثم جاء قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ثم استمر المقطع- كما رأينا- معللا لموقفهم، ورادا عليه. والآن يأتي

الفقرة الثانية من المجموعة الأولى من المقطع الثاني

أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوجه المؤمنين وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .... فكأن المقطع له مقدمة هي الآية الأولى منه. وفيه مجموعتان والمجموعة الأولى تتألف من فقرتين: فقرة تخاطب الكافرين وترد عليهم. وفقرة تخاطب المؤمنين ثمّ تعم بالخطاب وهذه هي: الفقرة الثانية من المجموعة الأولى من المقطع الثاني وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الكلمة التي هي أحسن سواء في مخاطباتهم مع بعضهم. أو في مخاطباتهم مع الكافرين. ثمّ علّل للجانب الأهمّ في هذا الأمر وهو قول الكلمة الأحسن للمؤمنين فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي إن لم يقولوا في مخاطباتهم الكلام الأحسن، وهو الكلمة الطيّبة، فإن الشيطان يلقي بينهم الفساد، ويغري بعضهم على بعض؛ ليوقع بينهم المشاقة إذ النزغ إيقاع الشر، وإفساد ذات البين، فيوقع الشيطان الشر والمخاصمة والمقاتلة. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة. ومع أن السياق وعموم اللفظ يدلان على أن الأمر بالكلمة التي هي أحسن عامة في الكافرين والمؤمنين. فقد علل للأمر في حق المؤمنين فقط، لأن هؤلاء هم الهدف. وأما الكافرون فإنه وإن كانت الكلمة الخشنة، قد تبعدهم إلا أنهم يستأهلونها. ومن ثم فهناك حالات تسمح لنا بالكلمة الخشنة معهم. وما صلة هذه الآية في السياق؟ إن الآية الأولى في المقطع تبيّن أن الله قد صرّف القرآن ليذّكروا فكان من المناسب أن يذكّر عباده في هذا السياق بخلق من أخلاق الإسلام، وهو الكلمة الطيبة. ثم يختم الله تعالى هذه الفقرة بما فيه تقرير لمعان وتعليل لما مر من معان. فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ إن اخترتم طريق العذاب وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ يا محمد وَكِيلًا أي حافظا لأعمالهم وموكولا إليك أمرهم. إنما أرسلناك نذيرا، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بأحوالهم وبكل ما يستأهل كل واحد منهم وبمراتبهم في الطاعة والمعصية وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وذلك أثر

المجموعة الثانية من المقطع الثاني

عن علم الله المحيط وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً به فضّلناه على بعض الأنبياء، فأنت يا محمد لست بدعا من الرسل، ولا كتابك بدعا من الكتب، وأنت قد أعطيت هذا القرآن الذي هو أفضل الكتب، ففضّلت على كل الرسل. وبهذا انتهت المجموعة الأولى. وكما أن المجموعة بفقرتيها بعد المقدمة بدأت بكلمة قُلْ ... في قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا وفي قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .... فإن المجموعة الثانية تبدأ بكلمة قُلِ في قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا. وكما أن المجموعة الأولى انتهت بقوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ... فإن في آخر هذه المجموعة رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ... ثم تختم المجموعة وهذا المقطع باستفهام هو أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ ... كما انتهى المقطع الأول باستفهام هو قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ .. وكما خاطبهم بالمجموعة الأولى بما تقوم به الحجة على نفورهم فكذلك تبدأ هذه المجموعة: المجموعة الثانية من المقطع الثاني قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنها آلهتكم مِنْ دُونِهِ أي من دون الله، من أمثال الملائكة وعيسى وعزير والجن؛ لأن السياق يدل على أن المراد من عبدوا من الأحياء فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أي ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر: من مرض أو فقر أو عذاب، ولا أن يحوّلوه من واحد إلى آخر أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي أولئك الذين يدعونهم آلهة أو يعبدونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة: وهي القربة إلى الله عزّ وجل أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي الأقرب منهم يبتغي الوسيلة إلى الله بالقربة والطاعة فكيف بغير الأقرب، أو أن كلّا منهم يحرص أن يكون هو الأقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كغيرهم من عباد الله فكيف يزعم المشركون بهم أنهم آلهة. دل هذا على أن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء. فبالخوف يعرف لله

كلمة في السياق

جلاله، وبالرجاء يعرف لله إكرامه. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبي مرسل فضلا عن غيرهم. كلمة في السياق: نلاحظ أن الله عزّ وجل أقام الحجة على من أشرك مرتين: مرة في بداية المجموعة الأولى إذ بين لهم أن من يعبدونهم لا يسعهم إلا أن يكونوا عابدين. وفي بداية هذه المجموعة إذ بين لهم أن من يعبدونهم يتنافسون على التقرب إلى الله، وأنهم عاجزون عن أن يملكوا لهم ضرا أو نفعا، فوجّهوا قلوبكم لله، ومحضوا عبادتكم له. وبهذا تكون الحجة قد قامت وعولج النفور بأبلغ دليل لو كان هناك عقول، وعرفنا في الوقت نفسه نموذجا لكيفية تصريف الله في هذا القرآن، وهو الشئ الذي ذكرته مقدمة المقطع إن مقدمة المقطع قالت: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ثم سار المقطع مقيما الحجة، ومذكّرا بالحق، ومكررا إقامة الحجة مرة بعد مرة، وذلك مظهر من مظاهر التصريف في هذا القرآن، هذا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً. ومن ثم نجد السياق يذكّر بإهلاك الله القرى: ... وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي وما من قرية إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي ليس من قرية إلا وهي إما مصيبها الهلاك، أو العذاب الشديد قبل يوم القيامة كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي مكتوبا. قال ابن كثير: هذا إخبار من الله عزّ وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم، أو يعذبهم عذابا شديدا. إما بقتل، أو ابتلاء بما يشاء، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم: أقول: وهكذا نعلم أنه ما من قرية إلا أصابها أو سيصيبها إهلاك أو عذاب حتى مكة سيسلط الله عليها الحبشة كما ورد في الأحاديث. وهذا يدل على أن الكفر والفسوق يتعاوران البلدان والقرى في الزمان والمكان. ومن ثم فالهلاك والعذاب يتعاوران البلدان والقرى في الزمان والمكان وفي ذلك تهديد للمنحرفين عن أمر الله. وقد يتساءل متسائل لم يعذبهم الله أليس إراءته في هذه الحال يمكن أن يكون بديلا ومن ثم يأتي قوله تعالى هنا: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ

كلمة في السياق

أي وما منعنا من إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك، ولاستحقوا العذاب المستأصل. لأن سنة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية، فأجيب إليها، ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال. وذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا: ناقة صالح لأن آثار هلاك ثمود معروفة معلومة. فقال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ باقتراحهم مُبْصِرَةً أي آية بينة فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها، فنزل بهم ما نزل وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً إن أريد بالآيات ما يقترحه الكافرون يكون المعنى: لا نرسلها إلا تخويفا بين يدي نزول العذاب العاجل، كالطليعة والمقدمة، فإن لم يتعظوا وقع عليهم، وإن أريد بالآيات ما يحدثه الله عزّ وجل من حوادث كالزلازل وغيرها يكون المعنى: أنه تعالى يفعل ما يتعظ به الآخرون وينزجرون. وقد ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه. وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وإن أريد بالآيات ما يظهره الله على يد رسله كالمعجزات يكون المعنى: وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. كلمة في السياق: بدأ المقطع بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ... وسار المقطع كما رأينا حتى قال: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا .... فإذا نظرنا إلى مقدمة المقطع، وهذه الآية، عرفنا أن هذا القرآن كاف في إقامة الحجة، ومن نفر منه فإن شيئا ما لن ينفعه، وأن الخوارق التي يظن بعض الناس أنها لو كانت لأثرت في إيمان هؤلاء النافرين لا تؤثر؛ لأن مسألة الكفر والإيمان أكبر وأعقد مما يتوهمه المتوهمون، ومن ثم يذكّر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بموضوعين كل منهما مبدوء بقوله تعالى: وَإِذْ أي واذكر إذ .. 1 - وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك

أحاط بالناس علما وقدرة فكلهم في قبضته فلا تبال بهم، وامض لأمرك، وبلغ ما أرسلت به، ولا تلتفت إلى إبائهم ونفورهم وكلامهم. قال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم محرّضا له على إبلاغ رسالته، ومخبرا بأنه قد عصمه من الناس؛ فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته، وتحت قهره وغلبته). فالإشارة إلى إحاطة الله علما بالناس إشارة إلى عدل الله في الهداية والإضلال، وإشارة إلى ضرورة التبليغ لتقوم الحجة، وإشارة إلى التوكل مع التبليغ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما فيها قال: (هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به) وهكذا فسّر ذلك بليلة الإسراء مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، ومسروق، وإبراهيم، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد. وقوله تعالى إِلَّا فِتْنَةً أي إلا اختبارا وامتحانا. ونحن نعلم أن ناسا رجعوا عن دينهم بسبب حادثة الإسراء والمعراج بعد ما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتمل قلوبهم وعقولهم ذلك. فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا لآخرين. وكما جعل الله الإسراء فتنة وابتلاء واختبارا فكذلك جعل ذكر شجرة الزقوم في القرآن. ومن ثم قال: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ أي جعلناها فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا بقوله إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ (الدخان: 43) جعلوها سخرية فكيف ينبت في النار الشجر، كأنهم يعجّزون القدرة الإلهية عن ذلك. قال أبو جهل سخرية: (هاتوا لنا تمرا وزبدا، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا) وإنما وصفت الشجرة بأنها ملعونة إما لأن الملعونين يأكلونها، أو لأن العرب تقول لكل طعام مكروه ملعونا. أو لأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة وَنُخَوِّفُهُمْ أي ونخوف الكافرين بالوعيد والعذاب والنكال فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي إلا تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال وذلك من خذلان الله لهم. قال النسفي: فكيف يجاب قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟ فكأنه ربط بين هذه الآية وما قبلها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً وهكذا اتضح أن موضوع الهداية والضلال موضوع بعيد الغور فالله عزّ وجل يبتلي الناس بأنواع من الابتلاءات ليتمحص الإيمان الصافي وأهله، والله عزّ وجل أعلم إذ يهدي ويضل، والكافرون لا يستفيدون من شئ، والله محيط بكل شئ، ولنلاحظ

[سورة الإسراء (17): آية 61]

الصلة بين الآية التي هي مقدمة المقطع: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ونهاية هذه الآية فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فلا القرآن ينفعهم، ولا الآيات تنفعهم، ولا ما يحدث حولهم ينفعهم. فموضوع الهداية والضلال ترتبط به أمور وأمور، والله هو المحيط علما بكل شئ ثم يأتي الموضوع الثاني المبدوء بكلمة إذ. 2 - وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أي واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أبى أن يسجد افتخارا على آدم واحتقارا له قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي أأسجد له وهو طين، أي وأصله طين قالَ الشيطان أَرَأَيْتَكَ أي أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته، لم كرّمته علي وأنا خير منه. فحذف ذلك اختصارا لدلالة ما تقدم عليه لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستولينّ عليهم ولأضلنهم ولأستأصلنهم بإغوائهم إِلَّا قَلِيلًا وهم المخلصون، وإنما علم الملعون ذلك إما بالإعلام أو لأنه رأى أنه خلق شهواني، أو لأنه رأى أنواعا من مثله على الأرض من قبل فاستدل بفعلهم على احتمالات ما يفعلونه قالَ اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، ثم أعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره فقال: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً أي وافرا موفرا عليكم، لا ينقص لكم منه شئ وَاسْتَفْزِزْ أي استزلّ واستخف مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي: بوسوستك، وكل داع يدعو إلى معصية الله فهو صوت للشيطان يتكلم بلسانه وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي وصح عليهم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي بكل راكب وماش من أهل الفساد. أي واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجالتهم ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه قال ابن كثير: وهذا أمر قدري وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أما المشاركة فى الأموال فيدخل في ذلك جمعها من خبث، وإنفاقها في حرام. ويدخل في ذلك ما حرموه من أنعامهم من البحائر والسوائب، ويدخل في ذلك ما ابتدعوه من أنظمة كافرة في شئون المال. وأما المشاركة في الأولاد فيدخل فيه كل مولود ولدته أنثى عصي الله فيه بتسميته بما يكرهه الله. أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو بقتله، أو بوأده. فكل ما عصي الله فيه أو به، أو أطيع الشيطان فيه أو به، فهو مشاركة وَعِدْهُمْ أي المواعيد الكاذبة: من شفاعة الآلهة، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وإيثار العاجل على الآجل، وجعلهم يعيشون على الآمال الكاذبة

[سورة الإسراء (17): آية 65]

وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً الغرور هو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: يد بتبديل الإيمان، ولكن بتسويل العصيان وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي حافظا ومؤيدا ونصيرا، يتوكل عليه المؤمنون فيحفظهم. فمن تحقق بالعبودية لله، وتوكل على الله، نجا من سلطان الشيطان. وبهذا تكون قضية الإضلال والهداية قد توضحت بعض جوانبها في هذا السياق. ولم يبق عندنا من المقطع إلا خاتمته، التي فيها تذكير، ومعالجة للنفور، وتعريف على الله، وتذكير بعقوباته وقهره، وإقامة حجة على وحدانيته، ووجوب إفراده بالعبادة، وهي معان تأتي على نسق واحد مع معاني المقطع. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي أي يجري ويسيّر، إما بالرياح، وإما بالآلات، وكلها خلقه لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني الرزق والربح إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم، ورحمته بكم، فهذا يقتضي منكم شكرا وإسلاما، لا كفرا وعصيانا وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي إذا أصبحتم في وضع تخافون فيه الغرق في البحر ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي ذهب عن أوهامكم كل من تدعونه في حوادثكم إلا أياه وحده، أو ضل من تدعونه من الآلهة عن إغاثتكم، ولكن الله وحده الذي ترجون هو الذي يجيب، فإذا كان الأمر كذلك فكيف تشركون به، وتدعون معه غيره اعتقادا وسلوكا وتعاطفا ومودة؟ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن التوحيد والإخلاص بعد الخلاص، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له، وعبادته وحده دون غيره وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي للنعم أي سجيته هذه، ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً الحاصب: هي الريح ترمي بالحصباء أي الحجارة. والمعنى: أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقامه وعذابه، والأقطار كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب من أسباب الهلاك، فليس جانب البحر وحده مختصا به، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر الخسف: وهو تغييب تحت التراب، والغرق تغييب تحت الماء، وإن لم يصبكم الهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الهلاك. فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان. ثم قال تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي ناصرا يرد ذلك عنكم،

[سورة الإسراء (17): آية 69]

وينقذكم منه أَمْ أَمِنْتُمْ أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفتم بتوحيدنا في البحر، وخرجتم إلى البر أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أُخْرى أي مرة ثانية بأن يقوي دواعيكم، ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم، فينتقم منكم فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ القاصف: هي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، أو هو الكاسر الذي يقصف الصواري ويغرق المراكب فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ بما فعلنا بكم تَبِيعاً أي مطالبا أو نصيرا ثائرا يأخذ بثأركم بعدكم، فمن الذي يطالب الله؟ فالمعنى: إنما نفعل ما نفعل بهم ثم لا تجد أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا ودركا للثأر من جهتنا. وبهذا انتهى المقطع. كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة من البقرة هو قوله تعالى سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الآتية في حيز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وإذ نتأمل المقطع الذي مر معنا نرى أنه قد حدثنا عن القرآن، وما به من الحجج ولم لا ينزل الله الآيات التي يقترحها الكافرون وهي في مقام سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ورأينا في المقطع ما تهدد الله أن يهلك كل قرية أو يعذبها وما يمكن أن يفعله بمن يكفرون نعمه، وهي معان في مقام وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ورأينا في المقطع مواقف الكافرين من القرآن ونفورهم وطغيانهم، وطغيان الشيطان ووسائله، وتلك معان لها علاقة بقوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ورأينا بعضا من أوامر الله. وهي أجزاء من الإسلام. ورأينا معاني تعمّق الإيمان بالقرآن والاستسلام لله وذلك من مقام ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... وكل ذلك ضمن سياق رتيب للسورة، ترتبط به معاني المقطع ببعضها وبمقدمتها، ويرتبط بها المقطع بما قبله، إن في تعميق معاني التوحيد، أو في التركيز على خصائص هذا القرآن، أو بالصلة بين ما أنزل الله على محمد وما أنزل على موسى عليهما الصلاة والسلام.

نقل: لصاحب الظلال حول قوله تعالى تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ..

ومن أهم ما ينبغي أن نلاحظه في المقطع الثاني هو الآية الأولى منه وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا فقد كرر الله في هذا القرآن ما يتذكر به الإنسان، وأهم ما يتذكره الإنسان هو الاستسلام لله واجتناب خطوات الشيطان. ... ونحب أن نسجل هنا مجموعة من الملاحظات: 1 - جاء في المقطع الأول من سورة بني إسرائيل قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً وجاء المقطع الثاني وفيه تعميق لمعاني التوحيد: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا 2 - وجاء في المقطع الأول: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. وجاء في المقطع الثاني: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ..... من هاتين الملاحظتين ندرك مقدار التلاحم بين المقطع الأول والمقطع الثاني، وكنا قد أشرنا مرارا أثناء عرضنا للمقطع الثاني عن الصلات بين آياته وفقراته ومجموعاته، ممّا يؤكد وحدة سياق السورة، وكل ذلك فيما يخدم قضية الدخول في الإسلام، وترك اتباع خطوات الشيطان، من خلال التذكير بآيات الله، وتهديد من يبدل نعمة الله كفرا نقل: [لصاحب الظلال حول قوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ .. ] قال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً: (وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير، وتنتفض روحا حية تسبّح الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحات شجية رخية، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال. وإنه لمشهد كوني فريد، حين يتصور القلب كل حصاة وكل حجر. كل حبة وكل ورقة. كل زهرة وكل ثمرة. كل نبتة وكل شجرة، كل حشرة وكل زاحفة. كل حيوان وكل إنسان كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء ومعها سكان

فوائد

السماء. كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه. إن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه، وكلما همت يده أن تلمس شيئا، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا سمعه يسبح لله، وينبض بالحياة. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ يسبح بطريقته ولغته وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين، ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية، وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير، وتتوجه بها إلى الله خالق النواميس، ومدبّر هذا الكون الكبير. حين تشف الروح وتصفو فتتسمّع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح، ويتوجه بالتسبيح، فإنها تتهيأ للاتصال بالملإ الأعلى، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون، الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية السارية في ضمير هذا الوجود، النابضة في كل متحرك وساكن، وفي كل شئ في هذا الوجود. فوائد: 1 - [حديث بمناسبة قوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ] بمناسبة قوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن قرظ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى، كان بين المقام وزمزم، جبريل عن يمينه، ومكائيل عن يساره، فطارا به حتى بلغ السموات السبع فلما رجع قال: «سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير: سبحت السموات العلى، من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا، سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى». 2 - [اتجاهان في تفسير آية وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] في قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ اتجاهان رئيسيان: الاتجاه الأول يقول: إن تسبيحها بلسان الحال؛ إذ تدل بافتقارها وما فيها على ذات منزهة مقدسة، والاتجاه الثاني يقول: إن تسبيحها بلسان المقال، ولكن لا نسمعها. وفي هذا الاتجاه نفسه توجهان. التوجه الأول يقول: التسبيح مختص بكل ذي روح. والتوجه الثاني: لا يقيد ذلك، وقد رجح ابن كثير أن التسبيح بلسان المقال. ونقل ما يدل عليه وذكر الاتجاهين فيه مرجحا العموم. وهذا كلامه قال:

«وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، وهذا أشهر القولين، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وفي حديث أبي ذر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل، وكذا في يد أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم، وهو حديث مشهور في المسانيد، وروى الإمام أحمد .... عن ابن أنس عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه مرّ على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال: «اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله منه» وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الضفدع وقال: «نقيقها تسبيح» وقال قتادة عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال «لا إله إلا الله» فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها، وإذا قال «الحمد لله» فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها، وإذا قال «الله أكبر» فهي تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال «سبحان الله» فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحدا من خلقه إلا قرّره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال «لا حول ولا قوة إلا بالله» قال: أسلم عبدي واستسلم. وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن عمرو قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج أو مزوّرة بديباج فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع ويضع كل فارس ابن فارس. فقام إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم مغضبا فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال: «لا أرى عليك ثياب من يعقل» ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس فقال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال: إني قاصّ عليكما الوصية آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين. أنهاكما عن الشرك بالله والكبر. وآمركما بلا إله إلا الله فإن السماوات والأرض وما بينهما لو وضعت فى كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح، ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليهما لقصمتهما أو لفصمتهما، وآمركما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شئ وبها يرزق كل شئ» ورواه الإمام أحمد أيضا ... عن الصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به. وروى ابن جرير ... عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا عليه السلام قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلق، وتسبيح الخلق، وبها يرزق الخلق» قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. إسناده فيه ضعف. وقال عكرمة في

3 - الآية التي اعتصم بها النبي صلى الله عليه وسلم من زوجة أبي لهب عند ما جاءت تريد إيذاءه فلم تره

قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال الأسطوانة تسبح، والشجرة تسبح. وقال بعض السلف: إن صرير الباب تسبيحه. وخرير الماء تسبيحه. قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: الطعام يسبح. ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج (آية: 18)، وقال آخرون: إنما يسبح ما كان فيه روح. يعنون من حيوان ونبات. قال قتادة في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال: كل شئ فيه روح يسبح من شجر أو شئ فيه، وقال الحسن والضحاك في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قالا: كل شئ فيه الروح وروى ابن جرير ... عن جرير أبي الخطاب قال: كنا مع يزيد الرقاشي، ومعه الحسن في طعام، فقدموا الخوان، فقال يزيد الرقاشي: يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟ فقال كان يسبح مرة (قلت): الخوان: هو المائدة من الخشب، فكأن الحسن رحمه الله ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة كان يسبح، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه، وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة». ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة. ثم قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا». أخرجاه في الصحيحين. قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء: إنما قال ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما، والله أعلم. 3 - [الآية التي اعتصم بها النبي صلّى الله عليه وسلّم من زوجة أبي لهب عند ما جاءت تريد إيذاءه فلم تره] بمناسبة قوله تعالى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً يذكر ابن كثير الحادثة التي رواها أبو يعلى الموصلي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة، وفي يدها فهر (أي حجر) وهي تقول: مذمّما أتينا- أو أبينا قال أبو موسى: الشك مني- ودينه قلينا، وأمره عصينا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس، وأبو بكر إلى جنبه- أو قال: معه- فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به منها وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً قال فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني بنت سيدها.

4 - فائدة بمناسبة آية وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا ..

4 - [فائدة بمناسبة آية وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا .. ] قال قتادة عند قوله تعالى وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً: إن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم فضاقها إبليس وجنوده (أي أحاط بها وأحدق أي طوقها لينقض عليها ويمنعها من الانتصار) فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويفلجها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها؟؟؟ الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها) أقول: إن «لا إله إلا الله» الآن منتشرة في الأرض طولا وعرضا، رغم كل ما تكاد به. 5 - [نموذج على طريقة استماع الكافرين للقرآن والتي يسبقها موقف معاد] كنموذج لطريقة استماع الكافرين للقرآن والتي يسبقها موقف مسبق معاد يذكر ابن كثير عند قوله تعالى نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً. يذكر ابن كثير هذه الحادثة: قال محمد بن إسحاق في السيرة: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق، تلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا؛ فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق. فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق. فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ولا نعود، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق، أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا

6 - مناقشة المؤلف لتفسير المفسرين لقوله تعالى أو خلقا مما يكبر في صدوركم

الحكم! ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه. 6 - [مناقشة المؤلف لتفسير المفسرين لقوله تعالى أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ] فسر كثير من المفسرين أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ في قوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فسروها بالموت، فإن الموت يعظم في صدور الكافرين أن يكون بعده حياة، ولم نقيدها نحن في صلب التفسير بقيد، وتركناها مطلقة كما هو المذهب المختار عند المفسرين. وعند هذه الآية يقول ابن كثير: وقد ذكر ابن جرير هاهنا حديثا «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار. ثم يقال: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. ثم يقال: يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت». أقول: ومناسبة الحديث للآية غير واضحة إلا من حيث التدليل على أن الموت مخلوق، للتدليل على أن قوله تعالى: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يمكن أن يراد به الموت. 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ] وبمناسبة قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي يوم القيامة فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال ابن كثير: وقد جاء في الحديث «ليس على أهل «لا إله إلا الله» وحشة في قبورهم، كأني بأهل «لا إله إلا الله» يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، يقولون: لا إله إلا الله». ومما قاله ابن كثير يفهم أن استجابتهم للبعث يرافقها كونهم ذاكرين. 8 - [فائدة بمناسبة آية وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. ] رأينا أن الله عزّ وجل قد قال في هذا المقطع وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ وأنه قد جاء هذا الأمر في سياق إقامة الحجة على الكافرين، وتسفيه ما هم فيه، وعند ما يأتي أمر في هذا المقام، يستشعر المسلم خصوصيته ومودة الله إياه، فيستقبل هذا الأمر بجوارحه كلها، بعقله، وقلبه، وروحه، وفي هذا الأمر أدب من أرقى الآداب الإسلامية وأصعبها؛ إلا على من عصمه الله وحفظه، وهو أن يقول المسلم لأخيه المسلم الكلمة الطيبة في كل حال، في غضبه

9 - كلام ابن كثير عند آية ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض

وسروره، ومزاحه وجده. الكلمة التي لا تجرح قلبا ولا تقطع أواصر. وإذا كنا مأمورين بالكلمة الطيبة، وترك الكلمة الخشنة، فمن باب أولى أن نكون منهيين عن الفعل الخشن. مزاحا وجدا، ومن ثم قال ابن كثير عند هذه الآية: (ولهذا نهي أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده أي فربما أصابه بها. وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار». وروى الإمام أحمد ... عن الحسن قال: حدثني رجل من بني سليط قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في رفلة من الناس، فسمعته يقول: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، التقوى هاهنا» قال حماد: وقال بيده إلى صدره «وما توادّ رجلان في الله، ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما، والمحدث شر، والمحدث شر، والمحدث شر». 9 - [كلام ابن كثير عند آية وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ] عند قوله تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ قال ابن كثير: وكما قال تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ. (البقرة: 253) وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تفضّلوا بين الأنبياء». فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، لا بمقتضى الدليل فإذا دلّ الدليل على شئ وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضل وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (آية: 7) وفي الشورى قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. (آية: 13) ولا خلاف أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور. وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع. 10 - [كلام المؤلف بمناسبة قوله تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً] بمناسبة قوله تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يعيد ابن كثير الحديث الذي مر معنا في سورة الرعد بمناسبة أن كل كتاب سماوي يسمى قرآنا وهو ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خفّف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابة فتسرج، فكان يقرؤه قبل أن يفرغ».

11 - فائدة حول سبب نزول آية وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون

أقول بهذه المناسبة: إن ذكر الزبور في هذا السياق يدل على شرف داود عليه السلام إذ يخصه الله به، وفيه إشارة إلى شرف محمد صلّى الله عليه وسلّم، إذ يخصه الله بما هو أشرف من الزبور، وهو القرآن الكريم، والزبور كتاب سماوي لكنه قد خالطه التحريف والتغيير، حتى خالط بعض فقراته الكفر والشرك، كما حدث لغيره، ثم هو قد اختلط بغيره زيادة على تحريفه، فمثلا تعثر في كتب العهد القديم على ما يسمى المزامير. ومجموعتها مائة وخمسون قطعة، يسمون كل قطعة منها مزمورا، إلا أننا نلاحظ أنهم ينسبون بعض هذه المزامير إلى إيثان الأزراحي، وبعضها لبني قورح، وبعضها لآساف، المشهور عند المسلمين بآصف بن برخيا، ثم تجدهم يذكرون عند بعض المزامير ما يشير إلى أنها من تأليف داود نفسه، ويذكرون مناسبتها ولا يفوت الرباني أن يحس أثناء قراءة بعضها أن عليها جلالا ربانيا، ولله في ألا تصلنا الكتب السماوية السابقة- كما هي- حكم، من جملتها أن نستغني بهذا القرآن عما سواه. وقد جمع الله به من الجلال والكمال في المبنى والمعنى، ما يغني ويكفي. 11 - [فائدة حول سبب نزول آية وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ] في سبب نزول قوله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً. قال ابن كثير: (قال سنيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: قال المشركون: يا محمد، إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدّقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا. فأوحى الله إليه: «إني قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم» قال: «يا رب استأن بهم» وكذا قال قتادة، وابن جريج وغيرهما. وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. قال: «لا، بل استأن بهم» وأنزل الله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ الآية. ورواه النسائي وابن جرير به وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس: قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا، ونؤمن بك قال: «وتفعلون؟» قالوا: نعم: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا. فمن كفر منهم بعد ذلك

12 - كلام ابن كثير بمناسبة آية إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وآية وشاركهم في الأموال والأولاد ..

عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة فقال: «بل باب التوبة والرحمة» وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده ... عن أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (الشعراء: 214) صاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي قبيس: «يا آل عبد مناف، إني نذير!» فجاءته قريش فحذّرهم، فقالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك، وأن سليمان سخّر له الريح والجبال، وأن موسى سخّر له البحر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، فادع الله أن يسيّر عنّا هذه الجبال، ويفجّر لنا الأرض أنهارا، فنتخذها محارث، فنزرع ونأكل، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلموننا، وإلا فادع الله أن يصيّر لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبا، فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم. قال: فبينا نحن حوله، إذ نزل عليه الوحي، فلمّا سرّي عنه قال: «والذي نفسي بيده، لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيّرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم؛ فتضلوا عن باب الرحمة، فلا يؤمن منكم أحد، فاخترت باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك، ثم كفرتم، أنه يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين». ونزلت: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ حتى قرأ ثلاث آيات ونزلت: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى الآية. (الرعد: 31) ولهذا قال تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ 12 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وآية وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ .. ] بمناسبة قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يروي ابن كثير الحديث الذي يرويه الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر». أي يأخذ بناصيته ويتعبه ويقهره. وبمناسبة قوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ يذكر ابن كثير حديثين: أ- في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله عزّ وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم». ب- وفي الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله

13 - حادثة يرويها ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ..

قال: باسم الله اللهم جنّبنا الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضرّه الشيطان أبدا». 13 - [حادثة يرويها ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ .. ] وبمناسبة قوله تعالى وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ يروي ابن كثير حادثة (قال: كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارّا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين فتح مكة، فذهب هاربا؛ فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن أخرجتني منه، لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رءوفا رحيما، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه). كلمة في السياق [المقطع الثاني وصلته بالمحور]: لقد رأينا في المقطع الثاني أنه عالج الموانع التي تمنع من الهداية. أي تمنع دخول الإنسان في الإسلام، كما أقام المقطع الحجة على الكافرين، وقد رأينا فيه بعض ما تهدّد الله به، وفي المقطع الأول قصّ الله علينا ما عاقب به بني إسرائيل لانحرافهم. ثم بين خاصية من خواصّ كتابه. ثمّ أمر ونهى عباده، وفي كلّ ما مرّ تعميق لشكر النعمة بالطاعة، والتخويف من الانحراف، والاهتداء بهذا القرآن، والالتزام بآدابه، وكل ذلك له صلة بالدخول في الإسلام كله، واجتناب خطوات الشيطان كلها، والآن يأتي مقطع جديد، يذكّر بالنعمة، وعقوبة كفرانها، ويذكّر بما يحاوله الكافرون مع الداعية ليتخلى عن الإسلام، أو عن شئ منه، وما هي العقوبة التي يستأهلها من تنازل عن شئ من الإسلام كما يذكر كيد الكافرين لصاحب الدعوة، وكيف يقابل صاحب الدعوة الكيد، والإغراء. ثم يذكّر الله بنعمته في إنزاله هذا القرآن، ويذكّر بطبيعة الإنسان الجحود، وبإعجاز هذا القرآن. ***

المقطع الثالث ويمتد من الآية (70) إلى نهاية الآية (88) وهذا هو

وبالجملة فإن المقطع اللاحق يربي على شكر النعمة، وعلى الالتزام بكل الإسلام، وهما المعنيان الرئيسيان في محور هذه السورة، من سورة البقرة: المقطع الثالث ويمتد من الآية (70) إلى نهاية الآية (88) وهذا هو: 17/ 88 - 70

التفسير

التفسير وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال النسفي: (بالعقل، والنطق، والخط، والصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد والاستيلاء، وتسخير الأشياء، وتناول الطعام بالأيدي) وفي مقدمة كتابنا (الرسول صلّى الله عليه وسلّم) تحدثنا عن كون الإنسان مخلوقا متميزا متفردا بالعقل والبيان والخلقة والقدرة على تسخير الأشياء. وأن هذا العطاء من الله يقابله التكليف. فالقيام بالتكليف هو شكر النعمة وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على أنواع المركوبات الحيوانية والآلية وَالْبَحْرِ على أنواع المراكب وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من زروع وثمار، ولحوم وألبان، ومن سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرقيقة من سائر الأنواع على اختلاف

[سورة الإسراء (17): آية 71]

أصنافها وألوانها وأشكالها، مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ فسر الكثير بعضهم هنا بالكل مِمَّنْ خَلَقْنا قال ابن كثير: أي من سائر الحيوانات، وأصناف المخلوقات تَفْضِيلًا ذكّرنا الله عزّ وجل في هذه الآية بتكريمه الإنسان، وحمله له في البر والبحر، ورزقه الطيبات، وتفضيله لهذا الإنسان على كل مخلوقاته. ذكّرنا الله عزّ وجل بهذه النعم، ولم يذكر ما رتّبه علينا مقابل هذا العطاء، ولكنه ذكّرنا بعد ذلك مباشرة بما سيكون يوم القيامة. وفي هذا التذكير بيان أن من لم يشكر فله جزاؤه، وأن من شكر فله جزاؤه فقال: يَوْمَ أي واذكر، أو واذكروا يوم نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي مختلطين بإمامهم، أي بمن ائتموا به من نبي أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين، أو بكتاب أعمالهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي من هؤلاء المدعوين فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شئ، وإنما يقرءون كتابهم فرحا بما فيه من العمل الصالح وسرورا، فهو يقرؤه ويحب قراءته. والفتيل في اللغة: هو الخيط المستطيل في شق النواة، ولم يذكر الكفار وإيتاءهم كتبهم بشمالهم اكتفاء بقوله تعالى الآتي: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجة الله وآياته وبيّناته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي كذلك يكون في الآخرة وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي وأضل طريقا مما كان في الدنيا، وقد استعيرت كلمة الأعمى للكافر؛ لأن الأعمى لا يدرك المبصرات؛ لفساد حاسته، وكذلك الكافر، فإنه لا يهتدي إلى طريق الله في الدنيا، فمن ثم فهو أعمى، ولكونه لا ينفعه الاهتداء في الآخرة فهو كذلك أعمى وأضل، لأن كرب يوم القيامة تزيد من عماه. وهكذا عرفنا عاقبة من كفر النّعمة، وعاقبة من شكرها، وإنما شكرها بالقيام بأمر الله كله، بأن يفعل ما كلّفه الله به، وبهذا وضح ما بين هاتين الآيتين. والآية قبلهما: فالآية الأولى ذكّرت بالنّعم، ولم تذكر شيئا سوى ذلك. والآيتان الأخريان ذكّرتا بحال أهل الإيمان، وأهل الكفر في الآخرة، مما دلّ على أن هذه النعم يقابلها تكليف، وأن السقوط في التكليف يترتب عليه ما يترتب، ووصف الكافر بالعمى في الدنيا دليل على أن الذي لم يرتّب على النعمة مقتضاها، من القيام بأمر الله

[سورة الإسراء (17): آية 73]

تالف. هؤلاء العميان لم يكفهم أنهم عميان، بل يبذلون الجهود ليفتنوا أهل الإبصار، ويحرفوهم، بل يحاولون اضطهاد أهل الإبصار ليخرجوهم من ديارهم. وهذان هما موضوعا الفقرتين التاليتين، وهما يأتيان في معرض الكلام عن تأييد الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتثبيته وعصمته، وسلامته من شر الأشرار، وكيد الفجّار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليّه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره. قال تعالى: وَإِنْ كادُوا أي وإنهم قاربوا لَيَفْتِنُونَكَ أي يخدعونك فاتنين عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أوامرنا ونواهينا، ووعدنا ووعيدنا لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أي لتتقوّل علينا ما لم نقل وَإِذاً أي ولو اتبعت مرادهم لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: لكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي ولولا تثبيتنا وعصمتنا، لقاربت أن تميل إلى مكرهم ركونا قليلا إِذاً أي لو ركنت إليهم أدنى ركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي عذاب الحياة مضاعفا وَضِعْفَ الْمَماتِ أي وعذاب الآخرة مضاعفا والتقدير: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي معينا لك يمنع عذابنا عنك وَإِنْ كادُوا وإنهم قاربوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي ليزعجونك بعدوانهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكة، أو من أرض العرب لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ أي بعدك إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا، فإن الله مهلكهم سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا، أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا، وآذوهم بالإخراج من بين أظهرهم، يأتيهم العذاب، والمعنى: أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم. وقد يتساءل متسائل ألم يخرجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ والجواب: إنه هاجر وخرج بأمر ربه، ومن ثم لم يستأصلوا، أو أن ما حدث لهم يوم بدر كان عذابا يقابل فعلهم. أو أن أرض العرب واحدة، فالانتقال من مكة إلى المدينة لا يعتبر إخراجا. كلمة في السياق: النعمة ينبغي أن يقابلها شكر، والشكر: هو القيام بالتكليف، والقيام بالتكليف: هو

[سورة الإسراء (17): آية 78]

الدخول في الإسلام كله، والدخول في الإسلام كله يعني: الالتزام الكامل بوحي الله، والالتزام الكامل بوحي الله لا يقبل مساومة ولا مداهنة، فإن ساوم أهل ذلك أو داهنوا استحقوا العذاب الدنيوي مضاعفا، والعذاب الأخروي مضاعفا، كما أن الالتزام بالوحي كاملا سيقابل من أعداء الله بالإيذاء الذي قد يكون منه الإخراج من الأرض، وكل ذلك لا ينبغي أن يلتفت إليه، هذا ما ذكرته الفقرتان السابقتان. والآن لنتذكر صلة ما مرّ معنا بمحور السورة: تأمل هذه الآيات: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وإِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ووَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا. إذا تأملت هذا وصلته بقوله تعالى في سورة البقرة: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وإذا تأملت قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا وصلته بقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فإنك ترى كيف أن المقطع يفصّل في محوره من سورة البقرة أي تفصيل. وبعد ما رأيناه من المقطع تأتي الآن مجموعة أوامر موجّهة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومجئ الأوامر في هذا السياق يفيد: أن تنفيذ هذه الأوامر هو الردّ على محاولات الحرف أو الإخراج، وهو التعبير العملي عن شكر النعمة، وهو الشئ الذي يستعان به في عبور سفينة الحياة بهذا الإسلام. أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى ظلمته دخل في ذلك الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي وأقم قرآن الفجر أي صلاته، وسميت الصلاة بالقرآن لكون القراءة ركنا فيها، كما سميت ركوعا وسجودا، أو سميت قرآنا لطول ما يقرأ بها من القرآن إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وعلى هذا فإن الأمر في الآية يفسّر بإقامة الصلوات الخمس المكتوبة في أوقاتها. وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم، مما تلقوه خلفا عن سلف. وقرنا بعد قرن.

[سورة الإسراء (17): آية 79]

فلا ينكره إلا كافر وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي بالقرآن نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس. والمعنى: أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة غنيمة لك، أو فريضة عليك خاصة دون غيرك، لأنه تطوع لهم، والتهجد في الأصل ترك الهجود للصلاة، ومن ثم فإنه يكون عادة بعد نوم، فالآية فيها أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقيام الليل زيادة على المكتوبة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة قال: «صلاة الليل». ثم قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي افعل هذا الذي أمرتك به؛ لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس؛ ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ في شأني كله، وفي كل ما أدخل فيه وأخرج من أمر أو مكان، وقد نزلت حين الأمر بالهجرة كما سنرى وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر، مظهرا له عليه، أو حجة بينة تنصرني بها على من خالفني، والقول الأول هو الذي رجحه ابن جرير. قال ابن كثير: وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام كما قال النسفي وَزَهَقَ الْباطِلُ أي وذهب وهلك، إذ الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا في كل أوان، فليس من لقاء ولا من مساومة، فالباطل عدم، والحق وجود، وعلى العدم أن يرحل أمام الوجود. هذه هي الأوامر التي وجهت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا السياق: الأمر بإقامة الصلوات الخمس، والأمر بالتهجد، والأمر بالاستعانة بالله في كل شئ ودعائه، والإعلان عن مجئ الحق وزهوق الباطل. وفي هذا الإعلان ما يفيد أن الباطل كله يجب أن ينتهي. ومجئ هذه الأوامر في هذا السياق واضح الحكمة، سواء في ذلك سياق السورة، أو السياق الكلي للقرآن، وبعد هذه الأوامر تأتي هذه الآية: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ للقلوب من أمراضها، من شك، ونفاق، وزيغ، وميل، وضعف وَرَحْمَةٌ يحصل بها الإيمان، وتوجد بها الحكمة، وتتحقق بها السعادة لِلْمُؤْمِنِينَ فهم وحدهم الذين يعتبر القرآن في حقّهم شفاء ورحمة، به

كلمة في السياق

تفريج كروبهم، وتطهير عيوبهم، وتكفير ذنوبهم وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ أي الكافرين إِلَّا خَساراً أي ضلالا لتكذيبهم به وكفرهم، فلا ينتفعون به، ولا يعونه، ولا يزيدهم سماعه إلا بعدا وكفرا، والآفة من الكافر لا من القرآن. ومجئ هذه الآية بعد الأوامر الأربعة السابقة يشعر أن هذه الأوامر فيها الشفاء، وفيها الرحمة. كما يشعر أن كل ما سبق من المقطع إنما هو من أجل شفاء القلوب من الضعف والوهن. كلمة في السياق: نلاحظ أن المقطع الثاني بدأ بآية مختومة بقوله تعالى: وَما يَزِيدُهُمْ أي القرآن إِلَّا نُفُوراً وقد انتقل المقطع من آية، إلى آية حتى استقر على آية تعكس نورها على ما قبلها، وهي منتهية بقوله تعالى: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ومن ثم فإننا نلاحظ أن المقاطع كلها تعالج وضعا واحدا هو موقف الخلق من نعمة القرآن. وما يترتب على ذلك، وكل ذلك في مجال المطالبة بالدخول في الإسلام كله، ويتساءل متسائل ما السّر في كون هذا القرآن لا يزيد الكافر إلا خسارا. ويأتي الجواب في الآية اللاحقة في صيغة تقرير قاعدة وهي: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعة من مال وعافية وفتح ورزق ونصر أَعْرَضَ عن طاعة الله وعبادته وَنَأى بِجانِبِهِ النأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه، ويولّيه ظهره، وهذا تأكيد للإعراض، وإشعار بأن الإعراض فيه معنى الاستكبار وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ وهو الفقر والمرض والحوادث والنوائب والمصائب كانَ يَؤُساً أي قنوطا من أن يعود بعد ذلك إليه الخير، إن هذا هو حال الكافر بدليل قوله تعالى في سورة هود وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ* إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (الآيات: 9 - 11) دلّت هذه الآيات على أن الذي يقف من النعمة هذا الموقف إنما هو الكافر، ومن ثم فهذه الطبيعة هي السبب في أن الكافر لا يزيده القرآن إلا خسارا؛ لأن القرآن نعمة، ومن طبيعة الكافر أن يقابل النعمة بالإعراض والاستكبار، فإذا كانت هذه طبيعته فهو يقف من أجلّ النعم- وهي القرآن والإسلام- موقف الإعراض والاستكبار، ومن ثم فإن القرآن يزيدهم خسارا، ومن ثمّ قال تعالى: قُلْ كُلٌّ من المؤمنين الذين يهتدون بالقرآن ويشكرون النعمة، ومن الكافرين

[سورة الإسراء (17): آية 85]

الذين يكفرون النعمة وينأون عن القرآن يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال، أو على طبيعته، وهذا شبيه بقول الشاعر: وكل إناء بالذي فيه ينضح. فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي أسدّ مذهبا وطريقة منا أو منكم، وسيجزي كل عامل بعمله. قال ابن كثير: وهذه الآية- والله أعلم- تهديد للمشركين ووعيد لهم. أقول: وفي الوقت نفسه ثناء على طبيعة المسلم. وفي هذا السياق يرد سؤال، ويأتي جواب ويقرر تقرير. فلنر السؤال وجوابه والتقرير، ثم لنر محله في السياق: أما السؤال فهو: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ والسائل هم اليهود كما سنرى في الفوائد قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من أمر يعلمه ربي، أي مما استأثر الله بعلمه، أو هي من عالم الأمر التكويني وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل. وهذا الذي تسألون عنه مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. ولنا عودة على موضوع الآية، وموضوع الروح في قسم الفوائد، فهذه الروح التي آثارها ظاهرة، والتي يدل عليها كثير من الظواهر، والتي هي أقرب شئ إلى الإنسان، يقف الإنسان، عاجزا عن إدراك حقيقتها وكنهها. والآن ما الحكمة في إيراد هذه الآية في هذا السياق؟ بعد ذكر كفران النعمة، وذكر كون القرآن شفاء؟ نلاحظ أن هذه الآية والآيتين قبلها قد وردت بين آيات تتحدث عن القرآن، وخواصّه، وإعجازه، إذا عرفنا هذا فإنّ الشئ الذي يتبادر إلى الذهن هو: أن هذا القرآن الذي هو علاج للقلوب والأرواح، ما كان ليكون كذلك، لولا أنه من عند الله، وأن هذه الروح التي لا يعرف غير الله كنهها هو وحده الذي يضع النظام المناسب لها. فهذا الإنسان الذي لا يعرف نفسه يحتاج إلى هداية الله، ومن ثم أنزل الله هذا القرآن الذي لا يستطيع أحد لا محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا غيره أن يأتي بمثله. ومن ثم يختتم المقطع بهذه الآيات. قال تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ المعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثرا ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مسطورا، إلا أن يرحمك ربك فيردّه عليك إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً في إنزال هذا القرآن، وحفظه عليك. فالقرآن إذن ليس مصدره بشريا، بل هو رباني. حتى محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يستطيع شيئا لو أراد الله أن يسلبه هذا

[سورة الإسراء (17): آية 88]

القرآن، فهذا القرآن تنزيل من الله وحده، وتأكيدا لهذا المعنى أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا. والمعنى: لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه لعجزوا عن الإتيان بمثله، ولو اجتمعت طاقات بعضهم إلى بعض لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتضافروا فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، الذي لا نظير له، ولا مثال له، ولا عديل له، فكما أن الروح من أمر الله فهذا القرآن من عند الله، وكما أن أحدا لا يستطيع أن يدرك سر الروح- فضلا عن أن يوجدها- فكذلك هذا القرآن يعجز أحد حتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي به أو بمثله. وعلى هذا فإن تسلسل المعاني في هذا المقطع يكون على الشكل الآتي: تذكير بالنعمة يوصل إلى موضوع التكليف والحساب، وتذكير بوجوب الثبات على كل ما كلف الله به عباده. وتهديد لمن انحرف، ثم بعد ذلك يذكر نوعا من أنواع الإيذاء الذي يقابل به الدعاة، ثمّ تأتي أربعة أوامر توجه في هذا السياق لصاحب الدعوة، ثمّ يأتي تقرير يذكر فيه بعض خواص القرآن ويذكر فيه موقف الكافرين منه، ثم تذكر علة هذا الموقف، ثمّ يذكر جهل الإنسان وقصوره عن معرفة أقرب الأشياء إليه، وإذ كان الأمر كذلك فلا بد له من هداية ربانية، ومن ثم أنزل الله هذا القرآن المعجز، فإذا ما رفضه الكافرون فما ذلك إلا لجهلهم. فالمقطع عمّق أمر الاستسلام لهذا القرآن. فلنذكر الآن بعض النقول، ثم فوائد المقطع، ثم نعطف بكلمة عن سياق سورة الإسراء. ثم ننتقل إلى المقطع الرابع. نقول [من الظلال:] 1 - عند قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً قال صاحب الظلال: (بهذا السلطان المستمد من الله، أعلن مجئ الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهوق الباطل واندحاره وجلائه. فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق .. إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً .. حقيقة لدنّية يقررها بصيغة التوكيد. وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة. فالباطل ينتفخ وينتفش، لأنه باطل لا يطمئن إلى

2 - وعند قوله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين .. قال صاحب الظلال

حقيقة؛ ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتنفع وتبقى؛ وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء. إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهنت هذه الأسناد تهاوى وانهار. فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده. وقد تقف ضده الأهواء، وتقف ضده الظروف، ويقف ضده السلطان .. ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء، لأنه من عند الله الذي جعل «الحق» من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول. إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً .. ومن ورائه الشيطان، ومن ورائه السلطان. ولكن وعد الله أصدق، وسلطان الله أقوى. وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد. ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثا؟.» 2 - وعند قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ .. قال صاحب الظلال: (وفي القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح، وطمأنينة وأمان. في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة. فهو يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن، ويستشعر الحماية والأمن؛ ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة؛ والقلق مرض، والحيرة نصب، والوسوسة داء. ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزغات الشيطان .. وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب، وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلفة في الشعور والتفكير. فهو يعصم العقل من الشطط، ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة ويكفه عن إنفاق طاقاته فيما لا يجدي، ويأخذه بمنهج سليم مضبوط، يجعل نشاطه منتجا ومأمونا. ويعصمه من الشطط

3 - وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

والزلل. وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليما معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وفي القرآن شفاء من العلل الاجتماعية التي تخلخل بناء الجماعات، وتذهب بسلامتها وأمنها وطمأنينتها. ومن ثم هو رحمة للمؤمنين. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ... فهم لا ينتفعون بما فيه من شفاء ورحمة. وهم في غيظ وقهر من استعلاء المؤمنين به، وهم في عنادهم وكبريائهم يشتطون في الظلم والفساد، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن. فهم خاسرون. وفي الآخرة معذبون بكفرهم به ولجاجهم في الطغيان، فهم خاسرون: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ... ). 3 - وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا: (وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل. ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده في مجاله الذي يدركه. فلا جدوى في الخبط في التيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك وسائل إدراكه. والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسر من أسراره القدسية، أودعه هذا المخلوق البشري .. وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود، والإنسان لا يدبر هذا الكون فطاقاته ليست شاملة، إنما وهب منها بقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض، ويحقق فيها ما شاء الله أن يحققه، في حدود علمه القليل. ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع؛ ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف- الروح- لا يدري ما هو، ولا كيف جاء، ولا كيف يذهب، ولا أين كان ولا أين يكون، إلا ما يخبر به العليم الخبير ... ). ***

فوائد

فوائد: 1 - [أيّ أجناس الخلق أفضل الملائكة أو البشر بمناسبة آية وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ] يثير علماء التفسير سؤالا عند قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ... وهو: أيّ أجناس الخلق أفضل الملائكة أو البشر؟ ومما ذهب إليه العلماء- وهو رأي الجمهور: أن خواصّ البشر- كالمرسلين- أفضل من خواصّ الملائكة، والصدّيقون من البشر أفضل من عوام الملائكة، وخواصّ الملائكة أفضل من عامة البشر، وعامة الملائكة أفضل من عامة البشر من غير الصدّيقين وأمثالهم، فمن باب أولى أن يكونوا أفضل من فسقة المسلمين، وأما الكفرة فهم شر الخلق. فلبعض البشر إذا نوع ميزة على الملائكة. ومن ثم أطلق بعضهم أن جنس البشر هو أكرم الأجناس على الله. قال النسفي في تعليل ذلك: وهذا لأنهم مجبولون على الطاعة، ففيهم عقل بلا شهوة وفي البهائم شهوة بلا عقل، وفي الآدمي كلاهما. فمن غلب عقله شهوته فهو أكرم من الملائكة. ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم ولأنه خلق الكل لهم وخلقهم لنفسه. وذكر ابن كثير أكثر من أثر وحديث في التدليل على هذا المقام، وكلها بمعنى واحد وهذه رواية الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الملائكة قالت: يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها، ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان». 2 - [اتجاهات المفسرين في تفسير آية يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ] رأينا أن هناك أكثر من اتجاه في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ .. فبعضهم فسّر الإمام بكتاب أعمالهم، وبعضهم فسره بأنه الإمام الذي يقتدي به الناس، فكل قوم اقتدوا بواحد فإن هذا الواحد يدعى أولا من هؤلاء القوم، وقد روى البزار حديثا في هذا المعنى. إلا أنه قال لا يروى إلا من هذا الوجه وهذا هو الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمدّ له في جسمه، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه، فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم آتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم، فيقول لهم: أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسودّ وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه، فيقولون: نعوذ بالله من هذا، أو من شر هذا- اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم. فيقولون: اللهم أخره، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا». وقال

3 - اتجاه آخر في تفسير الدلوك عند آية أقم الصلاة لدلوك الشمس

ابن كثير قبل إيراده هذا الحديث: (ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم كما قال تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ (القصص: 41) وفي الصحيحين: تتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت). 3 - [اتجاه آخر في تفسير الدلوك عند آية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] رأينا أن الدلوك في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ هو الزوال وعلى هذا أكثر المفسرين، واختاره ابن جرير، إلا أن هناك من ذهب إلى أن الدلوك هو الغروب إلا أنه قول مرجوح. وقد استشهد ابن جرير على أن الدلوك هو الزوال بحد رواه بأكثر من سند إلى جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس. فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس». 4 - [روايات بمناسبة آية وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً] رأينا أن معنى قوله تعالى: مَشْهُوداً في الآية وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أنه تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وقد ذكرنا في صلب التفسير حديثا رواه البخاري يشهد لهذا التفسير. وابن كثير يذكر في هذا المقام أكثر من أثر وحديث يشهد لهذا. وفي بعضها زيادات. ومن ثم نذكرها قال: وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار». وفي الصحيحين ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم- وهو أعلم بكم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» وقال عبد الله بن مسعود يجتمع الحرسان في صلاة الفجر فيصعد هؤلاء. وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الآية، وروى ابن جرير ... عن أبي الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول: من يستغفرني أغفر له، من يسألني أعطيه، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر فلذلك يقول: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. 5 - [كلام العلماء حول موضوع التهجد] أكثر العلماء، على أن التهجد ما كان بعد نوم، أما القيام فهو ما كان قبل نوم أو بعده، وأكثر العلماء فهموا قوله تعالى: نافِلَةً لَكَ على أن قيام الليل واجب في حقه عليه الصلاة والسلام دون الأمة، قال ابن كثير: رواه العوفي عن ابن عباس، وهو

6 - فائدة حول تفسير المقام المحمود في آية عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا

أحد قولي العلماء، وأحد قولي الشافعي رحمه الله اختاره ابن جرير، وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص؛ لأنه قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه. قاله مجاهد وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. 6 - [فائدة حول تفسير المقام المحمود في آية عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً] رأينا أن تفسير المقام المحمود في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أنه الشفاعة، ولكون بعض الناس زلوا في هذا الموطن، فإن ابن كثير ينقل في تأكيد هذا التفسير، وتأييده، حوالي أربعة صحائف من الأحاديث، كلها تصب في تأكيد هذا المعنى، حتى ليكاد يكون تفسير المقام المحمود بهذا المعنى مجمعا عليه. ومما قال: «حدثنا ابن بشار .... عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة، كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه، ينادى يا محمد فيقول: «لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ومنك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عزّ وجل، وقال ابن عباس هذا المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقاله الحسن البصري، وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قلت: لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد، فهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله، ليأتي بفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعد ما تسأل الناس آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى فكلّ يقول: لست لها، حتى يأتوا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: «أنا لها أنا لها». ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته وهو أول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم. وفي حديث الصور: إن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته، وهو أول داخل إليها، وأمته قبل الأمم كلهم، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم،

7 - روايات بمناسبة آية وقل رب أدخلني مدخل صدق ..

وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، لا تليق إلا له، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك. وبعد هذا الكلام يبدأ ابن كثير في سرد الأحاديث وإذ كان هذا الكتاب يكمله كتاب الأساس في السنة، فلا نرى سرد كل ما ذكره وإنما نكتفي برواية واحدة: قال ابن كثير ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً سئل عنها فقال: «هي الشفاعة». رواه الإمام أحمد ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه». 7 - [روايات بمناسبة آية وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ .. ] وعند قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قال ابن كثير: روى الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً. وقال الترمذى: حسن صحيح، وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليقتلوه، أو يطردوه، أو يوثقوه، فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أن يخرج إلى المدينة فهو الذي قال الله عزّ وجل وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ. الآية وقال قتادة: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يعني مكة. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وقال العوفي عن ابن عباس أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني الموت وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يعني الحياة بعد الموت، وقيل غير ذلك من الأقوال. والأول أصح وهو اختيار ابن جرير. 8 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً] وعند قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال ابن كثير: قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس، وعز فارس، وليجعلنه له، وملك الروم، وعز الروم، وليجعلنه له» وقال قتادة فيها: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، فإن السلطان رحمة من الله، جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم. قال مجاهد: سلطانا

9 - حديثان بمناسبة آية وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا

نصيرا حجة بينة، واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة وهو الأرجح؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه» 9 - [حديثان بمناسبة آية وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً] وبمناسبة قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً يذكر ابن كثير حديثين أحدهما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود وهو: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ. والثاني: رواه أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما يعبدون من دون الله، فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكبت على وجوهها. وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. 10 - [تحقيق المؤلف حول آية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ وسبب نزولها وروايات حولها] وعند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ يذكر ابن كثير سبب نزولها. ثم يذكر أقوال المفسرين في المراد في هذا المقام. ثم ينقل تحقيق السهيلي في الروح هل هي النفس أو غيرها؟ أما أقوال المفسرين فيذكر أن منهم من ذهب بأن المراد في الآية أرواح بني آدم، ومنهم من ذهب إلى أن المراد به جبريل. ثم ذكر قولا ضعفه هو وما استدل عليه به، وهو أن الروح ملك عظيم القدر. ثم يذكر أن السهيلي فسر قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من شرعه، أي فادخلوا فيه، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة، وإنما يقال من جهة الشرع. ثم قال: وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر. أقول: إن هذا الذي سلكه السهيلي لا يفهم من المعنى الحرفي للآية، ولكنه يفهم من السياق. فإذ ذكر الله أن القرآن شفاء، ثم أتبعه بذكر الطبيعة الكافرة. ثم عقّبه بالسؤال عن الروح والجواب. فكأن في ذلك إشارة إلى أن أمر الروح لا يعلمه إلا الله، ولا يعلم ما يصلحه إلا الله. ولنعد إلى كلام ابن كثير لننقل منه فقرتين. الأولى كلامه في أسباب نزول الآية. والثانية ما نقله عن السهيلي: أ- قال ابن كثير في سبب نزول الآية: روى الإمام أحمد .... عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حرث في المدينة، وهو متوكئ على عسيب (جريدة من النخل) فمر بقوم

من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه. قال: فسألوه عن الروح فقالوا: يا محمد، ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. قال: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم ... عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حرث، وهو متوكئ على عسيب، إذ مرّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلنّكم بشيء تكرهونه. فقالوا: سلوه عن الروح فأمسك النبى صلّى الله عليه وسلّم فلم يرد عليهم شيئا فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي. فلما نزل الوحي قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الآية وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي: أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأن تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه وهي هذه الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ومما يدل على نزول هذه الآية. بمكة ما قال الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح. فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. قالوا: أوتينا علما كثيرا. أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا قال: وأنزل الله قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ الآية. وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى عن داود عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الروح. فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية. فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا. وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال: فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ الآية، قال ما أوتيتم من علم، فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. أتاه أحبار

يهود، وقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم عنيت قومك. فقال: «كلّا قد عنيت» فقالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شئ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم». وأنزل الله وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ب- قال ابن كثير: ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهي إما نفس مطمئنة، أو أمّارة بالسوء، قال: كما أن الماء هو حياة الشجر، ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها مصطارا (¬1) أو خمرا، ولا يقال له «ماء» حينئذ إلا على سبيل المجاز، وكذا لا يقال للنفس «روح» إلا على هذا النحو، وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه، فحاصل ما يقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها، ومن اتصالها بالبدن فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن والله أعلم». وبعد: ذكرنا في سياق التفسير حكمة ورود آية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ في المكان الذي جاءت به والآن نضيف بعد ما نقلنا تحقيق السهيلي الذي حبّذه ابن كثير: 1 - أن الروح تمرض ومرضها في أن تصاب بالحسد أو الكبر أو الحقد أو العجب أو غير ذلك من أمراض النفس، وإذا مرضت فإنها تحتاج إلى دواء وطبيب، وقد جعل الله الأدوية كلها في كتابه وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ... فالكلام عن الروح إذن مرتبط بالمرض والشفاء. ومن ثم جاءت في سياقها. 2 - إن شقاء البشر يكمن في نفوسهم، فبقدر ما تطمئن نفوسهم يسعدون. وبقدر ما تتهذب نفوسهم يسعد بعضهم بعضا، ولا تطمئن الأنفس وتتهذب إلا برحمة من الله وهذا القرآن رحمة وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ومن ثم جاءت آية الروح بعد هذا السياق. ¬

_ (¬1) - قال الأزهري: المصطار من أسماء الخمر التي اعتصرت من أبكار العنب بلغة أهل الشام.

كلمة في سياق سورة الإسراء

3 - توجيه السؤال عن الروح إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإحالة علمها إلى الله، ثم مجئ قوله بعد ذلك وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ دليل على أن مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم هو العبودية، وهو الذي بدأت به السورة سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وأنه مبلغ ومأمور، ووقّاف عند ما يحده الله له، وفي ذلك إقامة حجة على كفر من كفر بالقرآن. فمجيء آية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ في هذا السياق فيه من الحكم الكثير مما نعلم ومما لا نعلم. كلمة في سياق سورة الإسراء: تبدأ السورة بذكر آية الإسراء، ثم تتحدث عن إيتاء موسى الكتاب. ثم تتحدث عن عقوبة بني إسرائيل إذ انحرفوا عن الكتاب. ثم تتحدث عن القرآن كنعمة، وعن نعمة الليل والنهار، ثم تأمر وتنهى. ثم تناقش وتقيم الحجة. ثم تتحدث عن النعمة. ثمّ تحذّر وتأمر وتقيم الحجة. فهي بين كلام عن النعمة المعنوية التي هي القرآن والنعمة المادية في هذا الكون وبين الكلام عن كفران هذه أو هذه. وهذا كله يفصل قوله تعالى: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهي تقيم الحجة مرة ومرة ومرة على أن هذا القرآن من عند الله؛ فلها صلة بقوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فالقرآن هو الآية البينة التي لا تعدلها آية فإذا استحق بنو إسرائيل العقاب بالكفران فلتحذر هذه الأمة. والسورة تأمر وتنهى وتوجه وتحذر وتضع الإنسان على الطريق المستقيم فهي تشق الطريق لعملية الدخول في الإسلام كله، واجتناب خطوات الشيطان. إن السورة تذكّر الإنسان بكل لوازم الدخول في الإسلام كله، والاستمرار عليه جميعه على مستوى الأمّة وعلى مستوى الفرد، ولعلّ أبلغ شئ في الدلالة على ارتباط سورة الإسراء بمحورها مجئ قوله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا فالإسلام يجب أن يدخل فيه كله ولا يساوم على جزء منه.

المقطع الرابع ويمتد من الآية (89) إلى نهاية الآية (100) وهذا هو

المقطع الرابع ويمتد من الآية (89) إلى نهاية الآية (100) وهذا هو: 17/ 100 - 89

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي ردّدنا وكرّرنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى هو كالمثل في الحسن والتقريب والإقناع، مبينين لهم الحجج والبراهين القاطعة، موضّحين لمهم الحق، ومبسّطين لهم إياه بصيغة وبأخرى وبأخرى، ومع هذا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للحق وردا للصواب، الموضوع الواحد كرّر عليهم بشكل ثم بشكل ثم بشكل، وفي كل مرّة تقوم الحجة، وتتضح المحجة، وينقطع الجدل بالحق الواضح، ومع ذلك يقابل هذا كله بالجحود، وبدلا من الإسلام والاستسلام للحق الواضح يقترحون الآيات، وما هم بمؤمنين ولو جاءت. ومن ثم عرض الله علينا في هذا السياق ما اقترحه الكافرون- في زعمهم- ليؤمنوا، بعد أن تبيّن إعجاز القرآن، وانضمّت إليه معجزات كثيرة، ولزمتهم الحجة، وغلبوا فعل المبهوت المحجوج المتحير المتكبر، يفر من حجة طالبا غيرها تعجيزا وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أي عينا غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تنقطع أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته، أو مقابلا نراهم ليشهدوا لك، أو جماعة ليشهدوا لك، لم يكتفوا هنا بطلب الملائكة بل يطلبون رؤية الله والملائكة، وأن يسمعوا شهادتهم وشهادته سبحانه وتعالى مباشرة أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي من ذهب أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد إليها وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي ومجرد الصعود لا يكفي لإيماننا، بل لا بد من شئ آخر وهو: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أي كتابا من السماء فيه تصديقك. قال مجاهد فيها: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة (هذا كتاب من الله لفلان بن فلان) تصبح

[سورة الإسراء (17): آية 94]

عند رأسه. أرأيت نمط الذين يرفضون الاهتداء بهذا القرآن ما هو؟ هل تشم منه رائحة منطق أو عقل أو رغبة في حق، ومن ثم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي تعجبا من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي أنا رسول كسائر الرسل، بشر مثلهم، والرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم من المعجزات، فليس أمر الآيات إليّ، إنما هو إلى الله، فما بالكم تطلبونها مني وتقترحونها عليّ. وقال ابن كثير في تفسير ما أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله (أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعّال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم، أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله). وهكذا نرى أن الموانع من الدخول في الإسلام ليست لقصور الحجة ولا لسبب عقلي وإنما هي التعنّت، ومن ثم قال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أكثرهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي يصدقوا ويتابعوا الرسل إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى هدى الله إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي وما منعهم من الإيمان بوحي الله، ونبوة أنبيائه، إلا شبهة أو عقدة تمكنت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر، مع أن هذا لا ينبغي أن يكون مثار اشتباه أو اعتراض، ومن ثم نبّه الله عزّ وجل على أنه من لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم؛ ليفقهوا عنه، ويفهموا منه، ويقتدوا به، ويتمكنوا من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ضمن قوانين هذا العالم التي جعلها الله هكذا لحكمة، ولا الأخذ عنه، ولكانت لهم حجة أن هذا ليس مثلنا، وليس تركيبه كتركيبنا حتى يعالج مشكلاتنا، أو نستطيع فعل ما يفعل. قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ أي على أقدامهم كما يمشي الإنس، ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء؛ فيسمعوا من أهلها، ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنين في الأرض قارّين كما أنتم فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم، أي يعلّمهم الخير ويهديهم إلى الرشد، ولمّا كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفا ورحمة. دلّت الآية على أن سكان الأرض يحتاجون إلى الرسالة، ويحتاجون إلى رسول من جنسهم؛ به تقوم الحجة عليهم، وبه يرتقون. تلك سنته وفيها غاية الحكمة. ثم هذا هو الواقع الذي ابتلى الله به عباده، فليس لأحد إلا التسليم بعد العلم وقد وجد العلم قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على أني رسوله، وعلى أنّي بلّغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم

[سورة الإسراء (17): آية 97]

وعاندتم، ولو لم أكن رسوله لانتقم مني أشد الانتقام. فالتأييد الذي أنا فيه، والقرآن الذي أنزله عليّ دليل إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي إنه كان بكل عباده المنذرين والمنذرين خبيرا أي عالما بأحوالهم، بصيرا بأفعالهم؛ فهو مجازيهم بها، أو إنه كان عليما بالعباد علما كاملا منكشفا فيه كل شئ، مرئيا أصحابه، ومن ثم فهو الأعلم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية، ممّن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة، ولهذا قال: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أى من يوفّقه الله لقبول ما كان من الهدى فهو المهتدي عند الله وَمَنْ يُضْلِلْ أي ومن يخذله ولم يعصمه حتى قبل وساوس الشيطان ورفض الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ والكافرون فى صلفهم وغرورهم وكبريائهم مصرون على الكفر، ومن ثم فهم لا يبالون ألا يهديهم الله، ومن ثم ذكر الله في هذا المقام بما أعد لهم في الآخرة فقال: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ في الصحيحين ومسند الإمام أحمد: قيل يا رسول الله: كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم». عُمْياً أي لا يبصرون وَبُكْماً أي لا ينطقون وَصُمًّا أي لا يسمعون. قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكما وعميا وصمّا عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي منقلبهم ومصيرهم إليها كُلَّما خَبَتْ أي طفئ لهبها. وقال ابن عباس: أي سكنت. زِدْناهُمْ سَعِيراً أي توقّدا ولهبا ووهجا ذلِكَ أي العذاب من حشرهم على العمى والبكم والصمم ودخول النار جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا أي بسبب كفرهم بِآياتِنا أي بأدلتنا وحجتنا واستبعادهم البعث وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أي بالية نخرة أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبّههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك أَوَلَمْ يَرَوْا أي أولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي من الإنس، أو يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدّة مقدرة. لا بد من انقضائها، ومن ثم قال: لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ أي بعد قيام الحجة عليهم إِلَّا كُفُوراً أي جحودا مع وضوح الدليل، وإلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وإذا تذكرنا أن أول المقطع

[سورة الإسراء (17): آية 100]

وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وتذكرنا آخر آية مرت فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً علمنا أن الذين أبوا الاهتداء هم الظالمون، وأنهم أكثر الناس، ورأينا أن المقطع مرتبطة نهاياته ببداياته. والآن ولم يبق عندنا من هذا المقطع إلا آية. فلنتذكر معانيه: هذا القرآن فيه ما تقوم به الحجة، ومع ذلك فإن أكثر الناس يظلمون ويكفرون، ويظهر ظلمهم برفضهم الحجة، وباقتراحاتهم المتعنّتة التي ذكر الله نموذجا عنها، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يردّ عليها: بإعلانه أنّه بشر رسول، إلا أن الله عزّ وجل ذكر أن هذا الإعلان لا ينفعهم، مع أن في هذا الإعلان وحده حجة، وسبب عدم انتفاعهم فيه أنهم- حتى في موضوع بشرية الرسول صلّى الله عليه وسلّم- متعنتون، ويعتبرون بشرية الرسول صلّى الله عليه وسلّم دليلا على بطلان الرسالة، مع أنهم في هذا غير منطقيين مع عقولهم وغير حكماء، وأمام هذا الوضع أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن كفاية شهادة الله على رسالته، وأن الهدى هدى الله، وأن الإضلال إضلاله، وإذ كان هذا الإعلان كذلك لا ينفعهم، ذكّرهم بالمصير الذي أمامهم، الحشر على الوجوه وهم في حالة العمى والبكم والصمم، ثم المقر النار بسبب كفرهم بالآيات- أي بالرسول الذي أنزل عليه الآيات- وبسبب كفرهم باليوم الآخر، ثم أقام عليهم الحجة باليوم الآخر، ومع هذا كله يقرر الله أن الظالمين يأبون إلا الكفور والجحود لنعم الله. والآن تأتي آية أخيرة بها يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم قولا فلنره، ولنر محله في إقامة الحجة وحكمة وروده في هذا السياق: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي رزقه وسائر نعمه على خلقه إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي لبخلتم خشية أن يفنيه الإنفاق وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا. والمعنى: قل يا محمد: لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية أن تذهبوها، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا، ولكن لأن التقتير من طباعكم وسجاياكم، فإن من طبيعتكم البخل والمنع. هذه آخر آية في المقطع، فما محلها في إقامة الحجة وما حكمة مجيئها هنا؟ 1 - الآية أضافت إلى صفة الكفر والظلم صفة أخرى للإنسان وهي البخل الذي هو في

كلمة في السياق: حول صلة المقطع بما سبقه وبمحور السورة

غير محله. وفي هذا لفت نظر للإنسان: أنك أيها الإنسان كما أنك تبخل حيث لا ينبغي البخل، فإنك تكفر وتظلم حيث لا ينبغي الكفر والظلم. 2 - إن الله عزّ وجل من صفاته الكرم، ومن كرمه أنه صرّف في هذا القرآن من كل مثل، وأعطى محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما أعطى، وإذ كانت من صفاتهم البخل لم يتصوروا كيف ينعم الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا الإنعام والإكرام. 3 - تذكيرهم ببخلهم في هذا المقام إنما هو في الوقت نفسه تذكير بكرم الله المطلق الذي ينبغي أن يقابل بالشكر، وإذا بهم يقابلونه بالكفر والظلم، كما أنّه تذكير لهم بحاجتهم إلى هداية الله، كيف وهذه طبيعتهم، وفي الآية مثل، وفي ما سبقها مثل وذلك مناسب لختم المقطع الذي بدايته: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لقد ختم المقطع بالتمثيل لما في هذا القرآن من أمثال. كلمة في السياق: [حول صلة المقطع بما سبقه وبمحور السورة] نلاحظ أنه قد مر معنا في السورة مقطعان، كل منهما مبدوء بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا الأول وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً والثاني وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ونلاحظ أن المقطع الأول أقام الحجة على التوحيد واليوم الآخر. وهذا المقطع أقام الحجة على الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر، وذكر هنا زيادة تفصيل عن حالهم عند الحشر وما هو عذابهم، بينما هناك اكتفى بإقامة الحجة وتقرير الوقوع. هناك قال وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً وهاهنا قال: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ومن ثم نجد نموذجا على التصريف الموجود في هذا القرآن، ونجد نموذجا على وحدة السياق ضمن السورة الواحدة؛ إذ يخدم كل جزء فيها بقية الأجزاء، ونلاحظ أن بين هذين المقطعين: وجد المقطع المبدوء بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ وهذا المقطع ينتهي بقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ والمقطع الموجود في الوسط يتحدث عن مواقف

فائدة: حول سبب نزول قوله تعالى وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا

للكافرين، وهذا المقطع الأخير يتحدث عن مواقف للكافرين، وفي ذلك كله تظهر وحدة السورة، وترابط آياتها وتكاملها. وفي المقطع الوسط يقول تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا وفي هذا المقطع تبيان للحال الذي يكونون فيه عميا وأضل سبيلا، وذلك حين الحشر حيث العمى والبكم والصمم والسير على الوجوه، فأي عمى وضلال أفظع من هذا؟ نسأل الله العافية. فالسورة إذن كما قلنا يخدم بعضها بعضا ووحدتها ظاهرة، ولكنها وحدة لا يحيط بكل أسرار الربط فيها إلا منزلها. فإذا كانت الإحاطة هذا حالها فكيف يستطيع بشر أن يأتي بمثل هذا القرآن؟؟ اللهم اشهد أننا نؤمن أن هذا الكتاب كتابك، فاختم لنا بالعفو والعافية والإيمان. إذا اتضح هذا فلنتساءل عن محل المقطع في السياق القرآني العام: إن المقطع يذكّر بنعمة الله على الإنسان بهذا القرآن، وكونه على ما هو عليه من التصريف من كل مثل، وكيف أن هذه النعمة يستقبلها أكثر الناس بالكفر والظلم، واستحقاقهم الجزاء العادل في الآخرة بسبب ذلك، وفي ذلك تعميق للدخول في الإسلام كله، واجتناب خطوات الشيطان، وكل هذه المعاني تفصيل لمحور هذه السورة في البقرة. والآن يأتي مقطع جديد هو الذي يظهر فيه بشكل أوضح سر ارتباط السورة بمحورها من سورة البقرة، وقبل أن نعرضه نحب أن نذكر فائدة لها علاقة بالمقطع السابق. فائدة: [حول سبب نزول قوله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً] في سبب نزول قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً يذكر ابن كثير ما رواه ابن جرير عن ابن إسحاق. قال: حدثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، ورجلا من بني عبد الدار، وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومنبّها ابني الحجاج السهميين، اجتمعوا، أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه،

فبعثوا إليه: أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصا، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدّين، وسفّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرّقت الجماعة، فما بقي من أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكا، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن: الرئي- فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي ما تقولون. ما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم». أو كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول، حقّ هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك، وصدّقوك صدّقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول! فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بعثت! إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلّغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي

يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ، أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فأسقط السماء، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك؛ فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك إلى الله، إن شاء فعل بكم ذلك» فقالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلّمك هذا رجل باليمامة، يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوّفهم به من العذاب، فو الله لا أو من بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى به، وأنا انظر حتى تأتيها، وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة، يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله، لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك؛ ثم انصرف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا آسفا، لما فاته ممّا كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. قال ابن كثير: وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له، لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرا وعنادا، فقيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن شئت أعطيناهم ما سألوا، فإن كفروا عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة. فقال: بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة، كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس، والزبير بن العوام، أيضا عند قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ... وبعد كلام قال: وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين، فسأل إنظارهم وتأجيلهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده، لا يشرك به شيئا، وكذلك وقع، فإن من هؤلاء

المقطع الخامس ويمتد من الآية (101) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (111) وهذا هو

الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، حتى عبد الله بن أبي أمية، الذي تبع النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال له ما قال، أسلم إسلاما تاما، وأناب إلى الله عزّ وجل. ثم بعد كلام ذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ ربي عزّ وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما- أو نحو ذلك- فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك». *** المقطع الخامس ويمتد من الآية (101) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (111) وهذا هو: 17/ 111 - 101

بين يدي المقطع

بين يدي المقطع: لو عدنا إلى المقطع الأول في هذه السورة، وإلى مقدمة السورة، لوجدنا أنه قد جاء فيهما ما يلي: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ثمّ جاء بعد ذلك كلام عن نوح عليه السلام، وعن بني إسرائيل، ثم جاءت المجموعة الثانية هناك وبدايتها: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وهذا المقطع تجد فيه مجموعتين الأولى وبدايتها: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ والثانية وبدايتها وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وهكذا تجد في كلا المقطعين كلاما عن بني إسرائيل، وما أنزل عليهم، يعقبه كلام عن القرآن، وفي المقطع الأول كلام عن انحراف بني إسرائيل، وما عوقبوا به، وهاهنا كلام عن موقف فرعون من موسى عليه السلام، وما عوقب به، فتذكّر محور السورة في سورة البقرة: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. والملاحظ أنه في المجموعة الأولى من المقطع الأخير جاء نفس التعبير تقريبا: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ. لقد أنزل الله وحيا على بني إسرائيل، وهو آية بل آيات، فبدّلوا وغيّروا؛ فعاقبهم الله عقابا شديدا، وقد أنزل الله على موسى عليه السلام، وبني إسرائيل آيات، وهي نعمة كفر بها فرعون؛ فعوقب عقابا شديدا، إن صلة ذلك بمحور السورة شديد الوضوح.

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الخامس

وقد جاءت آية المحور في سياق قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ ومن ثمّ نجد سورة بني إسرائيل تحدثنا كثيرا عن القرآن والبينات التي جاءت فيه، مبينة لنا ضرورة الاهتداء بالقرآن، محذّرة لنا من كيد الشيطان لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا فهي تدعونا إلى الدخول في الإسلام، وإلى ترك اتباع خطوات الشيطان، مبيّنة لنا النعمة في هذا القرآن، محذّرة لنا أن نبدّل نعمة الله كفرا، منذرة لنا إن فعلنا ذلك، وكل ذلك له صلة بمحور السورة من سورة البقرة، ومن ثمّ نجد هذا المقطع يتألف من مجموعتين: مجموعة تتحدث عما أنزل الله على موسى عليه السلام، ومجموعة تتحدث عن هذا القرآن: تفسير المجموعة الأولى من المقطع الخامس وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي دلائل قاطعات على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. قال ابن كثير: وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي وذكر أقوالا أخرى في هذا المقام. فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ أي فاسأل بني إسرائيل حين جاءهم، وليس الرسول صلّى الله عليه وسلّم بحاجة إلى السؤال والله يعلّمه، ولكن للإشارة أن هذه القضية معلومة لبني إسرائيل، وأن هذه الآيات ظهرت على يد موسى عليه السلام، حين جاءهم موسى وهم في مصر. فماذا كان موقف فرعون من هذا؟ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ مع كل هذه الآيات ومشاهدته لها إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي سحرت فخولط عقلك، أو المراد بالمسحور هنا الساحر قالَ أي موسى عليه السلام، لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما بَصائِرَ أي حججا وأدلة، يرى بها الناس، وترى بها صدق ما جئتك به، وأنت تعلم ذلك، ولكنك معاند وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا. وفي هذا المقام كلام سنذكره في الفوائد فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ بقتلهم واستئصالهم، وأصل الاستفزاز من الأرض الإخراج، والقتل خروج كامل للروح من الأرض فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً في البحر، دلّ ذلك عن أنّ إرادته استفزازهم إنما كان عند لحوقه إياهم، ولم يكن يريد وقت ذلك إلا

[سورة الإسراء (17): آية 104]

قتلهم وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ هل هي من بعد فرعون؟ أو من بعد موسى؟ يحتمل هذا وهذا لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ السياق يقتضي كل الأرض؛ لأن فرعون أراد استفزازهم من كل الأرض بقتلهم، وهذا يشمل سكناهم في فلسطين، ثم سكناهم في الأرض كلها بعد تشتتهم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ هل المراد بها هنا القيامة؟ أو المراد بها المرة الآخرة في الإفساد التي ذكرت في أول السورة بقوله تعالى فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ؟ تحتمل هذه وهذه جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي جميعا إلى الحشر، أو إلى فلسطين ليقع عليكم قضاء الله وقدره في الذبحة الثانية. الآية تحتمل هذا وتحتمل هذا. هذه المجموعة الأولى من المقطع الخامس من هذه السورة. وقد آن أن نقف وقفة طويلة عند السياق بمناسبته: كلمة حول المقطع وسياقه: 1 - رأينا أن محور سورة الإسراء هو قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وقد جاء في هذا المقطع من سورة الإسراء قوله تعالى فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ وذكر الله الآيات. فهذه المجموعة إذن تفصيل لذلك المقام. وفي أول السورة وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ وهي المجموعة التي تحدثت عن عقوبتين لبني إسرائيل؛ لأنهم بدّلوا نعمة الله. وجاءت هذه المجموعة في أواخر السورة وفيها حديث عن موسى وفرعون وبني إسرائيل، وجاء فيما بين ذلك كلام عن القرآن النعمة العظمى على البشرية. وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة، وأخذ عبرة، إذ عرضت المعاني بين مجموعتين من الآيات فيهما كلام عن بني إسرائيل، وعن موسى عليه السلام وفرعون، وذكرت المجموعتان ما عوقب به فرعون إذ رفض، وما عوقب به بنو إسرائيل إذ انحرفوا. فيا هذه الأمة لا تقفي من القرآن كفرعون إذ رفض، ولا تكوني كبني إسرائيل إذ انحرفوا، بل عليك بالإسلام الكامل الشامل. 2 - ما الحكمة في تأخير هذه المجموعة إلى نهاية السورة تقريبا؟ إن المجموعة- بهذا التأخير- قد خدمت مقاطع السورة كلها فهي خدمت المقطع السابق عليها، إذ بينت أن فرعون قد أري أمثال الآيات التي اقترحها المشركون على

المجموعة الثانية من المقطع الخامس

محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومع ذلك لم تنفعه. وخدمت المقطع الذي قبله والذي فيه وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا إذ ضربت مثلا في إهلاك من يستفز الأنبياء فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً بل هي فسّرت الآية الأولى: إذ الاستفزاز هنا هو القتل، فصار معنى تلك الآية: وإنهم كادوا ليقتلونك ليخرجوك من الأرض، وإذن يستأصلهم الله بعدك لو فعلوا. وبهذا التفسير تخرج من أي إشكال يثار كيف أخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة ثم لم يستأصلوا، ولقد أجبنا على هذا الإشكال من قبل. 3 - من خلال الكلام على بني إسرائيل في أول السورة وهنا، ندرك مضمون السورة: بعث موسى عليه السلام بالآيات، فقابله فرعون بالجحود والظلم والرغبة في الاستئصال فهلك. وقبل بنو إسرائيل الهدى فانحرفوا وأفسدوا فعوقبوا. وهذا محمد صلّى الله عليه وسلّم عبد الله ورسوله الذي أكرمه الله بالإسراء وأنزل عليه القرآن. الناس من دعوته أحد اثنين: إما معرض محارب، ومصيره مصير فرعون، وإما مستجيب فعليه أن يأخذ كل الكتاب بقوة، وإلا فمصيره مصير بني إسرائيل في التسليط عليه، فإذا اتضح هذا، يتضح معنا كيف أن السورة تفصّل محورها من سورة البقرة وهو: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فكفر بها فرعون فأهلك وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ كما فعل بنو إسرائيل إذ جاءتهم البينات من معجزات وتوراة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ في الدنيا والآخرة. هذه الآية تخدم الأمر بالدخول في الإسلام كله، واجتناب خطوات الشيطان. وهذه السورة تحذّر المسلمين من اتباع خطوات الشيطان، وتأمرهم بالإسلام والقرآن كله، وإذ كان الهدف هو الدخول في الإسلام كله بالالتزام بالقرآن كله، والإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك مقتضى معرفة الله، ومقتضى شكره. فقد ختمت السورة بمجموعة تضمنت هذه المعاني وأمثالها وهذا تفسيرها: المجموعة الثانية من المقطع الخامس وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي وما أنزلنا هذا القرآن إلا بالحق فهو حق خالص بيّن، ويدعو إلى الحق، ويشتمل على الحق في كل أمر وَبِالْحَقِّ نَزَلَ قال ابن كثير: أي ونزل إليك يا محمد محفوظا محروسا لم يشب بغيره، ولا زيد فيه ولا نقص منه، بل

[سورة الإسراء (17): آية 106]

وصل إليك بالحق، فإنه نزل به شديد القوى، الأمين المكين، المطاع في الملأ الأعلى. وفي الآية كلام سنجده في الفوائد وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين بالجنة، ونذيرا لمن عصاك من الكافرين بالنار وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي فصّلناه، أو فرقنا فيه الحق من الباطل، أو فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرّقا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ثلاث وعشرين سنة تقريبا، ولهذا قال: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ أي لتبلّغه للناس وتتلوه عليهم عَلى مُكْثٍ أي على مهل وتؤدة وتثبّت وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي شيئا بعد شئ على حسب الحوادث، فذلك أقوى في فهمه والعمل به. وإذ تقرر أن هذا القرآن حق خالص وأن من حكمة الله إنزاله مفرقا منجما، يأمر الله عزّ وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول ثلاثة أقوال: 1 - قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي اختاروا الإيمان وما يترتب عليه، أو غيره وما يترتب عليه، فإيمانكم ينفعكم، وكفركم لا يضره، ويضركم، فسواء آمنتم به أم لا، فهو حق في نفسه، أنزله الله، ونوّه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله، ومن ثم ذكر عن العلماء بالكتب السابقة كيف يكون موقفهم منه وهو الموقف الإيماني الصحيح إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من صالحي أهل الكتاب، الذين تمسّكوا بكتابهم، ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرّفوه إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ أي القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً الخرور: السقوط، والذقن: أسفل الوجه، وخصت الذقن بالذكر، لأن أقرب الأشياء عند الخرور إلى الأرض للسجود الذقن وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أي تعظيما له وتوقيرا على قدرته التامة إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي إنه كان وعد ربنا على ألسنة الأنبياء المتقدمين لمفعولا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ أي خضوعا لله عزّ وجل، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن خُشُوعاً أي إيمانا وتسليما، ولين قلب ورطوبة عين. هذه هي حال أهل الإيمان من هذا الكتاب: خضوع وخشوع وتسليم وإيمان ويقين، فليت شعري كيف صار الحال من بعد؟ تمرد واحتقار وازدراء، وكم نستأهل من العقاب؟ 2 - قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الدعاء هنا بمعنى التسمية أَيًّا ما تَدْعُوا أي أيّ هذين الاسمين ذكرتم وسميتم فلا فرق إذ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي فإنه ذو الأسماء الحسنى، أي ما تدعون به من الاسمين فهو حسن، لأن كل الأسماء الحسنى له،

[سورة الإسراء (17): آية 111]

فإذا حسنت أسماؤه كلها، حسن هذان الاسمان لأنهما منها، والحسنى: تأنيث الأحسن، ومعنى كون أسمائه أحسن الأسماء: أنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ حتى لا يسمعها المشركون فيسبّوا وَلا تُخافِتْ بِها بحيث لا تسمع من خلفك وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أي بين الجهر والمخافتة سَبِيلًا وسطا، وفي الآية كلام كثير سنراه في الفوائد، والآية تعلّم حملة الحق ألا يبقوا حجة للكافرين إلا ويقابلوها بتصرف مناسب، وأن يحسنوا الأداء، بما يستمر به نفع المسلمين، وتخفيف شر الكافرين. ثم لما أثبت الله تعالى لذاته الأسماء الحسنى، ختم السورة بالأمر بحمده وتنزيهه وتعظيمه في آية سماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آية العز: 3 - وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم اليهود والنصارى وغيرهم وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما زعم المشركون وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر، أو يوال أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي وعظّمه تعظيما باتباع شرعه، والخضوع لأحكامه، والقيام بواجب العبودية له. وهكذا ختمت السورة بمجموعة تقرّر فيها أن القرآن حق، وأن الموقف الصحيح منه هو الخشوع والخضوع والتسليم، وأن لله الأسماء الحسنى، وأنّه تقدّس عن النقائص، وإذ كان كذلك فإن الالتزام بشرعه لصالح الملتزم. ولنلاحظ أن السورة بدأت بالتسبيح، واختتمت بالحمد، وأن السورة التي بعدها مبدوءة بالحمد، فكأنها استمرار لسورة الإسراء. والصلة بين هذا المقطع، وبقية السورة واضحة، والصلة بين المقطع والدخول في الإسلام كله واضحة. إن في الترغيب؛ إذ وصف القرآن بالحق، أو بالتذكير بالموقف الصحيح من القرآن، أو بالتذكير بما لله من جلال وكمال، أو بالأمر بتطبيق عملي هو جزء من الإسلام، فلنر فوائد المقطع الخامس ثم نختم الكلام عن السورة بكلمة عنها. فوائد: 1 - [تعليق على أقوال الفقهاء في تفسير التسع آيات التي آتاها الله موسى بمناسبة الآية (101)] عند قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ .. ذكر ابن كثير أقوال الأئمة في تفسير التسع آيات، وقد ذكرنا الرأي الذي يرجحه في صلب التفسير

2 - كلام صاحب الظلال عند قوله تعالى وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ..

قال: فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا، وهي المعيّنة في قوله تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ- إلى قوله- فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (النحل: 10 - 12) فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبيّن الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصّلها، وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة، منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر هاهنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها، وعاندوها؛ كفرا وجحودا. روى الإمام أحمد .. عن صفوان بن عسّال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال: لا تقل له نبي، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين، فسألاه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة- أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك- وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي قال: «فما يمنعكم أن تتبعاني؟» قالا: لأن داود عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. وهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة في حفظه شئ، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة، لا تعلّق لها بقيام الحجة على فرعون والله أعلم. ثم بعد كلام قال: وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة، فإن له بعض ما ينكر والله أعلم، ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات، فاشتبه على الراوي الآيات، فحصل وهم في ذلك، والله أعلم. 2 - [كلام صاحب الظلال عند قوله تعالى وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ .. ] في قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا قال صاحب الظلال:

3 - سبب نزول آية قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن .. وآية ولا تجهر بصلاتك ..

(لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة. ويقيم لها نظاما، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقا وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى. والتربية تتم في الزمن الطويل، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل. جاء ليكون منهجا عمليا يتحقق جزءا جزءا في مرحلة الإعداد، لا فقها نظريا ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني. وتلك حكمة نزوله متفرقا .... ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى. تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي، وكلما تلقوا منه أدبا أو فريضة. ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير. فتكيّفوا به في حياتهم اليومية. تكيّفوا به في مشاعرهم وضمائرهم، وفي سلوكهم ونشاطهم. وفي بيوتهم ومعاشهم. فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه، ومما عرفوه، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. ولقد أنزل الله هذا القرآن قائما على الحق: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ فالحق مادته، والحق غايته. ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه. الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود والذي خلق الله السموات والأرض قائمين به، متلبسا بهما، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه. فالحق سداه ولحمته، والحق مادته وغايته. والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذى جاء به). 3 - [سبب نزول آية قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ .. وآية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يذكر ابن كثير ما رواه مكحول أن رجلا من المشركين سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول في سجوده: «يا رحمن يا رحيم» فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية. وفي سبب نزول قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ

سَبِيلًا يروي الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوار في مكة وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أيّ ذلك شاء. وقال محمد بن إسحاق: عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرّقوا عنه، وأبوا أن يسمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض ما يتلوه وهو يصلي استرق السمع دونهم؛ فرقا منهم، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع، ذهب خشية أذاهم فلم يسمع، فإن خفض صوته صلّى الله عليه وسلّم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيتفرقوا عنك وَلا تُخافِتْ بِها فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم، فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. وروى ابن جرير بسنده عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلّى فقرأ خفض صوته، وأن عمر كان يرفع صوته، فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجي ربي عزّ وجل، وقد علم حاجتي، فقيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، قيل: أحسنت فلما نزلت وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. قيل لأبي بكر ارفع شيئا، وقيل لعمر اخفض شيئا. وفي الآية أقوال أخرى: بعضهم قال إنها نزلت في الدعاء، وبعضهم قال: إنها في التشهد، وبعضهم قال معناه: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس، وبعضهم قال: لا تحسن علانيتها وتسئ سريرتها، وبعضهم قال: لا تجهر بالصلاة مثل أهل الكتاب إذ يخافتون، ثم يصيح أحدهم فيصيحون، ثم يعودون إلى المخافتة.

4 - سبب نزول قوله تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ..

أقول: والآية تربي المسلمين على ملاحقة الشبهة والتصرف حيالها، كما تربيهم على حسن التطبيق بما يناسب الحال. 4 - [سبب نزول قوله تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً .. ] وفي سبب نزول قوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً .. قال ابن كثير ناقلا عن القرظي: إن اليهود والنّصارى قالوا: اتخذ الله ولدا، وقالت العرب: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وقال الصابئون: لولا أولياء الله لذلّ فأنزل الله هذه الآية: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وفي فضل هذه الآية نقل ابن جرير عن قتادة قال: «ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعلّم أهله هذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً .. الآية الصغير من أهله والكبير» قال ابن كثير: «وقد جاء في حديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمّى هذه الآية آية العزّ، وفي بعض الآثار أنها ما قرئت في بيت ليلة فيصيبه سرق أو آفة والله أعلم». كلمة في سورة الإسراء: هذه السورة تربي أمة، وتعطي العبرة من أمة، وتتحدث عن قبلتين للأمة التي ورثت القبلتين ببركة بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم. تبدأ السورة بقوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. هذه المقدمة سارية المعنى في السورة كلها، فالإيمان بعبد الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وبما أنزل عليه، والالتزام به، والاعتراف لله تعالى بالعبودية الكاملة، والكلام عمّن أعطوا المسجد الأقصى قديما فأفسدوا وطغوا وعاقبة ذلك. وتنزيه الله عزّ وجل عما يقوله الكافرون والمشركون، وتنزيه الله عزّ وجل بالسلوك العملي للمسلم، كلها معان يجدها الإنسان في السورة. وإذ تبدأ السورة هذه البداية ثم تجد فيها أوامر كثيرة موجّهة إلى رسول الله- عبد الله حقا- صلّى الله عليه وسلّم تستشعر أن تنفيذ هذه الأوامر هو الشكر الذي يقابل النعمة العظيمة ولذا ترى أنّ آخر آية في السورة تقول: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً فكل خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السورة إنما هو تحقيق لمقام العبودية وأداء لواجب الشكر.

ثم تقول السورة: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا* ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً* وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ. أنزل الله كتابا على موسى عليه السلام، جعل فيه الهدى، وطالب بني إسرائيل بالشكر، فأفسدوا فسلّط عليهم، فيا هذه الأمة: لقد أنزل الله عليك الكتاب، وجعله هاديا، فإياك أن تنحرفي. هذا هو الدرس الأول. وإذ يستقر هذا فإن الله عزّ وجل يحدّث هذه الأمة عن خصائص كتابه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا .. وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ... فهذه خصائص للقرآن، يتحدث عنها السياق، وفي كل مرة يتحدث عن خصيصة من خصائص القرآن نجد أن السياق يبرهن عمليا على وجود هذه الخصيصة. فالبشرية عامة، والعرب خاصة، تمت عليهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن النعمة. فالناس قسمان: إما مستجيب، وإما رافض. أما الرافض فإقامة حجة عليه، وإنذار له، ومناقشة لكل كلمة يقولها، وأما المستجيب فتربية له، وتوجيه مباشر وغير مباشر. والضالون نوعان: منحرف، ورافض، وفي السورة درسان: درس للمنحرف، ودرس للرافض. وما بينهما كلام لهذه الأمة عن خصائص القرآن، ومناقشة للمواقف منه في ظلال الدرسين، وكل ذلك يخدم موضوع الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان، إما بشكل مباشر، وإما بشكل غير مباشر. وأهم ما يخدم موضوع الدخول في الإسلام كله بشكل مباشر الآيات وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ .. وقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا* وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً. ومن أهم الملاحظات أن نلاحظ أن سورة الإسراء انتهت بقوله تعالى: وَقُلِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وأن السورة التي تأتي بعدها وهي سورة الكهف تبدأ بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً .. فإنك تلاحظ أن سورة الكهف تبدأ بذكر الحمد، وتبدأ بمعان موجودة في الآية الأخيرة من سورة الإسراء، فهي تبني على سورة الإسراء، وكلا السورتين مذكور في الآية الأولى منها كلمة «عبده». فالسورتان، وسورة مريم بعدهما، وسورة النحل، والحجر قبلهما، تشكل مجموعة واحدة تخدم معنى متكاملا. وبعد: فإننا نترك سورة الإسراء ولم نشعر أننا بلغنا إلى ما نريد من عرض لوحدة سياقها، وصلة مقدمتها بخاتمتها، كما لم نبلغ إلى ما نريد في تبيان صلتها بمحورها من سورة البقرة غير أننا نحسب أنه قد وضح أن في السورة ذكرا لنعم الله المادية والمعنوية، وتهديدا لمن لم يشكر، وتهديدا لمن بدّل وغيّر وانحرف. كما وضح أن في السورة عرضا لما أنزل على بني إسرائيل، وكيف عوقب من كفر هذه النعمة وبدّلها. كما وضح أنّ في السورة توضيحا لخطوات الشيطان التي ينبغي ألا تسلك. كما وضحت ضرورة الالتزام بالقرآن كله، فإذا كانت هذه الأمور قد وضحت، فحسبنا هي في إقامة الدليل على أن هذه السورة مرتبطة بالمحور الذي ذكرناه من سورة البقرة، وقد آن الأوان لننتقل إلى سورة الكهف:

سورة الكهف

سورة الكهف وهي السّورة الثامنة عشرة بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الرابعة من المجموعة الثانية من قسم المئين وآياتها مائة وعشرة آيات وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الكهف

قال الألوسي في تقديمه لسورة الكهف: (ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه وهي مكية كلها في المشهور، واختاره الداني، وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما، وعدّها بعضهم من السور التي نزلت جملة؛ لما أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت سورة الكهف جملة، معها سبعون ألفا من الملائكة»، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخرها فمدني، وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين، ومائة وعشرة عند الكوفيين، ومائة وست عند الشاميين، ومائة وخمس عند الحجازيين، ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل: افتتاح تلك بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ* فسبحان الله وبحمده، وأيضا تشابه اختتام تلك، وافتتاح هذه، فإن في كل منهما حمدا، نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر في الحمد الذاتي، والحمد المفتتح به في هذه يدل على الاستحقاق غير الذاتي، وقال الجلال السيوطي في ذلك: إن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى، وجواب السؤالين الآخرين في هذه، فناسب اتصالهما، ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان، فناسب أن يذكر وحده في سورة، واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأنّ كلّا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول، وقيل: إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع، والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل، ولذا قال ابن سينا فيها: هبطت إليك من المحل الأرفع … ورقاء ذات تعزز وتمنع ثم قال: ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا والخطاب لليهود، استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سببها ذكر العلم والأعلم، وما دلت عليه من كثرة معلومات الله تعالى التي لا تحصى، فكانت هذه السورة كإقامة الدليل، لما ذكر من الحكم في تلك السورة، وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قال اليهود: قد أوتينا التوراة فيها علم كل شئ فنزل قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ

"ذكر ما ورد في فضلها""والعشر الآيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال".

رَبِّي الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا على شبهة الخصوم فيما قرّر في تلك. اهـ. وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل) وأما فضلها فمشهور. وقد بدأ ابن كثير الكلام عن سورة الكهف بهذا الفصل: «ذكر ما ورد في فضلها» «والعشر الآيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال». (روى الإمام أحمد .. عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزل عند القرآن، أو تنزلت للقرآن». أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به، وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن حضير. وروى الإمام أحمد .. عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال». رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به؛ ولفظ الترمذي «من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف». وقال حسن صحيح. (طريق أخرى) روى الإمام أحمد .. عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» رواه مسلم أيضا والنسائي من حديث قتادة به، ولفظ النسائي «من قرأ عشر آيات من الكهف» فذكره. روى النسائي .. عن ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف فإنه عصمة له من الدجال». وروى الإمام أحمد .. عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض». وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه .. عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه، إلى عنان السماء، يضئ له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين». وروى الإمام سعيد بن منصور في سننه .. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق.

وأخرج الحاكم في مستدركه .. عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين». وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نورا يوم القيامة». وهكذا روى الحافظ الضياء المقدسي بسنده عن عليّ مرفوعا: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال عصم منه»). اهـ. كلام ابن كثير. ويتساءل الأستاذ الندوي في رسالته (تأملات في سورة الكهف) عن السّر في أن هذه السورة أو بعضا منها يعصم من الدجال ويجيب على ذلك وهذا كلامه: (وتساءلت ماذا في هذه السورة من المعاني والحقائق والتنبيهات والزواجر، ما يعصم من هذه الفتنة التي استعاذ منها النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا، وحث أمته على الاستعاذة منها حثا شديدا، والتي هي الفتنة الكبرى الأخيرة، التي قال عنها: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال». ولماذا خصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وهو أعرف خلق الله بكتاب الله وأسراره وعلومه- هذه السورة الكريمة من بين سور القرآن؟ ورأيت نفسي تتوق إلى معرفة سرّ هذا التخصيص، والصلة المعنوية بينها وبين هذه العصمة، التي أخبر بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ففي القرآن سور من القصار المفصّل، وسور من الطوال، عدل عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم واقتنعت إجمالا، بأن هذه السورة، هي السورة القرآنية الفريدة، التي تحتوي على أكبر مادة وأغزرها فيما يتصل بفتن العهد الأخير التي يتزعمها الدجّال، ويتولى كبرها ويحمل رايتها، وتحتوي على أكبر مقدار من الترياق الذي يدفع سموم الدجّال ويبرئ منها، وأن من يتشرّب معاني هذه السورة ويمتلئ بها- وهو نتيجة الحفظ والإكثار من القراءة في عامة الأحوال- يعتصم من هذه الفتنة المقيمة المقعدة للعالم، ويفلت من الوقوع في شباكها، وأن في هذه السورة الكريمة من التوجيهات والإرشادات، والأمثال والحكايات، ما يبين الدجّال ويشخّصه في كل زمان ومكان، وما يوضّح الأساس الذي تقوم عليه فتنته ودعوته، وتهيئ العقول والنفوس لمحاربة هذه الفتنة ومقاومتها، والتمرد عليها، وإن فيها روحا تعارض التدجيل وزعماءه، ومنهج تفكيرهم، وخطة حياتهم في وضوح وقوة).

سبب نزول سورة الكهف

سبب نزول سورة الكهف: قال ابن كثير: وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر، قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفوا لهم أمره، وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخبركم غدا عما سألتم عنه، ولم يستثن، (أي لم يقل إن شاء الله) فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عزّ وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطوّاف وقول الله عزّ وجل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ؟ قُلِ الرُّوحُ الآية أقول: إذا صحّ أنّ قصة أصحاب الكهف قصة لمجموعة من أتباع المسيح عليه السلام، فإنّه من المستغرب أن يكون اليهود هم الذين دفعوا للسؤال عنهم، وفي حالة صحة أنهم من أتباع المسيح عليه السلام، وإذا صح أصل الرواية التي ذكرها ابن إسحاق، فلا يبعد أن يكون هناك شئ من الوهم، فليس بعيدا أن تكون قريش سألت أهل الكتاب يهودا ونصارى، وكلهم دلّه على سؤال، أو أنهم

كلمة في سورة الكهف ومحورها

سألوا النصارى فدلوهم على هذه الأسئلة، واختلط الأمر على الراوي، وعلى كل فإنّ الذي روى عنه ابن إسحاق شيخ مجهول وهذا يؤثر على قوة الرواية. كلمة في سورة الكهف ومحورها: رأينا أن سورة الحجر، والنحل، والإسراء، والكهف، ومريم، تشكل مجموعة هي المجموعة الثانية في القسم الثاني من أقسام القرآن. ورأينا أن سورة الحجر تكاد تكون مقدّمة للسور الأربع اللاحقة، وأن السور الأربع اللاحقة تغطي أربع آيات من سورة البقرة هي: الآيات الآتية في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فسورة النحل غطّت الآية الآتية مباشرة بعد هاتين الآيتين وهي: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. فقد فصّلت هذا المقام بما يخدم موضوع الدخول في الإسلام كله. وسورة الإسراء غطّت قوله تعالى في الآية اللاحقة: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. فقد فصّلت هذا المقام بما يخدم موضوع الدخول في الإسلام كله، والآن تأتي سورة الكهف لتغطي الآية اللاحقة وهي: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. إنّ ما يحرف الناس عن الدخول في الإسلام كله، وما يدفعهم لاتّباع خطوات الشيطان، هو زينة الحياة الدنيا، وزهدهم في الآخرة، وانتقاصهم لأهلها؛ بسبب غفلتهم عن الله، وأنّه وحده هو الرزاق. هذا المعنى الذي تعرّضت له الآية، خادمة به موضوع الدخول في الإسلام كله، هو الذي تفصّله سورة الكهف وتغطيه، بما يخدم الاستسلام لله، واجتناب خطوات الشيطان، بأسلوب عجيب، هو وحده آية على أن هذا القرآن من عند الله، فكيف إذا كان في هذا القرآن من نواحي العجب والإعجاز ما لا يتناهى. نسأل الله ألا يعمي قلوبنا. وإذ كانت زينة الحياة الدنيا هي أخطر صارف عن الدخول في الإسلام، وإذ كانت سورة الكهف تعالجها بطريقة مدهشة مربية وموجهة ومقنعة، فقد سنّ للمسلمين

من كلام الأستاذ الندوي في السورة

قراءتها كل جمعة، وحفظ أولها وآخرها، وتلاوته يوميا، فلنحاول أن نفهمها حقّ الفهم. ولنلاحظ منذ الابتداء: أن القسم الأول من السورة يخدم بشكل مباشر قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وأن القسم الثاني منها المتمثل بقصة موسى والخضر وذي القرنين عليهم السلام: يخدم بشكل مباشر قوله تعالى في سورة البقرة: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. ثم القسم الثاني يخدم القسم الأول بشكل مباشر، والجميع يخدمون موضوع الاستسلام لله، وترك اتباع خطوات الشيطان. من كلام الأستاذ الندوي في السورة: قال الأستاد الندوي: (ووجدت السورة كلها خاضعة لموضوع واحد، أستطيع أن أسميه «بين الإيمان والمادية» ووجدت جميع الإشارات أو الحكايات، أو المواعظ والأمثال دائرة حول هذا المعنى، تشير إليه من طريق جلي، أو تنظر إليه من طرف خفي. واغتبطت بهذا الفتح، وانكشف لي جانب جديد من إعجاز القرآن، ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فما كنت أعرف أن هذا الكتاب الذي نزل في القرن السادس المسيحي- يعني قبل ثلاثة عشر قرنا وزيادة- يحمل صورة صادقة ناطقة بهذه المدنية الداجلة التي تولدت في القرن السابع عشر المسيحي، واختمرت في القرن العشرين». تتألف السورة من مقدمة وست مقاطع وها نحن نبدأ عرضها: ***

مقدمة السورة تبدأ السورة بمقدمة هي ثمان آيات. وهذه هي

مقدمة السورة تبدأ السورة بمقدمة هي ثمان آيات. وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 18/ 8 - 1 التفسير: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد عليه الصلاة والسلام الْكِتابَ أي القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي اعوجاجا، فلا اختلاف في معانيه، ولا تناقض، ولا يخرج شئ منه عن الحكمة ولا زيغ ولا ميل بل جعله قَيِّماً أي مستقيما، بعد أن نفى عنه العوج أثبت له الاستقامة تأكيدا، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند التصفح، ويحتمل أن يراد بالقيم علوه على سائر الكتب، من حيث كونه مصدقا لها شاهدا بصحتها له فضل عليها بالإعجاز والمعاني، حمد الله تعالى نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، ولقّن الله بذلك عباده وفقّههم كيف يثنون عليه، ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم، وهي نعمة الإسلام،

[سورة الكهف (18): آية 3]

وما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم. وبعد أن وصف كتابه بالاستقامة الكاملة ذكر الحكمة في إنزاله وهي التبشير والإنذار فقال لِيُنْذِرَ الكافرين بَأْساً عذابا شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عنده، فالله بهذا القرآن ينذر من خالفه وكذّبه بالعقوبة العاجلة في الدنيا، والآجلة في الأخرى، عقوبة من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي ويبشّر الله الذين جمعوا الإيمان والعمل الصالح بهذا القرآن أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً أي مثوبة عند الله جميلة وهي الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أي في ثوابهم عند الله وهو الجنة خالدين فيه أَبَداً أي دائما لا زوال له ولا انقطاع. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً من مشركي العرب الذين قالوا عن الملائكة إنهم بنات الله، وغيرهم كالنصارى ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه وَلا لِآبائِهِمْ أي لأسلافهم الذين قلّدوهم يعني: أن قولهم بالولد أو باتخاذه لم يصدر عن علم، ولكن عن جهل مفرط، وانتفاء العلم بالشئ إما للجهل بالطريق الموصل إليه، أو لأنه في نفسه محال، واتخاذ الله ولدا محال ولا طريق عقليا يوصل إليه أصلا كَبُرَتْ كَلِمَةً أي ما أفظعها كلمة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وهذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم إذ اجترءوا على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوهوا به، بل يكظمون عليه، فكيف بمثل هذا المنكر؟ والتعبير يفيد أن هذا القول ليس له مستند سوى قولهم، ولا دليل عليه إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي إلا قولا كذبا فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتل نفسك عَلى آثارِهِمْ أي على آثار الكفار، شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما تداخله من الأسف على توليهم، برجل فارقه أنيسه، فهو يتساقط حسرات على آثارهم، ويبخع نفسه وحيدا عليهم، وتلهفا على فراقهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي القرآن أَسَفاً الأسف: فرط الحزن والغضب. والمعنى: لا تهلك نفسك أسفا عليهم بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. ثم أخير تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار فقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من زخارف ومستحسنات ومستلذات زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي لنختبرهم بذلك والناجح هو الأحسن عملا، والراسب هو الأسوأ عملا. ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها

كلمة في السياق: حول صلة مقدمة السورة بالمحور وبقصة أصحاب الكهف

وخرابها ليزهّد في الميل إليها، وليبعد عن الرسوب بسببها. فقال وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها من هذه الزينة صَعِيداً أي أرضا ملساء جُرُزاً أي يابسا لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة. والمعنى: يعيدها بعد عمارتها خرابا بإماتة الحيوان، وتجفيف النبات والأشجار، وغير ذلك، أي وإنا لمصيّروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شئ عليها هالكا صعيدا لا ينبت ولا ينتفع به. كلمة في السياق: [حول صلة مقدمة السورة بالمحور وبقصة أصحاب الكهف] بدأت السورة بالحمد، ووصفت الكتاب ببعض أوصافه، وعللت حكمة إنزاله وهي التبشير والإنذار، وخصّت المتخذين لله ولدا بإنذار خاص، ثم نهت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن على من لم يؤمن، ثم ذكّرت بحكمة تزيين الحياة الدنيا، وأن ذلك للاختبار، وأن الرسوب والسقوط هو في حسن العمل وسوئه. ثم بيّنت مآل الحياة الدنيا. فإذا تذكرنا أن محور السورة هو قوله تعالى من سورة البقرة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وأن هذا المحور آت في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، واجتناب خطوات الشيطان. إذا تذكّرنا هذا ندرك أن مقدّمه سورة الكهف التي مرّت معنا تناسب هذا كله، وقد أوصلت المقدمة إلى حكمة تزيين الحياة الدنيا وهي الاختبار، فإذ يقول الله في سورة البقرة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا ... نفهم أنّه من السقوط أن تكون الحياة الدنيا مزيّنة لإنسان. ولذلك فسّر النسفي أن حسن العمل الذي هو علامة النجاح في الاختبار هو: (الزهد فيها وترك الاغترار بها). ومن ثم نعلم من المقدمة أن الإيمان والعمل الصالح، والزهد في الدنيا من معالم الإسلام، وأن اتباع القرآن كله هو الاستقامة وهو الإسلام، وأن من خطوات الشيطان الكفر ونسبة الولد إليه، وتزيين الحياة الدنيا. وبعد هذه المقدمة تأتي قصة أهل الكهف. فما الصلة بينها وبين ما قبلها وبين السياق العام؟ 1 - لقد قص الله علينا حكمة الإعثار على أهل الكهف فقال: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها فالحكمة في حادثة أهل الكهف التدليل على البعث بعد الموت، فإذ كانت الآخرة حقا فزينة الحياة الدنيا لا قيمة

لها، وينبغي أن ينجح المسلمون في الاختبار، فالقصة نموذج على نجاح مجموعة في اختبار الحياة الدنيا هم الفتية. 2 - إذا تذكرنا محور السورة من البقرة: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا نلاحظ أن قصة أهل الكهف تحدد لنا نوعا من مواقف الكافرين من المؤمنين وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وفي قصة أهل الكهف نوع فوقية لأهل الإيمان على أهل الكفر وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وفي قصة أهل الكهف ذكر نوع من رزق الله عباده وهو الهداية والرحمة. 3 - وإذا تذكّرنا أن آية المحور واردة في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، فإن قصة أهل الكهف نموذج على نوع من الدخول في الإسلام كله، باعتزال الكفر وأهله إذا لم يكن أمن على إيمان وإسلام. إذ المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما جاء في الحديث: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن». قال ابن كثير: ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع. فقصة أهل الكهف تخدم سياق السورة، والسياق الكلي للقرآن بشكل واضح، وأثناء الكلام عن تفسير القصة سنرى بعض الأمور المتعلقة بالسياق. ونلاحظ أنه بعد ذكر قصة أهل الكهف تأتي مجموعة أوامر ونواه، وتقريرات تبني على قصة أهل الكهف، وهي مرتبطة بمقدمة سورة الكهف، كما هي مرتبطة بمحور سورة الكهف من سورة البقرة. رأينا أن للآيات الأولى والأخيرة من سورة الكهف صلة بالعصمة من الدّجال الذي يعتبر الأستاذ الندوي أن قيم الحضارة الحالية تشبه القيم الدجالية، ومن ثمّ يتحدث عن هذه الحضارة ومرتكزاتها، وعن محلّ هذه الآيات في وصفها والعلاج منها، قال الأستاذ النّدوي: (مفتاح شخصية الدجّال الذي تفتح به أغلاقها، وتعرف به أعماقها، وتتميز به عن سائر دعاة الشر والإفساد، والكفر والإلحاد، هو لقب «الدجّال» الذي غلب عليه، فهو شعاره الذي يعرف به، والدجل والتدجيل، هو القطب الذي تدور حوله شخصيته، ودعواته، وأعماله، وتصرفاته. وقد اتسمت الحضارة المادية في العهد الأخير بالتدجيل في كل شئ، والتلبيس على

الناس، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وتمويه الحقائق، وإطلاق الأسماء البراقة الخلابة للعقول على غير مسمياتها، وبكثرة الاختلاف بين الظاهر والباطن، والأول والآخر، والنظريات العلمية، والتجارب العملية، وهذا شأن الشعارات والفلسفات، التي حلت محل الأديان، وسحرت النفوس والعقول، والكلمات التي أحاطت بها هالات التقديس والتمجيد، وحل حبها، واحترامها في قرارة النفوس، وحبات القلوب، وأصبح الشك في قدسها، أو النقاش في كرامتها، ومكانتها علامة للرجعية وإنكارا للبداهة، والمشهود المحسوس، وقد التبس الأمر بذلك على كبار الأذكياء، ونوابغ العلماء، فأصبحوا يتغنون بهذه الشعارات والفلسفات، ويدعون إليها في إيمان وحماس، من غير تمحيص لنية أصحابها وإخلاصهم، أو شجاعة في تحديد نجاحها وإخفاقها في مجال العمل والتطبيق والمقارنة الصحيحة المحايدة، بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة وبين ما خسرته من سلطان هذه الشعارات وتحت رايتها، من السعادة الحقيقية والحقوق الفطرية، وهذا كله من قوة التدجيل وسحره، وقد سرت هذه الروح «الدجلية المدلسة» في هذه الحضارة، لسيرها على خط معارض لخط النبوة: الإيمان بالآخرة، والإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر الكون، وقدرته المطلقة، واحترام شريعته وتعاليمه، والاعتماد الزائد على الحواس الظاهرة والشغف الزائد، بما يعود على الإنسان باللذة البدنية والمنفعة العاجلة، والغلبة الظاهرة، وهي النقطة التي تدور حولها سورة الكهف، وما جاء فيها من قصص وعبر. وقد كان مع الأسف للمسيحية المحرّفة، وهي التي قادت الحضارة في أوربا بعد القرون الوسطى في العالم المتمدن، ولليهودية الثائرة الموتورة دور متشابه- رغم الخلاف الجذري في العقيدة- في توجيه المدنية إلى المادية الرعناء، المجردة من الروح وتعاليم الأنبياء، والتأثير في مصير الإنسانية على حد سواء، فقد بدأت الشعوب المسيحية التي تحررت من رق الكنيسة والبابوات، وضعفت صلتها- إذا لم نقل تقطعت كليّا- بالمسيحية السمحة، المؤسسة على التوحيد الخالص، فاتجهت اتجاها ماديا عنيفا، أصبح يهدد العالم، ومصير الإنسانية بالاكتشافات العلمية الحديثة، والمخترعات المدمرة المبيدة، وفقدان التوازن بين العلم والعاطفة والعقل والضمير، والصناعة والأخلاق. وقد ساهم اليهود في العهد الأخير- لأسباب يعود بعضها إلى خصائص النسل والدم، وبعضها إلى التعليم والتربية، وبعضها إلى الغايات السياسية، والمشاريع القومية- بأكبر قسط في العلم والفن، والاكتشافات والاختراع، وفي السيطرة على

هذه الحضارة، وتملك زمامها، وتوجيهها في صالحهم، والتأثير في الأدب والتربية، والسياسة والفلسفة، والتجارة والصحافة، ووسائل التوعية والإعلام، حتى أصبحوا العنصر الفعال الرئيسي في قيادة الحضارة الغربية التي ظهرت في بيئة مسيحية، وفي حضانة شعوب آمنت بالمسيح، واحتضنت اسمه هذا العهد الطويل، ويبدو للناظر المتعمق في الحوادث الأخيرة، والمطّلع على مدى نفوذ اليهودية العالمية في المجتمع الغربي، أن هذه الحضارة وما تحوي عليه من علم وفن، ستبلغ نهايتها السلبية، وتصل إلى ذروتها في قوة التدمير، والهدم والإفساد، والتلبيس والتدجيل، على أيدي اليهود الذين مكّن لهم الغرب المسيحي- بغفلة منه وجهل بمراميهم البعيدة وطبيعتهم الحاقدة- كل تمكين، وأتاح لهم كل فرصة لم يكونوا يحلمون بها قبل قرون، وكانت في ذلك أكبر محنة للإنسانية، وأكبر خطر على العالم، فضلا عن العرب، الذين يكتوون بنارهم، فضلا عن المنطقة المحدودة التي يجري فيها هذا الصراع الحاسم. لذلك نرى أن لهذه السورة اتصالا وثيقا بالمسيحية واليهودية، فقد تعرّضت للعقيدة المسيحية في مفتتحها، وهكذا تبتدئ السورة الكريمة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً* ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً. وقد كانت السمة البارزة الثانية للحضارة التي نشأت في حضانة المسيحيين، وشبّت وترعرعت تحت رعايتهم، الشغف الزائد بهذه الحياة المحدودة الفانية. والحرص على تمديدها وتزيينها، والمبالغة في إجلالها وتفخيم شأنها، والاتجاه إلى نفي كل ما وراءها، من مثل وقيم وخيرات ونعم، والاقتصار على التنافس في السيطرة على أسبابها وطاقاتها وذخائرها، وهي النقطة التي تلتقي عليها اليهودية معها- رغم ما بينهما من عداء وتناقض- فقد تجرّدت التوراة عن ذكر عالم الآخرة، والحياة الآخرة، والحث على الاستعداد لها، وصرف القوى والمواهب إلى نيل السعادة فيها، وإثارة الحنين والأشواق إلى نعمائها وطيباتها، والإشارة إلى قصر هذه الحياة الدنيا وتفاهتها، وذم حب العلو، والإفساد فيها، والتزهيد في زخارفها ومتاعها القليل، وحطامها الزائل، تجردت عن كل هذه المعاني تجردا يثير العجب، ولا يعقل عن الكتب السماوية المنزلة من الله،

وروحها وطبيعتها، فلا عجب إذا كان تاريخ اليهود تاريخ التنافس على المادة والنهامة للثروة، والكفاح للسيادة (السلالة) والكبرياء القومي، وقد تجلّى ذلك بوضوح في كل ما نسب إليهم من كتب دينية مقدسة، أو صدر عن أقلامهم وقرائحهم من أدب وشعر، وقصص وملاحم، ونبوات وكهانات، أو أثر عنهم من بطولات ومغامرات وحروب وثورات، أو عرف عنهم من إبداعات واختراعات، أو عزي إليهم من أفكار وفلسفات، فإن أندر شئ في كل ذلك، هو الرقة والتواضع، وهضم النفس وإنكار الذات، والاستهانة بالحياة الدنيا، والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الآخرة، والرحمة بالإنسانية على اختلاف طبقاتها، وأجناسها وأوطانها. ولذلك ثنى الله تبارك وتعالى الإنكار على عقيدة الشرك وعقيدة الابنية أو الوالدية التى تبنتها المسيحية، وتولت كبرها، والإنكار على عبادة هذه الحياة، واتخاذ دارها المحل والقرار، والانصراف إليها عن كل ما سواها، ونوه بقصر هذه الحياة، وتداعي هذا الأساس الذي تقوم عليه، فقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً. وأعاد هذا الإنكار والتشنيع على عبّاد الحياة الدنيا ومنكري الآخرة، أو الغافلين عنها، في أواخر السورة فقال: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. وهكذا أحاطت عقيدة الآخرة، وعقيدة الإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر هذا الكون، وقدرته المطلقة المسيطرة على كل شئ، بأول هذه السورة وآخرها، وبجميع جوانبها، وهي عقيدة نفسية، وعقلية، وطبيعية، تأباها المادية التي لا تعتمد إلا على الحس والمشاهدة والتجربة، والمنفعة العاجلة، واللذة البدنية، والسيادة القومية أو العنصرية، وتتنصل عنها وتحاربها بكل قوة ووسيلة، فجاءت هذه السورة تشتمل على مادة تستأصل جذور المادية التي قدر الله أن يكون المسيحيون أكبر مربيها ودعاتها، والمشرفين عليها، في رحلة التاريخ الطويلة، ثم يتولى قيادتها اليهود الذين حاربوا المسيح منذ أول عهده، ونافسوا المسيحية في جميع عهودها، وعلى أيديهم تبلغ هذه المادية ذروتها الأخيرة، وفي بقاياهم المشتتين ولأمثالهم يظهر الدجّال الذي يكون أعظم بطل من أبطال الكفر والإلحاد، والتدجيل والتلبيس، وقد أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن تلاوة هذه السورة، والمحافظة على أوائلها- أو خواتيمها- تعصم من فتنته، وهكذا كانت بين بداية هذه السورة ونهايتها مناسبة لطيفة لا تخفى على الناظر المتأمل، ولمجموع

السورة صلة وثيقة، وعميقة بفتنة الدجّال الذي يظهر في وقته).

المقطع الأول ويمتد من الآية (9) إلى نهاية الآية (31) وهذا هو

المقطع الأول ويمتدّ من الآية (9) إلى نهاية الآية (31) وهذا هو: 18/ 31 - 9

بين يدي قصة أصحاب الكهف: خلاصة ما نقل عن الكتابيين حول القصة

بين يدي قصة أصحاب الكهف: [خلاصة ما نقل عن الكتابيين حول القصة] نقل المفسرون عن الكتابيين الكثير في قصة أهل الكهف، وقد أراد الأستاد الندوي أن يختصر الطريق فينقل عن كتب أهل الكتاب مباشرة، فنقل ما ذكرته دائرة المعارف للأخلاق والديانات ما خلاصته: (إن قصة النائمين السبعة من أكثر القصص التي تروى عن القديسين متعة عقلية، واشتهارا بالآفاق، إن عناصر القصة التي تشترك فيها أقدم الكتب كما يلي: أن الإمبراطور «ديسيس (Decius) «يدخل في المدينة اليونانية القديمة «أفيسيس»: (وتحديدها الجغرافي .. جاء في دائرة المعارف للبستاني، أنها إحدى المدن الأيونية الاثنتي عشرة من الأناضول، وموقعها على الجانب الجنوبي من نهر

قسيطرة، وهي على مسافة 60 كيلومترا من إزمير، جعلها الرومانيون قاعدة لولاية آسيا الغربية في البر، وقنصلية، ومحطا لتجارة متسعة زاهرة جدا، ولكن أعظم فخر لها هو هيكل ديانا- المعبودة اليونانية- العظيم الذي يعد من عجائب الدنيا السبع، وكان أكبر الهياكل اليونانية. وذكر بليكي Blackie في كتابه A manual of Biblic History أن مدينة أفيسيس Ephesus اشتهرت في التاريخ القديم بفلسفتها وخلاعة أهلها، واستهتارهم، وأصبحت مضرب المثل في الفجور والخلاعة، وكانت وثنيتها مزيجا من الوثنية الغربية والشرقية). ويجدد أي الإمبراطور ديسيس فيها تقليد عبادة الأوثان، ويأمر أهل المدينة والمسيحيين بصفة خاصة بتقديم الذبائح والقرابين لها، وأقلع عدد من المسيحيين عن عقيدتهم النصرانية، وبقي عدد منهم متمسكين بديانتهم، متحملين لاضطهاد رجال الحكومة، وتعذيبهم. وهنا يقدم إلى الإمبراطور سبعة من الشباب (وتقول بعض الروايات أنهم كانوا ثمانية) وكانوا مقيمين في السراي وقد اختلف في أسمائهم، وقد اتهموا باعتناق النصرانية سرا، وهم يرفضون تقديم القرابين إلى الأوثان، ويمهلهم الإمبراطور لمدة طمعا في أن يرجعوا إلى صوابهم، ويتوبوا عن النصرانية، ويخرج من المدينة. وفي خلال هذه المدة يغادر هؤلاء الشباب المدينة ويأوون إلى كهف في جبل قريب كان يسمى ب Anchilus ويخرج أحدهم اسمه Diomedes أو Imblicus متنكرا وفي ثياب متوسخة رقيعة إلى البلد، ليتعرف الأخبار ويشتري الطعام ولا يمضي على ذلك كثيرا حتى يرجع ديسيس المدينة، ويأمر بأن يقدم إليه الشباب، ويخبر Diomedes زملاءه بهذا الأمر السلطاني، فيتناولون الطعام، وقد استولى عليهم الحزن والقلق، ثم يستغرقون في نوم عميق طويل يسلّطه الله عليهم، ولما لم يهتد الإمبراطور إلى هؤلاء الشباب، طلب آباءهم فأبدوا براءتهم عن هذا التهرب، وأن تكون لهم يد في هذه المؤامرة، وأخبروه بأنهم متسترون في جبل Anchilus وهنا يأمر الإمبراطور بأن يسد مدخل هذا الكهف بحجارة كبيرة، فيموتوا هناك حتف أنوفهم، ويبقوا موءودين في هذه المغارة، ويكتب مسيحيان، أحدهما Theodor والآخر Rufinus قصة هؤلاء الشهداء الشباب على لوحة من معدن ويدفنها تحت الحجارة التي سد بها الغار. وبعد أن مضى عليهم ثلاث مائة وسبع سنوات فكان عهد الإمبراطور ثيودوسيس الثاني Theodosius تقوم ثورة يقودها بعض المسيحيين، وتنكر جماعة منهم على رأسهم القس تيودر Theodore عقيدة بعث الأموات، وإمكان حشر الأجساد، فيفزع ذلك

الإمبراطور المسيحي ويشغل باله، وهنا يلهم الله ملّاكا اسمه Adolius أن يبني زربية لغنمه في الميدان الذي يقع فيه هذا الكهف ويستخدم البناءون لبناء هذه الزريبة الحجارة التي سد بها هذا الغار، وهكذا ينكشف هذا الكهف، ويوقظ الله هؤلاء الشباب في هذه الساعة، فيخطر ببالهم أنهم ناموا ليلة، ويتواصون بأن يموتوا شهداء على يد «ديسيس» إذا ألجأتهم الضرورة، ويذهب أحدهم وهو Diomedes إلى المدينة كالعادة، ويقف حائرا أمام الصليب المنقوش على تاج المدينة، حتى يضطر إلى أن يسأل أحد السابلة، هل هي مدينة أفيسيس حقا؟ ويصبح تواقا إلى إخباره زملائه بهذا الانقلاب العظيم، ولكنه يملك عاطفته ويشتري الطعام، ويقدم في ثمنه النقود التي كان يحملها، وهي العملة التي كان يتعاطاها الناس في عهد ديسيس، ويعتقد صاحب الدكان وأهل السوق أن الشاب قد عثر على ركاز قديم، ويريدون أن يكون لهم نصيب فيه، ويهددون الشاب ويخوفونه ويقودونه من بين وسط المدينة وأسواقها ويتآلب عليه الناس، ويبحث الشاب في هذا الجمع الحاشد عن رجل يعرفه، فلا يجده، ويستخبره الأسقف حاكم البلد عن شأنه، فيخبره بالقصة بطولها، ويدعوهم إلى أن يرافقوه إلى الكهف، ويزوروا زملاءه الآخرين، فيرتقون قمة الجبل، وهناك يجدون لوحتين رصاصيتين تصدقان قصة الشاب. فيدخلون الكهف ويجدون زملاءه أحياء يغشى وجوههم النور والسكينة، وينمى الخبر إلى الإمبراطورا Theodosies فيزور الكهف وهنا يقول له Maximilian أو Achillides أو شاب آخر، إن الله سبحانه وتعالى قد سلط عليهم النوم ليبرهن على الحشر والنشر، ثم أيقظهم قبل أن تقوم القيامة، وبعد ذلك مات الشباب موتهم الأخير، وقد بني هيكل رومي في تذكارهم. أما مكانة هذه القصة التاريخية، فلا يشك كبار المؤرخين والناقدين .. في صحتها وإمكان وقوعها لشهرتها واستفاضتها في العالم المسيحي، وتناقل الأجيال والكتب لها، يقول «جبون» الذي يجنح دائما إلى تزييف مثل هذه الأخبار الغريبة: (إن هذه القصة الغريبة لا يمكن أن تحمل على مجرد خرافة الإغريق ومغالاتهم الدينية فقد اتصلت الروايات الموثوق بها وتسلسلت إلى خمسين سنة بعد وقوع هذه المعجزة وقد خصص قس سوري ولد بعد الإمبراطور ثيودوسيس الأصغر بسنتين اسمه James Of Sarus رواية من رواياته التي يبلغ عددها مائتين وثلاثين لمدح شبان أفيسيس (أصحاب الكهف) وقبل أن ينقضي القرن السادس المسيحي نقلت قصة أصحاب

تعليقات على هذه الرواية: حول ما نقل عن الكتابيين حول قصة أصحاب الكهف

الكهف هذه من اللغة السورية إلى اللغة اللاتينية بعناية غريغو. Gregory of Tours وقد حفظت ذكرى أصحاب الكهف في اجتماعات العشاء الرباني في الشرق المسيحي بإجلال واحترام، ودونت أسماؤهم باحترام بالغ في الأعياد الرومية والتقويم الروسي، ولم تنحصر شهرتهم في العالم المسيحي فحسب.). تعليقات على هذه الرواية: [حول ما نقل عن الكتابيين حول قصة أصحاب الكهف] 1 - هذه الرواية تذكر أن ما بين سنة الهروب وسنة الاستيقاظ (307) سنوات وسترى أن المؤرخين الذين كتبوا في هذا الموضوع مختلفون اختلافا كثيرا في سنة الاستيقاظ، ولذلك فإن الجزم في هذه الرواية ساقط تاريخيا، وجاء القرآن مصححا للخطإ في الزمن. 2 - هذه الرواية تذكر في الوقت نفسه أن الهروب كان في عصر ديسيس، بينما لم يكن بين عصر ديسيس وسنة الإيقاظ إلا حوالي مائتي سنة، مما يدل على خطأ في الرواية وفي تحديد العصر. 3 - نحن نحتمل أن تكون هذه القصة وقعت فعلا لأتباع المسيح الصادقين، ولكن نحتمل كذلك أن تكون القصة قد وقعت في زمن أسبق من ذلك. 4 - هناك من ذهب إلى أن أحداث قصة أهل الكهف قد وقعت في غير المكان الذي حددته هذه الرواية التي نقلها الأستاذ النّدوي، وإنما نقلنا ما نقلنا هنا للاستئناس فقط، وفي كتاب (لله) ما يكفينا ويغنينا لأخذ العبرة، ومن شاء التوسع في هذا الموضوع فليراجع كتاب (أهل الكهف) لمحمد تيسير ظبيان الذى نقل نقولا كثيرة، واستقر على أن كهف أهل الكهف هو المكان الذي اكتشفه هو قريبا من عمّان في الأردن. التفسير: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً جاء هذا بعد أن ذكر الله عزّ وجلّ من الآيات تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها، ثم إزالة ذلك كله كأن لم يكن، فكأنه يقول: إنّ ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف، وإبقاء حياتهم مدة طويلة، ومن ثم فلا تتعجب منها ولا تستغربها. قال ابن كثير في الآية: أي ليس أمرهم عجبا في قدرتنا وسلطاننا؛ فإن خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، وغير ذلك

[سورة الكهف (18): آية 10]

من الآيات العظيمة، الدالة على قدرة الله تعالى، وأنّه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شئ، أعجب من أخبار أصحاب الكهف. والكهف: هو الغار الواسع في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم: فيحتمل أنه اسم القرية، أو اسم الوادي، أو اسم كتاب كتب في شأنهم ووضع على باب غارهم، أو اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو اسم كتاب كان معهم. قال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف، واختلفت الروايات عن ابن عباس فيه، ومن الروايات عنه: أنه واد قريب من أيلة (من فلسطين). ويحتمل أن الوادي أخذ اسمه من اللوح الذي تحدث عنه سعيد بن جبير. قال ابن كثير: «ولم يخبرنا (أي الله) بمكان هذا الكهف في أيّ البلاد من الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا، فتقدم عن ابن عباس أنه قال هو قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق هو عند نينوى. وقيل ببلاد الروم، وقيل ببلاد البلقاء أي في الأردن، والله أعلم بأيّ بلاد الله هو، ولو كان فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه. فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت شيئا يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به». فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ. فرارا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم، فهربوا منهم، فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم فَقالُوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هب لنا من خزائن رحمتك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. أي وقدّر لنا من أمرنا هذا رشدا أي اجعل عاقبتنا رشدا، أي وهيئ لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفار رشدا حتى نكون بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله، أو يسر لنا طريق رضاك فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي سنين ذوات عدد. قال الزّجّاج: أي تعد عددا لكثرتها، لأن القليل يعلم مقداره من غير عدد، فإذا كثر عدّ فأما (دراهم معدودة) (التي وردت في قصة يوسف) فهي على القلة؛ لأنهم كانوا يعدّون القليل ويزنون الكثير. والمعنى: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة. ومعنى فضربنا على آذانهم: أي ضربنا عليها حجابا من النوم يعني: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من رقدتهم تلك لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي المختلفين في مدة لبثهم، إما منهم ساعة الاستيقاظ، أو من غيرهم أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. أي عددا أو غاية،

فوائد

وقد جعل النسفي كلمة أَحْصى فعلا ماضيا، وردّ بشدة أن تكون أفعل تفضيل. قال والمعنى: أيهم ضبط أمدا لأوقات لبثهم، وأحاط بأمد لبثهم. وقال: وإنما قال لنعلم مع أنه تعالى لم يزل عالما بذلك، لأن المراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم، ليزدادوا إيمانا واعتبارا، وليكون لطفا لمؤمني زمانهم، وآية بيّنة لكفاره، أو المراد لنعلم اختلافهما موجودا كما علمناه قبل وجوده. وبهذه الآيات الأربعة ذكر الله لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار. ثم بعد هذا الإجمال والاختصار يأتي بسط القصة. فوائد: 1 - [حديث بمناسبة آية إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ذكر ابن كثير الحديث الشريف «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر ماذا تعملون. فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء». 2 - [حديثان بمناسبة دعاء أهل الكهف وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً] وبمناسبة ذكر دعاء أهل الكهف وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً قال ابن كثير: كما جاء في الحديث الشريف: «وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا». وفي المسند من حديث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة». 3 - [حول أدب الفتوة وما يؤخذ من معنى كلمة (الفتية) في قصة أهل الكهف] يلاحظ أن الله عزّ وجل ذكر كلمة (الفتية) في هذه القصة أكثر من مرة بما يشعرنا بالثناء، ومن هنا نشأ في التاريخ الإسلامي أدب الفتوة. فتجد مثلا في الرسالة القشيرية بابا خاصا في الفتوة وآدابها. وقد ذكر النسفي تعريفين للفتوة هما تلخيص لأدب الفتوة في تاريخنا: الأول: الفتوة بذل الندى وكف الأذى، وترك الشكوى، واجتناب المحارم، واستعمال المكارم. والثاني: الفتى من لا يدّعي قبل الفعل، ولا يزكّي نفسه بعد الفعل. 4 - [قصة أهل الكهف نموذج لطلاب الآخرة وصلة ما في القصة من معان بمحور السورة] إن قصة أهل الكهف نموذج لطلاب الآخرة العازفين عن زينة الحياة الدنيا، ونموذج للدخول في الإسلام كله في أيام الفتنة. ولقد رأينا كيف أن أهل الكهف اعتزلوا وأووا إلى الكهف داعين الله عزّ وجل هذا الدعاء الذي قصّه الله علينا، وهو دعاء الفارين بدينهم من الفتن. ولنعد إلى سياق القصة، فبعد الإجمال الذي رأيناه يبدأ التفصيل، وقبل أن نبدأ

[سورة الكهف (18): آية 13]

العرض نحب أن نذكر أن هناك خلافا بين المفسرين حول التاريخ الذي وجد فيه أهل الكهف. قال ابن كثير: وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم، فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية. فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم؛ لمباينتهم لهم، وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة، يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح. فدلّ هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية. والله أعلم. أقول: لقد رأينا ما يمكن أن يقال على رواية ابن إسحاق التي لا تعتبر حجة قاطعة في هذا المقام: إن قصة أهل الكهف مشهورة عالميا، وليس من السهل تحديد الزمان والمكان اللذين كانوا فيه، وكل ما يقال في هذه الأشياء لا يمكن اعتباره نهائيا. فالقرآن لم يفصّل، والسنّة لم تفصّل، وغير ذلك لا تقوم به الحجة. وابن كثير يقرّر هذا المعنى في أكثر من مكان وأنا لا أستبعد أن تكون قصة أصحاب الكهف سابقة على عهد المسيح عليه السلام، ولكن النّصارى أخذوها ونسبوها إلى أنفسهم، فليس هناك من شئ قطعي في هذا الشأن إلا روايات، الله أعلم بصدقها، والاحتمالان واردان. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي بالصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي شباب آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو وَزِدْناهُمْ هُدىً أي يقينا. أخبرنا الله في بداية القصة أنهم شباب، والشباب أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في الدين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم شبابا، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وفي هذا درس للدعاة وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي وقويناها بالصبر على هجران الأوطان، والفرار بالدين إلى بعض الغيران، وجسّرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام إِذْ قامُوا هل المراد به قيامهم في موقف أمام ملكهم معلنين، أو مجرد قولهم هذا يعتبر قياما؟ يحتمل هذا وهذا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لا يقع منا أن نسمي غيره ربا وإلها أبدا لَقَدْ قُلْنا إِذاً إن سميناهم آلهة وأربابا شَطَطاً أي باطلا وبهتانا، أو قولا ذا شطط: وهو الانخراط في الظلم والإبعاد فيه، دلّت الآيتان على أن الإنسان إذا صدق في الطلب في بدايته أعطاه الله الهداية وربط على قلبه. وفي هذا درس لكل من يريد الدخول في الإسلام، أن عليه أن يصدق مع الله في الدخول، وهذا من جملة الدروس التي نفهم

[سورة الكهف (18): آية 15]

منها صلة القصة بمحور السورة من البقرة هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هذا إخبار بمعنى الإنكار لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي بحجة ظاهرة على عبادتهم وتسميتهم آلهة، وهو كلام يراد به التبكيت، لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال. والمعنى الحرفي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه، أي هم أظلم الناس في قولهم ذلك المفترى المكذوب، وفي ذلك درس أن الإسلام لله ينبغي أن يرافقه كفر بالطاغوت وأهله، ومعرفة لضلاله وضلال أهله، وهذا كذلك من جملة الدروس التي تربط بين القصة ومحور سورة الكهف من سورة البقرة. ثم خاطب بعضهم بعضا حين صحت عزيمتهم على الفرار بدينهم فقالوا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي وإذ فارقتم قومكم، وخالفتموهم في عبادتهم غير الله، أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم إلا الله، دلّ على أن قومهم كانوا يعرفون الله ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي صيروا إليه أو اجعلوا الكهف مأواكم، لتفارقوهم بأبدانكم كما فارقتموهم في عبادتكم، دل ذلك على أن مفارقة الكفر وأهله بالبدن مهم، كمفارقتهم بالروح والقلب يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، أو يبسط لكم من رزقه وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم فيه مِرْفَقاً أي أمرا ترتفقون به أي تنتفعون به، وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله، وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه، ونصوع يقينهم، وقد دلّ هذا على أنّ الله أكرمهم لصدقهم بكمال معرفته، فأصبحوا عارفين به حالا ومقالا وسلوكا، ومن كمال معرفتهم أنهم عرفوا أن اعتزال قومهم بالكهف سيقابله عطاء من الله لهم وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أي تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم، ومعنى ذات اليمين أي جهة اليمين والمعنى: أن الفيء يتقلص يمنة وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه، ومعنى تقرضهم: أي تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في متسع من الكهف داخلا بحيث لا تصيبهم. والمعنى هم في ظل نهارهم كله، لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع كون الغار في غاية الصحة لكونه معرضا للشمس والتهوية، فكانوا بحيث لا يحسّون كرب الغار، وينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم. وقد استدل ابن كثير بهذا الوصف على أن باب هذا الكهف كان من ناحية الشمال. قال: وهذا بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة، وسير الشمس والقمر

[سورة الكهف (18): آية 18]

والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شئ عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة (أي الجنوب في بلد ابن كثير: دمشق) لما دخل منها شئ عند الطلوع، ولا عند الغروب، ولا يزاور الفئ يمينا ولا شمالا، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال، ولم تزل فيه إلى الغروب فتعيّن ما ذكرناه» أي أن باب الكهف من جهة الشمال وهو موضوع يحتاج إلى تحقيق ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ قال ابن كثير: حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنّه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له، وهو ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله، وأسلموا له وجوههم؛ فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية، والآية دلت على أن أعظم الهداة هم الأولياء المرشدون. فقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً بيّن أن هؤلاء هم الغاية في الهداية فمن أراد الله إضلاله فإنه لا يهديه أحد حتى ولو كان وليا مرشدا، نسأله تعالى أن يجعلنا من الأولياء المرشدين وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً أي مستيقظين وَهُمْ رُقُودٌ أي والحال أنهم نائمون وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وحكمة ذلك معروفة في الطب الحديث، إذ يقول العلم الحديث الآن: إن الإنسان إذا بقي شهورا على حالة واحدة مات لما يتكاثف في الجانب الذي يلي الأرض من أملاح وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أي بالفناء: وهو الباب. قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب، لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب كما ورد في الصحيح ولا صورة، ولا جنب ولا كافر كما ورد به الحديث الحسن. قال ابن كثير: وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وفي هذا المقام يذكر بعض المفسرين اسمه ولونه، قال ابن كثير: (واختلفوا في لونه على أقوال، لا حاصل لها، ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب). لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو أشرفت عليهم فنظرت إليهم لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت عنهم وهربت منهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا. قال ابن كثير: أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد لامس،

[سورة الكهف (18): آية 19]

حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحكمة، والحجة البالغة، والرحمة الواسعة. ... وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي وكما أنمناهم تلك النومة، كذلك أيقظناهم إظهارا للقدرة على الإنامة والبعث جميعا لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا، ويتعرّفوا حالهم وما صنع الله بهم؛ فيعتبروا ويستدلّوا على عظم قدرة الله، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم مدة لبثكم أي كم رقدتم؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ جواب مبني على غالب الظن، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، فكأن دخولهم كان إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ومن ثم استدركوا بعد قولهم يوما فقالوا: أو بعض يوم قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم، أو كأنهم علموا بالأدلة، أو بالإلهام، أو بزيادة حدثت لأظفارهم وأشعارهم على طول المكث، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ أي فضتكم هذه، كأنهم قالوا: ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شئ آخر مما يهمكم، فابعثوا أحدكم بفضّتكم هذه إِلَى الْمَدِينَةِ أي مدينتكم التي خرجتم منها: دلّ ذلك على أنهم استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها قال النسفي: وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله، دون المتكلين على الإنفاقات، وعلى ما في أوعية القوم من النفقات فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أيّ أهلها أحل وأطيب طعاما، أو أكثر وأرخص فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة، حتى لا يغبن، أو في أمر التخفي حتى لا يعرف. والثاني أقوى أي وليتكلف اللطف في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه، أي وليختف أقصى ما يقدر عليه وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أي ولا يعلمنّ بكم أَحَداً دلّتنا هذه الوصية على أدب هذا المقام، فغير هذا تهور وتعريض الفئة المسلمة لخطر الاستئصال، وقولهم: ولا يشعرن بكم أحدا. معناه: ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور من غير قصد منه. أي لا يتسبب بالشعور بنا، ثم عللوا سبب الوصية إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي إن علموا بمكانكم واطلعوا عليه يحيطون بكم غالبين يَرْجُمُوكُمْ أي

فائدة

يقتلوكم أخبث أنواع القتل بالرجم بالحجارة، يتهموكم ثمّ يقتلوكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ بالإكراه وتسليط أنواع العذاب عليكم وَلَنْ تُفْلِحُوا إن عدتم في دينهم إِذاً أَبَداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، بينت الآية أن طريقة قومهم في معاملة المسلمين، التعذيب حتى الموت، أو الإكراه على ترك الإسلام. فائدة: من المناقشة التي جرت بينهم عند استيقاظهم استدل ابن عباس- كما نقل النسفي- على أن الصحيح أن عددهم سبعة لأنه قد قال في الآية قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ وهذا واحد، وقالوا في جوابه قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وهو جمع وأقله ثلاثة، ثم قال: قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة. قال: واحد. (قالوا الأولى) تدل على ثلاثة. (قالوا الثانية) تدل على ثلاثة المجموع سبعة، وسنرى أن ابن كثير يرجح أنهم سبعة استدلالا بآية لاحقة، وينقل عن ابن عباس أنهم سبعة دون الإشارة إلى الاستدلال الذي نقله النسفي. ولعل العاملين في حقل الدعوة الإسلامية في ساعات الشدة يستفيدون من ذكر هذا الرقم. وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم الناس لِيَعْلَمُوا أي الناس في زمانهم مشاهدة، والناس بعدهم من خلال أخبارهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وهو البعث حَقٌّ أي كائن لأن حالهم في نومهم الطويل وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها أي ويستدلون بأمرهم على صحة البعث إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أعثرنا عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان بينهم أمر دينهم، ويختلفون في حقيقة البعث، هل هو كائن أو لا؟ بالجسد والروح، أو بالروح فقط؟ ليرتفع الخلاف، وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة، فيها أرواحها كما كانت قبل الموت فَقالُوا أي الناس حين توفى الله أصحاب الكهف ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي سدّوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم، فالمعنى: ابنوا على باب كهفهم بنيانا لئلا يتطرّق إليهم الناس؛ ضنا بتربتهم ومحافظة عليها رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ هذا إما من كلام المتنازعين، كأنهم تذاكروا أمرهم وحقيقة حالهم من بدايتهم إلى نهايتهم ومآلهم، ثم تركوا علم حقيقة ذلك إلى الله، أو أنه من كلام الله عزّ وجل ليبين لنا أن هذا المقام لا يعلمه إلا هو قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي أصحاب الكلمة والنفوذ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً أي يصلي فيه

فائدة

المسلمون، ويتبركون بمكانتهم، قال ابن كثير: ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد». أقول: يحتمل أن يكون المسجد على باب الكهف وفي هذه الحال لا يكون البناء محظورا أصلا، كما حدث لقبر رسولنا عليه الصلاة والسلام. فائدة: يلاحظ أنه في العصور التي كثر فيها الجهل صار كثير من المسلمين في كثير من البلدان يطلقون على أمكنة بأنها كهف أهل الكهف، والذي يبدو أن مثل هذا الاتجاه كان قديما، ومن ثم سارع ابن عباس إلى إنكاره لحظة وجوده. نقل ابن كثير عن قتادة: قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بكهف في بلاد الروم، فرأوا فيه عظاما فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: (لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة) رواه ابن جرير. أقول: في كلمة ابن عباس ردّ على ما يمكن أن يتوهّم أن أجسادهم لم يصبها البلى بعد وفاتهم. سَيَقُولُونَ أي الناس ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قولا بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد، أي رميا بالخبر الخفي المغيّب، وإتيانا به بلا علم وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ الظاهر أن هذه مجموع الأقوال التي ذكرت في شأنهم. حكى ثلاثة أقوال فدل أنه لا قائل برابع، ولما ضعّف القولين الأولين، ثم حكى القول الثالث، وسكت عليه أو قرّره، فإنه أشار بذلك إلى صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ هذا إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام ردّ العلم إلى الله تعالى؛ إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، فإذا أطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وقفنا، وهو أدب إسلامي عام في كل قضية من القضايا التي لا يكون المسلم على علم تام بها ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي من الناس. قال ابن عباس: أنا من القليل: كانوا سبعة، وقد ساق ابن كثير مجموعة روايات إلى ابن عباس في أنه كان يقول إن عدتهم سبعة. ثم قال: فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه، وبعد أن أثبت صحة هذه الروايات عنه، رد الرواية التي ذكرها

[سورة الكهف (18): الآيات 23 إلى 24]

ابن إسحاق عن ابن عباس في ذكر أنهم ثمانية، وتسمية كل واحد منهم، وتسمية كلبهم ثم قال: وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته، والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب وقد قال تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي فلا تجادل أهل الكتاب وغيرهم في شأن أهل الكهف، إلا جدالا ظاهرا غير متعمّق فيه، أو جدالا سهلا لينا، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. وهكذا شأن المسلم في كل أمر من هذا القبيل، لا يجادل فيه إلا ضمن حدود وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي ولا تسأل أحدا من أهل الكتاب، ولا من غيرهم عن قصتهم سؤال متعنت له، حتى يقول شيئا فتردّه عليه، وتزيّف ما عنده، ولا سؤال مسترشد، لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم، وهذا أدب المسلم ألا يستفتي في أمر دينه أحدا من خلق الله غير أهل العلم من المسلمين. وقبل أن تنتهي القصة يصدر الله توجيها سببه سهو وقع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما سئل عن هذه القصة، على حسب رواية ابن إسحاق التي عرفنا شأنها، وبعد التوجيه يعود الكلام إلى سيرة أهل الكهف، ثم يصدر الله مجموعة أوامر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يقرر تقريرا، وكأن هذا يفيد أن الأوامر الآتية بعد القصة مرتبطة ارتباطا تاما مع القصة، فأثناء القصة يأتي توجيه، وبعد القصة تأتي توجيهات مرتبطة بالقصة، فلقد عرّفنا الله على القصة، وأعطانا دروسها ووجّهنا في شأنها، فلنر تتمة المقطع. وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، أنّ الأدب فيما إذا عزم على شئ ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عزّ وجل، علام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا نهي تأديب من الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يعلق كل ما يعزم عليه من فعل على مشيئة الله تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي إذا نسيت الاستثناء، أي قولك إن شاء الله، فقل ذلك عند ذكرك له، ويمكن أن يكون المعنى: واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء؛ تشديدا في البعث على الاهتمام بها. ويمكن أن يكون المعنى: إذا نسيت أي شئ فاذكر الله ليذكّرك المنسي وَقُلْ إذا نسيت شيئا عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لشئ آخر بدل هذا المنسي، أقرب منه رشدا، وأدنى خيرا أو منفعة، ومن ثم قال: لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً وفي الآية كلام سنراه في الفوائد. وسبب نزول هذه الآية على حسب رواية ابن إسحاق أنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا سئل عن

[سورة الكهف (18): آية 25]

قصة أصحاب الكهف قال (غدا أجيبكم) دون أن يعلّق ذلك على المشيئة الإلهية فتأخر الوحي خمسة عشر يوما، وفي مثل هذا التأديب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يعظ الجاهل عن التساهل في الأدب فما فوقه مع الله جل جلاله. وقد ذكر هذا الأدب في ثنايا القصة، لتبقى هذه القضية محفورة في الضمير المسلم، منبهة إياه على أن مقام محمد صلّى الله عليه وسلم مقام العبودية لله، ومقام التأديب من الله، مع كل ما أنعم الله عليه، فكيف بغيره من خلق الله، وبعد هذا التنبيه يعود السياق إلى القصة: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً هذا إخبار من الله تعالى بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة، تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين. فلهذا قال بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي هو أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم، والحق ما أخبرك به لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو وحده جل جلاله يعلم ما غاب في السموات والأرض وخفي فيهما من أحوال أهلهما أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره لكل موجود وأسمعه لكل موجود، فكيف يغيب عنه شيء ما لَهُمْ أي ما لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي من متول لأمورهم غيره وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أي في قضائه أحدا، فهو تعالى له الخلق والأمر، الذي لا معقّب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك، ولا مشير تعالى وتقدس، دلّ هذا على أن من أنواع الشرك أن تعطى الحاكمية لغير الله، إن في الخلق أو في الأمر، فمن جعل للمادة قدرة مستقلة على الخلق والتدبير، وللتاريخ سيرا غير ما أراد الله، أو أعطى لغير الله حق التشريع، فقد أشرك. وفي ختم قصة أهل الكهف على هذه الشاكلة، من التذكير بعلمه تعالى، وسمعه وبصره، واستغنائه عن خلقه ووحدانيته في حكمه، قضاء أو أمرا، تذكير بأن ما قاله هو الحق الخالص، كيف لا وهو العليم بكل غيب، السميع لكل موجود، البصير بكل موجود. وإذ تنتهي القصة بما رأينا تأتي الأوامر التالية: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ تلاوة عبادة وتدبّر، وعمل وتبليغ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا مغيّر لها، ولا محرّف ولا مزيل. أو المعنى: لا يقدر أحد على تبديلها أو تغييرها، فهي كلام الله المحيط علما وبصرا وسمعا وقضاء بكل موجود

[سورة الكهف (18): آية 28]

وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بالتغيير، أو لم تقل ما أوحي إليك، والصلة بين هذا الأمر وقصة أهل الكهف واضحة. فإذ تبيّن من خلال عرض قصة أهل الكهف، أن هذا القرآن مظهر علم الله، فليتل إذن، وليتل كما أنزل، ولا تبدّل كلماته، لا تلاوة، ولا بتحميلها ما لا تحتمل؛ مراعاة لوضع ما فإن الخطأ عليه مستحيل، وإذ يفعل أحد شيئا من ذلك فإنه لا ملجأ له من عذاب الله. وإذ تبيّن لنا من القصة كرامة المؤمن على الله، وإذ كانت القصة تدور حول فتية حبسوا أنفسهم على بعضهم، يأتي الآن الأمر الثاني آمرا بصبر النفس مع أهل الإيمان: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي دائبين على الدعاء في كل وقت يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون رضا الله قال ابن كثير: أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه، ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو ضعفاء وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي ولا تجاوزهم عيناك تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا تجاوزهم عيناك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي ولا تطع من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر، أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي وكانت أعماله وأفعاله وأقواله سفها وتفريطا، وضياعا وتجاوزا للحق، لا تكن مطيعا لمثل هذا، ولا محبا لطريقته، ولا تغبطه على ما هو فيه. ثم يأتي الأمر الثالث: فبعد أن بين أن هذا القرآن حق، وبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعدم طاعة الغافلين وغبطتهم والتشوّف إليهم، بل عليه أن يلزم نفسه بالجلوس مع الذاكرين، يأتي الآن الأمر: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي وقل بأن القرآن أو الإسلام هو الحق من ربكم فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ أي جاء الحق وزاحت العلل، فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم، من الأخذ في طريق النجاة، أو في طريق الهلاك، وهو تهديد ووعيد شديدان. ثم ذكر جزاء من اختار الكفر فقال إِنَّا أَعْتَدْنا أي أرصدنا

[سورة الكهف (18): آية 30]

وهيأنا لِلظَّالِمِينَ أي للكافرين بالله ورسوله وكتابه ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي سورها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العذاب والعطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ أي كعكر الزيت في سواده وغلاظته يَشْوِي الْوُجُوهَ من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقرّبه من وجهه، شواه حتى تسقط جلدة وجهه. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ماء كالمهل- قال: كعكر الزيت فإذا قرّبه إليه سقطت فروة وجهه فيه» بِئْسَ الشَّرابُ أي المهل وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي وساءت النار منزلا ومقيلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق، ولا ارتفاق لأهل النار. أي لا انتفاع لهم. وبعد أن ذكر الله عزّ وجل جزاء من اختار الكفر، يقرر الآن جزاء من اختار الإيمان. قال ابن كثير: لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنّى بذكر السعداء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. دلّت الآية على أن المحسن في العمل هو المؤمن، الذي يعمل الصالحات، فإذا تذكرنا الآيتين اللتين وردتا قبل قصة أهل الكهف إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا علمنا أن الكلام الآن في الناجحين في الاختبار، وهم أهل الإيمان، والعمل الصالح أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي إقامة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي من تحت غرفهم ومنازلهم يُحَلَّوْنَ فِيها من الحلية أي يلبّسون فيها الحلي، ثم بيّن هذه الحلي مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ الأساور: جمع أسورة، وفي تنكيرها إشعار بأنها غاية في الجمال وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً وهو أروح الألوان للعيون، وأكثرها راحة لها، كما يقول الطب المعاصر مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قال ابن كثير: فالسندس لباس رفاع رقاق كالقمصان، وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ خص حالة الاتكاء بالذكر لأنه هيئة المتنعمين على أسرتهم، والجنة دار النعيم نِعْمَ الثَّوابُ الجنة وَحَسُنَتْ الجنة والأرائك مُرْتَفَقاً أي مكانا للارتفاق. أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت مرتفقا. أي حسنت منزلا ومقيلا ومقاما. ملاحظات: [حول قصة أصحاب الكهف] رأينا أنّ الله عزّ وجل أوصانا بالنسبة لقصة أهل الكهف فقال فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وقال جلّ جلاله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا

فوائد

إنّك إذا تأمّلت هذين النّصين، وقرأت ما يذكره أهل الكتاب في كتبهم، تجد مظهرا من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن، يدلك على أنّ منزل هذا القرآن هو الله المحيط علما بكل شئ، ولنضرب على ذلك مثلا: قال الأستاذ الندوي في رسالته (تأملات في سورة الكهف): «وقد اضطربت أقوال المؤرخين السوريين، والمؤرخين الإغريق، في تعيين سنة اليقظة والخروج، فالمؤرخون السوريون يزعمون أنها 425 م أو 437 م، وتقول الروايات الإغريقية أن الخروج كان في السنة الثامنة والثلاثين من حكم ثيودوسيس الثاني، معنى ذلك أنها كانت في سنة (446). وتقول الرواية التي ذكرتها دائرة المعارف للأخلاق والديانات وهي دائرة معارف غربية: (وبعد أن مضى عليهم ثلاثمائة وسبع سنوات في عهد الإمبراطور ثيودوسيس الثاني) فإذا تذكرنا الاختلاف في تعيين سنة الاستيقاظ، عرفنا أن هذا الرّقم تقريبي. والملاحظ أنّ رواية دائرة المعارف تذكر أن الفتية خرجوا في زمن الإمبراطور ديسيس الذي تسميه المراجع العربية «دقيانوس» بينما لم يكن بين دقيانوس وثيودوسيس أكثر من مائتي سنة، مما يؤكد أن هناك خطأ في سنة الهروب، لذلك فقد رجّح الأستاذ الندوي أن القصة حدثت في عهد الإمبراطور الروماني هاردين، الذي حكم من سنة 117 م إلى سنة 138 م والذي ذكر تاريخ الكنيسة المسيحية عنه على أنه حافظ على سياسة «تراجن» في إجبار الزنادقة والمارقين) (وكلهم أو جلّهم في ذلك الوقت بالنسبة للدولة الرومانية من المسيحيين) من هذا الذي نقلناه ندرك سرّ قوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وسرّ قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا. فوائد: 1 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ] بمناسبة قوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يذكر ابن كثير الحديث الوارد في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام، لأطوفن الليلة على سبعين امرأة- وفي رواية تسعين امرأة، وفي رواية مائة امرأة. تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له- وفي رواية قال له الملك- قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم

2 - حول رأي ابن عباس في الاستثناء بالمشيئة بمناسبة آية واذكر ربك إذا نسيت

يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا لحاجته» وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعين». 2 - [حول رأي ابن عباس في الاستثناء بالمشيئة بمناسبة آية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ] من المشهور عن ابن عباس أنه يرى أن للحالف أن يقول إن شاء الله، ولو إلى سنة، وكان يستدل على ذلك بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن جرير: ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء وذكر ولو بعد سنة، فالسنّة له أن يقول ذلك ليكون آتيا بسنّة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث، لا أن يكون- أي الاستثناء- رافعا لحنث اليمين، ومسقطا للكفارة. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه. وقد نقل النسفي عن الحسن أن له الاستثناء ما دام في المجلس. ثم نقل مذهب ابن عباس وخرّجه، وذكر حادثة لها علاقة فيه. قال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد سنة، وهذا محمول على تدارك التبرك بالاستثناء. فأما الاستثناء المغير حكما، فلا يصح إلا متصلا، وحكي أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل، فاستحضره لينكر عليه، فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع عليك؛ إنك تأخذ البيعة بالأيمان، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك، فاستحسن كلامه، وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده». 3 - [كلام ابن كثير عند آية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ .. ] وعند قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال ابن كثير: يقال إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال، وعمار، وصهيب، وخباب، وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. وروى مسلم في صحيحه .. عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنزل الله عزّ وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. وروى أحمد ..

كلمة في السياق: حول صلة المقطع الأول بمحور السورة وبالسياق القرآني العام

عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قص فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس، أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب». وروى الإمام أحمد .. عن رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إليّ من أن أعتق أربع رقاب» قال شعبة فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصا. وروى أبو داود الطيالسي في مسنده .. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لأن أجالس قوما يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إليّ من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا». وروى الحافظ أبو بكر البزار .. عن الأغر أبي مسلم- وهو الكوفي- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم سكت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم». وروى يحيى بن المعلى بسنده: عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجل يقرأ سورة الحج- أو سورة الكهف- فسكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم». وروى الإمام أحمد .. عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء، أن قوموا مغفورا لكم، قد بدّلت سيئاتكم حسنات». وروى الطبراني .. عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بعض أبياته وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الآية فخرج يلتمسهم، فوجد قوما يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس، وجافّ الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم». كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الأول بمحور السورة وبالسياق القرآني العام] لاحظنا أن مقدمة سورة الكهف انتهت بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً.

ثم جاءت قصة أهل الكهف لتعطي نموذجا على من أحسن عملا، ولتقيم الدليل على أن الآخرة الباقية آتية. ثم جاءت الأوامر التي تأمر بلزوم أهل الآخرة، وعدم التطلّع إلى الجلوس مع غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثم جاءت الآيتان الأخيرتان لتبين أن الذين ينجحون في الاختبار هم الذين اجتمع لهم الإيمان والعمل الصالح. فالمقطع الذي مرّ معنا كله مترابط في خدمة الآيتين اللتين ختمت بهما مقدمة سورة الكهف. فإذا تذكّرنا أن سورة الكهف محورها زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا .. فإننا نلاحظ أن قصة أهل الكهف، والآيات بعدها، تحرير للمسلم من الإخلاد لزينة الحياة الدنيا، والركون إلى أهلها، فمن خلال الاقتداء بأهل الكهف، ومن خلال صبر النفس مع أهل الإيمان، ومن خلال النهي عن التطلع لمجالسة أهل الدنيا، والنهي عن طاعة الغافلين، والأمر بقول الحق، ومن خلال التذكير بجزاء المؤمنين والكافرين، يتحرر المؤمن من السقوط في حمأة تزيين الحياة الدنيا. وإذا تذكرنا أن هذا كله في خدمة الأمر ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فإننا نلاحظ أن القصة تخدم موضوع الدخول في الإسلام كله؛ إذ تقص علينا قصة النموذج الذي ترك كل شئ من أجل دين الله. ثم تأتي الأوامر بتلاوة القرآن، وبالكون مع أهل الإيمان وبإعلان الحق، كفر من كفر وآمن من آمن، وكلها تخدم موضوع الدخول في الإسلام كله، عدا عن كونها أجزاء من الإسلام يجب التزامها، لأن الله أمرنا بالدخول في الإسلام كله. فإذا اتضح هذا، عرفنا كيف أن سورة الكهف لها سياقها الخاص المترابط والمرتبط بالسياق القرآني العام. والآن فلنلاحظ ما يلي: يرد الآن أمران كل منهما بصيغة وَاضْرِبْ* وكلا الأمرين فيه مثل مرتبط بموضوع الحياة الدنيا، ثم تأتي آيات لها علاقة في الموضوع نفسه؛ ومن ثم فإن ارتباط المقطع اللاحق بمحور سورة الكهف من البقرة واضح. وسنتعرض له فيما بعد. ونحب هنا أن نتحدث عن السياق الخاص لسورة الكهف: أوصلت مقدمة سورة الكهف إلى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ

أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ثم جاءت آية: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً والتي معناها: لا تحسب أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذا قيست بآيات الله العظمى كتزيين الأرض أو إماتة كل شئ عليها، ثم جاء في سياق القصة نهي. وبعد القصة جاءت أوامر. ثم يأتي الآن في المقطع اللاحق قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ .. ثم يأتي قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا .. فالسياق الخاص لسورة الكهف يتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن يضع قصة أهل الكهف في محلها من آيات الله، وأن يعلق أموره على مشيئة الله. ثم تأتي الأوامر بتلاوة القرآن، والصبر مع أهل الإيمان، وترك أهل الطغيان، وإعلان كلمة الحق. ثم يؤمر عليه الصلاة والسلام بضرب الأمثال عن الدنيا وأهلها، وعن الآخرة وأهلها. فالسياق يربي على كل ما من شأنه الزهد في الدنيا. فقصة أهل الكهف تزهّد في الدنيا، وتلاوة القرآن تلاوة صحيحة تزهّد في الدنيا، والجلوس مع أهل الذكر يزهّد في الدنيا، وترك أهل الدنيا يساعد على الزهد في الدنيا، وإعلان كلمة الحق يساعد على قطع علائق أهل الدنيا، وأن يضرب الإنسان الأمثال لغيره في التزهيد بالدنيا فهذا يزهده في الدنيا، وأن يتمعّن هو في المثل فهذا يزهده في الدنيا. فإذا تذكرنا ما قلناه من قبل: أن القسم الأول من سورة الكهف هو تفصيل لقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وأن ما بعد ذلك تفصيل لما بعدها، وكل ذلك في خدمة حيّز المحور، يكون ما ذكرناه هنا تدليلا على ما أشرنا إليه من قبل. فلنر المقطع الثاني من السورة: ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (32) إلى نهاية الآية (49) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتد من الآية (32) إلى نهاية الآية (49) وهذا هو: 18/ 49 - 32

التفسير

التفسير: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ أي بساتين من كروم وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخيل محيطا بالجنتين وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً فكانت الأرض جامعة للأقوات والفواكه، والوصف يشير إلى أن العمارة كانت متواصلة متشابكة، لم يتوسطها ما يقطعها، مع الشكل الحسن، والترتيب الأنيق كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي أعطت ثمرها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي ولم تنقص من أكلها شيئا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أي والأنهار متفرقة فيهما، هاهنا وهاهنا، وصفها بوفرة الثمار، وتمام الأكل من غير نقص. ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب، فكان أفضل ما يسقى به وهو النهر الجاري وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أي وكان له ثمر وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال أخرى يثمرها، من الذهب والفضة، وبالجملة فقد أوتي من كل زينة الحياة الدنيا فَقالَ لِصاحِبِهِ المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه الكلام وهو يطوف به في الجنتين، ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي وأعز أنصارا وحشما، أو أعز أولادا ذكورا

[سورة الكهف (18): آية 35]

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي إحدى جنتيه، أو سماهما جنة لاتحاد الحائط أو لاتحاد النهر وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي وهو ضار لها بالكفر والتمرد والتكبر والتجبر وإنكار المعاد قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً أي ما أظن أن تهلك هذه الجنة أبدا، وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار، والأشجار والأنهار، المطّردة في جوانبها وأرجائها، ظنّ أنها لا تفنى ولا تفرغ، ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، وهكذا شك في بيدودة جنته لطول أمله، وتمادي غفلته، واغتراره بالمهلة وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أي ولئن كان معاد ورجعة، ومرد إلى الله، ليكونن لي هناك أحسن من هذا، لحظي عند ربي، فلولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا. وهذا من فرط جهله بشأن الله، وحقيقة امتحانه، والمنقلب: هو المرجع والعاقبة قالَ لَهُ صاحِبُهُ المؤمن واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي وهو يراجعه الكلام ويجادله أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا جعله كافرا بالله لشكّه بالبعث، فدلّ ذلك على أنّ الإيمان بالبعث فرع الإيمان بالله لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له. ثم نبهه على واجبه تجاه النعمة وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ هذا تحضيض منه وحث على قول ذلك. أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله. أي الأمر ما شاء الله، أو أي شئ شاء الله كان، أي هلا قلت الأمر ما شاء، اعترافا بأنها وكل ما فيها إنما حصل بمشيئة الله، وأن أمرها بيده، إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خرّبها، وقلت لا قوة إلا بالله؛ إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها هو بمعونته وتأييده إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ في الدنيا أو في العقبى وَيُرْسِلَ عَلَيْها أي على جنتك التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أي عذابا من السماء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي أرضا بلقعا لا يثبت فيها قدم أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أي فلا يتأتى منك طلبه فضلا عن إيجاده. والمعنى: إن ترن أفقر منك، فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى، فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك. ويسلبك لكفرك

[سورة الكهف (18): آية 42]

نعمته، ويخرّب بساتينك وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي بأمواله أو بثماره، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان خوّفه به المؤمن، من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها، وألهته عن الله عزّ وجل فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي يضرب إحداهما على الأخرى ندما وتحسّرا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي في عمارتها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها الخاوية الخالية والمراد بها هنا الساقطة يعني أن كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض، وسقطت فوقها الكروم وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً هنالك تذكّر موعظة المسلم، فعلم أنّه أتي من جهة كفره وطغيانه، فتمنّى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه حين لا ينفعه التمنّي، ويجوز أن يكون كلامه توبة من الشرك وندما على ما كان منه، ودخولا في الإيمان وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يقدرون على نصرته من دون الله، أي هو وحده القادر على نصرته، لا يقدر أحد غيره أن ينصره، إلا أنه لم ينصره لحكمة وَما كانَ مُنْتَصِراً أي وما كان ممتنعا بقوته عن انتقام الله هُنالِكَ أي في ذلك المقام وتلك الحال الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي النصرة لله وحده، لا يملكها غيره، ولا يستطيعها أحد سواه. ويمكن أن يكون المعنى: كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله، وإلى موالاته، والخضوع له في هذا المقام، ويمكن أن يكون المعنى: في هذا المقام ينصر الله أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدّق فيه قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً أي جزاء وَخَيْرٌ عُقْباً أي وخير عاقبة. كلمة في السياق: تأتي هذه القصة في سياق السورة بما ينسجم مع مقدمتها: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً فهذان رجلان أحدهما غرّته زينة الحياة الدنيا؛ فرسب وعوقب. والثاني زهد في الحياة الدنيا فنجح ونصر. والقصة تأتي بعد المقطع الأول الذي أمر الله فيه رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يصبر نفسه مع أهل الإيمان تاركا أهل الدنيا، ففيها تأكيد على ضرورة ذلك، وفي القصة نموذج على محاولات أهل الإيمان مع أهل الدنيا، وكيف أنهم ينكرون عليهم غفلتهم وكفرهم، ويذكّرونهم بالله ربهم.

فائدة: بمناسبة قوله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ..

والقصة تبين أن الاغترار بزينة الحياة الدنيا يؤدي إلى الكفر كما تبين جهل من يتصور أن إعطاء الله الحياة الدنيا علامة كرامة دائما، قد يكون الأمر كذلك، وقد لا يكون، وفي خاتمة القصة إذ تصبح الجنة صعيدا زلقا تذكير بالنهاية الكلية للدنيا كلها، وللأرض كلها يوم القيامة. وندم صاحب الجنة في هذا المقام أقل بكثير من الندم يوم القيامة. فالمثل إذن يخدم سياق السورة، إذ يعرض فشل إنسان في الاختبار بتزيين الحياة الدنيا، ونجاح إنسان. والقصة تخدم السياق الكلي للقرآن: فسورة الكهف تفصل محورها من سورة البقرة وهو: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقد رأينا في القصة كيف كانت الحياة الدنيا مزينة للكافر، وكيف كان يسخر من المؤمن، ويترفّع عليه ويفتخر. وقد عرضت لنا القصة نوعا من أنواع فوقية المؤمن على الكافر، حتى في الحياة الدنيا، فضلا عن الآخرة. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ومن ثم ختمت القصة بقوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً. وكل ذلك يخدم موضوع الدخول في الإسلام كله، إذ العبرة للخواتيم، والخواتيم لأهل الإيمان. فائدة: [بمناسبة قوله تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يذكر ابن كثير أن بعض السلف فهموا من هذه الآية أن تحصين النعم يكون بهذه الكلمة قال: (ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شئ من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده .. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت». وكان يتأوّل هذه الآية وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله». في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله». وروى الإمام أحمد .. عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قال: قلت: نعم فداك أبي وأمي: «قال: أن تقول: لا

[سورة الكهف (18): آية 45]

قوة إلا بالله» قال أبو بلخ (وهو أحد رواة هذا الحديث): وأحسب أنه قال فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم». ولنعد إلى سياق المقطع: فبعد أن ضرب الله مثلا قصة الرجلين، يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يضرب مثلا للحياة الدنيا. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا في زوالها وفنائها وانقضائها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ أي السحاب فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فالتف بسبب الماء ونما حتى خالط بعضه بعضا، أو أثّر في النبات الماء؛ فاختلط به حتى روي، أي فاختلط بالماء ما فيها من الحب، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور والنضرة، ثم بعد هذا كله فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي يابسا تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرّقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً أي قادرا. أي هو قادر على هذه الحال، وهذه الحال، شبّه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها، وما يتعقبها من الهلاك والإفناء، بحال النبات يكون أخضر، ثم يهيج فتطيّره الريح، كأن لم يكن. كلمة في السياق: رأينا أن آخر آيتين في مقدمة سورة الكهف هما: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً وهذا المثل الذي مرّ معنا إنما هو توضيح لحقيقة الدنيا في كون ما على الأرض زينة، ولكنه إلى انقضاء. فالآية تمضى على النسق الكلي لسياق السورة. ثم ذكر الله عزّ وجل أعظم زينة الحياة الدنيا: وهو المال والولد، مبينا أن خيرا من المال والولد، الباقيات الصالحات. الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان، أو الصلوات الخمس، أو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي جزاء وَخَيْرٌ أَمَلًا لأنه وعد صادق، وأكثر الآمال كاذبة، يعني أن صاحب الباقيات الصالحات أمله في ثواب الله في الدنيا والآخرة، أحسن من أمل ذلك الذي يأمل خدمة ماله أو أولاده، فإذا كان خير ما

[سورة الكهف (18): آية 47]

في هذه الدنيا هذا شأنه، فعلى العاقل أن يكون أكثر حرصه على الباقيات الصالحات، لأنها هي التي تدل على أن صاحبها طالب للآخرة، وتدل على أنه قد وضع الدنيا موضعها الحقيقي وأعطاها قيمتها الحقيقة، ومن تأمل حال المال والولد، رأى كيف أن مآلها إلى الزوال كحال كل ما هو من هذه الدنيا. ثم يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يذكّر عشاق الحياة الدنيا المفتونين بها الكافرين في الآخرة بمشهد من مشاهد يوم القيامة لعل ذلك ينفعهم. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي واذكر يوم نسيّر الجبال في الجو، أو بأن نجعلها هباء منثورا منبثا، أي يوم تذهب من أماكنها وتزول وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، ولا حجر ولا بناء ولا شجر، أي ليس عليها ما يسترها مما كان عليها من الجبال والأشجار، فإذا تذكرنا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أدركنا أن الصلة بين هذا المشهد وبين مقدمة سورة الكهف قائمة وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ أي فلم نترك مِنْهُمْ أَحَداً أي وجمعنا الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا. قال النسفي: وإنما قال: وَحَشَرْناهُمْ ماضيا بعد (نسيّر) و (ترى) للدلالة على حشرهم قبل التسيير، وقبل البروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا أي مصطفّين ظاهرين، ترى جماعتهم كما ترى كل واحد، لا يحجب أحد أحدا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي لقد بعثناكم كما أنشأناكم أول مرّة أو جئتمونا عراة لا شئ معكم كما خلقناكم أولا، وهذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً أي بل زعمتم ألّن نجعل لكم وقتا لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور، أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن وَوُضِعَ الْكِتابُ أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ أي خائفين مِمَّا فِيهِ من الذنوب التي واقعوها من الأعمال السيئة، والأفعال القبيحة وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرّطنا في أعمارنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا عملا- وإن صغر- إلا أحصى جميع ذلك، أي ضبطها وحفظها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا من خير وشر حاضِراً في

كلمة في السياق

الصحف وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فيكتب عليه ما لم يعمل، أو يزيد في عقابه، أو يعذبه بغير جرم. فهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم. كلمة في السياق: إن هذه المجموعة الأخيرة في المقطع تذكّر وتعظ وتربي على الزهد في الدنيا والعمل للآخرة، وتظهر مقدار الذلة التي يكون عليها الكافرون يوم القيامة. فإذا تذكّرنا محور سورة الكهف من البقرة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ نجد ما مرّ معنا مرتبطا به بشكل ما، وبما يخدم الدخول في الإسلام كله، واجتناب خطوات الشيطان. فوائد: 1 - [أقوال المفسرين في تفسير الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ] رأينا أن للمفسرين أكثر من قول في تفسير الباقيات الصالحات. والحقيقة أن كل ما قالوه يدخل في مضمون الباقيات الصالحات. فالعمل الصالح باق عند الله، والأعمال الصالحات باقيات عند الله، ويدخل في الأعمال الصالحات كل ما قالوه. وقد ذكر ابن كثير الاتجاهات في تفسير الباقيات الصالحات. قال: «قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف (الباقيات الصالحات): الصلوات الخمس، وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس (الباقيات الصالحات): سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان ابن عفان عن (الباقيات الصالحات) ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وروى الإمام أحمد ... عن الحارث مولى عثمان رضي الله عنه قال: جلس عثمان يوما وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه سيكون فيه مدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: «من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلّى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلّى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلّى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلّى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلّى صلاة الصبح، غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهنّ الحسنات يذهبن السيئات» قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هى لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد، عن

سعيد بن المسيب قال: (الباقيات الصالحات): سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن (الباقيات الصالحات) فقلت: الصلاة والصيام فقال: لم تصب. فقلت: الزكاة والحج فقال: لم تصب ولكنهن الكلمات الخمس لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وروى ابن جريج ... عن نافع بن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن (الباقيات الصالحات) قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك، وقال مجاهد: (الباقيات الصالحات) سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وروى عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله: هنّ الباقيات الصالحات، روى ابن جرير: .... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هن الباقيات الصالحات». وروى أيضا .... عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات» قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: «الملة»، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «التكبير، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله». قال ابن وهب أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة، فقال: قل له: القني عند زاوية القبر، فإن لي إليك حاجة، قال: فالتقيا، فسلّم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها «لا حول ولا قوة إلا بالله»؟ قال: ما زلت أجعلها قال: فراجعه مرتين- أو ثلاثا- فلم ينزع، قال فأثبت؟ قال سالم: أجل فأثبت؛ فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: «عرج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم عليه السلام، فقال: يا جبريل من هذا الذي معك؟ فقال: محمد، فرحّب بي وسهّل، ثم قال: مر أمّتك فلتكثر من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقلت: وما غراس الجنة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله».

وروى الإمام أحمد ... عن رجل من آل النعمان بن بشير قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شئ ثم، قال: «أما إنه سيكون بعدي أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدّقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدّقهم بكذبهم، ولم يمالئهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنّ الباقيات الصالحات». وروى الإمام أحمد ... عن مولى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بخ بخ لخمس ما أثقلهنّ في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفّى فيحتسبه والده- وقال- بخ بخ لخمس: من لقي الله مستيقنا بهنّ، دخل الجنة: يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة، وبالنار، والبعث بعد الموت، وبالحساب». وروى الإمام أحمد ... عن حسان بن عطية قال: كان شدّاد بن أوس رضي الله عنه في سفره، فنزل منزلا فقال لغلامه: «ائتنا بالسفرة نعبث بها» فأنكرت عليه فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخصمها وأزمها غير كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليّ، واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علّام الغيوب». وروى الطبراني: .... عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت في أول من أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الطائف، فخرجت من أهلي من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلمت وعلّمني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وإِذا زُلْزِلَتِ وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر وقال: «هن الباقيات الصالحات». وبنفس الإسناد: «من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ثم قال: سبحان الله، مائة مرة، والحمد لله مائة مرة، والله أكبر مائة مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، غفرت ذنوبه إلا الدماء، فإنها لا تبطل». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قال: هي ذكر الله، قول لا إله إلا الله،

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ..

والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلّى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض. وقال العوفي عن ابن عباس: هي الكلام الطيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها، واختاره ابن جرير رحمه الله.» ولنلاحظ بخاصة ما ذكر ابن كثير من حديث الإمام أحمد: «أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدّقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس مني ولا أنا منه ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ..... » فإن في هذا الحديث نورا خاصا تضاء به ظلمات معاصرة. 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً .. ] بمناسبة قوله تعالى: مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها يذكر ابن كثير ما رواه الطبراني عن سعد بن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة حنين، نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شئ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اجمعوا، من وجد عودا فليأت به، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به، قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما، فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم، كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنّها محصاة عليه». 3 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً] وبمناسبة قوله تعالى: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً يذكر ابن كثير الحديث المخرج في الصحيحين عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به». 4 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] وبمناسبة قوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً يذكر ابن كثير الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاشتريت بعيرا ثم شدّدت عليه رحلا، فسرت عليه شهرا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

وقفة حول ما مر من السورة

يقول: «يحشر الله عزّ وجل الناس يوم القيامة» - أو قال العباد عراة غرلا بهما» قلت وما بهما؟ قال: «ليس معهم شئ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصّه منه، حتى اللطمة قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عزّ وجل حفاة عراة غرلا؟ قال: بالحسنات والسيئات». وقفة حول ما مرّ من السورة: بدأت السورة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً وقد رأينا فيما عرضته السورة نموذجا على استقامة ما يدعو إليه الكتاب، وعلى استقامة كل ما فيه من معنى، أو لفظ، أو أسلوب، ثم قال تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وقد رأينا في السورة نماذج من الإنذار، إن في التذكير بالنار، أو في التذكير بالعذاب الدنيوي في قصة أصحاب الجنتين، أو في عرض ما يكون يوم القيامة، ثم قال تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وقد رأينا فيما عرض الله ما أعده للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. ثم قال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً* ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ولا نجد أنه عرض لهذا الموضوع بعد ذلك، فكأنه موضوع انتهى الكلام فيه ثم قال: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ونلاحظ أن السورة في مقاطعها، ومجموعاتها، تخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أَمْ حَسِبْتَ)، (وَلا تَقُولَنَّ)، (وَاتْلُ)، (وَاصْبِرْ)، (وَقُلْ) *، (وَاضْرِبْ) * «واذكر» المقدّرة، ثم ويسألونك، ثم قل، فالسورة تسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتوجهه لما ينبغي فعله أمام المواقف الكافرة. ثم يأتي قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ورأينا أن قصة أهل الكهف، وما جاء بعدها، وقصة أصحاب الجنتين، والمثل الذي ضربه الله للحياة الدنيا، وعرض ما يكون من حال يوم القيامة، كل ذلك يخدم الآيتين. وقد رأينا ارتباط ذلك كله بمحور السورة من البقرة، فالصلة إذن ما بين مقدمة السورة ومضمونها واضحة، والصلة بين السورة ومحورها من البقرة واضحة.

والآن يصل السياق إلى مقطع جديد، يخاطب به هؤلاء الذين زينت لهم الحياة الدنيا فينذرون كرّة أخرى، وتقام عليهم الحجة، ويعلّل فيه للهداية وللضلال، ولتأخير العذاب، وهي مواضيع تخدم- كما سنرى- سياق السورة، وتخدم محورها، وخاصة موضوع اجتناب خطوات الشيطان، وسنرى هذا بالتفصيل- إن شاء الله تعالى- وهذا هو المقطع: ***

المقطع الثالث ويمتد من الآية (50) إلى نهاية الآية (59) وهذا هو

المقطع الثالث ويمتد من الآية (50) إلى نهاية الآية (59) وهذا هو: 18/ 59 - 50

التفسير

التفسير: وَإِذْ قُلْنا أي واذكر إذ قلنا لِلْمَلائِكَةِ أي لجميعهم اسْجُدُوا لِآدَمَ أي سجود تشريف وتكريم فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ قال ابن كثير: أي خانه أصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم». فعند الحاجة نضح كل إناء بما فيه، وخانه (أي إبليس) الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان توسّم بأفعال الملائكة، وتشبّه بهم وتنسّك. فلهذا دخل في خطابهم، وعصى بالمخالفة، ونبه تعالى على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف: 12) قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر، رواه ابن جرير بإسناد صحيح فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعة الله، ثم قال تعالى مقرّعا، وموبّخا لمن اتبعه وأطاعه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي أي بدلا عني، والاستفهام للإنكار والتعجب، كأنه قيل: أعقيب ما وجد منه تتخذونه وذريته أولياء من دوني، وتستبدلونهم بي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي والحال أنهم لكم أعداء بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بئس البدل، إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أشهدت إبليس وذريته خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة، وإنما يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية، فنفي مشاركتهم في الإلهية، ينفي شهودهم خلق السموات والأرض، لعدم احتياجه إليهم، لا في الخلق ولا في المشاورة وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذهم عضدا: أي أعوانا، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة. فالمعنى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبّرها، ومقدّرها وحدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، فكيف تتخذون عبيدا أمثالكم أولياء من

فائدة: حول آية ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض .. أهم أسباب الضلال في كل العصور

دوني، وهم لا يملكون شيئا، ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين. فائدة: [حول آية ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. أهم أسباب الضلال في كل العصور] بمناسبة قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً نقول: إن من أهم أسباب الضلال في العصور عامة وفي عصرنا خاصة النظريات الخاطئة في أصل نشأة الكون، ونشأة الإنسان، ولذلك ركّزنا على هذا الموضوع في ظاهرتي الحدوث والحياة من كتابنا (الله) جل جلاله، إن نظريات داروين مثلا، والنظريات التي تقول بقدم المادة، من أهم ما يتكأ عليه الملحدون في إلحادهم، مع أن هذه النظريات كلها منقوضة بحقائق علمية لا تقبل جدلا، وقد كتب الكثير حول هذا الموضوع: وبين يديّ كتاب لطيف اسمه (الحجج العصماء في نقض نظرية داروين في النشوء والارتقاء) يذكر فيه مؤلفه إحدى عشرة حجّة تدحض هذه النظرية، منها قضية الصبغيات، وناقلات الوراثة، ومنها عدم التزاوج بين الأنواع، ومنها طبقات الأحياء في طبقات الأرض، إلى غير ذلك مما ذكره، جزاه الله خيرا، وقد أشرنا إلى مثل هذه الأمور وغيرها عند الكلام عن ظاهرة الحياة كما ذكرنا، وإن الآية التي ذكرناها لمعجزة في سياقها تدحض هذا الزلل ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ كلمة في السياق: ما محل التذكير بهاتين الآيتين في السياق الخاص لسورة الكهف؟ وما محل التذكير بهاتين الآيتين في السياق العام؟: إن اتخاذ الشيطان وليا هو بداية الشر في كل شأن، هو بداية الكفر، وهو بداية الفسوق، وهو بداية كل فكرة ظالمة أو كافرة، وبداية السير في طريق كل شهوة خاسرة، وهو العامل في تزيين الحياة الدنيا، واتباع خطراته هي الفسوق عن أمر الله، ومن ثم خوطب الخلق ليتحرروا من ولايته. وأقيمت عليهم الحجة في أن الله وحده هو الولي، ومظهر ولايته الاستسلام له وحده في كل شئ. بالدخول في دينه، فإذا عرفنا هذا أدركنا محل الآيتين في السياق الخاص للسورة، والسياق العام للقرآن.

[سورة الكهف (18): آية 52]

وبعد أن بين الله عزّ وجل أن هؤلاء الذين اتخذهم الكافرون أولياء، كما أنهم ليس لهم علاقة في الخلق، فكذلك لا حول لهم ولا طول يوم القيامة، فخلق هذا شأنهم كيف يتخذون آلهة وأربابا وأولياء!. ... وَيَوْمَ يَقُولُ أي للكفار تقريعا لهم وتوبيخا، على رءوس الأشهاد نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أي مهلكا، أي وجعلنا بينهم وبين من اتخذوهم أولياء مكان هلاك وعذابا شديدا. وفي الآية أقوال أخرى. قال ابن كثير في تفسير الموبق: والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك، ويجوز أن يكون واديا في جهنم، أو غيره. والمعنى: أن الله تعالى بيّن أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين: ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا: وأنّه يفرّق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أي أيقنوا، واستعمال كلمة الظن هنا للإشعار بأن أنفسهم تريد أن تهرب من الحقيقة أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها وواقعون فيها. قال ابن كثير في الآية: تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهمّ، والحزن لهم فإنّ توقّع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا، أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها، ولا بذلهم منها. وهذه المعاينة لجهنم تكون عند ما يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك. فهذه هي عاقبة اتخاذ الشيطان وليا من دون الله. كلمة في السياق: دلت الآيات على أن نقطة الخطأ التي لا أكبر منها، هي اتخاذ الشيطان وليا من دون الله، فهي نقطة الخطأ العقلي، والسلوكي التي توصل إلى النار، وما أصعب النار، وما أشدها، وما أصعب ما قبلها من خزي وذلة وانتظار، وما أشده، فليجتنب الإنسان اتباع خطوات الشيطان، وليحذر أن يكون من جنده الذين زين لهم الحياة الدنيا، وجعلهم يسخرون من أهل الإيمان، مع أن أهل التقوى هم الذين لهم العاقبة، وهم فوقهم يوم القيامة. وقد فسر بعض المفسرين وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أي جعل الله بين المشركين ومن

[سورة الكهف (18): آية 54]

عبدوهم من الملائكة وعزير وعيسى أمدا بعيدا، لأن الكافرين في قعر جهنم، وهم في أعلى الجنان: فتكون المجموعة على هذا التفسير تخدم قوله تعالى من محور السورة في البقرة وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وفي هذا المقام مقام إقامة الحجة على المشركين- يذكر الله عزّ وجل نعمته على خلقه بهذا القرآن، وطبيعة الإنسان التي تصرفه عن الاستفادة الكاملة من هذا القرآن، قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا وبيّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاجون إليه وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي وكان الإنسان أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحدا بعد واحد، خصومة ومماراة بالباطل، يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شئ، جاءت هذه الآية بعد أن بيّن الله عاقبة الذين اتخذوا الشياطين أولياء، مبينا فيها أنه قد وضّح لهم في هذا القرآن الأمور، وفصّلها، كيلا يضلّوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان في هذا القرآن، فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة، والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هداه الله وبصّره، ولقد رأينا في هذه السورة، كم من مثل ضربه الله لينقل الإنسان إلى الحال الأعلى، ورأينا نموذجا على جدال الإنسان بالباطل في بعض هذه الأمثال، إن هذا المقطع يعكس أنواره على كل ما سبقه من السورة، وإذ قرّر الله في الآية خاصية هذا القرآن، وطبيعة هذا الإنسان، يبيّن في الآيتين اللاحقتين، أنه جل جلاله ما ترك مانعا يمنع أحدا من الإيمان إلا هدّمه، لولا طبيعة الإنسان الكافر فقال: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي جاءتهم أسبابه وهي الكتاب أو الرسول أو الوحي وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ على ما فرّطوا في جنابه إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهي الإهلاك أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي عيانا أو أنواعا، أي إن الآيات من الدلالة والوضوح، بحيث لا تبقي مانعا يمنع من الإيمان، ولكنها الطبيعة الجحود التي لا تصدق إلا إذا أهلكت، أو رأت عذاب الآخرة، فهي لا تصدق ما أنذرها به الرسل حتى يقع، والرسل مهمتهم التبشير والإنذار ليس إلا، وقد جعل الله معهم كل ما تقوم به الحجة، ولكن طبيعة الكفر تحول دون القبول وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ مبشّرين لمن آمن بهم وصدقهم، ومنذرين لمن كذّبهم وخالفهم وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ليزيلوا ويبطلوا ويضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، دلّ هذا على أن ما بعث به الرسل هو الحق، وأنه لا حجة لكافر، وإنما جداله للباطل وبالباطل وَاتَّخَذُوا أي الكافرون آياتِي أي الحجج

كلمة في السياق

والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وَما أُنْذِرُوا أي وما أنذرهم به الرسل، وخوّفوهم به من العذاب في الدنيا والآخرة هُزُواً أي موضع استهزاء. كلمة في السياق: جاءت هاتان الآيتان بعد قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا وظهر من خلالهما أن الكافر هو الذي يجادل بالباطل، فهو الذي يحاول إزالة هذا القرآن وإضعافه، وأن هذا القرآن لم يبق حجة لأحد، وأن الكافرين اجتمع لهم- مع محاولاتهم دحض حجج الحق- أنهم يتخذون الإنذار محل هزؤ، فإذا تذكّرنا مقدمة سورة الكهف، وأنّ هذا القرآن مبشّر ومنذر، عرفنا محل هذه الآيات في السياق الخاص لسورة الكهف، وأنّ الأمثلة التي سبقتها تخدمها، وهي تخدم ما قبلها بشكل مباشر، وكما تخدم سياق سورة الكهف، فهي تخدم محورها من سورة البقرة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا إذ بينت أن الكافرين يستهزءون بآيات الله، وبنذره، واستهزاؤهم بذلك استهزاء بمن ظهرت معه الآيات والنذر، وهم المرسلون أسياد المؤمنين، فهذا نوع بيان وتفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وإذ يقف الكافرون من آيات الله هذا الموقف، مكذبين ومستهزءين ورافضين للإيمان والاستغفار، مع وضوح الحجة وقيامها، وكرامة الرسل عليهم الصلاة والسلام وفضلهم، بيّن الله عزّ وجلّ في الآية اللاحقة أنه لا أظلم من هؤلاء. ... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتذكّر ولم يتدبّر ولم يؤمن وَنَسِيَ عاقبة ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر والمعاصي، غير متفكر فيها ولا ناظر ولا مستغفر. ثم علّل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، بسبب أعمالهم ومواقفهم إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموا هذا القرآن الذي فصّله الله وصرّفه، وضرب فيه من كل مثل وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً قال ابن كثير: أي صمما معنويا عن الرشاد. قال النسفي أي: ثقلا عن استماع الحق وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى أي إلى الإيمان فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي فلا يكون منهم اهتداء البتة، وحتى لا يظن ظان، أنّ جعل الحجاب على قلوبهم، والوقر في آذانهم، ظلما أو قسوة، بيّن تعالى أنه الغفور ذو الرحمة الواسعة، فلم يعاقبهم هذا العقاب إلا لاستحقاقهم الكامل له.

[سورة الكهف (18): آية 58]

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ أي البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ أي الموصوف بالرحمة وعلامة رحمته عدم تعجيل العذاب لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فعدم تعجيله العذاب دليل رحمته ومغفرته، فإنه يحلم ويستر ويغفر ويمهل، ولكن من كمال رحمته أنه لا يهمل. فالرحمة الدائمة في الكافرين متعبة للمؤمنين الذين هم عباده وأولياؤه، ومن ثم فلكل كافر موعد بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل، وكمثال على ذلك فعله في الأمم السالفة والقرون الخالية وَتِلْكَ الْقُرى أي أصحابها أَهْلَكْناهُمْ بسبب كفرهم لَمَّا ظَلَمُوا أي حين ظلموا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي جعلناه إلى مدة معلومة، ووقت معيّن، لا يزيد ولا ينقص، أي وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما، لا يتأخرون عنه، فتلك سنته تعالى. فليحذر الكافرون في كل زمان ومكان. كلمة في المقطع: لو أردنا أن نترجم هذا المقطع لأوامر لفهمنا منه الأوامر التالية: 1 - اتخذوا الله وليا، ولا تتخذوا الشيطان وليا، ولا تشركوا بالله شيئا. 2 - اهتدوا بهدى القرآن ولا تجادلوا بالباطل لتدحضوه. 3 - آمنوا بالله واستغفروه. 4 - لا تسخروا بآيات الله ولا تستهزءوا بنذره. 5 - لا تعرضوا عن آيات الله، ولا تنسوا ذنوبكم. إلا أنها جاءت في السياق بصيغة الإنذار ليظهر بها نوع من خصائص هذا القرآن المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ. ونلاحظ أن هذا المقطع جاء في وسط السورة بعد ضرب أمثال كثيرة، فكأن هذا المقطع جاء ليقرّر مجموعة الأوامر التي تعالج الأمراض التي تحدثت عنها السورة، والتي تنبع كلها من موضوع تزيين الحياة الدنيا. فالشيطان هو الذي يزين الحياة الدنيا؛ فلا تتخذوه وليا، وتزيين الحياة الدنيا يرافقه إعراض عن الآيات، ونسيان للذنوب؛ فلا تعرضوا، ولا تنسوا ذنوبكم، والمخلص من تزيين الحياة الدنيا هو الإيمان بالله، والاستغفار، والاهتداء بهدى القرآن، فآمنوا، واستغفروا، واهتدوا. وهذا كله يقتضي تسليما لله تعالى يتمثّل بالتسليم لهذا القرآن. فلا تجادلوا واستسلموا. وكل ذلك قد صيغ بأسلوب القرآن المعجز، الذي تظهر في كل مجموعة منه مجموع خصائص

فوائد

القرآن، من بيان وتمثيل وتصريف للمعاني، وتبشير وإنذار، وهداية مباشرة وغير مباشرة فتتولّد نتيجة لذلك معان لا حدّ لها ولا حصر ولا عدّ. ... فوائد: 1 - [فائدة حول الأقوال الواردة في أصل إبليس] رأينا أن ابن كثير رجّح أن إبليس من الجن، وهو الذي يدل عليه ظاهر النص في سورة الكهف، ولكنه نقل في تفسيره مجموعة الأقوال الواردة في أصل إبليس. وبعد أن ذكر مجموعة الأقوال هذه قال: وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفّاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد، الذين دوّنوا الحديث وحرّروه، وبيّنوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه من منكره، وموضوعه ومتروكه، ومكذوبه، وعرفوا الوضّاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيّد البشر صلّى الله عليه وسلّم أن ينسب إليه كذب، أو يحدّث عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل الفردوس مأواهم. 2 - [ما ذكره ابن كثير من أقوال في تفسير كلمة (موبقا) في آية وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً] رأينا أن ابن كثير رجح أن معنى (موبقا) في قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أي مهلكا، إلا أنه نقل الأقوال الأخرى في هذا المقام، ونذكرها نحن هنا للفائدة: قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكا، وقال قتادة ذكر لنا أن عمر البكائي حدّث عن عبد الله بن عمرو وقال: هو واد عميق، فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة: موبقا واديا في جهنم. وروى ابن جرير بسنده أن أنس بن مالك قال في قول الله تعالى وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً قال: واد في جهنم من قيح ودم، وقال الحسن البصري: موبقا عداوة. والظاهر من السياق أنه المهلك، ويجوز أن يكون واديا في جهنم أو غيره، والمعنى أن الله تعالى بيّن أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك، وهول

3 - حديثان بمناسبة قوله تعالى ورأى المجرمون النار ..

عظيم، وأمر كبير. وأما إن جعل الضمير في قوله (بينهم) عائدا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو: وأنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (الروم: 14) وقال: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (الروم: 43) وقال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (يس: 29) وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ- إلى قوله- وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (يونس: 28 - 30). 3 - [حديثان بمناسبة قوله تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ .. ] يذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً حديثين قال: روى ابن جرير ... عن أبي سعيد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة». وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة، كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة». 4 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا] وبمناسبة قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأخرجاه في الصحيحين، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة. فقال: «ألا تصليان» فقلت: يا رسول الله: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا دلّ هذا الحديث على أن الاحتجاج بالقدر في حالة التقصير عن الكمال خلاف الأدب الإسلامي فضلا عن الاحتجاج بذلك لترك الفرائض والواجبات ومواقعة المعاصي. كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الثالث بالمقطع الرابع وبمحور السورة] ورد قوله تعالى في سورة البقرة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وورود آية زُيِّنَ* في هذا السياق يفيد أن العامل الأول في صرف الناس عن

الدخول في الإسلام كافة هو تزيين الحياة الدنيا، وازدراء أهل الإيمان، وفي مقابل ذلك يقرر الله عزّ وجل أن المتقين فوق الكافرين في الآخرة، وأنه هو الذي يرزق من يشاء، كافرا أو مؤمنا بغير حساب. وقد جاءت سورة الكهف لتفصّل هذه المعاني: فحدّثتنا عن تزيين الحياة الدنيا، وحدّثتنا عن سخرية الكافرين بالإيمان وأهله وأنذرتهم ذلك. والآن تأتي معنا قصة موسى والخضر عليهما السلام. وقصة ذي القرنين، وفي هاتين القصتين تفصيل لقوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ* ففي قصة الخضر عليه السلام نموذج للزرق المعنوي بغير حساب. وفي قصة ذي القرنين نموذج للرزق المادي والمعنوي بغير حساب. فكأن السورة في مقاطعها الأولى فصّلت قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وهي في مقطعيها القادمين تفصّل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.* ثم تأتي الخاتمة وهي المقطع السادس لتفصّل التفصيل الأخير. وكأن السورة تقول: يا أيها المنصرفون عن الدخول في الإسلام كله. ويا أيها المتّبعون لخطوات الشيطان، إن كنتم تريدون بذلك الرزق، فأنتم مخطئون؛ فالرزق كله الحسي والمعنوي من الله، ويا أيها الذين زينت لهم الحياة الدنيا، وسخروا من أولياء الله، إن الرزق كله من الله فأنتم مخطئون. ولكن المقطعين وإن كانا في سياقهما العام يخدمان ما قدمنا، فإنهما في سياقهما الخاص يعطياننا معاني كثيرة، وتلك سنّة القرآن، إذ يعطينا معنى من خلال المعنى الحرفي، ومعنى من خلال الآية مع غيرها، ومعنى من خلال المقطع وحده، ومعنى من خلال المقطع ضمن سياق السورة. ... في قصة موسى والخضر عليهما نجد قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. وفي قصة ذي القرنين إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فهما نموذجان على رزق الله عبدا من عباده بغير حساب، ولكن في القصتين من التأديب والتوجيه والعبرة، وتفصيل قضايا حياتية، ما لا يحيط به إلا الله. وكل ما مرّ معنا، وما يمر، يخدم قضية الدخول في الإسلام

المقطع الرابع ويمتد من الآية (60) إلى نهاية الآية (82) وهذا هو

كافة، واجتناب خطوات الشيطان بشكل مباشر، أو غير مباشر، فلنر المقطع الرابع ويتضمن قصة موسى والخضر عليهما السلام. المقطع الرابع ويمتد من الآية (60) إلى نهاية الآية (82) وهذا هو: 18/ 82 - 60

نقل حول ما ورد في التأكيد على أن الخضر هو صاحب موسى عليهما السلام

نقل [حول ما ورد في التأكيد على أن الخضر هو صاحب موسى عليهما السلام] نقل ابن كثير مجموعة أحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تفصّل هذه القصة في سياق التأكيد على أن الخضر هو صاحب موسى، وأن موسى هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا كما زعم بعضهم، أن المراد بموسى في الآية غيره. ونحن نختار أن ننقل الرواية الأولى التي ذكرها ابن كثير وهي إحدى روايات البخاري. وهذه هي:

أخرج البخاري بسنده .... إلى سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب وكيف لي به؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم» فأخذ حوتا فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا، فقال ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: فرجعا يقصّان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلّم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام! فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت. وأنت على علم من علم الله علّمكه الله لا أعلمه فقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً* فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت سفينة فكلّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً* قالَ

تفسير المقطع

أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فكانت الأولى من موسى نسيانا» قال: جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما بلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً* قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال وهذه أشد من الأولى قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً، فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي مائلا فقام الخضر بيده فَأَقامَهُ. فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً* قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما». تفسير المقطع: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ أي واذكر إذ قال موسى لفتاه، وفتاه هو: يوشع بن نون الذي أصبح خليفة موسى على قومه بعد وفاته، وسماه فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، ويأخذ منه العلم، وفي ذلك درس للمعلمين والمتعلمين، أن يختار المعلمون أكفأ وأجود وأرضى تلاميذهم لصحبتهم وتأهيلهم، وألا يستنكف المتعلمون عن الصحبة والخدمة لا أَبْرَحُ أي لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أي حيث يلتقي البحران أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي ولو أني أسير زمانا طويلا. وقد فسر محمد بن كعب القرظي مجمع البحرين بأنه: مضيق جبل طارق الحالي، حيث يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي. وفسره قتادة بغير ذلك، ولا يترتب على معرفة ذلك كثير أمر، ومن ثم أجمله القرآن فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ظاهر النص أن مجمعا من المجامع وصلا إليه، ويبدو أنه ليس المجمع الذي كان في تصور موسى عليه السلام. والمجامع كثيرة. فعندك مجمع البحر الأحمر بالمحيط الهندي، ومجمع النيل مع البحر الأبيض، ولا ندري بالضبط إذا كان المجمع واحدا من هذه. أو مجمعا آخر يلتقي فيه ماء خليج بماء بحر، أو ماء نهر كبير كشط العرب ببحر كالخليج، والمهم أنه في مجمع من مجامع بحرين حدث

[سورة الكهف (18): آية 62]

الحدث الآتي وهو نسيان الحوت. قال تعالى: نَسِيا حُوتَهُما أي نسي أحدهما وهو يوشع الحوت، لأنه كان صاحب الزاد، ونسب النسيان للاثنين لأن آثار النسيان تعود عليهما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ أي طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي دخل فيه واستتر فَلَمَّا جاوَزا أي مجمع البحرين. وسارا ما شاء الله أن يسيرا قالَ أي موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا، لم يتعب ولا جاع قبل ذلك، قبل مجاوزة المكان الذي هو الموعد للقاء الخضر عليه السلام قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ وما أنساني أن أذكر لك أمره إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي بإلقاء الخواطر الشاغلة في القلب وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً وهو أن أثره بقي إلى حيث سار قالَ موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي ذلك ما كنا نريد ونطلب فَارْتَدَّا أي رجعا عَلى آثارِهِما أي طريقهما قَصَصاً أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما، لأن ذهاب الحوت كان علما على لقاء الخضر عليه السلام فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا أي الخضر مسجّى بثوب كما مر معنا في رواية البخاري آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هي الوحي والنبوة أو الولاية وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي بدون واسطة أي بالإلهام قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي علما ذا رشد، أرشد به في ديني، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن يتعلم منه قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي قد تخالف شريعتك، لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من الله ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، فأنت لا تقدر على صحبتي وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد، وعلّل ذلك بأنه يتولى أمورا هي في ظاهرها مناكير، والرجل الصالح لا يتمالك إلا أن يجزع إذا رأى ذلك، فكيف إذا كان نبيا! فكأنه قال له: أنا أعرف أنك ستنكر عليّ ما أنت معذور فيه على ما لم تطّلع حكمته ومصلحته الباطنة، التي اطلعت أنا عليها دونك. قالَ أي موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أي على ما أرى من أمورك فلا أنكر ولا أعترض وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي ولا أخالفك في شئ، فعندئذ شارطه الخضر عليه السلام: قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ ابتداء، حتى أبدأك أنا قبل أن تبدأني، أي

[سورة الكهف (18): آية 71]

فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئا، وقد علمت أنه صحيح، إلا أنه خفي عليك وجه صحته، فأنكرت في نفسك، ألا تفاتحني بالسؤال، ولا تراجعني فيه، حتى أكون أنا الفاتح عليك. قال النسفي: وهذا من أدب المتعلم مع العالم، والمتبوع مع التابع فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي لقد أتيت شيئا كبيرا فظيعا. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه- وهو الخضر- أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يسأله عن شئ أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول يعني: بغير أجرة تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولجّجت أي: دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحا من ألواحها، ثم رفعها فلم يملك موسى عليه السلام إلا أن قال منكرا عليه أَخَرَقْتَها .... فعند ما قال له الخضر مذكّرا بما تقدم من الشرط قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرا، ولها وجه هو مصلحة ولم تعلمه أنت قالَ أي موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي لا تؤاخذني بالذي نسيته، أو بشيء نسيته، أو بنسياني، أراد أنه نسي وصيّته ولا مؤاخذة على الناسي وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي ولا تغشني عسرا من أمري، أي ولا تعسّر عليّ متابعتك، ويسّرها علي بالإغضاء وترك المناقشة، أي لا تضيّق عليّ ولا تشدّد. قال ابن كثير: ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا». فَانْطَلَقا أي بعد ذلك حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قال ابن كثير: وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية، من القرى وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله، وقيل: إنه احتز رأسه. وقيل: رضخه بحجر. وفي رواية اقتلعه بيده، والله أعلم. فلمّا شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر وقال: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب، قال هذا؛ إما لأنها طاهرة عنده، أو لأنه لم يرها قد أذنبت، أو لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير أن تقتل هي نفسا فيقتص منها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي ظاهر النكارة قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ذكّره بشرطه الأول قالَ أي موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها. أي بعد هذه الكرة أو المسألة

[سورة الكهف (18): آية 77]

فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة، فلا تصاحبني فقد أعذرت إليّ مرّة بعد مرّة، ومن ثم أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق فَانْطَلَقا أي بعد المرتين الأوليين حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها أي استضافاهم وكان أهل القرية لئاما نجلا، كما ورد في الحديث: «حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما». فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها أي في القرية جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يكاد أن يسقط فَأَقامَهُ أي فردّه إلى حال الاستقامة. قال ابن كثير: وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى ردّ ميله، وهذا خارق قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي لأجل أنهم لم يضيّفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا. قال النسفي: كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم، وقد ألزمتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة، فلم يجدوا مواسيا، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن قال: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي لطلبت على عملك جعلك حتى تستدفع به الضرورة قالَ أي الخضر هذا إشارة إلى السؤال الثالث، أي هذا الاعتراض سبب الفراق، أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شئ بعدها فلا تصاحبني فهو فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ أي بتفسير ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ثم بدأ يفسّر له ما خفي عليه من حكم الواقعات الثلاث: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ أي أمامهم مَلِكٌ أي من الظلمة سيمرون عليه يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي صالحة جيدة لا عيب فيها غَصْباً أي مصادرة، فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شئ ينتفعون به غيرها وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أي أن يغشي الوالدين المؤمنين طُغْياناً وَكُفْراً أي يعديهما بدائه، ويضلهما بضلاله، فيرتدا بسببه. وفي الحديث: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» ومن ثم خشي الخضر أن يحملهما حبه على متابعته. قال قتادة: (قد فرحا به حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير). فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي طهارة ونقاء من الذنوب وَأَقْرَبَ رُحْماً أي أقرب رحمة وعطفا أي أبر بوالديه وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما أي إن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في

بحث مهم في فقه العمل الإسلامي

المدينة، وكان تحته كنز لهما. والكنز: هو المال المدفون وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قال ابن كثير: فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة؛ لتقرّ عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنة، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحا فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي أن يبلغا الحلم وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي وما فعلت ما رأيت عن أمري أي اجتهادي، وإنما فعلته بأمر الله ذلِكَ أي الأجوبة الثلاث تَأْوِيلُ أي تفسير ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء. بحث مهمّ في فقه العمل الإسلامي: لاحظنا في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام أن الخضر اشترط على موسى شروطا للسير والصحبة، فلمّا أخلّ بها موسى عليه السلام، تمّ الفراق، وفي كثير من المراحل أو الأحيان لا يجمع المسلمين سلطة تنفيذية تجب طاعتها شرعا، فعلى المسلمين في هذه الحالة أن يعملوا مع بعضهم متعاونين لتحقيق الأهداف المفروضة، وقد جرت العادة أن يلتقي هؤلاء المتعاونون على قواعد متفق عليها، تحكمهم مع بعضهم، وعلى أنظمة متفق عليها يلتزمون بها، وعلى ضوء ذلك عادة يكون السير، ومن قصة موسى مع الخضر نفهم أنه إذا كان السير مشروطا بشرط، وحدث إخلال بهذا الشّرط فإن المخل بالشرط يفارق، ذلك حق للطرف الآخر إلا إذا تنازل عن حقه. الفوائد: 1 - [حديثان في سبب تسمية الخضر بهذا الاسم] في سبب تسمية الخضر خضرا يورد ابن كثير حديثين. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخضر قال: «إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء». وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء». قال ابن كثير: والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، قال عبد الرزاق. وقيل المراد بذلك وجه الأرض.

2 - أقوال العلماء في كون الخضر نبيا أو وليا أو رسولا

2 - [أقوال العلماء في كون الخضر نبيا أو وليا أو رسولا] هل كان الخضر نبيا أو وليا أو رسولا؟ خلاف كبير بين العلماء في ذلك وقد استدل من قال بنبوّته بقوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي قال ابن كثير: وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيا بل كان وليا فالله أعلم. وكأن ابن كثير لا يترجح لديه شئ في هذا الموضوع. والمهم في هذا المقام أن نذكر أن بعض الضالين الكافرين بعد أن رجّحوا كونه وليا، بنوا على ذلك أن الولي أفضل من النبي. قال النسفي: (وقد زلّت أقدام أقوام من الضّلال في تفضيل الولي على النبي وهو كفر جلي، حيث قالوا: أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو ولي. والجواب أن الخضر نبي، وإن لم يكن كما زعم البعض فهذا ابتلاء في حق موسى عليه السلام. ومن المحال أن يكون الولي وليا إلا بإيمانه بالنبي ثم يكون النبي دون الولي، ولا غضاضة في طلب موسى العلم، لأن الزيادة في العلم مطلوبة.) وأقول: إنه لا شك ولا ريب أن موسى أفضل من الخضر، ولو كان الخضر نبيا، لأن موسى من الرسل أولي العزم، وهم أفضل الخلق على الإطلاق وهم في الفضل على الترتيب الآتي: محمد- إبراهيم- موسى كليمه- فعيسى- فنوح- هم أولو العزم فاعلم. 3 - [هل الخضر لا زال حيا باقيا إلى الآن ومن ثم إلى يوم القيامة أم أنه مات؟] هل الخضر لا زال باقيا إلى الآن. ومن ثم إلى يوم القيامة، أو أنه مات؟ حكى النووي وغيره قولين في هذا الموضوع، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثارا عن السلف وغيرهم. وجاء ذكره في بعض الأحاديث. قال ابن كثير: ولا يصح شئ من ذلك، وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف، ورجّح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك واحتجوا بقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ (الأنبياء: 34) وبقول النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض». وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا حضر عنده، ولا قاتل معه، ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، لأنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وقد قال: «ولو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي». وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف إلى غير ذلك من الدلائل.» 4 - [من معجزات القرآن مطابقة اللفظ للمعنى] من إعجاز هذا القرآن أن لفظه يكافئ المعنى مكافأة عجيبة لا تستطاع من قبل بشر. فمهما بلغ الإنسان من حسن الذوق وحسن الانتقاء، فإنه لا يستطيع أن يجعل اللفظة المناسبة مكافأة للمعنى المكافئ بشكل دائم ومستمر ولنضرب على مكافأة

5 - من مظاهر الإعجاز في القرآن وضع كل حرف في محله بدقة وإحكام

اللفظ للمعنى في القرآن مثلا ذكره ابن كثير، وذكر بعضا منه النسفي. فمن الملاحظ أنه في أول مرة أنكر موسى على الخصر. قال له الخضر قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وفي المرة الثانية قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فزاد لك هنا لأن النكر فيه كان أكثر. وعند ما أبلغه بالفراق قال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فذكر التاء في «تستطع» ولما حل له الإشكال قال: ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي بدون تاء، قال تسطع بعد أن فسّر له المشكل وبيّنه ووضّحه وأزاله، وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا فقال: «تستطع» قال ابن كثير: فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف كما قال: (أي في الكلام عن سد يأجوج ومأجوج) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وهو الصعود إلى أعلاه وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً وهو أشق من ذلك فقابل كلّا بما يناسبه لفظا ومعنى. أقول: وهذه هي سنّة القرآن كله، إذ نجد كل معنى يختار له اللفظ الأنسب الذي لا يوجد أنسب منه في محله، وقد تعرضنا لهذا في كتابنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في فصل المعجزة القرآنية. 5 - [من مظاهر الإعجاز في القرآن وضع كل حرف في محله بدقة وإحكام] ومن مظاهر الإعجاز في هذا القرآن أنك لا تجد حرفا فيه إلا وهو في محله، وفي مكانه، ووجوده فيه في غاية الحكمة، ويعطي في المكان الذي هو فيه من المعاني العجيب. فمثلا تلاحظ أنّ الخضر لمّا علل لأفعاله الثلاثة قال في الأولى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وقال في الثانية: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وقال في الثالثة: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ففي الثالثة أسند الإرادة إلى الله وحده، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله، ولأنه إنعام محض، فكان كمال الأدب أن يسند الفعل إلى الله. وفي المرة الثانية قال: فَأَرَدْنا لأنه إفساد من حيث الفعل، إنعام من حيث التبديل، فلم ينسبه إلى نفسه منفردة صراحة، ولم ينسبه إلى الله صراحة. وفي المرة الأولى قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها نسبة إلى نفسه فقط. لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله فكانت دقته في التعبير نموذجا على كمال أدبه، فهو تعليم لنا، وأدب من أدب الأولياء مع الله، وقد دلنا ما رأيناه على ما ذكرنا في أول الفائدة كيف أن هذا القرآن من الدقة بحيث إنّ كل حرف في مكانه، وكل كلمة في مكانها، وكلّ آية في مكانها، وكل سورة في مكانها، من الكمال بما لا يحيط به إلا الله: ومن ثم فإن المعاني التي تتولد عن دراسة كتاب الله لا حدّ لها.

6 - من الآداب التي يجب التحلي بها لطالب العلم

6 - [من الآداب التي يجب التحلي بها لطالب العلم] في قوله تعالى على لسان موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته. وأن يتواضع لمن هو أعلم منه، وفيه دليل على أن الإنسان كلما ارتقت نفسه لم يبق عنده كبر. فهذا موسى رسول من أولي العزم لم يجد غضاضة أن يطلب من الخضر عليه السلام أن يعلمه. 7 - [لماذا جاز قتل الغلام في حق الخضر عليه السلام؟] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نجدة الحروري كتب إليه: كيف جاز قتل الغلام، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله الغلامين. قال: بصلاح أبيهما. قال: فأبي وجدي خير منه. ومن مثل هذا تجد كيف أن في القرآن هداية لا يحدها حدّ. 8 - [كلام ابن كثير حول سبب إغفال ذكر فتى موسى بعد ذكره في أول القصة] قال ابن كثير: فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة، ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرّح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام. 9 - [أقوال المفسرين حول معنى الكنز في القصة] للمفسرين كلام كثير حول الكنز ما هو، فمنهم من ذهب أنه مال. ومنهم من ذهب أنه نصائح، كما لهم كلام حول الأب الصالح، هل هو أب مباشر، أو أب قديم بينهم وبينه آباء عددهم سبعة؟ وليس في ذلك كله ما يصلح أن يكون حاسما للجدل. كما يذكر بعضهم في هذا المقام اسم الخضر الأصلي، واسم الغلام، واسم الملك الظالم، ولم نتعبّد بمعرفة ذلك، ومما يذكرونه في هذا المقام أن الملك الغاصب كان هدد بن بدد. ويقولون إنه مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق. وقد تتبعت التوراة الحالية المحرّفة فوجدتها تذكر في سفر التكوين في الإصحاح السادس والثلاثين هذا الاسم تقول عنه: (ومات حوشام فملك مكانه هداد بن بداد، الذي كسر مديان في بلاد موآب وكان اسم مدينته عويت). وهذا الكلام وارد في سياق الكلام عن أبناء عيسو. فإذا صح أن ذلك الملك هو هذا، يكون البحر الذي سار فيه موسى والخضر في السفينة هو البحر الأحمر، وأن مجمع البحرين هو مكان التقاء خليج العقبة في البحر الأحمر، لأن هداد بن بداد سيطر على مدين، كما يذكر النص التوراتي، واستيلاؤه عليها

10 - بعض روايات حول قصة موسى والخضر

يعني استيلاءه على خليج العقبة، فإذا علم هذا فلننقل إحدى الروايات الواردة في موضوع نوع الكنز وهي ما رواه ابن جرير عن الحسن البصري قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله). 10 - [بعض روايات حول قصة موسى والخضر] هناك روايات كثيرة تروى بمناسبة قصة الخضر وموسى. وقد نقلنا ما اعتبرنا أنه أجود الروايات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل البدء في التفسير، ونذكر هنا رواية يرويها ابن جرير بسنده عن ابن عباس، ولا يرفعها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن ننقلها لما فيها من حكمة ونجتزئ منها بما اجتزأ ابن كثير:. قال ابن عباس: سأل موسى عليه السلام ربه عزّ وجل فقال: أي رب أيّ عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي رب أيّ عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو ترده عن ردى. قال: أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال: نعم. قال: فمن هو؟ قال: الخضر. قال: وأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. قال: فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلّم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك. قال: إنك لن تطيق صحبتي. قال: بلى. قال: فإن صحبتني فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه. قال: وبعث الله الخطاف فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقل ما رزأ. قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى قد حدّث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه- أو تكلم به- فمن ثم أمر أن يأتي الخضر، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك». 11 - [من أدب الدعاء للغير] روى ابن جرير عن أبي بن كعب قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه. فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا».

ملاحظة مهمة: في أدب التعامل بين الشيخ والمريد

ملاحظة مهمة: [في أدب التعامل بين الشيخ والمريد] يلاحظ أن الأفعال الثلاثة التي فعلها الخضر عليه السلام غير جائزة شرعا- ولا مندوبة شرعا- ولكن حيث علم الخضر من الخفايا التي تقتضي الإباحة أو الندب ما لم يعلمه موسى فعلها الخضر، وأنكرها موسى عليه السلام. ومع أن موسى قد علم بإعلام الله أن الخضر أعلم منه في جوانب، وأنه ذهب ليتعلم، ومع ذلك أنكر إذ رأى الأمر من زاوية المخالفة مع كافة ما اشترط عليه الخضر، ولا شك أن القصة مربية ومعلمة. تربينا على أدب الصحبة، ولنا في الخضر قدوة، ولنا في موسى أسوة، وقدوتنا بموسى إن لم يكن الخضر نبيا هي الأولى لأن الله قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. ومن ثم فإنه لا يسع المسلم إذا رأى ما ظاهره منكر، إلا أن ينكره كائنا من كان فاعله. ولكنه في حالة كون الفاعل صالحا فإن الإنكار ينبغي أن يكون مرافقا للأدب، لاحتمال أن يكون للمسألة وجه، هذا في المسائل التي يمكن أن يكون لها أكثر من وجه. نقول هذا ونؤكده لأن هناك ناسا من الشيوخ يطالبون تلاميذهم بالأدب الذي طالب به الخضر موسى، ومريدوهم إذا رأوهم على منكر لم يعاملوهم كما عامل موسى الخضر، بل يأوّلون حتى الأمور التي ليس لها إلا وجه واحد في الشريعة، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن قال: بقرآني بآياتي لو أمرني الشيخ أن أسجد للّات لفعلت. وبلغ الأمر ببعضهم أنه لو رأى شيخه يشرب الخمر، فإنه يحسن الظنّ به، ويعتبر أن لذلك وجها، فأي ضلال مشترك ما بين هذا النوع من الشيوخ، وهذا النوع من التلاميذ، وكيف يبقى دين الله بمثل هذا؟ والله عزّ وجل يقول لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها (الجاثية: 18). وقد رأينا في عصرنا من البلايا بسبب مثل هذه التصورات الفاسدة الشئ العجيب الغريب، حتى لقد تجد أن بعض الشيوخ أضل بمواقفه عشرات الآلاف من التلاميذ نتيجة لمثل هذه الاستنباطات الفاسدة. إن شريعتنا كاملة، وكل وضع له في شريعتنا حكم. وعلى الداعية إلى شئ أن يقيم الدليل، وإلا فاتّباع كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم هو الأولى. ***

كلمة في السياق: حول قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وصلتها بالمحور

كلمة في السياق: [حول قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وصلتها بالمحور] رأينا في القصة أن الحكم أثر العلم. فبدون علم يصعب على الإنسان أن يعطي حكم الله مراعى فيه كل شئ، وبقدر إحاطة العلم يكون الإدراك لحكم الله في الموضوع المطروح أصح، ورأينا في القصة من أدب الرسالة والنبوة والولاية ومن أدب الصحبة والخدمة الكثير. ورأينا كيفية العلاقة الراقية التي يكون عليها أحباب الله دون مجاملة على حساب دين الله. ورأينا حكمة الله إذ يختار لنبوته ورسالته وولايته من ليس لهم حظوظ نفسية أو دنيوية. ورأينا عطاء الله الذي لا نهاية له. فكم أعطى الله موسى مما قد يتصور ناس أنه لا مزيد عليه، وإذا به يعطي خضرا في جوانب أكثر مما أعطاه موسى. وفي ذلك يكمن سر السياق: بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام، واجتناب خطوات الشيطان، وطالب البشرية كلها بذلك، والذي يصرف الناس عن الدخول في الإسلام هو زينة الحياة الدنيا. واحتقار أهل الإيمان. ولو أنهم فطنوا إلى أن الله يرزق من يشاء بغير حساب لما احتقروا أهل الإيمان، ولا صرفتهم الدنيا عن الدخول في الإسلام، إن في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام درسا بليغا، فإذا كان الله لا يعجزه أن يجعل عبدا زمن موسى أعلم من موسى في جوانب، أفيعجزه أن يجعل محمدا صلّى الله عليه وسلّم أعلم من موسى وأرقى، وأن يعطيه ختم النبوة ويكرمه بالإسلام الناسخ لكل دين، وبالقرآن الذي هو أشرف من كل كتاب. تعالى الله أن يعجزه شئ من ذلك. إذا عرفت هذه الحقيقة تعرف محل هذه القصة في السياق، ومحلها في خدمة محور السورة من البقرة. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقصة الخضر مع موسى عليه السلام تفصيل لنوع من رزق الله. كيف أنه يرزق من يشاء بغير حساب. وأن هذا كله يخدم قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام كله. أي في دين محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولا تفتنكم الدنيا عن ذلك، فتحتقروا أهل الإيمان وتذكّروا أن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي آتاه الله ما لم يؤت أحدا من العالمين، ولا تكونوا جاهلين في الله، فتستعظموا أن يرزق الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما رزقه من الهداية والكرامة والرشد بما جعله قدوة للعالمين. والآن فلننتقل إلى المقطع الخامس. وهو نوع تفصيل لقوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.*

المقطع الخامس ويمتد من الآية (83) إلى نهاية الآية (98) وهذا هو

المقطع الخامس ويمتد من الآية (83) إلى نهاية الآية (98) وهذا هو: 18/ 98 - 83

بين يدي هذا المقطع: نقل: حول قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج عن صاحب الظلال والأستاذ الندوي

بين يدي هذا المقطع: [نقل: حول قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج عن صاحب الظلال والأستاذ الندوي] للمفسرين تحقيقات طويلة حول شخصية ذي القرنين من هو؟ وحول يأجوج ومأجوج من هم؟ ونحن سنذكر لك في هذه المقدمة، وأثناء التفسير، وفي الفوائد أمهات الاتجاهات، ونبدأ هنا بذكر نقول ثلاثة نعتبرها من أهم ما ذكر: نقلان عن الظلال، ونقل عن الأستاذ الندوي في رسالته (تأملات في سورة الكهف). 1 - بمناسبة الكلام عن ذي القرنين قال صاحب الظلال: (إن النص لا يذكر شيئا عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه، وهذه هي السّمة المطردة في قصص القرآن. فالمقصود هو العبرة المستفادة من القصة. والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان. والتاريخ المدوّن يعرف ملكا اسمه الإسكندر ذو القرنين، ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن. فالإسكندر الإغريقي كان وثنيا. وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله موحّد معتقد بالبعث والآخرة. ويقول أبو الريحان البيروني المنجم في كتاب: (الآثار الباقية عن القرون الخالية) إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلا باسمه. فملوك حمير كانوا يلقبون بذي، كذي نواس، وذي يزن، وكان اسمه أبا بكر بن أفريقش. وأنه رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمر بتونس ومراكش وغيرها. وبنى مدينة إفريقية فسميت القارة كلها باسمه، وسمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس. وقد يكون هذا القول صحيحا. ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه. ذلك أنه لا يملك البحث في التاريخ المدوّن عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفا من سيرته، شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن، كقصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وغيرهم. فالتاريخ مولود حديث العهد جدا بالقياس إلى عمر البشرية. وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئا. فليس هو الذي يستفتى فيها. ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شئ

من تلك الأحداث، ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير. وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله، فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص التاريخي. وإذن فلم يبق إلا القرآن. الذي حفظ من التحريف والتبديل، هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي. ومن البديهي أنه لا يجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين: أولهما: أن التاريخ مولود حديث العهد، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية، لم يعلم عنها شيئا. والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لدى التاريخ علم عنها. وثانيهما: أن التاريخ- وإن وعى بعض هذه الأحداث- هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف، ونحن نشهد في زماننا هذا- الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص- أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى، وينظر إليه من زوايا مختلفة، ويفسر تفسيرات متناقضة ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق. فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص، كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل. وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء. إنما هو مراء). 2 - وبمناسبة الكلام عن ذي القرنين قال الأستاذ الندوي: (وذهب بعض الفضلاء المعاصرين (أشهرهم مولانا أبو الكلام آزاد الزعيم المسلم والكاتب الإسلامي ووزير المعارف سابقا في الجمهورية الهندية) إلى أنه (أي ذي القرنين) الشخص الذي يسميه اليونان «سائرس» وتسميه اليهود «خورس» ويذكره المؤرخون العرب ب «كيخسرو» «وقد لخص الأستاذ الندوي في حاشية كتابه ما ذكره الأستاذ أبو الكلام آزاد عن هذا الرجل فقال: «ظهر سائرس في سنة 559 ق. م. وقد جمع بين مملكتين فارسيتين عظيمتين، كانتا قد انفصلتا منذ زمان، وهما: (ميديا) الجزء الشمالي الذي قد يعبر عنه المؤرخون العرب ب «ما هات» (وفارس) الجزء الجنوبي، فكون منهما إمبراطورية فارسية عظمى، ثم امتدت فتوحه التي اتسمت بالعدل والكرم، والانتصار

للضعيف المظلوم، فلم ينقض اثنا عشر عاما حتى خضعت له البلاد والدول ما بين البحر الأسود إلى باختر Bactria وقد ثبت تاريخيا أنه غزا الغرب مرة، فأوغل فيه إلى غرب آسيا الصغرى، وفتح دولة ليديا التي كانت عاصمتها ساردس Sardis حتى وصل إلى البحر في أقصى الغرب، فوجده يموج، وتراءت له الشمس تغرب فيه، فتوقف هناك لعدم وجود البوارج الحربية، ولا يستغرب إذا كان قد وصل إلى ساحل من سواحل بحر إيجه Agean Sea الواقع في جوار «سمرنا» والبحر يتراءى هناك بحيرة، وقد تمثلت له الشمس في الأصيل تغيب في الوحل الذي نشأ على ساحلها. وهو الذي يصوره القرآن بقوله: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ. وغزا ثانية الشرق، فوصل في هذه الغزوة إلى مكران وبلخ، وأخضع القبائل الهمجية التي ليست لها وقاية من الشمس لبعدها من المدينة وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ثم ذهب إلى بابل العاصمة المنيعة، فأنقذ اليهود «بني إسرائيل» من الذل والأسر. والاضطهاد الذي سلّطه عليهم ملك بابل «بختنصر» فأصبح بذلك منقذ اليهود، ولهجوا بذكره والثناء عليه، والتساؤل عنه، وبذلك حقق نبوءات بني إسرائيل الواردة في التوراة. وكانت له غزوة ثالثة في الشمال. وقد ترك بحر خزر Caspian Sea عن يمينه، حتى وصل إلى جبال القفقاس، فوجد فجوة واقعة في هذه الجبال كان يدخل منها يأجوج ومأجوج، ويعيشون في البلاد، وهنا أقام السد، وقد مات سائرس سنة 529 ق. م فوجد في سنة 1838 م تمثال من رخام في أنقاض اصطخر Passar Gadae ظهر في رأسه قرنان مثل قرني الكبش، يمثلان مملكتي ميديا وفارس اللتين جمع بينهما سائرس، وبذلك سمي ذو القرنين. وقد شهد المؤرخون العصريون بكرم سائرس وشخصيته العادلة الفاضلة، ومن أراد التوسع في ذلك فليقرأ مقالة البروفسور B.Grundi راجع المجلد الثاني من Universal History Of The World. لمؤلفه. J.A.Hammerton 3 - وبمناسبة الكلام عن يأجوج ومأجوج قال صاحب الظلال: «وبعد فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون! كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض الأثر الصحيح. والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.

التفسير

وهذا النص لا يحدد زمانا. ووعد الله بمعنى: وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار، وانساحوا في الأرض، ودمروا الممالك تدميرا. وفي موضع آخر في سورة الأنبياء: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ... (الآية: 96) وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج، فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فجاء في القرآن: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر. فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون، يراها البشر طويلة مديدة، وهي عند الله ومضة قصيرة. وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ويومنا هذا. وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج. وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها حبيبة، عن زينب بنت جحش- زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: استيقظ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وحلّق (بإصبعيه السبابة والإبهام). قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث». وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن. وقد وقعت غارات التتار بعدها، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين. وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وعلم ذلك عند الله. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين) اهـ كلام صاحب الظلال. التفسير: وَيَسْئَلُونَكَ السائلون هم كفار مكة امتحانا بإيحاء من اليهود كما مرّ معنا في سبب نزول سورة الكهف عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أي عن خبره قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ أي من ذي القرنين ذِكْراً ثم بدأ يذكر شيئا عنه إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي

[سورة الكهف (18): آية 85]

الْأَرْضِ أي جعلنا له فيها مكانة واعتلاء، قال ابن كثير: (أي أعطيناه ملكا عظيما ممكّنا فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين، والجنود وآلات الحرب والحصارات. ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك البلاد، وخدمته الأمم من العرب والعجم). وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده من الأغراض والمقاصد سَبَباً أي طريقا موصلا إليه، إذ السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة، آتاه الله علم كل ما يلزمه مما يحتاجه الفتح، وتقتضيه السياسة، وغير ذلك، كما آتاه الوسائل. قال ابن كثير: يسّر الله له الأسباب أي الطرق، والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي، وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شئ مما يحتاج إليه سببا فَأَتْبَعَ سَبَباً أي لحق سببا، أي سار في عالم الأسباب، وكأن في هذا إشارة إلى أن تمكينه وأفعاله كلها في عالم الأسباب، وليست من باب الخوارق حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ اتبع الأسباب التي توصله إلى المغرب، واتباعه الأسباب للوصول إلى المغرب، باتباعه منازل الأرض ومعالمها، واستقصائه المعلومات اللازمة لذلك قال ابن كثير: فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب. قال النسفي: أي منتهى العمارة نحو المغرب» حيث ترى الشمس هناك ساعة الغروب وكأنها تغرب في عين حمئة. وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال ابن كثير: أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه .... والحمئة: مشتقة .... من الحمأة وهو الطين. أقول: فالآية تتحدث عن ما تشاهده العين، إذ ترى الشمس وهي تغرب من جهة البحر، فهو تصوير لرؤية ومشاهدة. ومن رأى الشمس وهي تغرب في المحيط الأطلسي، رأى دقة الوصف، هذا على القول أنه وصل إلى شاطئ المحيط. ويكون ذكر العين الحمئة تشبيها للبحر في لحظة غروب الشمس بالعين الطينية المائلة إلى السواد، وهناك احتمال أن يكون وصل إلى أرض مستنقعية واسعة جدا كانت موجودة في يوم من الأيام جهة المغرب. وقد وصل إليها، ويحتمل أنه وصل إلى أرض بركانية كانت في أقصى المغرب، وكانت لا زالت تقذف بحممها عند وصوله، والجزم بشيء من ذلك صعب، ولنا عودة في الفوائد على الموضوع، والعبرة حاصلة على أي نوع من أنواع الفهم. إذ الوصول إلى جهة المغرب لم يكن إلا بعالم الأسباب كنموذج على عطاء الله من شاء من أمر الدنيا بغير حساب وَوَجَدَ عِنْدَها أي عند العين الحمئة، أو عند مغرب

[سورة الكهف (18): آية 87]

الشمس قَوْماً أي أمّة من الأمم قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً هذا القول الموجّه لذي القرنين، هل كان إلهاما فيكون وليا؟ أو كان وحيا له فيكون نبيا؟ أو يكون وحيا بواسطة نبي معه فيكون صديقا؟ ليس عندنا ما نستطيع الجزم به. والآية تفيد أنه خيّر بين أن يعذبهم بالقتل إن أصرّوا على أمرهم، وبين أن يتخذ فيهم حسنا بإكرامهم وتعليمهم الشرائع إن آمنوا، وقد يراد بالتعذيب القتل، وباتخاذ الحسن الأسر، لأنه بالنظر إلى القتل إحسان. قال ابن كثير: معنى هذا أن الله تعالى مكّنه منهم، وحكّمه فيهم، وأظفره بهم. وخيّره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ وهدى. فكان موقفه قالَ أي ذو القرنين أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي بالقتل ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي عذابا ذا نكارة، وأي عذاب أفظع من النار، يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم الذي هو الشرك، فذاك هو المعذّب في الدارين وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أي عمل ما يقتضيه الإيمان فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى أي فله الحسنى أي الجنة جزاء عند ربه وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي ذا يسر، أي لا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل المتيسّر من الزكاة والخراج وغير ذلك. دلّ ذلك على إيمانه بالله واليوم الآخر، كما دلّ على عدله، وعلى أن القوة لم تخرجه إلى البطر، بل كانت قوته في خدمة دين الله ودعوته. كما دلّ على كمال رحمته وشفقته برعيته المؤمنة. فهو نموذج للملك المسلم الذي عنده من عالم الأسباب غايته، فهو لا يفرط في الآلات ولا في الوسائل، ويستخدم ذلك كله في الجهاد، ويعامل أعداء الله بما يستحقون، ويعامل رعيته المسلمة بكمال الرحمة والشفقة ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي ثم سلك طريقا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها. والظاهر أنه كلما مرّ بأمّة قهرهم وغلبهم، ودعاهم إلى الله عزّ وجل. وفعل بهم فعله الأول، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم. فهذا كله يمكن أن يفهم من السياق حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي حتى إذا بلغ أقصى الشرق وَجَدَها أي الشمس تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ أي على أمة لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أي من دون الشمس، وهذا يحتمل أنهم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا أشجار تظلهم، وتسترهم من حر الشمس، فكأن الأرض صحراوية، ويحتمل أنهم كانوا عراة فهم كانوا متخلفين جدا. فإذا كان المراد بهؤلاء القوم من هم في أقصى الشرق وهم الصينيون، فينبغي أن يكون زمن ذي القرنين سحيقا في القدم، إذ الشعب

[سورة الكهف (18): آية 91]

الصيني عريق في مدنيته. فإذا كان الحديث عنهم قبل دخولهم عالم المدنية، فهذا يشير إلى أن الزمن الذي كان فيه ذو القرنين متقدم جدا كَذلِكَ أي كذلك أمر ذي القرنين كذلك الوصف كان كما وصفناه في الفخامة والمقام وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك خُبْراً أي علما، أي نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه، لا يخفى علينا منها شئ، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي ثم سلك طريقا من مشارق الأرض حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قال النسفي: (أي بين الجبلين وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما .... وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق) وقال ابن كثير، وهما جبلان متناوحان (أي متقابلان) بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فسادا، ويهلكون الحرث والنسل. ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام. كما ثبت في الصحيحين: «إن الله تعالى يقول: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: ابعث بعث النار فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها. فقال: إن فيكم أمتين، ما كانتا في شئ إلا أكثرتاه يأجوج ومأجوج» وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً أي حتى إذا بلغ بين السدين وجد ذو القرنين من دون السدّين قوما لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي لا يكادون يفهمون قولا لاستعجام كلامهم، وبعدهم عن الناس. وهذا يفيد أنهم كانوا في عزلة عن الأمم المجاورة، وأن لغتهم كانت غريبة، ولغات من حولهم عنهم غريبة قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قتلا وإهلاكا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي خراجا أي أجرا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه؛ حتى يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا، فقال ذو القرنين بعفة وصلاح، وقصد للخير قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون لي من الخراج، فلا حاجة لي إليه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي حاجزا حصينا موثقا. قال النسفي: والردم أكبر من السد آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي قطع الحديد، والزبرة: القطعة الكبيرة حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي جانبي الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان. أي وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضا قالَ انْفُخُوا أي قال ذو القرنين للعملة: انفخوا في الحديد.

[سورة الكهف (18): آية 97]

وهذا يفيد أنه أجج عليه النار. وهذا يفيد أنه كان عنده من الوسائل الكثير، إذ النفخ اللازم لتأجيج السد نارا يلزمه وسائل كثيرة، ويبدو أنه كان بين قطع الحديد أشياء قابلة للاحتراق الطويل المدى حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي حتى إذا جعل المنفوخ فيه نارا وهو الحديد أي جعله كتلا نارية قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي أعطوني أصب عليه نحاسا مذابا، إذ القطر: هو النحاس المذاب؛ لأنه يقطر، وهذا يفيد أنه كان يملك من الآلات الشئ الهائل إذ إذابة النحاس والقدرة على صبّه على سد ضخم كله حديد محمر من الحرارة يحتاج إلى آلات وأسباب كثيرة، فإذا عرفنا هذا عرفنا معنى وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي إن يأجوج ومأجوج ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أي ولا قدروا على نقبه من أسفله قالَ ذو القرنين هذا أي السد، أو هذا الإقدار والتمكين من تسوية السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي بالناس حيث جعل بين هؤلاء القوم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من الاعتداء على هؤلاء القوم فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي قال ابن كثير: أي إذا اقترب الوعد الحق. وقال النسفي: فإذا دنا مجئ يوم القيامة وشارف أن يأتي جَعَلَهُ دَكَّاءَ أي ساواه بالأرض. قال النسفي: وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندكّ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي كائنا لا محالة، هذا آخر قول ذي القرنين وآخر قصته. كلمة في السياق: هذه قصة مسلم آتاه الله عزّ وجل من الملك الكثير، ومكّنه في الأرض تمكينا كبيرا، وجعله يسخّر الأسباب كلها. فإذا تذكرنا أن هذه القصة: تفصّل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ* ردا على من يتركون الإسلام ويسخرون من أهله من أجل زينة الحياة الدنيا فإننا نفهم من القصة ما يلي: لا يظنن ظان أن الدخول في الإسلام لا يعنى التمكين في الأرض، بل على العكس من ذلك، فإن التمكين يكون أكبر. ولا يظنن ظان أن الدخول في الإسلام يعني ترك الأسباب والبعد عنه، بل على العكس من ذلك، فإن الدخول في الإسلام يعنى اتباع الأسباب كلها، مع التوفيق الرباني لاستعمالها في محلها ولا يظنن ظان أن الدخول في الإسلام يحرم الإنسان رزقا، بل على العكس من ذلك

بحث مهم في فقه العمل للإسلام

فإن الدخول في الإسلام يرافقه الرزق الحسن. ولا يظنن ظان أن الدخول في الإسلام ينقص من قدر الإنسان بل يكمله. وقد مر معنا من قبل مما له علاقة في محل هذه القصة من السياق ما فيه كفاية. بحث مهم في فقه العمل للإسلام: إن المسلمين مكلّفون بإقامة الإسلام ضمن عالم الأسباب، قد يمدهم الله بالخوارق، ولكن التكليف على أساس عالم الأسباب، وهذا يقتضي من المسلمين أن يوجدوا كلّ الأسباب اللازمة والمستطاعة لإقامة الشئ الذي كلفوا به، فهم مكلّفون أن تكون كلمة الله هي العليا في العالمين، فعليهم أن يعملوا من أجل إيجاد الأسباب التي توصل إلى ذلك، وإذا جرّت فريضة على المسلمين في مكان أو زمان، فعليهم أن يبحثوا، وأن يوجدوا الأسباب اللازمة لإقامتها لقد رأينا من خلال عرضنا لقصة ذي القرنين أن الله آتاه من كل شئ سببا، وقد رأينا أنه قد اتبع الأسباب الموصلة إلى الغايات فسلكها. وهناك قراءة متواترة بتشديد التاء من قوله تعالى فَأَتْبَعَ فصارت الآية بذلك فَأَتْبَعَ سَبَباً إن هذه القضية يغفل عنها المسلمون كثيرا في عصرنا فلا يسيرون في كثير من الأحيان في الطريق الموصلة إلى الغاية المفروضة، بأخذ كل الوسائل المتاحة والمستطاعة، يدخل في ذلك التقصير في الأخذ بالأسباب نحو إزالة الأوضاع الشاذة، ويدخل في ذلك التقصير في الأخذ بالأسباب نحو إقامة الدولة الإسلامية العالمية إلى غير ذلك. نقول [من الظلال]: 1 - [بمناسبة قوله تعالى حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ] عند قوله تعالى حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ قال صاحب الظلال: (ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب عنده وراء الأفق. وهو يختلف بالنسبة للمواضع. فبعض المواضع يرى الرائي الشمس تغرب خلف جبل. وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الماء، كما في المحيطات الواسعة والبحار. وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الرمال إذا كان في صحراء مكشوفة على مد البصر. والظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي- وكان يسمى بحر الظلمات، ويظن أن اليابسة تنتهي عنده- فرأى الشمس تغرب فيه.

2 - بمناسبة قوله تعالى حتى إذا بلغ بين السدين

والأرجح أنه كان عند مصب أحد الأنهار. حيث تكثر الأعشاب، ويتجمع حولها طين لزج هو الحمأ. وتوجد البرك وكأنها عيون الماء، فرأى الشمس تغرب هناك ووَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ .. ولكن يتعذر علينا تحديد المكان، لأن النص لا يحدده وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في تحديده. وكل قول غير هذا ليس مأمونا لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح.). 2 - [بمناسبة قوله تعالى حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ] وعند قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قال صاحب الظلال: (ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين بَيْنَ السَّدَّيْنِ ولا ما هما هذان السدان. كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين، تفصلهما فجوة أو ممر. فوجد هنالك قوما متخلفين: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. وعند ما وجدوه فاتحا قويا، وتوسّموا فيه القدرة والصلاح .. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدّا في وجه يأجوج ومأجوج، الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا، ولا يقدرون هم على دفعهم وصدّهم .. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.» 3 - [حول آية قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً وفائدة ذلك في تقوية الحديد] وعند قوله تعالى قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً قال صاحب الظلال: (وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته. وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث، بقرون لا يعلم عددها إلا الله). 4 - [حول ما قيل عن سد يأجوج ومأجوج] وبمناسبة الكلام عن سد يأجوج ومأجوج قال صاحب الظلال: (كشف سد بمقربة من مدينة «ترمذ» عرف بباب الحديد. وقد مرّ به في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي العالم الألماني (سيلد برجر) وسجله في كتابه، كذلك ذكره المؤرخ الأسباني (كلافيجو) في رحلته سنة 1403 م وقال: إن سد مدينة باب الحديد على الطريق بين سمرقند والهند ... وقد يكون هو السد الذي بناه ذو القرنين.) أقول: وذهب بعضهم إلى أنّ السدّ هو سدّ الصين العظيم، ولقد حدثني بعض فضلاء المعاصرين ممّن زار الصين، أن بعض أهل الصين حدّثه عن قبائل لا زالت معروفة في الصين باسم يأجوج ومأجوج، وذهب بعضهم إلى أن السدّ كان موجودا في منطقة معروفة في الهند الآن تفصل شرقي آسيا عن غربها، ولا زالت هناك آثار وبقايا حديدية

الفوائد

على صدفي الجبلين، وكل ذلك لا يصلح لأن يعتمد منه شئ في هذا الموضوع. الفوائد: 1 - [الإخبار عن قصة ذي القرنين في القرآن علامة على رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم عند أهل الكتاب] مما ورد في أسباب النزول ندرك أن الإخبار عن قصة ذي القرنين يعتبر علامة عند أهل الكتاب على رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ومن ثم فذكر القصة فيه إقامة حجة على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول الله، وكون المسألة كذلك فهي إذا من الغوامض، فإن نجد في هذا المقام الكلام الكثير عن تفصيلات كثيرة مما له علاقة في الموضوع فهذا وحده يدلنا على أن أكثره من سقط القول، واختلاق القصّاصين، وخرافات أهل الكتاب التي ينبغي أن ننزه القرآن عن أن نذكر باطلها بجانب الحق فيه، وفي مقام من المقامات عند عرض هذه القصة قال ابن كثير: (وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم). فالبقاء عند ما يعطينا إياه النص، أو يكشفه لنا العلم الدقيق، هو الأولى في مثل هذه المقامات. فإنك تجد من الكلام المنقول عن أهل الكتاب، حتى من أسلم منهم ما لا يقبل التصديق من تأثرهم بما كانوا عليه. يذكر ابن كثير أن معاوية رضي الله عنه قال لكعب الأحبار منكرا عليه: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ألا ترى أن استدلال كعب بالآية على هذه الفكرة يشكك في فهمه. وأستغفر الله من زلة لسان، إلا أن طرح هذه الأفكار وإلصاقها في القرآن والإسلام، من أكبر الجنايات على الإسلام فهي لا يطرحها إلا عدو للإسلام حاقد، أو صديق للإسلام جاهل. ونحن لا نرى في كعب الأحبار أكثر ما يراه ابن كثير. فلا يحملن أحد كلامنا الآنف على أنه طعن في إسلام كعب. قال ابن كثير بعد أن ذكر إنكار معاوية على كعب: (وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار، فإنّ معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب يعني فيما ينقله، لا أنه كان يتعمّد نقل ما ليس في صحفه، ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدّل، مصحّف، محرّف مختلق، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى شئ منها بالكلية؛ فإنه دخل منها على الناس شئ كثير، وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه، من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح، ولا مطابق، فإنه لا سبيل للبشر إلى شئ من ذلك).

2 - حول الاحتراز في النقل عن أهل الكتاب

2 - [حول الاحتراز في النقل عن أهل الكتاب] رأينا في الفائدة السابقة كيف أن الخرافات دخلت إلى كتبنا من خلال روايات موجودة عند أهل الكتاب تليق بباطلهم، ولا تليق بحقّنا. وفي سبب تسمية ذي القرنين، وفي زمانه، وفي عمله، وفي أفعاله، وفي صفات الأقوام الذين رآهم، وغير ذلك أقاويل ليس لها أي سند يمكن الاتكاء عليه. وقد نقل ابن كثير بعضها وأنكره، وأنكر على من نقله. ونقل بعضها فلم ينكره، مع أن مجرد ذكره من غير أصل يمكن الاتكاء عليه، فيه بعد عن الروح الإسلامية المستمدة من قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فمما يذكره ولا ينكره: وأنّ الخضر كان وزيرا لذي القرنين، أن ذا القرنين طاف بالكعبة مع إبراهيم، ونحن ننكر ذلك أشد الإنكار، لأن تحديد زمن لم يحدده الله، عن الأنبياء وأحوالهم لا يكفي فيه قول القصاصين. 3 - [حول ما قيل من أن ذي القرنين هو الإسكندر المقدوني تلميذ أرسطاطاليس] يظن بعض الناس أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني تلميذ أرسطاطاليس، وينفي ابن كثير، وكثيرون من المفسرين، أن يكون المراد به هذا. لأن هذا وثني، وذاك رجل صالح، والذي أوصل إلى هذا اللبس كون الإسكندر المقدوني له فتوحاته الكثيرة في المشرق والمغرب، مما جعل الألوسي يرجّح أنه هو ذو القرنين، ويحتمل أن التاريخ ذكرت وثنيته أو كفره خطأ. 4 - [رأي ابن كثير في المقصود باسم ذي القرنين] يرجح ابن كثير أن سبب تسمية ذي القرنين بهذا الاسم هو بلوغه المشارق والمغارب. لأن العرب تسمي مشرق الشمس قرنها. 5 - [تلخيص لقصة يأجوج ومأجوج ونقول للمؤلف حولها ومناقشتها] وكما أحاطت خرافات القصاصين وأهل الكتاب بقصة ذي القرنين، فقد أصابت كذلك موضوع يأجوج ومأجوج، سواء أصلهم، أو من هم، أو ما هي أوصافهم، وبعد أن ينقل ابن كثير واحدة من هذه الخرافات يقول: وهذا قول غريب جدا، ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والذى نلخصه في هذا الموضوع ما يلي: 1 - أن يأجوج ومأجوج من أبناء آدم، وأنهم يشكلون أكثرية بالنسبة لأهل الأرض في كل العصور. كما رأينا في الحديث الصحيح الذي ذكرناه في صلب التفسير. 2 - قال ابن كثير: وفى مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب. وحام أبو السودان. ويافث أبو الترك» قال بعض

العلماء: هؤلاء أي يأجوج ومأجوج من نسل يافث أبي الترك. وقال إنما سمّي هؤلاء تركا لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة. وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة». 3 - من الحديث المتفق على صحته عن زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: استيقظ النبي صلّى الله عليه وسلّم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق قلت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟. قال: نعم إذا كثر الخبث» من هذا الحديث فهم بعضهم أن المغول والتتار بل الجنس الآري كله من يأجوج ومأجوج. راجع ما كتبه عبد الله بن سعدي النجدي في ذلك. لأن سيول التتار والمغول والصليبيين كلها كانت في مرحلة واحدة، أصيب بسببها العرب بشر هائل وقتذاك. 4 - رأينا أن ابن كثير والنسفي فسّرا قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ أي إذا اقترب وعد ربي؛ أخذا من قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فجعل السدّ دكّا إنما يكون قبل يوم القيامة، وذلك يدلّ على اقترابها، والذي نقوله: إن بعثة رسولنا صلّى الله عليه وسلّم علامة على اقتراب يوم القيامة، فذلك السد إذن، ليس شرطا أن يكون قبل يوم القيامة مباشرة. وإنما انفتاح يأجوج ومأجوج وسيحهما في الأرض، ووصولهما إلى أرض الشام زمن المسيح عليه السلام، يكون قبيل الساعة بقليل. فما فهمه بعضهم أن السدّ نفسه لا يفتح إلا ساعتئذ فهم خاطئ. ولنا عودة على هذا الموضوع في سورة الأنبياء إن شاء الله. 5 - لا نعرف أحدا من علماء عصرنا كأبي الكلام آزاد رحمه الله أكثرنا تأهيلا للتحقيق في المعضلات التاريخية بما اجتمع له من ثقافة موسوعية دينية وتاريخية، وقد أقدم على تحقيق المراد بذي القرنين وبسده وبيأجوج ومأجوج فقدم دراسة تعتبر أعظم دراسة في بابها حول هذا الموضوع، وقد نشرت دراسته دار الشعب المصرية تحت عنوان «ويسألونك عن ذي القرنين»، وبلغت دراسته حوالى مائة صفحة وإذا صح ما توجه إليه في دراسته فإن قصة ذي القرنين في القرآن تكون من أعظم معجزات هذا القرآن، التي تقوم بها الحجة على كل إنسان. يبدأ أبو الكلام دراسته بتحديد الجهة التي ينبغي أن يبدأ منها التحقيق، فما دام اليهود

هم وراء السؤال عن ذي القرنين فبدأ التحقيق يكون من كتبهم، ومن خلال دراسة مستوعبة لكتبهم يصل إلى أن ذا القرنين مذكور في سفر أشعياء باللفظ نفسه، ومن خلال استعراضه لكتب اليهود كلها، ومن خلال استعراضه للمراد بذى القرنين في سفر أشعيا، يصل إلى أنّ ذا القرنين هو كورش الذى وجد في القرن السادس قبل الميلاد والذى عثر له في إيران على تمثال له قرنان وجناحان وذلك يطابق وصفه في كتب العهد القديم، ثم مضى في الدراسة فأثبت أن كل ما ذكره القرآن في حق ذي القرنين ينطبق على كورش فهو على الدين الصحيح لزرادشت، القائم على التوحيد والإيمان باليوم الآخر وعلى النية الصادقة والقول الصادق والعمل الصادق، وهو الذي توجه في الفتح نحو المشرق حتى بلغ صحراء بلخ وتوجه في الفتح نحو المغرب حتى وصل إلى بحر إيجه قريبا من إزمير، وتوجه في الفتح نحو الشمال وبنى السد الذي بقي معروفا باسمه في المكان الذي يسمى الآن بمضيق داريال والموجود الآن في جبال القوقاز، وأثبت الشيخ أبو الكلام أن كل ما ورد عن السد في القرآن ينطبق على هذا المكان، وخطأ من قال بأن السد هو السد المعروف بباب دربند أو باب الأبواب والممتد من بحر الخزر إلى سلسلة جبال القوقاز، كما خطّأ من ذهب إلى أنه سد الصين العظيم، وكتب تحقيقا نفيسا بهذه المناسبة عن يأجوج ومأجوج استشرف في هذه الدراسة كل ما ورد في الكتب اليهودية وما عرف في التاريخ وفي اللغات عن هذا الموضوع، وخلص إلى أن يأجوج ومأجوج هم التتار والمغول الذين كانت تقذف بهم منغوليا مرة بعد مرة، وأن إغلاق مضيق داريال هو الذي قطع الطريق على تحركاتهم نحو الغرب، وذكر أن آثار سدّ ذي القرنين لا زالت موجودة على نفس الوصف الذي وصفها به القرآن، بينما لا تنطبق هذه الأوصاف على أي سد حاول المفسرون أن يعتبروه هو سد ذي القرنين، ومع أننا لا نستطيع الجزم بما أوصل إليه هذا التحقيق لكنه يبقى التحقيق الأقوى في التاريخ الإسلامي حول ذي القرنين. ***

المقطع السادس ويمتد من الآية (99) إلى نهاية الآية (110) وهي نهاية السورة وهذا هو

المقطع السادس ويمتد من الآية (99) إلى نهاية الآية (110) وهي نهاية السورة وهذا هو: 18/ 110 - 99

التفسير

التفسير: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قال الألوسي «وقال أبو حيان: الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج: أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السدّ مزدحمين في البلاد، وذلك بعد نزول عيسى عليه السلام» وقال الألوسي في الآية: أي جعلنا بعض الخلائق (يومئذ) أي يوم إذ يضطربون اضطراب البحر .. ولعلّ ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى .. » وقال النسفي في تفسيرها: وجعلنا بعض الخلق يومئذ يختلط في بعض وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي النفخة الثانية فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي فأحضرنا الجميع للحساب. والمعنى: فجمعنا جميع الخلائق للثواب والعقاب، ويحتمل أن يكون المعنى: وجمعنا كل إنسان جمعا بعد إذ كان متفرقا وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً أي وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها، ثم وصف حال الكافرين في الدنيا: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أي عن آياتي التي تذكّر بي، فأذكر بالتعظيم، أو عن القرآن وتأمل معانيه، أي تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي غير قادرين على سماع الحق. كلمة في السياق: بدأت السورة بالمقدمة التي استقرت على قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً. وبعد أن مضى الحديث عن أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، والحياة الدنيا، وقصة موسى والخضر عليهما السلام وقصة ذي القرنين وصاحب الجنتين وما تخلل ذلك من أوامر ونواه وعظات. جاء هنا قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً* وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً* الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً فكأن هذه المجموعة استمرار لما استقرت عليه المقدمة، وكأن كل ما جاء في الوسط تمثيل وتفصيل لكل ما يخدم ويذكّر في أمر الدنيا وزوالها، وزوال ما فيها من صالحين وطالحين، وملوك وأولياء وغير ذلك. فليحدد الإنسان بصره نحو اليوم الآخر، وليخف ما فيه. وهذه الخاتمة في الوقت نفسه تعليق على قصة ذي القرنين من حيث ما أعده الله لكل كافر من يأجوج

[سورة الكهف (18): آية 102]

وغيرهم، ولنذكر أن محور السورة هو: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وواضح أن المقطع يعطينا تصورا عن يوم القيامة، وعن فوقية المؤمنين على الكافرين فيه، وكما أن آية البقرة خدمت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فإن سورة الكهف خدمت ذلك الأمر وذلك النهي، والآن قد آن الأوان ليخاطب الكافرون الذين زيّنت لهم الحياة الدنيا، ويسخرون من الذين آمنوا، خطابين صريحين يشكلان جزءا من خاتمة سورة الكهف. الخطاب الأول: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ هذا الخطاب يحتمل معنيين الأول: لا يظن الكفار أن اتخاذهم عبادي أي: الملائكة وعيسى وغيرهم أولياء من دوني أن ذلك نافعهم. والمعنى الثاني: لا يظن الكافرون وهم قد رفضوا الدخول في الإسلام، واتبعوا خطوات الشيطان، ويسخرون من الذين آمنوا، أن يكون عبادي لهم أولياء، إن عباد الله لا يكونون أولياء للكافرين، وكيف يوالونهم وهم يرفضون الدخول في الإسلام، ويستهزءون بالإيمان وأهله، وهذا الخطاب مهم هنا، فمن زينة الحياة الدنيا الاتباع، والله عزّ وجل حرّم على المؤمنين أن يعطوا الكافرين ولاءهم، وفي ذلك إيئاس للكافرين من أن يكون لهم جاه على حساب أهل الإيمان، فما أضل من يعطي كافرا ولاءه. ثم قال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا أي إنا أعددنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي ضيافة ومنزلا. جزاؤهم في الدنيا ألا يواليهم أهل الإيمان، وجزاؤهم في الآخرة النار؛ على سلوكهم، ومحبتهم للدنيا، وسخريتهم من أهل الإيمان، ورفضهم الدخول في الإسلام، وعلى اتّباعهم خطوات الشيطان. الخطاب الثاني: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا خاطبهم بمنطق الربح والخسارة؛ لأنهم في طلبهم للحياة الدنيا يبتغون الربح الَّذِينَ ضَلَّ أي ضاع وبطل سَعْيُهُمْ أي عملهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً الآية عامة في كل من لم يدخل في الإسلام كله، وهو يحسب أنه مصيب، فهذا أكثر الناس خسارة أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ أي جحدوا آيات الله، وبراهينه التي أقامها على

[سورة الكهف (18): آية 106]

وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بكفرهم فلا يثابون عليها فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي فلا يكون لهم عندنا وزن ولا مقدار، أي لا نثقّل موازينهم لأنها خالية عن الخير ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله، لاحظ صلة ذلك بآية المحور وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. ثمّ ختم الله السورة بقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا أي ضيافة، الفردوس كما ورد في الحديث: «الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها». خالِدِينَ فِيها أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدا لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي لا يطلبون عنها تحوّلا إلى غيرها رضا بما أعطوا، أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم ما هو أجمع لأغراضهم وأمانيهم. وهذا غاية ما توصف به الجنة، لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح، مائل الطرف إلى أرفع منه. قال ابن كثير: تنبيه (أي هذا تنبيه) على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائما أنه قد يسأمه أو يملّه. فأخبر أنهم- مع هذا الدوام والخلود السرمدي- لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا، ولا انتقالا، ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا. كلمة في السياق: الآية التي هي محور السورة: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وفي خاتمة السورة يقرّر الله أن الكافرين يهزءون من الرسل وآيات الله، ويذكر جزاءهم على ذلك، كما يذكر ما أعد للمؤمنين بما يفهمنا به أن المؤمنين فوق الكافرين يوم القيامة. ... قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي ماؤه مِداداً أي حبرا؛ إذ المداد ما يكتب به لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي لو كتبت الكلمات التي تعبّر عن علم الله وحكمته، وكان البحر مدادا لها، لنفد البحر قبل نفاد كلمات الله وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي بمثل البحر آخر ثم آخر، وهلم جرا بحور تمده، ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله؛ إذ كلمات الله لا تتناهى، فجل جلاله ولا إله غيره. فإذا كان هذا علم الله، فكيف لا يسلم الإنسان له وجهه! وكيف لا يدخل في دينه!

[سورة الكهف (18): آية 110]

وكيف لا يخدم أولياءه، وكيف لا يخاف شأنه، وكيف لا يحب آخرته ويزهد فيما يكره، إن التنبيه على علم الله في هذا المقام يضيء على السورة كلها وعلى معانيها وعلى محورها وحيّزه. ... قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فمن زعم أنّي كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب، فما كنت لأخبركم عمّا سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر لولا ما أطلعني الله عليه، فأنا بشر، ولكن خصّني الله بالرسالة، وأكرمني بالوحي، وشرّفني بالدعوة لدينه يُوحى إِلَيَّ فهذا الذي شرّفني الله به، وكلفكم باتباعي من أجله أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ هذا محور ما أدعو إليه، وما أوحي إليّ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول. أي فمن كان يرجو ثوابه وجزاءه الصالح فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي عملا موافقا لشرع الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً بألا يريد بعبادته إلا وجه الله وحده لا شريك له. وهكذا بعد أن زهّد الله في الدنيا، دلّ على الطريق إليه وإلى الآخرة. ودلّ على أن محور الإسلام التوحيد. وأن العمل الصالح الملتبس بالإخلاص هو الطريق إلى الآخرة ولنلاحظ أن مقدمة السورة كانت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وأن السورة قد ختمت بقوله تعالى: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً والملاحظ أن السورة كلها كالقرآن كله- كانت تبشيرا وإنذارا، ولنتذكر في هذا المقام أن السورة تفصّل في حيّز الأمر بالدخول في الإسلام كله، وعلى هذا فخاتمتها تشير إلى طريق الدخول في الإسلام: العمل الصالح الخالص لله. قال ابن كثير: وهذان ركنا العمل المتقبّل، لا بد أن يكون خالصا لله، صوابا على شريعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فوائد المقطع الأخير: 1 - [مناقشة وتحقيق حول الاتجاه القائل بأن آية قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نزلت في الخوارج] هناك اتجاه في قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أنها في الخوارج، والتحقيق أنها ليست فيهم خاصة قال ابن كثير: روى البخاري ... عن مصعب قال: سألت أبي- يعني سعد بن أبي وقاص- عن قول الله: قُلْ هَلْ

2 - أحاديث حول قوله تعالى فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم ...

نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أهم الحرورية؟ (أي الخوارج) قال: لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذّبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين، وقال علي بن أبي طالب، والضحاك وغير واحد، هم الحرورية، ومعنى هذا عن عليّ رضي الله عنه: أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص، ولا هؤلاء، بل هي أعمّ من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ وعمله مردود. 2 - [أحاديث حول قوله تعالى فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ ... ] بمناسبة قوله تعالى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً نذكر هذه الأحاديث: أ- روى البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة- قال- اقرءوا إن شئتم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ب- وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل الأكول، الشروب، العظيم، فيوزن بحبة فلا يزنها». قال: وقرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ج- وأخرج البزار عن بريدة قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل رجل من قريش، يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا» 3 - [حديث بمناسبة قوله تعالى كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا] بمناسبة قوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا. نذكّر بما ورد في الصحيحين: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة». 4 - [من مظاهر الإعجاز القرآني تصوير علم الله بصورة لا يمكن أن تخطر على قلب بشر] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً نذكّر بما فصّلناه في كتابنا (الرسول) أثناء الكلام عن المعجزة القرآنية، كيف أن من مظاهر الإعجاز في القرآن أنك تجد فيه صورا لا يمكن أن تخطر بقلب بشر، ومن ذلك هذه الصورة في تصوير علم الله غير المتناهي،

5 - روايات حول كون آخر آية نزلت من القرآن هي فمن كان يرجوا لقاء ربه ..

فهل يمكن لعاقل أن يتصور أن مثل هذه الصورة يمكن أن تخطر بقلب إنسان، اللهم إنا نشهد أن هذا الكتاب كتابك، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسولك. 5 - [روايات حول كون آخر آية نزلت من القرآن هي فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ .. ] أخرج ابن جرير بسنده إلى عمرو بن قيس الكندي: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية وقال إنها آخر آية نزلت من القرآن، وهذا أثر مشكل فإن هذه الآية آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها، ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه والله أعلم. 6 - [أحاديث وآثار حول آية فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ .. وموضوع الشرك الخفي] بمناسبة قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً يذكر ابن كثير مجموعة أحاديث وآثار ننقلها كلها: «وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله: إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، حتى نزلت هذه الآية فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد، وقال الأعمش ... عن شهر بن حوشب قال جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويجب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة: ليس له شئ إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه. وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نتناوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنبيت عنده تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا، فكثر المحتسبون (أي الضيوف) وأهل النوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذه النجوى؟» ألم أنهكم عن النجوى؟ قال: فقلنا تبنا إلى الله أي نبي الله، إنما كنا في ذكر المسيح (وهو الدجال) وفرقنا منه فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟» قال: قلنا: بلى. قال: «الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل» وروى الإمام أحمد عن ابن غنم قال: لما دخلنا مسجد الجابية، أنا وأبو الدرداء، لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا، ونحن نتناجى، والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما

عمر أحدكما، أو كليكما، لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين (يعني من وسطهم) قرأ القرآن على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم فأعاده وأبدأه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونزله عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار الميت (¬1). قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه، وعوف بن مالك فجلسا إلينا. فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من الشهوة الخفية والشرك» فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفرا، أو لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد حدّثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب، أما الشهوات الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل، أو يصوم لرجل، أو يتصدق له، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له فقد أشرك، فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك» قال عوف بن مالك: فعند ذلك أفلا يعمد الله إلى ما أبتغي به وجهه من ذلك العمل كله، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئا فإنّ عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني». (طريق أخرى لبعضه) روى الإمام أحمد ... عن عبادة بن نسى عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال شئ سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأبكاني، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: «نعم أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا، ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراءون بأعمالهم؛ والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه». (حديث آخر) روى الحافظ أبو بكر البزار ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك، فمن أشرك بي أحدا فهو له كله» وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن الله عزّ وجل أنه قال: «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك». ¬

_ (¬1) أي: هم يشمئزون منه إذ مرّ فضلا عن أن ينتفعوا به.

كلمة في موضوع السير إلى الله

(حديث آخر) روى الإمام أحمد ... عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء». (حديث آخر) روى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري- وكان من الصحابة- أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك». (حديث آخر) روى الإمام أحمد ... عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سمّع سمّع الله به، ومن راءى، راءى الله به». وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من يرائي يرائي الله به، ومن يسمّع، يسمّع الله به» (حديث آخر) روى الإمام أحمد ... عن عمرو بن مرة قال: سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من سمّع الناس بعمله، سمّع الله به، مسامع خلقه، وصغّره وحقّره» فذرفت عينا عبد الله. وروى الحافظ أبو بكر البزار .... عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عزّ وجل يوم القيامة في صحف مختمة، فيقول الله: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا، فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي» وأخرج أبو يعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عزّ وجل» ومما ذكره ابن كثير في هذا المقام حديث عن عبد الله بن قيس الخزاعي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس». كلمة في موضوع السير إلى الله: في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) أبرزنا أن القدوة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طريقها رجاء الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا، لأن الله تعالى قال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وبيّنا هناك أن

كلمة في سورة الكهف

الإنسان ما لم يرج الله واليوم الآخر، ويذكر الله كثيرا، فإن حظه من الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكون معدوما، وبقدر رجاء الله واليوم الآخر، والذكر الكثير، يكون الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكرنا هناك: أن الذكر الكثير هو البداية، لأن الله عزّ وجل جعله بصيغة الماضي، وجعل الرجاء بصيغة المضارع، مما يشعر بأنه حتى الرجاء ينميه الذكر الكثير، ويحييه، وهاهنا في سورة الكهف ختمت السورة بقوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً وعلى هذا فإننا نفهم أن علامة الرجاء العمل الصالح الخالص لوجه الله، وعلى هذا فإن المربين عليهم أن يلاحظوا هذا في التربية، يبدءون مع مريد وجه الله بالذكر والعلم، ويدفعونه نحو أنواع العمل الصالح كلها، مع ملاحظة الإخلاص لله تعالى، فإنه إذا اجتمع لمريد وجه الله ذلك فإنه يكون سائرا على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو إن هذا يسهّل له أمر السير على قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي هو القدوة العليا في حمل الإسلام، والدخول فيه وتطبيقه كله. كما هو القدوة العليا في اجتناب خطوات الشيطان، كما هو القدوة العليا في موقفه من الدنيا، أخذا منها لله، وزهدا فيها لله، وتواضعا للمؤمنين، ومعرفة بالله. فليلاحظ المربون والسالكون إلى الله ذلك. كلمة في سورة الكهف: بدأت سورة الكهف بتعليمنا الحمد على نعمة هذا القرآن، فمن لم يصل إلى الشعور بنعمة الله عليه بهذا القرآن، فهو لم يأخذ درسها الأول، ثم بينت لنا بعض خصائص القرآن، وخاصة موضوع براءته من العوج واستقامته. فمن لم يستشعر هذا المعنى في القرآن كله فاته درسها الثاني. ثم بينت أن أسلوب هذا القرآن في العرض هو التبشير والإنذار، فمن لم يذق هذا المعنى، ويتفاعل معه، ويعرف حكمة الله فيه، فاته درسها الثالث، ثم بينت الحكمة في تزيين الحياة الدنيا، وهي الاختبار، فمن لم ينجح في الاختبار، بأن يحسن العمل بالدخول في الإسلام، واجتناب خطوات الشيطان، فاته درسها الرابع، ومن لم يعرف قصة أهل الكهف ومحلّها بالنسبة لمجموع آيات الله، فاته درسها الخامس، ومن لم يتأدب مع الله، ومع خلقه، ومع الحق، فاته درسها السادس، ومن لم يشكر الله على ما أعطاه من نعم الدنيا، ويتعامل مع أهل الدنيا بمنطق المذكّر الواعظ، فاته درسها السابع، ومن لم يزهد في الدنيا، ويعرف حقيقتها، فاته درسها الثامن، ومن لم يجتنب خطوات الشيطان، فاته درسها التاسع. ومن لم يتأدب

مع الله، بالأدب مع أنبيائه، وأوليائه، بأن يعرف كرم الله في العطاء، فلا يحتقر من أنعم الله عليه بنعمة علم لدنّي، بل يحترمه ويستفيد منه، فمن لم يفعل ذلك فاته درسها العاشر. ومن لم يعرف أن الله يعطي الدنيا لمن شاء، فيسخّر له ما شاء، فاته درسها الحادي عشر، ومن لم يعرف أنه لا ولاية بين الكافرين والمؤمنين، وأن المنحرفين عن أمر الله هم الأخسرون، وأن علم الله لا يتناهى، وأن الرجاء يحتاج إلى العمل الصالح، والإخلاص، فقد فاتته دروس السورة الأخيرة. إن السورة تربي مشاعر أهل الإيمان في أهم قضية تواجههم ليلا ونهارا قضية ما على هذه الأرض من زينة الحياة الدنيا، وكيفية التعامل مع الخلق في هذا الموضوع، وكل ما له علاقة فيه. ... وقد كرّرنا الكلام عن صلة سورة الكهف بمحورها من سورة البقرة، ونظن أن هذه الصلة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى إعادة كلام فيها، وهذا أوان الانتقال إلى السورة الأخيرة من المجموعة الثانية، من قسم المئين وهي سورة مريم عليها السلام. ***

سورة مريم

سورة مريم مكيّة وهي السّورة الخامسة والأخيرة من المجموعة الثانية من القسم الثاني من أقسام القرآن قسم المئين وهي السّورة التاسعة عشرة بحسب الرّسم القرآني وآياتها (98)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله واصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة مريم

قال الألوسي في تقديمه لسورة مريم: (المشهور تسميتها بذلك، ورويت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أخرج الطبراني. وأبو نعيم. والديلمي من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال: أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقلت: ولدت لي الليلة جارية فقال: «والليلة أنزلت عليّ سورة مريم»، وجاء فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسميتها بسورة (كهيعص) وهي مكية كما روي عن عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وقال مقاتل: هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية، نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة، وفي الإتقان استثناء قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أيضا وهي عند العراقيين والشاميين ثمان وتسعون آية، وعند المكيين تسع وتسعون، وللمدنيين قولان. ووجه مناسبتها لسورة الكهف: اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب، كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما السلام، ولهذا ذكرت بعدها. وقدم ابن كثير للكلام عن سورة مريم بهذه الفائدة روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر سورة مريم على النجاشي وأصحابه). كلمة في سورة مريم ومحورها: لاحظنا أن القسم الأول من القرآن توجد فيه سورة الأعراف التي تبتدئ بقوله تعالى: المص ونلاحظ الآن أن سورة مريم مبدوءة ب كهيعص وسنجد في القسم الثالث سورة مبدوءة، بالحرف (ص) وحده. ولاحظنا أن سورة (الأعراف) لم يأت بعدها في قسمها إلا سورتا (الأنفال وبراءة). وسنرى أن سورة (طه) التي تأتي بعد سورة (مريم) بداية جديدة لمجموعة جديدة كما سنرى أن سورة (ص) هي نهاية مجموعة. فكأن (ص) عند ما تأتي في سورة تشير إما إلى نهاية مجموعة، أو أنها قنطرة إلى معنى بعيد في سياق سورة البقرة. وإذ كان ما بعد سورة (مريم) يشير إلى بداية مجموعة جديدة فإن (ص) الواردة فى سورة (مريم) تشير إلى نهاية مجموعة. ومن قبل كنا ذكرنا أن المجموعة الثانية من القسم الثاني من أقسام القرآن تنتهي بسورة مريم.

وقد رأينا أن هذه المجموعة مؤلفة من خمس سور: (الحجر) التي هي مقدمة لتفصيل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ..... و(النحل) التى فصّلت الآية: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ .... و (الإسراء) التي فصّلت الآية سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ. و(الكهف) التي فصّلت الآية زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... * والآن تأتي سورة (مريم) لتفصل الآية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... وكل ذلك بما يخدم الأمر في الدخول في الإسلام كافة. وعلى هذا فالسور الأربع المتتابعة تفصّل في آيات أربع متتابعة. ... وإذن فسورة مريم تفصّل قوله تعالى من سورة البقرة: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وإنما دلنا على أن سورة مريم تفصّل هذه الآية، أو بعض معانيها، ما سبقها من سور تفصل الآيات التي قبل هذه الآية وكونها تكمل هذه السور والمعاني الواردة فيها، كما دلنا على ذلك المعاني. ... إن آية البقرة تبين أن الناس قد أصبحوا في لحظة ما كافرين جميعا. فاقتضى ذلك إرسال الرسل مبشّرين ومنذرين، وأنزل الله معهم الوحي حاكما في كل خلاف، ولكن الكتاب الذي جاء حاسما لكل خلاف أصبح محل اختلاف بسبب بغي الناس. ولكن جرت سنة الله أنه رغم الاختلاف فإنه يهدي بالكتاب المؤمنين الخالصين إلى الصراط المستقيم، فالآية تبيّن حكمة بعثة الرسل، وتبيّن حكمة إنزال الكتاب، وتبيّن رحمة الله بأهل الإيمان الذين لا بغي عندهم. وهي بهذا تخدم الأمر بالدخول في الإسلام كله: فإذ بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بشيرا ونذيرا، أنزل معه الكتاب حاسما لكل خلاف، فالدخول في الإسلام الذي بعث به محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الطريق الوحيد للبشرية لتحسم خلافاتها بالحق وبالوحي وبالكتاب.

لقد اختلف اليهود والنصارى حول المسيح. قال اليهود عليهم اللعنة إنه ابن زنى وقالت النصارى إنه ابن الله وغير ذلك. فجاءت سورة مريم تحسم هذا الخلاف. واختلف العرب واليهود والنصارى في دين إبراهيم. فجاءت السورة تحسم هذا الخلاف. وتحدثت السورة عن مجموعة من الرسل وعن عبوديتهم لله. وعما خلفهم أقوامهم به من المخالفة. وعن كون الملائكة لا تنزل إلا بأمر الله. وعن موقف الكافرين من اليوم الآخر. وعن ادّعائهم أن لله ولدا. وختمت السورة بقوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا* وَكَمْ أَهْلَكْنا ... فمحمد صلّى الله عليه وسلّم يبشر وينذر بهذا القرآن ككل رسول، والقرآن ككل كتاب أنزله الله، يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. فسورة مريم نموذج على التبشير والإنذار، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بغيا. وعند ما تحدث الاختلافات فإن الله يهدي أهل الإيمان بواسطة الرسل، وفي ذلك رحمة لهم. ومن ثمّ يذكّر الله في سورة مريم برحمة الله للخلق بإرساله الرسل؛ فتجد السورة تقول: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ. فهؤلاء رسل مبشرون ومنذرون، وهؤلاء مؤمنون هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وهدى الخلق بهم. وهؤلاء اختلف قومهم من بعدهم بغيا. ومن ثم أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. هذا مظهر من مظاهر صلة سورة مريم- عليها السلام- بمحورها من سورة البقرة، ويمكن أن نعرض المسألة بشكل آخر: أصبح العرب كلهم كفارا. وهذا يقتضي أن يبعث فيهم رسول يبشر وينذر ومعه كتاب يحسم كل خلاف، كما فعل الله للبشرية يوم صارت كلها كفارا. واختلف أهل الكتاب في الكتاب، وهذا يقتضي أن يبعث الله رسولا بكتاب يحسم الخلاف.

فكان هذا القرآن. إلا أن الخالصين من البغي وحدهم هم الذين يهتدون بهذا القرآن. ... إن سورة مريم تذكّر برحمة الله لزكريا ولمريم ولإبراهيم ولموسى ولإسماعيل ولإدريس ولكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وفي هذا التذكير تفصيل لموضوع بعثة الأنبياء، وموقف الناس منهم، واختلاف الناس بعدهم. وتذكّر بالحال الذي عليه العرب والناس بعد الرسل، وتبشّر وتنذر. ... فلنتأمل بدقة ما سنذكره من ارتباط معاني سورة مريم بمحورها: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ آية البقرة، وسورة مريم تعرض لمجموعة من الرسل بعثوا. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ آية البقرة، والسورة تعرض لاختلاف الناس في شأن المسيح عليه السلام. وهي القضية التي ضل بها أكبر قطاع من البشر، ولإنكار الناس لليوم الآخر وهي القضية التي ضل بها أكثر البشر. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ آية البقرة، بأن أنزل هذا القرآن ومنه سورة مريم التي هدت الناس لبعض ما اختلف فيه الناس. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* آية سورة البقرة. وسورة مريم تتعرض لموضوع الهداية إلى الصراط المستقيم ... إن الدخول في الإسلام هو الذي يحقق حكمة بعثة الرسل، وبه يرتفع الخلاف، وكل خلاف بعد الإسلام سببه البغي، ومهما ضل الناس فإن سنة الله أن يهتدي أهل الإيمان إلى الصراط المستقيم، الذي هو الإسلام. وسورة مريم تذكّر بهذه المعاني، ومن ثم فهي تفصيل لمحورها من سورة البقرة، الآتي في خدمة الأمر بالدخول في الإسلام كله.

تتألف السورة من مقطعين، كل مقطع يتألف من مجموعات، وسنعرض السورة، وأثناء العرض نتحدّث عن سياقها، ونسأل الله أن يجيرنا من الزلل، والتكلف والتعسّف في فهم كتابه، وأن يفتح علينا، وأن يحفظنا، وأن يختم لنا بالإيمان، إنه على ما يشاء قدير. كهيعص كنا ذكرنا من قبل أن أحدا لا يستطيع الجزم بمراد الله من هذه الأحرف. وذكرنا أن كل من تكلّم في هذه الأحرف إنما يسجّل ملاحظات حولها. وذكرنا إحدى هذه الملاحظات وهي أن هذه الأحرف تعين على فهم الوحدة القرآنية العامة من خلال كونها تشير إلى بداية مجموعة أو نهايتها، أو تشير إلى محل سورة ضمن مجموعة، أو إلى صلة سورة ضمن السياق الكلي، وأمثال هذا. وهذه سورة مريم مبدوءة بما رأينا. وقد استفدنا من كون آخر حرف في بدايتها (ص) أنها نهاية مجموعة. ومما نلاحظه أنها مبدوءة بالحرف (ك) وهو الحرف نفسه المبدوءة به الآية التي ذكرنا أنها محور سورة مريم من البقرة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً. ونلاحظ أن الحرف (ها) آت في السورة بعدها (طه). ثم لا يرد مرة أخرى، فهل فيه إشارة إلى أن سورته بداية مجموعة لورود الهاء في (كهيعص) كأول حرف بعد الهاء. ثم نلاحظ أن الحرف (يا) يأتي مرة واحدة في سورة (يس) وأن الحرف (عين) يرد بعد ذلك مرة واحدة في سورة الشورى حم عسق والملاحظ: أن ها، يا، عين، جاءت على هذا التسلسل. كما أن طه، وياسين، وحم عسق، جاءت على نفس التسلسل. إن (كهيعص) كبقية الأحرف من مفاتيح فهم الوحدة الكلية للقرآن، ومن ثم فإن في هذه الأحرف في القرآن سرا هو وحده آية على أن هذا القرآن من عند الله المحيط علما بكل شئ. وقد سجّل المفسّرون كثيرا من الأقوال حول هذه الأحرف أشرنا إليها من قبل، ولا يخرج كلامهم عن كونه محاولات للعثور على تفسير أو تسجيلا لملاحظة فلا نعيده. ***

المقطع الأول من السورة ويتألف من ثلاث مجموعات

[المقطع الأول من السورة ويتألف من ثلاث مجموعات:] المجموعة الأولى من المقطع الأول من سورة مريم وتشمل قصة زكريا ويحيى عليهما السلام من الآية (2) إلى نهاية الآية (15) وهذه هي: 19/ 15 - 2

التفسير

19/ 15 - 14 التفسير: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا أي هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا أي سرا قالَ أي في دعائه الخفي رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فشا في رأسي لشيب وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ أي بدعائي إياك رَبِّ شَقِيًّا أي غير سعيد، أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم، سعيدا به. والمعنى أنني ضعفت، وخارت قواي، واضطرم المشيب في السواد، ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك. والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر، ودلائله الظاهرة والباطنة التوسّل إلى الوصول إلى المطلوب، مع الاعتراف إلى الله بإحسانه السابق استدرارا للإجابة إلى ما يدعوه. ثم بين ماذا يريد ولماذا فقال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي العصبة من قومي مِنْ وَرائِي أي من بعد موتي. أي خافهم أن يغيّروا الدين، وألا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا صالحا من صلبه يقتدى به في إحياء الدين وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي عقيما لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك أي منك بلا سبب، لأن امرأتي لا تصلح للولادة وَلِيًّا أي ابنا يلي أمرك بعدي. يَرِثُنِي أي يرث مني ميراث العلم والنبوة وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوة. أي يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. ومعنى وراثة النبوة: أنه يصلح لأن يوحى إليه، ولم يرد أن نفس النبوة تورث وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيا عندك، وعند خلقك تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه أو راضيا عنك وعن حكمك. دعا بالولد من خشيته أن يتصرف قومه من بعده في الناس تصرفا سيئا، فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته، بما يوحى إليه، فأجيب في ذلك كما سنرى؛ رحمة من الله به، سجّلها ربنا في كتابه القرآن، وذكرها يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى تولى الله تسميته تشريفا لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم. قال النسفي: وهذا دليل على أن الاسم الغريب جدير بالأثرة. أقول: إذا كان هذا الاسم فيه معنى جميل وفسّر مجاهد السمي بالشبيه. والمعنى. لم نجعل له من قبل شبيها ومثلا في مجموع خصائصه في كونه لم يعص ولم يهمّ بمعصية، وأنه بين شيخ وعجوز وأنه كان حصورا. والمعنى الأول هو الذي رجّحه

[سورة مريم (19): آية 8]

ابن جرير، فلما أجيب زكريا إلى ما سأل، وبشّر بالولد، تعجّب وفرح فرحا شديدا، وسأل عن الكيفية والوجه الذي يأتيه فيه الولد مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها، ومن ثم قال: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون لي غلام! وليس هذا باستبعاد وإلا لما دعا؛ بل هو استكشاف أنه بأي طريق يكون؟ أيوهب له وهو وامرأته بتلك الحال. أم يحوّلان شابين؟ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا العتي: هو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام، كالعود اليابس. أي بلغت هذه الحال من الكبر والطعن في السن العالية. ومن المبشّر لزكريا هل هو الله مباشرة إلهاما، أو بالواسطة؟ يدل كلام المفسرين على أن التبشير كان بواسطة الملك قالَ قال ابن كثير: أي الملك مجيبا لزكريا عما تعجّب منه كَذلِكَ أي الأمر كذلك في إيجاد الولد منك، وأنت في هذه الحال، ومن زوجتك هذه لا من غيرها قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي يسير سهل. ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ أي أوجدتك من قبل يحيى وَلَمْ تَكُ شَيْئاً أليس أصلك ذرات متفرقة جمعها الله بكامل قدرته فكانت إنسانا قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها حبل امرأتي قالَ آيَتُكَ أي علامتك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا مع كونك سوي الأعضاء واللسان، أي علامتك أن يحتبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال، وأنت صحيح سوي، من غير مرض ولا علة. قال النسفي: يعني علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه، وأنت سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم. ودلّ ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن إذ ذكر الأيام يتناول ما بإزائها من الليالي، وكذا ذكر الليالي يتناول ما بإزائها من الأيام عرفا. فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ الذي بشّر فيه بالولد والمحراب: هو موضع الصلاة. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار إشارة خفية سريعة أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. قال ابن كثير: أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة، زيادة على أعماله؛ شكرا لله على ما أولاه يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة بِقُوَّةٍ أي يجد واستظهار بالتوفيق والتأييد، والتقدير: وهبنا له يحيى وقلنا ليحيى بعد ولادته وأوان الخطاب ذلك وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي فهم التوراة والفقه في الدين والقدرة على الفتوى صَبِيًّا أي وهو صبي. قال ابن كثير: وهذا ... تضمّن محذوفا تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام، وأن الله علّمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها، ويحكم بها النبيون الذين

[سورة مريم (19): آية 13]

أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنّه إذ ذاك صغيرا، فلهذا نوّه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه فقال: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ أي تعلّم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه صَبِيًّا أي وهو صغير حدث وَحَناناً أي: وشفقة ورحمة لأبويه وغيرهما مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا وَزَكاةً أي وطهارة وصلاحا، فلم يعمد إلى ذنب وَكانَ تَقِيًّا أي مسلما مطيعا، والتقدير وآتيناه الحكم، وآتيناه حنانا من لدنا وزكاة، وجعلناه ذا حنان وذا زكاة. والحنان: هو المحبة في شفقة وميل، والزكاة: الطهارة من الدنس والآثام والذنوب، وكان مع هذا كله تقيا ومقبلا على الله في طاعة الأمر واجتناب النهي وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبرّه بهما، ومجانبته لعقوقهما، قولا ونهيا. ولهذا قال: وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً أي متكبرا عَصِيًّا أي عاصيا لربه. ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك وَسَلامٌ عَلَيْهِ أي وأمان من الله يَوْمَ وُلِدَ من أن يناله الشيطان وَيَوْمَ يَمُوتُ من فتنة القبر، ووحشة البرزخ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أي له الأمان في هذه الأحوال الثلاثة. قال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا، فخصّه بالسلام عليه فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا رواه ابن جرير. الفوائد: 1 - [العمل والكسب باليد لا يتنافى مع أرقى المقامات فقد كان زكريا عليه السلام نجارا] جاء في صحيح البخاري عن زكريا عليه السلام: «أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة». وفي ذلك درس في العمل والكسب، وأنه لا يتنافى مع أرقى المقامات. 2 - [بعض ما قيل في فضل الدعاء الخفي بمناسبة آية إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا] علّق قتادة على قوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا فقال: إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي. وقال النسفي: وهو [أي الدعاء الخفي] أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء. وقال: أي عن الدعاء سرا: هو المأمور به. ويفهم من كلامه أنه إذا لم يكن الدعاء مشتركا فالسنة في الدعاء الإسرار. 3 - [من مظاهر الإعجاز والبلاغة في آية وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] من مظاهر الإعجاز في القرآن أن كل كلمة من كلماته في محلها لا يمكن أن

4 - هل كان زكريا يريد بكلمة يرثني وراثة المال؟ والرد على هذا الزعم

يكون أفصح منها، ولا أبلغ، وهذا شئ مشترك بين كل لفظة وكل آية، إلا أن المفسرين أو المؤلفين في إعجاز القرآن يختارون للتدليل على ذلك ما هو أظهر. وللنسفي وقفة عند قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً يفصح فيه عما قلناه. قال: «ولا ترى كلاما أفصح من هذا، ألا ترى أن أصل الكلام: يا رب قد شخت؛ إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن، وشيب الرأس، المتعرض لهما، وأقوى منه، ضعف بدني، وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل، وأقوى منه: وهنت عظام بدني ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية، فهي أبلغ منه وأقوى منه: وأنا وهنت عظام بدني. وأقوى منه: إني وهنت عظام بدني. وأقوى منه: إني وهنت العظام من بدني. ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، وأقوى منه: إني وهنت العظام مني. ففيه ترك توسيط البدن. وأقوى منه: إني وهن العظم مني لشمول الوهن العظام فردا فردا، باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ، وهي الاستعارة فحصل: اشتعل شيب رأسي. وأبلغ منه: اشتعل رأسي شيبا لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر، ومنبته. وهو الرأس لإفادة شمول الرأس؛ إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارا، والفرق نيّر ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز، وأبلغ منه: واشتعل الرأس مني شيبا وأبلغ منه: واشتعل الرأس شيبا ففيه اكتفاء بعلم المخاطب أنّه رأس زكريا بقرينة العطف على وهن العظم). 4 - [هل كان زكريا يريد بكلمة يَرِثُنِي وراثة المال؟ والرد على هذا الزعم] ذهب بعضهم إلى أن قول زكريا: يَرِثُنِي إلى أنّ زكريا يريد وراثة المال وقد نفى ابن كثير هذا نفيا باتا. ودلل على أن مراده الوراثة في منصب الدين واستدل على ذلك بثلاثة أدلة: 1 - أن زكريا كان نجارا يأكل من كسب يديه، ومثله لا يجمع مالا، كيف وهو نبي ومثله يكون أزهد الناس في الدنيا. 2 - إن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم. 3 - أنه قد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركنا صدقة». وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث». وبعد أن برهن ابن كثير على ذلك ذكر ما استدل به الآخرون ثم قال عن

5 - قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا

أدلتهم: وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح. 5 - [قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] وفي تفسير قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا نقل ابن كثير قول ابن عباس في ذلك وهو: (أي لم تلد العواقر قبله مثله). ثم بين الفارق بين حمل زوجة زكريا، وحمل زوجة إبراهيم عليه السلام. قال: وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها، بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرها، ولهذا قال: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (الحجر: 54) مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة. وقالت امرأته يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (هود: 72، 73). 6 - [ما في قوله تعالى وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا من تدليل على وجوده سبحانه] في قوله تعالى: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا يستدل الضحاك بقوله: مِنْ لَدُنَّا على أن ذلك لا يقدر عليه غير الله، وهي لفتة بديعة؛ فإن وجود الأخلاق في النفس البشرية دليل على وجود الله. وقد ذكرنا ذلك في كتابنا (الله جل جلاله) وفي النص تصريح بفضيلة الحنان، ويكفى أنه من أخلاق النبوة. 7 - [حول تفسير الحكم في قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] مما فسّر به الحكم في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا: بأنه الحكمة، والحكمة موافقة التصرف لمقتضى الحال على ضوء الحكم الشرعي، ومن المواقف التي يذكرها المفسرون ليحيى ما يرويه عبد الله بن المبارك عن معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. فقال: ما للعب خلقت. 8 - [ما يؤخذ من خصائص يحيى عليه السلام في موضوع تربية الطفل تربية عالية] ما ذكره الله من خصائص يحيى يعتبر نقاط علام في تربية الأطفال، فإن تربي طفلك على مجموع هذه الخصائص هي الغاية التي ما بعدها غاية: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ربّ ولدك على أخذ الكتاب بجدّ وعزم. وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ربّ ولدك على فهم الحكمة والتحقق بها كي يكون حكيما. وَزَكاةً ربّه على التقوى والطهارة في الأخلاق والسلوك. وَكانَ تَقِيًّا ربّه على التقوى والإسلام والطاعة.

9 - حول التدليل على أن يحيى عليه السلام لم يعمل معصية ولم يهم بها قط

وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ. ربّه على البر وجنّبه العقوق. وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ربّه على التواضع والطاعة. 9 - [حول التدليل على أن يحيى عليه السلام لم يعمل معصية ولم يهم بها قط] يذكر المفسرون أن يحيى عليه السلام لم يعمل معصية، ولم يهم بها قط. ويأخذ بعضهم هذا إما من قوله تعالى: وَزَكاةً ووَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا. أو من أحاديث واردة في الموضوع. وابن كثير يذكر الأحاديث التي يرويها هؤلاء ويضعّفها جميعا. لاردا لعصمة يحيى التامة، ولكن لأنها تذكر مع ذلك معاني أخرى تنفي أن يكون غيره مثله. وهذا كلامه: «وروى عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: جَبَّاراً عَصِيًّا قال: كان ابن المسيّب يذكر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا». قال قتادة: ما أذنب ولا همّ بامرأة. مرسل. وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا» وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى». وهذا أيضا ضعيف لأن علي بن زيد بن جدعان- أحد رجال الإسناد- له منكرات كثيرة، والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا. فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني فقال الآخر: أنت خير مني. فقال له عيسى أنت خير مني، سلّمت على نفسي وسلّم الله عليك، فعرف والله فضلهما» كلمة في السياق: [حول قصة زكريا عليه السلام وصلتها بالمحور] جاءت قصة زكريا مقدمة لقصة مريم، فالله الذي هو قادر على أن يخلق يحيى من امرأة عاقر، قادر على أن يخلق عيسى من غير أب. فمن المقاصد الرئيسية في السورة إبطال بنوة عيسى لله، ورفع الاختلاف في هذه القضية. ومن جملة حكم إنزال رفع الاختلاف بين الناس. ومن أهم ما وقع فيه الاختلاف قضية مريم وابنها، وعلى هذا فقصة زكريا تمهيد للحدث الكبير حدث قصة مريم. ولكنها مقدمة علمتنا الكثير: علمتنا كيف يحرص الرسول على استمرار الهدى.

وعلمتنا أن الجيل اللاحق قد ينحرف فيحتاج إلى نبي جديد، وبعد محمد صلّى الله عليه وسلّم لا نبوّة ولكنه التجديد. وعلمتنا كيف ينبغي أن يؤخذ الكتاب. وعلمتنا كيف تكون خصائص وأخلاق الأنبياء. وعلمتنا كيف يدعو الرسول. وقصت علينا قصة رسولين. فلنر مكان هذه القصة في السياق الكلي للقرآن. إن الآية التي هي محور سورة مريم من سورة البقرة هي: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وهذا القرآن أنزله الله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ومن ثم يقص علينا قصة زكريا ويحيى وعيسى. وهم ممن وقع الاختلاف في شأنهم، يدلنا على ذلك أن بداية قصة زكريا هي: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا .... وأن قصة مريم بعده مبدوءة بقوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ. وقصة زكريا ويحيى قصة رسولين مبشرين ومنذرين، وذكرهما للقدوة بهما ولرفع الخلاف في شأنهما، ومقدمة للوصول إلى قصة مريم التي وقع في شأن ابنها الاختلاف الأكبر. فلنر المجموعة الثانية من السورة. ***

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (16) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (16) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي: 19/ 40 - 16

نقل: لصاحب الظلال بين يدي قصة مريم عليها السلام

19/ 40 - 30 [نقل: لصاحب الظلال] بين يدي قصة مريم عليها السلام: قال صاحب الظلال رحمه الله: (وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا وإنشائه على هذه الصورة، فإن حادث ولادة عيسى بن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثا فذا لا نظير له من قبله ولا من بعده. والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها، لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث، فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب، على غير السّنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر، ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان.

التفسير

لقد جرت سنّة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث .. جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول. حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم- عليه السلام- ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحبس داخل النواميس التي تختارها. ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ. ونظرا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته، وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى بن مريم- عليه السلام- صفات الألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب- وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد- تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد. والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير). التفسير: وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ القرآن مَرْيَمَ أي قصة مريم إِذِ انْتَبَذَتْ أي اعتزلت. أي اذكر وقت اعتزالها مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا أي تخلت للعبادة في مكان ما شرقي بيت المقدس، أو شرقي دارها معتزلة عن الناس فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أي جعلت بينها وبين أهلها حجابا. أي استترت منهم وتوارت فَأَرْسَلْنا المرسل هو الله إِلَيْها رُوحَنا أي جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى الله للتشريف. وإنما سمي روحا لأن الدين يحيا به وبوحيه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا فتمثل لها جبريل على صورة إنسان تام كامل مستوى الخلق. قال النسفي: وإنما مثّل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على الاستماع قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي إن كنت

[سورة مريم (19): آية 19]

تخاف الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله فإني عائذة به منك، لمّا تبدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها ستر، خافته وظنّت أنه يريدها على نفسها فذكّرته بالله. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل، فخوّفته أولا بالله عزّ وجل قالَ جبريل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أمّنها بهذا مما خافت، وأخبر أنه ليس بآدمي بل هو رسول من استعاذت به. ثمّ بيّن لها حكمة إرساله لِأَهَبَ لَكِ بإذن الله، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع أي في الثوب غُلاماً زَكِيًّا أي طاهرا من الذنوب، أو ناميا على الخير، فتعجّبت مريم من هذا وقالَتْ أَنَّى أي كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ أي ابن وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي زوج بالنكاح وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي زانية فاجرة تبغي الرجال، أي تطلب الشهوة من أي رجل كان، ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين، أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج؟ ولا يتصور مني الفجور؟ قالَ أي جبريل كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لم يمسسك رجل نكاحا ولا سفاحا، ولكنّ الله قادر قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي إعطاء الولد بلا أب عليّ سهل وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي فعلنا ذلك لنبيّن لهم قدرتنا، ولنجعله للناس آية أي عبرة وبرهانا على قدرتنا. قال ابن كثير: (أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوّع في خلقهم فخلق أباهم من غير ذكر أو أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه من أنثى، بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه. فلا إله غيره، ولا رب سواه) وكما هو آية فكذلك هو رحمة. ومن ثم قال: وَرَحْمَةً مِنَّا أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيا من الأنبياء، يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وَكانَ أي خلق عيسى أَمْراً مَقْضِيًّا أي مقدّرا مسطورا في اللوح، أي قد قضى الله هذا فليس منه بد. قال ابن كثير: (يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدّر في علم الله تعالى. وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه كنّى بهذا عن النفخ فيها». فَحَمَلَتْهُ أي عيسى عليه السلام فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي اعتزلت وهو في بطنها مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا من أهلها. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي فجاء بها المخاض، أو فألجأها المخاض أي الطلق إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي إلى أصلها. أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحّت إليه قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا أي قبل هذا اليوم، قالت ذلك جزعا مما أصابها، وخوفا من كلام الناس

[سورة مريم (19): آية 24]

وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي شيئا متروكا لا يعرف، ولا يذكر. والنسي هو الشئ الذي حقه أن يطرح وينسى لحقارته. قال ابن كثير: (فيه دليل على تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها. وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية). فَناداها جبريل أو عيسى مِنْ تَحْتِها إن كان عيسى فإنه خاطبها من تحت ذيلها، وإن كان جبريل فقد خاطبها من مكان منخفض عنها أَلَّا تَحْزَنِي أي لشدة ما لقيت، هذا تسلية لها في وحدتها وجوعها، واحتمالات كلام الناس عليها. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا أي جدولا صغيرا على القول الراجح، أو سيدا كريما على القول المرجوح وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أي وخذي إليك يجذع النخلة، وحرّكيه تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً أي تمرا جَنِيًّا أي طريّا فَكُلِي من التمر وَاشْرَبِي من الجدول. دلّ هذا على مناسبة التمر للنفساء وَقَرِّي عَيْناً أي بالولد الرضي، أي وطيبي نفسا بعيسى، وارفضي عنك ما أحزنك فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً. أي مهما رأيت من أحد فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا وإمساكا عن الكلام. وكان صوم الصمت مشروعا عندهم، ونسخ في شريعتنا، ولنا عودة إلى هذا الموضوع فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي آدميا. قال ابن كثير: المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وقال النسفي: وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة. وقد تسمى الإشارة كلاما وقولا. وقيل: كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام، أو سوّغ لها هذا القدر بالنطق. فَأَتَتْ بِهِ مريم بعيسى قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي أقبلت نحوهم حاملة إياه. فلما رأوه معها قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا. أي. أمرا عظيما عجيبا، والفريّ: القطع. أي أمرا قاطعا للعادة يا أُخْتَ هارُونَ أي في الصلاح، شبهوها بهارون في الصلاح. ولنا عودة على الموضوع ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ أي زانيا وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي أشارت إليهم إلى خطاب عيسى فغضبوا أو تعجبوا وقالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من هو موجود في مهده حال صغره كيف يتكلم: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أول شئ تكلّم به أن نزّه جناب ربه تعالى وبرّأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه آتانِيَ الْكِتابَ أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أي فيما يأتي، جعل الآتي لا محالة كأنه وجد وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي جعلني نفّاعا

[سورة مريم (19): آية 32]

حيث كنت، أو معلّما للخير حيث كنت وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما ما دُمْتُ حَيًّا أي مدة حياتي وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي بارا بها أكرمها وأعظّمها وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً أي متكبرا شَقِيًّا أي عاقا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي جنس السلام عليّ في هذه المواطن الثلاثة، وفيه تعريض باللعنة على متهميّ مريم وأعدائها، إذ المقام مقام مناكرة وعناد، فكان مئنة لمثل هذا التعريض، وفي كل ما قاله إثبات لعبوديته لله عزّ وجل، وأنه مخلوق مأمور، وهو خلق من خلق الله الذي يحيي ويميت، كما أنّه يبعث كسائر الخلائق، وفي نطقه المعجز هذا في صغره قدّم الدليل على براءة أمه ذلِكَ أي الذي قال إنى عبد الله ... عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا كما قالت النصارى إنه إله، أو ابن الله قَوْلَ الْحَقِّ أقول قول الحق، أي هو ابن مريم وليس بإله كما يدّعونه الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكّون أو يختلفون. فقالت اليهود: ساحر كذاب ابن زانية. وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة ما كانَ لِلَّهِ أي ما ينبغي له أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ نزّه ذاته عن اتخاذ الولد إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي كما قال لعيسى كن فكان من غير أب، ومن كان متّصفا بهذا كان منزها أن يكون والدا وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده، وعليّ وعليكم أن نعبده، وهو من كلام عيسى فَاعْبُدُوهُ أي ولا تشركوا به شيئا هذا أي الذي ذكرته في كوني عبد الله، وأن الله ربي وربكم، وأن عليكم أن تعبدوه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي طريق لا عوج له فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي فاختلف الفرق مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى، أو من بين الناس، أو من بين قومه، فمنهم من قال: إنه ابن الله، ومنهم من قال: إنه الله، ومنهم من قال: ثالث ثلاثة ومنهم من قال: هو عبد الله ورسوله فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من الأحزاب، إذ أحدهم كان على الحق وهم الذين يعترفون أنه رسول الله مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة، أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، أو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر، أو من مكان الشهادة أو وقتها أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي إن عموا وصمّوا عن الحق في الدنيا، فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم يَوْمَ يَأْتُونَنا أي يوم القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في ضلال عن الحق ظاهر واضح، أي لكنهم في الحياة الدنيا- بسبب ظلمهم أنفسهم- في ضلال ظاهر، وهو اعتقادهم أن عيسى إله معبود، مع ظهور آثار

[سورة مريم (19): آية 39]

الحدوث فيه، ولذلك هم في ضلال ظاهر؛ حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي، ووضعوا العبادة في غير موضعها، وفي ذلك إشعار بأنه لا ظلم أشد من ظلمهم وَأَنْذِرْهُمْ أي وخوّفهم يَوْمَ الْحَسْرَةِ أي يوم القيامة، لأنه يقع فيه الندم على ما فات إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب، وصير إلى الجنة أو النار وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي في الدنيا عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة. أي في غفلة هنا عن الاهتمام بذلك المقام وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون. أي وأنذرهم على هذه الحال التي هم عليها غافلون غير مؤمنين إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها متفردين بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي يردون فيجازون جزاء وفاقا. أخبر تعالى في مقام وعظ هؤلاء أنه الخالق المالك المتصرّف، وأن الخلق كلهم يهلكون، ويبقى هو تعالى وتقدّس ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا، بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم، الحاكم فيهم، فلا تظلم نفس شيئا، ولا جناح بعوضة، ولا مثقال ذرة. كلمة في السياق: [حول صلة قصة مريم بقصة زكريا عليهما السلام وبالمحور] الصلة بين قصة مريم وما قبلها واضحة، قال ابن كثير: (لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليه السلام منها، من غير أب فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وهاهنا وكذا في سورة الأنبياء يقرن القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى؛ ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه وأنه على ما يشاء قدير). هذا ما له علاقة في السياق الخاص للسورة. وأمّا صلة القصة بالسياق العام للقرآن فهي على النحو التالي: لقد ذكرت الآية التي هي محور هذه السورة: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وهذا القرآن أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وقد حكم إذ عرض قصة مريم وابنها، وعلّق عليها، وهي من أعظم القضايا التي اختلف فيها البشر، فأعطى فيها قول الحق، ووعظ الناس وذكرهم وأنذرهم أن يثوبوا إلى الحق، مقررا عبودية المسيح وبراءة أمه. وتأتي بعد ذلك قصة إبراهيم عليه السلام لتبرهن أن كل رسول لله كان مقامه العبودية لله، وكانت دعوته لذلك

نقل صاحب الظلال

نقل [صاحب الظلال]: عند قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال صاحب الظلال: (ولقد جمع الإمپراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الأساقفة- وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة- بلغ أعضاؤه ألفين ومائة وسبعين أسقفا، فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا، وقالت كل فرقة فيه قولا. قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء. وقال بعضهم: هو ابن الله، وقال بعضهم: هو أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس. وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة: الله إله وهو إله وأمه إله. وقال بعضهم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته. وقالت فرق أخرى أقوالا. ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرّد المعارضين وبخاصة الموحّدين. ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله، وينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ* أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فوائد: 1 - [مناقشة حول ما جاء في الأناجيل الأربعة المعتمدة عند نصارى اليوم عن مريم عليها السلام] في مراجعة للأناجيل الأربعة المعتمدة عند نصارى اليوم يجد الإنسان أن هذه الأناجيل لا تصلح لأن تعتمد في تحقيق أي مسألة. وذلك لأنها كلها من مدرسة بولس، وليس فيها إنجيل واحد متلقى عن المسيح مباشرة. وكنا ذكرنا من قبل أن بولس قد ذكر في رسائله أنه اختلف مع بطرس حواريّ المسيح، ومع برنابا التلميذ المكمل للاثنى عشر. ومن ذلك ندرك حاله وحال تلامذته واتجاهه، إذ يختلف فكرا وسلوكا مع الممثلين الحقيقيين للديانة المسيحية. ثم في هذه الأناجيل الأربعة ما يدل على أنها روايات لحياة المسيح، كما وصلت إلى أصحابها، ومن ثم لا تجدها تسير على نسق واحد، فليست هي إذن تسجيلا للوحي الذي أنزله الله على عيسى ثم هي مختلفة مع بعضها اختلافا كبيرا. خذ مثلا نسب يوسف النجار الذي يزعمون أنه زوج مريم عليها السلام. ففي إنجيل متى ما بين يوسف النجار وإبراهيم عليه السلام أربعون رجلا. وفي إنجيل لوقا ما بين يوسف النجار وبين إبراهيم (54) رجلا. ثم تجد فارقا كبيرا بين رجال من النسبين حتى ليكاد الالتقاء يكون نادرا.

2 - مقارنة بين دقة التصوير الفني للقرآن والسنة بما جاء في الأناجيل

فإذا كانت المسألة هكذا، وإذا كان حال الأناجيل الأربعة كذلك. والمفروض أن تكون حقا خالصا فما حال غيرها، ومن ثم تعرف الروايات المذكورة في الأناجيل لا تساوي شيئا من حيث قيمتها التاريخية، فهي تسجيل لوجهة نظر بعد أن حدث الاختلاف الهائل في شأن المسيح وأمه عليهما السلام. ووجهة النظر المسجلة وجهة نظر بولس ومدرسته التي هي على نقيض كامل لما كان عليه تلاميذ المسيح الحقيقيين. ومن ثم نجد أن بولس نفسه في رسائله المعتمدة عند نصارى اليوم يذكر أنه اختلف مع أكبر تلاميذ المسيح وهاجمه، كما اختلف مع برنابا نفسه الرجل الصالح، وللأسف فمدرسة بولس هي المدرسة التي انتصرت في تاريخ النصرانية، وأتلفت وثائق كل وجهة نظر أخرى تختلف مع وجهتها. ومن ثم فإن هذه المدرسة ورجالها ورواياتها مرفوضة ممروضة، وجاء القرآن ليوضّح الحق ويقرره في شأن المسيح وأمه عليهما السلام 2 - [مقارنة بين دقة التصوير الفني للقرآن والسنة بما جاء في الأناجيل] تتحدث الأناجيل المحرفة الحالية عن يحيى عليه السلام. وإنجيل لوقا من بينها يتحدث عن زكريا وزوجته العاقر وحملها بيحيى وما رافق ذلك من احتباس لسانه، والصلة بين زكريا ومريم. وبين مريم وزوجة زكريا مع اختلاف وزيادات ونقص عما ورد. وقد جعل الله عزّ وجل لنا في القرآن غنية عما سواه. فما ورد في الكتاب والسنة هو الحكم الفصل، وهو وحده الكافي، وهو وحده الحق. 3 - [حديث بمناسبة قوله تعالى انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا] أخرج ابن جرير بسنده إلى ابن عباس. قال: «إني لأعلم خلق الله لأي شئ اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا واتخذوا ميلاد عيسى قبلة». 4 - [ما ذكره ابن كثير في شأن مريم عليها السلام وتعليق المؤلف عليه] قال ابن كثير في شأن مريم عليها السلام: ذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى، فلما حملت ضاقت ذرعا، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرّها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا، وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك. فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها وقالت أشعرت يا مريم أنّي حبلى؟ فقالت لها مريم وهل علمت أيضا أني حبلى وذكرت لها شأنها وما كان خبرها، وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد

5 - أقوال المفسرين حول مدة حمل مريم وولادتها لعيسى عليهما السلام

للذي في بطن مريم، أي يعظمه ويخضع له، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعا، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى، روى ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع أخبرنا عبد الرحمن ابن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم إني أرى أن ما بطني يسجد لما في بطنك» قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. أقول: في إنجيل لوقا الإصحاح الأول: «فلما سمعت اليصابات (زوجة زكريا) سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت اليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوت عظيم وقالت: مباركة أنت في النساء وهي- مباركة ثمرة بطنك ... فهو ذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب». 5 - [أقوال المفسرين حول مدة حمل مريم وولادتها لعيسى عليهما السلام] هناك خلاف بين المفسرين حول مدة حمل مريم بعيسى عليه السلام هل كان الحمل والولادة في زمن قصير أو هو حمل عادي؟ قال ابن كثير: «فالمشهور الظاهر- والله على كل شئ قدير- أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وكان معها في المسجد رجل صالح من قرابتها يخدم معها البيت المقدس، يقال له يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمّل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرّض لها في القول فقال: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ. قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم وفهمت ما أشار إليه، أما قولك: هل يكون شجر من غير حب، وزرع من غير بذر فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر، وهل يكون ولد من غير أب، فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم فصدّقها وسلم لها حالها. ولما استشعرت من قومها اتهامها بالريبة، انتبذت منهم مكانا قصيا». أقول: وفي إنجيل متى في الإصحاح الأول: «لما كانت مريم أمة مخطوبة ليوسف قبل

6 - هل كانت النخلة التي هزتها مريم يابسة في الأصل أم مثمرة؟ وهل كان الحدث خارقا أم عاديا؟

أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس، فيوسف رجلها إذ كان بارا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرا، ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور، إذ ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس .... فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر». وهذا الكلام لا نجده في بقية الأناجيل ولا نستطيع اعتماده وإنما نذكره للاستئناس. 6 - [هل كانت النخلة التي هزتها مريم يابسة في الأصل أم مثمرة؟ وهل كان الحدث خارقا أم عاديا؟] هل كانت النخلة التي هزتها مريم يابسة في الأصل أو مثمرة، وكان الحدث خارقا أو عاديا؟ أقوال للمفسرين. إلا أن الظاهر أن إكرامها بالجدول والتمر كان خارقا هذا إذا فسرنا (السري) بالنهر الصغير وهو الراجح، ومن إكرام الله مريم بالنخلة وهي نفساء. فهم عمرو بن ميمون وغيره أن أجود شئ للنفساء التمر. قال عمرو بن ميمون: ما من شئ خير للنفساء من التمر والرطب. ثم تلا الآية الكريمة وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. 7 - [حول صوم مريم عليها السلام والاختلاف في كيفيته] هل الصوم الذي أمرت به مريم كان صوما كاملا عن الطعام والشراب وكان جزءا من الصوم عندهم الامتناع عن الكلام؟ أو أنه كان صوم صمت فقط؟ أقوال للمفسرين. والمهم أن صوم الصمت في شريعتنا غير جائز. قال ابن إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلّم أحدهما ولم يسلّم الآخر فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم. فقال عبد الله بن مسعود: كلّم الناس وسلّم عليهم فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج، يعني بذلك مريم عليها السلام ليكون عذرا لها إذا سئلت. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير. 8 - [كلام ابن كثير حول تصوير لحظة اللقاء الأول بين مريم والناس بعد ولادتها] في تصوير لحظة اللقاء الأول بعد الولادة بين مريم والناس. يروي ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها، قال: وكانت من أهل بيت نبوة وشرف، فلم يحسوا منها شيئا فلقوا راعي بقر، فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها. قال: لا، ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط. قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي. قال عبد الله بن أبي زياد: وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نورا ساطعا فتوجهوا حيث قال لهم فاستقبلتهم مريم فلما راتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاءوا حتى قاموا عليها قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ

9 - تعليق النسفي على ما أمرت به مريم عليها السلام من القول

شَيْئاً فَرِيًّا أمرا عظيما يا أُخْتَ هارُونَ أي: شبيهة هارون في العبادة ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك قال علي بن أبي طلحة قيل لها: يا أُخْتَ هارُونَ أي أخي موسى وكانت من نسله. كما يقال للتميمي يا أخا تميم. وللمضري يا أخا مضر». أقول: ولم يزل النصارى يشوّشون على قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ. وفي ذلك يروي الإمام أحمد والترمذي ومسلم والنسائي عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون يا أُخْتَ هارُونَ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ألا أخبرتهم أنهم يسمّون بالأنبياء والصالحين قبلهم». وكلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحتمل أن لها أخا اسمه هارون، ويحتمل أنهم سموها بذلك لقبا. 9 - [تعليق النسفي على ما أمرت به مريم عليها السلام من القول] قال النسفي تعليقا على ما أمرت به مريم من القول: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا: وإنما أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها، ولئلا تجادل السفهاء، وفيه دليل على أن السكوت عن السفيه واجب، وما قدع سفيه بمثل الإعراض ولا أطلق عنانه بمثل العراض. 10 - [حديث حول الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه] في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنّ الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل». 11 - [ما قيل بمناسبة قوله تعالى وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ] عند قوله تعالى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ يذكر ابن كثير ما رواه ابن جرير عن وهيب بن الورد مولى مخزوم قال: «لقى عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده» وقد قال العلماء في قوله الله تعالى وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أن بركته هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. 12 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ] بمناسبة قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال ابن كثير: (أي

اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله، وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فصمّمت طائفة منهم- وهم جمهور اليهود عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله. وقال آخرون: بل هو ابن الله، وقال آخرون: ثالث. وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله. وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين. وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف. روى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ قال: اجتمع بنو إسرائيل، فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع، فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه. قال هو ابن الله وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين: قل فيه. فقال: هو ثالث ثلاثة. الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا وظهر على المسلمين. فذلك قول الله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ (آل عمران: 21) وقال قتادة: وهم الذين قالوا الله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزابا. وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعن عروة بن الزبير وعن بعض أهل العلم قريبا من ذلك، وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم، أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا، فاختلفوا في عيسى بن مريم عليه السلام اختلافا متباينا، فقالت كل شرذمة فيه قولا، فمائة تقول فيه قولا، وسبعون تقول فيه قولا آخر، وخمسون تقول شيئا آخر، ومائة وستون تقول شيئا، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصمّموا عليه، فمال إليهم الملك، وكان فيلسوفا، فقدّمهم ونصرهم، وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء، وابتدعوا بدعا كثيرة، وحرّفوا دين المسيح، وغيّروه فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها: بلاد الشام، والجزيرة، والروم. فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة،

13 - حديث بمناسبة قوله تعالى وأنذرهم يوم الحسرة

وبنت أمه هيلانة قمامة (أي ديرا) على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود أنه المسيح، وقد كذبوا، بل رفعه الله إلى السماء). 13 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ] بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد. ورواه البخاري ومسلم بلفظ قريب من ذلك. وهذه رواية الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر فيذبح. قال: ويقال يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وأشار بيده ثم قال: «أهل الدنيا في غفلة الدنيا». كلمة في السياق: [حول صلة قصة عيسى ومريم عليهما السلام بمحور السورة] في الآية التي قلنا إنها محور سورة مريم نجد قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وفي سياق قصة عيسى ومريم عليهما السلام يقول الله عزّ وجل على لسان المسيح: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فدلّ ذلك على أن هداية المؤمنين هي في كونهم عرفوا لله حقه في الربوبية، وواجبهم له في العبودية، وهذا هو الصراط المستقيم. ومن ثمّ نلاحظ أن قصة إبراهيم عليه السلام التي تأتي مباشرة بعد قصة عيسى عليه السلام تتحدث عن معنى العبودية التي دعا إليها إبراهيم أباه وتحقق بها عملا. فالسورة حديث عن الأنبياء، وحديث عن إنزال الله الكتاب بما يرفع الاختلاف. وحديث عن هداية الله المؤمنين إلى الصراط المستقيم. وحديث عن الاختلاف الظالم والانحراف الغاشم، وحديث عن كل ما تقتضيه قضية الاعتراف لله بالربوبية ...

ونلاحظ أن قصة مريم بدأت بقوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ وأن قصة إبراهيم بعدها بدأت بقوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ وبين ذلك ورد قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ. فإذا تذكرنا أن الآية التي هي محور سورة مريم وصفت النبيين بالتبشير والإنذار، ووصفت الكتاب بأنه ينزل ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، عرفنا سورة مريم بمحورها فههنا يأمر الله رسوله بالإنذار، ويأمره بذكر هذه القصص التي ترفع الخلاف. وإذا تذكّرنا أن الصراط المستقيم هو العبودية لله رب العالمين، وأن هذا المعنى ركزته السورة. وستركزه، ندرك كيف تخدم هذه السورة موضوع الدخول في الإسلام كله، إذ الدخول في الإسلام كله هو العبودية لله، وهو الصراط المستقيم. وبعد ما مرّ تأتي قصة إبراهيم ليتأكد بها أن دعوة الرسل عليهم السلام هي العبودية لله التي هي نفسها دعوة عيسى عليه السلام، لا كما يزعم النصارى. وبعد قصة إبراهيم يأتي ذكر موسى وهارون. ثم ذكر إسماعيل. ثم ذكر إدريس. ثم آية جامعة تتحدث عن عبودية الرسل جميعا لله. وفي ذلك تأكيد لكون عيسى رسولا كبقية الرسل، وكونه عبدا لله وليس غير ذلك. وفي ذلك تعريف على الرسل الذين بعثهم الله مبشرين ومنذرين. ***

المجموعة الثالثة والأخيرة من المقطع الأول وتمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (58) وهذه هي

المجموعة الثالثة والأخيرة من المقطع الأول وتمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (58) وهذه هي: 19/ 58 - 41

التفسير

19/ 58 - 56 التفسير: وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ أي في القرآن إِبْراهِيمَ أي قصته مع أبيه إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أي كان مصدقا لجميع الأنبياء وكتبهم، وكان نبيا في نفسه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ أي أنه عند ما قال لأبيه ما سيقصه الله علينا، كان جامعا لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات. والمراد بقول الله تعالى لرسوله: (وَاذْكُرْ) هو أن يتلو الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك على الناس، ويبلغه إياهم، وإلا فالله عزّ وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله، والحكمة في إيراد قصة إبراهيم في هذا المقام واضحة. فإبراهيم جد عيسى الأعلى وجد العرب. وهو الذي تعترف بنبوته ورسالته أكثر الأمم، فإذا خاطب أباه هذه المخاطبات، وجعلها الله له أعلى المقامات، فذلك دليل على أن الدعوة إلى ربوبية الله وعبودية الإنسان هي سنة كل رسول لله دعوة وتحققا، فكيف يدعو الرسل جميعا إلى هذا، ويستقيم في عقل الإنسان أن يكون عيسى مع الله ربا، أو تكون الأصنام مع الله شركاء؟ وهذه مخاطبات إبراهيم يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً أي لم تعبد أصمّ أعمى، وهو في الوقت نفسه لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررا، إنك تضع العبادة في غير محلها يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ أي من الوحي ومعرفة الله ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ أي أرشدك صِراطاً سَوِيًّا أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك لأني ولدك. فإني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي لا تطعه فتعبد غير الله؛ فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي عاصيا مخالفا مستكبرا عن طاعة ربه لذلك طرده

[سورة مريم (19): آية 45]

وأبعده، فلا تتبعه فتصير مثله يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ أي على شركك وعصيانك لما أمرك فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي قرينا في النار، تليه ويليك يعني: فلا يكون لك يومئذ مولى ولا ناصر ولا مغيث إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شئ، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، أعلمه بذلك أن دعوته له ونصحه من كمال شفقته عليه ورحمته به. قال النسفي: فانظر في نصيحته كيف راعى المجاملة والرفق والخلق الحسن .... فطلب منه أولا العلة في خطئه، طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم الأنبياء، كان محكوما عليه بالغي المبين، فكيف بمن يعبد حجرا أو شجرا، لا يسمع ذكر عابده ولا يرى هيئات عبادته، ولا يدفع عنه بلاء ولا يقضي له حاجة، ثم ثنى بدعوته إلى الحق، مترفّقا متلطّفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال إن شيئا من العلم ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي. فهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه، ثم ثلّث بنهيه عما كان عليه، بأن الشيطان الذي عصى الرحمن- الذي جميع النعم منه- أوقعك في عبادة الصنم، وزينها لك، فأنت عابده في الحقيقة، ثم ربّع بتخويفه بسوء العاقبة، وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، مع مراعاة الأدب؛ حيث لم يصرّح بأن العقاب لاحق به، وأن العذاب لاصق به، بل قال أخاف أن يمسك عذاب، بالتنكير المشعر بالتقليل، كأنه قال إني أخاف أن يصيبك نفثات من عذاب الرحمن، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه، وصدر كل نصيحة بقوله: يا أبت، توسلا إليه واستعطافا وإشعارا بوجوب احترام الأب وإن كان كافرا). كلمة في السياق: نلاحظ أن عيسى عليه السلام قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وأن إبراهيم عليه السلام قال: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا وما دعاه إليه هو اتباعه في عبادة الله وترك عبادة غير الله، فدل ذلك على أن طريق الأنبياء واحد وهو عبادة الله وحده، وأنه هو الصراط المستقيم، فالانحراف عن هذا الصراط، انحراف عن اتباع إبراهيم وعيسى وبقية الأنبياء عليهم السلام.

[سورة مريم (19): آية 46]

فالسياق يحرر الإنسان- وثنيا كان أو نصرانيا- من عبادة الصنم أو البشر. ... قالَ أي آزر توبيخا لابنه إبراهيم أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي عن عبادتها يا إِبْراهِيمُ لم يقل يا بني في مقابلة قول إبراهيم (يا أَبَتِ) * ممّا يدلّ على أنّه كان مغتاظا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن سب الأصنام وشتمها وعيبها لَأَرْجُمَنَّكَ أي لأقتلنك بالرجام- أي بالحجارة- أو لأضربنك بها، حتى تتباعد أو لأشتمنّك وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي زمانا طويلا فاحذرني واهجرني فإني ناقم عليك قالَ إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ هذا جوابه على تهديد أبيه ومعناه: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك. أي سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة؛ بأن يهديك للإسلام. وسلّم عليه تسليم توديع ومتاركة، أو تقريب وملاطفة، ووعده بالاستغفار، ثم علّل لذلك إِنَّهُ أي الله عزّ وجل كانَ بِي حَفِيًّا أي معوّدا لي على الإجابة، محيطا إياي بالنعم. والحفاوة: الرأفة والرحمة والكرامة وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ أي وما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَدْعُوا رَبِّي أي: وأعبده وحده عَسى قال ابن كثير: (هذه موجبة لا محالة) أقول: هي وكل ما رجانا الله به ورسله كذلك أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا كشقاوتكم أنتم بعبادة الأصنام، أفاد تعبيره تواضعا وهضما للنفس، وتعريضا بشقاوتهم، ولقد كان اعتزالهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، وبالهجرة بعد ذلك من أرضهم بدليل الآية الآتية التي جعلت هبة إسحاق ويعقوب مكافأة على الاعتزال وإنما جاء إسحاق ويعقوب بعد الهجرة فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله؛ أبدله الله من هو خير منهم وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وَكُلًّا أي وكل واحد منهما جَعَلْنا نَبِيًّا لما ترك الكفار الفجار لوجهه تعالى عوّضه أولادا مؤمنين أنبياء وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا زيادة على النبوة من مال وولد وأهل وتمكين ورعاية وغير ذلك من مظاهر الرحمة وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ أي ثناء حسنا، عبّر باللسان عما يوجد باللسان. فالكلام الصادق في حقهم، وهو الثناء عليهم، هو اللسان الصدق، ثم وصف الله هذا اللسان الصدق بقوله عَلِيًّا أي رفيعا مشهورا. قال ابن جرير: وإنما قال (عليا) لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم.

كلمة في السياق

أقول: ومن الثناء عليهم ما قصّه الله لنا عنهم، ومن الثناء عليهم أننا ندعو في الصلاة لإبراهيم وآل إبراهيم، وكل ذلك ببركة اعتزال إبراهيم أباه وقومه في الله. كلمة في السياق: دلّت قصة إبراهيم عليه السلام على أن المواقف الراقية عند الله اعتزال الكافرين قولا وفعلا بعد استنفاد الوسع. وأن من فعل ذلك يكافئه الله المكافآت الكبيرة الكثيرة دنيا وأخرى، كما دلّتنا على أن الهداية إلى الصراط المستقيم إنما هي بالهداية إلى عبادة الله وحده، كما أعطتنا نموذجا على دعوة الرسل إلى الله بالتبشير والإنذار. في ذلك كله نوع تفصيل لمعان في الآية التي هي محور سورة مريم من البقرة، وخدمة للحيّز الذي وردت فيه وهو الدخول في الإسلام كله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في دعوته، واعتزاله قومه وما يعبدون. وبعد أن قصّ الله علينا قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه يذكر لنا موسى عليه السلام، وفي ذكر موسى في هذا السياق تذكير برسالته، وأنه من سلسلة الرسل المبشرين والمنذرين، وتذكير بشأنه وحاله، فقد كان يدعو إلى عبادة الله وحده، وهو شئ يعرفه العام والخاص من بني إسرائيل وغيرهم، فكيف يزعم من يزعم أن لله ولدا هو عيسى فيعبده، إن التذكير بموسى في هذا السياق وبصفاته تعريض بمن ينتسب إليه، ولا يوحد الله كما وحده، كأن يجعل المسيح ابنا لله، وموسى لا يعلم ذلك ولا يعرفه، ولا يدعو إليه، كما في ذكر موسى وما وهبه الله له من نبوة هارون المؤيدة له إشارة إلى ما يعطيه الله لعباده المخلصين من مؤيدات وإنعامات هي فوق كل ما يطمح إليه أهل الدنيا وأتباع الشيطان، وذكر موسى الذي هو من ذرية إبراهيم، ثم ذكر إسماعيل بعد ذلك، إشارة إلى أن ما أعطيه إبراهيم بسبب موقفه لم يكن إسحاق ويعقوب فقط، بل هو أكثر من ذلك. فيا عباد الله إلى الله. ... وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ أي في القرآن مُوسى فإنه كذلك ممّن بعث الله من النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلست أنت بدعا من الرسل، وليس إرسالك إلا جزءا من سنة الله في إرسال الرسل، وليس إنزال الكتب عليك إلا جزءا من سنة الله في إنزال الكتب، لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأي حال من الاختلاف هي أشد من الحال التي بعثت والناس عليها من الاختلاف، حتى أصحاب الكتاب إِنَّهُ أي موسى كانَ مُخْلَصاً أي أخلصه الله واصطفاه بماله من السعادة بأصل الفطرة

[سورة مريم (19): آية 52]

وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا قال النسفي: الرسول: الذي معه كتاب من الأنبياء. والنبي: الذي ينبئ عن الله عزّ وجل وإن لم يكن معه كتاب ... (وقد عرّف غيره الرسول والنبي بغير ذلك) وقد جمع الله لموسى الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة. وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فهو رسول نبي مخلص، كما كان إبراهيم. وكما كان عيسى، فأين يذهب بالنصارى، إذ يقولون على الله ما لا يليق بجلاله، أفلا يكفي أن يوصف عيسى بأنه رسول نبي مخلص، وقد وصف من هو أرقى منه وأفضل كذلك وإنما فهمنا هذا المعنى من السياق لأننا نلاحظ أن السورة في بدايتها ونهايتها تركز على نقض أن يكون عيسى ابنا لله عزّ وجل، وهي مع هذا تؤكد في سياقاتها موضوع ربوبية الله وحده، ووجوب معرفته، والإخلاص في العبادة له وحده، كما تتعرض لقضايا أخرى مما خالف فيه الناس الحق وَنادَيْناهُ أي ودعوناه وكلّمناه مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور معروف وهو جبل في سيناء، والجمهور على أن المراد بجانبه الأيمن بالنسبة لموسى عليه السلام، لأن الجبل لا يمين له، والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى وَقَرَّبْناهُ تقريب منزلة ومكانة نَجِيًّا أي مناجيا، فهذا موسى الذي هذا شأنه، وصفه الله أنه رسول نبي، وذلك إبراهيم وصفه أنه صدّيق نبيّ، فلم تغلون بعيسى فتصفونه بغير ما يوصف به إبراهيم وقد أعطاه الله ما أعطاه، وبغير ما يوصف به موسى وقد أعطاه الله ما أعطاه، ألا إنها الضلالة العمياء وَوَهَبْنا لَهُ أي لموسى مِنْ رَحْمَتِنا أي من رحمتنا له وترؤفنا عليه أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا أي أجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبيا. قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا، وإذن فإن يستجاب لموسى فيهب الله لهارون النبوة بشفاعته فذلك دليل على أن موسى في المكان العظيم عند الله، ومع هذا فإنه نبي رسول، فلماذا تغلون في عيسى وتصفونه بالألوهية. وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ أي القرآن إِسْماعِيلَ ابن إبراهيم الأكبر عليهما السلام إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ أي وافيه وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا قال ابن كثير: (في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه، لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ... ». وذكر تمام الحديث فدل على صحة ما قلناه) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان

[سورة مريم (19): آية 56]

لأنهما أمّا العبادات البدنية والمالية، وهل المراد بأهله أمته كلها، لأن النبي أب لأمته، أو المراد بذلك أهل بيته فقط؟ قولان، والثاني أقوى. قال النسفي: (وفيه دليل على أنه لم يداهن). وصفه الله بالنبوة، والرسالة، وصدق الوعد، وأمر الأهل بالصلاة والزكاة، وتلك أمهات من الأخلاق العظيمة ثم قال وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا إذ اجتمع له جمال العمل وقبوله، والاجتباء والاصطفاء. ذكرت هاتان الآيتان رسالة جديدة، ونبيا مبعوثا قائما بالعبودية لله، فهذا منتهى غاية كل رسول أن يكون عبدا لله. وبعد أن ذكرت السورة من ذكرتهم من الرسل، ممن هم من ذرية إبراهيم، يأتي ذكر رسول قديم سابق في الزمان على إبراهيم ونوح: وَاذْكُرْ يا محمد فِي الْكِتابِ القرآن إِدْرِيسَ هو الذي يسميه أهل الكتاب أخنوخ، ويذكرون أنه أول مرسل بعد آدم عليه السلام إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وصفه بالصدّيقية والنبوة، كما وصف إبراهيم عليه السلام وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال النسفي: هو شرف النبوة، الزلفى عند الله. ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد. وبعد أن ذكر الله عزّ وجل هؤلاء الرسل عليهم السلام قال: أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وكل النبيين منعم عليهم وتخصيص هؤلاء بالذكر لا ينفي الإنعام على غيرهم، وإنما ذكرهم هنا وحدهم لحكمة يقتضيها سياق السورة ومكانها من القرآن عامة مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ فكلهم من ذرية آدم وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وكل مذكور في هذه السورة منهم ما عدا إدريس وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ دخل في ذلك بشكل مباشر إسماعيل وإسحاق وَإِسْرائِيلَ هو يعقوب وهو ابن إسحاق، فهو من ذرية إبراهيم، ومن ذرية إسرائيل: موسى، وهارون، وزكريا، وعيسى، ويحيى وغيرهم وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي للمحاسن وَاجْتَبَيْنا من الأنام كل هؤلاء إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أي سقطوا على وجوههم ساجدين رغبة باكين رهبة، أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم؛ خضوعا واستكانة حمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة. والبكي جمع باك، وقد أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم. قال سفيان الثوري .... عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد وقال: هذا السجود فأين البكى يريد البكاء رواه ابن أبي حاتم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: استقر السياق- كما رأينا- على تسجيل حال الأنبياء في الخضوع لله والسجود له والرهبة منه، وعيسى كان هذا دأبه، فكيف يزعمون أنه غير عبد لله، وهكذا من خلال عرض حال الأنبياء تستقر الأدلة على أن عيسى عبد الله، وهي القضية الرئيسية التي حكمت فيها سورة مريم حتى نهاية لمقطع الأول مما اختلف فيه الناس. لقد عرض لنا المقطع الأول حال الأنبياء، ودعوتهم، وأخلاقهم التي من جملتها خضوعهم لله، وخشوعهم وسجودهم، فإذا استقر هذا يصل السياق إلى الحديث عما خلفهم به أقوامهم كما سنرى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. فلنلاحظ الآن ما يلي: إن محور سورة مريم هو قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وقد قص الله علينا قصص عدد من هؤلاء النبيين في سورة مريم. وبعد أن قص علينا قصتهم قال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ ... وقال تعالى في سورة البقرة: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. وهذا القرآن أنزله الله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. ومن ثم تأتي سورة مريم لتقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ* ... وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ* فيا أيها الناس اقبلوا حكم القرآن، فإذا تذكرنا أن آية البقرة واردة في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كافة، فهذا يفيد أن على الخلق أن يحتكموا إلى كتاب الله في كل شئ، وذلك هو الدخول في الإسلام كافة، وقد حكمت السورة في أهم قضية مختلف فيها، وهي رسالة المسيح وعبوديته وبراءة أمه، فليتبع حكم الله في ذلك وليحذر من يرفض حكمه. وقال تعالى في آية البقرة: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ كما حدث لأتباع عيسى دلّ ذلك على أن بولس ومدرسته باغية ظالمة إذ خالفت المؤمنين الحقيقيين من أتباع عيسى محرّفة لكتاب الله، وفي ذلك درس لهذه الأمة ألا تختلف في فهم الكتاب بغيا.

فوائد

فسورة مريم تقدم لنا نموذجا على الخلاف بعد إنزال الكتاب كأثر عن البغي. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وتلك بشارة لأهل الإيمان ولهذه الأمة بأن الله هداها إلى الحق في كل قضية اختلفت فيها البشرية. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وقد هدى هذه الأمة إلى الصراط المستقيم الذي دعا إليه عيسى وإبراهيم وغيره من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وذلك هو الإسلام، فادخلوا فيه كله أيها المؤمنون. ومن خلال آية البقرة، ومن خلال تفصيلها في سورة مريم، نفهم أن حكمة بعثة الرسل هي كفر الناس أولا، ثم اختلافهم في فهم الكتاب بعد إرسال الرسل ثانيا. ثم في انحراف الناس عن التطبيق والاقتداء ثالثا، أما الحكمة الأولى فإنا نفهمها من قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وأما الحكمة الثانية فنفهمها من قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا .... ومن قوله تعالى في سورة مريم ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. وأما الحكمة الثالثة فنفهمها من المجموعة الآتية معنا والمبدوءة بقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. وهكذا من خلال السياق القرآني تتكامل معنا المعاني في القضية الواحدة. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة قول إبراهيم لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي] بمناسبة قوله تعالى على لسان إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي قال ابن كثير: «وقد استغفر إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (إبراهيم: 41) وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام؛ وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك، حتى أنزل الله تعالى قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله- إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ الآية (الممتحنة: 4)، يعنى إلا في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه فقال

2 - من تعريفات الصديق والمخلص والمخلص

تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ إلى قوله- وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (التوبة: 113، 114). 2 - [من تعريفات الصدّيق والمخلص والمخلص] هناك تعريفات كثيرة للصدّيق والمخلص والمخلص منها: أ- الصادق: هو المستقيم في الأفعال، والصدّيق يزيد على ذلك باستقامته على الأحوال. ب- المخلِص: هو الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس. ج- والمخلَص: من أخلصه الله له فلم يبق فيه حظ لغير الله. ومن رزقه الله قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين على الخير لم يخزن عنه من الخير شيئا. 3 - [محاولات المفسرين لمعرفة سبب وصف الله لإسماعيل عليه السلام أنه صادق الوعد] في الكلام عن إسماعيل عليه السلام وكونه متصفا بأنه صادق الوعد، يحاول المفسرون أن يذكروا سبب وصفه بذلك. فبعضهم كابن جريج يقول: السبب في ذلك أنه لم يعد ربه عدة إلا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها، ووفّاها حقها. وقال بعضهم: إنما قيل له (صادق الوعد) لأنه قال لأبيه: (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فصدق في ذلك. ويقص بعضهم قصة عنه في هذا المقام هي سبب تسميته بذلك، وفيها وفاؤه بوعده بما شقّ عليه، والقولان الأولان أقوى. ويقصّ ابن كثير في هذا المقام قصة يرويها الخرائطي في صدق الوعد فيقول: «عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث فبقيت له علي بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك. قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك، فقال لي: «يا فتى لقد شققت علي فأنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» ورواه ابن مندة ومن كلام ابن كثير في هذا المقام: (فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خلفه من الصفات الذميمة قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (الصف: 2، 3) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» ولما كانت هذه صفات المنافقين كان

4 - كلام بمناسبة قول الله تعالى عن إسماعيل عليه السلام وكان يأمر أهله بالصلاة ..

التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صادق الوعد أيضا، لا يعد أحدا شيئا إلا وفىّ له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: «حدثني فصدقني ووعد فوفى لي» ولما توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال: لو كان جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، يعني ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرا فغرف بيده من المال ثم أمره بعدّه فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها). 4 - [كلام بمناسبة قول الله تعالى عن إسماعيل عليه السلام وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ .. ] وبمناسبة الكلام عن قول الله في إسماعيل عليه السلام وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا قال ابن كثير: «هذا أيضا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة، حيث كان صابرا على طاعة ربه عزّ وجل، آمرا بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها الآية (طه: 132). وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (التحريم: 26) أي مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا استيقظ الرجل من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات». رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له). 5 - [حول ما قيل في تفسير المكان العلي الذي رفع الله إليه إدريس وتعليق المؤلف عليه] رأينا أن النسفي فسّر المكان العلي الذي رفع الله إليه إدريس بأنه شرف النبوة والزلفى. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة. ويذكر المفسرون روايات فيه أكثرها عن أهل الكتاب، وإدريس هو أخنوخ كما مر معنا من قبل وقد ورد ذلك في حديث، ويرد اسم أخنوخ في الإصحاح الخامس من سفر التكوين على أنه الجد الرابع لنوح. فنوح بن لامك بن متوشالح بن

أخنوخ. يقول هذا الإصحاح: (فكانت كل أيام أخنوخ ثلاث مائة وخمسا وستين سنة، وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه). وهذا الكلام هو أصل ما يذكره المفسرون من أن إدريس رفعه الله إلى السماء الرابعة وقبض روحه هناك. وفي رواية عن ابن عباس: رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وليس عندنا عن رسولنا شئ نقف عنده. والنص القرآني يحتمل أكثر من معنى. منها ما ذكرناه، ومنها أن المكان العلي هو الجنة، كما ذهب إليه الحسن وغيره. ولننتقل إلى المجموعة الأولى من المقطع الثاني في سورة مريم.

المقطع الثاني من السورة ويتألف من أربع مجموعات

[المقطع الثاني من السورة ويتألف من أربع مجموعات:] المجموعة الأولى من المقطع الثاني وهي من الآية (59) إلى نهاية الآية (65) وهذه هي: 19/ 65 - 59 التفسير: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي فجاء من بعد هؤلاء الرسل خلف: أي ذرية سوء أَضاعُوا الصَّلاةَ المفروضة وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أي ملاذّ النفوس، أي أقبلوا على شهوات الدنيا وملاذّها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أي خسارا يوم القيامة. أي فسوف يلقون شرا لأن كل شر عند العرب غي. أي جزاء شرهم إِلَّا مَنْ تابَ أي رجع عن كفره وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً بعد إيمانه فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم، ولا يمنعونه، بل يضاعف لهم، أو لا يظلمون أدنى

[سورة مريم (19): آية 61]

شيء من الظلم. والمعنى: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتّباع الشهوات فإنّ الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، وذلك لأن التوبة تجبّ ما قبلها. ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئا، ولا يقابلون بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها لأن ذلك ذهب هدرا، من كرم الكريم وحلم الحليم جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة، وهي الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ أي التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما سبق ذكرهم بِالْغَيْبِ أي وعدهم إياها بظهر الغيب، أو وعدها وهي غائبة غير حاضرة، أو وهم غائبون عنها لا يشاهدونها إِنَّهُ أي الرحمن أو إن الشأن كانَ وَعْدُهُ أي موعوده وهو الجنة مَأْتِيًّا أي هم يأتونها أي العباد صائرون إليها وسيأتونها، وقد يراد بالمأتي الآتي، وهو سائغ في لغة العرب. فيكون المعنى: إنه كان وعده آتيا. لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة لَغْواً أي فحشا أو كذبا أو ما لا طائل تحته من الكلام، وفيه تنبيه على وجوب تجنب اللغو واتقائه، حيث نزه الله عنه داره التي لا تكليف فيها إِلَّا سَلاماً إلا قولا يسلمون فيه من العيب وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار ثمّ؛ لأنّهم في النور أبدا، وإنما يعرفون مقدار النهار برفع الحجب، ومقدار الليل بإرخائها، والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش فوصف الله جنته بذلك. وقيل أراد دوام الرزق، والذي يبدو أن ما شاءوه من الرزق كان، ولهم مع ذلك رزق خاص بالبكور والعشي تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا أي من كان من المتحققين بصفات المتقين. ومعنى نورث: أي نجعل ثمرتها وما فيها ميراث أعمالهم. وقيل معناها أنهم يرثون المساكن التي كانت لأهل النار، لو آمنوا لأن الكفر موت حكما. كلمة في السياق: وهكذا عرفتنا هذه الآيات أنه بعد كل رسول كانت أمته يضل منها الكثير، فيتركون الواجبات، ويتبعون الشهوات، ولأمتنا نصيب من ذلك وقد هدّد الله هؤلاء بالنار، ثم هيّج على التوبة والإيمان والعمل الصالح؛ بذكر ما أعد الله لأهل ذلك، ومن الأدلة على أن كل رسول كانت أمته من بعده تقسو قلوبها قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (الحديد: 16).

[سورة مريم (19): آية 64]

وإذ انحرفت أمة قبل رسولنا عليه الصلاة والسلام بترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله كان يرسل لها رسولا جديدا يجدّد دين الله، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في الآيتين اللاحقتين: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ جاء هذا الكلام في القرآن على لسان الملائكة يعني أن نزولنا في الأحاديين وقتا دون وقت ليس إلا بأمر الله فإذا كان هذا في حق محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو في حق الزمان والمكان على المدى كله كذلك، وهذا- والله أعلم- سر مجئ هاتين الآيتين في هذا السياق لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي له ما قدامنا وما خلفنا من الأماكن، وما نحن فيها، فلا نتمالك أن ننتقل من مكان إلا بأمر الله ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون، وما يحدث من الأحوال، لا تجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلّب إلا إذا أذن لنا فيه؟ ومن ثم قال: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وإذا كان الشأن كذلك فإن وحيه ورسالاته وتنزيله كل ذلك في غاية الحكمة، كيف لا وهو رب السموات والأرض؟ قال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي لما عرفت أنه متصف بهذه الصفات فاثبت على عبادته، واصبر على جحد الجحود لعبادة المعبود، واصبر على المشاق لأجل عبادة الخلاق. أي لتتمكن من الإتيان بها هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي شبيها ومثلا، أو هل يسمى أحد باسم الله غيره؟ لأن اسم الجلالة «الله» مخصوص بالمعبود بالحق، أي إذا صح أن لا معبود يوجه إليه العباد العبادة إلا هو، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها. وإذ كان هو رب السموات والأرض، لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها، وإذ كان هو منزل الملائكة بالحق وبالحكمة لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها، وإذ كان الله لا ينسى ولا يغفل فلا بد من عبادته والاصطبار عليها. كلمة في السياق: 1 - رأينا أنّ الحكمة في إرسال الرسل إما لإرجاع الناس عن الكفر، وإما للفصل في اختلافاتهم، وإما لتجديد حيوية السير إلى الله بالعودة إلى الصلاة، وبترك الشهوات المحرمة، وقد كفر الناس قبل بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واختلفوا اختلافات كثيرة، وتركوا الصلوات واتبعوا الشهوات، فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنزل معه الكتاب، فدعا إلى الإيمان، وحكم في الاختلاف، وربى الناس على إقامة الصلوات، وترك الشهوات

فوائد

المحرمة، إن هذا كله يشار إليه في سورة مريم، فإذا أدركنا ذلك أدركنا صلة سورة مريم بمحورها: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ... 2 - بعد أن قصّ الله علينا من أحوال النبيين وأخبارهم، وعبادتهم لله، ودعوتهم لتوحيده، وخشوعهم وسجودهم، وبكائهم، قصّ علينا خبر أقوامهم من بعدهم، واحتياجهم إلى وحي جديد، وكان هذا الوحي هو ما أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا أدركنا هذا نكون قد أدركنا صلة هذه المجموعة بما قبلها. فوائد: [(1 - 3) أقوال المفسرين في تفسير آية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ .. ] 1 - اختلف المفسرون في المراد بإضاعة الصلاة في قوله تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ هل المراد في ذلك تركها كلية، أو المراد بذلك تأخيرها عن مواقيتها وإضاعة وقتها؟ وما حكم إضاعتها؟ هل هو كفر، أو فسوق؟ على قولين في هذا كله. 2 - رأينا أن قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ إشارة إلى كل رسول، ورأينا أن من حكمة ورودها في محلها في السياق لتدخل فيها هذه الأمة أيضا، بدليل أنه يأتي بعد ذلك وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ .... ففي مجئ قوله تعالى وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ في هذا السياق إشارة إلى النبوة التي تجدد ما أوهى الناس من خلال عرض التنزلات المقدرة على رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويتساءل متسائل إذا كانت الأمم السابقة تخلف رسلها بمثل ما رأينا. وتأتي الرسالات اللاحقة لتقوّم فمن يقوّم أمر هذه الأمة؟. نقول: إن هذه الأمة لا تحتاج إلى نبوة جديدة؛ لحفظ الله القرآن، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ومن ثم كان محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخاتم النبيين. فأمتنا لا تحتاج إلى نبوة جديدة لأن هذا القرآن فيه تبيان كل شئ والذي تحتاجه فقط إلى مجددين لهذا الدين. وقد جرت سنة الله أن يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدّد لها ما وهى من أمر دينها. كما ورد في الحديث. 3 - أورد ابن كثير كلاما بمناسبة قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يدل على أن هذه الآية تشمل هذه الأمة. ومن كلامه: (وقال ابن نجيح عن مجاهد فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ قال هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون من الناس في الأرض، وروى ابن أبي

4 - قولان للنسفي في قوله تعالى فسوف يلقون غيا

حاتم .... عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «يكون خلف بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر» وقال بشير قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المؤمن مؤمن به، والمنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري. وقال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عزّ وجل: شرّابين للقهوات ترّاكين للصلوات، لعّابين بالكعبات، رقادين عن العتمات، مفرّطين في الغدوات، ترّاكين للجماعات. قال ثم تلا هذه الآية فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد، ولزموا الضيعات، وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله إلى داود عليه السلام يا داود حذّر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإنّ أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي). 4 - [قولان للنسفي في قوله تعالى فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] في تفسير النسفي في قوله تعالى فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قولان أحدهما ما ذكرناه وهو الخسارة والشر، والثاني: أنه واد في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم، وهو منقول عن ابن مسعود، ومثله عن أبي عياض قال: واد في جهنم من قيح ودم. 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا] عند قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا يقول ابن كثير: أي في مثل البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلا أو نهارا، ولكنهم في أوقات تتعاقب، يعرفون مضيها بأضواء وأنوار كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخّطون فيها ولا يتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة (العود الذي يتبخر به) ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا» أخرجاه في الصحيحين، وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا». وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال: مقادير الليل والنهار. وروى ابن جرير عن الوليد بن

6 - روايات نقل ابن كثير في سبب نزول: وما نتنزل إلا بأمر ربك ...

مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال: ليس في الجنة ليل هم في نور أبدا ولهم مقدار الليل والنهار يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري، وذكر أبواب الجنة فقال: أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتهمهم: انفتحي انغلقي، فنفعل. وقال قتادة في قوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا: فيها ساعتان بكرة وعشي، ليس ثمّ ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور. وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقال الحسن وقتادة وغيرهما: كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى، فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال: البكور يرد على العشي والعشي يرد على البكور ليس فيها ليل). 6 - [روايات نقل ابن كثير في سبب نزول: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... ] في سبب نزول قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... ينقل ابن كثير الروايات التالية: روى الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» قال: فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إلى آخر الآية. انفرد بإخراجه البخاري وقال العوفي عن ابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وحزن فأتاه جبريل وقال: يا محمد وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية. وقال مجاهد لبث جبريل عن محمد صلّى الله عليه وسلّم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون أقل، فلما جاءه قال: يا جبريل لقد رثت عليّ (أي أبطأت) حتى ظن المشركون كل ظن فنزلت وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية. قال وهذه الآية كالتي في الضحى وكذلك قال الضحاك بن مزاحم، وقتادة والسدي، وغير واحد أنها نزلت في احتباس جبريل، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال: أبطأ جبريل النزول على النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعين يوما ثم نزل فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما نزلت حتى اشتقت إليك» فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية. وروى ابن أبي حاتم .... عن مجاهد قال: أبطأت الرسل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أتاه جبريل فقال له: «ما حبسك يا جبريل؟» فقال له جبريل: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون

7 - ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وما كان ربك نسيا

براجمكم (¬1) ولا تأخذون شواربكم، ولا تستاكون؟ ثم قرأ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إلى آخر الآية. وقد روى الطبراني .... عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن جبريل أبطأ عليه فذكر له ذلك فقال: وكيف وأنتم لا تستنون، ولا تقلمون أظفاركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون رواجبكم (¬2)؟». وروى الإمام أحمد ... عن أم سلمة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصلحي لنا المجلس، فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط». 7 - [ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا] وبمناسبة قوله تعالى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا يذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا». ثم تلا هذه الآية: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. كلمة في السياق: [حول سبب نزول آية وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ .. وصلتها والمجموعة بالمحور] رأينا سبب نزول قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... ورأينا أن قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ ... أنه في الأصل كلام عن الأمم السابقة بعد أنبيائها، ولكنه ينطبق على هذه الأمة، وفهمنا من السياق أن حكمة الله أن يبعث الرسل؛ ليرجع الناس عن الانحراف، كما يبعثهم ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما يبعثهم ليدعوا إلى الله ابتداء، كل ذلك رأيناه، ومن خلال ما ذكرناه عند قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ومن خلال ما ذكرناه عند قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ندرك أن كل آية في كتاب الله وجودها في محلها معجز. ... ومما مرّ معنا في السورة ندرك أن السورة قد قرّرت في جملة ما قرّرت: 1 - أن محمدا رسول الله فهو بشير ونذير كبقية الرسل. 2 - أن الله أنزل كتابه على محمد صلّى الله عليه وسلّم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. 3 - أن هذه الأمة عليها أن تحذر ما وقعت به غيرها من الأمم بعد رسلها ¬

_ (¬1) البراجم: هي العقد التي في ظهر الأصابع. (¬2) الرواجب: هي ما بين عقد الأصابع من الباطن.

وإذ تتقرر هذه المعاني فإن تتمة السورة تنذر وتبشّر، وترد وتحكم، وتأتي خاتمتها لتقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا* فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا* وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً. إن هذا الختام للسورة يأتي بعد ردود وإنذارات- كما سنرى- فلنتذكر الآن محور سورة مريم من البقرة: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أصبحوا كفارا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ويوم بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يبق على وجه الأرض مسلم، كما هو معلوم من قصة سلمان الفارسي فبعث الله محمدا بالقرآن بشيرا ونذيرا والسورة تقرر هذه الحقيقة. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وقد أنزل الله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. فلتحذر هذه الأمة ذلك، وخاصة الظلم، وترك الصلوات، واتباع الشهوات. فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وهذه بشارة لأهل الإيمان وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* والصراط المستقيم هو العبودية لله، وذلك بالدخول الكامل في الإسلام. والسورة تسير من الآن فصاعدا مبشرة ومنذرة، والأمر الذي سبق ذلك هو فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وهو الأمر اللازم لعملية التبشير والإنذار، فبدون عبادة لله لا يستطيع الإنسان أن يقوم بواجب التبشير والإنذار فليعلم الدعاة إلى الله ذلك. ... تتألف السورة من مقطعين: المقطع: المقطع الأول يتألف من ثلاث مجموعات مترابطة، والمجموعة التي عرضناها آنفا هي بداية المقطع الثاني، ورأينا ارتباطها بما قبلها وسنعرض بقية المقطع الثاني عرضا واحدا مع ملاحظة أن الآية الأولى في التتمّة هي: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً.

فما حكمة ورود هذا المعنى بعد ما مر؟ إن الاختلاف في الكتاب، وقبل ذلك الكفر، وبعد ذلك إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، كل ذلك علته الأساسية الكفر باليوم الآخر. ومن ثم يأتي الآن هذا الموضوع، ليجتمع في السورة أنها مبشرة ومنذرة وحاكمة في خلاف، ورادّة على ما استقر في أذهان الناس من كفر. ***

المجموعة الثانية تتمة المقطع الثاني وتمتد من الآية (66) إلى نهاية الآية (98) وهي خاتمة السورة وهذه هي

[المجموعة الثانية] تتمة المقطع الثاني وتمتد من الآية (66) إلى نهاية الآية (98) وهي خاتمة السورة وهذه هي: المجموعة الثانية 19/ 80 - 66

ملاحظة: حول موضوع الآيات الأخيرة في السورة وما يؤخذ منها وصلتها بما قبلها

المجموعة الثالثة 19/ 87 - 81 المجموعة الرابعة 19/ 98 - 88 ملاحظة: [حول موضوع الآيات الأخيرة في السورة وما يؤخذ منها وصلتها بما قبلها] قلنا: إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بشيرا ونذيرا، وليس على وجه الأرض إلا كافر.

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثاني

ونلاحظ أن هذه الآيات تعرض لأمهات من الكفر: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا وترد عليها وتبشر وتنذر فهذه الآيات في الصميم من التبشير والإنذار، والردّ على الكفر، وقد مرّ معنا أن سنة الله في الإرسال إما لعموم كفر، وإما لاختلاف ظالم، وإما لتضييع وتفريط. وقد عالج ما مر معنا من السورة موضوع الاختلاف، وموضوع التفريط والتضييع، ويعالج ما يمر الآن الأفكار العامة للكفر. ومن ثم ندرك أن هذا القرآن قد عالج كل قضايا البشر، وكانت بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم مسك الختام، فقد عالجت كل الأمراض البشرية، سواء كان مرضا ناتجا عن كفر أصلي أو مرضا ناتجا عن ظلم لفهم كتاب سابق، أو مرضا ناشئا عن تضييع وتفريط، كما ندرك أن الدخول في الإسلام كله هو العلاج والدواء لكل مرض أصلي أو عارض؛ لأن الإسلام هو وحده الطريق المستقيم تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثاني: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ الكافر أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا هذا استبعاد وتعجب من الإنسان أن يعود بعد موته، والاستفهام هنا يفيد الإنكار. فهم يستنكرون أن يكون ما بعد الموت حياة والمعنى: أحقا أنّا سنخرج من القبور أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك؟ يقولون هذا على وجه الاستنكار والاستبعاد والجواب أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الحالة التي هو فيها، وهي حالة وجوده واستمراره وَلَمْ يَكُ شَيْئاً يعني: أيقول الإنسان ذلك ولا يتذكر النشأة الأولى، حتى لا ينكر النشأة الأخرى، فإن تلك أدلّ على قدرة الخالق، والخلق الأول أدلّ حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود، وأما الثانية بعد الموت فليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة وردّها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفريق، يذكّر الله الإنسان بالبداءة كدليل على الإعادة يعني: أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئا أفلا يعيده وقد صار شيئا وفي قوله تعالى أَوَلا يَذْكُرُ إشارة إلى أن موضوع الإيمان باليوم الآخر من البداهة بحيث يكفي حتى بتيقنه الإنسان أن يتذكر

[سورة مريم (19): آية 68]

بدهيات قريبة جدا. ومن ثم لم يذكر الله عزّ وجل إلا آية واحدة في الرد، ثم انتقل السياق إلى الإنذار ثم التبشير: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: الكفار المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ أي مع الشياطين أي يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم قال النسفي: يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا أي باركين على الركب، أي يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا، على حالهم التي كانوا عليها في الموقف، جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي طائفة شايعت أي تبعت غاويا من الغواة أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي جرأة أو فجورا، أي لنخرجن من كل طائفة من طوائف الغي أعتاهم فأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب، نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم. قال ابن مسعود: يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة بدأ بالأكابر فالأكابر جرما، وقال قتادة: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم، ورؤساءهم في الشر ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي أحق بالنار، أي إنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب، أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة، أنه فاعل بهم ذلك، وفي إقسام الله باسمه مضافا إلى رسوله تفخيم لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي وما منكم يا بني الإنسان أحد إلا داخلها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا أي كان ورودكم كائنا محتوما ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ أي وندع الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أي إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم، نجّى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. وفي الآية دليل على ورود الكل لأنه قال (وَنَذَرُ) ومذهب أهل السنّة والجماعة أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محالة، لا كما قالت المرجئة: إن صاحب الكبيرة لا يعاقب لأنّ المعصية في زعمهم لا تضر مع الإسلام عندهم، ولا كما قالت المعتزلة: إن مرتكب الكبيرة يخلد. قال ابن كثير: فجوازهم على الصراط، وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيخرجون خلقا كثيرا قد أكلتهم النار، إلا دارات وجوههم، وهي مواضع السجود، وإخراجهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه حتى يخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم يخرج الله من النار

كلمة في السياق

من قال يوما من الدهر: لا إله إلا الله، وإن لم يعمل خيرا قط، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا. كلمة في السياق: رأينا في هذه الآيات موقفا للكافرين، وردا عليه، وإنذارا لهم، وتبشيرا للمتقين، ومجئ هذه الآيات بعد ما مرّ من السورة فيه إشارة إلى أن سبب الكفر والظلم، وترك الواجبات، واتباع الشهوات هو الكفر باليوم الآخر، فإذا تذكرنا محور السورة: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ رأينا واحدا من المواقف التي كان عليها الناس، والآن تسجل السورة علة أخرى من علل البشرية الصادة لها عن دين الله، إنّها تسجّل حالة عجيبة للنفس البشرية عند ما تقام عليها الحجة فتفر من الحق، إلى ما سواه، والعجيب أن الكافرين يزعمون أن المؤمنين لا يحكّمون عقولهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن أو الحجج والبراهين بَيِّناتٍ أي ظاهرات الإعجاز، أو واضحات الحجج والبراهين، فبدلا من أن يؤمنوا بها يفرون منها، ويعارضونها لا بالحجة بل بالاستدلال الفاسد، بأن حال الكافرين في الدنيا خير من حال المؤمنين قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي عن الذين آمنوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين أو الكافرين خَيْرٌ مَقاماً أي أحسن منازل وأرفع دورا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وأحسن مجلسا يجتمع القوم فيه للمشاورة. والندي: هو مجتمع الرجال للحديث، يفتخرون بناديهم أنه أعمر وأكثر واردا أو طارقا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل؟! وأولئك الأقل والأفقر على حق؟! كأن ذلك هو العلامة على الحق والباطل، وليس الأمر كذلك. ولذلك قال تعالى في الرد عليهم: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي أهل عصر، أي كثيرا من القرون أهلكنا هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا وَرِءْياً أي منظرا وهيئة. أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالا، وأمتعة ومناظر وأشكالا، فلو كان متاع الدنيا ونعيمها علامة على رضى الله، أو علامة على كون الإنسان على حق لما أخذ أولئك. فالدنيا يعطيها الله من أحب ومن لا يحب، وقد يمنعها من يحب، ويعطيها من لا يحب. وبعد أن يرد الله عزّ وجل على منطق الكافرين هذا يأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر سنته في الكافرين والمؤمنين، في صيغة إنذار

[سورة مريم (19): آية 75]

للكافرين وتبشير للمؤمنين: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، المدّعين أنهّم على حق، وأنكم على الباطل مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فهذا دعاء على الضال من الفريقين أي: فليمدّه في طغيانه، هكذا قرّر ذلك ابن جرير. فهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه، هذا اتجاه. والاتجاه الآخر في الآية تقديره: من كفر مدّ له الرحمن أي: أمهله وأملى له في العمر ليزداد طغيانا، وإنما أخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة، وعلى الاتجاه الثاني يكون ذلك تهديدا للكافرين، وإنذارا لهم، وإقامة حجة عليهم، بأن إعطاء الدنيا لا يعني شيئا في موضوع الحق والضلال، ولذلك فمن سنة الله أن يمدّ لأعدائه ثم بيّن الله حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ إذن وقتذاك يكون العلم الحقيقي، من هم أهل الباطل، ومن هم أهل الحق مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا وَأَضْعَفُ جُنْداً أي أعوانا وأنصارا، هم أو المؤمنون؟ والعذاب الذي أوعد به الكافرين هو العذاب الرباني المباشر لهم في الدنيا، أو العذاب بأيدي المؤمنين قتلا أو أسرا، كما قال تعالى قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ (التوبة: 14) والمراد بالساعة: القيامة، وما ينالهم فيها من الخزي والنكال، فعند العذاب، أو الساعة يعلمون أن الأمر على عكس ما قدّروه، وأنهم شرّ مكانا وأضعف جندا، لا خير مقاما وأحسن نديا. والمعنى: إن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم، لا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين، أو يشاهدوا الساعة، وعندئذ يعلمون أن موازينهم خاطئة، وأفكارهم ضالة. ثم بيّن تعالى أنه كما يمد الضالين في ضلالتهم عقوبة، يزيد في هداية المهتدين مكافأة وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي ثباتا على الاهتداء، أو يزيدهم يقينا وبصيرة بتوفيقه. ثم قرر تعالى خلاف ما زعموه وما تصوروه وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي أعمال الآخرة كلها، أو الصلوات الخمس أو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً مما يفتخر به الكفار وَخَيْرٌ مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة، وهو رد لمزاعم الكفار إذ يقولون للمؤمنين أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. ملاحظة: [حول منطق الكافرين وكونه لا يتغير مع الزمن] هذا المنطق للكافرين هو منطق أكثر الناس اليوم؛ إذ يحتج كثير من الناس بما عليه الشعوب الأوربية والأمريكية من رخاء على كفرهم، كدليل على أن الإسلام ليس

كلمة في السياق: حول علة الانحراف الأساسية عن طريق الله وهي الكفر باليوم الآخر

حقا، فمنطق الكافرين في كل زمان ومكان واحد. كلمة في السياق: [حول علة الانحراف الأساسية عن طريق الله وهي الكفر باليوم الآخر] العلّة الأساسية في الانحراف: هي الكفر باليوم الآخر، فإذا أقيمت الحجة على الناس به، فروا من الحجة، ورفضوا الإسلام بحجة أن الكفر وأهله أجود عيشا وأعظم جاها، وهو منطق أعوج، إذ الغنى والفقر لا يتعلّقان بحق أو باطل. فاللص والغشاش والمرابي قد يكونون أكثر الناس مالا وجاها، فهل يعطي ذلك أفعالهم قيمة عليا؟ فمنطق الكافرين هذا منطق سفه لا منطق عقل وعلم. وإذ يبطل الله حجتهم وكلامهم فيما مرّ فإنه سيبطل دعوى أخرى لهم فيها سيأتي، إذ يرى بعضهم أن إمداد الله له في الدنيا دليل على كرامته على الله، ومن ثم فإنه حتى في حالة وجود يوم آخر فإنه يزعم أن له كرامة عند الله فيه، وبمثل هذا المنطق يعرض عن الإسلام، ويحارب أهله، ويرفض القرآن. ومن ثم قال تعالى: ... أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أي أخبر أيضا بقصة هذا الكافر بالقرآن، واذكر حديثه عقيب أولئك، ونموذج هذا النوع من الناس: العاص بن وائل كما سنرى وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أي في الآخرة، إن كان هناك آخرة، فردّ الله عليه أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي انظر في اللوح المحفوظ فرأى ما زعم أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أي موثقا أن يؤتيه ذلك، أي أم له عند الله عهد بخطاب مباشر من الله أنه سيؤتيه ذلك، أو له عهد على لسان رسول بأن فعل ما هو عند الله عهد لأهله كالشهادتين والصلاة كَلَّا كلمة ردع وتنبيه على الخطأ، أي هو مخطئ فيما تصوّره لنفسه، فليرتدع عنه سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي من حكمه لنفسه بما يتمناه، وكفره بالله العظيم، وآياته ورسله وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي نزيده من العذاب كما زاد في الافتراء والاجتراء وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي من مال وولد، أي يرث الله ماله وولده، أي يسلبهما منه عكس ما قال: إنه يؤتى في الدار الآخرة مالا وولدا، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا وَيَأْتِينا أي يوم القيامة فَرْداً أي لا مال له ولا ولد. ***

كلمة في السياق

كلمة في السياق: انتهت المجموعة الثانية من المقطع الثاني بعد أن أقامت الحجة على وجود اليوم الآخر، وأقامت الحجة على منطق الكافرين في زعمهم أن الدنيا هي الميزان، وأقامت الحجة على الزعم بأن الإكرام الدنيوي علامة على إكرام الله الأخروي. وكل ذلك بصيغة التبشير والإنذار والآن تأتي مجموعة ثالثة لتتحدث عن اتخاذ المشركين آلهة مع الله. فتنذرهم وتحذرهم وتبشر المتقين، ثم تأتي مجموعة رابعة تتحدث عن نسبة الولد إلى الله، فتنذر وتحذر كما سنرى. إن الكفر باليوم الآخر، والشرك بالله، ونسبة الولد إليه، هي محاور الكفر والانحراف الرئيسية التي تعالجها هذه المجموعات وتنذر أصحابها، ومن قبل في المجموعة الأولى من المقطع الثاني عولج ترك الصلوات واتباع الشهوات. إن هذه القضايا من أهم ما بعث الرسل من أجله، وأنزلت الكتب للحكم فيه. وهذا القرآن يحكم فيه وكل ذلك بصيغة التبشير والإنذار تفسير المجموعة الثالثة: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أي أصناما وشركاء يعبدونهم من دون الله لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي ليعتزوا بآلهتهم في الدنيا، ويكونوا لهم شفعاء وأنصارا ينقذونهم من العذاب في الآخرة. ثم أخبر تعالى أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا فقال: كَلَّا كلمة ردع تردعهم عما ظنوا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي ستجحد يوم القيامة هذه التي اتخذوها آلهة عبادتهم وينكرونها وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ويكون المعبودون على المشركين خصما على خلاف ما رجوا منهم، ثم عجّب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غلبة الشياطين على الكافرين، وسيطرتهم عليهم، مما يشير إلى أنه لا شرك إلا بإغواء الشياطين أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي خليناهم وإياهم، أو سلّطناهم عليهم بالإغواء تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تغريهم على المعاصي إغراء والأز والهز أخوان ومعناهما التهييج وشدة الإزعاج. ثم قال تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي إنما نعد لهم أعمالهم للجزاء، وأنفاسهم للفناء، حتى إذا أتموا العدد المقدر كان الأخذ، أي إنما نؤخّرهم لأجل معدود مضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله. قال السدي فيها: إنما نعد لهم عدا: السنين، والشهور،

[سورة مريم (19): آية 85]

والأيام، والساعات. وقال ابن عباس فيها: نعدّ لهم أنفاسهم في الدنيا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً. قال ابن كثير: والوفد هم القادمون ركبانا، ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه، إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفا إلى النار عطاشا. قال تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين، وفي ذكر السوق إشارة إلى أنهم كالأنعام يساقون إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي عطاشا، لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، وحقيقة الورد: المسير إلى الماء، فيسمى به الواردون فالورد جمع وارد، ذكر المتقون بأنهم يفدون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته، كما يفد الوفود على الملوك تبجيلا لهم، والكافرون بأنهم يساقون إلى النار كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء، استخفافا بهم لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ أي لا يجدون من يشفع لهم، ولا يستطيعون أن يشفعوا لغيرهم، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن آمن وشهد ألا إله إلا الله، فهذا يملك أن يشفع بإذن الله أو يشفع له بإذن الله. تفسير المجموعة الرابعة: وَقالُوا أي النصارى، وكذلك من زعم أن عزيرا ابن الله، ومن زعم أن الملائكة بنات الله اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً وهو قول لا يقوم عليه دليل، وهو في منتهى الفظاعة؛ ولذلك قال الله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أي عجيبا عظيما منكرا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي يتشققن وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي من فظاعة هذا القول، تكاد تنخسف، وتنفصل أجزاؤها وَتَخِرُّ أي تسقط الْجِبالُ هَدًّا أي كسرا أو قطعا، أو هدما، أي يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم؛ إعظاما للرب وإجلالا، لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده، وأنه لا إله إلا هو وأنه لا شريك له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا صاحبة له، ولا كفء له، بل هو الأحد الصمد، ومن ثم فإنهن يكدن يحدث لهن ما وصف لفظاعة هذا القول: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً أي لأن سمّوا لله ولدا وَما يَنْبَغِي أي وما يصلح وما يتأتى لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي لا يصلح له ولا يليق به؛ لجلاله وعظمته أن يتخذ ولدا، وهذا لأن اتخاذ الولد لحاجة، ومجانسة وهو منزه عنهما. قال النسفي: وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات بيان أنه الرحمن وحده، لا يستحق هذا الاسم غيره،

[سورة مريم (19): آية 93]

لأن أصول النعم وفروعها منه، فلينكشف عن بصرك غطاؤه، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه، فمن أضاف إليه ولدا فقد جعله كبعض خلقه، وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي كل من في السموات والأرض من الملائكة، والناس والجن، إلا وهو يأتي الله يوم القيامة، مقرا له بالعبودية. والعبودية والبنوّة تتنافيان، حتى جعل الله من شريعته أن الأب لو ملك ابنه يعتق عليه فإذا كانت نسبة الجميع إليه العبودية فلا بنوّة لَقَدْ أَحْصاهُمْ أي حصرهم بعلمه وأحاط بهم وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ذكرهم وأنثاهم، وصغيرهم وكبيرهم وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا بلا مال، أو بلا معين، ولا ناصر، وإذ كان هذا شأنه، وإذ كان كل الخلق هذا حالهم، فكيف ينسبون إلى الله الولد. وهكذا عالجت السورة أهم قضايا الضلال بأسلوب التبشير والإنذار. ثمّ تأتي آية تبشر المؤمنين ببشارة عظيمة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي مودة في قلوب العباد. قال ابن كثير: (أي يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وهذا أمر لا بد منه، ولا محيد عنه، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير وجه). وسنراها في الفوائد وبعد أن بشّر الله المؤمنين هذه البشارة، تأتي آية لتذكر أن حكمة إنزال القرآن هي التبشير والإنذار: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهّلنا هذا القرآن بِلِسانِكَ أي بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ المؤمنين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أي قوما شدادا في الخصومة بالباطل ثم أنذرهم بآية أخيرة في السورة: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي من أمة كفروا بآيات الله وكذّبوا رسله هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل تجد أو ترى أو تعلم، إذ الإحساس الإدراك بالحاسة أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيا أي لمّا أتاهم عذابنا لم يبق شخص يرى، ولا صوت يسمع، يعني هلكوا كلهم: فليحذر هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك أن يصيبهم ما أصاب غيرهم. وهكذا أكّدت السورة أن هذا القرآن أنزله الله مبشرا ومنذرا، وأرتنا السورة أنواعا من التبشير، وأنواعا من الإنذار. ***

كلمة في السياق: حول مدى تفصيل سورة مريم في محورها

كلمة في السياق: [حول مدى تفصيل سورة مريم في محورها] رأينا أن سورة مريم محورها آية البقرة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .... فلنر كيف فصلت السورة هذا المحور، وكيف خدمت حيّزه، وهو موضوع الدخول في الإسلام كله: 1 - كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي أصبح الناس كفارا فبعث الله مبشرين ومنذرين. وقد أصبح الناس كفارا قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بشيرا ونذيرا بالقرآن المبشر المنذر، فسورة مريم فصلت لنا قصص نبيين بشروا وأنذروا، ولقد بشرت وأنذرت من كفر باليوم الآخر، ومن أشرك، ومن جعل لله ولدا، ومن أضاع الصلوات واتبع الشهوات، وبشرت المتقين بكرامتهم يوم يحشرون، وبخروجهم من النار يوم يعبرون بالمودة لهم في قلوب المؤمنين، أنذرت بالنار، وبالإهانة والذلة يوم القيامة وأنذرت بعذاب الله في الدنيا. 2 - وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. وهذا القرآن أنزله الله بالحق، ليحكم بين الناس جميعا في كل قضية حدث فيها خلاف، ومن ذلك اختلاف أهل الكتاب. 3 - فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فمن اهتدى بهذا القرآن فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم. فسورة مريم نموذج لبعثة الله الرسل وأسبابها وأحوالها والحاجة إليها. ملاحظة: [حول مدى تحقيق ما وقع للأمم السابقة] إن أهم ما نلفت إليه نظر المسلم هو أن كثيرا من هذه الأمة وقع فيما وقعت فيه الأمم الأخرى، من ترك الصلوات، واتباع الشهوات فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ وهم مع ذلك يعيشون على الدعوى والادعاء والأماني. وقد فتح الله لأمثال هؤلاء باب الرحمة إذا تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات. وفي قوله تعالى بعد هذه الآيات:

فوائد

وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا* رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ. ما يفيد التسليم لله في أمر الوحي مع الإقبال عليه في العبادة، فإن ذلك هو الشئ المكافئ لمواقف المشركين والكافرين والملحدين والمنحرفين. ... والآن فلنتساءل كيف خدمت سورة مريم حيّز ما ورد فيه محورها من سورة البقرة وهو موضوع الدخول في الإسلام كافة. إن السورة خدمت هذا الموضوع: من خلال عرض حال المنحرفين وتقويمهم، ومن خلال عرض علل الانحراف وتسفيهها ومن خلال الوعد بأن الذين يلتزمون بالإسلام سيجعل الله لهم القبول، ومن خلال التبشير والإنذار. فوائد: 1 - [حديث قدسي بمناسبة آية وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ ... ] بمناسبة قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا يذكر ابن كثير الحديث الصحيح القدسي وهو: «يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد». 2 - [أحاديث وآثار حول قوله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها يذكر ابن كثير آثارا عن السلف في معناها وأحاديث توضحها: ومما ذكره: روى الإمام أحمد ... عن ابن مسعود وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم». وقد رواه أسباط، عن السدي عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: «يرد الناس جميعا الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر

كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مرّا نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة، عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة، معهم كلاليب من النار يخطفون بها الناس» وذكر تمام الحديث. وروى ابن جرير .. عن عبد الله قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال «الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم» ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم .. وروى الإمام أحمد ... عن حفصة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأرجو أن لا يدخل النار- إن شاء الله- أحد شهد بدرا والحديبية» قالت: فقلت: أليس يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قالت: فسمعته يقول: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا. وروى أحمد أيضا ... عن أم مبشر- امرأة زيد بن حارثة- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت حفصة فقال: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا أو الحديبية» قالت حفصة: أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية. وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسّه النار إلا تحلة القسم». وروى عبد الرزاق ... عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ومن مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم» يعني الورود. وروى أبو داود الطيالسي .. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسّه النار إلا تحلة القسم» قال الزهري كأنه يريد هذه الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ... وروى الإمام أحمد ... عن أنس الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر: إذا نستكثر يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكثر وأطيب». وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ ألف آية في سبيل الله، كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا- إن شاء الله- ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجر لم ير النار إلا تحلة القسم». قال الله تعالى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وإن الذكر في سبيل

3 - سبب نزول قوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ..

الله يضاعف فوق النفقة بسبعمائة ضعف، وفي رواية بسبعمائة ألف ضعف، وروى أبو داود ... عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الصلاة عليّ، والصيام والذكر، يضاعف النفقة في سبيل الله، بسبعمائة ضعف». وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال هو الممرّ عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، ومرور المشركين أن يدخلوها وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الزالون والزالات يومئذ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا الله سلّم سلّم». 3 - [سبب نزول قوله تعالى وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ .. ] وفي سبب نزول قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا قال قتادة ومجاهد والضحاك: لما رأوا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، فعرض أهل الشرك ما تسمعون أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا. 4 - [حول تفسير الباقيات الصالحات الواردة في سورة مريم عليها السلام] مر معنا في سورة الكهف فائدة طويلة حول تفسير الباقيات الصالحات وبمناسبة قوله تعالى في سورة مريم: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا. ذكر ابن كثير ما أخرجه عبد الرزاق قال: روى عبد الرزاق ... عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فأخذ عودا يابسا فحط ورقه ثم قال: «إن قول لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة» قال أبو سلمة فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهلّلنّ الله، ولأكبرنّ الله، ولأسبحنّ الله، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون وهذا ظاهره أنه مرسل، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء والله أعلم، وهكذا وقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن عمر ابن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكر نحوه. 5 - [سبب نزول قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ .. ] وفي سبب نزول قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً ذكر ابن كثير ما يلي: «روى الإمام أحمد ... عن خباب بن الأرتّ قال: كنت رجلا قينا، وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت، ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم

6 - آثار بمناسبة قوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ..

بعثت جئتني ولي ثمّ مال وولد فأعطيتك. فأنزل الله أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً إلى قوله وَيَأْتِينا فَرْداً أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من غير وجه عن الأعمش به، وفي لفظ البخاري كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه. فذكر الحديث، وقال أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال: موثقا. وروى عبد الرزاق ... عن مسروق قال: قال خباب بن الأرتّ: كنت قينا بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل، فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئت لأتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر بمحمد حتى تموت، ثم تبعث، قال: فإذا بعثت كان لي مال وولد قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا الآيات، وقال العوفي عن ابن عباس: إن رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوه يتقاضونه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا، ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى. قال: فإن موعدكم الآخرة، فو الله لأوتين مالا وولدا، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله مثله في القرآن فقال: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا إلى قوله وَيَأْتِينا فَرْداً وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم إنها نزلت في العاص بن وائل». 6 - [آثار بمناسبة قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً .. ] وفي تفسير قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ذكر ابن كثير آثارا كثيرة: قال: «روى ابن أبي حاتم ... عن ابن مرزوق يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيّب ريحك وحسّن وجهك فيقول: أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا، حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: ركبانا، وروى ابن جرير ... عن أبي هريرة يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: على الإبل. وقال ابن جريج على النجائب، وقال الثوري على الإبل النوق، وقال قتادة يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: إلى الجنة وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ... عن النعمان بن سعيد قال: كنا جلوسا عند عليّ رضي الله عنه فقرأ هذه الآية يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على

7 - كلام ابن كثير عند آية لا يملكون الشفاعة إلا ...

أرجلهم ولكن نوق، لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها، حتى يضربوا أبواب الجنة وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير من حديث عبد الرحمن ابن إسحاق المدني به، وزاد: عليها رحائل الذهب وأزمتها الزبرجد. والباقي مثله. 7 - [كلام ابن كثير عند آية لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا ... ] وبمناسبة قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يذكر ابن كثير ما أخرجه ابن ابن حاتم بسنده عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الآية إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ثم قال: اتخذوا عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلّمنا قال: قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. قال المسعودي: فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن: أخبرنا ابن مسعود وكان يلحق بهنّ: خائفا مستجيرا مستغفرا راهبا راغبا إليك. ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه. 8 - [ملاحظة حول سير القصص القرآني لخدمة معنى معين] يلاحظ أن سورة مريم بدأت بقصة زكريا، التي هي مقدمة لقصة مريم، التي قرر الله تعالى فيها عبودية عيسى عليه السلام، وكونه خلق عيسى من مريم بلا أب، وبعد سياق طويل، وقبيل ختم السورة، أنكر الله عزّ وجل أشد الإنكار على من نسب لله الولد فقال: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ... وكأن هذا يفيد أن القضية الرئيسية في السورة هي هذه القضية. 9 - [حديثان بمناسبة قوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً] بمناسبة قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً يذكّر ابن كثير بحديثين: الأول رواه ابن جرير وهو: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة». فقالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال تلك أوجب وأوجب، ثم قال: «والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن، وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن». والثانى رواه الإمام أحمد عن أبي موسى رضي الله عنه- وهو في الصحيحين- قال:

10 - كلام ابن كثير بمناسبة آية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، أن يشرك به، ويجعل له ولد، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم». 10 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا] وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء، إن الله يحب فلانا فأحبوه قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال: يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه قال: فيبغضه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء، إن الله يبغض فلانا فأبغضوه. قال: فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض». وبعد مجموعة روايات حول المعنى نفسه يذكر رواية أخرى ويتبعها بأقوال للسلف حول هذا الموضوع. قال: روى ابن أبي حاتم ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه، فينادى في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قول الله عزّ وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا رواه مسلم والترمذي كلاهما عن عبد الرحمن عن قتيبة عن الدراوردي به، وقال الترمذي حسن صحيح، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قال: حبا. وقال مجاهد عنه سيجعل لهم الرحمن ودا. قال: محبة في الناس في الدنيا. وقال سعيد بن جبير عنه: يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين، كما قال مجاهد أيضا والضحاك وغيرهم، وقال العوفي عن ابن عباس أيضا: الودّ من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق، وقال قتادة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا إي والله في قلوب أهل الإيمان، وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم، وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيرا أو شرا إلا كساه الله عزّ وجل رداء عمله، وروى ابن أبي حاتم رحمه الله ... عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها، فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج، فكان لا يعظم، فمكث بذلك سبعة

كلمة في سورة مريم ومجموعتها

أشهر، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي، فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر، لأجعلن عملي كله لله عزّ وجل، فلم يزد على أن قلب نيته، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله، فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلانا الآن، وتلا الحسن إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وقد روى ابن جرير أثرا «أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف» وهو خطأ فإن هذه السورة بكمالها مكية، لم ينزل منها شئ بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك والله أعلم. كلمة في سورة مريم ومجموعتها: رأينا أنه بسورة مريم اختتمت المجموعة الثانية من القسم الثاني من أقسام القرآن، ورأينا أن هذه المجموعة تألفت من خمس سور: الأولى منها كالمقدمة للسور الأربع الأخيرة. ورأينا أن السور الأربع الأخيرة قد فصّلت الآيات الواردة في حيّز قوله تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ففصّلتها، وخدمت موضوع الدخول في السلّم كافة. فإذا تذكّرنا أن سورة البقرة نزلت في المدينة، وأن هذه السور الخمس نزلت في مكة، ثمّ رأينا مثل هذا الترتيب العجيب، والتفصيل المدهش، والتناسق الكامل. والتنسيق بين سور القرآن بما يخدم بعضه بعضا، أدركنا أن مثل هذا لا يمكن أن يكون، لولا أن هذا القرآن كتاب الله رب العالمين. وبهذا نختتم الكلام عن المجموعة الثانية من القسم الثاني من أقسام القرآن، ولننتقل إلى المجموعة الثالثة والأخيرة من القسم الثاني من قسم المئين. ***

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

المجموعة الثالثة والأخيرة من قسم المئين وهو القسم الثاني من أقسام القرآن

المجموعة الثالثة والأخيرة من قسم المئين وهو القسم الثاني من أقسام القرآن وتشمل سور (طه، الأنبياء، الحج، المؤمنون، النور، الفرقان، الشعراء، النمل، القصص) كلمة حول هذه المجموعة: بهذه المجموعة ينتهي قسم المئين، وهو القسم الثاني من أقسام القرآن، ويتألف من ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: فصلت في سورة البقرة من أولها إلى آخرها، ثم جاءت المجموعة الثانية ففصلت في سورة البقرة من أولها إلى آخرها، ثم جاءت هذه المجموعة لتفصل كذلك في سورة البقرة من أولها إلى آخرها، وكأن هذه المجموعات الثلاث، ثلاث موجات، كل منها تندفع لتغطي قطاعا من الأرض، وهكذا موجة بعد موجة. وقد رأينا كيف غطت المجموعتان السابقتان سورة البقرة، وكيف فصلتا آيات فيها مع امتدادات معاني هذه الآيات، وها هي المجموعة الثالثة تفعل الشئ نفسه. تأتي سورة طه- كما سنرى- لتفصل معنى موجودا في الآيات الخمس الأولى من البقرة وهي: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وتأتي سورة الأنبياء لتفصل معنى موجودا في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وتأتي سورة الحج لتفصل معنى موجودا في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ*

وتأتي سورة المؤمنون لتفصل معاني موجودة في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ثم تأتي سورة النور لتفصل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ثم تأتي سورة الفرقان لتفصل قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وتأتي سورة الشعراء والنمل والقصص لتفصل معاني موجودة في قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وسنرى بالتفصيل كيف أن كل سورة فصلت ما ذكرناه، وكما قلنا من قبل في وصف المجموعات السابقة فإنك لو نظرت إلى الآيات من سورة البقرة التي فصلتها هذه المجموعة من السور، لرأيتها مترابطة مع بعضها يكمل بعضها بعضا، ويأخذ بعضها بحجز بعض. ويلاحظ أن المجموعة تبتدئ بسورة مبدوءة ب (طه) وتنتهي بثلاث سور مبدوءة على الترتيب ب (طسم) و (طس) و (طسم).

إن وجود الحرف (ط) في بداية أول سورة من المجموعة، ووجوده في بدايات السور الأخيرة منها، ثم عدم تكراره مرة أخرى في أوائل السور، يوحي بأن هذه السور مجموعة واحدة. ووجود الحرف (ميم) بعد الطاء والسين في سورة الشعراء، والقصص، يوحي بالصلة بسورة البقرة المبدوءة ب (الم)، والابتداء بحرف (الطاء) بينما سورة يونس بدأت بالألف، وسورة البقرة بدأت بالألف، يوحي بأن هذه المجموعة ليست بداية قسم وإنما هي متأخرة عن بدايته، وقد رأينا من خلال المعاني أنها المجموعة الثالثة والأخيرة من القسم الثاني، ثم إنه بعد هذه المجموعة تأتي أربع سور كلها مبدوءة ب (الم) * نفس الأحرف التي بدأت بها سورة البقرة؛ مما يوحي بقوة أن ما بعد هذه المجموعة قسم جديد، فتكون هذه نهاية قسم. وكما قلنا من قبل: فإنه ليس أمامنا في هذا النوع من الكلام إلا معالم يستأنس بها، وإلا انسجام المعاني مع ما نذكره دون تكلف، ولعل هذا وهذا كافيان للتدليل على أن اتجاهنا في فهم فهم الوحدة القرآنية، والسياق القرآني صحيح. ***

سورة طه

سورة طه وهي السورة العشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الثالثة من قسم المئين، وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة طه ومحورها

كلمة في سورة طه ومحورها: لاحظنا أن سورة آل عمران قد فصلت الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، واستدللنا على ذلك، بأن سورة آل عمران بدئت ب (الم) وانتهت بقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) كما أن الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة بدأت بقوله تعالى الم وانتهت بذكر كلمة الفلاح وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ونجد الآن ظاهرة مشابهة في سورة طه، فإنها تبتدئ بقوله تعالى: طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وتنتهي بقوله تعالى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى لاحظ كلمة (أنزلنا) في بدايتها، وكلمة (اهتدى) في نهايتها، وتأمل الآيات الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* لاحظ كلمة بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وكلمة أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ لترى الصلة واضحة بين سورة طه، وبين الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة. فإذا نظرنا إلى مضمون السورة، وإلى كونها تقص علينا من نبأ موسى عليه السلام، وإلى قوله تعالى فيها كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً .. وإلى قوله تعالى فيها: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً وصلة ذلك كله بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وصلة ذلك بقوله تعالى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وإلى وجود قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وصلة ذلك بإقامة الصلاة. فإننا لم نبعد إذا قلنا إن محور سورة طه هو الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة وقد كنا رأينا من قبل أنه عند ما تفصل سورة ما (مكانا) من سورة البقرة فليس معنى هذا أن تفصله كله، بل قد تفصل جزءا منه، لأن جزءا منه قد تفصله سورة أخرى، أو

لأن جزءا منه لا يحتاج لتكرار. وقد رأينا حتى الآن أن الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة فصلتها سورة آل عمران نوع تفصيل. ثم جاءت سورة يونس ففصلت الآية الأولى منها نوع تفصيل، والآن تأتي سورة طه لينصب تفصيلها على الآية الرابعة والخامسة بشكل مباشر أي على قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*. وسنرى في القسم الثالث من أقسام القرآن- قسم المثاني- كيف أن سورا كاملة تفصل الآية الثالثة من هذه الآيات الخمس، أو تفصل الآيات الخمس تفصيلا جديدا أو تفصل ما فصلته سورة أخرى، ولكن بشكل آخر، ومعان أخرى، وبأسلوب آخر، وجرس جديد، ومن تأمل مثل هذا فقط، وكيف أن القرآن قد عرض للموضوع الواحد عشرات المرات، كل مرة ضمن سياق خاص، وبجرس خاص، عرف أن مثل هذا لا يدخل ضمن طاقة البشر، ولا علمهم، ولا بيانهم، ولا إمكانياتهم؛ فسبحان الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد إمام الأولين والآخرين، وسيد المرسلين، الذي خصه الله بهذا القرآن المبين. تتألف السورة من مقدمة، ثم من قصة موسى عليه السلام على ثلاثة مراحل، ثم فاصل، ثم قصة آدم عليه السلام، ثم خاتمة. تتحدث مقدمة السورة عن حكمة إنزال القرآن، وتعرفنا على الله منزل هذا القرآن، ثم تحدثنا عن نبوة موسى عليه السلام وجولته الأولى مع فرعون، ثم تحدثنا السورة عن الجولة الثانية مع فرعون، ثم تحدثنا السورة عن مرحلة من مراحل حياة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ثم تأتي فاصلة تتحدث عن هذا القرآن، وعن كونه يقص علينا من أخبار الماضين، وعن جزاء المعرضين عنه، وعن بعض خصائصه، ثم تأتي قصة آدم عليه السلام لتصل كذلك إلى موضوع جزاء الإعراض عن كتاب الله، ثم تأتي الخاتمة لتناقش المعرضين، وتأمر المستجيبين، وتقيم الحجة على المعاندين، فهي تدفع الإنسان في الطريق إلى الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وتدفعهم إلى الإيمان باليوم الآخر لتوصلهم إلى الهدى والفلاح؛ فهي كما قلنا تفصل بشكل مباشر قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*.

نقول: 1 - قال الألوسي في تقديمه لسورة (طه): (وتسمى أيضا سورة (الكليم) كما ذكر السخاوي في جمال القراء، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية. واستثنى بعضهم منها قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ الآية. وقال جلال السيوطي: ينبغي أن يستثنى آية أخرى، فقد أخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا إلا برهن، فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته فقال: «أما والله إني لأمين في السماء، أمين في الأرض، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ الآية انتهى. ولعل ما روي عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها. وآياتها كما قال الداني مائة وأربعون آية شامي، وخمس وثلاثون كوفي، وأربع حجازي، وآيتان بصري، ووجه الترتيب على ما ذكره الجلال: أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السلام. وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وبعضها بين البسط والإيجاز، كقصة إبراهيم عليه السلام، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، وأشار إلى بقية النبيين عليهم السلام إجمالا، ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السلام التي أجملها تعالى هناك، فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب، وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط، ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السلام الذي وقع في (سورة مريم) مجرد ذكر اسمه، ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في سورة مريم كنوح، ولوط، وداود، وسليمان، وأيوب، واليسع، وذي الكفل، وذي النون، عليهم السلام، وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى، وهارون، وإسماعيل، وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين. وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة، كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا. وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة، وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي الله تعالى عنهم أن سورة طه نزلت بعد سورة مريم. ووجه

ربط أول هذه بآخر تلك: أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام، معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين. وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك. وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها. أخرج الدارمي. وابن خزيمة في التوحيد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في الشعب. وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى قرأ (طه) و (يس) قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تتكلم بهذا». وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا نحوه). 2 - وقال صاحب الظلال في تقديمه للسورة: (تبدأ هذه السورة وتختم خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم ببيان وظيفته وحدود تكاليفه .. إنها ليست شقوة كتبت عليه، وليست عناء يعذب به. إنما هي الدعوة والتذكرة، وهي التبشير والإنذار. وأمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره. المهيمن على ظاهر الكون وباطنه، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها. الذي تعنو له الجباه، ويرجع إليه الناس: طائعهم وعاصيهم .. فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر، ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون. وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى عليه السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر، مفصلة مطولة، وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى- وموقف الجدل بين موسى وفرعون، وموقف المباراة بين موسى والسحرة .. وتتجلى في غضون القصة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه، وقال له ولأخيه: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. وتعرض قصة آدم سريعة قصيرة، تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته وهدايته له. وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار. وتحيط بالقصة مشاهد القيامة. وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم. حيث يعود الطائعون إلى الجنة، ويذهب العصاة إلى النار، تصديقا لما قيل لأبيهم آدم، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان). وقد آن أوان عرض السورة:

مقدمة سورة طه وتتألف من ثماني آيات، وهذه هي

مقدمة سورة طه وتتألف من ثماني آيات، وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة طه (20): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) التفسير: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. أي بل لتسعد، فالذين يظنون أن اتباع القرآن شقاء واهمون وخاطئون وكاذبون، ففي الآية دعوة إلى الإيمان بالقرآن ورد على مزاعم الكافرين في شأنه وتذكير بالنعمة في إنزاله. قال قتادة تعليقا على الآية: (لا والله ما جعله شقاء ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة) ثم ذكر الله حكمة من حكم إنزاله فقال: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى. أي لكن أنزلناه تذكرة لمن يخاف الله، أو لمن يؤول أمره إلى الخشية. قال ابن كثير: (إن الله أنزل كتابه، وبعث رسوله، رحمة رحم بها عباده؛ ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر أنزل الله به حلاله وحرامه). أقول: دلت الآيتان على أن السعادة في التزام كتاب الله، ولا سعادة بدونه، وهو موضوع ستفصله السورة كثيرا- كما سنرى- وعلى أن هذا القرآن من خصائصه أنه

[سورة طه (20): آية 4]

مذكر، فقد عرض كل شئ بصيغة التذكير، وهذا يفيد أن الحقائق التي عرضها موجودة في الفطرة، وإنما هو مذكر بها، ومن ثم فكل شذوذ عنه تعذيب للفطرة نفسها، ومن ثم فلا سعادة لأحد إلا به. وفي الآية الأخيرة دليل على أنه لا يتذكر بهذا القرآن إلا من كان في قلبه خشية، ولا خشية إلا بمعرفة ومن ثم فإن معرفة الله هي الفرض الأول على المكلف، ولكنها المعرفة المستقرة في القلب، وليست المعرفة التي تجري على اللسان، كما دلت الآية الأخيرة على أن القرآن يربي الخشية من الله، فمن أحس من نفسه ضعف الخشية، فليكثر من تلاوته ثم قال تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى. العلى: جمع العليا، والعليا تأنيث الأعلى، أي نزل هذا القرآن تنزيلا من الذي خلق الأرض والسموات كلها، فمن كان هذا شأنه هو الذي أنزل القرآن فكيف لا يكون كتابه للإسعاد، وكيف لا يذكر عباده بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، فمن خلق الخلق لا يهمله- خاصة وهو متصف بالرحمة- والرحيم لا يترك عباده بلا توجيه يسعدهم، وهو مالك لكل شئ، والمالك لا يترك مملوكيه بلا رعاية، وهو العليم بكل شئ، ومن كان كذلك فهو الحري بأن تسعد توجيهاته، وهو المتصف بالأسماء الحسنى، ومن كان كذلك سيصدر عنه ما هو الأحسن، ولا يصدر عنه إلا ما يسعد، وكل هذه المعاني تضمنتها الآيات الأربع الآتية على الترتيب: فبعد أن ذكر الله: أن الذي نزل القرآن هو الذي خلق السموات العلى قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى استواء ليس كمثله شئ. قال ابن كثير: (من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل). دلت الآية على أنه جل جلاله في غاية الرحمة، وفي غاية العظمة، ومن كان كذلك فإنه حري أن يخشى، وحري أن يكون كتابه مسعدا، وموجها ومربيا ثم قال تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أي ما تحت التراب، فالكل ملكه، وإذا كان كل شئ ملكه فهو غني عن أن يشقي أحدا بتوجيهاته. وهو حري أن يسعد بتنزيله، وهو جدير بأن ينزل كتابا وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي وإن ترفع صوتك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أي ما أسررته إلى غيرك، أو ما أسررته في نفسك وَأَخْفى ويعلم ما هو أخفى من السر وهو ما أخطرته ببالك، أو سترته في نفسك للمستقبل، أو هو ما لم تحدث به نفسك، ولكنه مستكن فيها، وهو الذي يسميه علماء

[سورة طه (20): آية 8]

النفس الآن (اللاشعور) فالله عزّ وجل الذي يعلم السر والجهر، وما هو أخفى من السر، هو الذي أنزل القرآن؛ فكيف لا يكون القرآن مسعدا؟ إن أي شئ آخر لا يمكن أن يسعد الإنسان سوى هذا القرآن؛ لأنه وحده الذي يخاطب الكينونة البشرية كلها فيسعدها كلها، وكل ما سواه يكون إسعاده على حساب إشقاء في جانب آخر. ثم قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. قال ابن كثير: (أي الذي أنزل عليك القرآن هو الله لا إله إلا هو، ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى). وفي ذكر كلمة التوحيد قبل ذكر الأسماء إشارة إلى أنه واحد في ذاته، ولو افترقت عبارات صفاته، وإذ كان الله الواحد الأحد المتصف بالصفات الحسنى هو منزل هذا القرآن فكيف لا يكون كتابه مسعدا! وكيف لا يذكر الله عباده بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم. هذه هي المقدمة. كلمة في السياق: إن صلة هذه المقدمة بمحور السورة واضح؛ فالمقدمة أقامت الحجة على أن هذا القرآن يسعد ولا يشقي، وفي ذلك دعوة للإيمان به، والمقدمة بينت أنه مذكر لمن يخشى، فهي دعوة للخشية، وللتذكر بهذا القرآن، أي هي دعوة للإيمان، فالصلة بينها وبين قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ واضحة، خاصة وقد عرفت على المنزل وهو الله، وعرفت المنزل وهو القرآن، وردت على توهمات في شأنه، كما أن الصلة بين المقدمة وقوله تعالى في سورة البقرة عن القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وبينها وبين قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ واضحة؛ مما يؤكد أن محور سورة طه هو الآيات الأولى من سورة البقرة، وسنرى أن الصلة بين مقدمة سورة طه، وبقية السورة كاملة. فعند ما نرى مثلا في المرحلة الأولى من قصة موسى عليه السلام مع فرعون قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى التي تشبه قوله تعالى في المقدمة: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ندرك أن سنة الله الدائمة هي أن يرسل الله رسلا للبشر؛ ليتذكروا ويخافوا، فليس بدعا أن ينزل الله القرآن تذكرة لمن يخشى. ولا نستعجل الكلام عن الصلة بين المقدمة وبقية السورة، فسنرى هذا شيئا فشيئا.

فوائد

والمهم هنا هو التذكير السريع بصلة مقدمة السورة بمحور السورة من البقرة، وصلتها ببقية سياق السورة. فوائد: 1 - هل يعني قوله تعالى السَّماواتِ الْعُلى أن هناك سماوات دنيا، وأنه يشير إلى ما هو أعلى منها؟ نلاحظ أنه يمر معنا في كتب العهد القديم مثل هذا التعبير: (هو ذا للرب إلهك السموات وسماء السماوات والأرض وكل ما فيها) تثنية (10). مما يشير إلى أن هناك سماوات، وهذه السموات لها سماوات، فكأن هناك سماوات خاصة للأرض، ولهذه السماوات سماوات فوقها، فهل الآية تشير إلى هذا المعنى؟. الشئ الذي وضحناه في بداية سورة البقرة أن السموات السبع المذكورة في القرآن قريبة من الأرض، ومغيبة عنا، فهي دون المجرات والله أعلم، فإذا صح ما اتجهنا إليه يمكن أن نفهم من قوله تعالى وَالسَّماواتِ الْعُلى أن المراد من ذلك هذه المجرات وما فوقها مما هي فوق السموات السبع؛ لأن العلى جمع العليا، والعليا تأنيث الأعلى، فهي إشارة إلى سماوات أعلى من غيرها. نقول هذا مع احتمالنا أن الآية تشير إلى السموات السبع والله أعلم. 2 - قال النسفي في قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى: (والمذهب قول علي رضي الله عنه: الاستواء غير مجهول، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). وقال الألوسي بمناسبة هذه الآية: (و «العرش» في اللغة: سرير الملك، وفي الشرع: سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السلام، فوق السموات مثل القبة، ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ادعوه فقال: لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذى اصطفى موسى على البشر. فقلت: يا خبيث، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأخذتني غضبة، فلطمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور». وعلى أن له

حملة من الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ). وما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عزّ وجل من حملة العرش إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة». وعلى أنه فوق السموات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، ونهكت الأموال- أو هلكت- فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى، ونستشفع بالله تعالى عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه؛ شأن الله تعالى أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله، إن الله تعالى فوق عرشه. وعرشه فوق سماواته، لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب». وهو غير الكرسي على الصحيح فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض». وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا، مع نفي التشبيه والتجسيم، منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، وسعد ابن معاذ المروزي، وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني، ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته، ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئا، تبارك الله تعالى رب العالمين. وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه، كما نفى

سبحانه عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل، وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض؛ حيث قال فيها: والذي نرتضيه رأيا، وندين به عقدا، اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم. فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات، مع أنهم كانوا لا يألون جهدا فى ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة، وقد اختاره أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة، وهو آخر مصنفاته فيما قيل. وقال البيضاوي في الطوالع: والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء يعني المتشابهات- ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى). 3 - بمناسبة قوله تعالى وَما تَحْتَ الثَّرى يذكر ابن كثير كلاما مرجعه إما إلى الإسرائيليات، وإما إلى حديث رواه من لا يساوي شيئا، ومن ثم أضربنا عن نقله، إلا أننا نذكر أن علم الجيولوجيا المعاصر، أثبت أن في الأرض طبقات، وقد اكتشف منها حتى الآن خمس طبقات، كل طبقة تختلف عن الأخرى، ولا زالت نواة الأرض مجهولة حتى كتابة هذه السطور فيما نعلم، ولا ندري إذا كانت ستنكشف عن كونها أكثر من طبقة» هذا ما أخبرني به الأخ الدكتور حسن زينو المختص في علم الجيولوجيا. 4 - بمناسبة قوله تعالى وَالسَّماواتِ الْعُلى قال ابن كثير: وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره «أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام». أقول: هذا دليل لنا على ما ذهبنا إليه أن السموات السبع قريبة لنا، فهي أقرب لنا نسبيا من مجرات هذا الكون البعيدة؛ إذ بعض تلك المجرات تبعد عنا آلاف السنين الضوئية كما يذكرون، وهذا يرجح كون السموات السبع دون المجرات، وأنها مغيبة عنا وهو ما اتجهنا إليه في هذا التفسير. 5 - ذكر ابن كثير سببا لنزول قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وعلق

عليه فقال: (قال جبير عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى فليس الأمر كما زعمه المبطلون بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرا كثيرا، كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد ابن زهير، حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا إبراهيم الطالقاني، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان عن سماك ابن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي». إسناده جيد ولننتقل إلى المرحلة الأولى من قصة موسى عليه السلام المذكورة في هذه السورة، وتمتد من الآية (9) إلى نهاية الآية (55) وهي المقطع الأول في السورة. ***

المقطع الأول

المقطع الأول ويتضمن المرحلة الأولى من قصة موسى عليه السلام في سورة (طه) ويمتد المقطع من الآية (9) إلى نهاية الآية (55) وهذا هو: [سورة طه (20): الآيات 9 الى 55] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)

التفسير

التفسير: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وقد أتاك حديث موسى، والكلام عن قصة موسى عليه السلام يأتي في السياق كنموذج على الرسالة والرسول، وعلى إنزال الوحي من الله، وفي قصة موسى تدليل على أن إنزال الله وحيا على أحد من خلقه لا يكون سببا لشقائه، كما أن في إنزاله الوحي على موسى كانت الحكمة فيه التذكرة لمن يخشى، أو إقامة الحجة على الإنسان ليخشى، وهي نفس الحكمة في إنزال هذا القرآن، والقصة- وإن كانت في سياقها القريب- تخدم ما ذكرناه، أي تخدم قضية الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهي كذلك في سياقها تخدم موضوع الإيمان بما أنزل على غيره، وهذان هما محور السورة في البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وتخدم موضوع التأسيس في تحمل أعباء النبوة والدعوة، كما تخدم موضوع وحدة رسالات الله، عدا عن كونها تعطي دروسا كثيرة خالدة في الحياة البشرية، إِذْ رَأى ناراً حين مقفله من مدين، كما سيقص القرآن قصة ذلك في سورة القصص، التي هي السورة الأخيرة في هذه المجموعة، وهذا من مظاهر وحدة هذه المجموعة وتكاملها فَقالَ لِأَهْلِهِ أي لزوجته امْكُثُوا أي أقيموا في مكانكم إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرت، والإيناس: رؤية شئ يؤنس به لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي شهاب من النار، أي نار مقتبسة في رأس عود أو فتيلة أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي ذوي هدى، أو قوما يهدونني الطريق، دل ذلك على وجود البرد والظلام وقتذاك، وأن موسى عليه السلام قد تاه عن الطريق، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان في أشد حالات

[سورة طه (20): الآيات 11 إلى 12]

الضيق يكون أقرب ما يكون إلى الرحمة، وفي قوله لأهله امْكُثُوا درس في كمال رحمته وشفقته وغيرته وشجاعته وخدمته لأهله، وفي استعماله لكلمة لَعَلِّي إشارة إلى دقته في التعبير؛ إذ بنى الأمر على الرجاء؛ لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار واقترب منها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي الذي يخاطبك ويكلمك، وفي ذلك تعليم لنا أن نعرف من نكلفه يوصفنا الذي نكلفه فيه وبما يؤكد أننا متصفون بهذا الوصف، وقد عرف موسى عليه السلام أن الله يخاطبه بعلامات قال النسفي: (فعرف أنه كلام الله عزّ وجل بأنه سمعه من جميع جهاته الست، وسمعه بجميع أعضائه) فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي انزعهما، ثم علل حكمة الأمر بقوله: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر أو المبارك طُوىً هذا اسم الوادي، علل له الأمر بخلع النعلين بأنه احترام للبقعة، وتعظيم لها قال سعيد بن جبير: أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة، كما يؤمر الرجل بخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وفي ذكر الأمر مع تعليله تعليم لنا ألا نأمر إلا مع التعليل للأمر، فإذا كان الله- عزّ وجل- هذا شأنه فكيف بالبشر مع البشر؟ وفي حكمة مجيء هذا الأمر من الله بعد إعلامه لموسى أنه الله، وقبل إعلامه بالاصطفاء والاجتباء، تعليم لنا بأن مما يساعد الإنسان على أن يتخلص من ارتباكه في المواقف الصعبة أن يفعل شيئا محسوسا في مثل هذه المقامات، فلا شك أن الأمر بخلع النعلين، وتنفيذ ذلك من قبل موسى ساعده على تحمل المفاجأة والتخلص من إرباكها، ثم قال تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي اصطفيتك للنبوة فَاسْتَمِعْ لِما أي للذي يُوحى إليك، علمه أولا التواضع في هيئته؛ إذ أمره بخلع النعلين، ثم طالبه بأدب الإنصات، فدل ذلك على أن تعليم الأدب وتعلمه هو البداية الصحيحة في التربية، وكم من مرب لم يبدأ بتعليم الأدب ففاته كل شئ، وانقلب تعليمه عليه، ومن ثم نلاحظ أن كل رسول الله عليهم الصلاة والسلام كان يطالب قومه بأمرين: التقوى والطاعة، كما سنرى في سورة الشعراء، التقوى لله، والطاعة له؛ للتلازم التام بين الأدب مع الله، والأدب مع رسله، فعلى وراث النبوة أن يلاحظوا ذلك، وعلى الراغبين في العلم والتعلم، والوصول إلى الله أن يعطوا ذلك حقه، وبعد أن أمر الله موسى عليه السلام أن يستمع إلى ما يقوله ويوحيه له قال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا قال ابن كثير: هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وبعد أن عرفه على ذاته أمره فَاعْبُدْنِي أي وحدني وأطعني وأقم عبادتي من غير شريك وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي صل لتذكرني، أي أقم

[سورة طه (20): آية 15]

الصلاة لتذكرني فيها، لاشتمال الصلاة على الأذكار، وهذا دليل على أنه لا فريضة بعد التوحيد أعظم منها، وقد دل هذا الخطاب على أن معرفة الله هي البداية، وأن الصلاة هي التي يثنى بها، وكل بداية غير هذه البداية، أو ما يؤدي إليها، ليست من التربية الإسلامية في شئ، فليلاحظ المربون ذلك إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها أَكادُ أُخْفِيها أي أكاد أسترها عن العباد، لولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من الحكمة، وهو أنهم إذا لم يعلموا متى تقوم كانوا على وجل منها في كل وقت، أي لولا ما في الإخبار بها من الحكمة لما أخبرت به، وفي الآية اتجاهات أخرى نراها في الفوائد لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي أقمتها لا محالة لأجزي كل نفس بسعيها من خير أو شر، أخبر بالساعة وحكمة إقامتها بعد الأمر بالعبادة والصلاة ليعلم أن الإنسان مجازى، ومكافأ على عمله، وفي ذلك تأديب لنا أن نعرف بالجزاء على العمل والمكافأة عليه، ثم قال تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي فلا يصرفنك عنها، أي عن العمل للساعة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها أي من لا يصدق بها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي واتبع شهواته في مخالفة أمر مولاه فَتَرْدى أي فتهلك وتعطب. قال ابن كثير: (المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين، أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه؛ فاتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر). وقال النسفي: (فالخطاب لموسى والمراد به أمته، وقد دلت الآية على أن الهلاك يكمن في الكفر بالآخرة، وأن اتباع الهوى مرادف للتكذيب بها، فلا شئ يطهر من الهوى ويبعد عن الهلاك إلا الإيمان باليوم الآخر). فائدة: بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها .. يقول صاحب الظلال: (فأما الساعة فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه، وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق .. والله سبحانه يؤكد مجيئها: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وأنه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم ..

كلمة في السياق

والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي. فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه. ولو كان كل شئ مكشوفا لهم- وهم بهذه الفطرة- لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون. فيحذرون ويأملون، ويجربون ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقتهم وطاقات الكون من حولهم، ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق، ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا .. وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة. فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم. ذلك لمن صحت فطرته واستقام. فأما من فسدت فطرته واتبع هواه فيغفل ويجهل، فيسقط ومصيره إلى الردى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى. ذلك أن اتباع الهوى هو الذي ينشئ التكذيب بالساعة. فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها، ولا يتم فيها العدل تمامه، وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال.). كلمة في السياق: في هذا الخطاب لموسى عليه السلام نموذج على التنزيل الذي في مخالفته الهلاك والشقاء، لا في موافقته ومن ثم قال فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى أي فتهلك، كما أنه نموذج على التذكرة لمن يخشى، وقد لاحظنا أنه ذكر بالتوحيد والصلاة والساعة؛ فعرفنا بذلك بماذا يذكر، كما عرفنا من ماذا ينبغي أن يخاف الإنسان ويخشى، فالصلة بين مقدمة السورة وما بعدها واضح جدا، والصلة بين السورة ومحورها كذلك واضح وهو قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فإذا كان هؤلاء هم المفلحون فغيرهم خاسر. ولنعد إلى السياق: فبعد أن عرف الله موسى على ذاته، وأعلمه اجتباءه، وكلفه وحذره، سأله فقال وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قال النسفي: (والسؤال للتنبيه لتقع المعجزة بها بعد التثبت، أو للتوطين لئلا يهوله انقلابها حية، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة). قالَ

[سورة طه (20): آية 19]

موسى: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أعتمد عليها إذا أعييت، أو وقفت على رأس القطيع، وعند الطفرة وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أي وأخبط بها ورق الشجر على غنمي لتأكل. قال الإمام مالك: الهش: أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقة وثمره، ولا يكسر العود فهذا الهش ولا يخبط وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أي حاجات ومصالح ومنافع أُخْرى قال ابن كثير: (وقد تكلف بعضهم لذكر شئ من تلك المآرب التي أبهمت ... ولكن كل ذلك من الإسرائيليات) قالَ أَلْقِها يا مُوسى أي اطرحها من يدك فَأَلْقاها أي طرحها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى أي تمشي سريعا وتضطرب. قال صاحب الظلال: (ووقعت المعجزة الخارقة التي تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا ينتبهون إليها. وقعت معجزة الحياة. فإذا العصا حية تسعى. وكم من ملايين الذرات الميتة أو الجامدة كالعصا تتحول في كل لحظة إلى خلية حية، ولكنها لا تبهر الإنسان كما يبهره أن تتحول عصا موسى حية تسعى!، ذلك أن الإنسان أسير حواسه، وأسير تجاربه، فلا يبعد كثيرا في تصوراته عما تدركه حواسه، وانقلاب العصا حية تسعى ظاهرة حسية تصدم حسه فينتبه لها بشدة. أما الظواهر الخفية لمعجزة الحياة الأولى، ومعجزات الحياة التي تدب في كل لحظة فهي خفية قلما يلتفت إليها. وبخاصة أن الألفة تفقدها جدتها في حسه، فيمر عليها غافلا أو ناسيا). ومن مجموع ما وصف الله هذه الحية في كتابه فهم ابن كثير أنها: صارت في الحال حية عظيمة ثعبانا طويلا يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر، وفي غاية سرعة الحركة قالَ الله تعالى: خُذْها وَلا تَخَفْ، سَنُعِيدُها أي سنردها سِيرَتَهَا الْأُولى أي في طريقتها الأولى، أي نردها عصا كما كانت وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي إلى جنبك تحت العضد. أي أدخلها تحت عضدك تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص، ولا أذى، ومن غير شين آيَةً أُخْرى لنبوتك لِنُرِيَكَ بهاتين الآيتين مِنْ آياتِنَا أي بعض آياتنا الْكُبْرى أي العظمى، أي فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي جاوز العبودية إلى الربوبية، أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه، وهاربا، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، إنه قد طغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى.

ملاحظة

ملاحظة: نلاحظ أنه لم يأمر الله موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون إلا بعد أن أراه من آياته الكبرى، وما ذلك إلا لأن هذا التكليف شاق، فقدم الله له بما به يهون كل شئ، ويصغر كل شئ في عيني موسى؛ إذ رأى من آثار قدرة الله ما رأى ومن ثم فإننا نلاحظ أن موسى عليه السلام عند ما كلفه ربه بذلك قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... لأنه قريب عهد برؤية الآية، بينما نلاحظ أنه وأخاه هارون قالا فيما بعد قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى وذلك لبعد العهد عن رؤية الآيتين، وفي ذلك كله تعريف لنا على خصائص النفس البشرية، وعلى أن الله هو الأعلم بها لأنه خالقها، ومن ثم فإنه الأقدر على ما يسعدها وما يشقيها وما تحتاجه، وفي ذلك تعليم لنا أننا إذا أردنا أن نكلف إنسانا تكليفا صعبا أن نقدم له بما يستسهل معه المهمة، ولنعد إلى السياق: ... قالَ أي موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي وسعه ليحتمل الوحي والمشاق وردئ الأخلاق وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي وسهل علي ما أمرتني به، من تبليغ الرسالة والقيام بواجباتها وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي أي وافتح عقدة من عقد لساني، لم يطلب زوال العقدة بكمالها، وإنما طلب ما يعينه على أداء رسالة ربه، ومن ثم علل لطلبه فقال: يَفْقَهُوا قَوْلِي أي عند تبليغ الرسالة وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي أي ظهيرا ومعينا وملجأ يساعدني ويعينني، وأبثه ما بنفسي، وأن يكون من أهلي، ثم عينه هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي قو به ظهري وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي اجعله شريكي في النبوة والرسالة ثم علل لطلبة أخا فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي نصلي لك، ونسبحك تسبيحا كثيرا ونذكرك ذكرا كثيرا في الصلوات وخارجها إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي عالما بأحوالنا، فأجابه الله تعالى إلى ما سأل قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قد أعطيت سؤلك. ملاحظة: لما أمر الله موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون الطاغية، وعرف أنه كلف أمرا عظيما دعا بهذه الدعوات التي يحتاجها من يقوم بمثل هذا الشأن، وقد أجابه الله إليها منة عليه فيها، ولعلمه احتياجه إليها، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وطلاقة اللسان،

فائدة

وأخ موات على السراء والضراء، ومن عانى أمر الدعوة إلى الله عرف أهمية هذه الدعوات، فبدون شرح الصدر لا يستطيع الإنسان أن يقوم بالدعوة إلى الله، ولا أن يتحمل لأواءها أبدا، وبدون تيسير الأمر ينكسر قلب الداعية إلى الله، وبدون طلاقة لسان لا تقوم الحجة، ولا يوصل إلى المقصود، وبدون أخ موات مؤازر في السراء والضراء يستشار وتبث الشكوى إليه يحس الداعية بغربة هائلة محزنة، ولذلك فقد ورد أن رسولنا عليه الصلاة والسلام دعا بهذه الدعوات. قال الألوسي: (وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بمثل هذا الدعاء، إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مقام هارون عليه السلام، فقد أخرج ابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء ثبير وهو يقول: أشرق ثبير، أشرق ثبير، اللهم إني أسألك مما سألك أخي موسى، أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة لساني يفقه قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا». ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد، والدعوة إلى الحق، ولا يجوز حمله على النبوة، ولا يصح الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل. ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته! «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» كما بين في التحفة الاثنى عشرية، نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه ما لا يخفى). فائدة: من كلام موسى عليه السلام عند ما سأل الله أن يؤيده بأخيه نفهم أدب الأخوة في الله، والغاية منها، فالأدب شد الأزر، والاشتراك في الأمر، والهدف ذكر الله، وتسبيحه، فما لم يتحقق بالأخوة كثرة الذكر، لا تكون أخوة خالصة في الله، وإذا كان لها هدف آخر غير ذلك فليست أخوة في الله. ولنعد إلى السياق: فبعد أن من الله عزّ وجل على موسى بإعطائه سؤله ذكره بنعمه عليه من قبل؛ لتبقى ثقته بالله مطلقة فيما يأتي، لأنه بدون الثقة المطلقة بالله لا يستطيع رجل الدعوة أن يستمر. فقال: وَلَقَدْ مَنَنَّا أي أنعمنا عَلَيْكَ مَرَّةً أي كرة أُخْرى أي قبل هذه، ثم فسرها فقال: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ إلهاما أو مناما حين ولدت وكان

[سورة طه (20): آية 39]

فرعون يقتل أمثالك ما يُوحى وقد فسر ما يوحى بقوله أَنِ اقْذِفِيهِ أي ألقيه فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ أي في النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي بجانب النهر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني فرعون وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي حببتك إلى عبادي أو جعلت فرعون يحبك وهو عدوك وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتربى بمرأى مني، يعني: أنا راعيك ومراقبك، كما يراعي الرجل الشئ بعينه إذا اعتنى به، وقد نقل ابن كثير في معناها عن الجوني: «أنه ولتربى بعين الله» قال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية: (إن موسى- عليه والسلام- ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار. إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان مع الطغيان. إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر. ثم مع قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم، وأضعف استعدادهم للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص، فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلا من التهيؤ والاستعداد. وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد. وأنه صنع على عين الله منذ زمان، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع، ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير ضعيف وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد إليه يد فرعون، ... فلا عليه اليوم من فرعون، وقد بلغ أشده، وربه معه، قد اصطنعه لنفسه، واستخلصه واصطفاه.). إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ هذا تفسير ثان لنعمة الله على موسى فَتَقُولُ إذا رفضت المراضع هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي على من يضمه إلى نفسه فيربيه، وأرادت بتلك المرضعة أمه فَرَجَعْناكَ أي فرددناك إِلى أُمِّكَ كما وعدناها كما هو مذكور في سورة القصص كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وَلا تَحْزَنَ على فراقك وَقَتَلْتَ نَفْساً أي القبطي الكافر فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله، ففر منهم هاربا حتى ورد ماء مدين وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي ابتليناك ابتلاء بإيقاعك في المحن، وتخليصك منها، هذا تذكير من الله لموسى بالمحن التي مر فيها، وكيف أن كل محنة كانت كافية في عالم الأسباب لأن تقضي عليه، لولا أن نجاه الله منها، وفي ذلك تثبيت لقلبه وتقوية له فيما سيلاقيه من أخطار فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي في أرض مدين وبين أهلها ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي ثم جئت موافقا لقدر الله وإرادته. وقال مجاهد: أي جئت على موعد. وقال قتادة:

[سورة طه (20): آية 41]

جئت على قدر الرسالة والنبوة. والمعنى بشكل عام. ثم جئت على موعد مع قدرنا لتكون رسولا نبيا وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اخترتك واصطفيتك لوحيي ورسالتي، لتتصرف على إرادتي ومحبتي. قال الزجاج في معناها أي: اخترتك لأمري، وجعلتك القائم بحجتي، والمخاطب بيني وبين خلقي، كأني أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي أي بحجتي وبراهيني ومعجزاتي وَلا تَنِيا أي ولا تفترا فِي ذِكْرِي أي لا تضعفا فيه، والمراد أن عليهما ألا يفترا عن ذكر الله في كل حال، ومن ذلك تبليغ الرسالة، ومواجهة فرعون، دل ذلك على أن رجل الدعوة لا ينبغي أن يفتر عن ذكر الله، ومتى فتر قصر، ولم يستطع الدعوة والمتابعة والمواجهة والمجابهة على ما يقتضيه أمر الله اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي جاوز الحد بادعائه الربوبية فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً أي ألطفا له في القول لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أي يتعظ ويتأمل؛ فيذعن للحق ويلتزم به أَوْ يَخْشى أي أو يخاف الله فيحدث له الخوف طاعة، وفي هذه الآية عبرة وعظة كبيرتان للدعاة؛ فموسى عليه السلام صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، وأن تكون دعوتهما له بكلام رقيق لين سهل رفيق؛ ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، ولكن هذا في ابتداء الدعوة، وعند إقامة الحجة، أما بعد ذلك فقد لاحظ أن موسى قال كما قصه الله لنا في سورة الإسراء وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) بينا درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن أول الدرجات التعليم، ثم الوعظ ثم ... ولا شك أن الخطاب يختلف باختلاف المخاطب، واختلاف حاله ودل قوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أن مهمة الداعية إلى الله إما تذكير الإنسان بتعليمه الحقائق، وإما إثارة الخشية في قلبه من الله تعالى. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى ننقل ما قاله صاحب الظلال في شأن عودة موسى إلى مصر: (ويعود إلى البلد الذي نشأ فيه، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره. لماذا عاد. وقد خرج من مصر طريدا. قتل قبطيا فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي، وغادر مصر هاربا وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألوانا، حيث وجد الأمن والطمأنينة في مدين إلى جوار صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه. إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستارا لما تهيئه لموسى من

كلمة في السياق

أدوار .. وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك. تحركنا أشواق وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال .. وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار. يد المدبر المهيمن العزيز القهار ... ). كلمة في السياق: مر معنا في مقدمة السورة قوله تعالى: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى وهاهنا كلف الله موسى أن يدعو فرعون إلى الله قائلا له لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، فالسياق بين لنا أن إنزال الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو استمرار لسنة الله فى إرسال الرسل فما القرآن إلا وحي الله الذى أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم كما أنزل وحيه على غيره من الرسل، فالرسل أمة واحدة والوحي واحد، والهدف واحد، والمؤمن يؤمن بوحي الله كله، وذلك محور السورة من البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ولنعد إلى السياق: قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يعجل علينا بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي أو يجاوز الحد في الإساءة إلينا، خشيا أن يقابلهما بعقوبة مستعجلة، أو بعقوبة قاسية متطاولة قالَ لا تَخافا منه ثم علل لذلك إِنَّنِي مَعَكُما أي بالحفظ والتأييد والنصرة والتوفيق والرعاية أَسْمَعُ وَأَرى أي أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، وأسمع دعاءكما فأجيب، وأرى ما يراد بكما فأمنع، لست بغافل عنكما فلا تهتما، فإن ناصيته بيدي، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي، ثم لقنهما الله ما يقولان بما يحقق أمره لهما بالقول اللين المذكر الواعظ فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إليك فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي أطلقهم عن الاستعباد والاسترقاق لنذهب وإياهم إلى حيث شاء الله وَلا تُعَذِّبْهُمْ بتكليف المشاق قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ أي بحجة على صدق ما ادعيناه أي بمعجزة من الله وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى والمعنى: سلم من العذاب من أسلم إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ في الدنيا والعقبى عَلى مَنْ كَذَّبَ بآيات الله ورسله ووحيه وَتَوَلَّى أي أعرض عن طاعته. وهكذا حدد الله لهما مضمون الخطاب، ومن عرف هذا المقام أي كيف أن الله عزّ وجل أمرهما بالخطاب اللين ثم حدد لهما مضمون الخطاب الذي يخاطبانه به بما يحقق الأمر الأول، أدرك أن الله

[سورة طه (20): آية 49]

عزّ وجل لا يترك شيئا بلا بيان، ولا يأمر أمرا إلا ويعلم الإنسان كل ما يلزم لتحقيقه وتنفيذه، ثم طوى السياق ما بين الأمر وما بين تنفيذه وحدثنا مباشرة عما كان جواب فرعون لهما والتقدير: فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به فكان الجواب: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب موسى لأنه الأصل في النبوة وهارون تابعه، أو لأنه يعرفه من قبل قالَ موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى أي أعطى كل شئ صورته وشكله وجبلته التي تطابق الحكمة التي من أجلها خلق، ثم هداه ليسير في طريقه المحدد بما يحقق الحكمة في هذا الكون، وقد كانت هذه الآية مضمون ظاهرة كاملة كتبناها في كتابنا (الله جل جلاله) هي ظاهرة (الهداية) استدللنا بوجود الهداية في المخلوقات الحسية والمعنوية الصغيرة والكبيرة الحية وغير الحية على وجود ذات هادية أعطت كل شئ خلقه، ثم هدته، دلل بوجود ظاهرة الهداية في الكون على خالق الكون، فما أعظم هذا القرآن، وما أعظم ما ألهم الله موسى من حجة. قال صاحب الظلال عند هذه الآية: (قال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى .. ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها. ثم هدى كل شئ إلى وظيفته التي خلقه لها، وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها. و (ثم) هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شئ مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته، وإنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشئ واهتدائه إلى وظيفته فهداية كل شئ إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى- عليه والسلام- يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود: هبة الوجود لكل موجود، وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها. وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها .. وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته- في حدود ما يطيق- في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير. من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان. هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا، والخلائق والأحياء، وكل ذرة فيه تنبض، وكل خلية فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى .. وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار

[سورة طه (20): آية 51]

النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات! وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها، داخل حدود الناموس العام، في توافق وانتظام. وكل كائن بمفرده- ودعك من الكون الكبير- يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه. دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان. وهو خلق من خلق الله، وهبه وجوده على الهيئة التي وجد بها، للوظيفة التي خلق لها، كأي شئ من هذه الأشياء، ألا إنه الإله الواحد رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). قالَ فَما بالُ أي فما حال الْقُرُونِ الْأُولى أي الأجيال السالفة، أو الأعصار السابقة، الظاهر أن فرعون سأل هذا السؤال ليفر من الإلزام بالحجة، فلا يعترف لرب موسى بالربوبية، وعلى هذا فسؤاله يحتمل معنيين الأول: إذا كان الأمر كما تقول بأن الله خالق كل شئ وهاديه؛ فأخبرني عن تاريخ هذا العالم وأعصاره وأزمانه وأممه ما دمت رسولا لله. والثاني: هو ما عبر عنه ابن كثير بقوله: (أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي الذين لم يعبدوا الله، أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك- لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره، فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ، وكتاب الأعمال» وعلى كل فإن مراده الفرار من إلزام موسى الحجة؛ ولذلك أجاب موسى على كلامه جوابا سريعا، وعاد ليقيم الحجة عليه بلفت نظره إلى مظاهر هذا الكون، وفي ذلك تعليم لنا ألا ندخل مع الكافرين في المسارب التي يريدون أن يدخلونا فيها للفرار من الإلزامات الواضحة لهم قالَ موسى مجيبا عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ أي في اللوح المحفوظ، أي هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله بعلمه لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك؛ لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ لا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يخطئ شيئا وَلا يَنْسى شيئا وصف علمه تعالى بأنه بكل شئ محيط، وأنه لا ينسى شيئا تبارك وتعالى وتقدس، وتنزه، فإن علم المخلوق يعتريه

[سورة طه (20): آية 53]

نقصانان: أحدهما عدم الإحاطة بالشئ، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه الله عن ذلك، وذكر ذلك بعد قوله تعالى فِي كِتابٍ إشارة إلى أن الكتاب ليس خشية الخطأ والنسيان، بل لحكم، منها أن يعلم الملائكة أن معمول الخلق يوافق معلومه عزّ وجل وأن الأمر في غاية الضبط، وفي ذلك تعليم للإنسان أن يضبط الأمور في كل حال بالكتابة، ثم يستأنف موسى التعريف على الله الذي بدأه بقوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً .. ). هذه وجهة نظر ابن كثير في السياق وهو الذي يتفق مع ما استنتجناه من أن موسى- عليه السلام- فوت على فرعون فرصته في الفرار من الجواب الملزم، إلا أنه يمكن أن يفهم السياق فهما آخر وهو: أن يكون موسى أجاب فرعون على سؤاله الثاني المستكن في السؤال الأول ثم استمر بما يحقق الجواب عن السؤالين مفوتا الفرصة على فرعون في التقديرين من الفرار من الإلزام، وعلى هذا يكون السياق: قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً .. فيكون قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً .. تدليلا على أن الله عزّ وجل لا يضل ولا ينسى، وفي الوقت نفسه تعريفا على الله، فيكون الكلام الجديد متضمنا الإجابة عن السؤالين بآن واحد: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي بساطا وفراشا، أي صالحة للقرار والاستقرار والنوم والراحة وَسَلَكَ أي جعل لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي طرقا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب السَّماءِ أي مطرا فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بالماء أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي مختلف، أي فأخرج الله بهذا الماء أنواع النباتات من زروع وثمار، ومن حامض وحلو ومر، بعضها للناس، وبعضها للبهائم التي تخدم الإنسان، والتي كثير من علفها هو مما يفضل عن حاجة الإنسان، مما لا يقدر الإنسان على أكله، وفي اختلاف منافع النباتات المختلفة واختلاف لونها ورائحتها وشكلها بما يخدم مصالح الإنسان دليل على أن هناك ذاتا هي التي سخرت كل شئ في هذه الأرض لصالح الإنسان، وفي كتابنا (الله جل جلاله) تحدثنا كثيرا عن ظاهرتي العناية والإرادة مستدلين بهما بما لا يقبل الجدل على وجود الله. وبمناسبة قوله تعالى فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى قال صاحب الظلال: (وقد شاء الخالق المدبر أن يكون النبات أزواجا كسائر الأحياء. وهي ظاهرة مطردة في

ملاحظة

الأحياء كلها. والنبات في الغالب يحمل خلايا التذكير وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة، وأحيانا يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية. وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع .. ). ملاحظة: نلاحظ أن السياق في الآية وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً انتقل من الغيبة إلى لفظ المتكلم فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى وقد علل بعضهم هذا الانتقال بأنه بسبب انتهاء كلام موسى، فإذا صح هذا يكون فرعون قد قطع على موسى كلامه؛ ومن ثم فإن الله عزّ وجل قد أكمل ما كان يريد أن يقوله، فأخبر الله تعالى عن نفسه بقوله فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى قائلين للناس كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ وعلل بعضهم لذلك بأن هذه المعاني كلها قد قالها موسى، ولكن أراد الله أن يفهمنا أن كلام موسى كان مطابقا للحق، حتى لو تحدث الله عن ذاته، فذلك يكون كلامه، ومن ثم أجرى الله عزّ وجل هذا الكلام على أنه كلامه، ولنعد إلى السياق. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ أي أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها، وتعلفوا بعضها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ إن في الذي ذكر لدلالات وحججا وبراهين لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول، والنهى: جمع نهية وإنما سمي العقل نهية إما لأنه ينهى عن المحظور، أو لأن الأمور ينتهى بها إليه، ثم أخبرنا تعالى أن هذه الأرض التي جعلها كما أخبرنا هي بالنسبة لنا منها المبدأ وإليها المصير، ومنها إخراجنا للبعث؛ فإن تكون الأرض كذلك فذلك دليل على إرادة الله وعنايته وعلمه وقدرته، وفي ذلك ما يذكر الإنسان ويعظه مِنْها أي من الأرض خَلَقْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم منها وخلقناكم من أغذيتها وَفِيها نُعِيدُكُمْ إذا متم وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ أي عند البعث تارَةً أُخْرى أي مرة أخرى قال النسفي: (والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب، ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر، وهكذا بين ما علق بالأرض من مرافق حيث جعلها الله للبشر فراشا ومهادا يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم، وعلوفات بهائمهم، وهي أصلهم الذي

كلمة في السياق

منه تفرعوا وأمهم التي منها ولدوا، وهي التي تضمهم إذا ماتوا، فهل يكون ذلك إلا بالله ومن الله، فكيف يجحد الإنسان بعد ذلك وجود الله رب العالمين، ولا يعترف له بالربوبية، ولا يقر على نفسه بالعبودية). كلمة في السياق: نلاحظ أن الآيات التي مرت معنا استقرت على قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى كما نلاحظ أن بداية الخطاب لموسى- عليه السلام- كان فيه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها مما يشير إلى أن الكلام عن اليوم الآخر جزء رئيسي في السورة، وسنرى مزيدا من الكلام عن هذا الموضوع، وعن غيره، ففي السورة حديث موسع: 1 - عن الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - وما أنزل على من قبله. 3 - وعلى اليقين باليوم الآخر، وأن أصحاب ذلك مهتدون مفلحون، ولذلك صلة بالمحور: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالسورة تفصل هذه المعاني كلها من خلال الخطاب المباشر للرسول صلى الله عليه وسلم، أو من خلال ما يقصه الله، أو من خلال ما يعرضه أو يأمر به. ونلاحظ أنه بالآيات التي مرت معنا تنتهي الجولة الأولى من قصة موسى- عليه السلام- وفيها تم الكلام عن التكليف بالرسالة، وعن القيام بإحدى مهمات التكليف، وهي تبليغ فرعون، وإقامة الحجة عليه، وقد رأينا من دروس ذلك الكثير، ورأينا صلة ذلك بالسياق الخاص للسورة، والسياق القرآني العام، والآن تأتي جولة ثانية من قصة موسى- عليه السلام- قصة التحدي والغلبة وإيمان السحرة النموذجي، الذي يقصه الله علينا ليبين لنا أثر الإيمان الحقيقي، وفلاح أهله بالآخرة، وكيف أن الذين لا يؤمنون إنما هم طاغون باغون ظلمة، لا يصرفهم عن الإيمان ضعف حجة، بل عمى قلب، وطغيان نفس، وكل ذلك يخدم السياق الخاص للسورة، والسياق القرآني العام. ***

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (56) إلى نهاية الآية (76) وهذا هو [سورة طه (20): الآيات 56 الى 76] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها لم يذكر هنا الآيات التي أريها، ولكن من السياق نعرف أنه الحجج والبراهين والمعجزات وهي انقلاب العصا حية، وخروج يد موسى بيضاء من غير سوء، وفي سورة الإسراء قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ. فَكَذَّبَ بالآيات وَأَبى قبول الحق، ذلك موقف الكافرين من الحق، التكذيب به، ورفضه في كل زمان ومكان، وإن زخرفوا هذا الرفض وهذا التكذيب بآلاف الصور، إلا أن المسألة تبقى هكذا، تكذيب للحق، ورفض له، مع قيام الحجة به، فإذا تذكرنا أن محور السورة من سورة البقرة هو وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عرفنا أن قصة فرعون في هذا السياق تعرفنا على أن الذين لا يؤمنون يكذبون ويرفضون، لا لقصور في الحجة، ولا لانعدام الآيات، بل لمرض في أنفسهم، ثم قال تعالى قالَ أي فرعون أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى قال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانا عظيما، ونزع يده من

[سورة طه (20): آية 58]

تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، فقال هذا سحر جئت به لتسحرنا، وتستولي به على الناس، فيتبعونك، وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه. وقال صاحب الظلال عن هذه الآية والآية التي بعدها: قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ (ويظهر أن استعباد بني إسرائيل كان إجراء سياسيا خوفا من تكاثرهم وغلبتهم، وفي سبيل الملك والحكم لا يتحرج الطغاة من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية وعن الخلق والشرف والضمير، ومن ثم كان فرعون يستأصل بني إسرائيل ويذلهم بقتل المواليد الذكور. واستبقاء الإناث، وتسخير الكبار في الشاق المهلك من الأعمال .. فلما قال له موسى وهارون: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ لأن إطلاق بني إسرائيل تمهيد للاستيلاء على الحكم والأرض. وإذا كان موسى [في زعم فرعون] يطلب إطلاق بني إسرائيل لهذا الغرض، وكل ما يقدمه هو عمل من أعمال السحر، فما أسهل الرد عليه: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ .. وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إنما تخفي وراءها هدفا من أهداف هذه الأرض، وأنها ليست سوى ستار للملك والحكم .. ثم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات، إما خارقة كآيات موسى، وإما مؤثرة في الناس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق. فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا .. سحر نأتي بسحر مثله! كلام نأتي بكلام من نوعه! صلاح نتظاهر بالصلاح! عمل طيب نرائي بعمل طيب! ولا يدركون أن للعقائد رصيدا من الإيمان، ورصيدا من عون الله، فهي تغلب بهذا وبذاك، لا بالظواهر والأشكال.). فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي فلنعارضك بسحر مثل سحرك، وهكذا نقل فرعون المسألة من صبغتها الدينية فأعطاها صبغة سياسية ووطنية، وذلك دأب الظالمين مع أهل الحق، إذا وعظوهم أو ذكروهم أو أمروهم أو نهوهم فإنهم يتهمونهم في نياتهم، ويثيرون عليهم شتى العواطف، ثم قال فرعون لموسى فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي يوما نجتمع نحن وأنت فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين، ووقت معين لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي مستويا لا يغيب فيه شئ شيئا آخر، من أجل أن يرى الناس جميعا ما يحدث قالَ موسى مَوْعِدُكُمْ

[سورة طه (20): آية 60]

يَوْمُ الزِّينَةِ أي يوم عيدكم، وتفرغكم من أعمالكم وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ أي يجمعوا ضُحًى أي وقت الضحوة، واختياره يوم عيدهم ليشاهد الجميع قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات، فيكون التبليغ للجميع، وتقوم الحجة على الجميع، واختياره وقت الضحى ليكون هناك متسع من الوقت نهارا، ليشيع ما حدث، ويتذاكر الناس فيه أطول وقت ممكن بقية يومهم، فيستقر في قلوبهم، وليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح وأبعد عن الريبة، وأكثر كشفا للحق. قال ابن كثير: (وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولذا لم يقل ليلا، ولكن نهارا ضحى) أقول: وفي ذلك درس للدعاة أن يختاروا الوقت الأنسب للشئ الذي يرغبوا أن يقدموه للناس خدمة لدين الله فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي شرع معرضا عن موسى في جمع السحرة من مدائن مملكته، وقد كان السحر فيهم كثيرا فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي مكره وسحرته ثُمَّ أَتى للموعد قالَ لَهُمْ مُوسى أي للسحرة وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا تدعوا آياته ومعجزاته سحرا، أو لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها؛ فتكونوا قد كذبتم على الله فَيُسْحِتَكُمْ أي فيهلككم بسبب ذلك بِعَذابٍ أي فيهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له وَقَدْ خابَ أي خسر مَنِ افْتَرى أي من كذب على الله، وفي قول موسى هذا درس بليغ للدعاة ألا يقصروا في الوعظ في كل حال، وحتى لأشد أنصار الظالمين، فهؤلاء السحرة حشدهم فرعون ليجابه موسى، فوعظهم موسى، فأفاد هذا الوعظ مرتين، مرة في خلخلة صفهم، ومرة بعد ذلك إذ أسلموا جميعا، فلا يتركن المسلم دعوته في أي ظرف فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي اختلفوا وتشاجروا، ولا نعرف بالضبط ما هو مضمون النزاع، وقد قدر بعض المفسرين أن يكونوا اختلفوا في شأن موسى هل هو ساحر مثلهم؟ أو غير ساحر؟ وليس في معرفة ذلك كبير طائل ما دام النص قد أبهم مضمون اختلافهم وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي كان تناجيهم فيما بينهم سرا، والذي يبدو- والله أعلم- أنهم تكتموا على خلافهم، ولم يحاولوا أن يظهروه، ورددوا فيما بينهم ما أعلنه فرعون من قبل ولذلك قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ أي إنه هذان لساحران يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر أي يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ليستوليا على الناس، وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ

[سورة طه (20): آية 64]

أي بدينكم وشريعتكم الْمُثْلى أي الفضلى فَأَجْمِعُوا أي أحكموا كَيْدَكُمْ أي ما تكيدون به موسى، أي اجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي ائتوا مصطفين، اتفقوا على ذلك لأنه أدل على وحدتهم، وأوقع في قلوب الرائين وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي وقد فاز من غلب، وهكذا حال أهل الباطل في الظاهر مجتمعون، وفي الباطن مختلفون، يتظاهرون بشيء، ويبطنون غيره، مولعون بالاستعراضات والمظاهر والمسيرات، ليغطوا بها ضعفهم النفسي، ثم توجهوا إلى موسى بالخطاب قالُوا أي السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي اختر أحد الأمرين: إلقاؤك أولا، أو إلقاؤنا أولا، وهذا التخيير منهم أدب حسن معه، وقد وصلت بركة الأدب إليهم إذ أسلموا بعد ذلك قالَ بَلْ أَلْقُوا أي أنتم أولا، وذلك ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويظهر الله سلطانه، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه، فيصير آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى موسى مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي تتحرك وتضطرب، وهو عمل يشبه معجزة موسى في الظاهر، ويبدو أن سحرهم كان في غاية القوة، حتى أن موسى نفسه خيل إليه أن حبالهم وعصيهم تتحرك، ولنا في الفوائد كلام حول السحر والفارق بينه وبين المعجزة فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس برهبة بحكم الجبلة البشرية، أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه، وهذا الذي رجحه ابن كثير ولم يحك غيره قال: (أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم) والظاهر الأول وهو الذي قدمه النسفي، وليس في ذلك منقصة لموسى، بل هو الكمال ليكون قدوة، فليس الشأن ألا نحس في الخوف، ولكن الشأن ألا نستسلم له قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب القاهر، أكد له الغلبة بأكثر من مؤكد، كما هو معلوم في اللغة وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي ما زورا وافتعلوا، أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ليس إلا، وكيد الساحر لا قيمة له وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي أينما كان فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي ألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا ساجدين قال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا. قال النسفي: فما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم

[سورة طه (20): آية 71]

وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى وهكذا شأن المنصفين إذا رأوا الآية، وقامت عليهم الحجة، لقد عرفوا- لعلمهم بالسحر- أن المسألة ليست بسحر، وبقي الكافر اللعين فرعون يزعم أن فعلة موسى سحر قالَ فرعون حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة آمَنْتُمْ لَهُ أي صدقتموه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي وما أمرتكم بذلك فافتئتم علي في ذلك، طالبهم بمنطق السلطان بالطاعة، والانضباط والتقيد بالأوامر، وعدم التصرف إلا بإذن، ولم يدر أن سلطان الله فوق سلطانه، وأمر الله فوق أمره، ثم قال لهم قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ أي لعظيمكم أو لمعلمكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه علي، وعلى رعيتي لتظهروه، ثم لجأ إلى سلاح الإرهاب والتهديد، وهو سلاح الظالمين الأخير فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ القطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر، بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال يعني: لأقطعنها مختلفات وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ هددهم بأن يجمع لهم بين القطع والصلب، وتلك أفظع موتة، لأنها تجمع بين المثلة والألم والتشهير ثم قال وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أنا على ترك إيمانكم بي، أو رب موسى على ترك الإيمان به، أو أنا أو موسى عذابنا أشد وأبقى؟ أي أكثر ألما وأدوم قالُوا أي السحرة لَنْ نُؤْثِرَكَ أي لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي الأدلة القاطعة الدالة على صدق موسى وَالَّذِي فَطَرَنا أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فاحكم ما أنت حاكم، أي فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب، أي فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي في هذه الحياة الدنيا، أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا. قال ابن كثير: أي إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا أي ذنوبنا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أي وليغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه وَاللَّهُ خَيْرٌ لنا منك، أو خير ثوابا لمن أطاعه وَأَبْقى وأبقى عقابا لمن عصاه، وهو رد لقول فرعون وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.

[سورة طه (20): آية 74]

قال ابن كثير: (والظاهر أن فرعون لعنه الله صمم على ذلك، وفعله بهم ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء) ثم اتموا كلامهم واعظين فرعون ومحذرين له من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي ومرغبين له في ثوابه الأبدي المخلد ومعللين لإيمانهم فقالوا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً أي كافرا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح بالموت وَلا يَحْيى أي حياة ينتفع بها وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً أي بأن مات على الإيمان قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أي بعد أن آمن فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جمع العليا ثم فسر الدرجات العلى بقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي دائمين فيها ومعنى النص: ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله فأولئك لهم الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى. قال ابن كثير: (أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب). وما ذكرناه من أن هذه الآيات الثلاث هي حكاية قول السحرة هو الذي رجحه ابن كثير، وهو الذي مشينا عليه في التفسير، ورجح النسفي: أنها خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية، والذي نرجحه هو ما رجحه ابن كثير. وبهذا تنتهي الجولة الثانية من قصة موسى في هذه السورة. كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى من سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد رأينا في هذه المجموعة من السورة نموذجا على الإيمان الصادق بالله ورسوله، ونموذجا عن الإيمان اليقيني باليوم الآخر، وما هي آثار ذلك، فهؤلاء سحرة فرعون عند ما خالط الإيمان بالله واليوم الآخر قلوبهم، أعلنوا إيمانهم في وجه فرعون واستهانوا بكل عقوباته واتهاماته وتهديداته، ولم يبق في قلوبهم إلا الرغبة في رضوان الله ونيل ثوابه، وإذا كان المقطع قد قص علينا ما يفعله الإيمان، فقد قص علينا كذلك من خبر فرعون ما عرفنا به أن عدم الإيمان بوحي الله ليس إلا أثر الكبر والعنجهية.

أما الصلة بين مقدمة السورة وسياقها هنا فهي من حيث إنها تبين لنا أن الوحي تذكرة لمن يخشى، وقد رأينا كيف أن السحرة تذكروا، فلم يكن الوحي شقاء لموسى، ولا لهم، فالشقاء: هو بقاء الإنسان على الكفر ورفضه للحق، والعبرة بالخواتيم في الدنيا والآخرة، ولئن كانت خاتمة السحرة شهادة، فإنها سعادة إذ هي أمنية المؤمنين وقد نالوا رضوان الله، ولكن كيف كانت عاقبة فرعون، وماذا أعد له في الآخرة؟. إنه لا سعادة بدون هداية، ولا شقاء معها، ولا فلاح بدون إيمان ولا شقاء معه، وفي قول السحرة إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ما يفيد أن الإنسان لو عذبه الكافرون كل حياته لما كان ذلك يساوي شيئا، ولما كان ذلك بالنسبة له شقاء. ومن ثم فإننا ندرك- وسيزداد هذا الإدراك وضوحا- أن السورة تعالج موضوع التصور الخاطئ للشقاء والسعادة الذي عليه الكافرون، فالسعادة: هي الإيمان بالوحي واليوم الآخر، والشقاء: هو رفض ذلك، فالكفر شقي شقي مهما كان غارقا في اللذات، والمؤمن سعيد سعيد مهما كان غارقا في الآلام أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* ولننتقل إلى جولة جديدة من قصة موسى- عليه السلام- نرى فيها عاقبة فرعون، وعاقبة موسى وقومه، هي تعطي درسا جديدا لأهل الإيمان، وهذه الجولة تبدأ من الآية (77) إلى نهاية الآية (98)، ثم تأتي آيات تبين حكمة ذكر قصة موسى في هذا القرآن، وعاقبة الإعراض عن هذا القرآن، وتعرض لمشاهد من يوم القيامة، وتعود للكلام عن القرآن وخصائصه، وحكمة إنزاله، وكل ذلك بما ينسجم مع سياق السورة الخاص، ومع محورها ضمن السياق القرآني العام، ومن ثم فسنعرض هذه الآيات عرضا واحدا حتى نهاية الآية (114) أي إلى بداية قصة آدم عليه السلام، وذلك هو المقطع الثالث في السورة. ***

المقطع الثالث في السورة

المقطع الثالث في السورة ويمتد من الآية (77) إلى نهاية الآية (114) وهذا هو: [سورة طه (20): الآيات 77 الى 114] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى حين أصر فرعون على أن لا يرسل معه بني إسرائيل بعد كل الآيات والعقوبات أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي أمرناه أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ليلا، ويأخذ بهم طريق البحر فَاضْرِبْ لَهُمْ أي فاجعل لهم طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً أي يابسا لا تَخافُ دَرَكاً أي لحاقا وَلا تَخْشى أي وأنت لا تخشى أي اضرب لهم طريقا غير خائف أن يدركك فرعون وجنوده، أو يلحقوك، أو تغرق أنت وقومك فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أي خرج خلفهم ومعه جنوده فَغَشِيَهُمْ أي غطاهم مِنَ الْيَمِّ أي من البحر ما غَشِيَهُمْ قال النسفي أي: أصابهم من البحر ما غشيهم، هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله عزّ وجل وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ عن سبيل الرشاد وَما هَدى أي وما أرشدهم إلى الحق والسداد.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: ختم الله عزّ وجل الكلام عن فرعون بقوله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى مع أنه كان يقول لقومه كما قص الله علينا في مكان آخر وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (غافر: 29) مما أفهمنا أنه لا هدى إلا بالإيمان بما أنزل الله، كما ذكر الله في الآيتين اللتين هما محور هذه السورة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالخاتمة التي ختمت بها قصة فرعون دلت على أن الشقاء الحقيقي للكافرين، إذ لهم سوء العاقبة، وبعد سوء العاقبة لهم النار، فهذا هو الشقاء، أن يكون الإنسان ضالا، فيأخذه عذاب الله وهو كذلك، ثم له النار بعد ذلك. أما أهل الإيمان فالعاقبة لهم في الدنيا ولهم الآخرة، وهم سعداء في الدنيا بالإيمان والهدى، وسعداء في الآخرة بالنعيم. ثم اتجه السياق إلى مخاطبة بني إسرائيل يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى من قبل، وكلمه عليه من بعد، وأعطاه عليه الألواح، وسأله عليه الرؤية، وهذه المواعدة من أجل إعطاء الله موسى الألواح كما سنرى وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي في التيه. ذكرهم بأعظم نعمه عليهم: النجاة من العدو، وإنزال الكتب، وإنزال المن والسلوى في أيام التيه، حيث كانوا في أشد حالات الحاجة، ثم قال تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أباح لهم أن يأكلوا من الحلالات، وهذا من تمام النعمة، ثم حذرهم فقال وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي ولا تطغوا في رزقي، فتتعدوا حدود الله، وتكفروا نعمه، وتنحرفوا عن شريعته، ويظلم بعضكم بعضا فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي فأغضب عليكم وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي أي عقوبتي فَقَدْ هَوى أي فقد هلك، أو سقط سقوطا لا نهوض بعده، ثم بين لهم طريق التوبة بعد السقوط، إذا حدث طغيان وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق وَآمَنَ أي صدق بقلبه وَعَمِلَ صالِحاً أي بجوارحه ثُمَّ اهْتَدى أي استقام وثبت على الهدى، أي استقام على منهج الله وسار عليه حتى لقي الله، دل ذلك على أن الاهتداء الكامل أثر عن الإيمان والعمل الصالح والتوبة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: هذا الخطاب لبني إسرائيل فيه درس لأهل الإيمان ألا يطغوا؛ فإنهم إن طغوا حل بهم ما حل بالطغاة، ففرعون لم ينزل الله به عقابه إلا لطغيانه واعتدائه على أهل الإيمان، فإذا أصبح أهل الإيمان طغاة فانهم في هذه الحالة يصبحون كفرعون في استحقاقهم سخط الله وغضبه، ثم أكمل الله الدرس بأن دل على الطريق في حالة وقوع الطغيان وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح والاستقامة. إن أهل الإيمان إذا أيدهم الله قد يظنون أن لهم شأنا خاصا عند الله يبيح لهم أن يفعلوا ما شاءوا، فيخالفوا ويعصوا، فنبه الله عزّ وجل على ذلك في هذا السياق، ففي الآيات تنبيه لأهل الإيمان على منعرج خطر في الطريق. قد لاحظنا أن مما من الله على بني إسرائيل هو مواعدته إياهم جانب الطور الأيمن، وها قد وصل السياق إلى قصة هذه المواعدة، وكيف أن بني إسرائيل فتنوا خلال غيبة موسى عنهم، وكيف عالج موسى هذه الفتنة، والسياق ينقلنا مباشرة إلى مخاطبة موسى التي نفهم منها أن موسى قد سبق قومه إلى مكان الموعد وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي وأي شئ عجل بك عن قومك، أي أي شئ أوجب عجلتك، والاستفهام للإنكار كما قال النسفي، دل على أن التقيد الحرفي في الأوامر هو الكمال، فهذا موسى عجل للقاء الله مجتهدا، وهو في اجتهاده يتصور أن في ذلك مرضاة الله، ولا شك أن الشوق كان يدفعه ويحدوه، ومع ذلك أنكر الله عليه عجلته، كما دل على أن رعاية شئون الأمة بالمعاناة معها لإبقائها على أمر الله هو الوضع السليم، لا الانفراد والسبق، ولو كان بنية صالحة قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي هم خلفي يلحقون بي، وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة، ثم ذكر موجب العجلة فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ أي إلى الموعد الذي وعدت لِتَرْضى أي لتزداد عني رضا ولا نلاحظ أن الله عزّ وجل قد عاقبه على استعجاله، لأنه كان مجتهدا، وأقبل بنية صالحة سوى ذلك العتاب الذي بدأه به لما سأله عن سبب استعجاله، وهو أعلم، إلا أن السياق يفهمنا الكثير: وذلك أننا نعلم من سياق القصة في مكان آخر أن موسى- عليه السلام- بقي أربعين ليلة، وأعطاه الله الألواح فيها، وأعلمه فيها بما أحدث قومه، إلا أنه هنا قد

[سورة طه (20): آية 85]

طوى الكلام إلا عن الإخبار بما حدث لقومه بعده، وفي ذلك نوع إشعار بالخطإ في الاستعجال انعكس على الأمة بأسرها، وفي ذلك درس لأهل الإيمان بالالتزام الحرفي بالوحي أئمة ومأمومين، وهذا كله نفهمه من استعمال حرف الفاء في الجواب التي فيها ظلال السببية قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ .. ولننتقل إلى الآيات التالية: قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي ألقيناهم في فتنة مِنْ بَعْدِكَ من بعد خروجك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وإجابتهم له فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ من مناجاة ربه غَضْبانَ أَسِفاً أي شديد الغضب، شديد الحزن، وكيف لا يغضب ويحزن وهم قد عبدوا غير الله مما يعلم كل ذي عقل بطلان ما عبدوه، وموسى فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتسلم ما فيه هدايتهم وشرفهم من ربهم قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً قال ابن كثير: أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة، كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أيادي الله؟؟ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي في انتظار ما وعدكم الله، ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي بل أردتم بصنيعكم هذا أن تفعلوا فعلا يجب به عليكم الغضب من ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي ما وعدتموني إياه في توحيد الله وإقامة أمره قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي عن قدرتنا واختيارنا، أي ما أخلفنا موعدك إن ملكنا أمرنا، أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفنا موعدك، ولكنا غلبنا عليه، ثم بينوا كيف غلبوا بكيد السامري حيث أتاهم بمنطق في غاية الخبث، وها هم شرعوا في تبيانه وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي أثقالا من حلي القبط، أرادوا أنها آثام وتبعات لأنهم استعاروها ليلة الخروج من مصر وأخذوها فَقَذَفْناها أي فألقيناها عنا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ تحتمل أنه ألقى كما ألقوا، وتحتمل أن مثل هذا الإلقاء أي الوسوسة ألقى لهم السامري، أتاهم من منطق الورع الكاذب، ليصل بهم إلى الكفر، أتاهم أنكم خنتم المصريين يوم استعرتم حليهم استعارة، ثم أخذتموها، فهذا غير مباح لكم، فعليكم أن تتخلوا عنه، ونسي الخبيث أن موسى ما أمرهم بهذا إلا بأمر الله، وأن الله هو الذي يحل ويحرم فما أحله فهو الحلال، وما حرمه فهو الحرام فَأَخْرَجَ لَهُمْ السامري من هذا الذهب عِجْلًا جَسَداً أي مجسدا لَهُ خُوارٌ له صوت، فهو محكم الصنعة جدا، فمالت طباعهم إلى الذهب، وكان

[سورة طه (20): آية 89]

عندهم استعداد للشرك، بدليل أنهم طلبوا من موسى- كما قصه الله علينا في سورة الأعراف- أن يجعل لهم إلها عند ما مروا على قوم يعبدون أصناما لهم فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى أي قال السامري وأتباعه ومن وافقه: هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ إن كان الضمير يعود إلى موسى يكون المعنى: هذا إله موسى ولكنه نسي ربه هنا، وذهب يتطلبه، وإن كان الضمير يعود إلى السامري يكون المعنى: فنسي السامري بفعله ذلك ربه، وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر، أو نسي السامري أن العجل لا يكون إلها بدليل ما بعده: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي إن العجل عاجز عن الخطاب، والضر والنفع، فكيف تتخذونه إلها، أي أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا في دنياهم، أو أخراهم. نقل عن الظلال: بمناسبة الكلام عن السامري في الآيات يقول صاحب الظلال: (والسامري رجل من (السامرة) كان يرافقهم، أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب. وجعل [للعجل] منافذ إذا دارت فيها الريح، أخرجت صوتا كصوت الخوار، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد- ولفظ الجسد يطلق على الجسم الذي لا حياة فيه- فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل، وعكفوا على عجل الذهب، وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا: «هذا إلهكم وإله موسى». راح يبحث عنه على الجبل. وهو هنا معنا. وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه). وبمناسبة قول السامري الذي سيأتي: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها قال صاحب الظلال: (وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا. فما هو الذي بصر به؟ ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها؟ وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه؟ وما أثر هذه القبضة فيه؟. والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل- عليه السلام- وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض، فقبض قبضة من تحت قدمه، أو من تحت حافر فرسه، فألقاها على عجل الذهب، فكان له هذا الخوار. أو أنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار.

فائدة وكلمة حول السياق

والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية، ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث. وأنه هو الذي صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار. ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول). فائدة وكلمة حول السياق: فيما فعله السامري وقصه الله علينا درس بليغ جدا، فقد استغل السامري روح الورع التي رباها موسى- عليه السلام- في أتباعه ليوجهها توجيها سيئا، يخدم أغراضه الكافرة، وذلك قد يحدث دائما إذا لم يوجد علم ووعي، فهذا الذي فعله السامري في حياة موسى- عليه السلام- فعله عبد الله بن سبأ بعد وفاة رسولنا عليه الصلاة والسلام إذ استغل روح المثالية التي سيطرت على المسلمين، وروح الورع، واستغل السوابق التي كانت في عصر أبي بكر وعمر، وهي سوابق من الورع، فبدأ يطعن- كذبا وزورا- في تصرفات عثمان، مما أدى إلى الفتنة العمياء، التي لا زلنا نعاني من آثارها، أخذ بعض المسلمين بحبل الورع الجاهل ليصل بهم إلى الضلال المبين، وأي ضلال أفظع من قتل عثمان رضي الله عنه، إلا أن الشئ الذي ينبغي أن نسجله هنا أن الجيل الذي استطاع السامري إضلاله وفتنته هو نفس جيل موسى- عليه السلام- أما عبد الله بن سبأ فقد فتن جيلا أصبح الصحابة فيه قلة، وعلى كل حال فهذا الدرس يعلمنا أنه ما لم يكن كل فرد من المسلمين على غاية من العلم والوعي فإن استعدادهم للفتنة يبقى قائما، وقد تكون الفتنة باسم الدين نفسه. وفي كون هذه القصة جاءت في سياق السورة التي محورها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنها درس لأهل الإيمان أن يحذروا كل سامري يريد أن يفتنهم عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وبعد ما مر يصل السياق إلى أن يعرض علينا كيف عالج هارون وموسى- عليهما السلام- هذا الوضع وكل منهما رسول، ومن هذه المعالجة ندرك حكمة الله إذ جعل موسى رئيسا على هارون، وندرك أهمية العزم والحسم في تصرفات القائد الأعلى: وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ أي لمن عبدوا العجل مِنْ قَبْلُ أي من قبل رجوع

[سورة طه (20): آية 91]

موسى إليهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي ابتليتم بالعجل فلا تعبدوه وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا العجل فَاتَّبِعُونِي أي كونوا على ديني الذي هو الحق وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، من عبادة العجل قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي لن نزال مقيمين على العجل وعبادته حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أي حتى يعود إلينا موسى فننظر هل يعبده كما عبدناه، وهل صدق السامري أو لا، وهكذا خالفوا هارون في ذلك، وقد قص الله علينا في سورة الأعراف على لسان هارون قوله وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي وإذن كان موقفهم شديدا وسفيها. ولنذكر بهذه المناسبة موقف أبي بكر إذ ارتد من ارتد من العرب، كيف أنه أرجعهم إلى الجادة بحد السيف، لنعرف لأبي بكر فضله، وحاشا لله أن يكون في إشارتنا هذه انتقاص من هارون عليه السلام. فلنر كيف عالج موسى عليه السلام هذه الفتنة. بدأ موسى عليه السلام السيطرة على الموقف بتوجيه اللوم الشديد لأخيه، بل بتعزيره لما تصوره من تقصيره، بأن أخذ برأس أخيه يجره إليه كما قص الله علينا ذلك في سورة الأعراف، وكما يفهم من السياق هنا: قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي أي شئ منعك أن تتبعني حين لم يقبلوا قولك، وتلحق بي وتخبرني؟ أو ما منعك أن تتبعني في الغضب لله، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن، وما لك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهدا أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أي الذي قاله له يوم استخلفه وهو اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ كما ورد في سورة الأعراف قالَ يَا بْنَ أُمَّ قال ابن كثير: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه، لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي دل هذا على أن موسى قد أخذ بشعر رأس أخيه وبشعر لحيته غضبا وإنكارا عليه، لأن الغيرة في الله ملكته، ثم إن هارون ذكر عذره في عدم قتال من عبد العجل بمن لم يعبده فقال إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي ولم تحفظ قولي عند ما استخلفتك وهو كما مر في الأعراف وَأَصْلِحْ قال النسفي: وفيه دليل على الاجتهاد. أقول: وفي إنكار موسى على هارون دليل على أن القضاء على الكفر- ولو على حساب وحدة الأمة- هو الإصلاح، وليس الإصلاح هو المحافظة على وحدة الأمة مع الكفر، ثم تابع موسى عليه السلام عملية السيطرة على الفتنة، فأقبل على السامري منكرا قالَ فَما خَطْبُكَ

[سورة طه (20): آية 96]

يا سامِرِيُّ أي ما حملك على ما صنعت، وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت، والمعني الحرفي هو: ما أمرك الذي تخاطب عليه يا سامري قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها أي فطرحتها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي زينت لي نفسي أن أفعله ففعلته اتباعا لهواي، وهو اعتراف بالخطإ واعتذار، وليس توبة واستعدادا لقبول العقاب قالَ أي موسى فَاذْهَبْ أي من بيننا طريدا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي ما عشت أَنْ تَقُولَ لمن أراد مخالطتك جاهلا بمالك لا مِساسَ أي لا يمسني أحد، ولا أمسه ولنا عودة على هذا الموضوع وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذاك في الدنيا وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ أي معبودك العجل الَّذِي ظَلْتَ أي ظللت عَلَيْهِ عاكِفاً أي مقيما على عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ أي في البحر نَسْفاً أي لنذرينه في البحر تذرية، ومن هذا فهم بعض المفسرين أنهم بردوه في المبارد، ولما كانوا قد قالوا من قبل عن العجل هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فإن موسى ختم كلامه بقوله إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فليس غيره إلها وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل شئ، ومن كان هذا شأنه فهو وحده المستحق للعبادة، فأين تغيب عقولكم إذ تعبدون العجل؟! وبهذا قضى موسى على الفتنة وأرجع قومه إلى التوحيد، وفي ذلك درس لهذه الأمة كيف تقضي على كل انحراف. كلمة في السياق: نلاحظ أن قصة موسى جاءت بعد قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى * اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى * وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى .. وختمت قصة موسى بقوله تعالى: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً إن ذكر قصة موسى بين الآيتين المذكورتين تدليل على أن منزل القرآن وسع علمه كل شئ، وأنه يعلم السر وأخفى، كما أن في ذكر قصة موسى التي هي تكليف بالتوحيد ودعوة وحماية له بعد قوله تعالى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى نموذج على أن ما يدعو إليه القرآن من التوحيد هو دعوة كل الرسل، ومن ثم فالصلة بين قصة موسى ومقدمة السورة من الوضوح بما لا مزيد عليه، وتزداد الصلة وضوحا في أذهاننا إذا تذكرنا ما يلي:

[سورة طه (20): آية 99]

بدأت السورة بقوله تعالى طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى * اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. ثم قصة موسى، وبعد ذلك يأتي قوله تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً .. إن ذكر قصة موسى بين المقدمة وبين هذه الآيات تشير بوضوح إلى أن ذكر هذه القصة من باب التدليل على أن هذا القرآن من عند الله، الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم كل شئ، ولو لم تكن المسألة كذلك ما كان القرآن ليقص علينا أنباء ما قد سبق بمثل هذه الدقة، فإذا أدركنا هذا عرفنا كذلك الصلة بين ما مر معنا من السورة، وبين محورها من سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ .. فالسورة تعمق الإيمان بما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام من خلال الكلام عما أنزله من قبل وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .. ولنكمل تفسير الآيات ملاحظين أن ما سنفسره الآن هو المجموعة الثانية من المقطع الثالث، وهي تشكل فاصلا بين قصة موسى وقصة آدم فتبدأ بذكر الحكمة من عرض قصة موسى، ثم تنطلق بما يخدم سياق السورة الخاص وسياق القرآن العام كما سنرى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي مثل قصصنا عليك من قصة موسى وفرعون نقص عليك من أنباء ما قد سبق من أخبار الأمم الماضية؛ تكثيرا لبيناتك وزيادة في معجزاتك. قال ابن كثير فيها: أي: كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا ذِكْراً أي وقد أعطيناك من لدنا قرآنا، وسمي القرآن ذكرا لأن فيه ذكر الله، ولأنه يذكر الإنسان، ولأنه يثير فكره واعتباره، فهذه واحدة من خصائص هذا القرآن، أن كل ما فيه من قصص وأخبار وتشريع وتقرير ذكر ومذكر، فكتاب هذا شأنه، وهذه بعض من خصائصه لا يمكن أن يكون إلا من عند الله العزيز الحكيم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: بدأت السورة بقوله تعالى طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى وهاهنا نجد قوله تعالى وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً لاحظ الصلة بين الذكر والتذكرة، ثم لاحظ الصلة بين الآية الآتية مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً وبين ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى فليس الشقاء في اتباع القرآن، بل في الإعراض عنه، ثم لاحظ كيف أن قصة موسى كانت تذكرة وذكرا لمن يخشى، وهذا كله يشير إلى أن سياق السورة سائر على نسق واحد. ولنعد إلى التفسير: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي من كذب بهذا الذكر وهو القرآن، وتولى عنه ولم يؤمن به فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي عقوبة ثقيلة سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب، وصعوبة احتمالها، بالحمل الثقيل خالِدِينَ فِيهِ أي في الوزر، أي في جزائه وهو العذاب وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي وساء الحمل حملا وزرهم. قال ابن كثير: وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم كما قال تعالى لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فكل من بلغه القرآن فهو نذير له، وداع فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي ينفخ إسرافيل فيه، ولنا عودة على ذلك في الفوائد وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً أي عميا وهذا لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق، ويمكن أن يراد زرقة أجسامهم من ثقل ما هم فيه يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتسارون بينهم، أي يقول بعضهم لبعض سرا لهول ذلك اليوم: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال، يستقصرون مدة لبثهم في القبور، أو في الدنيا؛ لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسفون عليها، ويصفونها بالقصر، لأن أيام السرور قصار، أو لأنها ذهبت عنهم، والذاهب- وإن طالت مدته- قصير الانتهاء، أو لاستطالتهم الآخرة، لأنها أبد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي في حال تناجيهم بينهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أعدلهم قولا، أي العاقل الكامل فيهم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد. قال ابن كثير: لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها، وتعاقبت لياليها وأيامها

[سورة طه (20): آية 105]

وساعاتها، كأنها يوم واحد، ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة، وكأن غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي يذهبها عن أماكنها، ويمحقها ويسيرها تسييرا فَيَذَرُها أي فيذر مقارها قاعاً صَفْصَفاً أي مستوية ملساء، هذا إن عاد الضمير إلى الجبال، وإن عاد إلى الأرض يكون المعنى: فيتركها بساطا واحدا. قال ابن كثير: والقاع: هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك لا تَرى فِيها عِوَجاً أي انخفاضا وَلا أَمْتاً أي ارتفاعا يَوْمَئِذٍ أي يوم تكون الأرض كذلك يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ إلى المحشر، أي صوت الداعي وهو إسرافيل لا عِوَجَ لَهُ أي لا يعوج له مدعو بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي وسكنت الأصوات هيبة وإجلالا للرحمن فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي إلا صوتا خفيا لتحريك الشفاه أو المعنى: فلا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر، إذ تسمي العرب صوت أخفاف الإبل همسا. قال ابن كثير: (وقال سعيد بن جبير فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً الحديث وسره، ووطء الأقدام، فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال فقد قال تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (هود: 105) يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عنده إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضي له قولا بأن يكون المشفوع له مسلما يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه وَلا يُحِيطُونَ بِهِ أي بالله عِلْماً لأنه لا يعرف الله حق المعرفة إلا الله وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي وخضعت وذلت لِلْحَيِّ الذي لا يموت الْقَيُّومِ الدائم القائم على كل نفس بما كسبت، أو القائم بنفسه الدائم بتدبير الخلق وَقَدْ خابَ أي قد يئس من رحمة الله مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي من حمل إلى موقف القيامة شركا، لأن الظلم: وضع الشئ في غير موضعه، ولا ظلم أشد من جعل المخلوق شريكا لله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي الطاعات وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي مصدق بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، قال

[سورة طه (20): آية 113]

النسفي: وفيه دليل أنه يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحة، وأن الإيمان شرط قبولها فَلا يَخافُ ظُلْماً بأن يزاد في سيئاته وَلا هَضْماً أي ولا ينقص من حسناته؛ إذ أصل الهضم: النقص والكسر وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا هذه الآية معطوفة على قوله تعالى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ كما ذكر النسفي: والمعنى: ومثل ذلك الإنزال أنزلناه قرآنا عربيا أي بلسان العرب، وفي ذلك إشارة إلى فصاحة هذا القرآن، ودقة بيانه إذ ليس كبيان العرب في الفصاحة والبيان وَصَرَّفْنا أي وكررنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي من الإنذار لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي يجتنبون الشرك، ويتركون المآثم والمحارم والفواحش أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ أي القرآن أو الإنذار فيه ذِكْراً عظة وتذكرة فيفعلون الطاعات والقربات. كلمة في السياق: نلاحظ أنه قد وردت آيتان كل منهما مبدوءة بكلمة (كذلك) هما: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً التي جاءت بعد قصة موسى مباشرة. والآية الثانية: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً وما بين ذلك جاء هذا التذكير العالي، والإنذار المخيف، والوصف المدهش لليوم الآخر، وما يكون فيه، فكان ذلك نموذجا على الذكر في هذا القرآن، ونموذجا على ما في هذا القرآن من تصريف الوعيد، ورفع للإنسان إلى حقيقة التقوى، أو التذكر بهذه العظة الرائعة، ومن الآيتين ومما ورد بينهما نرى بعض خصائص هذا القرآن، من كونه ذكرا ومذكرا ومنذرا، ومن كون هذه الخصائص موجودة فيه على أرقاها، والنموذج الذي بين هاتين الآيتين دليل على ذلك وكتاب جاء ليفصل كل شئ، وكانت آياته كلها فيها هذه الخصائص وغيرها مجتمعة، دليل على أنه من عند الله، ومن ثم فإننا نلاحظ أن الآية التي بعد الآية الأخيرة بدأت بقوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ إن من عرف خصائص هذا القرآن، عرف علو الله وعظمته وإحاطة علمه. ولا شك أن القارئ لا تغيب عنه الصلة بين هذه المجموعة وسياق السورة الخاص، فالسورة قالت في بدايتها عن هذا القرآن: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى وقالت هاهنا: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً. فالآية تؤكد أن القرآن للتذكير، ولتربية الخشية، وبنفس الوقت تعلل لكون القرآن تذكرة لمن يخشى

[سورة طه (20): آية 114]

بقولها وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ فتصريف الوعيد، وكون القرآن ذكرا، تفصيل لكون القرآن تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى التي وردت في أول السورة، وفي قوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً تفصيل لما يحدثه القرآن عند من يخشى، فهو يحدث له تقوى أو تذكرا. فما بين الآيتين [كذلك- وكذلك] وما بين مقدمة السورة صلة واضحة وفيما بين الآيتين نموذج على خصائص هذا القرآن المذكورة. وقصة موسى تخدم سياق السورة من هذا كله ندرك كيف سار السياق الخاص للسورة. والآن لنرى الصلة بين المجموعة الأخيرة والسياق العام للقرآن: إن محور هذه السورة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ .. وهذه المجموعة بدأت بتهديد من لم يؤمن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً ثم أنذرت هؤلاء المعرضين، وبشرت المؤمنين، ثم ذكرت من خصائص هذا القرآن لتنمية الإيمان به، ثم ختمت الآية الأخيرة بقوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً وفي ذلك بيان أن مقتضى الإيمان بهذا القرآن الوصول إلى التقوى، والخروج من الغفلة فالإيمان بالقرآن له آثاره العملية إذن، وقد حدد الله أثرين من آثار الإيمان بهذا القرآن، تذكر الآن الآيات الأولى من سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تذكر هذه الآيات لتجد الصلة على أشدها ما بين سورة طه ومحورها من سورة البقرة، ولم يبق عندنا من المجموعة إلا آية واحدة لم نفسرها فلنفسرها، ثم لنر محلها في السياق: فَتَعالَى اللَّهُ أي تنزه وتقدس وارتفع عن فنون الظنون وأوهام الأفهام، ومضاهاة الأنام، ومشابهة الأجسام الْمَلِكُ الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما الْحَقُّ أي المحق في الوهيته وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي ولا تعجل بقراءة القرآن إذا لقنك جبريل إياه، من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ، بل أنصت وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي بالقرآن ومعانيه. قال النسفي: (وقيل ما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شئ إلا في العلم) وبهذه الآية انتهت المجموعة الثانية من المقطع الثالث. فلنر محل هذه الآية في السياق الخاص والعام:

كلمة في سياق هذه الآية

كلمة في سياق هذه الآية: تتألف هذه الآية من ثلاث فقرات: 1 - فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ قررت هذه الآية أن الله هو المالك، وهو الحق، وهو المنزه، المتعالي وقد رأينا في بداية السورة قوله تعالى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى وقلنا هناك: إن هذا تعليل لإنزال القرآن، وكونه على هذه الشاكلة، فالله الملك لكل شئ، أنزل هذا القرآن على عبيده، وكلفهم به، فذلك شأنه، وعلى المؤمن التسليم والإيمان، فالصلة بين اسم الملك هنا وبين سياق السورة واضح، وفي ذكر اسم الحق في هذا السياق الذي هو حديث عن هذا القرآن وضرورة الإيمان به إشارة إلى أن كتابه حق؛ لأن الله الذي أنزله حق، وفي قوله فَتَعالَى في هذا السياق إشارة إلى أن الله من العلو بحيث يكون كتابه على مثل هذا الكمال، فالصلة بين هذه الفقرة وبين سياق السورة قائمة. 2 - وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ في هذه الفقرة توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلزام له بأدب الصمت حين التلقي، وإذا تذكرنا ما قلناه عند قوله تعالى لموسى فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى عرفنا أن تأديب الله لرسله عليهم السلام واحد: الإنصات عند التلقي، ومن مثل هذه النكات الدقيقة التي ترينا هذه الوحدة في التربية الربانية على مدى العصور، وهذه الوحدة التي نرى فيها كل كلمة في القرآن، ترتبط بغيرها وتكملها ولا ينقض منها شئ شيئا، من مثل هذا نجد كيف أن هذا القرآن جل أن يكون من عند البشر. وفي هذه الفقرة شئ آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متلق هذا القرآن تلقيا، وهو مخاطب به، ومكلف فيه، ويؤمر من أجل ذلك بأوامر، ففي ذلك تأكيد على أن هذا القرآن من عند الله، وأن محمدا رسول الله ليس إلا، ويخدم هذا المعنى الفقرة الثالثة في الآية. 3 - وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وفي هذا الأمر في هذه الآية المبتدأة بقوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ إشارة إلى أن هذا القرآن فيه ما لا يتناهى من العلوم. فهل اتضحت بهذا كله الصلة بين هذه الآية وسياق السورة ولماذا استقر عليها سياق المقاطع الثلاثة:

الفوائد

الله هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم، فتعالى الله الملك الحق. أنزل الله هذا القرآن للإسعاد لا للإشقاء، فتعالى الله الملك الحق. فيا أيها الذي أنزل عليه هذا القرآن استمع، وأنصت، واطلب من الله مزيد العلم، بدأت مقدمة السورة بالخطاب المباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقر المقطع الثالث على الخطاب المباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله بهذا كله اتضحت صلة هذه الآية بالسياق القرآني العام، أي بمحورها من سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الذين يؤمنون بما أنزل الله الملك الحق، الذي أمرك- أيها الرسول- أن تنصت إذا أنزل عليك القرآن، والذي أمرك أن تطلب منه مزيد العلم، فأنت منزل عليه، وأنت متلق عن الله، وكل ذلك قام عليه الدليل، فعلى الإنسان أن يؤمن بما أنزل عليك. وهكذا انتهى المقطع الثالث من هذه السورة، ولقد عرضنا المقاطع الثلاثة عرضا مستمرا مؤخرين الفوائد التي اعتدنا أن نقدمها وراء المقطع الواحد أو المجموعة الواحدة لأن فهم السياق اقتضى منا ذلك. وإذ لم يبق عندنا إلا مقطع واحد في السورة، ثم خاتمة السورة، فإننا نذكر هنا الفوائد المتعلقة بالمقاطع الثلاثة: الفوائد: 1 - إن ما ورد في السورة من قصة موسى نجده في سفر الخروج، وكنا نقلنا نقولا كثيرة من ذلك عند الكلام عن سورة الأعراف، وبينا قيمة هذه النقول، وذكرنا كيف أن كل كتب العهد القديم فيها علامة تحريفها، ومن ثم فلا تصلح أساسا للفهم، ولا للاعتماد، ولا للتفصيل، ولا للنظر لما فيها من الخلط والخبط والخطأ والتشويه، فمن ذلك مثلا أنها- في موضوعنا- تذكر أن هارون عليه السلام هو الذي صنع لهم العجل ليعبدوه فالحمد لله الذي أكرمنا بهذا القرآن، وأعطانا التصور الصحيح للحق الذي نزه به الأنبياء عليهم السلام، وإذا كانت التوراة الحالية على مثل هذه الشاكلة من الخلط والخبط، فإنك تجد فيها الحوادث مختلطة، فيها تقديم وفيها تأخير، وفيها تحريف، وذلك أثر عن ضياعها وجمعها بعد زمن طويل، كما أثبتنا ذلك في أكثر من مكان في هذا التفسير، ومن ثم فإن فيما قصه الله علينا كفاية.

2 - بمناسبة قوله تعالى وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ذكر ابن كثير ما أسماه بحديث الفتون الذي استغرق أربع صفحات من تفسيره، ثم ختمه بأن علق عليه بقوله: (وكأنه تلقاه ابن عباس مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار. أو غيره والله أعلم، ثم قال: وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك) أقول: الذي يبدو: أن هذا الكلام الذي قاله ابن عباس هو حصيلة ما يمكن أن يكون سمعه من أهل الكتاب، أو فهمه من القرآن أو سمع بعضه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا عرفنا قيمة النقل عن أهل الكتاب فيما هو عنهم، فلا حرج علينا من نقله، خاصة وقد أخرجه النسائي في سننه. قال ابن كثير ناقلا عن النسائي بسنده إلى سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عزّ وجل لموسى عليه السلام وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فسألته عن الفتون ما هو فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا. فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام، فقال فرعون: كيف ترون. فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه. ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم؛ فاقتلوا عاما كل مولود ذكرا، واتركوا بناتهم، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم؛ فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة. فلما كان من قابل، حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به. فأوحى الله إليها وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم. فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت بابني لو ذبح

عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه، فأردن أن يفتحن التابوت، فقالت بعضهن: إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه، فيه فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاما، فألقى الله عليه منها محبة لم تلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شئ إلا من ذكر موسى. فلما سمع الذباحون بأمره، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك فقال فرعون: يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن حرمه ذلك» فأرسلت إلى من حولها، إلى كل امرأة لها، لأن تختار له ظئرا فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها، فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والها، فقالت لأخته قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا، أحي ابني أم أكلته الدواب، ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى شئ بعيد، وهو إلى جنبه لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤارات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له، هل تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير. فقالت نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك، فتركوها فانطلقت إلى أمها، فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها، أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا الوه خيرا فعلت، فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله منجز وعده فرجعت به إلى بيتها من

يومها، وأنبته الله نباتا حسنا، وحفظه لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم. فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فدعتها يوما تزورها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظئورها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة، لأرى ذلك، وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون. فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم قالت: لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به. وأريد به فتونا، فجاءت امرأة فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني، فقالت: اجعل بيني وبينك أمرا يعرف الحق به، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل. فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به، وكان الله بالغا فيه أمره، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي. فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل، وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع، إلا أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عزّ وجل والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، ثم قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار فأتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن

يقيد بغير بينة ولا ثبت، فاطلبوا لي علم ذلك؛ آخذ لكم بحقكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذ بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى، فندم على ما كان منه، وكره الذي رأى، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: إنك لغوي مبين، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، إنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي وقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا وانطلق الفرعوني، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم، يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جبير. فخرج موسى متوجها نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عزّ وجل، فإنه قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ* وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ يعني بذلك: حابستين غنمهما فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا، حتى كان أول الرعاء، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى عليه السلام، فاستظل بشجرة وقال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا، فقال: إن لكما اليوم لشأنا فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان، ولسنا في مملكته فقالت إحداهما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فاحتملته الغيرة على أن قال لها ما يدريك، ما قوته وما أمانته، فقالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه

حتى بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين. فسري عن أبيها وصدقها، وظن به الذي قالت، فقال له: هل لك أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ* سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة، وكانت سنتان عدة منه، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا، قال سعيد وهو ابن جبير: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك، فقال: أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة، لم يكن نبي لينقص منها شيئا، ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى مدته التي كان وعده، فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت: أجل وأولى، فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون، وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا جميعا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ قال: فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن قال: فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله، وترسل معنا بني إسرائيل فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة، فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني: من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، يعني: ملكهم الذي هم فيه، والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير، حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بما يعمل هذا الساحر؟ قالوا يعمل

بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر والحيات، والحبال والعصي، الذي نعمل، فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي، وأنا صانع إليكم كل شئ أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة، وأن يحشر الناس ضحى، قال سعيد بن جبير فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ يعنون موسى وهارون استهزاء بهما؛ فقالوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزا إلى الثعبان تدخل فيه، ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من الله عزّ وجل، آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله، ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، ظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإن كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك أخلف موعده، ونكث عهده، حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة، حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا، وانتهى إلى البحر وله قصيف، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل، فيصير عاصيا لله. فلما تراءى الجمعان وتقاربا قالَ أَصْحابُ مُوسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ افعل ما أمرك به ربك، فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال: وعدني ربي

إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ثم ذكره بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى، فلما أن جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه، حتى استيقنوا بهلاكه، ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ* قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ الآية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال: أطيعوا هارون؛ فإني قد استخلفته عليكم، فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها. فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما، وقد صامهن ليلهن ونهارهن، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه، فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان قال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع فصم عشرا ثم ائتني، ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل، ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري، وودائع لكم فيها مثل ذلك، فإني أرى أنكم تحتسبون مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها، ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوها في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقته، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري ألا تلقي ما في يدك، وهو قابض عليه، لا يراه أحد طول ذلك فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشئ إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد. فألقاها ودعا له هارون، فقال أريد أن يكون عجلا، فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلا أجوف ليس فيه روح وله خوار. قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره، وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقا،

فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه، وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا، هذه أربعون يوما قد مضت، وقال سفهاؤهم أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً فقال لهم ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره، واستغفر له، وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ وفطنت لها وعميت عليكم. فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً. ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذي كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها، فيكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك لا يألوا الخير، خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله من قومه، ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل، وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة، فقال له: إن توبتهم أن كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي علي موسى وهارون، واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، وغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الأرض

المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب. فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوما جبارين، خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها. فقالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون، قيل ليزيد هكذا قرأه قال نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه، قالوا نحن أعلم بقومنا إن كنتم تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ويقول أناس إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون بنو إسرائيل قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ فاستجاب الله له، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا، وأمر موسى فضربه بعصاه؛ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس. 3 - في قوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أكثر من اتجاه للمفسرين ذكر منها ابن كثير قولين، وأشار إليها النسفي كلها وهذا كلام النسفي وابن كثير: قال النسفي: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (أي لتذكرني فيها، لاشتمال الصلاة على الأذكار، أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالمدح والثناء، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو لتكون لي ذاكرا غير ناس، أو لأوقات ذكري، وهي مواقيت الصلاة لقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها، وذا يصح بتقدير حذف المضاف، أي لذكر صلاتي، وهذا دليل على أنه لا فريضة بعد التوحيد أعظم منها).

وقال ابن كثير: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (قيل معناه: صل لتذكرني، وقيل معناه: وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما روى الإمام أحمد ... عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال وأقم الصلاة لذكري» وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك». أقول: والقول الأول هو الذي رجحناه ومشينا عليه في التفسير، وليس في استشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية دليل على غير هذا الفهم كما تصوره ابن كثير). 4 - يعلل المفسرون وجود اللثغة في لسان موسى بسبب ما ذكره ابن عباس في حديث الفتون، من أنه وضع الجمرة في فيه وهو صغير، وبمناسبة قوله تعالى على لسان موسى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي يقول ابن كثير: (وقال الحسن البصري «احلل عقدة من لساني» قال حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي، وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه، وقال ابن أبي حاتم: ... عن محمد بن كعب قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك، فقال القرظي: يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك قال: نعم. قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه، ولم يزد عليها، هذا لفظه). 5 - هل كان هناك فاصل زمني بين الإيحاء لموسى والإيحاء لهارون؟ قولان للمفسرين: والذي يذهب إليه ابن عباس أن هارون نبئ في الساعة التي نبئ بها موسى، أي بعد دعاء موسى، ولقد سرنا في التفسير على القول الآخر، وفي الإصحاح الرابع من التوراة الحالية المحرفة (وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى، فذهب والتقاه في جبل الله، وقبله فأخبر موسى هارون بجميع كلام الرب الذي أرسله وبكل الآيات التي أوصاه بها). وبمناسبة قول موسى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي يذكر ابن كثير هذه القصة التي أخرجها ابن أبي حاتم عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري.

قال أنا والله أدري: قالت: فقلت في نفسي: في حلفه لا يستثني أنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه. قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت صدق والله. 6 - بمناسبة قوله تعالى ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى يذكر ابن كثير ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «التقى آدم وموسى فقال موسى أتت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم. قال فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني قال نعم. قال فحج آدم موسى» أخرجاه. 7 - ذكر النسفي عند قوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أن هذه الآية تليت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال: هذا رفقك بمن يقول أنا إله، فكيف بمن قال: أنت الإله. وهذا رفقك بمن قال: أنا ربكم الأعلى فكيف بمن قال سبحان ربي الأعلى. 8 - بمناسبة قول موسى وهارون لفرعون: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يذكر ابن كثير أن رسولنا عليه الصلاة والسلام كان يخاطب غير المسلمين في مكاتباته بهذا: السلام على من اتبع الهدى. قال ابن كثير ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتابا كان أوله: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين». 9 - بمناسبة قوله تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى قال ابن كثير: وفي الحديث الذي في السنن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم، ثم أخذ أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى». أقول: وهذا الحديث هو أصل ما يفعله المسلمون أو بعضهم، إذ يأخذ كل منهم ثلاثة قبضات أو قبضة من تراب، ويضعها في زنبيل، يمرره أحدهم عليهم عند دفن الميت، ثم يوضع التراب في القبر، غير أن أكثرهم لا يعلم لم يفعل ذلك وما أصله وما الحكمة فيه.

10 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى يذكر ابن كثير الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم .. عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخذتم- يعني الساحر- فاقتلوه» ثم قرأ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى قال لا يؤمن حيث وجد. 11 - وبمناسبة قوله تعالى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى يذكر ابن كثير الأحاديث التالية: قال الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما، أذن في الشفاعة جيء بهم ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية وهكذا أخرجه مسلم. وقال ابن أبي حاتم .. عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى قال رسول الله «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فتجعل الضبائر، فيؤتى بهم نهرا يقال له الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل». 12 - وبمناسبة قوله تعالى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى يذكر ابن كثير الأحاديث التالية: أخرج الإمام أحمد .. عن عبادة ابن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاه درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» رواه الترمذي .. عن أبي مالك عن أبيه قال: كان يقال الجنة مائة درجة، في كل درجة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فيهن الياقوت والحلي، في كل درجة أمير، يرون له الفضل والسؤدد». وفي الصحيحين: «أن أهل عليين ليرون من فوقهم كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء؛ لتفاضل ما بينهم» قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء قال «بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وفي السنن «أن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما».

13 - بمناسبة قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء فسألهم فقالوا هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال: «نحن أولى بموسى فصوموه». 14 - بمناسبة اعتذار من عبد العجل لموسى بقولهم وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قال ابن كثير: (وحاصل ما اعتذار به هؤلاء الجهلة، أنهم تورعوا عن زينة القبط، فألقوها عنهم، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير، وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب- يعني هل يصلي فيه أم لا- فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الحسين وهم يسألون عن دم البعوضة). 15 - هناك سؤال يطرح نفسه وهو: نلاحظ أنه في الهند يعبدون البقر، وفي الهند طبقة المنبوذين الذين لا يلمسون غيرهم من بقية الطبقات ولا يلمسهم غيرهم. ما الصلة بين ذلك، وبين قصة السامري وعقوبة موسى له بأن يقول: (لا مساس)؟ والذي دعانا إلى طرح هذا السؤال: أن بعض المفسرين يذكرون أن السامري ليس من بني إسرائيل. قال ابن كثير: (وفي رواية ابن عباس أنه من كرمان وبعض المفسرين قال: ولا زالت بقاياهم حتى الآن). قال ابن كثير وقال قتادة: أن تقول لا مساس قال عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس. ونحن الآن لا نعرف أحدا يقول لا مساس إلا طبقة المنبوذين في الهند، فهل ربط هؤلاء المفسرون هذه الظاهرة بهذه القصة؟ موضوع يحتاج إلى تحقيق لقبوله أو رفضه، فهل السامري ترك الأرض المقدسة، وذهب إلى بلد كالهند، وهؤلاء من ذريته وأتباعه، خاصة وأهل الهند يعظمون البقر، أو أن حادثا مشابها حدث في الهند عاقب الله به أصحابه هذه العقوبة على يد رسول، ثم حرفت الديانة، واختلط الأمر وبقيت هذه القضية أثرا عن ذلك- الله أعلم. 16 - بمناسبة قوله تعالى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قال ابن كثير: (ثبت في الحديث

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: «قرن ينفخ فيه» وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم- الدائرة منه بقدر السموات والأرض- ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وجاء في الحديث «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن» فقالوا يا رسول الله كيف نقول؟ قال «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا»). 17 - بمناسبة قوله تعالى يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يقول ابن كثير: (وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلائق على الله عزّ وجل أنه قال: «آتي تحت العرش وأخر لله ساجدا، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع قال: فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود .. فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء، وفي الحديث أيضا: يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيخرجوا خلقا كثيرا، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) الحديث. 18 - وبمناسبة قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً يقول ابن كثير: (فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء. وفي الحديث يقول الله عزّ وجل «وعزتى وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم». وفي الصحيح: «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). 19 - بمناسبة قوله تعالى وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ قال ابن كثير: كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية، يعني أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشد الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه فقال لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا

المقطع الرابع

جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرؤه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ وقال في هذه الآية وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي بل أنصت فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأ بعده». 20 - وبمناسبة قوله تعالى وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً قال ابن كثير: أي زدني منك علما. قال ابن عيينة رحمه الله ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عزّ وجل، ولهذا جاء في الحديث «إن الله تابع الوحي على رسوله حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي صلى الله عليه وسلم». وقال ابن ماجه ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني، وزدني علما والحمد لله على كل حال». ولننتقل إلى المقطع الرابع في السورة. المقطع الرابع ويمتد من الآية (115) إلى نهاية الآية (127). [سورة طه (20): الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي أوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة، والمعنى: وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه ألا يقرب من الشجرة مِنْ قَبْلُ أي من قبل وجود بنيه فخالف إلى ما نهي عنه، كما أنهم يخالفون، يعنى أن أساس أمر بني آدم على المخالفة وعرقهم راسخ فيها فليحذروا فَنَسِيَ أي نسي آدم العهد أي النهي قال النسفي: والأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بالنسيان الذي لو تكلفوا لحفظوه وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي ولم نجد له قصدا في الخلاف لأمر الله، أو لم يكن آدم من أولي العزم، أو: وعد منا له عزما، دل المعنيان الأخيران على أن التكليف يحتاج إلى عزم وقوة نفس تتحمل به صراع الشهوات وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أي اذكر ذلك، والسجود الذي أمروا به يحتمل أنه السجود اللغوي الذي هو الخضوع والتذلل، ويحتمل أنه سجود حقيقي، وكان آدم فيه كالقبلة لضرب تعظيم له فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الذي كان من الجن ودخل في الأمر مع الملائكة لأنه يصحبهم ويعبد الله معهم أَبى أي امتنع واستكبر فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ أي حواء حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي فلا يكونن سببا لإخراجكما فَتَشْقى أي فتتعب وتعنى، وتشقى في طلب رزقك فإنك هاهنا في عيش رغيد هنئ بلا كلفة ولا مشقة وإنما قال: فتشقى ولم يقل فتشقيا مراعاة لرءوس

[سورة طه (20): آية 118]

الآي، وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل هو الكافل للمرأة إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها أي في الجنة وَلا تَعْرى أي عن الملابس لأنها معدة أبدا فيها وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها أي لا تعطش لوجود الأشربة وَلا تَضْحى أي لا يصيبك حر الشمس إذ ليس فيها شمس، فأهلها في ظل ممدود، قرن بين الجوع والعري لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر، وقرن بين الظمأ لأنه حر الباطن وهو العطش وبين الضحى الذي هو حر الظاهر، دل ذلك على أن الإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب واللباس والسكن، وذلك كله كان مؤمنا لآدم وزوجته بدون عناء، فعصيا، فأخرجا فلم يعودا يحصلان على هذا إلا بالعناء، فكان شقاؤهما أثرا عن المخالفة وهذا الإنسان الآن على الأرض، فعند ما ينزل الله له وحيا فإنما ذلك لإسعاده لا لإشقائه، ولإعادته إلى دار سعادته، الجنة لا لغير، وإنما يزيد شقاؤه في الدنيا بإعراضه عن وحي الله ثم مأواه النار في آخرته بإعراضه عن هذا الوحي، فإذا اتضح لك هذا فقد اتضحت لك الصلة بين هذه الآيات وبين قوله تعالى في مقدمة السورة ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى كلمة في السياق وفي حكمة تكرار القصص القرآني: نلاحظ في هذه السورة أن قصة آدم قد ذكرت هنا لتعليل الإشقاء، وتبيان حقيقته وهذا ينسجم مع السياق الخاص لسورة (طه) المبدوءة بقوله تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى نقول هذا لنبين أن القصة عند ما تتكرر في القرآن فإنها في كل مرة تقدم خدمة خاصة تتفق مع سياق السورة الخاص، منسجمة مع محور السورة العام، ومن الملاحظ أن كثيرا من قصص القرآن يعرض قسم منها في مكان وقسم آخر في مكان آخر، وتبرز منها بعض قضايا في مكان وتبرز منها بعض قضايا في مكان آخر، وكل ذلك لتؤدي دورها في سياق السورة ومحل السورة من السياق القرآني، هذا عدا عن كون القصة القرآنية دائما من القصص الخالد الذي يذكر الإنسان في كل حالة يحتاج الإنسان إلى أن يتذكر، وتكرار ذكر بعضها لأنها من النوع الذي يحتاج الإنسان أن يتذكره أكثر من غيره ومن ذلك قصة آدم عليه السلام فإن الإنسان يحتاج أن يتذكرها دائما. ولنعد إلى لتفسير ... فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي أنهى إليه الوسوسة قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وهو الخلود لأن من أكل منها خلد- بزعمه- ولا يموت وَمُلْكٍ لا

[سورة طه (20): آية 121]

يَبْلى أي لا يفنى، دل ذلك على أن الرغبة في الخلود والملك نزعتان عميقتان في الطبيعة البشرية استغلها الشيطان لحرف الإنسان عن أمر الله، وهما نزعتان لا يزال الشيطان يستغلهما لصرف الإنسان عن وحي الله وكتبه، فمن أجل الخلود المزعوم نجد كثيرا من الزعماء والقادة يفعلون الكثير من الباطل على حساب الحق، ومن أجل الملك نجد الكثير يفعل الكبير من الجرائم على حساب العدل، ولا خلود ولا ملك إلا بالتزام أمر الله فذلك الملك الحقيقي، وذلك الخلود الحقيقي إن الرحمن يدل الإنسان على طريق الملك والخلود الحقيقية، وأما الشيطان فإنه يدله على طريق الملك والخلود الزائفين، ولذلك قال الله تعالى في سورة الأعراف فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. فَأَكَلا أي آدم وحواء مِنْها أي من الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي فظهرت لهما عوراتهما، وفي ذلك إشارة إلى أن الستر ملازم لتنفيذ الأمر، وهذه البشرية الآن تعرت عريا فظيعا لطاعتها للشيطان في مخالفة الأمر، إن الشيطان لا يزال بمن يطيعه حتى يعريه تماما وَطَفِقا أي وشرعا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يلزقان الورق بسوءاتهما للتستر وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فضل عن الرأي قال النسفي: (والحاصل أن العصيان وقوع الفعل على خلاف الأمر والنهي، وقد يكون عمدا فيكون ذنبا، وقد لا يكون عمدا فيكون زلة، ولما وصف فعله بالعصيان خرج فعله من أن يكون رشدا، فكان غيا لأن الغي خلاف الرشد، وفي التصريح بقوله وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى والعدول عن قوله وزل آدم مزجرة بليغة وموعظة كافة للمكلفين، كأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلا عن الكبائر). ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي قربه إليه واصطفاه فَتابَ عَلَيْهِ أي قبل توبته وَهَدى أي وهداه إلى الاعتذار والاستغفار قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً يعني آدم وحواء دل هذا على أن المعصية ولو أعقبتها توبة وقبول من الله فإنها لا تمر بلا نوع عقوبة، نسأل الله اللطف بَعْضُكُمْ يا ذرية آدم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين، والتباغي بأمراض النفوس، وفي ذلك الشقاء الذي جاءت شرائع الله لتخلص الإنسان منه فليس في اتباع الوحي الشقاء ولكن في الإعراض عنه فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي كتاب وشريعة، أو وحي بشكل عام فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: (لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة).

[سورة طه (20): آية 124]

قال النسفي: يعني أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أي خالف أمري وما أنزلته على رسلي فتناساه وأخذ من غيره هداه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ضيقة في الدنيا. قال ابن كثير: فلا طمأنينة ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا قالَ كَذلِكَ أي مثل ذلك فعلت أنت، عميت عن الحق في الدنيا أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أتتك آياتنا واضحة فلم تنظر إليها بعين المعتبر، وتركتها وعميت عنها، فكذلك اليوم نتركك على عماك، ولا نزيل غطاءك عن عينيك وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى فالجزاء من جنس العمل، أي لما أعرضت عن آيات الله، وتناسيتها، وأغفلتها وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ أي وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ ألما من عذاب الدنيا وَأَبْقى أي وأدوم، وبهذا انتهى المقطع الرابع. كلمة في السياق: وهكذا استقرت قصة آدم عليه السلام على السنة الخالدة فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى فالضلال والشقاء ملازمان للإعراض عن دين الله، والهداية والسعادة ملازمان لاتباع دين الله، والصلة بين هذا وبين قوله تعالى في أول سورة طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى واضحة، فالسنة الخالدة لله تعالى هي أنه إنما ينزل وحيا، ويبعث رسلا للإسعاد لا للإشقاء، وللهداية والإكرام لا للإضلال والإبعاد فقصة آدم هنا إذن تخدم السياق الخاص لسورة طه بشكل واضح مبين. ولنتأمل الآن صلة هذا المقطع بمحور السورة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ

رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إن الصلة واضحة بين مقدمة سورة البقرة وبين قوله تعالى في هذه المجموعة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى فإن الآيات الأولى في سورة البقرة تصف أهل التقوى بالإيمان بكل هدى أنزله الله، وتبين أنهم المهتدون، وأنهم المفلحون، إن صلة ذلك بقوله تعالى في سورة طه فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى واضحة. وقد كنا قلنا من قبل إن سورة (طه) توضح مفهوم السعادة والشقاء، وتصحح المفاهيم الخاطئة في هذا الأمر. فالشقاء الحقيقي هو الشقاء في الآخرة، والشقاء الحقيقي في ترك الهدى مهما ظن ظان أن السعادة في غير ذلك. إنه عند ما يترك الخلق دين الله يصبح بعضهم لبعض عدوا، ويصبح الإنسان لنفسه عدوا؛ إذ يتناقض مع فطرته، وفي ذلك الشقاء الحقيقي، إن دين الله هو الذي يجعل الإنسان صديقا مع نفسه، وهو الذي يوجد صيغة للتعايش المريح بين الخلق، ومن ثم نلاحظ أن التشريعات الإسلامية منصبة على إبعاد المؤمنين عن كل خلاف، إن تحريم الغيبة والنميمة، وتحريم بيع الغرر، وتحريم الخمر والميسر، وتحريم الربا، كل ذلك وغيره يهدف إلى قطع الخصومات والمنازعات بين الناس. إنه مهما ظن ظان أن سعادته فيما حرم الله عليه فهو مخطئ، سواء كان هذا المحرم موسيقى أو زنى أو خمرا أو غيبة أو نميمة أو غير ذلك، إن اللذة لا تعني السعادة، واذا عنت السعادة الآنية فإنها تعني الشقاء المضاعف البعيد. خذ مثلا: إن الأمة التي تميل إلى الترف والاسترخاء عند ما تغلب على أمرها فإن آلامها التي تنالها عند الغلبة أكبر بكثير من لذاتها التي أصابتها قبل ذلك فهل كان في الترف والاسترخاء سعادة؟! وهل الموسيقى- وهي عامل من عوامل استرخاء النفس البشرية مثلا- تشكل سعادة حقيقة للإنسان؟ اللهم لا. في الفصل الرابع من كتاب (الإسلام) من سلسلة الأصول الثلاثة كلام عن العقوبات الفطرية التي تترتب على كل مخالفة يفعلها إنسان أو تفعلها مجموعة، أو ترتكبها الإنسانية، وفي ذلك الفصل دليل كامل على أن الشقاء ملازم للإعراض عن وحي الله، وأن السعادة الحقيقية في ملازمة دين الله، هذا كله إذا نظرنا إلى المسألة في إطار الدنيا، ولكن عند ما ننظر إلى المسألة في إطارها العام، دنيا وأخرى، يتضح

خاتمة السورة

بشكل قاطع أن السعادة في ملازمة شرع الله، حتى لو أن إنسانا قرض جسمه بالمقاريض من أول هذه الدنيا إلى آخرها لكان هذا عارضا بالنسبة إلى السعادة الحقيقية للإنسان في الآخرة. فإذا اتضح هذا كله، واتضح أن السعادة في الدنيا والآخرة في اتباع دين الله، وأن كل شقاء يصيب الإنسان سببه خطيئة آدم؛ إذ أخرج بها من الجنة، فعلى الإنسان أن يتعظ، ويعمل من أجل الخلاص من هذا الشقاء باتباع وحي الله، إذا اتضح هذا كله وقامت به الحجة تأتي خاتمة السورة لتستنكر عدم اهتداء المكذبين مع إقامة الحجة، ومع ما يعرفونه من عقوبات الله التي أنزلها بالسابقين، ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموقف المكافئ للمكذبين، ثم ترد على اقتراح الكافرين إنزال الآيات للإيمان، فلنر خاتمة السورة وتفسيرها مؤخرين فوائد المقطع الرابع إلى ما بعد عرض تفسير الخاتمة. خاتمة السورة وتمتد من الآية (128) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (135) وهذه هي: [سورة طه (20): الآيات 128 الى 135] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)

التفسير

التفسير أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول، فإنهم إذا تفكروا علموا أن استئصال السابقين كان لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه لَكانَ لِزاماً أي لكان الهلاك لازما لهؤلاء وَأَجَلٌ مُسَمًّى هذا معطوف على «كلمة»، والتقدير: ولولا كلمة سبقت من ربك، ولولا أجل مسمى، أي مدة معلومة مضروبة لكل أمة لجاء هؤلاء العذاب، وأهلكوا بسبب كفرهم وإعراضهم، وهذا تذكير وإنذار من الله، وبيان أن ما هم فيه لو شاء الله أن ينهيه بلحظة لأنهاه، فلا يغتروا مصرين على الكفر والإعراض عن الوحي، ومجيء هاتين الآيتين بعد ذكر الله المعيشة الضنك، والعذاب في الآخرة لمن أعرض عن ذكره يفيد أن هناك عقوبة ثالثة وهي الإهلاك في الحياة الدنيا بسبب الإعراض. وقد ذكرنا في فصل المؤيدات من الجزء الرابع من كتاب (الإسلام) في سلسلة الأصول الثلاثة: أن المؤيدات للالتزام بهذا الدين ثلاثة أقسام: بشرية، وفطرية، وربانية. والربانية قسمان: عقوبة الدنيا بالعذاب، وعقوبة الآخرة بالعذاب. فالصلة بين هاتين الآيتين وما قبلهما واضحة، ففيهما تذكير، وذلك منسجم مع مقدمة السورة إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى وفيهما إنذار لمن لم يؤمن، وذلك منسجم مع

[سورة طه (20): آية 130]

محور السورة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. والآن ما هو موقف أهل الحق من هؤلاء المعرضين الخاطئين في تصورهم لموضوع الشقاء والسعادة؟ ما هي القضايا الرئيسية التي ينبغي أن يلتزم بها أهل الإيمان وأهل الهدى؟ هذا ما نراه في الآيات الثلاث: 1 - فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من تكذيبهم وأقوالهم التي يعبرون بها عن تصوراتهم المريضة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي بصلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها أي في صلاة العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ أي من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء وَأَطْرافَ النَّهارِ في مقابلة آناء الليل، وحمله بعضهم على الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، هذا كله إذا فهمنا أن المراد بالتسبيح هنا تسبيح الصلاة، إلا أننا إذا فهمنا أن المراد بالتسبيح هنا مطلق التسبيح سواء كان في صلاة أو لا، يكون ذلك أمرا للمداومة على ذكر الله: سبحان الله وبحمده ليلا ونهارا، قبل طلوع الشمس وبعده، قبل غروب الشمس وبعده، في ساعات الليل وفي كل طرف من أطراف النهار بالصلاة وغيرها لَعَلَّكَ تَرْضى قال النسفي: (أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك) هذا هو الأمر الأول هنا، وهو يفيد أن التسبيح بحمد الله، مع الصبر، هو أدب المسلم في صموده أمام أقوال أهل الكفر- وما أكثرها، وما أشدها- كما أن التسبيح بحمد الله هو وسيلة المسلم للسعادة في الدنيا والآخرة، هذا وعد الله عزّ وجل لمن لازم التسبيح بحمده. 2 - وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي نظر عينيك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفرة، وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس كل كافر ممتعا، ومعنى مد البصر: تطويله، وألا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، دل ذلك على أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك أن يباده الشئ بالنظر ثم يغض الطرف، ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة، ومظاهر الفسق في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن: لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب؟ وهذا لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها والمعنى: لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك، وقليل من

[سورة طه (20): آية 132]

عبادي الشكور، ولذلك قال بعد قوله وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أى لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم، أو ليستغرقوا فيما هم فيه من النعيم فينسوا أو ليروا أن ما هم فيه علامة على أن حالهم هي الحال الصحيحة، ومن ثم فلا تتطلع إلى ما هم فيه ولا تنظر إليه ولا تعظمه، بل كن زاهدا فيه وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ثوابه وهو الجنة أو الحلال المشروع الكافي خَيْرٌ أي أحسن وَأَبْقى أي وأدوم مما رزقوا. ولما كان ميزان الشقاء والسعادة عند أهل الكفر هو نعيم الدنيا وهو أثر عن التصور الخاطئ لهذا الموضوع فقد صحح الله هذا التصور من خلال النهي عن مد البصر نحو ما يتمتع به الكافرون 3 - وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي أهل بيتك أو أمتك بِالصَّلاةِ أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي واصبر أنت على فعل الصلاة بأن تداوم عليها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نسألك أن ترزق نفسك، ولا أهلك نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي وإياهم، فلا تهتم لأمر الرزق، وفرغ بالك لأمر الآخرة وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي وحسن العاقبة لأهل التقوى، في هذه الآية تطمين على الرزق وهو الهم الذي يشغل أكثر الخلق، وأمر بالصلاة، وأمر بالأمر بها، لأن إقامة الصلاة تعطي الإنسان طمأنينة كاملة، فهي عامل السعادة الأول في قلب المؤمن، وفي الأمر بها للأهل تعليم للإنسان أن يكون عاملا على نشر الهدى، وخاصة في دائرة أهله. وهكذا بالصبر والتسبيح والزهد والصلاة والأمر بالصلاة يشق المسلم طريقه في هذه الحياة، فيصمد أمام الكفر ومغرياته، وادعاءات أهله ويستمر على الهدى وعلى شرع الله. وقد بقي معنا الآن من السورة ثلاث آيات تتضمن اقتراحا للكافرين وردا عليه: وَقالُوا أي الكافرون لَوْلا يَأْتِينا محمد صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي بعلامة دالة على صحة نبوته، وقد رد الله عليهم بقوله أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى. أي الكتب المتقدمة يعني: أولم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن الذي فيه برهان ما في سائر الكتب المنزلة، ودليل صحتها، لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى شهادة على صحة ما فيها أليس ذلك

[سورة طه (20): آية 134]

وحده كافيا؟! وقد عبر ابن كثير عن قوله تعالى. أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى بما يلي: (يعني القرآن العظيم الذي أنزله عليه الله، وهو أمي لا يحسن الكتابة، ولم يدارس أهل الكتاب وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها، فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح، ويبين خطأ المكذب فيها وعليها ..... ثم بعد كلام قال: وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه الصلاة والسلام وهو القرآن وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر، كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه؟ فإن يكن هذا القرآن على هذه الشاكلة، فذلك دليل على أنه من عند الله كما قال تعالى في بداية السورة تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ فالسورة تختم بما بدأت به بأن تأتي بالدليل على أن هذا القرآن من عند الله، إذ أن قصة موسى وقصة آدم موجودتان في الصحف الأولى فإن تعرضهما هذه السورة بمثل هذه الدقة وبمثل هذا الكمال دون تناقض وكما هما حقا وصدقا فذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وهذا يفيد أنه لا حجة لكافر لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ومن ثم ندرك الصلة بين هذه الآية وسياق السورة ومحور السورة من سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل الرسول أو القرآن لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أي: هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بنزول العذاب وَنَخْزى يوم القيامة والمعنى: أن هؤلاء الكافرين المكذبين لو أن الله أهلكهم قبل أن يرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وينزل عليهم هذا الكتاب العظيم لاحتجوا على الله بأنه لم يرسل لهم رسولا فها هو ذا الرسول قد أرسل، وها هي الآيات قد أنزلت ولم يؤمنوا ولم يتبعوا، ومن ثم فإنهم يستحقون كل ما أنذروا به، ومن ثم ختم الله السورة بأن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده كُلٌّ أي كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي ينظر للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ إذا جاءت القيامة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي الطريق المستقيم وَمَنِ اهْتَدى إلى الحق وسبيل الرشاد،

الفوائد

فإذا نظرت إلى هذه الخاتمة، وإلى محور السورة من سورة البقرة فإنك تجد الجواب في المحور هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وبالكلام عن السياق الخاص والعام أثناء عرضنا لهذه الخاتمة نستغني عن أن نفرد كلمة لهذا الموضوع فلنتكلم مباشرة عن فوائد المقطع الرابع وخاتمة السورة: الفوائد: 1 - بمناسبة ذكر شجرة الخلد في قصة آدم عليه السلام يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي والإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد». 2 - هناك اتجاه في تفسير العيش الضنك في قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أنه عذاب القبر، وقد ورد فيه أكثر من حديث، وأحدها إسناده جيد رواه البزار ولا ينفي هذا ما ذكرناه من كون المعيشة الضنك في الدنيا؛ لأن عذاب القبر هو أثر العمل في الدنيا، ومن ثم فإن عامة المفسرين ذكروا ما اعتمدناه في صلب التفسير ونؤكد هنا على معنى وهو أن المعيشة الضنك مرتبطة بالشقاء النفسي. قال النسفي: (فمع الدين، التسليم والقناعة والتوكل، فتكون حياته طيبة، ومع الإعراض، الحرص والشح فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوفة: لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه). 3 - بمناسبة قوله تعالى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى. قال ابن كثير: (فأما نسيان لفظ القرآن، وفهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك). 4 - بمناسبة قوله تعالى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى يذكر ابن كثير الأحاديث التالية: في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي

الله عنه- قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ هذه الآية، وروى الإمام أحمد ... عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» ورواه مسلم وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن «أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين» وفي الصحيح: يقول الله: «يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وما أفضل من ذلك؟ فيقول:: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى قال ابن كثير: في الصحيح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما دخل على رسول الله في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ، وأهبة معلقة فابتدرت عينا عمر بالبكاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر؟» فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه فقال: «أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله ولم يدخر لنفسه شيئا لغد. روى ابن أبي حاتم ...... عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا» قالوا وما زهرة الحياة الدنيا يا رسول الله؟ قال: «الأرض» وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا يعني زينة الحياة الدنيا، وقال قتادة لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم. وقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً.

وروى ابن أبي حاتم .... عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام (يعني) أهله وقال وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وقوله لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وقال تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ولهذا قال لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وقال الثوري: لا نسألك رزقا أي لا نكلفك الطلب، وروى ابن أبي حاتم عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى قوله نَحْنُ نَرْزُقُكَ ثم يقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله، وروى ابن أبي حاتم .... عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا صلوا. قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا بن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك». وروى ابن ماجه .... عن ابن مسعود قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشبعت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك» وروى أيضا من حديث شعبة ... عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» وقوله وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة- وهي الجنة- لمن اتقى الله، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب» 6 - وبمناسبة قوله تعالى أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى يذكر ابن كثير: حديث الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»

كلمة في سورة طه

كلمة في سورة طه رأينا أن سورة (طه) انصب تفصيلها على قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... من مقدمة سورة البقرة ولكنه تفصيل رباني عجيب، بدأت السورة بتعليل لم أنزل القرآن ثم بالتدليل على أن منزله الله، ثم قصت قصة موسى التي هي نموذج كامل على الإرسال والإنزال والإيمان وعاقبة الإيمان ومزالق الطريق وكيفية معالجتها وعن بعض خصائص القرآن، ثم قصت لنا قصة آدم وسنة الله الخالدة في موضوع إنزال الهدى، وعاقبة المهتدين والمعرضين، وكل ذلك يعمق موضوع الإيمان بهذا القرآن، ثم ناقشت الذين كفروا وأمرت ونهت أهل الإيمان، ثم ردت على اقتراح الكافرين آية بأن هذا القرآن كاف، وقد رأينا أثناء الكلام عن السورة ما لا نحتاج معه إلى أن نكرره، سواء حول السياق الخاص للسورة أو حول السياق القرآني العام، والمهم أن يكون واضحا لدينا أن ما في السورة من معان إنما هي دعوة للإيمان بهذا القرآن وتربية على مقتضياته تفصيلا لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ***

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء وهي السورة الحادية والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الثالثة من قسم المئين، وآياتها مائة واثنتا عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الأنبياء

قال الألوسي في تقديمه لسورة الأنبياء: (نزلت بمكة كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير- رضي الله تعالى عنهم- وفي البحر وأنها مكية بلا خلاف، وأطلق ذلك فيها، واستثنى منها في الإتقان قوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ الآية. وهي مائة واثنتا عشرة آية في عد الكوفي، وإحدى عشرة في عد الباقين، كما قاله الطبرسي والداني، ووجه اتصالها بما قبلها غني عن البيان، وهي سورة عظيمة فيها موعظة فخيمة، فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية. وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول صلى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ إلى آخره. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قوله: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي دل هذا الأثر على أن سورة الأنبياء من السور التي نزلت قديما، وذكرها في هذا الترتيب الموافق للرسم القرآني فيه دليل على أن ترتيب القرآن كما هو مرسوم كان معلوما للصحابة رضوان الله عليهم، فالأثر يصلح أن يكون من جملة الأدلة على أن ترتيب هذا القرآن توقيفي) كلمة في سورة الأنبياء: قلنا من قبل: إن محور سورة الأنبياء هو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ تأمل هاتين الآيتين، ثم انظر الآيات الثلاث الأولى من سورة الأنبياء، تجد مصداق ما قلناه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ثم بعد هذه الآيات تأتي آية هي: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هذا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهل عليه اعتراض؟ إنهم يعترضون: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ويأتي الرد القرآني عليهم ويستغرق السورة كلها بدليل أن السورة تختم بآية على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم تبدأ بكلمة (قال) كالآية التي جاءت بعد الآيات الثلاث: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وما بين هذه الآية وبين مقدمة السورة نجد مجموعات السورة تضرب على نسق واحد كل مجموعة منها مبدوءة بكلمة (ما) أو (وما) ................ .... ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ* وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ... إن هناك إنذارا ومنذرا ومنذرين ما هو مضمون الإنذار؟ وما هي حال المنذرين؟ وماذا يقول النذير؟ وماذا يقول المنذرون وما هو الرد عليهم؟ معان تطرقها السورة، وكلها نوع تفصيل لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كما سنراه أثناء عرض السورة تفصيلا ... ومما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن هذه السورة تفصل الآية المذكورة من سورة البقرة هي أنه لم يرد في القرآن إلا سورتان مبدوءتان بكلمة مشتقة من الاقتراب هذه السورة اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وسورة القمر المبدوءة بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ .... فهذه البداية المشتركة توحي بالموضوع المشترك، والمحور المشترك، وأنت عند ما تدرس سورة القمر فإنك تجد بوضوح أنها تفصل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ

تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لاحظ بدايتها: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ* وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ* وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ لاحظ كلمة فَما تُغْنِ النُّذُرُ وصلتها بقوله تعالى أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ثم لاحظ قوله تعالى فيها: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ثم لاحظ قوله تعالى فيها فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ تجد الصلة واضحة بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ... وسورة القمر ستأتي معنا بإذن الله ونرى ما ذكرناه هنا بالتفصيل، ولكنا أسرعنا في هذه الإشارة للتأكيد على أن محور تلك السورة هو محور هذه السورة؛ بدليل الموضوع المشترك، واللفظة المشتركة، التي بدأت بها السورة، مع ملاحظة أن لكل سورة سياقها الخاص بها، وطريقتها الخاصة بها في التفصيل. فسورة الأنبياء إذن تتألف من آيات ثلاث، ثم قول للرسول صلى الله عليه وسلم قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثم مواقف للكافرين من هذا القول، ورد عليها، ثم تختم السورة بآية مبدوءة بلفظة (قال) على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فالكافرون يرفضون البلاغ مع قيام الحجة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد إقامة الحجة يعلن استسلامه لله، ويدعو الله أن يحكم بينه وبين هؤلاء الكافرين، ويطلب العون من الله على أقوال هؤلاء الكافرين. فلنبدأ عرض السورة لنرى تفصيل ما ذكرناه. ***

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتتألف من خمس آيات بعد البسملة وهذه هي: بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) التفسير: اقْتَرَبَ أي دنا لِلنَّاسِ أي للكافرين بدليل السياق كما ذكر النسفي حِسابُهُمْ أي وقت محاسبة الله إياهم، ومجازاته على أعمالهم، وصفه بالاقتراب لقلة ما بقي، بالإضافة إلى ما مضى، ولأن كل آت قريب وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ على حسابهم وعما يفعل بهم هناك مُعْرِضُونَ أي عن التأهب لذلك اليوم ما يَأْتِيهِمْ أي هؤلاء الكافرين مِنْ ذِكْرٍ أي من شئ من القرآن مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ أي جديد إنزاله إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وحالهم عند السماع وَهُمْ يَلْعَبُونَ ومع كونهم أثناء السماع لاعبين فإن قلوبهم لاهية، ومن ثم وصف حال قلوبهم عند السماع لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ فأجسامهم في لعب، وقلوبهم في لهو وغفلة، فكيف يعقلون عن الله وحيه؟ ثم وصف الله عزّ وجل حالهم بأنهم زيادة على لعب الجسم ولهو القلب فإنهم يتآمرون وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي وبالغوا في إخفاء تناجيهم الَّذِينَ ظَلَمُوا الكلام كله عن الموسومين بالظلم، فهم الذين يستمعون الذكر والجسم لاعب والقلب لاه، ويتناجون سرا متآمرين هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي قائلين

كلمة في السياق

فيما بينهم خفية هذا الكلام، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبيا أنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم، ولهذا قالوا كما ذكر الله على لسانهم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أفتتبعونه فتكونوا كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر. والمعنى: أنهم اعتقدوا أن الرسول لا يكون إلا ملكا، وأن كل من أدعى الرسالة من البشر، وجاء بالمعجزة فهو ساحر، ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. كلمة في السياق: وهكذا وصف الله حال هؤلاء الكافرين أنهم غافلون ومعرضون ولا يستمعون الوحي إلا والجسم لاعب، والقلب لاه، وقد بنوا الأمر على أن محمدا صلى الله عليه وسلم بشر وساحر، وليس من التعقل حضور مجلسه، فناس هذا شأنهم كيف يصلحهم الإنذار، أو ينفعهم إن صلة ذلك بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ واضحة، فهذه الآيات عللت لنا لم لا ينفع الإنذار بهؤلاء؟ إنهم غافلون معرضون، لاعبون، لا هو القلب، يتآمرون على الرسالة، ظالمون، تصوراتهم خاطئة، فالعلة فيهم ومنهم، ومن ثم ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على بصرهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم. نقل: بمناسبة مقدمة السورة قال صاحب الظلال: (هؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة، ومنهاجا للعمل، وقانونا للتعامل .. باللعب. ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة. وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان. فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن. والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ، لا هدف له ولا قوام! ذلك بينما كان المؤمنون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها: جاء في ترجمة الآمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه .. ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب أرضا فقال له: إني استقطعت من رسول الله

فوائد

صلى الله عليه وسلم واديا في العرب، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك. نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة، والقلوب الميتة المغلفة الخامدة. التي تكفن ميتتها باللهو، وتواري خمودها بالاستهتار، ولا تتأثر بالذكر لأنها خاوية من مقومات الحياة) فوائد: 1 - كثير من أخلاق الكافرين يمكن أن يبتلى بها المؤمنون، ومن ثم فإن على المسلم أن يلاحظ نفسه وقلبه، وإذا مر على خلق للكافرين فتش في نفسه وسلوكه أن يكون متخلقا به وهو لا يشعر، إن هذه الصورة- صورة استماع الوحي والجسم يلعب والقلب لاه- صورة نراها كثيرا في المقاهي والنوادي والمجالس، يشترك فيها الكافرون والمؤمنون، ومن ثم قال النسفي: بمناسبة قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (فالاقتراب عام، والغفلة والإعراض يتفاوتان بتفاوت المكلفين، فرب غافل عن حسابه لاستغراقه في دنياه، وإعراضه عن مولاه، ورب غافل عن حسابه لاستهلاكه في مولاه وإعراضه عن دنياه، فهو لا يفيق إلا برؤية المولى والأول إنما يفيق في عسكر الموتى، فالواجب عليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وتتنبه للعرض قبل أن تنبه، وتعرض عن الغافلين، وتشتغل بذكر خالق الخلق أجمعين؛ لتفوز بلقاء رب العالمين). 2 - مما استدل به المعتزلة على حدوث القرآن قوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ .... ولا يصح لهم هذا الاستدلال؛ لأن المراد بالمحدث أنه محدث إتيانه قريب عهده باستماعهم، مبتدأة تلاوته. 3 - بمناسبة قوله تعالى لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ذكر النسفي ما قاله أبو بكر الوراق في تفسير القلب اللاهي: المشغول بزينة الحياة وزهرتها الغافل عن الآخرة وأهوالها. 4 - بمناسبة قوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ذكر ابن كثير ما قاله ابن عباس (ما لكم تسألون أهل الكتب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه، وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله، تقرءونه محضا لم يشب) قال ابن كثير رواه البخاري بنحوه. ولنعد إلى السياق ...

[سورة الأنبياء (21): آية 4]

هذا الموقف للكافرين، الذي رأيناه، والذي يوصل إلى أنه لا فائدة من إنذارهم، يكافئه أن يعلن الرسول هذا الإعلان: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ إن الموقف المكافئ لموقف الكافرين فيما افتروه واختلقوه من الكذب أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا قالَ أي محمد رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي يعلم قول كل قائل، في السماء أو في الأرض سرا كان أو جهرا وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم، إن إعلان الرسول عن هذا هو الذي يمثل الموقف الجدي من موقفهم الهازل الهازئ، إن الإعلان الرصين ليس موجها لهم مباشرة لأنهم لا ينتفعون به، إلا أن مثل هذا الموقف يثيرهم أكثر وأكثر ومن ثم ينتقلون من موقف التناجي السري والتآمر الخفي إلى الإعلان السافر والاتهام القذر: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي تخاليط أحلام أي تخاليط منامات بَلِ افْتَراهُ أي بل اختلقه بَلْ هُوَ شاعِرٌ أي أديب نسج هذا القرآن على هذه الشاكلة، أو المراد أنه شاعري العواطف والتعبير، ومن ثم يقول هذا الكلام، ويعبر الكافرون في عصرنا عن ذلك: إنه عاطفي وليس موضوعيا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ أي بمعجزة كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي كما أرسل من قبله باليد البيضاء، والعصا وإبراء الأكمه، وإحياء الموتى، وصفوا القرآن أولا بأنه سحر، ثم أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، رآها في نومه فتوهمها وحيا من الله إليه، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا فالباطل لا يستقر على قول، والمبطل متناقض لا يثبت على قول واحد قال ابن كثير في الآية: (هذا إخبار عن تعنت الكفار، وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن، وحيرتهم فيه، وضلالهم عنه، فتارة يجعلونه سحرا، وتارة يجعلونه مفترى). كلمة في السياق: من خلال هذه الآيات الخمس التي مرت معنا ندرك حقيقة الحالة الكفرية للإنسان الذي لا ينفع معه الإنذار، إنه الإنسان الذي يعتبر الوحي أضغاث أحلام، وأنه مكذوب، وأن الرسول إنسان عاطفي غير موضوعي، إن هذا النوع من الكفار هم الذين يطلبون الآيات متعنتين، وهم مستغرقون في الغفلة والإعراض واللعب وسهو القلب، والتآمر على الرسالة والرسول، هذه هي أعراض الكفر الكامل الذي لا ينفع معه إنذار، وبعد أن عرضت السورة علينا هذا الواقع للكفر، فإن مجموعاتها اللاحقة تقيم الحجة على الكافرين مرة بعد مرة.

المجموعة الأولى

المجموعة الأولى وتمتد من الآية (6) إلى نهاية الآية (15) وهذه هي: [سورة الأنبياء (21): الآيات 6 الى 15] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) التفسير: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي ما آتينا أهل قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيهم فآمنوا بها، بل كذبوا فأهلكناهم بذلك، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها؟؟ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ أي أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء المقترحون لو آتيناهم بما اقترحوا، مع أنهم أعتى منهم؟ والمعنى: أن أهل القرى اقترحوا على أنبيائهم الآيات، وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطينا هؤلاء ما يقترحون لنكثوا أيضا، هذا رد لقولهم فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ إن الله عزّ وجل إذا أرسل رسولا فإنه يجعل على

كلمة في السياق

يديه ما تقوم به الحجة على الخلق، أما إذا اقترح الناس الآيات مما يزيد على ما تحتاجه إقامة الحجة، فإن الله عزّ وجل إذا أجابهم إلى ذلك ثم لم يؤمنوا فإن سنته أن يهلكهم، ولقد أعطى الله رسولنا صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرات، والحجج القاطعات، والدلائل البينات، ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما أعطيه أي رسول آخر، ومع ذلك لم يؤمنوا بل يقترحون الآيات، وما هم بمؤمنين لو جاءت، ولو جاءت ولم يؤمنوا لأهلكوا، فمن إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لم يستجب لهم في اقتراحهم، وسنلاحظ أنه في نهاية هذه السورة سيأتي قوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ومن مظاهر كونه رحمة للعالمين هذا الإمهال لمن خالفه، وعدم الاستئصال. كلمة في السياق: لاحظنا أن الكافرين لا يؤثر فيهم الإنذار، ولا تؤثر فيهم الحجج، ورأينا أن هذا المعنى له صلة بمحور السورة من سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولاحظنا في الآيات الأولى من السورة كيف أن الكافرين يفرون من الحجج إلى اقتراح الآيات، وقد بدأت الآية الأولى من هذه المجموعة بتبيان أنه حتى ولو جاءهم ما اقترحوا فإنهم لا يؤمنون سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فليس بالإنذار يؤمنون، وليس بالآيات يؤمنون، وبعد أن ترد الآية الأولى في هذه المجموعة على آخر ما قالوه وهو اقتراحهم الآيات، فإن الآيات التالية ترد على كلامهم الأول الذي عرضه الله علينا من قبل وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ فلنعد إلى التفسير لنرى ذلك: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا فتلك سنة الله الدائمة إذن، فلماذا يستنكرون أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا بشرا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهم بشر كبقية البشر، إلا أنهم يمتازون عن البشر بالوحي فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف، هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة، إن كنتم لا تعلمون شيئا عن شأنهم، فسيجيبونكم أنهم بشر، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه؛ إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم، والأخذ عنهم، ولما كان قولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يتضمن أنهم يتصورون أن الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس البشر أو إذا كان من البشر فينبغي أن يكون له وضع خاص، كأن لا يأكل، ولا يشرب، ولا

[سورة الأنبياء (21): آية 8]

يموت، فمن ثم جاءت الآية التالية تقول: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين، بل كانوا بشرا من البشر، أجسادا يأكلون الطعام، ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم، ولا ناقص منهم شيئا كما توهمه المشركون وَما كانُوا خالِدِينَ أي في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد منهم، فلم تستغربون أن يكون رسولا؟ وبهاتين الآيتين رد الله عزّ وجل على زعمهم أن الله لا يبعث بشرا رسولا ولما كان قد ذكر في الرد الأول، على موضوع اقتراح الآيات، إهلاكه القرى، عاد السياق هنا ليذكر بعد أن رد كلامهم الأول، إلى تبيان أن هذا الإهلاك كان تصديقا للوعد الذي وعده الرسل وهو قوله تعالى في سورة إبراهيم لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وهؤلاء كانوا ظالمين بقولهم، كما ذكر الله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ومن ثم فإن الآية الثالثة تقول: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ أي صدقنا الرسل الْوَعْدَ وهو إهلاك الظالمين وإنجاء الرسل فَأَنْجَيْناهُمْ أي مما حل بقومهم وَمَنْ نَشاءُ أي المؤمنين، فهم الذين يشاء الله إنجاءهم بدليل ما بعده وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي المجاوزين الحد بكفرهم، وهم المكذبون بما جاءت به الرسل. نقل: بمناسبة قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... قال صاحب الظلال: (لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر، فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم. وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس. فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة. ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، ولا يعاشرون النساء، ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس. فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون. وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره، فإنه يقف على هامش حياتهم، لا يتجاوب ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلم يحركهم للعمل بما يقول لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور.

كلمة في السياق

وأيما داعية لا يصدق فعله قوله. فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب. مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة. فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ويؤيدها العمل. هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل. والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر .. كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها .. لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص. وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر. وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس. وهنالك اعتبار آخر، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته، لأنه من جنس غير جنسهم، وطبيعة غير طبيعتهم، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية. وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس. وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله، باختيار الرسل منه. ليتصلوا بالملإ الأعلى ويتلقوا عنه، لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر، وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت، ومن عواطف وانفعالات، ومن آلام وآمال، ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء، وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم ... أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة) كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة الأنبياء هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ونلاحظ في الآية الأخيرة أن قوله تعالى ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ فيه إنذار لهم أن يصيبهم ما أصاب الأولين، دل ذلك على أن كون النتيجة أن هؤلاء الكافرين لا يؤمنون لا يعني هذا أنهم لا ينذرون، بل الإنذار لا بد منه لإقامة الحجة عليهم، ومن ثم أمر الله رسوله أن ينذر وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ

[سورة الأنبياء (21): آية 10]

لَدَى الْحَناجِرِ وهكذا نلاحظ أن ما مر معنا من هذه المجموعة حتى الآن قد رد على كلمة للكافرين، ورد على اقتراح، وبعد الرد حذر وأنذر، والآن يأتي الرد على قولهم إن القرآن أضغاث أحلام وكذب وشعر، ثم يعقب ذلك إنذار آخر، وتحذير وتذكير لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش، أو يا معشر العرب الذين تقولون عن هذا القرآن ما تقولون كِتاباً هو القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه شرفكم، هكذا فسرها ابن عباس أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ما فضلناكم به على غيركم فتؤمنوا، أي أفلا تعقلون هذه النعمة وتتلونها بالقبول بدلا من أن تصفوها بما تصفونها به؟ ولنا على الآية عودة، إذ تحتمل أن يكون المراد بالذكر الموعظة، فكتاب فيه مثل هذا التذكير كيف تصفونه بما تصفونه به؟ وبعد أن رد مزاعمهم في شأن هذا القرآن عاد إلى التحذير والإنذار والتذكير وَكَمْ قَصَمْنا أي أهلكنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي كثير من القرى الكافرة أهلكنا أهلها، والتعبير بالقصم فيه إشارة إلى شدة الإهلاك، لأن القصم أفظع الكسر وَأَنْشَأْنا أي وخلقنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ أي أمة أخرى سكنت مساكن الأولين فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي فلما أحس المهلكون عذابنا، أي علموا علم حس ومشاهدة تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، كما وعدهم نبيهم إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي يفرون هاربين، فقيل لهم، والقائل بعض الملائكة لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أي إلى ما نعمتم فيه من الدنيا، ولين العيش، أي إلى نعيمكم وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ وإنما يقال هذا لهم كما قال قتادة استهزاء بهم، والمعنى: لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم فتجيبوا السائل، عن علم ومشاهدة، بلسان الحال، أو لعلكم تسألون عما كنتم فيه من أداء شكر النعم في دار النعم قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي دعاءهم وهو اعترافهم بظلمهم، دل ذلك على أن الاعتراف بالخطيئة دعاء لله، ولكن الدعاء في هذا المقام لا ينفع حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي مثل الحصيد أي مثل الزرع المحصود خامِدِينَ أي ميتين، شبههم بالنار إذا خمدت، أي جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود، أي ما زالت تلك المقالة- وهي الاعتراف بالظلم- حتى حصدناهم حصدا، وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودا، وهكذا حذر الله هؤلاء الكافرين وأنذرهم وذكرهم لو كان ينفعهم تحذير.

نقل

نقل: بمناسبة قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ قال صاحب الظلال: (إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل. ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا، فلم يكن لهم قبله ذكر، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به. ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب، وقادوا به البشرية قرونا طويلة، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب. حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية، وانحط فيها ذكرهم، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم. وهم آمنون. وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد ... فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به. فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب، فما هم؟ وما ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب. وهذه العقيدة .. لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب. فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية، ولا مدلول له في معجم الحضارة! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته. وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة! وذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم، وهو يقول للمشركين، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ). كلمة في السياق: رد الله عزّ وجل في هذه المجموعة على أقوال الكافرين واقتراحاتهم ووعظهم وذكرهم، بتسلسل واضح رأيناه أثناء العرض والتفسير، وقد رأينا فيما مر معنا نموذجا على كون هذا القرآن (ذكرا) وهو المعنى الذي ورد في الآية الثانية من السورة ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فالقرآن ذكر يذكر بالله قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والقرآن ذكر يذكر الإنسان ويعظه وَكَمْ

فائدة

قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ والقرآن ذكر إذ يقوم باطل الإنسان بالحجة القاطعة، ومع كون القرآن هذا كله، فإن الكافرين يستمعون إليه وهم يلعبون لاهية قلوبهم .. ومن تأمل هذا لا يغيب عنه ارتباط الآيات بمحور السورة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فائدة: ذكرنا أن لنا عودة على قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ لقد فسر ابن عباس الذكر فيها بأنه الشرف، وفسره آخرون بأنه الموعظة، وفسره آخرون بأنه الدين، وسواء فسر بالشرف أو بالموعظة أو بالدين فإنه رد على ما زعموه فيه أنه أضغاث أحلام وأكاذيب أو شعر، وعلى القول الأقوى وهو أن المراد به الشرف يكون خطابا للعرب، إذ يذكرهم الله بنعمته عليهم إذ شرفهم بهذا القرآن، بل التعبير يفيد أنه شرفهم الوحيد إذ تقديم (فيه) وهو جار ومجرور على المبتدأ يفيد الاختصاص، ولو أنك تأملت شيئا يشرف به العرب في هذا العالم لم تجد شيئا غير هذا القرآن؛ فما من شئ قدمه العرب للعالم إلا وهم فيه عالة على غيرهم، أو يشاركهم فيه غيرهم إلا هذا القرآن الذي أنزله الله عليهم، فإنه الشرف الذي لا ينازعهم فيه غيرهم، وعند ما يرفض العرب هذا القرآن يكونون قد رفضوا شرفهم، ويدللون بذلك على عدم عقلهم، ولكن الكافر لا تفيده حجة سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولذلك تجد كفار عصرنا من العرب مصرين على ألا يبقى لهذا القرآن دور في الحياة، ونراهم مصرين على إنكاره والاستهزاء به، دأب كفار العرب الأولين، مع أن العرب المحدثين رأوا من آيات الله في هذه الأمة- ببركة هذا القرآن- ما لم يره الأولون، ومع ذلك يصرون على أن يكونوا بلا شرف، وأن يجردوا أمتهم من أسباب شرفها، وما ذلك بضار هذا القرآن شيئا قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ وقد أعطى الله راية الإسلام أكثر من مرة لغير العرب، فهل يعقل العرب في عصرنا فيعودوا إلى استلام الراية من جديد. ولننتقل إلى المجموعة الثانية بعد المقدمة.

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية تمتد من الآية (16) إلى نهاية الآية (24) وهذه هي [سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 24] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) كلمة في السياق: لاحظ أن بداية السورة كانت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ لاحظ كلمة مُعْرِضُونَ ثم لاحظ أن هذه المجموعة انتهت بقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ فهذه المجموعة تستقر في النهاية على علة الإعراض، وهو جهل الكافرين بالحق، الذي عرضت أحواله هذه المجموعة، وإذ عرفنا صلة هذه المجموعة بسياق السورة من هذه الملاحظة السريعة، فإننا نعلم كذلك صلتها بالمحور من الملاحظة نفسها؛ إذ علة

التفسير

الإعراض هي علة عدم الإيمان، وعلة استواء الإنذار وعدمه سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلنر تفسير المجموعة ولنا على السياق كلام آخر. التفسير: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف الخلق لاعِبِينَ أي ما خلقناهما للهو واللعب، وإنما سويناهما ليستدل بهما على قدرة مدبرهما، ولنجازي المحسن والمسيء على مقتضى حكمتنا، فلم نخلق الخلق إذن عبثا ولا لعبا لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا دون أن نخلق الخلق إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ أي إن كنا مما يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا، أو المعنى: ما كنا فاعلين بَلْ شأننا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ لا أن نتخذ لهوا، والمعنى: بل من سنتنا أن نرمي ونسلط بالحق على الباطل فَيَدْمَغُهُ أي فيكسره ويدحض الحق الباطل فَإِذا هُوَ أي الباطل زاهِقٌ أي هالك ذاهب وَلَكُمُ الْوَيْلُ أيها الواصفون الله بغير صفاته مِمَّا تَصِفُونَ أي عما تقولونه وتقدمونه وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يستنكفون عن عبادته وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يتعبون ولا يملون يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ أي تسبيحهم دائم متصل في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر، فتسبيحهم جار مجرى التنفس من الإنسان، فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا قادرون عليه. نقل: بمناسبة قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ قال صاحب الظلال: (و «بل» للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو، والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس. وهو غلبة الحق وزهوق الباطل. والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة. فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة تقذف به على الباطل، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب، هذه هي السنة المقررة. فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود. والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا. طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له،

كلمة في السياق

يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لشئ. يطارده الله، ولا حياة لشئ تقذفه يد الله فتدمغه. ولقد يخيل للناس- أحيانا- أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير. وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب. ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب. وإن هي إلا فترة من الزمان، يمد الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء. ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض، وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء. والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده، وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه، وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه .. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة، وأدركوا أنه الابتلاء، وأحسوا أن ربهم يربيهم، لأن فيهم ضعفا أو نقصا، وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يختارون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف .. وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء .. أما العاقبة فهي مقررة: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ. كلمة في السياق: إن علة إعراض الكافرين وغفلتهم هي جهلهم بالله وفساد تصوراتهم عن حكمة خلقه السموات والأرض، إنهم يجهلون أن الله لا يلهو ولا يعبث، ويجهلون جلاله وعظمته، ويجهلون أن من شأنه وسنته أن يبطل الباطل ويهلكه، وأن من شأنه أن يعبد ويقدس، ولو أنهم عقلوا هذه المعاني ما أعرضوا ولا غفلوا، ولا أنكروا إرساله الرسل، ولا أنكروا إنزاله الكتب والوحي، فلنتأمل صلة هذه الآيات ومعانيها بمقدمة السورة: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ لم يغفلون ويعرضون؟ إنهم غافلون معرضون؛ لتصورهم أن هذه السموات والأرض خلقت عبثا، ولولا هذا لأدركوا أنهم محاسبون فلم الإعراض، ولم الغفلة؟!، ثم لو أدركوا أن من شأن الله أن يقذف بالحق على الباطل، ما أعرضوا ولا غفلوا ولما استمعوا الذكر وهم يلعبون وقلوبهم لاهية، ولو عرفوا أن كل من في السموات والأرض ملكه، ولو عرفوا عبادة

فوائد

الملائكة لله لمعرفتهم بعظمته وجلاله ما أعرضوا ولا غفلوا، ولما استمعوا لذكره على هذه الطريقة، ولكنهم جاهلون بهذا كله، ومن ثم كفروا، ومن ثم لم يؤمنوا، ومن ثم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ومن ثم وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ به الله مما يتعالى عنه. فالصلة بين هذه الآيات ومقدمة السورة واضحة فلا يغفل إنسان عن اليوم الآخر إلا لجهله بالله. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ينقل ابن كثير عن مجاهد أن كل أَنْ في القرآن فهو إنكار أي نفي 2 - في تفسير اللهو في قوله تعالى لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أكثر من قول، وقد اعتمدنا ما قاله مجاهد، وهو الذي يتفق مع السياق قال: يعني من عندنا وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. 3 - أخرج ابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا: ما نسمع من شئ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» ذكره ابن كثير بمناسبة قوله تعالى عن الملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ وقال عن هذا الحديث غريب، ولم يخرجوه، ثم ذكر أن ابن أبي حاتم أخرجه عن قتادة مرسلا. 4 - ذكر ابن كثير عن ابن إسحاق أن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا من بني عبد المطلب، قال: فقبل رأسي ثم قال: يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟. ولنعد إلى السياق: فقد ذكرت الآيات التي مرت معنا من المجموعة الثانية بعض التصورات الفاسدة

[سورة الأنبياء (21): آية 21]

للكافرين من خلال تقرير الحقيقة المخالفة لتصوراتهم، والدليل على أن الآيات الخمس السابقة عالجت تصورات فاسدة للكافرين هو ابتداء الآية اللاحقة من المجموعة الثانية بقوله تعالى: أَمِ في الآية أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ إن (أم) التي بمعني بل والهمزة، والتي تعطف نوع عطف ما بعدها على كلام سابق، تدل على أن الآيات الأولى من المجموعة الثانية كانت تسجل موقفا للكافرين من خلال العرض المقابل لأفكارهم، فلنستمر في عرض آيات المجموعة الثانية: ... أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ أي بل اتخذوا آلهة من الأرض، فبسبب ذلك غفلوا عن اليوم الآخر وعن الحساب وأعرضوا عن الوحي وعن الذكر هُمْ يُنْشِرُونَ أي يحيون، أي هل هذه الآلهة تحيي وتعيد الحياة حتى عبدوها؟ أو هل هذه الآلهة الأرضية التي اتخذوها تحيي الموتى فهم مطمئنون إذا بعثتهم أنها لا تعذبهم؟، والمعنى: إن الله وحده هو الذي سيحييهم بعد مماتهم؛ فعليهم أن يعبدوه وحده ويتقوه لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ أي غير الله لَفَسَدَتا أي لخربتا والمعنى: لو كان يدبر أمر السماوات والأرض آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا فَسُبْحانَ اللَّهِ أي تنزيها له رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ من أن له شريكا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأنه المالك على الحقيقة وَهُمْ يُسْئَلُونَ لأنهم مملوكون خطاءون فما أخلقهم بأن يقال لهم لم فعلتم عن كل شئ فعلوه؟ وإذن فالله عزّ وجل وحده هو الإله الذي يحيي الموتى، وهو وحده الذي يدبر أمر السماء والأرض، وهو وحده الذي يسأل ولا يسأل، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يغفل الغافلون، وكيف يعرض المعرضون، وكيف ينسى حسابه الناس أجمعون، وكيف إلى ذكره لا يستمعون واجفين؟ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً من الأرض، أو من السماء؛ فبسبب ذلك هم غافلون عن حسابه، معرضون عن ذكره؟! قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على ذلك هذا أي القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي ذكر أمتي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يعني: ذكر أمم الأنبياء من قبلي، يعني هذا القرآن وهذه الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمونه فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله، وإذا كان الأمر كذلك فلم يبق مبرر لإعراضكم سوى أنكم جاهلون، ومن ثم ختمت الآية بقوله تعالى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ لأجل ذلك، أي لأجل جهلهم الحق مُعْرِضُونَ أي عن الحق.

نقول

نقول: بمناسبة قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا قال صاحب الظلال (وهناك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا .. فالكون قائم على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا؛ وينسق بين أجزائه جميعا، وبين حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم .. هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد. فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات. ولتعددت النواميس تبعا لها- فالإرادة مظهر الذات المريدة. والناموس مظهر الإرادة النافذة- ولانعدمت الوحدة. التي تنسق الجهاز الكوني كله، وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه، ولوقع الاضطراب والفساد تبعا لفقدان التناسق .. هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين؛ لأنه واقع محسوس. وإن الفطرة السليمة التي تتلقى إيقاع الناموس الواحد للوجود كله، لتشهد شهادة فطرية بوحدة هذا الناموس، ووحدة الإرادة التي أوجدته، ووحدة الخالق المدبر لهذا الكون المنظم المنسق، الذي لا فساد في تكوينه ولا خلل في سيره). وبمناسبة قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ قال صاحب الظلال: ومتى كان المسيطر على الوجود كله يسأل، ومن ذا الذي يسأله، وهو القاهر فوق عباده، وإرادته طليقة لا يحدها قيد من إرادة أخرى، ولا حتى من الناموس الذي ترتضيه هي وتتخذه حاكما لنظام الوجود. والسؤال والحساب إنما يكونان بناء على حدود ترسم، ومقياس يوضع والإرادة الطليقة هي التي تضع الحدود والمقاييس، ولا تتقيد بما تضع للكون من الحدود والمقاييس إلا كما تريد، والخلق مأخوذون بما تضع لهم من تلك الحدود فهم يسألون. وإن الخلق ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسأل سؤال المنكر المتعجب: ولماذا صنع الله هكذا.؟ وما الحكمة في هذا الصنيع؟ وكأنما يريدون ليقولوا: إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك الصنيع. وهم يتجاوزون في هذا حدود الأدب الواجب في حق المعبود، كما يتجاوزون حدود

الإدراك الإنساني القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات، وهو محصور في حيزه المحدود. إن الذي يعلم كل شئ، ويدبر كل شئ، ويسيطر على كل شئ، هو الذي يقدر ويدبر ويحكم. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ وبمناسبة الآية نفسها قال الألوسي: (وهذا الحكم في حقه تعالى عام لجميع أفعاله سبحانه ويندرج فيه خلق الكفرة وإيجادهم، ووجه حل السؤال الناشئ مما تقدم بناء على ما يشير إليه هذا الجواب الإجمالي أنه تعالى خلق الكفرة- بل جميع المكلفين- على حسب ما علمهم عليه في أنفسهم لأن الخلق مسبوق بالإرادة والإرادة مسبوقة بالعلم، والعلم تابع للمعلوم، فيتعلق به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول، بما يقتضيه استعداده الأزلي، وقد يشير إلى بعض ذلك قول الشافعي عليه الرحمة من أبيات: خلقت العباد على ما علمت … ففي العلم يجري الفتى والمسن ثم بعد أن خلقهم على حسب ذلك كلفهم لاستخراج ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، ولا يكون للناس على الله تعالى حجة فلا يتوجه على الله تعالى اعتراض بخلق الكافر، وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر بكفره، حيث إنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المجعول، وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وقوله عليه الصلاة والسلام «فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاه كثير من المحققين والأجلة العارفين. (أقول: علم الله أزلا وأراد أزلا فذكر السبق للإفهام وللإلزام) وأقول: إن قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ لا ينفي البحث عن الحكمة في تشريعه وأفعاله، إن المنهي عنه السؤال للاعتراض، قال الألوسي ناقلا عن ابن القيم رحمه الله، في موضوع وجود الحكمة في أفعاله وتشريعه: (وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل: إن الله سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة، بل أفعاله

كلمة في السياق

سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها، فنذكر بعض أنواعها، وساق اثنين وعشرين نوعا في بضع عشرة ورقة ثم قال: لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره، لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، ثم قال: وهل إبطال الحكم والمناسبات، والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جملة؟ وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل. وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ ثم قال: والحق الذي لا يجوز غيره، هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم، وهذا قول جمهور أهل الإسلام، وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة) أهـ. كلمة في السياق: أحصت هذه المجموعة من الآيات مجموعة الأسباب التي تجعل هؤلاء يغفلون عن الحساب ويعرضون عن الحق، وفندتها كلها، وأبطلتها، وإذا كان الأمر كذلك فليس إلا الجهل هو سبب الغفلة والإعراض. إن الصلة بين هذه المجموعة وسياق السورة الخاص من حيث إن السورة تعلل أسباب الغفلة والإعراض وتفندها، واضحة، وقد مر معنا ما فيه الكفاية في ذلك، والصلة بين هذه المجموعة، وبين محور السورة من سورة البقرة كذلك واضحة ففي سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وهذه المجموعة تبين علة كفر هؤلاء، وهي الجهل الذي يترتب عليه إعراض، ومن اجتمع له الجهل والإعراض، فهو لا يسمع ولا يرغب أن يسمع، ومن ثم فالكلام معه وعدمه سواء. فوائد: 1 - دل قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ على أن من لا يملك النشر- أي إحياء الموتى- لا يصح أن يكون إلها وإذا كان الله تعالى وحده هو القادر على كل شئ، فهو وحده القادر على النشر، فهو وحده الإله، وفي ذلك تقريع لمن نسي الحساب، وتقريع لمن اتخذ معه إلها. 2 - من أعظم الأدلة التي ذكرها القرآن على التوحيد هو قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا

ويسمي العلماء هذا الدليل على الوحدانية ببرهان التمانع، وقد شغل هذا البحث عشرات الصفحات من كتب المصنفين في علم الكلام، وأنت تعجب عند ما تقرأ هذه المباحث الطويلة، كيف أن هذا التعبير القصير يدخل إلى القلب، وإلى العقل، بما لا مزيد عليه، ثم إنه يعجز البشر عن أن يستوعبوا حدود آفاقه، وبمناسبة هذا النص ذكر الألوسي كلاما كثيرا للعلماء فيما سمي- باصطلاح العلماء- ببرهان التمانع، ونحن ننقل لك هاهنا عنه بعض ما نقله عن الدواني: قال الدواني: (إن للتمانع عندهم معنيين: أحدهما إرادة أحد القادرين وجود المقدور، والآخر عدمه، وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع، وثانيهما إرادة كل منهما إيجاده بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر فيه، وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين، وقولهم لو تعدد الإله لم يوجد شئ من الممكنات؛ لاستلزامه أحد المحالين، إما وقوع مقدور بين قادرين، وإما الترجيح بلا مرجح، وحاصل البرهان عليه: أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال، لأمكن بينهما تمانع، واللازم باطل؛ إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم: إما أن لا يقع مصنوع أصلا، أو يقع بقدرة كل منهما، أو بأحدهما. والكل باطل، ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما؛ لتخلف مراد كل منها عن إرادته، فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال، وقد فرضا كذلك؛ ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين، إما إمكان التوارد، وإما إمكان الرجحان من غير مرجح، والكل محال؛ وبهذا الاعتبار- مع حمل الفساد على الكون- قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه، ودليل قطعي من وجه آخر والأول بالنسبة إلى العوام والثاني بالنسبة إلى الخواص. 3 - عرفنا الله عزّ وجل على ذاته تعريفا كاملا بالقدر الذي يحتاجه الإنسان، وتقوم به الحجة على الإنسان في التدليل على وجود الله، وعلى اتصافه بالصفات العليا، والأسماء الحسنى، وبالقدر الذي تقوم به الحجة على حكمة الله في أفعاله وأحكامه، وبالقدر الذي يحتاجه المكلف، وتقوم به الحجة على التكليف، وعلى الجزاء والعقاب، أما ما فوق ذلك فقد أخبرنا الله عزّ وجل عن ذاته بقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً إن كثيرين من الناس يوغلون في بعض المباحث إلى الحد الزائد عما تقوم به الحجة، وهاهنا يقعون في الخطأ لأن هذا مقامه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فمثلا: في الدعوة إلى الله علينا أن نبرهن على أن الله موجود، وعلى أنه أرسل رسولا، وعلى أنه

أنزل وحيا، وعلينا أن نعرف على الله، وعلى أن الإنسان مسئول أمامه، وفي عملية التعريف على الله نذكر أن كل شئ بعلمه وإرادته وقدرته، وفي عملية التعريف على مسئولية الإنسان نثبت أن الإنسان مكلف مختار، ونبرهن على أن اختيار الإنسان لا يتنافى مع إحاطة العلم والإرادة والقدرة، لأن القدرة تعمل على وفق الإرادة، والإرادة تعمل على وفق العلم، والعلم كاشف لا مجبر، عند هذا الحد يقف الكلام، فلو جادلنا مجادل فقال: لم أراد الله ما أراد؟ نقول: الحكمة معروفة وموجودة، ولكن ما بعد ذلك لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ إن معرفة هذا الموضوع من أهم ما ينبغي أن يعرفه المسلم، ومن أعظم ما ينبغي أن يتذكره الإنسان في سيره العقلي إلى الله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ لم خلق الله الشر؟ لم خلق الألم في هذه الدنيا؟ الجواب: لكل ذلك حكمة يمكن البحث عنها، ولكن في النهاية لا بد أن يكون واضحا أن أحدا ليس من حقه أن يسأل الله فالله هو الرب، وهو الذي من حقه أن يسأل، إن التسليم لله تعالى هو غاية العقل، وهو غاية الحكمة أما أنه هو غاية العقل فلأن بداهة الفطرة تقول: إن الله وحده له العلم المحيط، والحكمة البالغة؛ ومن ثم فلا يحيط بأسرار فعله إلا هو، فغاية العقل أن يعرف حدوده بالتسليم لله، وأما أن التسليم لله غاية الحكمة، فلأن الاعتراض دأب الجاهلين، ولم يكن جاهل في يوم ما حكيما، إن الإنسان مقامه العبودية لله، والمسئولية أمامه، فإذا قلب الإنسان الآية فإنه يكون من الجاهلين بجلال الله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ 4 - نلاحظ أنه قد ذكر موضوع اتخاذهم الآلهة مرتين في هذه المجموعة: الأولى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ والثانية أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. فما حكمة ذلك؟ يلاحظ أنه قيدت الإلهية المتخذة في الآية الأولى بالأرض، بينما لم تقيد في الآية الثانية، فكأن الآية الثانية تتحدث عن اتخاذهم آلهة من الأرض وغيرها، وللنسفي تعليل آخر قال: (الإعادة لزيادة الإفادة، فالأول للإنكار من حيث العقل، والثاني من حيث النقل، أي وصفتم الله تعالى بأن يكون له شريك، فقيل لمحمد: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي هذا نقلي وذاك عقلي اهـ) عن النسفي بتصرف. 5 - فسرنا قوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أن المراد بذكر

من معي القرآن الذي هو ذكر هذه الأمة، وأن المراد بذكر من قبلي: الكتب السابقة، ولكننا نحتمل أن يكون المراد القرآن في المرتين، فالقرآن فيه ذكر هذه الأمة، وفيه الذكر الذي أنزل على كل الأمم السابقة، وعلى القول الأول فقد دل قوله تعالى هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي على أن الكتب السماوية كلها قد دعت إلى التوحيد الخالص، وهذا شئ بديهي فيها، ومع أنها الآن محرفة ومبدلة- كما أثبتنا ذلك أكثر من مرة- فإنه بقي فيها حتى الآن ما يدل على أن التوحيد الخالص هو دعوة الأنبياء جميعا، وقد حاول سيف الله أحمد فاضل في تعقيباته على إنجيل برنابا أن ينقل طرفا من ذلك فاستوعبت نظرته كتب العهد القديم والجديد، قال: وقد وردت لا إله إلا الله في أسفار العهد القديم والجديد (الكتب التي يؤمن بها اليهود والمسيحيون حاليا) وأبين بعضها فيما يلي: (لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم حجرا مصورا لتسجدوا له؛ لأني أنا الرب إلهكم) (سفر اللاويين 26: 1) أي أن كل حجر مصور لا يمكن أن يكون إلها بل هو وثن. (الرب هو الإله ليس آخر سواه) (سفر التثنية 4: 35) (اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك) (سفر التثنية 6: 4، 5) أي لا تحب إلا الرب بكل ما أعطيت (فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه). (سفر التثنية 7: 9) (فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك) (سفر التثنية 10: 12) (الرب إلهك تتقي إياه تعبد) أي تعبده لا تعبد غيره (وباسمه تحلف) (سفر التثنية 10: 12) أي إذا حلفت فاحلف باسم الله- وفي سفر التثنية 13: 4 (وراء الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون وإياه تعبدون). (انظروا الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون ووصاياه تحفظون» .. (وإياه تعبدون). انظروا الآن. أنا أنا هو وليس إله معي. أنا أميت وأحيي. سحقت وإني أشفي وليس من يدي مخلص). (سفر التثنية 32: 39) - وتعني ليس من يدي مخلص: أي أنه لا شفيع ولا وكيل من دونه (ليس قدوس مثل الرب لأنه ليس غيرك) (سفر صموئيل الأول 2: 2)، (ولا تحيدوا عن الرب بل اعبدوا الرب بكل قلوبكم. ولا تحيدوا. لأن ذلك وراء الأباطيل التي لا تفيد ولا تنقذ لأنها باطلة). (سفر صموئيل الأول: 12: 20، 21). (لذلك قد عظمت أيها الرب الإله لأنه ليس مثلك وليس إله

غيرك). (سفر صموئيل الثاني 7: 22): (أيها الرب إله إسرائيل ليس إله مثلك). (سفر الملوك الأول 8: 33) «ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر). (سفر الملوك الأول: 8: 60) (الرب هو الله الرب هو الله) (سفر الملوك الأول 18: 39) (أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدي الناس. لها أفواه لا تتكلم. لها أعين لا تبصر. لها آذان ولا تسمع. كذلك ليس في أفواهها نفس. مثلها يكون صانعوها وكل من يتكل عليها. يا بيت إسرائيل باركوا الرب ... ) (من مزمور 135: 15: 20) (اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله) (سفر الجامعة 12: 13) (أنا الرب هذا اسمي لا أعطيه لآخر) (سفر أشعياء 42: 8) (إني أنا هو. قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب وليس غيري مخلص) (سفر أشعياء 43: 10، 11) (أنا الأول والآخر ولا إله غيرى) .. (وما أعلمتك منذ القدم وأخبرتك فأنتم شهودي. هل يوجد إله غيري) (سفر أشعياء 44: 8) (أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي. نطقتك وأنت لم تعرفني لكي يعلموا من مشرق الشمس ومن مغربها أن ليس غيري. أنا الرب وليس آخر) (سفر أشعياء 45: 5، 6) (أنا الرب وليس آخر) (سفر أشعياء 45: 18) (أليس أنا الرب ولا إله غيري، إله بار ومخلص ليس سواي التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر) سفر أشعياء 45: 21) (اذكروا الأوليات من القديم لأني أنا الله وليس آخر الإله وليس مثلي) سفر أشعياء 46: 9 «وإني أنا الرب إلهكم وليس غيري) سفر يوئيل 2: 72). وفي إنجيل مرقص يقول المسيح عليه السلام: (إن أول كل الوصايا: هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى) (إنجيل مرقص 12: 29، 30) فقال له الكاتب (وهو نيقوديموس على ما بينه إنجيل برنابا) (بالحق قلت لأن الله واحد وليس آخر سواه) (إنجيل مرقس 12: 32) فأعجب المسيح عليه السلام برده وقال له: (لست بعيدا عن ملكوت الله .. (إنجيل مرقص 12: 34). ***

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وهي تمتد من الآية (25) إلى نهاية الآية (33) وهذه هي [سورة الأنبياء (21): الآيات 25 الى 33] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) التفسير: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أي وحدوني، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، وعن لا إله إلا الله التي بعث بها الرسل ينبثق كل خير، وكل فضل.

كلمة في السياق

قال الألوسي: (في مفتاح السعادة لابن القيم أنه لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة، ولا عمل صالح، ولا صلاح في معيشة، ولا قوام لمملكة، ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية، والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم فمن آثار النبوة، وكل شر وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها، فالعالم جسد روحه النبوة، ولا قيام للجسد بدون روحه، ولهذا إذا انكسفت شمس النبوة من العالم، ولم يبق في الأرض شئ من آثارها البتة، انشقت سماؤه، وانتثرت كواكبه، وكورت شمسه، وخسف قمره، ونسفت جباله، وزلزلت أرضه، وأهلك من عليها، فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة). كلمة في السياق: ما الصلة بين هذه الآية وما سبقها؟ نلاحظ أنه ورد قبل هذه الآية قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كما ورد قبل ذلك قوله تعالى أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ ومن ثم فبعد أن رد أكثر من رد على اتخاذ الإنسان مع الله إلها، جاءت هذه الآية لتؤكد أن كل رسول بعث بالتوحيد فحجة الله قائمة على البشر. أما الصلة بين هذه الآية وسياق السورة الخاص فتجده إذا تذكرت قول الكافرين كما قصه الله علينا بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فهذه الآية تقول إن الأولين قد أرسلوا بالتوحيد، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم أرسل بالتوحيد ورسالته مؤكدة لرسالات الرسل من قبله، فلماذا يطالبون بالآيات، ويرفضون المضمون، وهو مضمون كل رسالة لله، ولماذا يسمون هذه الرسالة هذه الأسماء وينعتونها هذه النعوت؟ وهي استمرار لرسالات الله. وبعد أن يصل السياق إلى هذه الآية يعرض لنا السياق قولا جديدا من أقوال الكافرين بعد كان قولهم الأول: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وقولهم الثاني: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ وقولهم الجديد الذي سنعرضه الآن هو: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً قائل هذا القول بعض قبائل العرب، كخزاعة التي كانت تزعم أن الملائكة بنات الله، كما أنه قول النصارى في المسيح، وقول طائفة من اليهود في عزير، وقول الكثير من البشر في أنبيائهم على مر العصور، وقد ذكر الله عزّ وجل هذا القول

[سورة الأنبياء (21): آية 26]

بعد أن بين أن كل الرسل بعثوا بالتوحيد وبعبادة الله وحده وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ نزه الله عزّ وجل ذاته عن ذلك بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي بل هم عباد مكرمون مشرفون مقربون، فهو إذا اتخذ يتخذ عبادا ويكرمهم، ولا يتخذ أولادا فالعبودية تنافي الولادة لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يسبقونه بقولهم، فهم في غاية الأدب، ويدخل في ذلك الملائكة والأنبياء، إذ المعنى: أنهم يتبعون قوله، فلا يسبق قولهم قوله، ولا يتقدمون قوله بقولهم وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فهم في غاية الطاعة، فكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا مبني على أمره، لا يعملون عملا لم يؤمروا به، فهم في غاية الأدب وهم في غاية الطاعة يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما قدموا وأخروا من أعمالهم وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي لمن رضي الله عنه، وقال لا إله إلا الله وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله، أي مع الله فَذلِكَ القائل نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لتحقق عصمتهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي الكافرين الذين وضعوا الإلهية في غير موضعها. كلمة في السياق: الصلة بين هذه الآيات الأربع من المجموعة الثالثة وما قبلها، من حيث إن جعل الملائكة أولادا يتنافى مع التوحيد، فلا يتفق مع توحيد الله أن يكون له ولد؛ إذ للولد أحكام الأب، وبالتالي يكون هناك لله شريك، والله منزه عن الشريك، فالآيات ذكرت اتجاها شركيا للكافرين، وردت عليه في سياق التأكيد على التوحيد. والصلة بين هذه الآيات الأربع وسياق السورة: أنها قصت لنا قولا جديدا من أقوال أهل الشرك والكفر، وردت عليه، لتأتي بعد ذلك أربع آيات تنفي كل ما مر من أقوالهم ومواقفهم، فلنر بقية آيات المجموعة الثالثة. ... أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً أي كانتا شيئا واحدا، أو كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت فَفَتَقْناهُما أي ففصلنا السماء عن الأرض، على القول الأول. أو تشققت الأرض بالنبات، وجعلنا السماء تمطر على

[سورة الأنبياء (21): آية 31]

القول الثاني، وفي هذه الآية ثلاث معجزات كما سنرى في الفوائد وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي خلقنا من الماء كل حيوان، ويمكن أن تفهم الآية على أن فيها تشبيها تقديره: كأنما خلقنا كل شئ من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له، وقلة صبره عنه أَفَلا يُؤْمِنُونَ مع رؤيتهم هذا الذي يدل على وجود الله بشكل قطعي وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا أرسى الله الأرض بها وثقلها أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تضطرب بكم وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا أي طرقا واسعة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بها إلى البلاد المقصودة وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي بالشهب عن الشياطين وَهُمْ أي الكفار عَنْ آياتِها أي عن الأدلة التي فيها، كالشمس والقمر والنجوم وغير ذلك مُعْرِضُونَ أي غير متفكرين فيها فيؤمنون وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ نفسيهما أو المراد مكانهما وهو الأرض، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ أي كلهم أي الأرض والشمس والقمر، أو الليل والنهار والشمس والقمر فِي فَلَكٍ أي في سماء قال ابن عباس: الفلك هو السماء يَسْبَحُونَ سائرين. ملاحظة في السياق: لاحظ قوله تعالى في هذه الآيات أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا .. وقوله تعالى أَفَلا يُؤْمِنُونَ وصلة ذلك بمحور السورة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولاحظ قوله تعالى: وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وصلة ذلك بقوله تعالى في أول السورة: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ولنا عودة على السياق نقل: بمناسبة قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً قال صاحب الظلال: (وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا، مسألة جديرة بالتأمل تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام. فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية- كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر- كانت سديما. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية. وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت.

نقل

ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غدا. وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية. ونحن أصحاب هذه العقيدة- لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة تقبل اليوم وترفض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية. وهي شئ آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة، وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة .. إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية. وهي شئ آخر غير النظريات العلمية- كما بينا من قبل في الظلال. إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجئ ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها. منهج لتقديم العقل ليعمل وينطلق في حدوده ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق. دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة. فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه. وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه التي يقررها هنا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السموات والأرض. أو فتق السموات عن الأرض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن. ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية. ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر وهو حقيقة مستيقنة، وقصارى ما يقال: إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال). نقل: بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً قال صاحب الظلال: (والسماء كل ما علا، ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف. والقرآن يقرر أن السماء سقف محفوظ. محفوظ من الخلل بالنظام الكوني الدقيق، ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزا للعلو الذي تنزل منه آيات الله .. ) فوائد: 1 - في تفسير قوله تعالى رَتْقاً في قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً اتجاهان رئيسيان ذكرهما ابن كثير مع غيرهما.

الأول: قاله ابن عباس وهذا هو: (كانت السموات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات) وهذا الاتجاه في التفسير يتفق مع ما يقوله علماء الكون. فعلماء الكون يقولون: إن الأرض كانت كتلة نارية ولهم أدلة في ذلك تكاد تجعل المسألة من باب القطعيات، فإذا كان الأمر كذلك فإن الأرض كانت أيام ذلك لا تنبت وكانت سماؤها لا تمطر. الاتجاه الثاني قاله سعيد بن جبير وهذا هو كما نقله ابن كثير: (بل .. كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه) وهذا الكلام نفسه يتفق مع أدق النظريات العلمية في عصرنا، فالملاحظات العامة في هذا الكون أن بعض المجرات تنطلق بسرعة هائلة خارجة عن مركز الكون، مما يدل على أن هذا الكون كان ملتزقا، وكان كتلة واحدة، ويؤكد ذلك أنه من خلال طيف الإشعاعات تأكد أن مادة الكون واحدة وهناك نظرية أخرى لا تتحدث عن الكون كله وإنما عن المجموعة الشمسية أنها كانت كتلة واحدة وكل من هاتين النظريتين العلميتين تتفق مع قول سعيد بن جبير في الآية. فعلى تفسير ابن عباس أو تفسير سعيد بن جبير فإن الآية أشارت إلى شئ لم يعرفه الإنسان إلا متأخرا. والملاحظ أن الذين طرحوا كلا من النظريتين الكافرون، فكأنه في قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا إشارة إلى أن الكافرين سيكتشفون هذه الحقائق ويبرهنون عليها، وفي ذلك كله مظاهر من إعجاز هذا القرآن، الذي لا تتناهى عجائبه، وهنا يثور سؤال يثيره النسفي ويرد عليه. قال النسفي: فإن قيل متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ حتى ألزمهم الله بحجيتها عليهم (قلنا- القول للنسفي- إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة فقام مقام المرئي المشاهد). أقول: فكم في هذه الآية من حجة وكم فيها من معجزة؟! 2 - فهم بعضهم من قوله تعالى وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أن الميدان هو الدوران. ففهم من الآية أن الأرض لا تدور، وهذا فهم خاطئ فإن الجبال تمنع الميدان وهو الاضطراب، ولا تتحدث عن الدوران، وهذا الذي ذكره القرآن، هو الذي دلل العلم الحديث عليه بوسائله المتوفرة، إذ من المعلوم علميا أنه لولا الجبال لكانت القشرة الأرضية في حالة تشققات دائمة، بسبب تزحلق القشرة الأرضية على طبقة السيما وهي الطبقة الثانية في الأرض وبالتالى فإن الزلازل تكون دائمة والبراكين

كلمة في السياق

مستمرة ففيما ذكره القرآن معجزة علمية من معجزاته الكثيرة. 3 - وفي قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ إشارة إلى دوران الأرض إذ لما قال كُلٌّ والتي تشير إلى الجمع دل على أن السابحين أكثر من اثنين والليل والنهار ليسا جرمين، بل الأرض هي الجرم السابح الذى يشبه الشمس والقمر، فالسابحون في الآية ثلاثة: الشمس، والقمر والثالث محل الليل والنهار وهو الأرض، وبالتالي فالآية تشير إلى الدوران قبل أن تطرح نظرية الدوران طرحها العالمي المعروف، وفي ذلك معجزة أخرى من معجزات القرآن. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ يذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال: يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي فأخبرنا عن كل شئ قال: «كل شئ خلق من ماء». وذكر ابن كثير ما أخرجه الإمام أحمد .... عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله اذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني فأنبئني عن كل شئ قال: «كل شيء خلق من الماء» قال: قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال: «أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام» أقول: الذى ذكره الحديثان شئ آخر ليس له علاقة بموضوعنا؛ فالحدثان يشيران إلى قوله تعالى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وقد ذكرنا في سورة هود بعض معلومات عصرنا، إن الفارق بين العناصر المكونة لهذا الكون إنما هو في عدد البروتونات والألكترونات، وأبسط العناصر على الإطلاق هو عنصر الهدروجين الذي تتألف ذرته من اليكترون واحد وبروتون واحد، ومن المعلوم أن الهدروجين هو العنصر الأصيل في الماء، فلا تعجب أن يكون أصل هذا الكون هو الماء. كلمة في السياق: لفت الله نظر الكفار في الآيات الأربع الأخيرة إلى أصل السموات والأرض وأصل الحياة، وإلى ظاهرة العناية في خلق الجبال، وخلق الفجاج وإلى حفظ السماء من الشياطين، وإلى ظاهرة العناية في خلق الليل والنهار، وسباحة الشمس والقمر والأرض في هذا الفلك الكبير، وفي لفت النظر إلى هذا ما يخرجهم من الكفر إلى الإيمان لو عقلوا، ومن ثم قال في الآية الأولى أَفَلا يُؤْمِنُونَ كما أن في هذا ما يخرجهم من

الإعراض إلى الإقبال لو تفكروا، ومن ثم قال في الآية الثالثة وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فالآيات هذه تعالج الإعراض، وتعالج الكفر، وفي ذلك مظهر من مظاهر صلة هذه الآيات بالسياق، وفي لفت النظر إلى هذا تعريف على الله وكمال قدرته وعظمته وفي ذلك رد لما زعموه في حق الله من الولد وتقرير لوجوب توحيده وعبادته، وهذا مظهر من مظاهر الصلة في السياق ومثقف هذا العصر يدرك أن ذكر هذه الآيات في هذا السياق هو أعظم رد على قولهم عن القرآن بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ إن كتابا يتحدث عن السماوات والأرض كما رأينا في الآيات الأربع لا يمكن أن يكون كما وصفوه، بل لا يمكن أن يكون إلا من عند الله، وإذن فهذه الآيات إذ تعرض مظهرا من مظاهر عظمة الله، ترد على من زعم أن لله ولدا وتذكر بوحدانيته وضرورة عبادته، وترد على ما زعمه الكافرون عن هذا القرآن، وتؤكد علم الله المحيط كما أنها توقظ من الغفلة، وتخرج من الإعراض، ولذلك صلة بما سبق من السورة. وإذا تأملنا المجموعة الثالثة وهي التي استقرت على الآيات الأربع، وبحثنا عن صلتها بمحور سورة الأنبياء من سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فإننا نلاحظ أن أول آية في الآيات الأربع ختمت بقوله تعالى أَفَلا يُؤْمِنُونَ والآية الثالثة منها ختمت بقوله تعالى وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فالآيات تقرر أن الكافرين في وضع من قيام الحجة عليهم لا يبقى معه مبرر لكفرهم، ومع ذلك فهم في وضع نفسي يبعدهم عن الإيمان لإعراضهم عن الآية وما تشير إليه وما تدل عليه. ***

المجموعة الرابعة

المجموعة الرابعة وتمتد من الآية (34) إلى الآية (40) وهذه هي: [سورة الأنبياء (21): الآيات 34 الى 40] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) التفسير: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي البقاء الدائم في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كانوا يؤملون أن يموت ويعيشوا بعده، فنفى الله عنه الشماتة بهذا، وبين أنهم إلى الفناء، والمعنى: قضى ألا يخلد في الدنيا بشر، أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ ثم قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ فذلك مقتضى قهره تعالى وَنَبْلُوكُمْ أي ونختبركم بِالشَّرِّ كالفقر والضر وَالْخَيْرِ الغنى والنفع فِتْنَةً أي اختبارا وابتلاء والله تعالى عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم وإنما أسماه اختبارا لأنه فيما يظهر في صورة الاختبار وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر. والمعنى: نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى. بالشدة تارة وبالرخاء

نقل

أخرى، بالصحة تارة وبالسقم أخرى فننظر من يشكر ومن يكفر ومن يصبر ومن يقنط، ومن يفز ومن يخسر، والله أعلم بما هم فاعلون قبل أن يفعلوا، ولكنه يحاسبهم على فعلهم لتقوم عليهم الحجة. نقل: بمناسبة قوله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً قال صاحب الظلال: (والابتلاء بالشر مفهوم أمره. ليتكشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان .. إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر، إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير .. كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم، الجامحة في أوصالهم. كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان، وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء. كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح، ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح. إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء. ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة. لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في

كلمة في السياق

الابتلاء: وذلك شأن البشر .. إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» وهم قليل. فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان ... ) كلمة في السياق: مر معنا من قبل قوله تعالى وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ في أول رد على من يتصور أن الرسول لا ينبغي أن يكون بشرا، وهاهنا يكمل الله عزّ وجل الرد، فهناك يقول وَما كانُوا خالِدِينَ وهاهنا يبين الله عزّ وجل أن سنته في البشرية كلها الموت، وأنه جعل الحياة وما فيها اختبارا وابتلاء للإنسان، فالعبرة في النجاح في الامتحان، ومن ثم فانتظار الكافرين موت الرسول شماتة خطأ في التصور، وتصورهم أن المفروض بالرسول ألا يموت خطأ في التصور، لأنهم بذلك لا يعرفون سنة الله في خلقه، وقد دلت الآيتان على أن الكافرين كانوا يستعجلون موت الرسول صلى الله عليه وسلم ويتمنون وبعد أن سجل الله عزّ وجل هذا الموقف لهم من خلال الرد عليهم، يذكر الآن موقفا آخر: ... وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أي ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي يستهزءون بك وينتقصونك يقولون: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي بذكر الله، وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، أو بذكر الرحمن الذي هو القرآن هُمْ كافِرُونَ أي جاحدون أي لا يصدقون أصلا به أي فهم أحق أن يتخذوا هزوا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية، وهي الكفر بالله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق عجلا سَأُرِيكُمْ آياتِي أي نعمي وحكمي واقتداري على من عصاني فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي بالإتيان بها. قال صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ (فالعجلة في

[سورة الأنبياء (21): آية 38]

طبعه وتكوينه. وهو يمد ببصره دائما إلى ما وراء اللحظة الحاضرة، يريد ليتناوله بيده، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه .. ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن، ويكل الأمر له فلا يتعجل قضاءه. والإيمان ثقة وصبر واطمئنان). وقال ابن كثير: (والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك فقال الله تعالى له خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته يؤجل ثم يعجل وينظر ثم لا يؤخر وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إتيان العذاب يقولون هذا تكذيبا وجحودا وكفرا وعنادا واستبعادا والجواب لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد؟! وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً أى بل تأتيهم الساعة فجأة، أو بل تأتيهم النار فجأة فَتَبْهَتُهُمْ أي فتحيرهم وتذعرهم فيستسلمون لها حائرين لا يدرون ما يصنعون فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي ليس لهم حيلة في ذلك أي فلا يقدرون على دفعها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي ولا هم يمهلون أي لا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة. كلمة في السياق: 1 - مرت معنا حتى الآن مقدمة السورة وأربع مجموعات: المجموعة الأولى بدأت بقوله تعالى ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ والمجموعة الثانية بدأت بقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ والمجموعة الثالثة بدأت بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ. والمجموعة الرابعة بدأت بقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. فالملاحظ أن كلمة (ما) أو (وما) هي بداية المجموعات الأربع، وسنرى أن آخر

المجموعة الخامسة

مجموعة في السورة تبدأ بكلمة (وما) وهي المجموعة التي بدايتها الآية وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وفيما بين المجموعة الرابعة، والمجموعة الأخيرة، سنجد أربع مجموعات، كل منها علامته كلمة (ولقد) المجموعات الثلاث الأولى منها تبدأ الآيات الأولى منها بكلمة (ولقد) والمجموعة الرابعة تنتهي آياتها بآية مبدوءة بكلمة (ولقد) وتكاد تكون المجموعات التي علامتها كلمة (ولقد) استمرار للمجموعة الرابعة التي مرت معنا. 2 - سجلت المجموعة الرابعة موقفين للكافرين: تمني موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به وبأقواله، وعالجت كلا من الموقفين، مفندة له محذرة أهله، ومنذرة لهم وواصفة لهم ما الذي أمامهم. والآن تأتي مجموعة هي استمرار لهذه المجموعة إذ تبين أن استهزاء هؤلاء ليس جديدا في تاريخ البشرية مع الرسل. المجموعة الخامسة وتمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (47) وهذه هي: [سورة الأنبياء (21): الآيات 41 الى 47] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)

ملاحظات حول السياق

ملاحظات حول السياق: 1 - نلاحظ أنه يوجد في هذه المجموعة قوله تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ وهذا يذكرنا بالآية الأولى من هذه السورة اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وهذا يبين صلة المجموعة بسياق السورة الخاص. 2 - نلاحظ أنه يوجد في هذه المجموعة قوله تعالى قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ وهذا يذكرنا بمحور السورة من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ لاحظ معنى الختم على الأسماع في المحور ولاحظ كلمة الصُّمُّ في المجموعة. التفسير: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم، بأن له بالأنبياء أسوة حسنة وأن ما يفعلونه به سيحيق بهم عقابه كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا، ومن ثم قال فَحاقَ أي حل ونزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، وبعد أن سلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين له أن عاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك، إن استمروا على استهزائهم. أمره أن يقول: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي ليلا ونهارا مِنَ الرَّحْمنِ أي من عذابه؟ والجواب: لا أحد، ولكن لما كانوا من الغفلة والإعراض والتصامم بحيث ليس عندهم استعداد حتى للسماع فضلا عن الفهم، فضلا عن الإجابة الصحيحة، قال تعالى بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ثم قرر الله عزّ وجل أنه وحده هو الكافي، وبالتالي فهو القادر على إنزال العذاب متى شاء، قرر ذلك من خلال هذا السؤال الإنكاري التقريعي التوبيخي أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا أي ألهم آلهة

[سورة الأنبياء (21): آية 44]

تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا ما زعموا، ولهذا قال: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ أي هذه الآلهة التي استندوا إليها من دون الله لا تستطيع نصر أنفسها وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي ولا هؤلاء الآلهة المزعومة يعانون ويوفقون من الله، وما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحور من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره؟ ثم قال تعالى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي إن ما الكافرون فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو من الله، لا من مانع يمنعهم وما كلأهم الله وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا، وإمهالا كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم، حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون على ذلك، وهو أمل كاذب أَفَلا يَرَوْنَ أي كدليل على أن الأمر أمر الله، وأن أحدا لا يمنع منه أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ لدولة ما نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فنقلص سلطانهم عليها، إدالة عليهم لدولة أخرى أَفَهُمُ الْغالِبُونَ الذين يغلبون جند الله ورسله؟ لا. بل الله ورسوله وجندهم الغالبون، ولنا عودة على تفسير هذه الآية، ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ إنما أخوفكم من العذاب بالقرآن الذي هو وحي الله إلي، فليس ما أنذركم به من عندي وليس كلاما كبقية الكلام، بل هو كلام الله المحيط علما، القادر القهار، إلا أن الله أفهم رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمره أن يقول ذلك لتقوم على الكافرين الحجة: أن هذا الكلام لا يجدي مع من أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه. ولهذا قال: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ أي هؤلاء صم ولا يسمعون ما تدعوهم إليه إِذا ما يُنْذَرُونَ أي إذا ما يخوفون، فعندهم صمم عن الإنذار، ثم بين عزّ وجل أن هؤلاء على هذه المنهجية والكبر إذا مسهم أدنى عذاب غيروا واعترفوا فالحماقة والجهل والكبر تجعلهم يستمرون على ما هم عليه: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أي دفعة يسيرة، أي أدنى شئ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ معترفين يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي ولئن مسهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شئ لذلوا ودعوا بالويل على أنفسهم، وأقروا حين تصاموا وأعرضوا، فاثبت على ما أنت عليه، وانتظر فيهم ما وعدناك، وها هو يوم القيامة آت وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي العدل لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال ابن كثير: الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه، وقال النسفي: وإنما جمع لتعظيم شأنها فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ولو قليلا. فلا ظلم هناك وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها أي أحضرناها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ أي عالمين حافظين.

نقل

نقل: بمناسبة قوله تعالى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ قال صاحب الظلال: (فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم، والمتاع ترف، والترف يفسد القلب ويبلد الحس، وينتهي إلى ضعف الحساسية بالله، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها، ويصلها دائما بالله، فلا تنساه. ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدولة المتغلبة وتنحسر وتتقلص. فإذ هي دويلات صغيرة وكانت إمبراطوريات. وإذ هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة. وإذ هي قليلة وكانت كثيرة. وإذ هي قليلة الخيرات وكانت فائضة الخيرات. والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد. فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة وفيه الرهبة المخيفة! أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟ فلا يجري عليهم ما يجري على الآخرين). كلمة في سياق المجموعة الخامسة: هذه المجموعة تبين ما هو الموقف المكافئ لموقف الكافرين الذي سجلته المجموعة السابقة، وهو أن الكافرين يستهزءون بالرسول ودعوته، ووعيده لهم وإنذاره، وهاهنا يبين الله عزّ وجل الموقف المكافئ لذلك، وهو: أن يعلم الرسول ثم من بعده من أمته. أن الاستهزاء بالرسل دأب الكافرين في كل زمان، وأن الله سينتقم، وأن الله سيحاسب، وأن هؤلاء مغرورون، فهم ضعفاء جبارون، وأن سبب غرورهم هو إمداد الله لهم وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليهم الحجة بأكثر من معنى: في عجز آلهتهم وفي انتصارات المسلمين في المآل وفي قوة الوحي وأحقية القرآن. كلمة في سياق السورة: نلاحظ أن السورة ابتدأت بقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ونلاحظ أن كلمة الإعراض تكررت أكثر من مرة في السورة قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ

كلمة في سياق السورة وارتباطه بمحورها

ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ إن مجموعة صور للإعراض يذكرها السياق: إعراضهم عن السماع، إعراضهم عن التدبر، إعراضهم عن الإجابة على السؤال المذكر لهم بالله. وكل ذلك يقرر عدم استفادتهم من الإنذار بسبب منهم. هذا الإعراض سببه تصوراتهم الفاسدة عن موضوع الرسالة والرسول، أو آرائهم الفاسدة عن موضوع الالهية وقد رد الله عليهم ذلك كله، وأعلم الحق فيه لتقوم الحجة عليهم كاملة. وكل ذلك بلغة التذكير، فالسورة نموذج على كون هذا القرآن ذكرا. كلمة في سياق السورة وارتباطه بمحورها: إن محور السورة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ومن بداية السورة حتى آخر ما وصلنا إليه نلاحظ أن هناك تأكيدا لموضوع عدم استفادة الكافرين من الإنذار؛ مع كون السورة تنذر وتأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار. ومن بداية السورة حتى آخر ما وصلنا إليه منها تجد صورا من العذاب العظيم المعد لهؤلاء الكافرين. ومن بداية السورة حتى آخر ما وصلنا إليه منها تجد صورا من الإنذار وإقامة الحجة تدلل على أن العلة في رفض الهدى هي: أنفس هؤلاء الكافرين ومواقفهم؛ ومن ثم فإذا ختم الله على قلوبهم فلذنوبهم ولاستحقاقهم ذلك. وإذن فالسورة مع كونها تفصل في موضوع العذاب الذي يستحقه الكافرون، وتؤكد عدم استفادتهم من الإنذار بسبب مرضهم، إلا أنها لا تبقي حجة ولا شبهة ولا كلمة ولا موقفا لهؤلاء إلا وتعالجه. وقبل أن نعرض المجموعة السادسة ومحلها من السورة وكيف وصل السياق إليها فلنذكر بعض الفوائد التي لها صلة بالمجموعتين الرابعة والخامسة.

الفوائد

الفوائد: 1 - استدل بعض العلماء بقوله تعالى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ على أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي لأنه بشر سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا، وهو موضوع كثر الأخذ والرد فيه بين طوائف من الناس، وأكثر الفقهاء على هذا الرأي 2 - وصف الله الإنسان بأنه خلق من عجل، وقد ورد هذا في معرض ذم الاستعجال فكيف نوفق بين كون الإنسان خلق من عجل، وبين ذم الاستعجال؟ قال النسفي (وإنما منع عن الاستعجال وهو مطبوع عليه كما أمره بقمع الشهوة وقد ركبها فيه؛ لأنه أعطاه القوة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة) وبمناسبة قوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال ابن كثير: (قال مجاهد خلق الله آدم بعد كل شئ من آخر النهار من يوم خلق الخلائق، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس» 3 - قال ابن كثير في قوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها: (اختلف المفسرون في معناه وقد أسلفناه في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقال الحسن البصري يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر، والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين، ولهذا قال أَفَهُمُ الْغالِبُونَ يعني: بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون) 4 - وبمناسبة ذكر الميزان في قوله تعالى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ يذكر ابن كثير أحاديث ننقل منها ما يلي: أ- في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ب- وروى الإمام أحمد .... عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عزّ وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة،

فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال أفلك عذر أو حسنة؟ قال فبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيقول أحضروه فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة وقال ولا يثقل شئ مع بسم الله الرحمن الرحيم». ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث الليث ابن سعد وقال الترمذي: حسن غريب ج- روي الإمام أحمد .... أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني، وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحسب ما خانوك وعصوك، وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك» فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما له لا يقرأ كتاب الله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً* وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء- يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم. ولنعد إلى سياق السورة: بدأت السورة بقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ. ثم جاء قول على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جاء قول للكافرين: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ وجاءت الردود عليهم تترى: ما ووَ ما ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ* وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا

نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ .... وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ .... وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ .... وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ .... ثم رأينا آخر مجموعة ابتدأت بقوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والآن نجد المجموعة السادسة تبدأ بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ .... والمجموعة السابعة تبدأ بقوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ .... ثم يكون حديث بعد قصة إبراهيم عن لوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون وزكريا ومريم وابنها عليهم الصلاة والسلام ثم يأتي كلام ... ثم يأتي قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. ثم تأتي مجموعة مبدوءة ب وَما كما كانت المجموعات الأولى في السورة تبدأ فيأتي قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ... فالسورة إذن تتألف من مقدمة وتسع مجموعات، خمس من هذه المجموعات مبدوءة بكلمة ما* أو وَما*، وأربع مجموعات في الوسط علامتها كلمة وَلَقَدِ ... مرت معنا منذ قليل المجموعة الخامسة وهي من المجموعات التي بدأت بكلمة وَلَقَدِ، وتأتي الآن المجموعة السادسة وهي مجموعة قصيرة تتحدث عن موسى وهارون عليهما السلام، وهي مبدوءة بكلمة وَلَقَدِ، ثم تأتي المجموعة السابعة وهي مجموعة طويلة تتحدث عن إبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون وزكريا ومريم وابنها عليهم السلام، ثم تأتي المجموعة الثامنة لتبين أن هؤلاء الرسل جميعا مع رسولنا صلى الله عليه وسلم وأن أمم هؤلاء جميعا مع أمتنا، كلنا

المجموعة السادسة

أمة واحدة، ثم يسير السياق فما محل هاتين المجموعتين في سياق السورة؟ وما صلتهما بمحور السورة من سورة البقرة؟ كل ذلك سنراه تفصيلا، وابتداء نقول: إن المجموعتين تؤكدان على أن الأنبياء بشر، وعلى أنهم ليسوا خالدين، وعلى أنهم ابتلوا بالخير والشر، وأن القرآن ليس إلا وحيا من الله، أوحاه الله إلى محمد كما أوحى إلى غيره من الرسل، ولذلك صلاته بما مر من السورة: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ* وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ولذلك كذلك صلاته بالنذير والإنذار ولذلك ارتباطاته بمحور السورة، وسنرى ذلك تفصيلا إن شاء الله فلنبدأ عرض المجموعة السادسة. *** المجموعة السادسة وتمتد من الآية (48) إلى نهاية الآية (50) وهذه هي: [سورة الأنبياء (21): الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) التفسير: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ أي التوراة فهي فرقان بين الحق والباطل وَضِياءً يستضاء به ويتوصل به إلى سبيل النجاة وَذِكْراً أي شرفا أو وعظا وتنبيها، أو ذكرا لما يحتاج إليه في مصالح دينهم لِلْمُتَّقِينَ فهم المنتفعون بوحي الله، وصف الله عزّ وجل التوراة بأنها فرقان وضياء وذكر، وبين أنها كذلك للمتقين، ثم وصف الله المتقين بقوله الَّذِينَ يَخْشَوْنَ أي يخافون رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي في خلوتهم عن العباد، أو مع كونه غيبا بالنسبة لهم وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي من القيامة وأهوالها مُشْفِقُونَ أي خائفون، وصف الله المتقين بصفتين جامعتين: الخشية من الله، والإشفاق من اليوم الآخر فهؤلاء هم الذين تكون التوراة في حقهم فرقانا أي

[سورة الأنبياء (21): آية 50]

تفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام. وهي في حقهم نور لما يحصل من تطبيقها من نور في القلوب، وهداية، وهي في حقهم ذكر لما تحدثه في القلوب من خوف وإنابة وخشية، وإذا كانت التوراة كذلك فمن باب أولى هذا القرآن وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع أَنْزَلْناهُ على محمد صلى الله عليه وسلم أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي جاحدون مع أن فيه خصائص التوراة وزيادة، أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور على أنه من عند الله. كلمة في السياق: 1 - تأتي هذه الآيات لتقرر أن موسى وهارون عليهما السلام وهما بشران لم يكونا خالدين، قد أنزل الله عليهما التوراة، فاستغراب الناس أن ينزل الله القرآن على بشر هو محمد صلى الله عليه وسلم في غير محله، وهذه أول خدمة تخدمها هذه المجموعة لسياق السورة. 2 - تحدثت السورة عن موقف الكافرين من الوحي، وهو الإعراض والغفلة والرفض والتشويه، وتأتي هذه المجموعة لتقرر من من الناس يستفيدون من الوحي، ثم تبين أن هؤلاء هم الذين يكون الوحي في حقهم فرقانا وضياء وذكرا. 3 - وبعد أن ذكرت الآيتان الأوليان في المجموعة التوراة عقبت بذكر القرآن ووصفه بأنه ذكر مبارك، وأنكرت على من ينكره ووبخته، لأن إنكاره في غير محله. 4 - هذه المجموعة إذن دليل جديد، وحجة جديدة على صدق الرسالة وصحة الوحي، ونقض جديد لأقوال الكافرين، ومن هذا يظهر لك انسجامها مع سياق السورة الخاص. 5 - رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ... وهاتان الآيتان في حيز قوله تعالى في سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .. وقد أشارت المجموعة- على قصرها- إلى هذا كله، وأنكرت على الكافرين الذين ينكرون هذا القرآن ولا يؤمنون به. 6 - بعد أن حدثتنا المجموعة السادسة عن موسى وهارون عليهما السلام، وعن التوراة والقرآن، وعن المهتدين والمنكرين- أي عن المتقين والكافرين- تأتي المجموعة

المجموعة السابعة

السابعة وهي معطوفة على المجموعة السادسة، ولذلك فإنها تبدأ بكلمة وَلَقَدْ التي بدأت بها المجموعة السادسة. [المجموعة السابعة] والمجموعة السابعة تبدأ بالحديث عن إبراهيم عليه السلام، ثم تعطف بالحديث عن لوط عليه السلام، ثم تعطف بالحديث عن نوح عليه السلام، ثم تعطف بالحديث عن داود وسليمان عليهما السلام ثم تعطف بالحديث عن أيوب عليه السلام، ثم تعطف بالحديث عن إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام ثم تعطف بالحديث عن يونس ثم تعطف بالحديث عن زكريا عليه السلام ثم تعطف بالحديث عن عيسى وأمه عليهما السلام لتصل إلى المجموعة الثامنة التي بدايتها: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ولذلك صلته بقوله تعالى في السورة: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ولنا كلام على سياق هذه المجموعات الثلاث سيأتي 7 - ولطول المجموعة السابعة فإننا سنعرضها على فقرتين: الفقرة الأولى من المجموعة السابعة وتمتد من الآية (51) إلى نهاية الآية (77) وهذه هي: [سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 58] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

[سورة الأنبياء (21): الآيات 59 الى 77] قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

ملاحظات حول السياق

ملاحظات حول السياق: 1 - مر معنا في أول السورة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ وفي هذه الفقرة يذكر الله عزّ وجل من هؤلاء الرسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوطا ونوحا ويذكر جل جلاله كيف نجى إبراهيم ولوطا ونوحا عليهم السلام وكيف أهلك المسرفين، فقال عن إبراهيم ولوط عليهما السلام: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً وقال عن لوط عليه السلام وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ وقال عن نوح عليه السلام فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ. 2 - مر معنا في أوائل السورة قوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وفي هذه الفقرة حديث عن إهلاك قوم لوط وقوم نوح. 3 - ومر معنا في هذه السورة قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وهاهنا يقص الله علينا ماذا فعل إبراهيم بالآلهة الأرضية، وماذا قال عنها، وإلى ماذا دعا أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ .. وحدثتنا الفقرة عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام فقالت وَكانُوا لَنا عابِدِينَ فالفقرة إذن تضرب الأمثلة لتوضح ولتعمق معاني قد ذكرت من قبل في السورة. التفسير: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي هداه مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون عليهما السلام أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وَكُنَّا بِهِ أي بإبراهيم عليه السلام عالِمِينَ أنه أهل لذلك، أي علمنا أنه أهل لما آتيناه فآتيناه إياه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ أي الأصنام المصورة على صور شتى الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي أنتم لأجل عبادتها مقيمون أي معتكفون على عبادتها، وفي سؤاله هذا تجاهل لفعلهم؛ ليحقر آلهتهم

[سورة الأنبياء (21): آية 53]

مع علمه بتعظيمهم لها، وفي كلامه هذا نموذج على الرشد الذي أوتيه من صغره، ولما كان في سؤاله معنى الإنكار عليهم، وفيه طلب معرفة الدليل على عبادتهم، كان جوابهم قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي فقلدناهم، عجزوا أن يحتجوا على شركهم إلا بصنيع الآباء، ولذلك كان جوابه: قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أراد أن المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر، لا يخفى على عاقل، أي أنتم وهم في غير طريق مستقيم، فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالجد أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب؟ استعظاما منهم إنكاره عليهم، واستبعادا لأن يكون ما هم عليه ضلالا، فعندئذ أقبل عليهم مخبرا بأنه جاد فيما قال، غير لاعب، مثبتا لربوبية الملك العلام، وحدوث الأصنام قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلق السموات والأرض، أو خلق التماثيل فأنى يعبد المخلوق ويترك الخالق وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ المذكور من التوحيد مِنَ الشَّاهِدِينَ أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأكسرنها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي بعد ذهابكم فَجَعَلَهُمْ أي فجعل الأصنام جُذاذاً أي قطعا جمع جذاذة إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي للأصنام، أو للكفار لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أي لعلهم إلى الكبير يرجعون فيسألونه عن كاسرها، فيتبين لهم عجزه، أو لعلهم يرجعون إلى إبراهيم ليحتج عليهم، أو لعلهم يرجعون إلى الله لما رأوا عجز آلهتهم قالُوا أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل في أصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها، وعلى سخافة عقول عابديها مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي في صنيعه هذا أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الجديرة- عندهم- بالتوقير والتعظيم قالُوا أي قال من سمعه يحلف أنه سيكيد أصنامهم سَمِعْنا فَتًى أي شابا يَذْكُرُهُمْ أي يعيبهم يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي اسمه إبراهيم قالُوا أي من بيدهم الأمر فَأْتُوا بِهِ أي أحضروه عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي على رءوس الأشهاد في الملأ الأكبر، يحضره الناس كلهم لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي عليه بما سمع منه، أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة ويمكن أن يكون المعنى: لعلهم يحضرون

[سورة الأنبياء (21): الآيات 62 إلى 63]

عقوبتنا له لنريهم كيف ننتقم للآلهة. قال ابن كثير: وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام، التي لا تدفع عن نفسها ضرا، ولا تملك لهم نصرا فكيف يطلب منها شئ من ذلك؟ قالُوا بعد أن أحضروه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا يعني الذي تركه لم يكسره فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. قال ابن كثير: وإنما أراد بهذا أن يبادروه من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بخناقهم فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق، وليس الظالم من كسرها، فإن من لا يدفع عن رأسه الفأس، كيف يدفع عن عابديه البأس ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أجرى الله الحق على لسانهم في القول الأول، ثم أدركتهم الشقاوة أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم، استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم، وجاءوا بالفكرة الصالحة ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، ارتقوا ابتداء وعادوا إلى الحضيض انتهاء وقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف تأمرنا بسؤالهم؟! والمعنى: لقد علمت عجزهم عن النطق فكيف نسألهم؟ فقال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك محتجا عليهم: قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً إن عبدتموه وَلا يَضُرُّكُمْ إن لم تعبدوه أُفٍّ لَكُمْ أف: صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر، ضجر مما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، وبعد وضوح الحق فتأفف بهم وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أف لكم ولآلهتكم أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ، الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر، أفلا تعقلون أن من هذا وصفه لا يجوز أن يكون إلها، فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، وظهر الحق، واندفع الباطل، عدلوا إلى منطق البغي والظلم والإرهاب، دأب الظالمين في كل زمان ومكان قالُوا حَرِّقُوهُ أي بالنار؛ لأنها أهول ما يعاقب به وأفظع وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام منه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له أهول المعاقبات وهو الإحراق بالنار، وإلا فرطتم في نصرتها قُلْنا أي حين فعلوا ما قالوه يا نارُ كُونِي

[سورة الأنبياء (21): آية 70]

بَرْداً وَسَلاماً أي كوني ذات برد وسلام عَلى إِبْراهِيمَ أراد ابردي فيسلم منك إبراهيم وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أرادوا أن يكيدوه بالإحراق فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي المغلوبين الأسفلين، لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك. وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً أي بعد أن سلمه الله من النار أخرجه من بين أظهرهم هو ولوط ابن أخيه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أي أرض الشام، قال النسفي: وبركتها أن أكثر الأنبياء منها، فانتشرت في العالمين آثارهم الدينية وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي عطية وهل إسحاق ويعقوب نافلة أو أن النافلة يعقوب؟ قولان للمفسرين: قال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم سأل واحدا فأعطاه إسحاق، وزاده يعقوب نافلة، قال النسفي: وأعطي يعقوب نافلة أي زيادة وفضلا من غير سؤال وَكُلًّا من يعقوب وإسحاق وإبراهيم جَعَلْنا صالِحِينَ أي الجميع أهل خير وصلاح وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي يقتدى بهم في الدين يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يدعون إلى الله بإذنه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وهي جميع الأفعال الصالحة وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أمرناهم بها، ووفقناهم إليها وَكانُوا لَنا عابِدِينَ لا للأصنام وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة: وهي ما يجب فعله من العمل، أو فصلا بين الخصوم أو نبوة وَعِلْماً أي وفقها وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ وهي قرية سدوم، وقد عدد النسفي من الخبائث التي كانت تعملها: اللواطة، والضراط، وقذف المارة بالحصى إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة الله وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي في أهل رحمتنا أو في الجنة إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ دل ذلك على أن إدخاله في الرحمة، وإهلاك قومه، كان جزاء له على صلاحه وَنُوحاً أي واذكر نوحا عليه السلام إِذْ نادى أي دعا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي المؤمنين من ولده وقومه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الطوفان وتكذيب أهل الطغيان وَنَصَرْناهُ أي ومنعناه ونجيناه وخلصناه منتصرا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم. فوائد: 1 - بمناسبة الكلام عن إبراهيم عليه السلام في هذه السورة قال ابن كثير: (وما

يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكواكب والمخلوقات فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم، فعامتها أحاديث بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه. لموافقته الصحيح، وما خالف شيئا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وقفا وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين). 2 - بمناسبة قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم ... عن الأصبع بن نباتة قال: (مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها) أقول: هذا مذهب علي رضي الله عنه في الشطرنج، وهو الذي أخذ به الحنفية، ما عدا أبا يوسف إذ اعتبروا اللعب بالشطرنج كاللعب بالنرد، والكثيرون من الفقهاء يفرقون بين النرد والشطرنج، فيعتبرون اللعب بالشطرنج ما لم يكثر أو يله عن واجب لا بأس به إذا رافقته نية صالحة. 3 - وبمناسبة قوله تعالى قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ 4 - بمناسبة قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا قال ابن كثير: (وفي الصحيحين .. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، وقوله إِنِّي سَقِيمٌ قال: وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، ومعه سارة إذ نزل منزلا، فأتى الجبار رجل فقال: إنه قد نزل هاهنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاء فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إلي، فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده؛ فإنك أختي في الله، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فانطلق بها إبراهيم عليه السلام ثم قام يصلي، فلما أن رآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذا شديدا فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فأهوى إليها

فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد ففعل ذلك الثالثة، فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين فقال: ادعي الله فلا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأت بإنسان ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر، فأقبلت فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته وقال: مهيم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر). أقول: وقد أطال بعض المفسرين في التعليل لموقف إبراهيم عليه السلام عند ما سأله قومه، ولا شك أن موقفه كان في معرض إقامة الحجة، ولكنه على كل حال هرب من الجواب المباشر، وفي ذلك فسحة لمن ابتلي بمثل موقفه ... 5 - بمناسبة الكلام عن إنجاء الله إبراهيم من النار يذكر ابن كثير ما أخرجه البخاري عن ابن عباس، أنه قال: «حسبي الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد عليه الصلاة والسلام حين قالوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وذكر ابن كثير ما أخرجه أبو يعلى ... عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك». وذكر ابن كثير ما قاله ابن عباس وأبو العالية لولا أن الله قال: وسلاما لآذى إبراهيم بردها» كما ذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله» 6 - وبمناسبة قوله تعالى وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ ذكر ابن كثير قول قتادة قال: (كان بأرض العراق فأنجاه إلى الشام، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص في الشام زيد في فلسطين). وذكر النسفي بهذه المناسبة حديثا قال: «وقال عليه الصلاة والسلام إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم».

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - إن أول شئ يربط قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح عليهم السلام بسياق السورة هو كونهم بشرا رسلا، وهو الشئ الذي يحاول المشركون استبعاده، كما ذكر الله ذلك في أول السورة وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. 2 - في ذكر القصص الثلاث بيان لعاقبة مكر الكافرين، إذ فشل الله مكرهم في قصة إبراهيم، وعوقبوا بسببه في قصة لوط ونوح عليهما السلام وفي عقوبتي قوم لوط وقوم نوح تذكير بما قصة الله علينا في السورة عن حال المعرضين إذ ينزل بهم العقاب. 3 - في ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، وكسره الأصنام، وإقامة الحجة عليهم، تذكير للعرب الذين يقدسون إبراهيم ويعرفونه أبا لهم بالتوحيد، وتذكير لهم بأن ما هم عليه من الشرك لا تقوم به حجة، بل هو السفه والجهل الكاملان، إذ أننا رأينا أن من عوامل الإعراض عن الوحي الشرك. 4 - إن قصة إبراهيم ولوط ونوح عليهم السلام تدل على أن العبرة بالخواتيم، فهذا إبراهيم ينجيه الله في أحلك لحظة، وهذا لوط ينجيه الله في ساعة الكربة، وهذا نوح ينجيه الله وينصره بعد الزمن الطويل، وفي ذلك إشارة إلى أن استعجال المعرضين عن الوحي يدلل على جهلهم بسنة الله. ومما مر ندرك أن هذه القصص تضيء على ما سبقها من السورة، بل هي تأتي كالأمثلة لما ذكر في السورة من قبل من قواعد وحجج وأدلة تدحض أقوال الكافرين بالوحي، والمعرضين عنه، إذا عرفنا صلة هذه الفقرة من المجموعة السابعة بسياق السورة، فما هي صلتها بالمحور العام للسورة من سورة البقرة؟ إن المحور العام هو: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إن في القصص الثلاث نماذج على ثلاثة أقوام لم ينفعهم الإنذار، ولم تنفعهم الحجج كما أن في القصص الثلاث تثبيتا لقلب النذير، ودروسا هادية له، نراه يطبقها واحدا فواحدا فقد هاجر، وقد حطم بعض الأصنام مع علي، كما تذكر روايات حسنة السند قبل الهجرة وقال في محنته حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وهكذا، وعلى هذا فالفقرة تخدم سياق السورة الخاص،

الفقرة الثانية من المجموعة السابعة

ضمن محورها في السياق القرآني العام، وما غاب عنا من حكم في السياق الخاص والعام أكبر، نسأل الله أن يفتح علينا، وأن يتوفانا على كمال الإيمان اللهم آمين ولننتقل إلى الفقرة الثانية من المجموعة السابعة. *** الفقرة الثانية من المجموعة السابعة وتمتد من الآية (78) إلى نهاية الآية (91) وهذه هي [سورة الأنبياء (21): الآيات 78 الى 91] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)

ملاحظات حول السياق

ملاحظات حول السياق: 1 - هذه الفقرة امتداد للتي قبلها، في أنها تعرض علينا قصص أنبياء، مؤكدة بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومؤكدة عناية الله عزّ وجل بهم ورعايته لهم، ولذلك صلاته بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ* ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ 2 - مر معنا في سورة الأنبياء قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً والملاحظة أنه تعرض علينا في هذه الفقرة قصص أنبياء ابتلوا بالخير، وقصص أنبياء ابتلوا بالشر، وكيف تم للرسل في المقامين الشكر والصبر، ليكونوا قدوة الخلق في كل حال. 3 - والفقرة تأخذ محلها في موضوع إقامة الحجة على كل تصور كافر في شأن الرسل والوحي والإنذار ومن هنا تأخذ محلها في صلتها بمحور السورة من سورة البقرة. التفسير: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر داود وسليمان عليهما السلام إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي في الزرع أو في الكرم إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي دخلت فيه ليلا فأفسدته وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي لحكم داود وسليمان والمتحاكمين إليهما شاهِدِينَ أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي ففهمنا

[سورة الأنبياء (21): آية 80]

الحكومة أو الفتوى سليمان وَكُلًّا أي من داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً أي نبوة وَعِلْماً أي معرفة بموجب الحكم وَسَخَّرْنا أي وذللنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ بتسبيحه وَالطَّيْرَ أي يسبحن بتسبيحه كذلك، وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد وَكُنَّا فاعِلِينَ أي وكنا فاعلين بالأنبياء مثل ذلك وإن كان عجبا عندكم، أو وكنا خالقين ذلك وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي عمل اللبوس والدروع، واللبوس: اللباس، والمراد به هنا الدرع لِتُحْصِنَكُمْ الدروع مِنْ بَأْسِكُمْ أي في القتال فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ استفهام بمعنى الأمر أي فاشكروا الله على ذلك وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح عاصِفَةً أي شديدة الهبوب، وصفت في موضع آخر بالرخاء لأنها تجري باختياره، فكانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفة، لهبوبها على حكم إرادته تَجْرِي بِأَمْرِهِ أي بأمر سليمان إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها بكثرة الأنهار والأشجار والثمار، والمراد بها أرض الشام وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي وقد أحاط علمنا بكل شئ فتجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي وسخرنا له من الشياطين من يغوصون له في البحار بأمره، لاستخراج الدر وما يكون فيها وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي دون الغوص، وهو بناء المحاريب، والتماثيل، والقصور، والقدور والجفان وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد فيما هم فيه وَأَيُّوبَ أي واذكر أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ دعا ربه أَنِّي أي بأني مَسَّنِيَ الضُّرُّ أي أصابني الضر. قال النسفي: الضر بالفتح الضرر في كل شئ، وبالضم الضرر في النفس من مرض أو هزال. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قال النسفي: ألطف في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب، فكأنه قال: أنت أهل أن ترحم، وأيوب أهل أن يرحم فارحمه، واكشف عنه الضر الذي فيه فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي فكشفنا ضره إنعاما عليه وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ في تفسير هذا النص اتجاهان للمفسرين: الاتجاه الأول: أن الله أحيا له ولده بأعيانهم، ورزقه مثلهم معهم. الاتجاه الثاني: أن إعطاءهم له: إعطاءه أجرهم في الآخرة، وتعويضه مثلهم في الدنيا

[سورة الأنبياء (21): آية 85]

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ يعني رحمة لأيوب، وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كصبره فيثابوا كثوابه وَإِسْماعِيلَ ابن إبراهيم وَإِدْرِيسَ وهو المسمى في الكتب السابقة أخنوخ، وهو بين آدم ونوح عليهما السلام وَذَا الْكِفْلِ وهو إما إلياس، أو زكريا، أو يوشع بن نون، وسمي به بمعنى أنه ذو الحظ من الله، إذ الكفل الحظ أي واذكر اسماعيل وإدريس وذا الكفل كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي هؤلاء المذكورون كلهم موصوفون بالصبر وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أي نبوتنا أو النعمة في الآخرة إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي ممن لا يشوب صلاحهم كدر الفساد وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت، إذ النون الحوت، والمراد به يونس إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي مراغما لقومه ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها، ويظهر أنه برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يتعظوا، وأقاموا على كفرهم فراغمهم، وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله، وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر، وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم فابتلي ببطن الحوت فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيق عليه فَنادى فِي الظُّلُماتِ ظلمة الليل، والبحر وبطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي لنفسي في خروجي من قومي قبل أن تأذن لي فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ غم الزلة والوحشة والوحدة وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ إذا دعونا واستغاثوا بنا وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ أي دعا ربه رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا. سأل الله أن يرزقه ولدا يرثه في مقام النبوة، ثم رد أمره إلى الله مستسلما فقال وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنك خير وارث أي باق فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي جعلناها صالحة للولادة بعد العقار إِنَّهُمْ أي الأنبياء المذكورين كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي إنهم استحقوا الإجابة إلى طلباتهم لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم في تحصيلها وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي طمعا وخوفا، أو للرغبة فينا والرهبة منا وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي متواضعين خائفين وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظته من الحلال والحرام وهي مريم عليهما السلام، أي واذكر مريم التي هذا شأنها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا.

نقول

قال النسفي: أي أجرينا فيها روح المسيح، أو أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى في بطنها، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً أي دلالة على أن الله على كل شئ قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون لِلْعالَمِينَ أي للجن والإنس. نقول: بمناسبة قوله تعالى عن داود عليه السلام: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ قال صاحب الظلال: (تلك هي صنعة الدروع حلقا متداخلة، بعد أن كانت تصنع صفيحة واحدة جامدة، والزرد المتدخل أيسر استعمالا وأكثر مرونة، ويبدو أن داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله. والله يمن على الناس أن علم داود هذه الصناعة لوقايتهم في الحرب: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ وهو يسألهم سؤال توجيه وتحضيض: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟ .. والحضارة البشرية سارت في طريقها خطوة خطوة وراء الكشوف. ولم تجئ طفرة، لأن خلافة الأرض تركت لهذا الإنسان، ولمداركه التي زوده الله بها ليخطو في كل يوم خطوة، ويعيد تنسيق حياته وفق هذه الخطوة. وإعادة تنسيق الحياة وفق نظام جديد ليست سهلة على النفس البشرية، فهي تهز أعماقها وتغير عاداتها ومألوفها، وتقتضي فترة من الزمان لإعادة الاستقرار الذي تطمئن فيه إلى العمل والإنتاج. ومن ثم شاءت حكمة الله أن تكون هناك فترة استقرار تطول أو تقصر بعد كل تنسيق جديد. والقلق الذي يستولي على أعصاب العالم اليوم منشؤه الأول سرعة توالي الهزات العلمية والاجتماعية التي لا تدع للبشرية فترة استقرار، ولا تدع للنفس فرصة التكيف والتذوق للوضع الجديد). وبمناسبة الكلام عن سليمان عليه السلام في السورة يقول صاحب الظلال: (وتدور حول سليمان روايات وتصورات وأقاويل، معظمها مستمد من الإسرائيليات والتخيلات والأوهام. ولكي لا نضل في هذا التيه. فإننا نقف عند حدود النصوص القرآنية وليس وراءها أثر مستيقن في قصة سليمان بالذات. والنص القرآني هنا يقرر تسخير الريح- وهي عاصفة- لسليمان تجري بأمره إلى

الأرض التي باركنا فيها. وهي في الغالب الشام لسبق الإشارة إليها بهذه الصفة في قصة إبراهيم. فكيف كان هذا التسخير؟. هنالك قصة بساط الريح الذي قيل: إن سليمان كان يجلس عليه هو وحاشيته فيطير بهم إلى الشام في فترة وجيزة. وهي مسافة كانت تقطع في شهر على الجمال. ثم يعود كذلك .. وتستند هذه الرواية إلى ما ورد في سورة سبأ من قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ولكن القرآن لم يذكر شيئا عن بساط الريح ذلك؟ ولم يرد ذكره كذلك في أي أثر مستيقن. فليس لنا ما نستند عليه لنقرر مسألة البساط، والأسلم إذن أن نفسر تسخير الريح بتوجيهها- بأمر الله- إلى الأرض المباركة في دورة تستغرق شهرا طردا وعكسا كيف؟ لقد قلنا: إن القدرة الإلهية الطليقة لا تسأل كيف؟ فخلق النواميس وتوجيهها هو من اختصاص تلك القدرة الطليقة. والمعلوم للبشر من نواميس الوجود قليل. ولا يمتنع أن تكون هناك نواميس أخرى خفية على البشر تعمل وتظهر آثارها عند ما يؤذن لها بالظهور: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ ... العالم المطلق لا كعلم البشر المحدود وكذلك تسخير الجن لسليمان- عليه السلام- ليغوصوا في أعماق البحر وأعماق اليابسة. ويستخرجوا كنوزها المخبوءة لسليمان، أو ليعملوا له أعمالا غير هذا وذاك .. فالجن كل ما خفي وقد قررت النصوص القرآنية أن هناك خلقا يسمون الجن خافين علينا، فمن هؤلاء سخر الله لسليمان من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك. وحفظهم فلا يهربون ولا يفسدون ولا يخرجون على طاعة عبده. وهو القاهر فوق عباده يسخرهم حين يشاء كيف يشاء) وبمناسبة الكلام عن إدريس وذي الكفل في السورة يقول صاحب الظلال: (وأما إدريس فقد سبق إن زمانه مجهول وكذلك مكانه، وإن هنالك قولا بأنه أوزوريس الذي عبده المصريون بعد موته، وصاغوا حوله الأساطير. بوصفه المعلم الأول للبشر، الذي علمهم الزراعة والصناعة: ولكننا لا نملك على هذا دليلا. فلنعلم أنه كان من الصابرين على نحو من أنحاء الصبر الذي يستحق التسجيل في كتاب الله الباقي. وأما ذو الكفل فهو كذلك مجهول لا نملك تحديد زمانه ولا مكانه. والأرجح أنه من أنبياء بني إسرائيل. وقيل: إنه من صالحيهم، وأنه تكفل لأحد أنبيائه قبل موت هذا النبي. بأن يخلفه في بني إسرائيل على أن يتكفل بثلاث: أن يقوم الليل، ويصوم النهار ولا يغضب في القضاء. فوفى بما تكفل به، وسمي ذا الكفل لذاك، ولكن هذه ليست

كلمة في السياق

سوى أقوال لا دليل عليها. والنص القرآني يكفي في هذا الموضع لتسجيل صفة الصبر لذي الكفل). كلمة في السياق: 1 - في الفقرة الأولى من هذه المجموعة ذكر الله لنا موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوطا ونوحا عليهم السلام وفي هذه الفقرة ذكر لنا داود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ويونس وزكريا وعيسى عليهم السلام، وكل منهم رسول، وكل منهم بشر، وهذا أول مظهر من مظاهر ارتباط ذكرهم عليهم السلام في سياق السورة. 2 - هؤلاء الرسل منهم الملك الذي أعطي كل شئ كداود وسليمان عليهما السلام ومنهم من ابتلي حتى فقد كل شئ كأيوب ومنهم ومنهم وكلهم يجمعهم وصف إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ يجمعهم وصف العبودية لله، وهم أكمل خلق الله فأحرى بالناس أن يقتدوا بهم في أحوالهم وعبوديتهم، بدلا من أن يعرضوا، وهذا مظهر من مظاهر ارتباط هذه الفقرة بالسياق. 3 - في ذكر العطاء الكبير الذي أعطاه الله داود وسليمان عليهما السلام ثم في ذكر قصة أيوب بعد ذلك مباشرة ما يشير إلى أن الرسول يمكن أن يكون كذلك، ويمكن أن يكون كذلك، فعطاء الله قد يتفاوت بين الأب والابن، سواء كان العطاء الدنيوي، أو العطاء الديني، ولا هذا يطعن في كون هذا رسولا، ولا هذا يطعن في كون هذا رسولا، فالتصورات الخاطئة في موضوع الرسالة ينبغي أن تعدل. وهذا مظهر آخر من مظاهر ارتباط هذه المجموعة في السياق. 4 - إن صفة الصبر والصلاح صفتان مشتركتان عند كل رسول، وفي هذا درس للنذير ودرس للاقتداء. 5 - في ذكر قصة يونس عليه السلام في هذا المقام ما يشير إلى أن الرسول يحاسب هذا الحساب الدقيق، مع كل إقباله على الله وخوفه منه، فما بال المعرضين عن الله في غفلتهم، وهذا مظهر من مظاهر الصلة في السياق. 6 - وفي ذكر قصة مريم وابنها عليهما السلام إشارة إلى عبودية المسيح عليه

السلام، وكونه مخلوقا وآية، فليس هو إلا كذلك، رسول من رسل الله، وفي ذلك مظهر من مظاهر الارتباط في السياق؛ لأنه مر معنا من قبل قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ... وإذن فذكر الأنبياء في سياق السورة يخدم كل القضايا التي سبق وذكرت في السورة، وفي ذكر كل رسول من الرسل إقامة حجة جديدة على الكافرين الذين يرفضون التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويرفضون التسليم للوحي. وقد آن الأوان أن نلفت نظرك إلى أهم رابط يربط بين ذكر هؤلاء الأنبياء وسياق السورة فانتبه إليه. بدأت السورة بمقدمة: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ*. ثم جاء بعد هذا مباشرة قوله تعالى قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وهذا النص يأتي هنا بمثابة رد على كلامهم، فلما قال الرسول هذا الكلام، ثارت ثائرتهم فقالوا بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فجاء الجواب على افترائهم الأخير وكلامهم الأول مع الأخير ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ .. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ... وإذ تأتي الردود على منطقهم فتدحضه، يبقى أن تأتي الأدلة على قول الرسول قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفي ذكر قصص هؤلاء الأنبياء يأتي تقرير ذلك، ومن ثم نلاحظ تكرار كلمة: إِذْ نادى * فَاسْتَجَبْنا* وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ ... فَاسْتَجَبْنا لَهُ ... وَذَا النُّونِ ... فَنادى فِي الظُّلُماتِ .. فَاسْتَجَبْنا لَهُ ... وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ ... فَاسْتَجَبْنا لَهُ .... فالله عزّ وجل يسمع النداء في كل حال ويستجيب، وفي ذكر قصة إبراهيم ولوط، وفي ذكر قصة سليمان وداود وقصة مريم، وقصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم

الفوائد

السلام ما نرى به مظاهر علم الله: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ في قصة إبراهيم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ في قصة داود وسليمان فذكر قصص الأنبياء في السياق يخدم مقدمات السورة كلها، إنك ترى أن كل ما ورد بعد الآيات الخمس الأولى في السورة إنما هو خدمة لمضامين هذه الآيات الخمس فإذا أدركت صلة الآيات الخمس الأولى بمحور السورة من سورة البقرة أدركت صلة بقية السورة بهذا المحور فإذا اتضحت صلة الفقرة الثانية من المجموعة السابعة بسياق السورة الخاص والعام فلنر بعض الفوائد المتعلقة بها الفوائد: 1 - لخص النسفي قصة نفش الغنم في الحرث، وحكم كل من سليمان وداود عليهما السلام ومكان هذا الحكم في شريعتنا بما يلي قال: (وقصته أن الغنم رعت الحرث وأفسدته بلا راع ليلا فتحاكما إلى داود، فحكم بالغنم لأهل الحرث، وقد استوت قيمتاهما أي قيمة الغنم كانت على قدر النقصان من الحرث، فقال سليمان- وهو ابن إحدى عشرة سنة:- غير هذا أرفق بالفريقين فعزم عليه ليحكمن، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح الحرث، ويعود كهيئته يوم أفسد، ثم يترادان، فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك، وكان ذلك باجتهاد منهما، وكان ذلك في شريعتهم، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم بالليل أو بالنهار، إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجب الضمان بالليل، وقال الجصاص: إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها، ونسخ الضمان بقوله عليه السلام «العجماء جبار» وقال مجاهد: كان هذا صلحا، وما فعله داود كان حكما والصلح خير). 2 - بمناسبة قوله تعالى فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ذكر ابن كثير ما يلي: قال: (روى ابن أبي حاتم ... عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فبكى، قال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة، فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء، حكما يرد هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ

يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فأثنى الله على سليمان، ولم يذم داود ثم قال (يعني الحسن) إن الله اتخذ على الحكام ثلاثا: لا يشتروا به ثمنا قليلا، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحدا، ثم تلا يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وقال فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا* قلت:- القائل ابن كثير- أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عزّ وجل، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين، من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذ اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر» فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذ اجتهد فأخطأ فهو في النار- والله أعلم-. وفي السنن: القضاة ثلاثة: قاضي في الجنة وقاضيان في النار، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى خلافه فهو في النار» وقريب من قصة داود وسليمان في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال هاتوا السكين أشقه بينكما فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها لا تشقه، فقضى به للصغرى» وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء (باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق) وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه عن ابن عباس فذكر قصة مطولة ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها فشهدوا عليها عند داود عليه السلام، أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك، فأمر برجمها فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله، فانتصب حاكما، وتزيا أربعة منهم بزي أولئك، وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا، فقال سليمان: فرقوا بينهم فسألوا أولهم ما كان لون الكلب فقال أسود فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه فقال: أحمر وقال الآخر أغبش وقال الآخر أبيض فأمر

عند ذلك بقتلهم فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره أولئك الأربعة، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم» 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه وترد عليه الجبال تأويبا، ولهذا لما مر صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل- وكان له صوت طيب جدا- فوقف واستمع لقراءته وقال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمارا مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود» 4 - لم أجد لقوله تعالى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ تفسيرا أطمئن إليه، فالآية تحتمل أن الريح تتحرك بأمره. بحيث تسير السفن في البحر كما يحب، وتحتمل أن الريح تأتي بالمطر والخصب كما يشاء بأمره، وتحتمل أن الريح مسخرة له لشئون أخرى، فما هي هذه الشئون؟ هل هي حمله وجنده من مكان إلى مكان، أو حمله منفردا؟ يذكر المفسرون شيئا من ذلك ولكنه لا يصلح نصا في الموضوع، لأنه ليس تفسيرا نبويا، ولا توصل إليه اللغة، فهو إذن في الغالب من الروايات الإسرائيلية التي لا تصلح معتمدا لفهم النصوص، وعلم تفصيل ذلك لا يترتب عليه شئ، ومن ثم لم يفصله لنا الله ولا رسوله، والعبرة حاصلة كيف كان هذا التسخير. 5 - عند قصة أيوب يذكر المفسرون العجائب مما ليس له أصل في الكتاب، أو في السنة وبعضه لا يجوز اعتماده أبدا كما نص على ذلك علماء التوحيد، كذكرهم أن الدود أكله إلا قلبه ولسانه، وأنه ألقي على مزبلة، إن مثل هذا الكلام لا تصح روايته، ولا اعتماده، ولا أصل له إلا كلام أهل الكتاب، وكلامهم مليء بالسفه في حق الأنبياء، فكيف يعتمد، والسفر الذي يذكر في كتب العهد القديم ويسمى سفر أيوب فيه من أبشع ما يمكن أن ينسب إلى الأنبياء وظاهر من قراءته أنه من خيال بعض كتاب اليهود؛ إذ فيه حوار بين أيوب وصاحبين له. يظهر فيه بمظهر المعترض على الله في ابتلائه له- وحاشاه- والشئ الذي نحب أن نقرره أنه ليس عندنا في قصة أيوب ما نستطيع اعتماده إلا ما يفهمنا إياه النص القرآني، وما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر- وهو

قليل- سنراه في سورة (ص) إن شاء الله. 6 - ما ذكرناه في التفسير من أن ذا الكفل هو إما إلياس وإما زكريا وإما يوشع بن نون هو ما ذكره النسفي، أما ابن كثير فيذكر مجموعة روايات عن المفسرين كلها تشير إلى أن ذا الكفل ليس برسول، بل هو خليفة رسول، أو قاض من قضاة بني إسرائيل وينبه إلى أن الحديث الوارد في قصة الكفل ليس له علاقة في موضوع ذي الكفل، وقد ذكر ابن كثير روايات عن المفسرين في هذا الشأن إلا أنه قدم لها بقوله: (وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال آخرون إنما كان رجلا وكان ملكا عادلا مقسطا وتوقف ابن جرير في ذلك) ولأن الأمر كما ذكره ابن كثير فقد أضربنا عن ذكر ما نقله .. والذي استقر عليه التأليف في العقائد أن ذا الكفل أحد الخمسة والعشرين رسولا الذين نص عليهم القرآن. 7 - قصة يونس عليه السلام مذكورة في سورة الأنبياء، وفي سورة الصافات، وفي سورة (ن)، وهناك إشارة إليها في سورة يونس، والدرس الأول الذي نأخذه منها هو أن الرسل لا يعملون ولا يتصرفون إلا بإذن، فهذا يونس عليه السلام عند ما خرج من بين ظهراني قومه بدون إذن عاقبه الله، والدرس الثاني وهو محل القدوة لنا هو دعاؤه، قال ابن كثير: فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. روى الإمام أحمد ..... عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يرد علي السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شئ؟ مرتين قال لا، وما ذاك؟ قلت: لا إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني فلم يرد علي السلام، قال فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال: ما فعلت، قال: سعد قلت بلى حتى حلف وحلفت قال ثم إن عثمان ذكر فقال بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة، قال سعد: فأنا أنبئك بها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله، ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هذا أبو إسحاق» قال: قلت نعم يا رسول الله قال: «فمه» قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا

المجموعة الثامنة

أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك، قال «نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شئ قط إلا استجاب له» 8 - بمناسبة قوله تعالى عن يونس فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يذكر النسفي هذه القصة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه دخل يوما على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك، قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ الآية فقال أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه قال: هذا من القدر لا من القدرة. 9 - وبمناسبة الكلام عن ابتلاع الحوت ليونس عليه السلام نذكر أن حوت العنبر يصل طوله إلى أن يكون تسعين مترا، وهو يستطيع أن يزدرد سمكة القرش الهائلة ويهضمها على مهل. 10 - الضمير في قوله تعالى إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ يعود على مجموعة الأنبياء المذكورين من قبل ممن استجاب الله لهم، فدل ذلك على أن الحال الكاملة التي يستجيب بها ربنا الدعاء هي هذه الحال، التي يجتمع فيها لأصحابها المسارعة إلى الخيرات، والدعاء رغبا ورهبا، والخشوع، ولا يعني هذا أن الله لا يستجيب إلا لمن هذا شأنه، فحضرة ربنا حضرة كرم، ولكن الله قص علينا هذا ليرفع هممنا إليه. المجموعة الثامنة وتمتد من الآية (92) إلى نهاية الآية (106) وهذه هي [سورة الأنبياء (21): الآيات 92 الى 106] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)

ملاحظات حول السياق

ملاحظات حول السياق: 1 - لاحظ أن الآية الأولى في هذه المجموعة منتهية بقوله تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وأن آخر آية في المجموعة منتهية بقوله تعالى: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ فهذا مما يشير إلى وحدة المجموعة. 2 - لاحظنا أن المجموعات الخامسة والسادسة والسابعة كل منها قد بدئ بكلمة (ولقد) ولكن هذه المجموعة تنتهي بكلمة (ولقد) وذلك في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وقد رأينا مثل هذا من قبل، حيث نرى علامة المقطع قد تأتي في أوله،

التفسير

أو في آخره كما رأينا ذلك في سورة النساء بشكل واضح. 3 - مما يؤكد أن المجموعة تنتهي بما ذكرنا مجيء آية بعدها مبدوءة ب وَما وهي قوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وقد رأينا أن مجيء كلمة وَما علامة على بداية مجموعة. 4 - إن الصلة واضحة بين هذه المجموعة وما قبلها، ومن مظاهر الوضوح أن يأتي قوله تعالى وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بعد أن قص الله علينا قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 5 - من مظاهر ارتباط هذه المجموعة بسياق السورة قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ لاحظ صلة ذلك بأول آية من السورة اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ 6 - من مظاهر ارتباط المجموعة بمحور السورة من سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى من محور السورة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ولنا عودة على السياق. التفسير: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي أن هذه الأمة المتمثلة بجماعة الأنبياء هي أمتكم التي إليها تنتسبون وبها تعتزون وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي أنا الذي ربيتكم اختيارا فاعبدوني شكرا وافتخارا، أمتكم هي الأمة الإسلامية المتمثلة بالرسل عليهم السلام من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والرب هو الله وَتَقَطَّعُوا أي وتقطع الناس أَمْرَهُمْ أي أمر الأنبياء بَيْنَهُمْ فكل أخذ بجزء وقطعة إلا هذه الأمة المسلمة فقد أخذت أمر الأنبياء كله أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ثم قال تعالى مهددا كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أي هؤلاء الذين جهلوا أمر دينهم وساروا فرقا وأحزابا، والآخرون الذين أخذوا أمر الأنبياء كله وهو الإسلام الكامل، هؤلاء جميعا راجعون إلينا فنجازيهم على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ شيئا وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي مصدق بما يجب الإيمان به فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي فإن سعيه مشكور مقبول وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه شئ، والكاتبون هم الحفظة بأمر الله، والمكتوب هو السعي، والمكتوب فيه صحائف الأعمال.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بهذه الآيات الثلاث انتهى الكلام عن الأنبياء عليهم السلام، فهم أمة واحدة ومحمد صلى الله عليه وسلم واحد منهم، والله هو الرب، وانقسام الناس أثر عن الإيمان والكفر، ونجاة المؤمنين الصالحين بسبب سلوكهم طريق النجاة، ولقد جاء الكلام عن الأنبياء بعد المجموعة التي بدأت بقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. ومن ثم فإن ذكر مجموعة الأنبياء في هذا السياق فيه إقامة حجة على من تصور أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس رسولا لأنه بشر، ومجيء الآيات الثلاث بعد ذكر مجموعة الأنبياء يشير إلى أن الدخول في أمة الأنبياء إنما هو في الدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - نلاحظ أنه قد ورد في المجموعة التي بدايتها قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ ورد قوله تعالى وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وقد مر معنا في قصص الأنبياء كيف أهلك الله قوم لوط وقوم نوح، والآن يأتي قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ يعني أوجب الله وقدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أي انتهى أمرهم؛ فسارعوا أيها الناس إلى الدخول في الإسلام، ويمكن أن يكون المعنى: وممتنع على مهلك ألا يرجع إلى الله بالبعث، أي إن مصير كل قرية أهلكناها البعث، فليدخل الناس بالإيمان، وليعملوا عملا صالحا لأنهم مبعوثون، ويمكن أن يكون المعنى: وحرام على قرية قدرنا إهلاك أهلها، أو حكمنا بإهلاكهم أن يرجعوا من الكفر إلى الإسلام، فليحذر الناس أن يستحقوا سخط لله هذا فيهلكوا لا محالة، فالآية فيها تحذير على كل حال، ودعوة إلى الدخول في الإسلام والعمل الصالح. كلمة في السياق: نلاحظ من الآية السابقة كيف أن الارتباط بين ما ورد قبل ذكر قصص الأنبياء، وبين آيات هذه المجموعة واضح، والآن لنلاحظ أنه قبل قصص الأنبياء في السورة ورد قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ وَلَئِنْ

[سورة الأنبياء (21): آية 96]

مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ* وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ والآن يأتى قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ على الناس وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي نشر من الأرض، أي ارتفاع يَنْسِلُونَ يسرعون في المشي إلى الفساد وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي يوم القيامة، فإنه إذ تفتح يأجوج ومأجوج يكون قد شارف فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مرتفعة الأجفان، لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه، وذلك إذا قامت القيامة يا وَيْلَنا أي يقولون يا ويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا في الدنيا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ بوضعنا العبادة في غير محلها. ملاحظة: إذا مستهم نفحة العذاب في الدنيا قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وإذا جاء يوم القيامة قالوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ألا ترى الصلة واضحة بين ما ورد قبل قصص الأنبياء، وبين ما نحن فيه الآن، وبين بداية السورة، وبين ما نحن فيه الآن: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ في أول السورة، وهاهنا يذكر الله عزّ وجل موضوع اقتراب يوم القيامة، وقول الكافرين إذا جاء قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ فهم يعترفون بتقصيرهم حيث لا ينفع التقصير. وإذ أرجعنا السياق إلى أول السورة فالآن يأتي التهديد للذين ذكر حالهم أول السورة، وهم المعرضون الغافلون والذين زادتهم السورة توضيحا بأنهم مشركون فيقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام وإبليس وأعوانه، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطبها ووقودها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي فيها داخلون لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً أي كما زعمتم ما وَرَدُوها أي ما دخلوا النار وَكُلٌّ من العابد والمعبود فِيها أي في النار خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا لَهُمْ أي الكفار فِيها زَفِيرٌ أي أنين وبكاء وعويل وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ شيئا ما؛ لأنهم صاروا صما، وفي السماع نوع أنس لهم فلم يعطوه. هذا حال أهل الشقاوة، فكيف حال أهل السعادة؟ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي الخصلة المفضلة وهي السعادة، أو البشرى بالثواب أو التوفيق للطاعة أُولئِكَ عَنْها أي عن جهنم مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي صوتها الذي

[سورة الأنبياء (21): آية 103]

يحس أو حركة تلهبها، أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت ما يجري فيها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ ومن النعيم خالِدُونَ أي مقيمون والشهوة طلب النفس اللذة لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أي النفحة الأخيرة وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة يقولون هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي هذا ثوابكم الذي وعدكم الله به في الدنيا يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ أي نجمعها كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي للمكتوبات فيه قال الألوسي: ثم إن الظاهر من الأخبار الصحيحة أن العرش لا يطوى كما تطوى السماء كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما أوجدنا أول خلق خلقناه نعيد الخلق مرة ثانية وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي وعدا منا كائنا لا محالة إنا كنا فاعلين ذلك أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له، وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. هذا ما أعد الله لأهل الإيمان في الآخرة ووعدهم إياه. وأما ما وعدهم به في الدنيا: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ أي كتاب داود مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي بعد التوراة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أي من آمن وعمل صالحا إِنَّ فِي هذا أي القرآن، أو في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ لَبَلاغاً أي لكفاية ومنفعة لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي موحدين. قال ابن كثير (وهم الذين عبدوا الله بما شرعه، وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان، وشهوات أنفسهم) هذا جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح والعبادة في الدنيا: الاستخلاف. قال صاحب الظلال في قوله تعالى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (فما هي هذه الوراثة؟ من هم عباد الله الصالحون؟ لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحريرها واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله. ولقد وضع الله للبشر منهجا كاملا متكاملا للعمل على وفقه في هذه الأرض، منهجا يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه، وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته. في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها وهو حده

كلمة في السياق

المقصود. ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان؛ ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة. فلا ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة. وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالا ماديا .. ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق. والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح. فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم. وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ. ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان. وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله، وتجري سنته: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ... فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون ... ) كلمة في السياق: إن الصلة بين هذه المجموعة وبين محور السورة من سورة البقرة وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ واضحة، فقد رأينا صورة عن العذاب المعد لهؤلاء ورأينا أن من سبقت له العناية لا يدخل تحت هذا الوعيد: والآن تأتي المجموعة التاسعة وهي مبدوءة ب وَما وهي تكمل الرد على ما زعموه في قولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ ... لتبين لهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا كما تصوروا وتوهموا. وسنبدأ عرض المجموعة التاسعة مؤخرين ذكر فوائد المجموعة الثامنة إلى ما بعد عرض المجموعة التاسعة.

المجموعة التاسعة

المجموعة التاسعة وتمتد من الآية (107) إلى نهاية الآية (112) وهذه هي [سورة الأنبياء (21): الآيات 107 الى 112] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) التفسير: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه، ومن لم يتبع فإنما أوتي من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. قال النسفي (وقيل هو رحمة للمؤمنين في الدارين وللكافرين في الدنيا بتأخير الاستئصال والمسخ والخسف). كلمة في السياق: نلاحظ أن المجموعات الثمانية ردت على قول الكافرين كل واحدة منها بشكل يكمل الآخر. هم قالوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ .. بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فجاء الجواب ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ* وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ

[سورة الأنبياء (21): آية 108]

وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وإذ قامت الحجة عليهم ببطلان ما تصوروه ورد ما زعموه فإن السياق الآن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له، أي أسلموا، حصر الوحي كله بالتوحيد ووجوب الاستسلام للوحي فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن تركوا ما دعوتهم إليه، أي فإن أعرضوا عن الإسلام فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي أعلمتكم ما أمرت به مستوين في الإعلام به ولم أخصص بعضكم. قال النسفي: وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية. ويمكن أن يكون المعنى: فقل أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم برآء مني، أي أعلمتكم ببراءتي وبراءتكم مني لعلمي بذلك وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ أي ولا أدري متى يكون يوم القيامة، لأن الله يطلعني عليه ولكني أعلم بأنه كائن لا محالة، أو لا أدري متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ في صدوركم من الأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي امتحان وَمَتاعٌ أي تمتيع إِلى حِينٍ أي إلى الموت أي وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم؛ لينظر كيف تعملون وتمتيع لكم إلى الموت؛ ليكون ذلك حجة عليكم، وهكذا أمرت هذه المجموعة الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذر الإنذار الأخير، وأن يرد الرد النهائي الحاسم. كلمة في السياق: قلنا إن محور سورة الأنبياء من سورة البقرة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وقد رأينا في المجموعة الأخيرة كيف أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر، فدل ذلك على أن استواء الإنذار وعدمه في حق الكافرين شئ، ووجب التبليغ واتخاذ المواقف شئ آخر. ولم يبق عندنا في المجموعة إلا آية واحدة هي خاتمة هذه السورة وهي قوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ قالَ أي الرسول صلى الله عليه وسلم رَبِّ أي يا رب احْكُمْ بِالْحَقِّ أي اقض بيننا وبين الكافرين بالعدل وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ أي العاطف على خلقه الْمُسْتَعانُ أي

كلمة في السياق

المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ أي على ما تقولون وتفترون من الكذب. قال صاحب الظلال: عند هذه الآية (يتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وآذنهم على سواء، وحذرهم بغتة البلاء .. يتوجه إلى ربه الرحمن يطلب حكمه الحق بينه وبين المستهزئين الغافلين، ويستعينه على كيدهم وتكذيبهم، وهو وحده المستعان. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وصفة الرحمة الكبيرة هنا ذات مدلول. فهو الذي أرسله رحمة للعالمين فكذب به المكذبون واستهزأ به المستهزءون وهو الكفيل بأن يرحم رسوله ويعينه على ما يصفون. كلمة في السياق: بدأت السورة بقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وبعد ذلك جاء قوله تعالى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثم لم ترد كلمة (قال) إلا في الآية الأخيرة: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وما بين ذلك عرض لتتمة أقوالهم ورد لها لتقوم عليهم الحجة فماذا نفهم من ذلك كله؟ إن محور السورة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ جاءت مقدمة السورة لتبين حال هؤلاء عند الإنذار مما يدل على أنهم لا يستفيدون منه. ثم جاءت الآية المبدوءة بقوله تعالى: قالَ ثم سار السياق حتى آخر آية وهي مبدوءة بقوله تعالى: قالَ مما يشير إلى: أنه مع هذا النوع من الكافرين علينا أن نقول شيئين: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ هذا هو الموقف المكافئ لوضع هذا النوع من الكافرين. ولكن ما بين القولين رد وإقامة حجة، مما يدل على أنه حتى مع الذين علمنا يقينا

فوائد حول آيات المجموعتين الثامنة والتاسعة

أنه لا فائدة من إنذارهم لا بد من إقامة الحجة عليهم، وتحطيم كل شبهة يطرحونها وتبليغهم والآن لاحظ أنه قد جاء في أول السورة قوله تعالى: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وها نحن نجد قبل الآية الأخيرة بآية قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ .... فالصلة بين ما ورد في أوائل السورة وبين آخرها صلة واضحة، فالإنذار الأخير المبدوء بقوله تعالى قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا ... إن هذا الإنذار هو الحصيلة النهائية التي تأتي كنتيجة لكل ما سبق. ملاحظة: رأينا أن كلمة قالَ الواردة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم تكررت مرتين والذي نحب أن نذكر به أنها كذلك على قراءة حفص التي مدار هذا التفسير عليها، إلا أنها في قراءات أخرى آتية بلفظ قل فلوا أننا ألزمنا أنفسنا بتفسير تلك القراءات لكان للسياق توجيهاته الأخرى، وعندئذ فالأمر لا يتناهى منه العجب، ولنا عودة على هذا الموضوع فوائد حول آيات المجموعتين الثامنة والتاسعة: 1 - بمناسبة قوله تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً يذكر ابن كثير الحديث «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات أمهاتنا شتى وديننا واحد» وفي مقدمة كتاب الإسلام من سلسلة الأصول الثلاثة بينا كيف أن كل رسول بعث بالإسلام، وأن رسالات الرسل كلها تتفق في الأصول، وتختلف أحيانا في بعض الفروع، وفي الفصل الثالث من كتاب (الإسلام) تحدثنا عن كون الأمة الإسلامية أمة واحدة في كل شئ ومن ذلك تاريخها إذ أن كل رسول لله هو من هذه الأمة وإليه تنتسب هذه الأمة. 2 - ذكرنا ماذا تعني آية وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وأنها تعني: أن الكافرين تقطعوا أمر الأنبياء فيما بينهم بينما أمر الأنبياء واحد، وقد تجمع أمر الأنبياء كله في محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وتجمع كل هدي الأنبياء في القرآن. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، فما لم يأخذ الإنسان القرآن كله، وما يقتد اقتداء كاملا برسول الله فإنه لا يكون قد أخذ أمر الأنبياء كله.

3 - رأينا أن السورة بدأت بقوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وقبيل نهاية السورة جاء قوله تعالى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ وإذن ففي أواخر السورة كان حديث عن علامة من علامات الساعة، وهي خروج يأجوج ومأجوج، والذي نحب أن نذكره هنا بهذه المناسبة: أ- خروج يأجوج ومأجوج الذي هو علامة على قيام الساعة وهو خروجهم زمن نزول المسيح عليه السلام، ومجيئهم إلى بلاد الشام وقتذاك، وإنزال الله بهم عذاب الاستئصال في هذه البلاد. ب- فهم الكثير أن قوله تعالى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أن المراد بكلمة فُتِحَتْ الانهدام الحسي للسد الذي بناه ذو القرنين واللفظ القرآني يحتمل هذا المعنى ويحتمل غيره، وإذ رأينا في عصرنا أنه لا يحول بين الناس الذين هم مظنة أن يكونوا يأجوج ومأجوج سد، تعين أن نحمل كلمة فُتِحَتْ على معناها الآخر، وهي انفتاح هؤلاء الناس على العالم، واجتياحهم له، وخاصة أرض الشام، حيث يكون هلاكهم، والذي يرجح هذا المعنى أنه ليس في كل الأحاديث التي رويت في شأنهم ما يشير إلى أن خروجهم ذلك مرتبط بانهدام السد الحسي فمثلا خذ مجموعة الأحاديث التي ذكرها ابن كثير في هذا المقام والتي سننقلها لك تجد التعابير الآتية: «تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فأوحى الله إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لأحد بقتالهم» «فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ... » فأنت ترى أن هذه الألفاظ لا تفيد أن خروجهم له علاقة بانهدام سد حسي، إن يأجوج ومأجوج كما قال ابن كثير: (من سلالة آدم عليه السلام، بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين) وفي حديث رواه الإمام أحمد سننقله في الفائدة المقبلة يصفهم عليه الصلاة والسلام «عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة».

إن هذه الصفات لا يخطئ أحد صفات أصحابها من شرق آسيا، وليس شرق آسيا محجوبا عن غربها بسد حسي حاليا، وإذن فقوله تعالى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يحتمل فتحهم على العالم، أو يحتمل حالة أخرى تسبق خروجهم، وهي علامة عليه، وهي أن يسيطر المسلمون عليهم، وتفتح بلادهم للمسلمين، عندئذ تكون الساعة قد قربت، فإذا أعقب ذلك ردة فعل عندهم، يخرجون بها على المسلمين، ويدمرون بلادهم حتى يصلوا إلى الشام، حيث يفنيهم الله، فإن الساعة وقتذاك تكون دانية جدا، وعلى كل الأحوال فإن التحديد الكامل لمعنى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ يكاد يكون متعذرا في عصرنا، ومن ثم فلنعتبر هذا الموضوع في بعض جوانبه قضية غيبية (الله أعلم بها) نؤمن بكل ما ورد فيها ونترك التعيين والتحديد، ونحب هنا أن نشير إلى أن الشئ الوحيد الذي ذكره ابن كثير مما يفهم منه أن الآية مرتبطة بالفتح الحسي لسد مادي هو كلام مروي عن كعب الأحبار، خلط به كعب بين ما هو من كلام رسولنا عليه الصلاة والسلام وبين غيره، ومع أن ابن كثير يثني على كلامه هذا فإننا لا نعطيه إلا ما نعطي بقية كلامه إذا لم يكن له أصل من كتاب أو سنة، فقد دخل بسبب الثقة بكلام كعب- ولا اعتراض لنا على الثقة بشخصه- لقد دخل بسبب كلامه على كتبنا الطامات. 4 - قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظة الله ورعاه: (ويأجوج ومأجوج كل واحد من هذين اللفظين اسم لقبيل، وأمة من الناس، مسكنهم في أقصى الشرق .. قال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله في تفسيره (محاسن التأويل) عند ذكرهم في سورة الكهف 11: 4116: قال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز المعروف عند العرب بجبل قاف في إقليم داغستان: قبيلتان تسمى إحداهما: (آقوق) والثانية (ماقوق) فعربها العرب باسم يأجوج ومأجوج، وهما معروفان عند كثير من الأمم، وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب، ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا. أقول: مما ذكر في كتب أهل الكتاب عن يأجوج ومأجوج ما ورد في كتاب حزقيال في الإصحاح الثامن والثلاثين والإصحاح التاسع والثلاثين ومن ذلك (لذلك تنبأ يا ابن آدم وقل لجوج ... ) (وأتي بك على أرضي لكي تعرفني الأمم حين أتقدس فيك

أمام أعينهم يأجوج ... ويكون في ذلك اليوم يوم مجيء جوج على أرض إسرائيل ... ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك وتوبال) وفى هذا السفر كلام واضح عن مجيء يأجوج ومأجوج إلى فلسطين وما يحدث لهم من إقامة. 5 - بمناسبة ذكر يأجوج ومأجوج في هذه السورة يذكر ابن كثير خمسة أحاديث هذه هي: أ- روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عزّ وجل وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيغشون الناس، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان هاهنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا في حصن أو مدينة، قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء، قال ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك بعث الله عزّ وجل دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو، قال: فينحدر رجل منهم محتسبا نفسه قد أوطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض، فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عزّ وجل قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فما يكون رعى إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شئ من النبات أصابته قط». ب- روى الإمام أحمد ... عن النواس بن سمعان الكلابي قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في ناحية النخل، فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، وإنه شاب جعد قطط عينه طافية، وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وشمالا، يا عباد الله اثبتوا، قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ - قال «أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم» قلنا: يا رسول الله فذاك اليوم الذي كسنة

أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة قال: «لا، أقدروا له قدره قلنا: يا رسول الله فما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، قال فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذري وأمده خواصر وأسبغه ضروعا، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله، فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شئ، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل- قال- ويأمر برجل فيقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل إليه، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عزّ وجل المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي- قال- فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عزّ وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام: أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور، فيبعث الله عزّ وجل يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيرغب وأصحابه إلى الله عزّ وجل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزّ وجل، فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ج- روى الإمام أحمد ... عن ابن حرملة عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب فقال «إنكم تقولون لا عدو لكم، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون، صهب الشعاف من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة». د- روى الإمام احمد ... عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام- قال- فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال؛ لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج، ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال فيهلكه الله، إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله، قال فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، قال فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم، ولا يأتون

على شئ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال ثم يرجع الناس إلى أوطانهم يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلا أو نهارا» هـ- أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» 6 - هناك اتجاهان في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ الاتجاه الأول: أنها في أمثال المسيح وعزير ممن عبد من دون الله وهو لا يرضى بذلك. والاتجاه الثاني: أنها في كل مؤمن والمسيح وعزير من أسياد المؤمنين، ويشهد لذلك قول علي «أنا منهم وعمر منهم ... » - كما سنرى- والذي أقوله: إن الآية عامة ويدخل فيها من باب أولى المسيح وعزير، فليس بين القولين تعارض بحيث يلغي أحد القولين الآخر. أخرج ابن أبي حاتم ... عن النعمان بن بشير قال وسمر مع علي ذات ليلة فقرا إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ قال: أنا منهم وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم، أو قال سعد منهم، قال وأقيمت الصلاة، فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها. قال ابن كثير: وذكر بعضهم قصة ابن الزبعرى ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه ... عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فقال ابن الزبعرى: قد عبدت الشمس، والقمر، والملائكة، وعزير، وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ* وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ثم نزلت إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. 7 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أقول: أ- يروي بعضهم حديثا موضوعا يزعم فيه أن السجل اسم لكاتب كان يكتب

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير (وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه، وإن كان في سنن أبي داود). ب- اختلفت عبارات المفسرين في تفسير السجل، وظاهر اللفظ أن السجل شئ يوضع فيه كتب، ثم يطوى عليها فتنطوى به وهذا من أوضح الواضحات من السياق. 8 - قوله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يعطينا معنى، وكونه آتيا بعد قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ يعطينا معنى أوسع. أ- فمما يعطينا قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ منفصلا، هو ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجاه في الصحيحين وهو إنكم محشورون إلى الله عزّ وجل حفاة عراة غرلا كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ب- وأما ما يعطينا إياه هذا القول، من حيث كونه آتيا بعد قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فهو أن هذه السموات والأرض كانتا في الأصل شيئا واحدا، ثم حدث الفصل كما قال تعالى في نفس السورة أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وفي هذه الآية يذكر الله عزّ وجل أنه سيعيد السموات والأرض شيئا واحدا كما كانتا قبل الفصل، وقد ذكر ابن كثير عن هذه الآية ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة، والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه، يكون ذلك كله في يده بمنزلة الخردلة) وبهذه المناسبة نشير إلى مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن نذكره بفائدة مستقلة هي الآتية 9 - وصف الله كتابه بقوله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً من هذا النص نفهم أن القرآن يصدق بعضه بعضا، ولا يتناقض، وهذا شئ واضح لكل من تأمل كتاب الله وفهمه ولكن في هذا القرآن من الدقائق ما لو تأملها الإنسان لكفته وحدها لإدراك أن هذا القرآن من عند الله. خذ مثلا ما نحن بصدده:

جاء في سورة الأنبياء قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وجاء فيها يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وفي سورة الزمر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إنك عند ما تتأمل هذه الآيات الثلاث، وكيف أنها تخدم بعضها، لتؤدي معنى معينا في قضية لا تخطر ببال البشر أصلا، لا من حيث الابتداء، ولا من الانتهاء، تدرك هذا المظهر من مظاهر الإعجاز. وخذ مثلا آخر: في هذه السورة ورد قوله تعالى عن يونس فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ... وفي سورة الصافات فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ عند ما تتأمل النصين، وهما في سورتين متباعدتين، وكيف أن أحدهما يخدم الآخر، والآخر يبني عليه، فإنك تدرك أن مثل هذه الدقة لا يمكن أن تكون إلا إذا كان هذا الكتاب أثر علم الله المحيط، فيا أرحم الراحمين زدنا إيمانا ويقينا وتصديقا، وأمتنا على الإسلام واحشرنا عليه وأدخلنا الجنة مع السابقين 10 - هناك خلاف بين المفسرين حول المراد (بالزبور) في قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهناك خلاف حول المراد بالذكر في الآية نفسها وقد ذكرنا في صلب التفسير ما نعتمده في هذه القضايا وهاهنا نفصل: - اعتمدنا في تفسير الزبور والذكر ما نسبه ابن كثير لابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد وهو: الزبور الذي أنزل على داود، والذكر التوراة، فيكون المعنى: ولقد كتبنا في الزبور الذي أنزل على داود من بعد التوراة أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وهل التقدير: ولقد كتبنا هذا قبل ذلك في التوراة، فيكون المعنى ولقد كتبنا في الزبور من بعد ما كتبنا في التوراة، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، أو التقدير: ولقد كتبنا في الزبور المنزل بعد التوراة أن الأرض يرثها عبادي الصالحون؟ فعلى هذا لا يكون مكتوبا في التوراة هذه البشارة، الراجح عندي أن هذه البشارة

مكتوبة في التوراة والزبور. قال ابن كثير: (وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض، أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون) ولقد رجعت إلى ما يسمونه (المزامير) فوجدت: في المزمور السابع والثلاثين لداود (والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض ... أما الدعاة فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة) (لأن المباركين منه يرثون الأرض) (الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد) والظاهر من كلام ابن عباس أن المراد بالأرض أرضنا، وأن هذه عدة من الله وبشارة لهذه الأمة، وعلى هذا تكون الآية مبشرة لهذه الأمة بإرث العالم كله وهو شئ سيأتي إن شاء الله، وتكون الآية تشبه قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ* واقرأ ما ذكرناه عن هذه الآية، واقرأ ما كتبناه في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) حول هذا الموضوع وهو يفيد أن في الآية والأحاديث التي تفصلها أن دولة الإسلام العالمية لا بد قائمة وأن ذلك سيكون قبل نزول المسيح، لا كما يفهم بعضهم، وعند تحقق ذلك يكون زمن الإرث. وللنسفي اتجاه في تفسير (الأرض) في الآية وأن المراد بها أرض الشام وكأنه أخذها من كون التوراة بشرت بني إسرائيل بالشام عند ما يكونون صالحين، والزبور خطاب لبني إسرائيل في أرض الشام، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام تحدث كثيرا عن الشام، وأنها أرض الإسلام إلى قيام الساعة، وذلك وجه قوي، ويكون في الآية بشارة لمسلمي الشام في كل العصور أنهم إذا كانوا صالحين فالأرض لهم، وإن فسدوا سلط عليهم، والمراد بالشام هنا الشام الكبيرة، أي سوريا وفلسطين ولبنان والأردن في تقسيمات يومنا هذا وبناء على هذا القول نقول: أ- إن ميزان الخيرية في المسلمين في العالم هو الشام لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم» ومن ثم فالعمل للإسلام في بلاد الشام خدمة للمسلمين والإسلام في الأرض كلها. ب- لله تعالى في أهل الشام سنة وهي أن من حمل دينه فيه بصدق فإن الله يرعاه

رعاية خاصة، نأخذ ذلك من الحديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» إذ في رواية صحيحة عن معاذ «وهم في الشام» فليثق العاملون في هذه الأرض بربهم، وليضاعفوا جهودهم ج- من فهم النسفي للآية، ومن نصوص تصلح مؤكدة لهذا الفهم فإن الآية تبشر من اجتمعت له صفة الصلاح أن يرث الشام، وعلى هذا فمتى قامت جماعة لها هذه السمة فلها هذه البلاد ولنعد إلى أصل الموضوع. فبعد الآية السابقة جاء قوله تعالى إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ فهل اسم الإشارة (هذا) يعود على ما ورد في الآية السابقة من البشارة أو يعود على القرآن كله؟ اتجاهان. ونفهم من ذلك أن الاتصاف بالعبادة شرط للاكتفاء بكتاب الله، أو شرط تحقق البشارة فلن يرث المسلمون الأرض كلها، أو بلاد الشام منها، إلا بالعبادة، ولن يجد إنسان في القرآن كفاية له عن سواه إلا إذا كان عابدا. 11 - مظاهر كون رسولنا عليه الصلاة السلام رحمة للعالمين كثيرة منها: أن الله رفع عذاب الاستئصال الكلي للكافرين بعده مع أن الكافرين أمة الدعوة له، ومنها أن الله جعل في دينه سعادة الدنيا لمن أقامه، لما في هذا الدين من سعة ويسر وحق وعدل وخلاص من المشكلات والقلق والحيرة والاضطراب، وجعل فيه سعادة الآخرة ومما ذكره ابن كثير عند هذه الآية: وقال مسلم في صحيحه ... عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله: ادع على المشركين قال «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة» وفي الحديث الآخر «وإنما أنا رحمة مهداة» .. وروى أبو القاسم الطبراني .. عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن خمرة يا معشر قريش إن محمدا نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقه أو تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة- يعني الأوس والخزرج- فهو عدو استعان بعدو، فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم، والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا، ولا أصدق موعدا، من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه، قال أبو سفيان بن الحارث:

كونوا أشد ما كنتم عليه، إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطمعتموني ألجأتموهم حير كنانة، أو تخرجوا محمدا من بين ظهرانيهم، فيكون وحيدا مطرودا، وأما ابنا قيلة فو الله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء، وأكفيكم حدهم وقال: سأمنح جانبا مني غليظا … على ما كان من قرب وبعد رجال الخزرجية أهل ذل … إذا ما كان هزل بعد جد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده لأقتلنهم، ولأصلبنهم، ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة، بعثني الله، ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحا. وروى الإمام أحمد ... عن عمر بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حذيفة إلى سلمان، فقال سلمان: يا حذيفة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة». ورواه أبو داود ... فإن قيل فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير ... عن ابن عباس في قوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة. ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف وهكذا رواه ابن أبي حاتم وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قال: من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف. 12 - وبمناسبة قوله تعالى قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك وعن مالك عن زيد ابن أسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ....

كلمة في سورة الأنبياء

كلمة في سورة الأنبياء: رأينا أن محور سورة الأنبياء هو قوله تعالى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وهناك تساءلنا من هؤلاء الكافرون الذين هذا شأنهم؟ وسبب السؤال أن هناك كافرين أسلموا، وأجبنا هناك على هذا السؤال وتأتي هنا سورة الأنبياء لتبين لنا من هؤلاء الكافرون الذين هذا شأنهم: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ* ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ... بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ إن من اجتمعت فيه هذه الصفات لا يمكن أن يؤمن، فإذا نقص واحد منها فربما، فلو كان عنده استعداد للسماع، أو لم يكن ممن يتآمر على الإسلام، أو كان ممن لا يجهر بالسوء في الرسول والقرآن كل هؤلاء يمكن أن يؤمنوا، وإذا كان اجتماع هذه المعاني غيبا فإن الإنذار لا بد منه، وإقامة الحجة لا بد منها، ومن ثم لاحظنا أن السورة ردت وأنذرت الإنذار الكافي؛ ليؤمن من كان في قلبه شئ من الخير، ومن ثم فإن ملاحظة ما ورد في السورة مهم جدا، في خطاب الكافرين عامة لاستخراج ما في قلوبهم من خير، أما النوع الآخر الذي لا فائدة منه بتاتا فهذا أدبنا فيه آيتان في السورة: قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ والسورة إذ فصلت هذا المقام فإنها فصلت كذلك كيف يكون عليه حال النذير بما قص الله من قوله، ومن خلال ذكر الأنبياء، كما ثبتت السورة قلب النذير بالكلمة والقصة والبشارة والعبرة وجنبته مزالق الطريق التي يمكن أن يقع فيها، كما حدث من يونس عليه السلام، وفي السورة لأهل الإيمان إنذار يحررهم من أخلاق الكفر وسلبياته، ويرفعهم إلى أخلاق الإيمان وإيجابياته وقد عرضنا السورة كما رأيت على أنها مقدمة ومجموعات

ملاحظتان

وأهم ما نلفت النظر إليه في السورة أن قوله تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ هو تلخيص لكل ما يقوله الكفار في كل الأعصار في هذا الدين وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وأن السورة ردت على هذه الأقوال كلها، وإنما لفتنا النظر إلى هذا واعتبرناه من أهم ما نلفت النظر إليه، لأنه لم يقل الكافرون في كل العصور كما قال الكافرون في عصرنا من زخرف قول عرضوه بملايين الصيغ والأشكال، في القصة والقصيدة والبحث والخطابة والمحاضرة والكتاب العلمي ولكن كل ما قالوه مرجعه إلى ما قاله الكافرون من قبل وهو ما قصه الله علينا في هذه السورة باختصار وبوضوح، لقد زعم هؤلاء أن قضية النبوة والرسالة تخيلات ومرائي منامية وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كاذب يفتري على الله ما لم يقله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم إنسان بليغ شاعري العواطف، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يقوله الجاحدون. إن في هذه السورة دروسا كبيرة لمن يقوم بعملية الإنذار في عصرنا، وفيها قوله تعالى رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. ملاحظتان: 1 - إن الذي يقرأ هذا التفسير يلاحظ أننا نعتمد على علامات معينة في تحديد بدايات ونهايات المجموعات أو المقاطع أو الفقرات، فمثلا رأينا في سورة الأنبياء أن من علامات بداية المجموعة مجيء كلمة (ما) أو (وما) كما رأينا أن كلمة (ولقد) كانت علامة على بدايات بعض المجموعات، أو نهايتها، غير أنه في بعض الحالات تصلح أن تكون علامة أخرى في السورة، علما على بداية مجموعة أو نهايتها، ولو أننا اعتمدنا هذه العلامة فإن السياق في هذه الحالة يعطينا معاني جديدة، غير أننا أضربنا عن الاستقصاء في هذه الشئون لأن ذلك يمل الكثيرين من القراء، ويصعب على الكثيرين استيعابه، وقد ألزمنا أنفسنا- كأصل في هذا التفسير- ألا نخرج عن قراءة حفص، ولو أننا تتبعنا القراءات كلها، وذكرنا ما تعطينا إياه هذه القراءات من معان جديدة وما يؤثره ذكرها على عرض معان جديدة في السياق، لترتب على ذلك أن يكبر هذا التفسير جدا، وأن يغمض كذلك، ولذلك لم نتوسع هذه التوسعات، ولكن أحببنا أن نشير إلى ذلك إشارة ليعلم أن آفاق المعاني في هذا القرآن لا تتناهى، وأن مظاهر الإعجاز، وكثرة المعجزات فيه لا تتناهى.

2 - في كتابنا (الرسول) صلى الله عليه وسلم عرضنا سورة الأنبياء على أنها مقدمة وسبع مقاطع، وهنا عرضناها على أنها مقدمة وتسع مجموعات، هناك عبرنا عن المجموعة باسم المقطع، ودمجنا ثلاث مجموعات مع بعضها: هي المجموعات السادسة، والسابعة والثامنة، على اعتبار أنها حديث عن الرسل وتعقيب، لكننا هنا فصلنا بين هذه المجموعات لسهولة العرض فالفارق في الاصطلاح فقط وليس في المضمون. ***

سورة الحج

سورة الحج وهي السورة الثانية والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الثالثة من قسم المئين، وآياتها ثمان وسبعون آية، وهي مكية إلا آيات منها

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الحج

قال الألوسي في تقديمه لسورة الحج: (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير- رضي الله تعالى عنهم- أنها نزلت بالمدينة، وهو قول الضحاك، وقيل كلها مكية. وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات هذانِ خَصْمانِ إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة، وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: عَذابَ الْحَرِيقِ. وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربع آيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فإنها مكيات، والأصح القول بأنها مختلطة، فيها مدني ومكي، وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور، وعدة آياتها ثمان وسبعون في الكوفي، وسبع وسبعون في المكي، وخمس وسبعون في البصري، وأربع وسبعون في الشامي. ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر، وجاء في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود. والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: «نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما»، والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور، نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال: في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة الحج: (هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية، كما يبدو من دلالة آياتها، وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال. وآيات العقاب بالمثل. فهي مدنية قطعا. فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة. وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة، أما قبل ذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعه أهل يثرب، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم: «إني لم أومر بهذا» حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع الله القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة، وحرية العبادة للمؤمنين).

كلمة في سورة الحج ومحورها

كلمة في سورة الحج ومحورها: سورة الحج تفصل قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فهي مثل سورة النساء، ومثل سورة هود، إلا أن سورة النساء حددت معالم التقوى، وسورة هود حددت معالم العبادة، وسورة الحج تهيج على التقوى وتبعث عليها: لاحظ بداية سورة النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. ولاحظ بداية سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وكما تهيج سورة الحج على التقوى فإنها تدل على منعرجات الطريق ومزالقه، وعلى الصوارف، وأمثال ذلك مما سنراه. كما لاحظ أنه في القسم الأول الذي هو السبع الطوال لم يرد معنا إلا سورة واحدة مبدوءة ب يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ وهي سورة النساء. وأن في القسم الثاني الذي هو الثلث الثاني من القرآن بمجموعاته الثلاث لم ترد إلا هذه السورة مبدوءة بهذا الخطاب يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ومن ثم فإن التأمل الدقيق لمعاني هذه السورة مهم في موضوع بناء التقوى، كما أن التأمل الدقيق في سورة النساء في القسم الأول مهم في الموضوع نفسه. ... نلاحظ أن السورة تتكرر فيها يا أَيُّهَا النَّاسُ* أربع مرات: في الآية الأولى يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وفي الآية الخامسة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ... وفي الآية (49) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ وفي الآية (73) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ..

ونلاحظ أن الآيتين الأخيرتين هما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ ... لاحظ الصلة بين ذلك ومحور السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ من خلال ورود الأمر بالعبادة في آية البقرة، وكلمة العبادة في الآيتين الأخيرتين من سورة الحج. ... ونحن في عرضنا لسورة الحج سنعتبر أن ورود كلمة (يا أيها الناس) هي العلامة على بداية المقطع، ومن ثم فعندنا في السورة أربعة مقاطع. ونلاحظ أن المقطع الثاني والثالث طويلان، ومن ثم فسنعرضهما كمجموعات، فلنبدأ: ***

المقطع الأول

المقطع الأول وهو أربع آيات وهذا هو مع البسملة بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الحج (22): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) التفسير: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بالتزامكم بما يوصل إلى التقوى، وبالعمل بمقتضاها، وبالتحقق بمضمونها، فالتقوى ملكة في النفس تنبع عنها آثار، وهي أثر عن أعمال، والأمر بالتقوى أمر بذلك كله إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الزلزلة في اللغة: شدة التحريك والإزعاج، واختلف المفسرون في زلزلة الساعة هذه، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم؟ أو غير ذلك؟ على أقوال سنراها في الفوائد، والعظة حاصلة في الآيات أي ذلك كان، إذ الآية أمرت بني آدم بالتقوى ثم عللت لضرورة إقامتها وللزوم ذلك بذكر الساعة، ووصفها بأهول صفة إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وصف الله عزّ وجل زلزلة الساعة هذا الوصف لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم، ويتصورها

[سورة الحج (22): آية 2]

بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم، بامتثال ما أمرهم به ربهم، من الأخذ بلباس التقوى، الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع، إن الساعة أمر عظيم، وخطب جليل، وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب، بما يحصل للنفوس من الرعب والفزع، قال تعالى واصفا شدة أفزاعها: يَوْمَ تَرَوْنَها أي يوم ترون الزلزلة أو الساعة تَذْهَلُ أي تغفل من فظاعة الأمر، ومن شدة الدهشة كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها، وعمن هي أشفق الناس عليه، ألا وهو رضيعها، إنها تدهش عنه في حال إرضاعها، وقوله تعالى مُرْضِعَةٍ يشير إلى أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة، فالمرضعة هي التي تمارس الإرضاع وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ أي كل حبلى حَمْلَها أي قبل تمامه لشدة الهول، قال الحسن البصري: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام وَتَرَى أي الناظر النَّاسَ سُكارى أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه، قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى وَما هُمْ بِسُكارى على التحقيق وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم، وطير تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه، وبعد أن أمر الله بالتقوى، وعلل لهذا الأمر، وهيج عليه، يذكر الآن الصارف الرئيسي عنها وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي علم صحيح كحال أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة، الدعاة إلى الكفر والبدع بالأهواء والآراء وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي عات مستمر في الشر كُتِبَ عَلَيْهِ أي قضي على الشيطان أَنَّهُ أي أن الأمر والشأن مَنْ تَوَلَّاهُ أي اتبعه وقلده فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أي فإن الشيطان يضله عن سواء السبيل وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي إلى النار والمعنى: كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار. والسعير: هو الحار المؤلم المقلق المزعج. كلمة في السياق: أمرت الآيات بالتقوى، وعللت لضرورة إقامتها، وذكرت ما يصرف الناس عنها، وهو الجهل في الله واتباع الشيطان، والذي دلنا على أن الجهل في الله هو الصارف هو قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ دل ذلك على أن هذا المجادل جاهل في

الفوائد

الله، وأن من آثار هذا الجهل اتباع الشيطان في طرق الضلال، الموصلة إلى النار، فإذا تذكرنا محور السورة من البقرة وهو يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عرفنا أنه لا تقوى إلا بعبادة، ولا عبادة إلا بمعرفة صحيحة لله، وعلم صحيح به جل جلاله، فمن لم يعرف أسماءه وصفاته وأفعاله ومن يعرف أن الأمر له، وأن له الحكم وأن له الطاعة، وأن شرعه واجب الاتباع، وأنه وحده الذي يخاف، ويستعان ويدعى، ويتوكل عليه، وغير ذلك مما هو من حقوقه جل جلاله، إن من لم يعرف الله حق المعرفة لا يعبده حق العبادة، وبالتالي فلا يتحقق بالتقوى، وبالتالي فإنه يكون متبعا للشيطان، وعلى هذا فما من نقص في التقوى إلا وسببه نقص في معرفة الله عزّ وجل. الفوائد: - ما المراد بزلزلة الساعة؟ هل المراد بها زلزلة حسية أو زلزلة نفسية بسبب موقف من مواقف الهول؟ وهل هذا قبل يوم القيامة أو في مشهد من مشاهد يوم القيامة وإذا كان في مشهد من مشاهد يوم القيامة فهل يكون في ذلك الموقف نساء حوامل ومرضعات، أو التقدير أنه لو كان هناك حوامل ومرضعات لحدث مثل هذا لهول الموقف؟ الخلاف بين المفسرين في هذا المقام كثير، والذي تقوم عليه الأدلة ما رجحه ابن جرير، وقد عرضه ابن كثير، وهو الذي نختاره: قال ابن كثير: (وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيامة من القبور، واختار ذلك ابن جرير، واحتجوا بأحاديث: الحديث الأول: روى الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تقارب من أصحاب السير: رفع بهاتين الآيتين صوته يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: «أتدرون أي يوم ذاك؟ ذاك يوم ينادي آدم عليه السلام فيناديه ربه عزّ وجل فيقول يا آدم ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة» قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة فلما رأى ذلك قال: «أبشروا واعملوا؛ فو الذي نفس محمد بيده إنكم

لمع خليقتين ما كانتا مع شئ قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبنى إبليس» قال: فسرى عنهم ثم قال: «اعملوا وأبشروا؛ فو الذي نفس محمد بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو الرقمة في ذراع الدابة». الحديث الثاني: روى ابن أبي حاتم عن أنس قال: نزلت إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ وذكر يعني سياق الحسن عن عمران غير أنه قال: ومن هلك من كفرة الجن والإنس». الحديث الثالث: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه، وقال فيه: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» ثم قال: «إني لأرجو أن تكون شطر أهل الجنة، ففرحوا وزاد أيضا: «إنما أنتم جزء من ألف جزء». الحديث الرابع: ذكر البخاري عند تفسير هذه الآية: عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك- فينادى بصوت- إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف- أراه قال:- تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة- فكبرنا ثم قال:- شطر أهل الجنة» فكبرنا. الحديث الخامس: روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا: يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثا من ذريتك إلى النار، فيقول آدم: يا رب من هم؟ فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعون» فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله؟ قال: «هل تدرون؟ ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير» الحديث السادس: روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا» قالت عائشة: يا رسول الله

من هذه النقول نستطيع أن نقول

الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك» أخرجاه في الصحيحين. الحديث السابع: روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: «يا عائشة أما عند ثلاث فلا؛ أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا، وحين يخرج عنق من النار فيطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة: وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد، قال: فينطوي عليهم ويرميهم في غمرات جهنم، ولجهنم جسر أرق من الشعر، وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك يأخذان من شاء الله، والناس عليه كالبرق، وكالطرف، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: يا رب سلم سلم فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكور في النار على وجهه». من هذه النقول نستطيع أن نقول: 1 - إن قوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يمكن أن يراد به الزلزلة التي بها تقوم الساعة، ويمكن أن يراد به زلزلة أخرى لها صلة بالساعة؛ ولقد جاءت النصوص فحددت المعنى الثاني، وهو أن المراد بهذه الزلزلة ما يحدث للناس في موقف من مواقف الهول يوم القيامة. 2 - إن قوله تعالى تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها يمكن أن يحمل على الظاهر، فهناك نساء يمتن وهن حوامل، ونساء يمتن هن وأولادهن الرضع في وقت واحد، فيحشر الجميع على ما ماتوا عليه، ويمكن أن يكون المعنى على الظاهر في حق الحامل، وأن كل مرضع تذهل عمن أرضعته في الماضي. 3 - في سبب نزول قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن كثير: وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وكذلك قال ابن جريج: روى ابن أبي حاتم عن أبي كعب المكي: قال: قال خبيث من خبثاء قريش: أخبرنا عن ربكم، من ذهب هو، أو من فضة هو، أو من نحاس هو؟ فتقعقعت السماء قعقعة- والقعقعة في كلام العرب الرعد- فإذا قحف رأسه

المقطع الثاني

ساقط بين يديه، وقال ليث بن سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شئ هو من در، أم من ياقوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته. أقول: وأيا كان سبب النزول فإن العبرة لعموم اللفظ، ولننتقل إلى المقطع الثاني. المقطع الثاني ويمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (48)، وقد اعتمدنا عرضه كمجموعات لطوله، ولذلك فسنذكر المجموعة وتفسيرها، ومحلها في السياق الخاص والعام، ثم ننتقل إلى غيرها حتى ينتهي المقطع. يتألف المقطع الثاني من سبع مجموعات وها نحن نبدأ بعرض المجموعة الأولى. المجموعة الأولى وتمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (7) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) التفسير: رأينا في المقطع الأول من السورة أن الصارف الرئيسي عن التقوى هو الجهل بالله

الذي يستتبع اتباع الشيطان، ومن آثار الجهل بالله عدم الإيمان باليوم الآخر، أو الشك فيه، ومن ثم تأتي المجموعة الأولى في المقطع الثاني لتعالج الشك في اليوم الآخر، وهي إذ تعالج الشك فمن باب أولى أنها تعالج الكفر أصلا يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي شك مِنَ الْبَعْثِ وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ خلق الإنسان من تراب مرتين: المرة الأولى يوم خلق آدم، والمرة الثانية يوم أن أصبح نطفة وبويضة فإنه خلق من الغذاء، وكان الغذاء ترابا، وماء وهواء ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي من حيوان منوي ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ هذا ذكر للمرحلة الثانية من تطور النطفة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ وهذا ذكر للمرحلة الثالثة من تطور الجنين، وهو موضوع سنفصله في الفوائد لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا ولا مناسبة بين التراب والماء، وقدر أن يجعل النطفة علقة ومضغة، والعلقة والمضغة عظاما قادر على إعادة ما بدأه، والمعنى العام: إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، فمن قدر على صنعكم أول مرة كما رأيتم قادر على إعادتكم وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أي نحن نثبت في الأرحام ما نشاء ثبوته، وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت الولادة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من الرحم طِفْلًا ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، وبطشه وعقله، ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا، ويلطف به، ويحنن عليه والديه آناء الليل وأطراف النهار، ولهذا قال ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي ثم نربيكم لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم بتكامل القوى، والوصول إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أخسه يعني الهرم والخرف. قال ابن كثير في تفسير أرذل العمر: وهو الشيخوخة والهرم، وضعف القوة والعقل، والفهم، وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر، ولهذا قال لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي لكيلا يعلم شيئا من بعد ما كان يعلمه، أو لكيلا يستفيد علما وينسى ما كان عالما به. هذا هو الدليل الأول على قدرة الله على البعث؛ فالله الذي قدر أن يخلق الإنسان من تراب، ثم ينقله من حال إلى حال، لا يعجزه أن يخلق الإنسان مرة ثانية بعد إذ صار ترابا. والآن يأتي الدليل الثاني: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً أي ميتة يابسة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي

[سورة الحج (22): آية 6]

تحركت بالنبات وحييت بعد موتها وَرَبَتْ أي ارتفعت وهذه إحدى ملاحظات علماء القشرة الأرضية المعاصرين: أن الأرض بعد المطر ترتفع وتربو، وهو موضوع سنراه في الفوائد وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف بَهِيجٍ أي حسن سار للناظرين إليه، لفت النظر إلى الأرض إذ أنبتت ما فيها من الألوان والفنون، من ثمار وزروع وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها، ومنافعها من كل صنف حسن المنظر، يحدث بهجة في النفس ذلِكَ أي الذي ذكرناه من خلق بني آدم من تراب، وإحياء الأرض بعد موتها، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك حاصل بسبب أن الله هو الحق، أي الثابت الوجود وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ما كان شئ من ذلك يحدث لولا أن الله حق، وأنه متصف بصفة إحياء الموتى، وأنه قادر على كل شئ، وإذا ثبت من خلال ما مر هذا كله فإن مقتضى اتصاف الله بهذا أن يبعثكم مرة ثانية، فهو قادر، وهو يحيي الموتى، وهو حق، ومن مقتضى كونه حقا ألا يخلق عبثا، وألا يترك سدى وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي إن خلقكم من تراب وإحياء الأرض من بعد موتها حكمته أن الساعة آتية لا ريب فيها، أي لولا أنه قدر الساعة ما خلقكم، ولا خلق ما في الأرض لكم وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي وإن خلقكم من تراب وإحياء الأرض بعد موتها حكمته أن الله يبعث من في القبور، أي لولا الساعة، ولولا البعث، ما خلق الله الذي خلق، وإذن فمن لم يؤمن بالساعة وبالبعث، فإنه لم يعرف الله عزّ وجل، ولم يعرف حكمته في خلق الإنسان، وأصناف المخلوقات. ***

كلمة في السياق

كلمة في السياق: إن التقوى لها طريق هو عبادة الله، وعبادة الله مرتكزها معرفته الصحيحة، ومعرفته الصحيحة تقتضي معرفة حكمته في خلق الأشياء، وذلك يوصلنا إلى الإيمان باليوم الآخر، وهذه المجموعة دللت على اليوم الآخر، ولفتت نظر الإنسان إلى شيئين يذكران به: خلق الإنسان، وإحياء الأرض الميتة، وعرفتنا بذلك على الله، ومما عرفتنا به على الله، أن الله ما كان ليخلق الخلق لولا الساعة والبعث، مما يدل على أن الساعة والبعث تقتضيهما الحكمة، ومن ظن أنه لا ساعة ولا بعث فإنه لا يكون قد عرف لله الحكمة، وهكذا نرى أن سياق السورة يخدم محور السورة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ذكر ابن كثير: ما رواه الإمام أحمد عن وكيع بن عدي عن عمه أبي رزين العقيلي- واسمه لقيط بن عامر- أنه قال: يا رسول الله أكلنا يرى ربه عزّ وجل يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس كلكم ينظر إلى القمر مخليا به؟» قلنا: بلى، قال «فالله أعظم» قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا؟ قال: بلى، قال: «ثم مررت به يهتز خضرا» قال: بلى، قال: «فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه»). 2 - وبمناسبة قوله تعالى فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ذكر ابن كثير حديث الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي، أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح».

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (8) إلى نهاية الآية (10) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) التفسير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي في وجوده، أو في أسمائه أو في صفاته بغير وصفه بِغَيْرِ عِلْمٍ ضروري أو مكتسب وَلا هُدىً أي ولا هداية خاصة من الله، كأثر عن مجاهدة صحيحة وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ من الله، أي ومن الناس من يجادل في الله بلا عقل صحيح، ولا هدى إلهام صريح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الهوى ثانِيَ عِطْفِهِ العطف: الرقبة، والمعنى: لاويا عنقه عن طاعة الله كبرا وخيلاء، يعني: يعرض عما يدعى إليه من الحق، ويثني رقبته استنكارا واستكبارا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هذا تعليل للمجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، أي يجادل ليضل عن دين الله لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي إهانة وذل لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا وعاقبه فيها قبل الآخرة لأنها أكبر همه ومبلغ علمه وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي جمع له عذاب الدارين ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والكبر والتكذيب، وذكر اليد لأن اليد آلة الكسب وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي فلا يأخذ أحدا بغير ذنب، ولا يأخذ أحدا بذنب غيره، وذكر الظلام بصيغة المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع، وهو العبيد، ولأن قليل الظلم منه مع إحاطة علمه واستغنائه كالكثير منا، وهذا الكلام يقال لهم تقريعا وتوبيخا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: ذكرت هذه المجموعة الطريق لمعرفة الله: العلم والهداية والكتاب، فالعلم الضروري والمكتسب يدلنا على الله وصفاته وأسمائه، كما برهنا على ذلك في كتابنا (الله جل جلاله) في بحث دلالات الظواهر، والهداية الخاصة التي هي أثر عن المجاهدة تدلنا على الله، قال تعالى وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (فالمجاهدة توصل إلى المعرفة الصحيحة بالله، والقرآن وكل كتاب سماوي صحيح النسبة لله يدلنا على الله دلالة صحيحة، فالعلم الصحيح، والهدى الخالص، والكتاب المنير، كل منهم يوصل إلى معرفة الله التي هي أساس العبادة، التي هي طريق التقوى. قد ذكرت هذه المجموعة نموذجا من الناس يحاول أن يصرف الناس عن طريق الله، وعن معرفته وعن دينه، والحامل له على ذلك الكبر، وذكرت جزاء هذا الصنف من الناس، وفي ذلك تحذير للناس أن يكونوا كهذا الصنف، وتحذير للمؤمنين أن يصرفهم هذا الصنف من الناس عن طريق التقوى، والصلة بين المجموعة وبين سياق السورة واضح، وكذلك الصلة بينها وبين محور السورة من قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذ المجموعة دلتنا بشكل غير مباشر على ما يوصلنا إلى معرفة الله، ودلتنا بشكل مباشر على نوع من الناس، يصرف عن معرفة الله وعبادته وشريعته، وحذرتنا أن نكون من هذا الصنف، إذ بذلك لا نكون عابدين ولا متقين. إن السورة بدأت بالأمر بالتقوى، وذكرت بالساعة؛ لتهيجنا على سلوك طريق التقوى، ودلتنا على صنف من الناس جاهل بالله، ومتبع للشيطان، ثم دعت السورة إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم ذكرتنا بصنف من الناس جاهل بالله، فالمعاني متكاملة، كل منها يكمل الآخر. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده إلى الحسن البصري قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة. 2 - دلتنا المجموعة على أن الكبر علة الضلال، ولا يصل الإنسان إلى حقيقة الإسلام

المجموعة الثالثة

وفي قلبه مثقال ذرة من كبر، فليحرر المسلم نفسه من الكبر بعرضه نفسه على الميزان الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكبر غمط الناس وبطر الحق». المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (11) إلى نهاية الآية (14) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 11 الى 14] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) التفسير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة، والمعنى: أنه يعبد الله مضطربا فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أي فإن أصابه صحة في جسمه، وسعة في معيشته، سكن واستقر بالخير الذي أصابه، أو بالدين فعبد الله وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي ارتد ورجع إلى الكفر، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أما خسرانه الدنيا فإن أهل الإيمان يعادونه، وأهل الكفر لا يثقون به، وأما خسرانه الآخرة فبخلوده في النار ذلِكَ أي خسران الدارين هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الظاهر الذي لا يخفى على أحد يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والأنداد ما لا يَضُرُّهُ إن لم يعبده وَما لا يَنْفَعُهُ إن عبده، فهو يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها، وهي لا تنفعه ولا تضره ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ من

[سورة الحج (22): آية 13]

الصواب يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما الآخرة فضرره محقق متيقن لَبِئْسَ الْمَوْلى إلهه المزعوم، أي لبئس الناصر الصاحب وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي ولبئس الصاحب والمخالط والمعاشر، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل هذا النموذج الذي يعبد الله على حرف، ذكر من يعبد الله بكل حال، وبعد أن ذكر جزاء الأولين، ذكر جزاء الآخرين إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال ابن كثير: (لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء، عطف بذكر الأبرار السعداء، من الذين آمنوا بقلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، فعملوا الصالحات، من جميع أنواع القربات، وتركوا المنكرات، فأورثهم ذلك سكن الدرجات العاليات في روضات الجنات) ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ. كلمة في السياق: 1 - لما كان الطريق إلى التقوى هو العبادة، ولما كان من مزالق الطريق ترك العبادة بسبب عوارض الطريق وقواطعه، فقد نبه الله عزّ وجل على هذا المزلق الخطر، والمنعطف القذر، فأنذر عزّ وجل هؤلاء الذين يتركون عبادته إذا ما تعرضوا لابتلاء وامتحان، ثم بشر المؤمنين الصادقين بما أعده لهم، والصلة واضحة، بين السياق وهذه المجموعة، فإذ دعانا الله عزّ وجل لتقواه، فقد بين لنا ما يقطع عن طريق تقواه، ولقد أنذرت المجموعة لتهيج على الثبات على الطريق، وبشرت لتحض على السير في الطريق. 2 - لنتذكر الآن محور سورة الحج من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ثم لاحظ أن الآية الثانية بعد آية يا أَيُّهَا النَّاسُ في سورة البقرة موجودة فيها فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ثم تأمل قوله تعالى في هذه المجموعة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لتجد الصلة قائمة، ثم لاحظ أن الآية الرابعة بعد آية يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا في سورة البقرة هي وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وتذكر أن آخر آية في هذه المجموعة هي إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ لتجد الصلة قائمة بين المحور وامتداداته من سورة البقرة، وبين هذه المجموعة.

الفوائد

الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ قال ابن كثير: (أي دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر. روى البخاري عن ابن عباس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، قالوا: إن ديننا هذا لصالح، فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدوبة، وعام ولاد سوء، وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير. فأنزل الله على نبيه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ الآية، وقال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهم أرض دونه، فإن صح بها جسمه، ونتجت فرسه مهرا حسنا، وولدت امرأته غلاما، رضي به واطمأن إليه؛ وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ والفتنة: البلاء، أي وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت منذ كنت على دينك إلا شرا، وذلك الفتنة، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه، وتغيرت انقلب، فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار، أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر، وقال مجاهد في قوله انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي ارتد كافرا وقوله خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ فلا هو حصل من الدنيا على شئ، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيه في غاية الشقاء والإهانة، ولهذا قال تعالى ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي هذه هي الخسارة العظيمة، والصفقة الخاسرة). 2 - قوله تعالى عن آلهة المشركين لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ يدل على أن بين المرتد وبين ما ارتد إليه نوع سيادة وصحبة، فهو قد أعطى آلهته الجديدة العبودية، وأعطاها الصحبة وهذا يجعلنا نفهم أن الآلهة التي ينقلب إليها هذا النوع من الناس أوسع من أن تكون صنما.

المجموعة الرابعة

المجموعة الرابعة وتمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (24) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 15 الى 24] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)

التفسير

التفسير: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ هل الضمير في (ينصره) يعود إلى الظان نفسه أم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان الضمير يعود إلى الظان نفسه فإن الحديث يكون عمن وصل إلى درجة القنوط من النصر، وإن كان الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم يكون المعنى: من كان يظن ألن ينصر الله محمدا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي فليمدد بحبل إلى سقف بيته هكذا فسرها ابن كثير وغيره، لأن كل ما علاك في اللغة فهو سماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ قال ابن كثير: أي ثم ليختنق به، قال النسفي: أي ثم ليختنق به، وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي في قتل نفسه ما يَغِيظُ أي الذي يغيظه من أوضاع. قال النسفي: وسمي فعله كيدا على سبيل الاستهزاء، لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه، والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ، أقول: وفي هذا المقام تختلف عبارات المفسرين، وما ذكرناه في تفسير الآية هو الذي نرجحه، والمعنى: من ظن أنه لا نصر للإسلام والمسلمين فليتصور أنه شنق نفسه، فهل يترتب على ذلك شئ؟ والمعنى: أنه لا يجوز للمسلم أن يشك في نصر الله، وأن عليه أن يصبر في كل الظروف لأمر الله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات في لفظها ومعناها، حجة من الله على الناس وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة، والمعنى: ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كله آيات بينات واضحات، والحكمة في ذلك هداية من علم الله أنهم يؤمنون، ولذلك أنزل على ما هو عليه. كلمة في السياق: بعد المجموعة التي وصف الله عزّ وجل فيها حال من يعبد الله على حرف ذكر آية مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ والصلة واضحة لأن كثيرين يتركون دعوة الله لاستبطائهم النصر لها، أو يأسهم منها، ومجيء الآية الثانية وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ للإشارة إلى أنه ما من حالة إلا وفي القرآن تفصيلها الواضح، أما صلة الآيتين بمحور السورة فواضح؛ إذ إن استبطاء النصر، أو اليأس من النصر صارفان عن التقوى، والسير إليها، والتحقق فيها، ولنعد إلى التفسير. ...

[سورة الحج (22): آية 17]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ مر معنا تعريف الصابئين في سورة البقرة وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ أي عباد النار وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا مع الله غيره كائنا من كانوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يحكم بينهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي عالم به، حافظ له، فلينظر كل امرئ معتقده، وقوله وفعله، وهو أبلغ وعيد. كلمة في السياق: ما محل هذه الآية في السياق؟ إنه بعد أن ذكر الله عزّ وجل قضية اليأس من نصر الله في الدنيا والآخرة، قرر هنا مؤكدا أنه سيفصل ويحكم يوم القيامة بين أهل العقائد المختلفة، أي أن أهل الإيمان منتصرون حتما في الآخرة، وهذا هو النصر الكبير، ولنعد إلى التفسير: أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم علما يقوم مقام العيان أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شئ طوعا وكرها، وسجود كل شئ مما يختص به، وهل هو سجود حقيقي فيكون لكل سجوده الخاص وإن كنا لا نقف عليه، أو أن في ذلك كناية عن مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له، فهذا سجوده له تشبيها لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه؟ اتجاهان في التفسير ذكرهما النسفي وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود الاختيارى وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي ومن يهنه الله بالشقاوة فما له من مكرم بالسعادة إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام والإهانة وغير ذلك. كلمة في السياق: يأتي هذا الخطاب الذي يقرر خضوع خلق الله جميعا لله في سياق الإنكار على من ييأس من نصر الله، وفي سياق الإنكار على من يعبد الله على حرف؛ ليبين أن الأمر أمره، والملك ملكه، وكل شئ خاضع له، وأن من يفر من عبادته أمامه ما أمامه، وأن الذي ييأس من نصره لا يعرف حقيقة الأمر من كون كل شئ خاضعا له خضوع

[سورة الحج (22): آية 19]

اختيار، أو اضطرار وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وأما صلتها في السياق العام من محور السورة فإن محور السورة يأمر بالعبادة كطريق للتقوى، وتأتي هذه الآية لتقرر أن السجود الذي هو أرقى درجات العبادة هو سمة الكون كله بما فيه ومن فيه، وأن الذين لا يسجدون من البشر معذبون، وأن الذين يسجدون منسجمون مع سجود الخلق كلهم، وبعد هذه الآية التي مرت معنا فإن المجموعة تعرض لنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة، تذكر لنا فيه كيف ينصر الله أولياءه في الآخرة ويخذل أعداءه. ... هذانِ خَصْمانِ أي هذان فريقان مختصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ هذا مصدق، وهذا مكذب، هذا مؤمن وهذا كافر، والاختصام قد يكون اختصام حجة، وقد يكون اختصام قتال فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فصلت لهم مقطعات من النار. قال سعيد بن جبير: من نحاس، قال ابن كثير: وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي، قال النسفي: كأن الله يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم، تشتعل عليهم، كما تقطع الثياب الملبوسة، واختير لفظ الماضى لأنه كائن لا محالة، فهو كالثابت المتحقق يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار الذي هو في غاية الحرارة، وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب به، أي بالحميم ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم، كما يذيب جلودهم، فيؤثر في الظاهر والباطن وَلَهُمْ مَقامِعُ أي سياط مختصة بهم مِنْ حَدِيدٍ يضربون بها كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ أي من أجل غم أُعِيدُوا فِيها أي أعيدوا إلى عظم النار، لأنهم لا ينفصلون عنها أبدا وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي وقيل لهم ذوقوا العذاب ليهانوا قولا وفعلا، هذا جزاء الخصم الكافر، وأما خصمه المؤمن فهذا جزاؤه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال ابن كثير: أي تتحرك في أكنافها، وأرجائها وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يجرونها حيث شاءوا وأين أرادوا يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي يلبسون الحلي من الذهب واللؤلؤ في أيديهم وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي إلى الطريق المستقيم في الدنيا،

كلمة في السياق

والحميد: هو الله المحمود بكل لسان، ويحتمل أن يكون المعنى: وهدوا في الآخرة إلى القول الطيب، حتى لا يقولوا إثما، ولا يقولوا إلا ذكرا وسلاما، وهدوا إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم. كلمة في السياق: دلت هذه الآيات على ما أعد الله للخصوم فيه، فعرفنا بذلك أن نصرة الله في الآخرة لأوليائه ما بعدها نصرة، وأن خذلان الله لأوليائه ما بعده خذلان، فلنتذكر كيف سارت المجموعة: أنكرت على من ييأس من النصر، ثم بينت أن النصر الحقيقي يوم القيامة، ثم بينت أن كل شئ خاضع لله، ثم بينت عاقبة المتخاصمين فيه في الآخرة، وهكذا عرفتنا أن النصر الحقيقي هو النصر في الآخرة، وسنرى أنه بعد المجموعة اللاحقة ستأتي بشارة الله بالنصر لمن يستحق النصر فالسياق الخاص للسورة يتسلسل- كما نرى- بشكله العجيب الفريد. والصلة بين هذه المجموعة كلها، وبين محور السورة من البقرة واضح، فقد استقرت المجموعة على ذكر عاقبة المتقين، وعاقبة الكافرين بما لا يبقى معه ذو عقل إلا ويختار طريق التقوى، كيف والكلام كلام الله، والوعد والوعيد وعده ووعيده، وقد رأينا أن من امتدادت آية المحور في سورة البقرة قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ .. يروي ابن كثير حديث الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت» وانظر ما كتبناه عن هذا الموضوع في أواخر سورة الأنعام، وقد ساقه ابن كثير للتدليل على سجود الأشياء لله، وبمناسبة كون هذه الآية آية سجدة قال ابن كثير: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي، يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار».

2 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أخرج ابن أبي حاتم أنه قيل لعلي: إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف». 3 - بمناسبة قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ عرض ابن كثير مجموعة من الأقوال في الآية، ورجح ما أثبتناه في صلب التفسير، وهذا كلامه: (ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر- لفظ البخاري عند تفسيرها- ثم روى البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة وعبيده وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قال: اختصم المسلمون، وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم؛ فنحن أولى منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه وأنزل هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ وقال شعبة عن قتادة في قوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قال: مصدق ومكذب، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون. وقال عكرمة هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قال. هي الجنة والنار، قالت النار: اجعلني للعقوبة، وقالت الجنة: اجعلني للرحمة. وقال مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون، يشمل الأقوال كلها وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عزّ وجل، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن).

4 - بمناسبة قوله تعالى يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ* يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ* وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ* كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ قال ابن كثير: (روى ابن جرير .. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر. ثم يعاد كما كان» وعن ابن أبي حاتم .. عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرهه قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه، فيفرغ دماغه ثم يفرغ الإناء من دماغه، فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وقوله وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ روى الإمام أحمد .. عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان، ما أقلوه من الأرض. وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقال ابن عباس في قوله تعالى وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ قال: يضربون بها فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور، وقوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها روى الأعمش .. عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة، لا يضيء لهبها، ولا جمرها ثم قرأ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها قال: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها، وقوله وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ كقوله وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا. 5 - بمناسبة قوله تعالى يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ذكر ابن كثير الحديث المتفق عليه «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». 6 - وبمناسبة قوله تعالى وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قال ابن كثير: كما جاء في الحديث الصحيح «إنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس». ***

المجموعة الخامسة من المقطع الثاني

المجموعة الخامسة من المقطع الثاني وتمتد من الآية (25) إلى نهاية الآية (37) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 25 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

التفسير

التفسير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: ويمنعون الناس عن الدخول في الإسلام وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، والمعنى: إن الذين كفروا والذين هم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله، والمسجد الحرام، والتركيب يفيد أن الصدود منهم دائم مستمر الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ مطلقا من غير فرق بين حاضر وباد سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي: جعلناه مستويا المقيم فيه وغير المقيم، فالكافرون يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعا سواء للناس، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه، البعيد الدار منه وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أي: في المسجد الحرام بِإِلْحادٍ أي: إلحادا، والإلحاد: العدول عن القصد، أي: ومن يرد فيه مرادا ما منحرفا عن القصد بِظُلْمٍ أي: ظالما، أي: ومن يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي والكبائر ظالما عامدا قاصدا ليس بمتأول نُذِقْهُ في الآخرة مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تقدير المعنى في الآية: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك وَإِذْ أي: واذكر إذ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ

[سورة الحج (22): آية 27]

الْبَيْتِ أي أرشده إليه وسلمه له، وأذن له في بنائه أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي: قائلين له لا تشرك بي شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأصنام والأقذار لِلطَّائِفِينَ أي: لمن يطوف به وَالْقائِمِينَ أي والمقيمين بمكة وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أي والمصلين وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد فيهم بالحج، والحج في اللغة: هو القصد البليغ إلى مقصد منيع يَأْتُوكَ رِجالًا أي مشاة وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ الضامر: هو البعير المهزول، أي يأتوك مشاة وركبانا. قال النسفي: وقدم الرجال على الركبان إظهارا لفضيلة المشاة يَأْتِينَ أي تأتي هذه الضوامر مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي من كل طريق بعيد لِيَشْهَدُوا أي ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ قال ابن عباس: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن، والذبائح، والتجارات وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ قال ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، أي من ذي الحجة، وهو مذهب أبي حنيفة وآخرها يوم النحر، وعليه أكثر المفسرين، وعند أبي يوسف ومحمد: هي أيام النحر، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والضأن والمعز، وقوله تعالى: ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام أي على ذبحه فَكُلُوا مِنْها أي من لحومها، والأمر للإباحة، وعند الحنيفة يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة، والقرآن؛ لأنه دم نسك، فأشبه الأضحية، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة الْفَقِيرَ أي الذي أضعفه الإعسار ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم والتفث: الوسخ، وقضاء التفث على الكمال قص الشارب والأظافر، ونتف الإبط والاستحداد وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي مواجب حجهم، أو ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي طواف الزيارة الذي هو ركن الحج، ويقع به تمام التحلل، والبيت العتيق: هو الكعبة، والعتيق: القديم، أو الكريم، أو سمي بذلك لأنه أعتق من أيدي الجبابرة ذلِكَ أي الأمر ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ الحرمة: ما لا يحل هتكه، وجميع ما كلف الله عزّ وجل به عباده هو من هذا القبيل، سواء في ذلك مناسك الحج وغيرها، واللفظ يحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا بما يتعلق بالحج، وقيل حرمات الله: البيت الحرام، والمشعر الحرام، والشهر الحرام، والبلد الحرام، والمسجد الحرام فَهُوَ أي التعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ومعنى التعظيم: العلم بأنها واجبة المراعاة، والحفظ

[سورة الحج (22): آية 31]

والقيام بمراعاتها وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي في القرآن، مما ورد في سور: البقرة، والمائدة، والأنعام، والنحل، والمعنى: أن الله تعالى أحل لكم الأنعام كلها، إلا ما حرمه عليكم في كتابه، فحافظوا على حدوده، ولا تحرموا شيئا مما أحل الله، كتحريم البعض البحيرة ونحوها، ولا تحلوا مما حرم الله، كإحلالهم أكل الموقوذة، والميتة وغيرها فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي هو الأوثان مِنَ الْأَوْثانِ هذا بيان للرجس، وسمى الأوثان رجسا على طريقة التشبيه، يعني أنكم تنفرون بطباعكم عن الرجس، فعليكم أن تنفروا عنها وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الكذب والبهتان، أو شهادة الزور، لما حث على تعظيم حرماته، أتبعه الأمر باجتناب الأوثان، وقول الزور، وجمع بين الشرك وقول الزور؛ لأن الشرك من باب الزور؛ إذ المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة حُنَفاءَ لِلَّهِ أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، قصدا إلى الحق، ولهذا قال: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ أي سقط مِنَ السَّماءِ إلى الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي تسلبه بسرعة، أي تقطعه الطيور في الهواء أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تسقطه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أي بعيد مهلك لمن هوى فيه ذلِكَ أي الأمر ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي أوامره فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى، ومن شعائر الله الهدايا لأنها من معالم الحج، وتعظيمها: أن يختارها عظام الأحرام، حسانا سمانا غالية الأثمان لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من الركوب عند الحاجة، وشرب ألبانها عند الضرورة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن تنحر ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق: وهو الكعبة، والمعنى الدقيق لها: أي إلى وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق، والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذ الحرم حريم البيت وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم قبلكم أرسل الله لها رسولا، وطالبها بشريعة جَعَلْنا مَنْسَكاً أي إراقة دماء وذبح قرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ دون غيره عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي عند نحرها وذبحها فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي معبودكم واحد، وإن تنوعت شرائع الأنبياء، ونسخ بعضها بعضا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له فَلَهُ أَسْلِمُوا أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أي المطمئنين بذكر الله، أو المتواضعين الخاشعين، ثم وصفهم الله تعالى فقال الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت منه قلوبهم

[سورة الحج (22): آية 36]

وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي المصائب وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائض أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ويحسنون إلى الخلق وَالْبُدْنَ جمع: بدنة سميت به لعظم بدنها، وهذا الاسم في الشريعة يتناول الإبل والبقر جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله، وجعلها من شعائره هو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي خير في الدنيا وأجر في العقبى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي عند نحرها صَوافَّ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها، وسكنت حركتها فَكُلُوا مِنْها أي إن شئتم فالأمر للإباحة وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي السائل وَالْمُعْتَرَّ أي الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل، وقيل: القانع الراضي بما عنده، وبما يعطى من غير سؤال، والمعتر: المتعرض للسؤال كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم، أي ذللناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا إنعام الله عليكم، أو المعنى: من أجل ما مر ذللناها لكم، وجعلناها منقادة لكم خاضعة، إن شئتم ركبتم، وإن شئتم جلستم، وإن شئتم ذبحتم؛ من أجل أن تشكروا الله على عنايته بكم لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها، ولا الدماء المراقة بالنحر وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي بالتقوى تنالون رضا الله والمعنى: لن يرضي المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى كَذلِكَ أي من أجل ذلك سَخَّرَها لَكُمْ أي من أجل أن تتحققوا بالتقوى سخرها لكم، إذ تنتفعون بها كما شرع وتضحون بها كما أمر، وتلتزمون في شأنها بما أوصى لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي لتسموا الله عند الذبح، أو لتعظموا الله عَلى ما هَداكُمْ أي على ما أرشدكم إليه من دينه وشرعه، وما يحبه وما يرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ بالثواب، والمحسنون: هم الممتثلون أوامره، المراقبون له في كل حال، القائمون بحدوده، المتبعون ما شرع، المصدقون لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أبلغهم، وجاءهم به من عند ربه عزّ وجل، وبهذا انتهت المجموعة الخامسة من المقطع الثاني.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: هذه المجموعة جسر بين المجموعة التي قبلها والتي بعدها، وهي في الوقت نفسه تحدد معالم كبيرة في موضوع التقوى والعبادة، ومن ثم فهي في محلها تؤدي دورين: دورا في خدمة السياق الخاص، ودورا في خدمة السياق القرآني العام، فلنر كيف كان ذلك: رأينا أن المجموعة السابقة بدأت في الإنكار على من ييأس من نصر الله في الدنيا والآخرة، ثم استقرت على توضيح كيف ينصر الله أولياءه في الآخرة ولم تحدثنا صراحة عن موضوع نصر الله أولياءه في الدنيا، وسنرى أن موضوع نصرة الله أولياءه في الدنيا سيأتي في المجموعة اللاحقة، إذ يحدثنا الله عزّ وجل عن دفاعه عن الذين آمنوا، وعن إذنه للمؤمنين بالقتال، وعن قدرته على نصرهم، وعن صفات الجماعة التي تستحق النصر، وعن وعده لها بالنصر، وفيما بين ذلك تأتي المجموعة التي مرت معنا فلماذا؟ إن المجموعة التي بين أيدينا تعطينا مبررات الإذن في القتال، فالذين كفروا يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام الذي أقامه إبراهيم عليه السلام للتوحيد الخالص، فإذا بالمشركين يجعلونه للشرك، ويعطلون شعائر الله وشرائعه، ومن ثم فإنه عند ما يأتي الإذن بقتالهم، تكون المبررات أوضح، ومن ثم قلنا إن هذه المجموعة جسر بين ما قبلها وما بعدها. والمجموعة بينت معالم في العبادة فذكرت: حج البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام للطواف والقيام والركوع والسجود، وذكر الله وشكره على رزقه لهم بهيمة الأنعام، بالتضحية فيها هناك، والأكل منها، والإطعام منها، كما ذكرت عبادة الله في ترك بعض جوانب من التنعم، وقضاء ما على الإنسان من نذور، والطواف بالبيت، وتعظيم حرمات الله، والتوحيد، واجتناب الزور، والإخبات لله، والخوف منه، والصبر، والصلاة، والإنفاق وذكر اسم الله عند الذبح، وتعظيم الله، وغير ذلك، وهي كلها معان داخلة في التقوى، أو وسيلة إليها. وأبرزت الآيات معالم من التقوى، كما أبرزت أهمية التقوى ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كما أبرزت الآيات بعض ما يتنافى مع التقوى: الكفر والصد عن سبيل الله، والصد عن المسجد الحرام، والشرك، وقول الزور، وغير ذلك. فإذا عرفنا أن محور السورة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتأملنا في معاني

الفوائد

المجموعة رأينا أن المجموعة فصلت لنا في شأن العبادة والتقوى جوانب كثيرة، وكلنا يعلم أن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فهو جزء من التقوى، وهو وسيلة للتقوى، وقد أبرزت الآيات كثيرا من حكم أحكامه، وعللت للكثير مما افترض فيه، والمجموعة جسر لما بعدها مع ما قبلها، كما قلنا فالجميع في مقطع واحد. الفوائد: 1 - استدل ابن كثير بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ على أن هذه الآية مدنية، والذي يبدو أن المجموعة كلها والمجموعة التي بعدها مدنيتان. 2 - للمفسرين والفقهاء وقفات طويلة عند قوله تعالى الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ فقد فهم بعضهم من ذلك أن الناس كلهم متساوون في رباع مكة وسكناها، وأن دور مكة لاتباع ولا تشترى لأنها لكل المسلمين، وخالف آخرون في هذا الفهم فقالوا: إن المراد بالآية غير ذلك، وقد عرض ابن كثير هذه المسألة والخلاف فيها وأدلة كل. قال: (وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف وأحمد بن حنبل حاضرا أيضا، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسن عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول: أننزل غدا في دارك بمكة؟ فقال «وهل ترك لنا عقيل من رباع» ثم قال «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وبما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان ابن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث، ولا تؤجر، وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه ...... عن علقمة بن فضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. وروى عبد الرزاق عن عبد الله ابن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة، ولا كراؤها. وقال أيضا عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب

دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك فقال: انظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، قال: فلك ذلك إذا. وروى عبد الرزاق عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء، قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قال: ينزلون حيث شاءوا، وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفا «من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا» وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعا بين الأدلة والله أعلم). 3 - نقل ابن كثير كلاما كثيرا للمفسرين حول قوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وكلها توضح جوانب مما يمكن أن يفعله الناس من إلحاد في الحرم، ومن كلامه قال: (وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بظلم: بشرك، وقال مجاهد أن يعبد فيه غير الله، وكذا قال قتادة وغير واحد، وقال العوفي عن ابن عباس: بظلم: هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم، وقال مجاهد: بظلم: يعمل فيه عملا سيئا، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادئ فيه بالشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه، كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله- يعني ابن مسعود- في قوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قال: لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم وقال الثوري ...... عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم، وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد إلحاد فيه لا والله وبلى والله، وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه، وقال سفيان الثوري ..... عن ابن عباس في قوله وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قال: تجارة الأمير فيه، وقال حبيب بن أبي ثابت وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قال: المحتكر بمكة، وكذا قال غير واحد. وروى ابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام بمكة إلحاد» وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قول الله وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ قال: نزلت في عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن

أنيس؛ فقتل الأنصاري، ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إلى مكة فنزلت فيه وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ يعني من لجأ إلى الحرم، بإلحاد يعني: بميل عن الإسلام، وهذه الآثار- وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد- ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت، أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء، ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» وروى الإمام أحمد أنه. أتى عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير فقال: يا بن الزبير: إياك والإلحاد في حرم الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت» فانظر لا تكن هو، وروى أيضا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ..... عن سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير إياك والإلحاد في الحرم، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يحلها ويحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها» قال: فانظر لا تكن هو، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين. أقول: إن عبد الله بن الزبير ليس هو المعني بالحديث بيقين، بل هو الخليفة الشرعي للمسلمين مدة خلافته رضي الله عنه وأرضاه. 4 - ما الصلة بين الآية الأولى في المجموعة وهي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ..... والآية الثانية وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ قال ابن كثير: (هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له) وما الصلة بين الآية الأولى، وأمره تعالى لإبراهيم في الآية الثالثة وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. أقول: الصلة تكمن- والله أعلم- في أن إبراهيم دعا الخلق كلهم لإتيان المسجد الحرام، وقريش كانت تصد أولى الناس بإبراهيم عن المسجد الحرام.

5 - عند قوله تعالى وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ تحدث ابن كثير عن حكمة قرن الطواف بالركوع والسجود فقال: (فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة، وفي الحرب، وفي النافلة في السفر). 6 - لا نعلم كيف نفذ إبراهيم عليه السلام أمر الله وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ إلا أن ابن عباس ومجاهدا وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف قالوا ما مضمونه: (قال أي عند ما أمر: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه- وقيل على الحجر وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس- وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شئ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك) هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد من السلف والله أعلم. 7 - بمناسبة قوله تعالى وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قال ابن كثير: (قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم، وقوة هممهم، وشدة عزمهم، وروى وكيع عن ابن عباس قال ما آسى على شئ إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا، لأن الله يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حج راكبا مع كمال قوته عليه الصلاة والسلام). 8 - بعد قوله تعالى يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ ذكر الله عزّ وجل حكم فرضه الحج على الناس فقال: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وقد قدم الله عزّ وجل من هذه الحكم الخمسة شهود المنافع فقال: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وللنسفي كلام جميل في هذا المقام قال: (نكرها لأنه أراد منافع مختصة

بهذه العبادة دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادة، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس، كالصلاة والصوم، أو بالمال كالزكاة، وقد اشتمل الحج عليهما، مع ما فيه من تحمل الأثقال، وركوب الأهوال، وخلع الأسباب، وقطيعة الأصحاب، وهجر البلاد والأوطان، وفرقة الأولاد والخلان، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، فالحاج إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده، وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط، وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه مطيبا بالحنوط، ملففا في كفن غير مخيط، ثم المحرم يكون أشعث حيران، فكذا يوم الحشر، يخرج من القبر لهفان، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغبا ورهبا، سائلين خوفا وطعما، وهم من بين مقبول ومخذول، كموقف العرصات، لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد، والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمنا، من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال، غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية، كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية، فمرحبا بمن جاوز مهالك البوادي شوقا إلى اللقاء يوم التنادي). وقال صاحب الظلال في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ: (والمنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة فالحج موسم ومؤتمر. الحج موسم تجارة وموسم عبادة الحج مؤتمر اجتماع وتعارف ومؤتمر تنسيق وتعاون وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة .. أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقا رائجة حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شئ من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فج ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم. يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد. فهو موسم تجارة ومعرض نتاج، وسوق عالمية تقام في كل عام. وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح. وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام. وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد.

طيف إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يودع البيت وبه فلذة كبده إسماعيل وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ: وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش. وهدها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل .. ثم ترجع في الجولة السابعة وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضيء. وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب. وطيف إبراهيم- عليه السلام- وهو يرى الرؤيا، فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده، ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد: قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟ فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل- عليه السلام- قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وطيف إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- يرفعان القواعد من البيت، في إنابة وخشوع: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وتظل هذه الأطياف وتلك الذكريات ترف وتتتابع، حتى يلوح طيف عبد المطلب، وهو ينذر دم ابنه العاشر إن رزقه الله عشرة أبناء، وإذا هو عبد الله وإذا عبد المطلب حريصا على الوفاء بالنذر. وإذا قومه من حوله يعرضون عليه فكرة الفداء وإذا هو يدير القداح حول الكعبة ويضاعف الفداء والقدح يخرج في كل مرة على عبد الله حتى يبلغ الفداء مائة ناقة بعد عشر هي الدية المعروفة فيقبل منه الفداء، فينحر المائة وينجو عبد الله، ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة وأكرم خلق الله على الله- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم يموت! فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير!.

ثم تتواكب الأطياف والذكريات من محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى، حول هذا البيت وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت تنشب بين القبائل .. وهو يصلي .. وهو يطوف .. وهو يخطب .. وهو يعتكف .. وإن خطواته- عليه الصلاة والسلام- لتنبض حية في الخاطر، وتتمثل شاخصة في الضمير. يكاد الحاج هناك يلمحها وهو مستغرق في تلك الذكريات .. وخطوات الحشد من صحابته الكرام وأطيافهم ترف وترف فوق هذا الثرى، حول ذلك البيت، تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار! والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا .. ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعا إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعا .. ويلتقون عليها جميعا ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان .. ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا .. قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين. الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد راية العقيدة والتوحيد. وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة. والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكاف وأنسب جو، وأنسب زمان. فذلك إذ يقول الله سبحانه: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم- عليه السلام- أن يؤذن به في الناس.). 9 - في الآية التي حددت حكم الحج ورد قوله تعالى وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ وقد اختلف المفسرون والفقهاء في هذه الأيام المعلومات، فمن ربط بينها وبين الذبح رأى أنها يوم النحر، ويومان أو ثلاثة بعده، ومنهم من لم يربط بينها وبين ذلك، وقد لخص ابن

كثير كل هذه الأقوال، وعدها أربعة، وكأنه يرجح القول الثالث من هذه الأقوال، وهذا كلامه: (قال شعبة .. عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات الأيام العشر، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وجابر (قال ابن كثير): وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزءا على حدة، فمن ذلك ما رواه أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد» وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه، وقال البخاري: وكان ابن عمرو وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وقال بعض السلف إنه المراد بقوله: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر، وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال «أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية» ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث «أنه أفضل الأيام عند الله» وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وتوسط آخرون فقالوا أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة والله أعلم. (قول ثان) في الأيام المعلومات قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. (قول ثالث): قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا على به المديني حدثنا يحيى ابن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهذا إسناد صحيح إليه، وقال السدي- وهو مذهب الإمام مالك بن أنس-: ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني ذكر الله

عند ذبحها (قول رابع): إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق.). 10 - بمناسبة قوله عزّ وجل: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ نحب أن نقول: إن الحج على ثلاثة أنواع: قران، وتمتع، وإفراد، وقد مر معنا ذلك في سورة البقرة، وتفصيله في كتب الفقه، ويجب على القارن أن يذبح، ويجب على المتمتع أن يذبح، ويسن للمفرد أن يذبح، وعند الحنفية يجوز لهؤلاء الثلاثة أن يأكلوا من ذبائحهم، أما الدم الذي على الحاج إذا جنى جناية تستوجب الدم فلا يجوز أن يأكل منها عند أحد من الفقهاء، ومتى يجوز الذبح هل يتعين له يوم النحر أو لا يتعين؟ قال في بداية المجتهد: (وأما متى ينحر فإن مالكا قال: إن ذبح هدي التمتع أو التطوع قبل يوم النحر لم يجزه، وجوزه أبو حنيفة في التطوع، وقال الشافعي: يجوز في كليهما قبل يوم النحر). 11 - نلاحظ أن الآية التي حددت حكم الحج قالت لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فقد ذكرت الذبح قبل قضاء التفث، وذكرت قضاء التفث قبل الطواف، فهل هذا يفيد ترتيبا ما؟ عند الحنفية يجب وجوبا أن يكون هناك ترتيب يوم النحر بين رمي جمرة العقبة والذبح إن كان على الإنسان دم واجب والحلق، ثم بعد ذلك يكون الطواف، ولا يرى آخرون أن الترتيب واجب، قال ابن كثير مبينا أن الترتيب فعله عليه الصلاة والسلام: «وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت) وإذن فهذا الترتيب المذكور بالآية هو الأفضل بيقين ولكن هل هو واجب أو سنة؟ قولان للفقهاء. 12 - بمناسبة قوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ نقول: إن الطواف المفروض هو الطواف الذي يسمى طواف الإفاضة أو الزيارة، وهو الذي يبدأ وقته بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وهناك طواف واجب وهو طواف الوداع، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) وهناك طواف مسنون هو طواف القدوم، وبمناسبة

الآية وبمناسبة وصف البيت بالعتيق قال ابن كثير: (فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر، لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة. ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين، لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة، وقال الترمذي ... عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب) ... 13 - وبمناسبة قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال ابن كثير: (وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس فقال- ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، وروى الإمام أحمد عن أيمن بن خزيم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله، ثلاثا ثم قرأ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). 14 - وبمناسبة قوله تعالى وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ ذكر ابن كثير الحديث الذي مر معنا في سورة إبراهيم: قال: ولهذا جاء في حديث البراء أن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء، فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحا من هناك، ثم قرأ هذه الآية وقد تقدم في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. 15 - مر معنا أن مما يدخل في قوله تعالى ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ استحسان الهدايا والبدن واستسمانها، واستعظامها للذبح في الحج، ويدخل في ذلك استحسان الأضحية، واستسمانها، واستعظامها وفي ذلك قال ابن كثير: (وقال أبو أمامة عن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «دم عفراء أحب إلى الله من سوداوين» رواه أحمد وابن ماجه قالوا والعفراء: هي البيضاء بياضا ليس بناصع، فالبيضاء أفضل من غيرها، وغيرها تجزئ أيضا، لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوأين ......

وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء، رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي، ولهم عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن، قال سعيد بن المسيب: العضب: النصف فأكثر، وقال بعض أهل اللغة: إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء، فأما العضب: فهو كسر الأسفل، وعضب الأذن قطع بعضها، وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره، وقال أحمد: لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث. وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ وإلا أجزأ والله أعلم. وأما المقابلة: فهي التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة: من مؤخر أذنها، والشرقاء: هي التي قطعت أذنها طولا، قال الشافعي والأصمعي: وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقا مدورا. والله أعلم، وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقى» رواه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي وهذه العيوب تنقص اللحم؛ لضعفها، وعجزها عن استكمال الرعي، لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى، فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة، كما هو ظاهر الحديث، واختلف قول الشافعي في المريضة مرضا يسيرا على قولين، وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة، والمستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسيرة» فالمصفرة قيل: الهزيلة، وقيل المستأصلة الأذن، والمستأصلة: مكسورة القرن، والبخقاء: هي العوراء، والمشيعة: هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم، ولا تتبع لضعفها، والكسيرة: العرجاء، فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء. فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي، خلافا لأبي حنيفة، وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ضح به» ولهذا جاء في الحديث أمرنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، أي أن تكون الهدية والأضحية سمينة حسنة كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيبا، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: لا «انحرها إياها».

وعند قوله تعالى ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قال صاحب الظلال: (ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب، إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته، وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم- عليه السلام- وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة. فهي والدعاء والصلاة سواء. وهذه الأنعام التي تتخذ هديا ينحر في نهاية أيام الإحرام يجوز لصاحبها الانتفاع بها، إن كان في حاجة إليها يركبها، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها، حتى تبلغ محلها- أي مكان حلها- وهو البيت العتيق، ثم تنحر هناك ليأكل منها ويطعم البائس الفقير. وقد كان المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يغالون في الهدي، يختارونه سمينا غالي الثمن، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله، مدفوعين بتقوى الله روى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: أهدى عمر نجيبا فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: «لا. انحرها إياها». والناقة النجيب التي جاءت هدية لعمر- رضي الله عنه- وقومت بثلاثمائة دينار لم يكن عمر- رضي الله عنه- يريد أن يضن بقيمتها، بل كان يريد أن يبيعها فيشتري بها نوقا أو بقرا للذبح، فشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحي بالنجيب ذاتها لنفاستها، وعظم قيمتها، ولا يستبدل بها نوقا كثيرة، قد تعطي لحما أكثر، ولكنها من ناحية القيمة الشعورية أقل، والقيمة الشعورية مقصودة فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ وهذا هو المعنى الذي لحظه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعمر- رضي الله عنه- «انحرها إياها» هي بذاتها لا سواها!). 16 - وفي قوله تعالى لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ اتجاهان: الاتجاه الأول أن المنفعة فيها قبل أن تعين للإهداء، فإذا تعينت لم يبق لصاحبها حق الانتفاع. والاتجاه الثاني: أن لصاحبها أن ينتفع بها وإن كانت هديا إذا احتاج إلى ذلك، وقد رجحنا هذا القول في التفسير، وفي ذلك قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال «اركبها» قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة، وفي رواية عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها» وروى شعبة عن علي أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها،

فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها). 17 - وبمناسبة قوله تعالى وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل وبمناسبة الآية قال ابن كثير: (ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما). 18 - وبمناسبة قوله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ بذكر ابن كثير مسألة عن كم تجزئ البدنة بقرة كانت أو ناقة؟ قال: (ثم جمهور العلماء على أنه يجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة كما ثبت في الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضحى البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة، وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما والله أعلم. 19 - وبمناسبة قوله تعالى لَكُمْ فِيها خَيْرٌ من آية وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قال ابن كثير: (أي ثواب في الدار الآخرة. وعن سليمان ابن يزيد الكعبي ...... عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إهراق دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا). 20 - وبمناسبة قوله تعالى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قال ابن كثير: وعن المطلب بن عبد الله عن جابر بن عبد الله قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال «بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن من لم يضح من أمتي» وقال محمد بن إسحاق ... عن جابر قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته» ثم سمى الله وكبر وذبح. وعن علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضحى

اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول: «اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول «هذا عن محمد وآل محمد» فيعطيهما جميعا للمساكين ويأكل هو وأهله منهما). 21 - وبمناسبة قوله تعالى فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها بعد قوله تعالى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قال ابن كثير: (وقال العوفي عن ابن عباس فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها يعني نحرت، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها يعني: ماتت، وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد؛ فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها). 22 - وبمناسبة قوله تعالى فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قال ابن كثير: (قال بعض السلف: قوله فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة، وقال مالك: يستحب ذلك، وقال غيره: يجب وهو وجه لبعض الشافعية ... ) وقال ابن كثير: وقد احتج بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس «إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم» وفي رواية «فكلوا وادخروا وتصدقوا» وفي رواية «فكلوا وأطعموا وتصدقوا» والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، لقوله في الآية المتقدمة فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ولقوله في الحديث «فكلوا وأطعموا وتصدقوا» فإن أكل الكل فقيل لا يضمن شيئا، وبه قال ابن سريج من الشافعية، وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها، وقيل يضمن نصفها وقيل ثلثها، وقيل أدنى جزء منها وهو المشهور من مذهب الشافعية، وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي «فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها» ومن العلماء من رخص في بيعها، ومنهم من قال يقاسم الفقراء فيها والله أعلم. مسألة: عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شئ» فلهذا قال الشافعي وجماعة من

العلماء: إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين، زاد أحمد وأن يذبح الإمام بعد ذلك، لما جاء في صحيح مسلم «وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام» وقال أبو حنيفة: أما أهل السواد من القرى ونحوها فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام والله أعلم). 23 - وفي قوله تعالى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ قال ابن كثير: (يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها فإنه الخالق الرازق، لا يناله شئ من لحومها ولا دمائها، فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها فقال تعالى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي يتقبل ذلك، ويجزي عليه، كما جاء في الصحيح «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وجاء في الحديث «إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض» .... فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا والله أعلم. وقال وكيع عن يحيى بن مسلم بن الضحاك سألت عامرا الشعبي عن جلود الأضاحي فقال لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدق). 24 - لاحظنا مما مضى أن هناك ارتباطا بين الأضاحي والهدايا في الحج، وذلك لأن الموضوع واحد، والحكمة واحدة والسبب واحد واليوم واحد، ومن ثم يختم ابن كثير الكلام عن المجموعة السابقة بمسألة قال: مسألة: وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضا، واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات عن أبي هريرة مرفوعا «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» على أن فيه غرابة واستنكره أحمد بن حنبل وقال ابن عمر: أقام رسول

كلمة في السياق

الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي رواه الترمذي وقال الشافعي وأحمد: لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث «ليس في المال حق سوى الزكاة» وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم، وقال أبو شريحة: كنت جارا لأبي بكر وعمر فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما، وقال بعض الناس: الأضحية سنة كفاية إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت سقطت عن الباقين؛ لأن المقصود إظهار الشعار. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن مخنف بن سليم أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تدعونها الرجيبة» وقد تكلم في إسناده، وقال أبو أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس فصار كما ترى رواه الترمذي وصححه وابن ماجه. وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله، رواه البخاري، وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا إن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» ومن هنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزئ وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزئ من كل جنس وهما غريبان. والذي عليه الجمهور إنما يجزي الثني من الإبل والبقر والماعز، أو الجذع من الضأن. فأما الثني من الإبل: فهو الذي له خمس سنين، ودخل في السادسة، ومن البقر: ما له سنتان ودخل في الثالثة، وقيل: ما له ثلاث ودخل في الرابعة، ومن المعز: ما له سنتان، وأما الجذع من الضأن فقيل: ما له سنة، وقيل عشرة أشهر، وقيل ثمانية، وقيل ستة أشهر، وهو أقل ما قيل في سنه وما دونه فهو حمل، والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم والجذع شعر ظهره نائم، وقد انفرق صدغين، والله أعلم). كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة الحج هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وكانت مقدمة سورة البقرة قد عرفت المتقين بقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وقد جاءت هذه المجموعة لتحرر من قضايا تتنافى مع

المجموعة السادسة من المقطع الثاني

التقوى، ولتبين قضايا من التقوى ومن جملة ما قالت وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فتأمل الصلة بين هذه المعاني وبين تعريف التقوى في سورة البقرة، لترى كيف أن السورة ماضية في سياقها الخاص والعام على ما ذكرنا. وإذا تقرر في كل ما مر محل هذه المجموعة فلنتذكر ما ذكرناه من قبل من أن هذه المجموعة جسر بين ما قبلها وما بعدها من مجموعة نواح: جاءت هذه المجموعة قبل الإذن في القتال لترينا مبررات ذلك الإذن: صد الكافرين عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، تغيير معالم دين إبراهيم، تحقيق حكم الله في النسك والحج، كل ذلك يقتضي قتال قريش؛ ومن ثم يأتي الإذن بالقتال، ويكون الإذن في القتال في سياق تبيان أن الله ينصر عباده في الدنيا، وفي ذلك استكمال للرد على يأس اليائسين من النصر، ومطالبة لهم أن يرتقوا إلى الخصائص التي يستحقون بها النصر، فلنر إذن المجموعة السادسة. المجموعة السادسة من المقطع الثاني وتمتد من الآية (38) إلى نهاية الآية (41) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

بين يدي هذه الآيات

بين يدي هذه الآيات: في الربط بين هذه الآيات وبين ما ورد قبلها من كلام حول الشعائر والمناسك قال صاحب الظلال: (تلك الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة، وعلى قداسة المعابد وحرية الشعائر. وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة: ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين، بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله ووعدهم النصر والتمكين على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم.). ... وفي أجواء هذه الآيات قال صاحب الظلال: (ولا بد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة، وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة. إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون، واعتدى عليهم المبطلون، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه وظاهر حتما على عدوه، ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح والجهد والمشقة، والتضحية والآلام ... والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ولا تضحية ولا ألم ولا قتل ولا قتال؟ والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا، وأن لله الحجة البالغة .. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من «التنابلة» الكسالى، الذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء! نعم إنهم ينبغي

أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القرآن، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء. ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها، إنما هي الزاد الذي يزودونه للمعركة، والذخيرة التي يدخرونها للموقعة، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله. لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة ... عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها، ولتتساند الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة، ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال. والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كل قواها، وتوافر كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها، كي يتم نموها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها. والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين يعطل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .. وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه أولا: لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة، وثانيا: لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه. فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه، وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر ومن المشاعر المصاحبة لها .. من الأمل والألم ومن الفرح والغم، ومن الاطمئنان والقلق ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة .. ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة، وتدبير الأمور في جميع الحالات .. وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس. من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله، جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء، والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله؛ قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع

لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا. وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزا ولا غاليا، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله. وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عند ما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله. وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندا إلا الله، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عند ما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله، وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» رواه الشيخان. كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا، ويذهب وحده هالكا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار. وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه. من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.

التفسير

وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه.) التفسير: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه، وأنابوا إليه شر الأشرار، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ في أمانة كَفُورٍ لنعمة الله، أي لا يحب من عباده من اتصف بالخيانة في العهود والمواثيق والأمانات، ومن اتصف بالجحود للنعم، والآية قسمها الأخير تعليل لقسمها الأول والمعنى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا لأنه لا يحب أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم، ويكفرون نعم الله، ويغمطونها وهذه الآية مقدمة للإذن في القتال، فهي وعد من الله أن يدافع عن المؤمنين؛ فليقاتلوا وفي قوله: لا يحب كل خوان كفور تعليل للأمر بالقتال، وتطمين للمؤمنين في أن الله معهم، وفي الآية تحذير من الكفر والخيانة وصيغة يُدافِعُ تعني الغاية في الدفاع عنهم مما يجعل المسلم في أعلى درجات الاطمئنان وبعد هذه المقدمة يأتي الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي أذن لهم في القتال وحذف المأذون فيه لدلالة يُقاتَلُونَ عليه بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب كونهم مظلومين وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ أي على نصر المؤمنين لَقَدِيرٌ أي لقادر وهو بشارة للمؤمنين بالنصرة، قال ابن كثير فيها: أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته ...... وإنما شرع الله تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم أقل من العشر- بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفا وثمانين قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي- يعنون أهل منى ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر بهذا» فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شذر مذر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة وافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك فقال تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ

[سورة الحج (22): آية 40]

لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ قال العوفي عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق يعني محمدا وأصحابه إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب كما قال تعالى يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون: اللهم لولا أنت ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا … وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا … وإن أرادوا فتنة أبينا فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول معهم آخر كل قافية فإذا قالوا: إذا أرادوا فتنة أبينا، يقول: أبينا، يمد بها صوته). والمعنى: ما أخرجوهم من ديارهم إلا بسبب قولهم رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ قال ابن كثير: (أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف) وقال النسفي: أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعا، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات أي كنائس، ولا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا متعبدات الفريقين، وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجودا، أو لقربها من التهديم، والصوامع: هي المعابد المرتفعة الصغار للرهبان، والبيع: هي كنائس النصارى، والصلوات: هي كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا أى في المساجد أو في جميع ما تقدم اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً بدأ بذكر الصوامع وختم في المساجد وفي ذلك ترق من الأقل إلى الأكثر، إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عمارا وأكثر عبادا، وهم ذوو القصد الصحيح وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه وأولياءه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على نصر أوليائه عَزِيزٌ على الانتقام من أعدائه، وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شئ فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شئ

[سورة الحج (22): آية 41]

ذليل لديه، فقير إليه، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور، ثم وصف من يستحقون نصره وهم في الوقت نفسه الذين ينصرونه الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ هذه سمات الجماعة الربانية وعلامات دولتها وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجع الأمور إلى حكمه وتقديره، وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه، وإعلاء كلمته، وبهذا انتهت المجموعة السادسة من المقطع الثاني. كلمة في السياق: بهذه المجموعة استكمل السياق الرد على من ييأس من نصر الله، ولعله من المناسب أن نذكر بسياق المقطع كله: بدأ المقطع بتطهير النفوس من الريب في شأن اليوم الآخر، لأن الإيمان باليوم الآخر هو الطريق إلى التقوى، ثم عرض نموذجا من الناس يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثم عرض نموذجا آخر لمن يعبد الله على حرف، ثم عرض نموذجا آخر لمن ييأس من نصر الله؛ فيترك دين الله، وقد استغرق الرد التفصيلي ومعالجة النموذج الأخير معظم المقطع كما رأينا، فتم بالمجموعة السادسة تقرير كيف ينصر الله عباده في الدنيا والآخرة، ولعلك لاحظت كيف أن النصر الرباني له شروطه، وكيف أن لأهل النصر مواصفاتهم الخاصة، والسياق وإن صب في سياقه الرئيسي في موضوع معالجة ثلاثة أمراض رئيسية في قضية العبادة والتقوى، إلا أنه تحدث عن أشياء كثيرة أخرى لها علاقة بالتقوى والتحرر مما يعارضها أو يناقضها، ولم يبق عندنا إلا المجموعة الأخيرة من المقطع الثاني سنعرضها بعد الفوائد:. الفوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قال ابن كثير: (قال العوفي عن ابن عباس نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية، وقال ابن جرير .... عن ابن عباس قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، قال ابن عباس فأنزل الله عزّ وجل أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ

عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال ورواه الإمام أحمد .... وزاد قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال. رواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به وقال الترمذي حديث حسن وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس). 2 - وبمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم قال عثمان بن عفان: فينا نزلت الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، ثم مكنا في الأرض؛ فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) أقول: وهي لكل المسلمين في كل العصور إذا حققوا الشروط. 3 - حددت المجموعة التي مرت معنا من يستحقون نصر الله الخاص الذي ينزله الله على أوليائه، وهم الذين إذا كان لهم السلطان أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ومن ثم فإن على المسلمين أن يكونوا هذه الجماعة التي تحققت بهذه السمات، وهذا لا يكون إلا إذا وجد علم ووعي وعمل يومي وخصائص معينة. ***

المجموعة السابعة من المقطع الثاني

المجموعة السابعة من المقطع الثاني وتمتد من الآية (42) إلى نهاية الآية (48) وهذه هي: [سورة الحج (22): الآيات 42 الى 48] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) التفسير: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا عليه السلام وَعادٌ هودا عليه السلام وَثَمُودُ صالحا عليه السلام وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ إبراهيم عليه السلام وَقَوْمُ لُوطٍ لوطا عليه السلام وَأَصْحابُ مَدْيَنَ شعيبا عليه السلام وَكُذِّبَ مُوسى أي كذبه فرعون وملأه، ولم يقل وقوم موسى، لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه، أو كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وظهور معجزاته، وإذن فلست بأوحدي في التكذيب فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أنظرتهم وأمهلتهم وأخرت عقوبتهم

[سورة الحج (22): آية 45]

ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي عاقبتهم على كفرهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم، وتغييري بهم، حيث أبدلتهم بالنعم نقما، وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كم من قرية أهلكناها وَهِيَ ظالِمَةٌ أي والحال أنها ظالمة، أي أهلها مشركون مكذبون للرسل فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي فهي ساقطة على سقوفها، أي قد خربت منازلها حتى إن السقوف ساقطة، والجدران سقطت بعد على هذه السقوف لهلاك الجميع، قال النسفي: أي خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي متروكة لفقد دلوها ورشائها، وفقد تفقدها، أو هي عامرة فيها الماء، وعندها آلات الاستقاء، إلا أنها عطلت، أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي منيف، مرتفع منيع حصين مزخرف، والمعنى: كم من قرية أهلكناها، وكم من بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعا، فخلت القصور عن أربابها، والآبار عن ورادها، بسبب التكذيب والظلم فليحذر المكذبون. كلمة في السياق: ما الصلة بين هاتين الآيتين وما قبلهما؟ إن هاتين الآيتين تتحدثان عن نوع آخر من النصر الذي ينصر الله به رسله، وهو الأخذ المباشر من الله عزّ وجل، فإذا كان الله ينصر رسله وأولياءه في الآخرة، وإذا كان ينصرهم في الدنيا إذا قاتلوا، فإنه ينصرهم كذلك بأن يعذب أعداءهم بعذاب منه تعالى، وإذ يقرر الله عزّ وجل هذا النوع من النصر يلفت نظر الكافرين إليه:. ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ قال ابن كثير: أي بأبدانهم وبفكرهم أيضا وقال النسفي: هذا حث على السفر، ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعقلون ما يجب أن يعقل من أسباب ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال؛ فيعرفون أن سبب ذلك التكذيب والشرك أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها حقائق الوقائع فيعتبرون فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، فإنه وإن كانت القوة الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري

[سورة الحج (22): آية 47]

ما الخبر إذا كان القلب أعمى قال النسفي: (أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار ...... وذكر الصدور لبيان أن محل العلم القلب ولئلا يقال إن القلب يعني به غير هذا العضو) أقول: القلب الذي هو محل الإيمان في الصدر، وبينه وبين القلب الحسي صلة، وقد دلتنا الآية على وجوب التفكر والتدبر، ولكن الكافر بدلا من أن يفكر فيعتبر فيؤمن ويتابع، يكذب ويعلن عن تكذيبه بالاستهزاء في مظهر استعجال العذاب، وقد صور الله هذا بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تكذيبا به واستهزاء بك واستبعادا له وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: الذي وعده من إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. قال ابن كثير في الآية: (أي هو تعالى لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شئ وإن أجل وانظر وأملى، ولهذا قال بعد هذا وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا .... ثم أخذتهم بالعذاب وإلي المرجع فلا يفوتني شئ، وبهذا انتهت المجموعة السابعة وانتهى المقطع الثاني. كلمة في السياق: صلة هذه المجموعة الأخيرة بما قبلها واضحة من حيث إنها تحذر من عاقبة التكذيب الذي نهايته الهلاك في الدنيا، وفي إهلاك المكذبين نصر للرسل عليهم السلام، فلنتذكر الآن كيف سار المقطع:. عالج المقطع قضية الشك في اليوم الآخر وهي العقبة الأولى في طريق العبادة والتقوى، ثم عرض لصنف من الناس جاهل في الله، والجهل بالله من أعظم الصوارف عن التقوى لأهله وللناس، ثم عرض لصنف من الناس يعبد الله على حرف، فعالج شأنه إذ هذا الشأن من أعظم القواطع عن الاستمرار في الطريق الموصلة إلى التقوى، ثم عرض لموضوع اليأس من النصر، وهو موضوع خطير ينقطع بسببه الكثير عن السير إلى الله فعالجه معالجة طويلة، مبينا أن الله ينصر أهل الإيمان والتقوى ثلاثة أنواع من النصر: في الآخرة، وفي الدنيا إذا قاتلوا، وفي الدنيا بإهلاك أعدائهم، ولما كان علم الله محيطا، وقد علم جل جلاله أن موضوع القتال في الإسلام ستكثر عليه الحملات، فقد عرض النصر الذي هو أثر عن القتال بعد أن بين مبررات القتال من خلال الواقع العملي لقريش

الفوائد

زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفها، ومن خلال عرض قصة البيت الحرام، وظلم قريش فيه، وانحرافها، واعوجاجها عن منهج إبراهيم عليه السلام، وإذن فقد عالج الله في هذا المقطع الصوارف عن العبادة وعن التقوى، وهما موضوعا السورة اللذان ذكرهما محورها من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقبل الانتقال إلى المقطع الثالث فلنر فوائد المجموعة الأخيرة:. الفوائد: 1 - من القضايا التي ثار فيها جدل كبير بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة قضية الوعد والوعيد، وهي إحدى المسائل الخمس التي تعتبر علما على مذهب المعتزلة؛ فالمعتزلة يرون أنه لا يليق بجلال الله أن يخلف وعده أو وعيده ومن ثم فإن ما أوعد الله به العصاة واقع بهم لا محالة، وأهل السنة قالوا: إن الله لا يخلف الوعد أما الوعيد فإن كان للكافرين فإنه لا يخلفه، وأما في حق العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قد يوقعه وقد يعفو كرما، وابن كثير يذكر هذه المسألة ويقرر مذهب أهل السنة والجماعة فيها من خلال قصة دون التعريج على اختلافات الفرق، يذكر ذلك عند قوله تعالى وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ قال: قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاء عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو هل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، أما سمعت قول الشاعر: ليرهب ابن العم والجار سطوتي … ولا أنثني عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدته … لمخلف إيعادي ومنجز موعدي 2 - بمناسبة قوله تعالى وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يذكر ابن كثير ما يلي: قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام» ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به وقال الترمذي حسن صحيح، وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال: حدثني يعقوب ثنا ابن علية ثنا سعيد الحريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم قلت: وما مقدار نصف يوم؟ قال أو ما تقرأ القرآن، قلت بلى؟

قال: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمر بن عثمان حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد: وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال: من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن يسار عن ابن مهدي، وبه قال مجاهد وعكرمة ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية). 3 - وبمناسبة قوله تعالى وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. أقول: إن الناس في عصرنا أصبحت لديهم تصورات واسعة حول الكون وعمره، وحول الزمن كأثر من تطور مئات العلوم، ومن ثم تجدهم يتحدثون عن كوكب، أو عن نجم بأن يومه كذا، ويقصدون بيومه الزمن، الذي تستغرقه دورته حول نفسه، وتجدهم يتحدثون عن يوم من أيام نجم أو كوكب بالأيام أو بالشهور أو بالسنين بالنسبة ليوم الكرة الأرضية، فعند ما نجد في القرآن مثل هذا النص الذي يقول وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ندرك مباشرة أن مثل هذا النص ما كان ليوجد في كتاب قبل أربعة عشر قرنا، وفي جزيرة العرب لولا أنه من عند الله المحيط علما بكل شئ والخالق لكل شئ والمنزل هذا القرآن بعلمه قال تعالى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ومن ثم فإنك تجد فيه آثار علم الله المحيط فالحمد لله على نعمة القرآن والإسلام. ولننتقل إلى المقطع الثالث وهو يتكون من أربع مجموعات. ***

المقطع الثالث

المقطع الثالث ويمتد من الآية (49) إلى نهاية الآية (72) وهذا هو: [سورة الحج (22): الآيات 49 الى 72] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثالث قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: واضح النذارة فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي لما سلف من سيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي سعوا في إبطال معناها بالفساد، طاعنين فيها حيث سموها سحرا وشعرا وأساطير السابقين في زعمهم، وتقديرهم؛ طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم، ظانين أنهم يعجزون ربهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي النار، والجحيم هي النار الحارة، الموجعة الشديدة عذابها، ونكالها أجارنا الله منها. كلمة في السياق: الصلة بين هذه الآيات الثلاث وما قبلها واضحة لأن ما قبلها ذكر فيه استعجال الذين كفروا للعذاب، فجاءت هذه الآيات آمرة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شئ، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب وإن شاء أخره لكم، ومضمون نذارتي أن من آمن وعمل صالحا فله المغفرة والجنة، ومن عاند وجحد وسعى في محاربة الإسلام فله النار. وأما الصلة بين هذه الآيات والمحور، فمن حيث إنها تنذر من لم يعبد ويتق ولم يستجب، وتبشر من عبد واتقى واستجاب. ولنتابع التفسير: بين أيدينا الآن مجموعة آيات هي من أكثر الآيات التي دارت حولها معارك بين المفسرين، ونحن سنعرضها كما سنفهمها، ثم نتحدث في الفوائد عن قضية الخلاف حولها. ***

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثالث وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أمنية لها علاقة في هداية أمته أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي في محل أمنيته وهي أتباعه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يذهب به ويبطله من قلوب المخلصين ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي في قلوب الأتباع المخلصين، فيثبتها ويحفظها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يلقي الشيطان وبغيره حَكِيمٌ في وضع كل شئ في محله، وهو يثبت ما يثبت في القلوب، وينسخ ما ينسخ منها على مقتضى حكمته لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً أي محنة وابتلاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ بسبب من أعمالهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي المنافقين والمشركين والفاسقين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي لفي خلاف بعيد عن الحق والصواب وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالله وبدينه وبالآيات أَنَّهُ الْحَقُّ أي أن القرآن حق مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي فتطمئن وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في كل شئ قال النسفي فيها: فيتأولون ما يتشابه في الدين، بالتأويلات الصحيحة، ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْهُ أي من القرآن أو الصراط المستقيم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ عن أن يكون للكافرين فيه فرج وراحة يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا، أو شديد لا رحمة فيه، أو لا مثل له في عظم أمره الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة أو يوم يؤمنون، أو يوم تزول مريتهم لِلَّهِ لا منازع له فيه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي يقضي بينهم ثم بين ما سيحكم به فقال فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي كفرت قلوبهم بالحق وحجته وكذبوا به، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي مذل في مقابلة استكبارهم وإبائهم عن الحق. كلمة في السياق: بعد أن أمر الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في المجموعة الأولى أن يعلن للناس أنه نذير مبين، بين في هذه المجموعة سنة من سننه، أن هناك رغبة موجودة عند كل نبي ورسول، فكل نبي ورسول يتمنى أماني ضخمة في هداية أمته، والارتقاء بها إلى الله،

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثالث

ولكن الشيطان يلقي في قلب كل فرد من أفراد الأمة إلقاءه، وفي هذا المقام فإن لله سنة هي: أن إلقاء الشيطان يؤثر في مرضى القلوب، وفي أصحاب القلوب القاسية، ولكن إلقاء الشيطان لا يترتب عليه شئ في صدور الذين أوتوا العلم، بل يتأكد عندهم بذلك أن وحي الله حق فيزدادون إيمانا وخشوعا تحقيقا لوعد الله عزّ وجل، أن يهدي أهل الإيمان. هذا الذي قررناه هنا هو فهمنا لموضوع إحكام الله آياته، ونسخ ما يلقي الشيطان في الآيات التي مرت معنا فالله عزّ وجل في محكم آياته وعد أن لا يجعل للشيطان على عباده المخلصين سلطانا، أما غيرهم فللشيطان عليهم سلطان، ومن ثم ينسخ إلقاء الشيطان في قلوب أوليائه، ويحكم آياته بذلك، أي يثبتها عملا بعد أن أثبتها في كتابه، ثم قرر أن أهل الكفر لا يزالون في شك من القرآن، فما علاقة هذه المعاني في السياق؟ إن هذه المعاني تبين للنذير سنة الله عزّ وجل في أمر الناس، لكي لا يفاجأ إذا تعثرت الأماني، أو تعذرت، ثم الصلة بين هذه المعاني ومحور السورة واضح، فإن الدعوة عامة، ولكن السائرين قليلون، والمستجيبين قليلون، والسير على طريق العبادة والتقوى يحول دونه قسوة القلب ومرضه، والظلم والكفر والجهل، ولنا عودة في الفوائد فلنمض في التفسير: بعد أن ذكر الله عزّ وجل في نهاية المجموعة السابقة ما سيحكم به لأهل الإيمان، وما سيحكم به على أهل الكفر، خص قوما بالذكر لفضيلتهم، هم المهاجرون، وبذلك بدأت المجموعة الثالثة من هذا المقطع: تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثالث وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابتغاء مرضاته وطلبا لما عنده فتركوا الأوطان والأهلين، والخلان، وفارقوا البلاد في الله ورسوله، ونصرة الإسلام ثُمَّ قُتِلُوا أي في الجهاد أَوْ ماتُوا أي حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، ومن ثم قال لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قال النسفي: لأنه المخترع للخلق بلا مثال، المتكفل للرزق بلا ملال لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا هو الجنة يَرْضَوْنَهُ لأن فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بأحوال من قضى نحبه مجاهدا، وآمال من مات وهو ينتظر أن يقتل في سبيل الله حَلِيمٌ أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم، بهجرتهم إليه، وتوكلهم عليه، أو حليم بإمهال من قاتل أولياءه معاندا.

[سورة الحج (22): آية 60]

وبعد أن ذكر الله عزّ وجل سنة من سننه فيما مضى يذكر هاهنا سنة أخرى من سننه فيقول: ذلِكَ أي الأمر ذلك وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي رد على الإساءة بمثلها ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي ثم ظلم بعد ذلك لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم، ثم ظلم بعد ذلك، فحق على الله أن ينصره إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ يمحو آثار الذنوب غَفُورٌ لمن اجتهد فأخطأ، أو أذنب فتاب. كلمة في السياق: ما محل ذكر هذه السنة في السياق؟ وردت هذه السنة بعد ذكر الهجرة والقتال؛ مما يشير إلى أن حق المهاجرين في الانتقام قائم، وأنهم إذا انتقموا ثم اعتدي عليهم فإن الله ناصرهم، وذكر هذه الآية في هذا السياق يشير إلى أنه لا يتنافى مع التقوى أن يعاقب الإنسان بمثل ما عوقب به، كما لا يتنافى مع التقوى أن يرد إذا اعتدي عليه مرة ثانية، وختم الآية بذكر العفو والمغفرة إشارة إلى التجاوز عن المعاقب، إذا صحت نيته بالعدل ولو زاد، أو إشارة إلى قدرته على العقوبة، إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده، والآن تأتي آيتان لتعليل سنة الله هذه، مما يشير إلى أهمية هذه السنة. ذلِكَ أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء ومن آيات قدرته بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يزيد هذا في ذلك، ومن ذلك في هذا وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بأقوال عباده بَصِيرٌ بهم لا يخفى عليه منهم خافية، في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم، فلأن الله يولج الليل في النهار، ويولج النهار بالليل، ولأنه سميع بصير، فإنه ينصر من بغي عليه، إذا إنه إذا لم يفعل ذلك هو فمن يفعله؟؟ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ومن ثم فإنه ينصر الحق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام والأنداد والأوثان وكل ما عبد من دونه هُوَ الْباطِلُ ومن ثم فإنه ينصر أولياءه، لأنهم يدعونه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ فلا أعلى منه شأنا الْكَبِيرُ فلا أكبر منه سلطانا، ولعلوه وعظمته فإنه ينصر المظلومين، فمن أجدر منه بذلك؟ وهكذا عرض الله علينا سنتين في المجموعتين الأخيرتين، عرض علينا في المجموعة الأخيرة سنة من سننه في النصر، وعرض في المجموعة قبلها سنة من سننه في الهداية والإضلال، وفي ذكر هاتين السنتين بعد الأمر بالإنذار الذي ورد في المجموعة الأولى تعليم للنذير؛ ليعرف ما يمكن أن يلاقيه في السير، فما لم يعرف الداعية سنة الله

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثالث

عزّ وجل فإنه يفاجأ، أو لا يحسن التصرف، أو لا يعرف كيف يتخذ موقفا، وإذا اتخذ موقفا فقد لا يعرف عاقبته، إنه بعد معرفة السنة الأولى لم يعد النذير يفاجأ إذا رأى خللا في تصرفات بعض الأتباع، وبعد معرفة السنة الثانية أصبح النذير أكثر إقداما على العقوبة العادلة، والكلام عن العقوبة في السورة التي تأذن في القتال مفهوم الصلة. إن سورة الحج تفصل في قضية العبادة والتقوى لأنها تفصل محورها من سورة البقرة وهو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وإذا كانت السورة تفصل هذا المقام فإن هذا المقطع يختص بتوجيه الداعية إلى عبادة الله وتقواه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم نلاحظ أن المقطع بدأ بكلمة قُلْ وسيأتي معنا فيه أَلَمْ تَرَ ...... أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ والخطاب- وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل مباشر- فهو خطاب لوراثه خاصة وخطاب لأمته عامة، ولنمض في التفسير ملاحظين أن المقطع بدأ بقوله تعالى: قُلْ والآن يأتي قوله تعالى أَلَمْ تَرَ. تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثالث أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب السَّماءِ أي مطرا فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات بعد ما كانت مسودة يابسة إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي واصل فضله إلى كل شئ خَبِيرٌ أي بمصالح الخلق ومنافعهم وذكر الله اللطيف في هذا السياق يفيد أنه المختص بدقيق التدبير، وذكر اسم الخبير في هذا السياق يفيد أنه المحيط بكل قليل وكثير لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي جميع الأشياء ملكه، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه، ومن ثم قال وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ أي المستغني عن كل شيء، وغيره فقير إليه الْحَمِيدُ أي المحمود أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من معادن وتراب وهواء وعناصر ومركبات وأحياء وجمادات ونباتات وَالْفُلْكَ أي السفن تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي وسخر لكم الفلك تجري في البحر بتسخيره وتيسيره وَيُمْسِكُ السَّماءَ أي كل ما دون الأرض مما هو فوقها أَنْ تَقَعَ أي من أن تقع عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بأمره ومشيئته، كما يأذن مثلا لبعض النيازك أن تصل إلى قشرة الأرض إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ بتسخير ما في الأرض رَحِيمٌ بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض. قال النسفي: عدد آلاءه مقرونة بأسمائه؛ ليشكروه على آلائه، ويذكروه بأسمائه

[سورة الحج (22): آية 66]

وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ أي بعد أن كنتم ترابا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ لإيصال جزائكم إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي جحود قال النسفي في معناها: (إن الإنسان لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود، ولا الإفناء المقرب إلى الموعود، ولا الإحياء الموصل إلى المقصود) كلمة في السياق: عرفنا الله عزّ وجل في هذه الآيات على عدد من آلائه وأسمائه، وكأن هذا التعريف في هذا السياق فيه تعليل للأمر بالإنذار، فإن مقتضى كون الله منعما أن يكلف عباده بواسطة رسوله، وأن يحذرهم عاقبة ترك التكليف، وأن يبشرهم بما لهم إن قاموا بحقه، والآيات عرفت على الله بما يستخرج العبادة والتقوى، إذ العبادة والتقوى أثر المعرفة لله وعرفت على الله بما يستجيش الشكر، والعبادة والتقوى بهما يكون الشكر. يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولنتابع تفسير المجموعة الرابعة. لِكُلِّ أُمَّةٍ أي لكل أهل دين، أي لكل أمة نبي جَعَلْنا مَنْسَكاً أي موضعا يحجون إليه ويذبحون عنده هُمْ ناسِكُوهُ أي هم معتادون على فعله، إذ أصل المنسك في كلام العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه، إما لخير أو شر، ولهذا سميت مناسك الحج بذلك؛ لترداد الناس وعكوفهم إليها فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي أمر الذبائح، أو الدين أي فلا يجادلنك، والمعنى: فلا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في هذا الموضوع وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى دينه وشريعته، وعبادته وتقواه إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي طريق قويم وَإِنْ جادَلُوكَ مراء وتعنتا كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك ألا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول: إن الله أعلم بأعمالكم كلها، ما تخفونه وما تظهرونه، وما تريدون بها وما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا رد ووعيد وإنذار وتأديب يجاب به كل متعنت اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين، ثم ختم الله عزّ وجل هذه المجموعة بقوله أَلَمْ

نقل

تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي يعلم الموجود فيهما إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ أي في اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي علمه بجميع ذلك يسير. نقل: بمناسبة قوله تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ .... ننقل ما ذكره الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابة (الأركان الأربعة) عن بقايا ما هو موجود عند الأمم الأخرى من المناسك، قال: «الحج والزيارة» في الديانات القديمة، سماتهما وفوارقهما: لم تعرف أمة ولا ديانة من أمم البشر ودياناتهم، إلا وعندها أمكنة مقدسة تشد إليها الرحال، وتحث فيها المطي، ولها طرق وعادات وتقاليد، وآداب لهذا السفر الديني «والزيارة المقدسة» وذلك لأن هذا العمل إجابة لحاكم الطبيعة، وتلبية لنداء الضمير، فالإنسان كما قلنا لم يزل باحثا عن شئ يراه بعينه، ويوجه إليه أشواقه، ويقضي به حنينه، ويشبع به رغبته الملحة في التعظيم والدنو، ولم يزل باحثا كذلك عن عمل طويل شاق يكفر به عن ذنوبه الجسام، وسقطاته الفاضحة، ليتغلب به على وخز الضمير، وتأنيب الحس الديني ولائمة المجتمع، ولم يزل في حاجة إلى مشهد ديني عظيم، يلتقي فيه على الأخوة الدينية، والعاطفة الروحية، لذلك لم تخل أمة من الأمم، ولا دور من أدوار المدنية من أسفار دينية، ومناسك مشهورة، ومشاهد مقدسة يجتمع فيها الناس، ويذبحون الذبائح، ويقربون القرابين لله تعالى، أو لآلهتهم ومعبوداتهم، وقد قال الله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (الحج: 34) وقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (الحج: 67) وقد كشفت الآثار وعملية الحفر عن هذه المناسك والمشاهد في المدنيات البائدة، والمدن المطمورة، وتحدث التاريخ عن وجودها، وعن بعض أخبارها، ولكن الاهتداء إلى حقيقتها وتاريخها، والأحكام والآداب التي تتعلق بها صعب جدا، فقد لا يرجع الباحث في ذلك، إلا بقياسات وأخبار متقطعة مبتورة، لا يستطيع أن يكون بها فكرة كاملة، أو صورة واضحة:

والديانة اليهودية، ثم المسيحية من أقرب الديانات إلينا، وقد عاشتا زمنا طويلا في عصر التاريخ والعلم، وعني بهما المؤرخون والمؤلفون ولا تزالان ديانتي أمتين كبيرتين نشيطتين في الثقافة والتأليف والسياسة، والبيت المقدس وما حوله من آثار ومشاهد ملتقى هاتين الديانتين، ومركزهما الروحي الأصيل، والحج إليه قديم وأصيل عندهما، ولكن لا يزال هذا الركن الديني الكبير يكتنفه الشئ الكثير من الغموض والاضطراب، وقلة المعلومات، (إذا قارنا ذلك بالحج الإسلامي، الذي تشغل مناسكه وأحكامه وتفاصيله مكتبة واسعة هائلة، وهو مدون تدوينا لا يجد فيه الباحث عناء). وهذه خلاصة ما جاء في «دائرة المعارف اليهودية» المجلد العاشر (¬1): «إن الحج إلى بيت المقدس الذي كان يدعى بالزيارة (RE YIAH) يؤدى في زمن ثلاثة أعياد (وهي عيد الحصاد (¬2) وعيد الفصح (اليهودي) وعيد المظال، وكان الحج فريضة على جميع اليهود، باستثناء الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، والإناث، والعميان، والعرج، والضعفاء المصابين بأمراض بدنية أو عقلية، وكانت الشريعة الموسوية توجب على كل حاج أو زائر) أن يأخذ معه (تقدمة للرب)، ولكنها لم تعين المقدار، وكان رغم إعفاء الإناث والصغار عن الزيارة، كان يؤمه عدد كبير منهم من الأزواج والآباء كما هو الشأن في الأسواق العامة، ولا تخلو الروايات التي وردت عن عدد الزائرين في أزمنة مختلفة من المبالغة (¬3)، وكانت الخرفان تذبح في عدد كبير، وكانت جلود الذبائح تقدم إلى حراس الخانات الذين كانوا يقومون بخدمة الزوار وإيوائهم من غير مقابل. ولم تنقطع عبادة الحج بعد تدمير (المعبد) أيضا، ولما فتح المسلمون بيت المقدس بقيادة صلاح الدين عام 1187 م، تسنى لليهود القاطنين في المنطقة الشرقية أن يزوروا بيت المقدس، وما عداه من الأمكنة المقدسة (بين دمشق، وبابل، ومصر) وقد اعتاد ¬

_ (¬1) جيوش انسائكلوبيديا (Jewish Encyclopaedia -Vol -See Pilgrimage) (¬2) جاء في دائرة المعارف اليهودية تحت عنوان عيد الحصاد، وهو من أعياد الحج الثلاثة التي كان جميع الذكور مكلفين فيه بالحضور في بيت المقدس، اقرأ عنوان. (Pentecos) : (¬3) منها، ما قيل أنه بلغ عدد الخرفان المذبوحة، في عام بين 63 - 66 م إلى 500 ر 256، فإذا فرض أن خروفا كان يساهم فيه عشرة رجال من الحجاج يبلغ عددهم إلى أكثر من مليونين ونصف حاج، أو زائر، ويذكر مصدر يهودي أنه بلغ عدد الخراف إلى 120000 خروفا، وقد اعترف كاتب المقال في (دائرة المعارف) بأنه لا يخلو من المبالغة.

اليهود في الشرق، ولا سيما في بابل وكردستان من القرن الرابع عشر الميلادي، أن يؤدوا فريضة الحج مرة في السنة، على أقل تقدير، وكان عدد منهم يقوم بهذا الحج مشيا على الأقدام، وقد كانت الحروب الصليبية مشجعة لليهود في أوروبا على الحج والزيارة، وفي عام 1492 م عند ما أجلي اليهود من أسبانيا، وهاجر عدد كبير منهم إلى مناطق المسلمين، تضاعف عدد اليهود الزوار، وربما كانوا يجتمعون على قبر النبي صموئيل في قرية الرامة (¬1)، حيث كانت تقوم أسواق عيدهم السنوي، وتقام التقاليد الدينية. يعاتب اليهود إخوانهم القاطنين في بلدان أخرى، الذين ضعفت فيهم رغبة الحج والزيارة، وزهدوا فيهما، بينما ينتهز المسيحيون الفرص لزيارة الأرض المقدسة. وللحج أيام معينة يسميها اليهود في الشرق وشمالي إفريقيا أيام الزيارة، وقد شاع فيهم أن يزوروا فيها قبور عظمائهم، ومنهم من اشتهر كملك، أو كنبي، أو كصالح وولي، وهم يحتفلون بهذه الأيام بالإكثار من الأدعية وإظهار الفرح والسرور، شأنهم في الأعياد العامة، ويجتمعون بين مساء اليوم السابع عشر من تموز إلى اليوم التاسع من (آب) ثلاثة وعشرين يوما متوالية، مقابل الجدار الغربي لهيكل (سليمان)، وتبتدئ هذه العبادة في اليوم التاسع من آب، من نصف الليل. وهنالك مشاهد وضرائح وأمكنة محلية، يشد إليها الرحال في كل قطر وبلد (¬2)). أما الحج والزيارة عند المسيحيين، فهذه خلاصة لما جاء في (دائرة الأديان والأخلاق). (الحج: اسم للرحلة التي يقوم بها الإنسان لزيارة المشاهد المقدسة، مثل مشاهد الحياة الدنيوية لسيدنا عيسى عليه السلام في فلسطين، أو مراكز زعماء الدين المقدسة في (روما)، أو الأمكنة المقدسة التي تنسب إلى المقبولين من الزهاد والشهداء. إن الجيل المسيحي الأول لم يشعر بضرورة زيارة مشاهد المسيح والتبرك بها، بالنسبة إلى المتأخرين الذين عنوا بذلك أكثر، ولكن انتشرت هذه الزيارة من القرن الثالث المسيحي، وقد شغف عدد كبير من المسيحيين بالبحث عن مشاهد المسيح وآثاره، ¬

_ (¬1) قرية في فلسطين (الجليل). (¬2) راجع دائرة المعارف اليهودية. عنوان. «Pilgrimage» الأساس فى التفسير، ج 7، ص: 3589 وزيارتها، وعنوا بذلك أكثر مما عنوا بتتبع تعاليمه ووصاياه. وقد شاعت زيارة مشاهد روما من القرن الثالث عشر على حساب زيارة الأرض المقدسة، وإن لم تنقطع زيارة الأرض المقدسة بتاتا، وكانت (روما) المدينة التي تلي بيت المقدس في الأهمية، يؤمها الناس للزيارة في عدد كبير وجم غفير. إن الأسباب التي بلغت بها البابوية قمتها، جعلت روما مركزا للزيارة، ولا سيما، وأن ضريحي القديس بطرس، والقديس بولس قد أضفيا عليها من العظمة والجلال ما جعلها مثابة للمسيحيين الكاثوليك في العالم كله، وازدحموا فيها ازدحاما كبيرا، وقد كان إقبال الزوار عظيما على سراديب الأموات «1» (Cata combs) التي تقدس لأجل عظام الشهداء، إن الزوار لم يتوقفوا عن زيارة (روما) في أي فترة من فترات التاريخ، وقد جعلتها كثرة الكنائس والآثار التاريخية المقدسة محط أنظار الناس في كل زمان. والقارئ يتخم بكثرة أسماء القبور والضرائح والمشاهد العامة في أرض فلسطين، والمحلية المنتشرة في كل قطر أو ولاية، أو بلد يقطنه اليهود والمسيحيون من زمن بعيد، وصاحب مقال (الحج والزيارة) في (دائرة المعارف اليهودية) وفي (دائرة الديانات والأخلاق) يسرد أسماء ضرائح ومشاهد للصالحين والمقبولين في أقطار أوروبية وآسيوية مختلفة، ويذكر الأيام والشهور التي تزار فيها، وما لهذه الزيارات من آداب وتقاليد، وإذا تأمل القارئ في مدى اهتمام اليهود والمسيحيين بهذه المشاهد، وتقديسهم لها، وتجشم الأسفار والمتاعب في سبيلها، وكيف شغلتهم واستحوذت على مشاعرهم في كل زمان ومكان، وكيف أثارت فيهم الغلو في

الذين قد يبلغ عددهم- خصوصا في الأعياد والأسواق التي تقام بعد مجموعة من السنين- إلى ملايين من النفوس، رغم حرص الحكومة على إقامة النظام وقوانين الصحة، والوقاية من الأمراض، وتقترن بتقاليد جاهلية، وأعمال شركية، وأساطير الآلهة والإلهات القديمة، ومن إعجاز القرآن، أنه لما ذكر حج البيت الذي بناه إبراهيم وحث عليه، نعى على الشرك والوثنية والزور الذي تلوثت به المناسك، وأعمال الحج والزيارة في الديانات والأمم الأخرى، فقال: ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ* وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ (الحج: 30، 31). هذه صورة مجملة لأساليب الحج والزيارة، والرحلة الدينية في ديانات العالم الرئيسية، التي لا يزال لها أتباع ومؤمنون يعدون بالملايين، وملايين الملايين، وقد كان شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي رحمة الله عليه، عميق النظر، واسع الاطلاع، غير مجانب للصواب والإنصاف، إذ قال في كتابه (حجة الله البالغة) وهو يتكلم في موضوع الحج: (وأصل الحج موجود في كل أمة، لا بد لهم من موضع يتبركون به، لما رأوا من ظهور آيات الله فيه، ومن قرابين وهيآت مأثورة عن أسلافهم يلتزمونها، لأنها تذكر المقربين وما كانوا فيه. وأحق ما يحج إليه بيت الله، وفيه آيات بينات، بناه إبراهيم صلوات الله عليه، المشهود له بالخير على ألسنة أكثر الأمم، بأمر الله ووحيه بعد أن كانت الأرض قفرا وعرا، إذ ليس غيره محجوج إلا وفيه إشراك أو اختراع ما لا أصل له). ويستطيع القارئ في سهولة أن يقارن بينها وبين الحج الإسلامي، ويعرف مفارقات بينها وبين هذا الركن الرابع، ويقرأ قوله تعالى، ويحدث بنعمة ربه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ، فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (الحج: 67) اه كلام الندوي. أقول: إن وجود الحج عند كل الأمم، كبقية باقية من هدي الأنبياء السابقين، يظهر لنا أن في قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً معجزة من معجزات هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

نقل

نقل: عند قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ قال صاحب الظلال: (وهو الذي خلق الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له، وحكم فيه تلك النواميس التي تظل بها النجوم والكواكب مرفوعة متباعدة، لا تسقط ولا يصدم بعضها بعضا. وكل تفسير فلكي للنظام الكوني ما يزيد على أنه محاولة لتفسير الناموس المعظم للوضع القائم الذي أنشأه خالق هذا النظام. وإن كان بعضهم ينسى هذه الحقيقة الواضحة، فيخيل إليه أنه حين يفسر النظام الكوني ينفي يد القدرة عن هذا الكون ويستبعد آثارها، وهذا وهم عجيب وانحراف في التفكير غريب فإن الاهتداء إلى تفسير القانون- على فرض صحته- والنظريات الفلكية ليست سوى فروض مدروسة لتفسير الظواهر الكونية تصح أو لا تصح، وتثبت اليوم وتبطل غدا بفرض جديد- لا ينفي وجود واضع القانون وأثره في إعمال هذا القانون والله سبحانه يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ بفعل ذلك الناموس الذي يعمل فيها وهو من صنعه إِلَّا بِإِذْنِهِ وذلك يوم يعطل الناموس الذي يعمل بحكمة ويعطله كذلك لحكمة). كلمة في السياق: لإدراك محل الآيات الأخيرة في السياق فلنتذكر ما يلي: في عصرنا نجد كثيرا من المتحذلقين أو الجاهلين عند ما يحجون فيرون أن كثيرا مما يذبح من الهدي أثناء تأدية مناسك الحج يذهب هدرا يبدءون يقترحون الاقتراحات، أو يتساءلون عما إذا كان الأحسن عدم الذبح، أو يدعون إلى ترك الذبح، وقد يعللون ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما سن الذبح لم يكن الوضع على ما هو عليه الآن، وقد ينظر بعضهم إلى الأمر نظرة اقتصادية- في زعمه- فلا يرى الذبح، فعند ما تأتي هذه الآيات مقررة أن الذبح شريعة الله المستمرة في كل العصور، وأن الذين يجادلون في ذلك ينبغي ألا يلتفت إليهم، وأن هذا صراط الله، وأن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنه سجل ذلك كله في كتاب، مما يدل على إحاطة علمه بكل شئ، حتى قبل وجوده، إن الله الذي يعلم هذا هو الذي شرع هذا، فليس الأمر كما يزعمون. إن ما يربي التقوى أغلى في ميزان الله من كل ماديات الدنيا، فمن نظر إلى المسألة بغير هذا المنظار، فهو منكوس القلب. إذا اتضح هذا فلنلاحظ: إن الكلام عن المناسك جاء بعد التذكير بالنعم،

[سورة الحج (22): آية 71]

فكأن هذا يشير إلى أن الذبح هو جزء مما ينبغي أن يفعله العباد ليشكروا نعمة الله، وإذا كان هذا سينازع فيه فقد ذكر الله عزّ وجل في هذا المقام ما يقطع النزاع، وذكره في سياق المقطع الذي يري فيه الداعية أن موضوع الذبح الذي مكانه في شريعة الله عظيم ومكانه في العبادة والتقوى عظيم يحتاج إلى عودة إليه، ومن ثم عاد السياق إليه بعد ما ذكر في المقطع السابق، هناك ذكرت مكانة الذبح في قضية التقوى، وهاهنا يذكر الله عزّ وجل عنه أنه شريعته المستمرة، وكيف ينبغي أن يكون الموقف ممن ينازع فيه بشكل مباشر، فالآيات الأخيرة إذن وضعت الأمر في نصابه في قضية سينازع فيها، وهي مرتبطة في العبادة والتقوى. ولنتابع تفسير المجموعة الرابعة: فمع كل الآيات، ومع كل النعم، ومع كل الحجج، فإن الكافرين يصرون على كفرهم وشركهم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وبرهانا وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ بل هم يعبدونها بمحض الجهل، إنهم لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي، ولا حملهم عليها دليل عقلي، وهذا غاية الظلم أن يعبدوا غير الله بلا دليل من العقل ولا من النقل، ومن ثم توعدهم بقوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن بَيِّناتٍ أي واضحات، وفيها الحجج والدلائل على توحيد الله ووجوب عبادته وتقواه تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار بالعبوس والكراهة يَكادُونَ يَسْطُونَ أي يبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك دأب الكافرين مع الدعاة في كل زمان ومكان قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم النَّارُ كأن قائلا قال: ما هو؟ فجاء الجواب: هو النار وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي وعد الله النار أن يعطيها الكافرين وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس النار مقيلا ومنزلا ومرحبا وموئلا ومقاما، وبهذا انتهى المقطع. كلمة في السياق: لاحظ أن بداية المقطع هي قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ وأن نهايته هي قوله تعالى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ

كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وما بين القولين كان المقطع: الذي فيه إنذار وتبشير، والذي فيه عرض لسنن، وإقامة حجة على شرائع، وإنكار على شرك، وكلها معان تخدم قضية العبادة والتقوى، والآيات الأخيرة حذرت من الشرك ودلت على خلق من أخلاق أهله إذا أنذروا، وفي ذلك تحذير للمسلمين العابدين المتقين أن يكون موقفهم ممن يذكرهم يشبه مثل هذا الموقف، إن المقطع فيه الإنذار الذي يبعث على التقوى، وفيه التبشير الذي يهيج على التقوى وفيه التعريف على الله، وهو تعريف يستجيش العواطف نحو عبادته تعالى، وفيه التذكير بنعم الله، وهو تذكير يستجيش مشاعر التقوى، وفيه التعريف على أخلاق للكافرين، ومواقف لهم تتعارض مع العبادة والتقوى، وفيه تربية للداعية وتوجيه له وتعليم، والملاحظ أن الآية قبل الأخيرة هي: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ...... ولذلك صلته بمحور السورة الذي هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لقد بين الله عزّ وجل في هذا المقطع ما يلزم لإقامة العبادة والتقوى، ولكن مع هذا كله يوجد من يعبد غيره بلا دليل من العقل، ولا من النقل، ومع أنهم كذلك فإنهم يكادون يسطون بالذين يدعونهم إلى ما يقوم عليه دليل العقل والنقل. وفي المقطع شئ آخر له علاقة في السياق: عند ما قال الله في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أتبع ذلك بتعريفنا عليه فقال الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي هذا المقطع ذكرنا الله بكل هذه الحقائق الواردة هناك: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ. مما يدل على أن ذكر الآيات هنا يخدم سياق الأمر بالعبادة والتقوى، كما أن تلك الآيات تخدم ذلك، ومما يدل على أن هذا المقطع يصب على الشئ نفسه الذي تصب عليه السورة كلها (التقوى). وقد آن الأوان لنذكر بأخطر قضية نواجهها في عصرنا قضية منع الناس من الحج من قبل الحكومات الظالمة، فلقد رأينا في هذا المقطع أنه بعد الآيات التي لفتت النظر إلى نعم الله جاء قوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ....... وهذا أفاد ما أفاد مما

الفوائد

ذكرناه من قبل، والآن نقول: إن أخطر ما يحاول الكافرون في عصرنا القضاء عليه هو الحج، وقد ذكرنا أدلة ذلك في مقدمة كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) لأن الحج هو الذي يثير كل مشاعر الوحدة عند المسلمين، ويزيل كل مشاعر الفرقة بينهم، وقد درجت حكومات في العالم الإسلامي وفي غيره أن تمنع المسلمين من الحج بكل وسيلة، وبكل حجة، ومنها الحجج الاقتصادية الباردة، فتجد هذه الحكومات الفاجرة تنفق قطعها النادر على التجسس على شعوبها، أو تبذره في كل طريق كافر، ومع ذلك تمنع المسلم إذا أراد أن يحج بحجة أنه سينفق مالا خارج قطره، وكأنه ينفق في أرض غريبة، وهذا يدخل في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ ........ وقد آن الأوان أن ننقل ما نريد نقله من فوائد لها صلة بهذا المقطع: الفوائد: 1 - عند قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يذكر المفسرون قصة الغرانيق، ثم يحاولون تعليلها أو توجيهها، مع أن المحدثين يردونها من أساسها، حتى ألف بعضهم رسائل مستقلة في إبطالها، ومن ثم فإننا لن نذكرها، ولن نتكلف للرد عليها ما دام أصلها غير ثابت، ولعلنا نتعرض لها في كتاب (الأساس في السنة) ولعل من جملة ما جعل للقصة رواجا هو عجز بعض المفسرين عن فهم الآيات، فرأوا في القصة توجيها سهلا للآيات فساروا عليه. 2 - وبمناسبة قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ قال النسفي: (هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» فقيل: فكم الرسل منهم؟ فقال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر» والفرق بينهما أن الرسول من- جمع إلى المعجزة- الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله، وقيل الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره). 3 - نلاحظ من قوله تعالى: لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أن إلقاء الشيطان ونفاذ أمره يحتاجان إلى مناخ ملائم، والمناخ الملائم لإلقاء الشيطان هو مرض القلب وقسوته، وقد حمل بعض المفسرين كلمة: وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ على الكفار، وليس لهم دليل على ذلك لأن قسوة القلب مرض

قد يصيب المؤمنين، والدرس الذي نستفيده من الآيات هو أن ما دام هناك قسوة قلب، ومرض قلب، فللشيطان سبيل إلى فتنة الإنسان، ومن ثم فإن أول ما ينبغي أن يعالجه المربون هو مرض القلب وقسوته، ومرض القلب النفاق، وقسوة القلب مرض غير النفاق، ولا يتخلص الإنسان من النفاق وقسوة القلب إلا ببذل جهد ذاتي لذلك، فمهما كان المربي قويا إذا لم تواته همة المريد فلا فائدة، ومن ثم فإن على المسلم أن يبتعد عن كل شئ يقسي القلب .. ككثرة الكلام الذي لا فائدة منه «لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي وككثرة الضحك فإنها تميت القلب، وكمجالسة أهل الدنيا بلا ضرورة، ولا بد للمسلم أن يبتعد عن كل أسباب النفاق من محبة الظالمين وموالاتهم، ومودتهم، وطاعتهم .. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ. قال ابن كثير: (فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران: 169) والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم، وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق وعظم إحسان الله إليه، روى ابن أبي حاتم عن شرحبيل بن السمط أنه قال: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان- يعني الفارسي- رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين» واقرءوا إن شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ وروى أيضا عن همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فمر بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل فقال فضاله: ما لي أرى الناس مالوا على هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا حتى بلغ آخر الآية).

5 - نلاحظ أن هناك ثمانية آيات من قوله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا .... إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وفي سبع آيات منها ورد في كل منها اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد نقل النسفي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية لذلك يستجاب لقرائها. 6 - عند قوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». أقول: إن قوله قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء يشير إلى أن العرش والماء كانا موجودين، ولا يفهمن فاهم أن هذا التقدير مستأنف، فالله علم أزلا وقضى وقدر ولكن الإبراز الأول إلى اللوح المحفوظ كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ولنلاحظ أن الرقم (خمسين ألف سنة) هو يوم من أيام ربنا كما قال تعالى في سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فالله عزّ وجل ذكر يوما عنده كألف مما نعد، وذكر يوما عنده مقداره خمسون ألف سنة، وكما قلنا من قبل فإن مثل هذه الأرقام في القرآن عن الأيام لا يدرك مدى الإعجاز في ذكرها إلا الإنسان المعاصر، الذي صار يقيس دورات المجرات بالسنين الضوئية، وأبعاد ما بين النجوم بمثل هذا، ويعرف أن أياما في غير هذه الأرض تزيد كثيرا على يوم الأرض. 7 - ونحب قبل أن ننتقل عن هذا المقطع أن نؤكد على معنى هو أنه في هذا المقطع الذي هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار قد عرض الله علينا سنتين: واحدة في قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ...... والثانية في قوله تعالى ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ

عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ والذي أحب أن أؤكده هنا أن هاتين السنتين ينبغي أن يكونا على بال الداعية إلى الله في كل لحظة، وعليه أن يبقى ذاكرا ما يلي: 1 - أن الشيطان لن يترك المدعوين بلا إلقاء، وأن مظنة الاستجابة له مرضى القلوب وقساتها، وأن أهل العلم وحدهم بمنجاة من إلقاءاته فليحرص الداعية إذن على تطهير القلب وتعميم العلم. 2 - أن عملية الإلقاء من الشيطان والاستجابة لها يترتب عليها موقف ضد الداعية، فإذا قابل الداعية الموقف بمثله فلا حرج عليه، وإن ظلم فإن الله ناصره، إن هاتين القاعدتين ما لم تكونا على ذكر دائم لدى الداعية فإنه يأسى كثيرا. ولننتقل إلى المقطع الرابع ولنقدم له بكلمة حول السياق: محور سورة الحج هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقد بدأت سورة الحج بالامر بالتقوى، وربت عليها، وذكرت الصوارف عنها، ثم أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار في المقطع الثالث الذي ورد في خواتيمه قوله تعالى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وها هو المقطع الأخير يأتي مفندا عبادة غير الله، آمرا بعبادة الله، مفصلا في ذلك، أن نقطة البداية في التقوى عبادة الله، ومن ثم يأتي هذا المقطع ليهدم في الآية الأولى منه عبادة غير الله، ولما كان المستفيدون الوحيدون من الخطاب هم المؤمنين من الناس، فإن المقطع في نهايته يتوجه إلى المؤمنين آمرا إياهم بصنوف من العبادة توصل إلى التقوى، إن الآية التي هي محور سورة الحج من سورة البقرة أمرت بالعبادة للوصول إلى التقوى، وسورة الحج ابتدأت بالأمر بالتقوى، وختمت بالأوامر بالعبادة؛ إذ هي الطريق العملي لتحقيق التقوى، فكانت آخر ما يقرؤه الإنسان في السورة. ***

المقطع الرابع

المقطع الرابع ويمتد من الآية (73) إلى نهاية الآية (78) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: [سورة الحج (22): الآيات 73 الى 78] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) التفسير: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي لهذا المثل أي فأنصتوا له وتفهموه قال النسفي: لما كانت دعواهم بأن لله تعالى شريكا جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ بين فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي

[سورة الحج (22): آية 74]

لضرب هذا المثل إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلهة باطلة لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلق الذباب، دل على أن خلق الذباب منهم مستحيل، وتخصيص الذباب بالذكر لمهانته وضعفه واستقذاره، أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذبابة واحدة ما قدروا على ذلك وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي هذا الخلق الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا، وبهذا تم المثل، فهم عاجزون عن خلق ذبابة واحدة، بل أبلغ من ذلك إن هذه الآلهة عاجزة عن مقاومة الذباب، والانتصار منه، حتى لو سلبها الذباب شيئا مما عليها ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ضَعُفَ الطَّالِبُ أي الصنم أو الإله المزعوم يطلب ما سلب منه وَالْمَطْلُوبُ أي الذباب بما سلب، وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف، فإن الذباب غالب، وذاك مغلوب، فكيف يعبد من هذا شأنه، ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف أو غيره من الآلهة المزعومة شريكا له قال ابن كثير: أي ما عرفوا قدرة الله وعظمته، حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إن الله قادر وغالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به. أو لقوي ينصر أولياءه، عزيز ينتقم من أعدائه، أو هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شئ، العزيز الذي قد عز كل شئ فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار، وبعد أن أبطل الله ألوهية غيره وأبطل عبادة غيره قال تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم وَمِنَ النَّاسِ أي يصطفي رسلا كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم بَصِيرٌ بمن يختاره لرسالته، أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول، بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما أمام الرسل وَما خَلْفَهُمْ أي ما وراءهم أو ما عملوه وما سيعملونه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إليه مرجع الأمور كلها، دنيوية وأخروية، إن ذكر اصطفاء الله الرسل بعد أن أبطل ألوهية غيره وعبادة غيره فيه إشارة إلى أن الطريق الوحيد لمعرفته وعبادته وتقواه هو اتباع الرسل، ومن ثم فبعد أن قرر اصطفاءه الرسل توجه بالنداء إلى أهل الإيمان الذين آمنوا بالله ورسله،

كلمة مهمة حول السياق القرآني العام

ليأمرهم بعبادة الله وحده، مطالبا إياهم بأنواع من العبادة، وقبل أن نستعرض هذه الأوامر نحب أن نلفت النظر إلى قضية في السياق تكاد تكون معجزة: كلمة مهمة حول السياق القرآني العام: في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. ثم بعد ذلك جاء قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها هذا المثل الذي أشار الله إليه هناك هو المثل الذي ضربه الله عزّ وجل في أواخر سورة الحج، فما الحكمة في الإشارة المتقدمة إليه وتأخير ذكره إلى سورة الحج؟ أقول في تعليل ذلك- وأستغفر الله- إن سورة الحج كلها مستكنة في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لأن سورة الحج كلها تفصيل لها فعند ما يأتي في سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ... بعد قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... فما ذلك إلا لاستكنان سورة الحج قبل ذلك، ومن ثم فكأن سورة الحج سابقة حكما للآية إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا إن منزل هذا القرآن المحيط بكل شئ جعل في كتابه من أسرار الإعجاز ومن تشابك الصلات بين سوره وآياته ما به يعرف أن هذا لا يمكن أن يكون إلا إذا كان منزل هذا القرآن هو الله رب العالمين، الذي أحاط بكل شئ علما. بين يدي خاتمة السورة: رأينا أن محور سورة الحج هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقد سارت السورة مفصلة نوع تفصيل لمعاني

[سورة الحج (22): آية 77]

العبادة والتقوى، والمقطع الذي بين أيدينا أبطل عبادة غير الله، وها هو السياق الآن يتوجه إلى المؤمنين ليطالبهم بأنواع من العبادة، كلها ضروري للتحقق بالتقوى فلنر ذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي في صلاتكم وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بطاعته في كل ما أمر وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كله قال النسفي: (قيل: لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات، دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص، لقوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (طه: 14) ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما، ثم عم بالحث على سائر الخيرات، وقيل أريد به (أي بالخير) صلة الأرحام ومكارم الأخلاق) لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا أو افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح، غير مستيقنين، ولا تتكلوا على أعمالكم وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي وجاهدوا في ذات الله، ومن أجله، حق جهاده قال ابن كثير: أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم. وقال النسفي في تفسير الجهاد حق الجهاد: (وهو ألا يخاف في الله لومة لائم) هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه ونصرته قال ابن كثير: (أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع) وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي من ضيق بل رخص لكم في جميع ما كلفكم، من الطهارة والصلاة والحج والصوم، بالتيمم وبالإيماء، وبالقصر، والإفطار لعذر السفر، والمرض، وعدم الزاد والراحلة مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، أو أعني بالدين ملة إبراهيم عليه السلام. قال النسفي: (وسماه أبا- وإن لم يكن أبا للأمة كلها- لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته، لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا لكم مثل الوالد») هُوَ أي الله سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب المتقدمة وَفِي هذا أي في القرآن أي فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أنه قد بلغكم رسالة ربكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم والمعنى: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتكم وفضلكم على كل أمة سواكم، فلهذا تقبل شهادتكم عليهم يوم القيامة، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول صلى الله عليه وسلم

كلمة في السياق

يشهد عليكم أنه بلغكم ذلك فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بواجباتها وَآتُوا الزَّكاةَ بشرائطها أي إذ خصكم بهذه الكرامة، والأثرة فصلوا وزكوا قال ابن كثير: (أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني، من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج ... ) وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قال ابن كثير: (أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه، وتأيدوا به). وقال النسفي: (وثقوا بالله وتوكلوا عليه لا بالصلاة والزكاة) هُوَ مَوْلاكُمْ أي مالككم وناصركم، ومتولي أموركم وحافظكم، ومظفركم على أعدائكم فَنِعْمَ الْمَوْلى أي نعم الولي وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي ونعم الناصر من الأعداء، وقد أفلح من كان الله مولاه وناصره. كلمة في السياق: في هاتين الآيتين الأخيرتين ذكر الله مجموعة أوامر كلها تعتبر أجزاء في التقوى، الركوع، والسجود، والعبادة، وفعل الخير، والجهاد والصلاة، والزكاة، والاعتصام بالله، والدليل على أنها من التقوى قوله تعالى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إن الله عزّ وجل قال في أول سورة البقرة بعد أن وصف المتقين أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وفي نهاية الآيات قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وفي هذه الخاتمة ما يشير إلى أن العبادة والتقوى ليست خسارة كما يزعم الكافرون والمنافقون والفاسقون، بل هي الربح كله؛ لأن الله جل جلاله سيتولى وينصر. فوائد حول المقطع الرابع: 1 - إن المثل الذي ضربه الله عزّ وجل على عجز الآلهة المزعومة ينطبق على أصنام قريش وغيرها، كما ينطبق على أي نوع من أنواع الآلهة المزعومة، كما ينطبق على الطبيعة ككل، وهي الإله المزعوم في هذا العصر، إذ يعطيها الملحدون كل خصائص الألوهية، فكأن العقل البشري المشرك لم يخرج من الوثنية إلا في حدود، فالمشرك الأول كان يعبد جزءا من مظاهر الطبيعة، والمشرك المثقف صار يعبد الطبيعة كلها، وسواء كان الإله المزعوم صنما، أو طبيعة، فإنه عند ما يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذونه منه، لأنه في

اللحظة التي يأخذ الذباب منهم شيئا يحدث تغير كلي لهذا الشئ يخرجه عن مادته الأساسية، ولذلك فإنه يستحيل بأي طريقة أن يسترجع عين الشئ الذي أخذه الذباب، وهم إذا كانوا عاجزين عن استنقاذ شئ سلبه الذباب، فمن باب أولى أن يكونوا عاجزين عن خلق ذباب، بل عن خلق أقل من ذباب، وفي كتابنا (الله جل جلاله) تحدثنا في ظاهرة الحياة عن تجارب البشرية في حقل صنع ذرة حياة، وعن عجزها عن ذلك، وكيف أن ظاهرة الحياة تدلنا من وجوه عديدة على الله، بما لا يقبل جدلا، وهذا المثل في القرآن الكريم هو الحجة الكاملة على أنه لا إله إلا الله. 2 - هل في آخر سورة الحج عند قوله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا سجدة أو لا؟ قال ابن كثير: (اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج، هل هو مشروع السجود فيها أم لا؟ على قولين وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما»). 3 - عند قوله تعالى وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قال ابن كثير: (أي ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام- بعد الشهادتين- تجب في الحضر أربعا، وفي السفر تقصر إلى اثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث وتصلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها. والقيام فيها يسقط لعذر المرض، فيصليها المريض جالسا، فإن لم يستطيع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا»). 4 - يظن بعضهم أن المراد بالضمير في قوله تعالى هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ إبراهيم عليه السلام قال ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين. وقال ابن كثير: وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وبمناسبة هذا القول قال ابن كثير: ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر، وقديم الزمان في كتب الأنبياء، يتلى على الأحبار والرهبان فقال هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ

كلمة في سورة الحج

مِنْ قَبْلُ أي من قبل القرآن وَفِي هذا روى النسائي عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم» قال رجل يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها، المسلمين المؤمنين عباد الله». كلمة في سورة الحج: جاء أول تعريف للمتقين في أول سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وبعد هذا التعريف في سورة البقرة تأتي آيتان في الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين، ثم يأتي النداء للناس جميعا كي يكونوا من المتقين: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وسورة الحج تفصل هذه الآية، فهي تخدم قضية سير الإنسان نحو التقوى، إن بتبيان ضرورتها، أو بإبعاد الصوارف عنها، أو بتبيان عوارض الطريق، أو بالدلالة على معان في التقوى، أو بتحديد قضايا تساعد على الوصول إلى التقوى، وكل ذلك قد رأيناه، ومن تعريف المتقين الموجود في أول سورة البقرة نرى أن أركان التقوى هي: الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، وأن علامتها الاهتداء بكتاب الله، ونحن نعلم أن أركان الإسلام خمسة، منها الصوم والحج، وفي سورة البقرة حديث عن الصوم، وعن الحج، والحديث عن الصوم في سورة البقرة يبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فالحديث في سورة البقرة عن الصوم يحدد أن الصوم وسيلة للتقوى، ونرى في البقرة أمرا بالحج، وحديثا عنه وعن بعض شعائره وحكمه، ولكنا لا نجد تفصيلا واسعا حول دور الحج وشعائره في موضوع التقوى، وهذا الذي نراه في سورة الحج. وقد رأينا في سورة الأنبياء تعريفا للمتقين هو: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (الآيتان 48، 49) وهو في الحقيقة يشبه تعريف سورة البقرة، إلا أنه يبرز معنى مستكنا في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فالإيمان بالغيب يقتضي خشية من الله، وإشفاقا من الساعة، ومن ثم نلاحظ أن سورة الحج فصلت في مثل

هذه المعاني الكثيرة فهي دلت على طريق التقوى، وفصلت في ماهية التقوى وعلاماتها وآثارها. وفي عملية تفصيل قضية التقوى، وتحديد مشاعر المتقين، وبعض شعائرهم، عرضت السورة لقضية مهمة وهي وحدة المتقين، ووحدة هدفهم، وضرورة سيرهم في طريق الصراع مع الكفر، فالنصر الرباني موعود به المتقون؛ إذا تحققوا بمواصفات خاصة، هذه المواصفات ضرورية كيلا تفسد الأرض، فمن طلب النصر الرباني بدون تحقيق الشروط في نفسه من المسلمين، أو عجب من عدم نزول النصر دون بذل وعطاء، وتحقق وفداء، وعمل مشترك مستقيم، فإنما هو من الجاهلين، ومن ارتد استبطاء للنصر فإنه من الكافرين، وهذا كله عرض في السورة. ولما كانت نقطة البداية في السير نحو التقوى هي عبادة الله، ولما كانت نقطة الانحراف الكبرى هي عبادة غير الله، فقد ختمت السورة في تفنيد عبادة غير الله، كما ختمت بتحديد مجموعة الأمور التي هي من التقوى، أو من الطريق الموصل إليها، أو من المعاني التي تبعث على السير، إن شعور المسلم بالاعتزاز- إذ يصطفيه الله، وإذ يعطيه اسمه- يبعث على السير والأمر بالركوع والسجود والعبادة، وفعل الخير والجهاد الشامل المخلص، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله، كلها قضايا من التقوى، وهي وسائل إليها كذلك، وأجزاء منها في كل حال. وهاهنا نحب أن نسجل شيئا: إن آية يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد فصلتها سورة النساء بشكل، وفصلت قسما منها سورة هود بشكل، وفصلتها سورة الحج بشكل، وسنرى أن سورا كثيرة قادمة ستفصلها بشكل وبآخر؛ مما يدل على أن محل هذه المعاني من الضخامة في الإسلام إلى الحد الذي لا يستقصى، وسنرى أن بعض آيات في سورة البقرة تفصل باستمرار، وبكل قسم تقريبا، مما يشير إلى أهمية التذكير المستمر بهذه المعاني بالنسبة لدين الله وبالنسبة لنفس الإنسان. ولا يخطرن ببال أحد أن المعنى إذا لم يتكرر فإنه يكون فاقد الأهمية، أو قليلها، فهذا كفر، إن المسألة على الشكل التالي: إن هناك معنى تحتاج النفس البشرية أن تذكر فيه ليل نهار، وأن يعرض عليها بأشكال شتى فمثل هذا تجده يتكرر بشكل ثم بآخر،

وبجرس ثم بجرس، وبحجم ثم بحجم، وبطريقة ثم بطريقة عرض أخرى، ثم وثم مما لا ينقضي العجب فيه. ونحب هنا أن نلاحظ أنه في سورة البقرة كان الأمر بالعبادة للوصول إلى التقوى مرفقا بالتعريف على الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ونلاحظ أن سورة الحج كان فيها تفصيل لهذه المعاني فلقد ركزت سورة الحج على معرفة الله كثيرا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ... وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ...... أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ............. ***

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون وهي السورة الثالثة والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الثالثة من قسم المئين، وآياتها مائة وثماني عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة المؤمنون

[قال الألوسي في تقديمه لسورة المؤمنون] قال الألوسي في تقديمه لسورة المؤمنون (مكية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي البحر هي مكية بلا خلاف، واستثنى منها- كما في الإتقان- قوله تعالى حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ إلى قوله سبحانه مُبْلِسُونَ واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة، وهي إنما فرضت بالمدينة، وأجيب بأنه بعد تسليم أن ما ذكر فيه يدل على فرضيتها يقال: إن الزكاة كانت واجبة بمكة، والمفروض بالمدينة ذات النصب، وستسمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى، وهي كما في (كتاب العدد) للداني (ومجمع البيان) للطبرسي مائة وثمان عشرة آية في الكوفي، ومائة وسبع عشرة آية في الباقي، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأول منها، فقد أخرج أحمد، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل، فأنزل عليه يوما، فمكثنا ساعة، فسرى عنه، فاستقبل القبلة، فرفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، واعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا» ثم قال: «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم العشر) ومناسبتها لآخر السور قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا الآية وفيها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. [قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة (المؤمنون)] وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة (المؤمنون): (هذه سورة «المؤمنون» ... اسمها يدل عليها. ويحدد موضوعها .. فهي تبدأ بصفة المؤمنين، ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله- صلوات الله عليهم- من لدن نوح- عليه السلام- إلى محمد خاتم الرسل والنبيين؛ وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها، ووقوفهم في وجهها، حتى يستنصر الرسل بربهم، فيهلك المكذبين، وينجي المؤمنين ...... ثم يستطرد إلى اختلاف الناس- بعد الرسل- في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد .. ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر .. وتنتهي السورة بمشهد من مشاهدة القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب، ويؤنبون على ذلك الموقف المريب، يختم

كلمة في سورة المؤمنون ومحورها

بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران، فهي سورة «المؤمنون» أو هي سورة الإيمان، بكل قضاياه ودلائله وصفاته. وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل. جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير، وجو الجدل الهادئ، والمنطق الوجداني، واللمسات الموحية للفكر والضمير. والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها .. الإيمان ... ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وفي صفات المؤمنين في وسطها: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ .. وفي اللمسات الوجدانية: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وكلها مظللة بذلك الظل الإيماني اللطيف). كلمة في سورة المؤمنون ومحورها: عند ما تقرأ بداية سورة المؤمنون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ..... وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ... وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. تجد أن بين ذلك صلة وبين قوله تعالى في سورة البقرة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وعند ما تقرأ الآيات من سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ* وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ* وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ .... وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً .... وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ إذا قرأنا هذه الآيات نجد أن بينها صلة وبين قوله تعالى في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فمجموع هذه الآيات من سورة البقرة هي محور سورة المؤمنون مع ملاحظة أن هذه الآيات آتية في حيز قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولذلك فإنك تجد آثار ذلك في السورة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... فالسورة تفصل في محورها الآتي ضمن حيز محدد، وكما تفصل في المحور فإنها تفصل في امتداداته، لتكون مع ما قبلها مقدمة لسورة النور، التي تفصل محورا في أعماق سورة البقرة. سنرى أن سورة النور ستتحدث عن أحكام تطالب بها الأمة المسلمة، وستتحدث عن أحكام لها صلة بالنظام الاجتماعي للأمة المسلمة، ولذلك ولغيره فإننا نجد أن سورتي الأنبياء والمؤمنون تحدثتا عن وحدة الأمة الإسلامية خلال العصور: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ* وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً إن السورتين تتحدثان عن وحدة الأمة الإسلامية خلال العصور وتنكران موضوع تقطيع أمر الأنبياء والأخذ ببعضه وترك بعضه، كمقدمة لسورة النور التي تفصل في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام جميعا. *** جاءت سورة طه فتحدثت في سياقها الرئيسي عن الإيمان بالقرآن كجزء من التقوى وجاءت سورة الأنبياء فحذرت من موقف الكافرين من القرآن، مما يتنافى مع التقوى، وجاءت سورة الحج لتحمل بصيغة الإنذار على الطريق إلى التقوى، والآن تأتي سورة المؤمنون لتبشر وتستخرج عواطف الشكر، وتذكر لتؤدي دورها في التحرير من طرق الضلال بالتذكير والتعليم والتربية والتوضيح والتنوير، وكل ذلك مقدمة للمطالبة بكثير من الأحكام الإسلامية التي يقتضي القيام بها الدخول في الإسلام كله كما سنرى في سورة النور إن شاء الله. ***

المقطع الاول

[المقطع الاول] المجموعة الأولى من المقطع الأول وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذه هي مع البسملة. بسم الله الرحمن الرحيم [سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) التفسير: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الفلاح: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب قال النسفي: (والإيمان في اللغة: التصديق، والمؤمن المصدق لغة، وفي الشرع: كل من نطق بالشهادتين مواطئا قلبه لسانه فهو مؤمن، والمعنى: أن هؤلاء المؤمنين المتصفين بهذه الصفات قد فازوا بما طلبوا، ونجوا مما هربوا) قال ابن كثير: أي فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي خائفون في القلب ساكنون في الجوارح وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال ابن كثير: (أي عن الباطل، وهو يشمل الشرك كما قال بعضهم،

[سورة المؤمنون (23): آية 4]

والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال) وقال النسفي: اللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى، كالكذب والشتم والهزل، يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل، ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف، وقال قتادة في اللغو: أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي مؤدون قال النسفي: ولفظ (فاعلون) يدل على المداومة بخلاف مؤدون وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ قال النسفي: الفرج يشمل سوأة الرجل والمرأة إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي إنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال، إلا في حال تزوجهم، أو تسريهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أي لا لوم عليهم إن لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وإمائهم فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ. أي فمن طلب قضاء شهوة من غير الأزواج والإماء فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي الكاملون في العدوان، والمعنى: والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه، من زنا ولواط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السرارى، ومن تعاطى ما أحله الله له، فلا لوم عليه ولا حرج، وأما من طلب وراء ذلك فإنه هو المعتدي وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ إذا ائتمنوا وَعَهْدِهِمْ إذا عاهدوا أو عاقدوا راعُونَ أي حافظون، إذ الراعي: هو القائم على الشئ بحفظ وإصلاح، كراعي الغنم، والمراد أنهم حافظون لكل ما ائتمنوا عليه، وعوهدوا من جهة الله عزّ وجل، ومن جهة الخلق وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يداومون عليها في أوقاتها، قال النسفي: (وإعادة ذكر الصلاة لأنها أهم، ولأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها، أو لأنها وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، أية صلاة كانت، وجمعت آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل) أُولئِكَ أي الجامعون لهذه الأوصاف هُمُ الْوارِثُونَ أي الأحقاء بأن يسموا وراثا دون من عداهم، ثم ترجم الوارثين بقوله الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هو أعلى الجنان هُمْ فِيها أي في جنة الفردوس خالِدُونَ لا يموتون ولا يتحولون.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: بدأت هذه السورة وهذه المجموعة بقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال النسفي: (وقد نقيضة لما، هي (أي قد) تثبت المتوقع، ولما تنفيه، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه) انظر كلام النسفي هذا الذي فهمه من مطلق اللغة، لترى أن ما فهمناه نحن من خلال السياق صحيح من أن محور هذه الآيات هو قوله تعالى من سورة البقرة: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فالمجموعة فصلت، وبشرت، فصلت أخلاق الإيمان، وبينت أمهات الأعمال الصالحة، وبشرت لمن اجتمع له ذلك بالفردوس، لاحظ صلة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بقوله تعالى من المحور وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا* ولاحظ صلة قوله تعالى هُمْ فِيها خالِدُونَ بقوله تعالى هناك وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ولاحظ صلة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ* ولاحظ صلة قوله تعالى عن المؤمنين وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ بقوله تعالى عن الفاسقين: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ... * ولاحظ صلة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ بقوله تعالى عن الكافرين في المحور ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا* ولاحظ صلة الصلاة والزكاة بموضوع الإيمان والعمل الصالح، إن هذه المجموعة من سورة المؤمنون تفصل في ثلاث آيات من محور السورة في البقرة، وسنرى أن المجموعة اللاحقة تفصل في الآيتين الأخيرتين من المحور، فمحور سورة المؤمنون- كما ذكرنا- هو الآيات الخمس من سورة البقرة المبدوءة بقوله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .... نقول: قال الألوسي عند قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (والخشوع: التذلل مع خوف، وسكون للجوارح. ولذا قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وغيره (خاشعون): خائفون ساكنون. وعن مجاهد أنه هنا غض البصر، وخفض الجناح، وقال مسلم بن يسار وقتادة: تنكيس الرأس، وعن علي كرم الله تعالى

وجهه: ترك الالتفات. وقال الضحاك: وضع اليمين على الشمال. وعن أبي الدرداء: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التام، وجمع الاهتمام، ويتبع ذلك ترك الالتفات، وهو من الشيطان، فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد». وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه: أقعدوني أقعدوني، فإن عندي وديعة، أودعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلتفت أحدكم في صلاته، فإن كان لا بد فاعلا ففي غير ما افترض الله تعالى عليه». وترك العبث بثيابه أو شئ من جسده، وإنكار منافاته للخشوع مكابرة، وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول- لكن بسند ضعيف- عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»، وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى، وقد جاء النهي عنه، فقد أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن سمرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه، وترك الاختصار: وهو وضع اليد على الخاصرة، وقد ذكروا أنه مكروه. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «الاختصار في الصلاة راحة أهل النار» أي إن ذلك فعل اليهود في صلاتهم استراحة، وهم أهل النار لا أن لهم فيها راحة، كيف وقد قال تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ومن أفعالهم أيضا فيها التميل وقد جاء النهي عنه. أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رآني أبو بكر رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي، فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود، فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة» وقال في الكشاف من الخشوع أن يستعمل الآداب، وذكر من ذلك توقي كف الثوب، والتمطي والتثاؤب، والتغميض، وتغطية الفم، والسدل والفرقعة، والتشبيك، وتقليب الحصي. وفي البحر نقلا عن التحرير أنه اختلف في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول، ومحله القلب. اه، والصحيح عندنا خلافه،

نعم الحق أنه شرط القبول لا الإجزاء. وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه، بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه، وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه، بأن لا يعبث بأحدها، وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله: ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب، إلا أن يجعل ذلك سببا له، ولذا خصه بحالة الدخول، وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضا، وكان سنة لثناء الله تعالى في كتابه العزيز على فاعليه، ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولأن لنا وجها اختاره جمع أنه شرط للصحة، لكن في البعض فيكره الاسترسال مع حديث النفس، والعبث كتسوية ردائه، أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة، أو دفع مضرة، وقيل يحرم. اه، وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه. وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل. وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان، فإنهما إخوان وقد جاء إطلاق الإيمان عليها في قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وقيل للحصر على معنى: الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة» الخبر). وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر .. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان ... وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير. وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء ... وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفى نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري

والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح. ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شئ آخر غير الهذر واللغو والفراغ .... ) وقال الألوسي عند قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ: (وصف لهم بالعفة وهو إن استدعاه وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جيء به اعتناء بشأنه، ويجوز أن يقال: إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جيء بهذا لما فيه من الإيذان أن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى، وأنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها، وبذلك يتحقق كمال العفة ..... والمراد مما ملكت أيمانهم: السريات، والتخصيص بذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر ..... والآية خاصة بالرجال، فإن التسري للنساء لا يجوز بالإجماع، وعن قتادة: قال تسرت امرأة غلاما فذكرت لعمر رضي الله تعالى عنه، فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين، فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأولت كتاب الله تعالى على غير تأويله. فقال رضي الله تعالى عنه: لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا، كأنه عاقبها بذلك، ودرأ الحد عنها، وأمر العبد أن لا يقربها ..... ويدخل فيما وراء ذلك: الزنا، ومواقعة البهائم واللواط وهذا مما لا خلاف فيه .... واختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة، وجلد عميرة. فجمهور الأئمة على تحريمه، وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك، وكان الإمام أحمد بن حنبل يجيزه، لأن المني فضلة في البدن؛ فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة، وقال ابن الهمام: يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب). وقال صاحب الظلال عند الآية نفسها: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة. ووقاية النفس والأسرة والمجتمع. بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال؛ وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب. والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد. لأنه

لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة، إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج؛ ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة، ليصلح محضنا ومدرجا، وليعيش فيه الوالدان مطمئنا كلاهما للآخر، وهما يرعيان ذلك المحضن. ومن فيه من فراخ! والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية، فالمقياس الذي لا يخطئ للارتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها. وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة نظيفة معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه. لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء! والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ .. ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلا. فهي النظام المشروع المعروف. أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئا من البيان، ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي. واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي، فما كان يمكن- والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه- أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين رقيقا عند أعدائه، بينما هو يحرر أسارى الأعداء .. فجفف الإسلام كل منابع الرق- عدا أسرى الحرب- إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى. ومن هنا كان يجئ إلى المعسكر الإسلامي أسيرات، تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن. ومن مقتضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح. فأباح الإسلام حينئذ الاستمتاع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحررن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلا لتحرير الرقيق. لعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كيلا

فوائد

يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق- هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية. والأمة تصل إلى مرتبة الحرة بوسائل كثيرة .. إذا ولدت لسيدها ومات عنها. وإذا أعتقها هو تطوعا أو في كفارة. وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها. وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها ... الخ. وعلى أية حال فقد كان الاسترقاق في الحرب ضرورة وقتية، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى، ولم يكن جزءا من النظام الاجتماعي في الإسلام). أقول: كنا قلنا من قبل: إن الاسترقاق أحد خيارات موضوعة بيد الحكومة الإسلامية، فإذا أرادت أن تعيده لمصلحة إسلامية محققة فلا حرمة في ذلك، ولكنه من المستحسن في عصرنا ألا تفعل ذلك ما دام العالم قد تواضع على أمر هو مندوب في شريعتنا فلا ينبغي أن يسبقنا أحد في أمر هو من باب المكرمات. فوائد: 1 - في تفسير الخشوع في الصلاة كلام كثير للفقهاء قال النسفي: (وقيل الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها، وأن لا يجاوز بصره مصلاه، وأن لا يلتفت ولا يعبث، ولا يسدل ولا يفرقع أصابعه، ولا يقلب الحصى ونحو ذلك، وعن أبي الدرداء هو إخلاص المقال، وإعظام المقام واليقين التام، وجمع الاهتمام وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلى له؛ لانتفاع المصلي بها وحده، وهي عدته وذخيرته، وأما المصلى له فغني عنها) وقال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس خاشِعُونَ خائفون ساكنون، وكذا روي عن مجاهد والحسن والزهري، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع في القلب وكذا قال إبراهيم النخعي، وقال الحسن البصري كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح، وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان اعتاد النظر

فليغمض، ...... وعن عطاء بن أبي رباح أيضا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الآية، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» وروى الإمام أحمد عن رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بلال «أرحنا بالصلاة» وروى الإمام أيضا أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار فحضرت الصلاة فقال يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فاستريح، فرآنا أنكرنا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة» أقول: ورد في الحديث «أول علم يرفع من الأرض الخشوع» فالخشوع في الحقيقة علم، إذ هو أثر عن صلاح القلب، وصلاح القلب علم عظيم جليل، وقد فصلنا ذلك في كتابنا (تربيتنا الروحية). 2 - من الملاحظ أن هذه السورة مكية والزكاة المعروفة لدينا حاليا فرضت في المدينة قال ابن كثير في توضيح هذا (الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت في المدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس كقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وكقوله وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ على أحد القولين في تفسيرها، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا، والله أعلم). أقول: إن كون السورة مكية، وكونها ذكرت الزكاة في المحل الذي تذكر فيه دائما فذلك دليل على أن منزل هذا القرآن واحد، إذ ما كان القرآن ليكون على مثل هذه الوحدة مع نزوله مفرقا منجما خلال ثلاث وعشرين سنة لولا أنه من عند الله. 3 - بمناسبة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ قال ابن كثير: (وقال ابن جرير ....... عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت:

تأولت آية من كتاب الله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تأولت آية من كتاب الله عزّ وجل على غير وجهها، قال فضرب العبد وجز رأسه، وقال (أي للمرأة): أنت بعده حرام على كل مسلم، وهذا أثر غريب منقطع ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو هاهنا أليق، وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها والله أعلم). وقد استدل الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال الله تعالى فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث روى عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العالمين، ويدخلهم النار في أول الداخلين، إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم. 4 - بمناسبة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ يذكر ابن كثير الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». 5 - وبمناسبة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قال ابن كثير: (كما قال ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال «الصلاة على وقتها» قلت ثم أي؟ قال «بر الوالدين» قلت ثم أي؟ قال «الجهاد في سبيل الله» أخرجاه في الصحيحين، وفي مستدرك الحاكم قال «الصلاة في أول وقتها» وقال ابن مسعود ومسروق في قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني مواقيت الصلاة، وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس، وسعيد ابن جبير، وعكرمة وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».

6 - وبمناسبة قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ قال ابن كثير: (وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل: في الجنة ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته في الجنة، ويهدم بيته الذي في النار، وأما الكافر فيهدم بيته في الجنة ويبني بيته الذي في النار» وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له، أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عزّ وجل، بل أبلغ من هذا أيضا وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجئ الناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» (أقول: هذا الحديث تفسره الرواية اللاحقة) وفي لفظ له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا، فيقال: هذا فكاكك من النار، فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال فحلف له، قلت: وهذه الآية كقوله تعالى تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وكقوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير: الجنة بالرومية هي الفردوس، وقال بعض السلف لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب، فالله أعلم). 7 - ولنختم هذه الفوائد بما بدأ به ابن كثير الكلام عن آيات هذه المجموعة قال: (روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا واعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا- ثم قال- لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم العشر، ورواه الترمذي في تفسيره والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرازق به، وقال الترمذي: منكر، لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه، وروى

كلمة في السياق

النسائي في تفسيره ...... قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فقرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى انتهت إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال تكلمي فقالت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال كعب الأحبار: لما أعد لهم من الكرامة فيها، وقال أبو العالية: فأنزل الله ذلك في كتابه. وقد روى ذلك عن أبي سعيد الخدري قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرسها وقال لها تكلمي فقالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فدخلتها الملائكة فقالت: طوبى لك منزل الملوك ثم قال وحدثنا بشر بن آدم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها المسك» وقال البزار ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث «حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك، فقال لها تكلمي فقالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك» ثم قال البزار لا نعلم أحدا رفعه إلا عدي بن الفضل وهو شيخ متقدم الموت روى الحافظ أبو القاسم ...... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها تكلمي فقالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وروى الطبراني عن ابن عباس يرفعه «لما خلق الله جنة عدن بيده، ودلى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها ثم نظر إليها قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» وروى أبو بكر بن أبي الدنيا ... عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوته حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء، ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ وحشيشها الزعفران ثم قال لها انطقي قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فقال تعالى: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.* كلمة في السياق: لاحظنا أن محور سورة (المؤمنون) من البقرة هو مجموع خمس آيات، إلا أننا نلاحظ أن هذه المجموعة التي مرت معنا تفصل الآيات الثلاث الأولى فقط، بينما نلاحظ أن المجموعة الثانية ستفصل الآيتين الأخيرتين فقط، وهو نوع من التفصيل رأينا نمطا منه

من قبل في سورة الحجر: إن الآيات الثلاث الأولى من محور سورة المؤمنون هي: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ولقد رأينا أن المجموعة الأولى من سورة المؤمنون فصلت في ذلك كله: فلقد ذكرت أخلاق المؤمنين، ومن أخلاقهم العمل الصالح، وحددت أنواعا من العمل الصالح ومن ذلك العمل المقابل لأخلاق الفاسقين، فالفاسقون ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، والمؤمنون لعهدهم راعون، والفاسقون يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهؤلاء يفون بالعهود، والفاسقون يفسدون في الأرض، وهؤلاء يحفظون فروجهم، ويؤدون أماناتهم، ولنلاحظ أن الآيات الثلاث بدأت بقوله تعالى وَبَشِّرِ وانتهت بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. لاحظ الصلة بين هذه البداية والنهاية، وبين قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ فإن فيها بشارة، وإن الفلاح يقابل الخسارة، وبعد الآيات الثلاث في سورة البقرة يأتي قوله تعالى في الإنكار على من كفر، وفي التدليل على الإيمان كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وسنرى أن آيات المجموعة الثانية تفصل هاتين الآيتين، للتدليل على الإيمان واستخراج عواطفه، مع فارق هو أن الآيتين ردتا على الكفر من خلال الإنكار والتقرير وهنا دعت هذه المجموعة إلى الإيمان من خلال التقرير فلنر المجموعة الثانية. ***

المجموعة الثانية من المقطع الأول

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (12) إلى نهاية الآية (22) وهذه هي: [سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) كلمة في السياق: لاحظ الصلة بين آيتي المحور وآيات هذه المجموعة: 1 - وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ..... ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.

التفسير

2 - ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ* لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى هنا: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ. 3 - فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى هنا: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ... 4 - هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً .... فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ ... وَشَجَرَةً .... وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ... التفسير: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي آدم مِنْ سُلالَةٍ السلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر مِنْ طِينٍ قال النسفي: (وقيل إنما سمي التراب الذي خلق آدم منه سلالة لأنه سل من كل تربة) وقال ابن كثير: (وقال قتادة استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعني وأقرب إلى السياق، فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب وهو الصلصال من الحمأ المسنون وذلك مخلوق من التراب ..... ) ثُمَّ جَعَلْناهُ أي ثم جعلنا جنس الإنسان أي نسله نُطْفَةً فِي قَرارٍ أي في مستقر مَكِينٍ أي حصين وهو الرحم ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي صيرناها علقة أي على شكل العلقة مستطيلة فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي صيرنا العلقة لحما يشبه المضغة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً مما قرره علماء الأجنة في عصرنا أن أول الخلايا تشكلا في هذه المرحلة هي الخلايا العظمية وهذه المعاني سنعود إليها في الفوائد فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال ابن كثير: (أي ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار خلقا آخر، ذا سمع وبصر، وإدراك وحركة واضطراب). وقال النسفي: (أي أنشأناه خلقا مباينا للخلق الأول، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وسميعا وبصيرا، وكان بضد هذه الصفات) وفي الآية كلام كثير سنراه في الفوائد فَتَبارَكَ اللَّهُ أي فتعالى أمره في قدرته وعلمه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المقدرين ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكرنا من أمركم لَمَيِّتُونَ أي عند انقضاء آجالكم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي تحيون للجزاء وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ قال النسفي: جمع طريقة وهي السموات لأنها طرق الملائكة، ومتقلباتهم. قال مجاهد في تفسير السبع الطرائق: يعني السموات

[سورة المؤمنون (23): آية 18]

السبع وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ قال ابن كثير: أي ويعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير. وهو سبحانه لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضا، ولا جبل إلا ويعلم ما في وعره ولا بحر إلا ويعلم ما في قعره، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار، وفي ذكر عدم غفلته عزّ وجل عن الخلق في هذا السياق تقرير لكونه يعلم ما يصلح الخلق وما يحفظه وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي من السحاب السَّماءِ أي مطرا بِقَدَرٍ أي بتقدير يسلمون معه من المضرة، ويصلون إلى المنفعة، أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ قال ابن كثير: أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي بالماء لَقادِرُونَ أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه، فقيدوا هذه النعمة بالشكر، قال ابن كثير في تفسيرها: أى لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبرارى والقفاز لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبا فراتا زلالا فيسكنه في الأرض، ويسلكه ينابيع في الأرض، فيفتح العيون والأنهار، ويسقي به الزروع والثمار، تشربون منه ودوابكم وأنعامكم وتغتسلون منه، وتتطهرون منه وتتنظفون فله الحمد والمنة فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ سوى النخيل والأعناب وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي ومن الجنات أي من ثمارها تأكلون وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم بالماء شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ قال ابن كثير: وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تنبت ومعها الدهن، قال ابن كثير: فتقديره: تخرج بالدهن أو تأتي بالدهن وَصِبْغٍ أي أدم لِلْآكِلِينَ قال مقاتل: جعل الله تعالى في هذه إداما ودهنا فالإدام: الزيتون، والدهن: الزيت وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ وهي الإبل والبقر والغنم لَعِبْرَةً أي لعظة نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي مما تخرج لكم من بطونها أي اللبن وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ سوى الألبان، وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار وَمِنْها أي ومن لحومها

[سورة المؤمنون (23): آية 22]

تَأْكُلُونَ ومع هذا وَعَلَيْها أي وعلى بعض الأنعام وهي الإبل في البر وَعَلَى الْفُلْكِ في البحر تُحْمَلُونَ في أسفاركم. كلمة في السياق: لقد رأينا أن محور هذه المجموعة هو قوله تعالى في سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والصلة واضحة تماما بين هذه المجموعة وهاتين الآيتين، إن في الآيتين استدلالا بظاهرتي الحياة والعناية على الله، فكذلك في هذه الآيات، مع زيادة تفصيل لما أجمل هناك بذكر معان هي وحدها معجزة، فأصبح في الآيات أنواع من الأدلة، ما كانت لتذكر لولا أن هذا القرآن من عند الله- كما سنرى في الفوائد- والصلة بين المجموعة الأولى وبين هذه المجموعة واضحة، فالمجموعة الأولى ذكرت أخلاق أهل الإيمان- وما أعد الله لهم، والمجموعة الثانية تحدثت عما يوصل إلى الإيمان وعما يهيج على العمل الصالح، وعما يبعث على الكف عن العمل السيئ: كلمة في السياق: نحب هنا أن نذكر بفكرة الحيز التي تحدثنا عنها أثناء الكلام عن سورة النحل، والسور بعدها، فههنا نجد أن سورة المؤمنون تفصل محورا هو الآيات الخمس التي رأيناها في سورة البقرة، ولكن الآيات الخمس آتية في حيز قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ نقول هذا كي ندرك حكمة ورود بعض المعاني التي لها علاقة مباشرة بالحيز الذي وردت فيه آيات المحور، والذي فيه أمر بالعبادة والتوحيد والتقوى. نقل عند قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ .... قال صاحب الظلال: ( .. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر. ويتحول إلى تلك الخلقية المتميزة المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجردا من خصائص

الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ خَلْقاً آخَرَ في آخر أطواره الجنينية؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني. لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا- كما تقول النظريات المادية- فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني خَلْقاً آخَرَ. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيا من الكمال. بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان (¬1) فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ .. وليس هنا من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله. ¬

_ (¬1) تقوم نظرية النشوء والارتقاء على أساس مناقض. إذ تفترض أن الإنسان ليس إلا طورا من أطوار الترقي الحيوانية. وتفترض أن الحيوان يحمل خصائص التطور إلى مرتبة الإنسان. والواقع المشهود يكذب هذا الفرض لتفسير الصلة بين الحيوان والإنسان. ويقرر أن الحيوان لا يحمل هذه الخصائص. فيقف دائما عند حدود جنسه الحيواني لا يتعداه. وقد يثبت تطوره الحيواني على نحو ما يقول دارون أو على أي نحو آخر. ولكن يبقى النوع الإنساني متميزا بأنه يحمل خصائص معينة تجعل منه إنسانا ليست نتيجة تطور آلي. إنما هي هبة مقصودة من قوة خارجية. وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه (معجزات العلم) حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه، دون تدخل مباشر من الإنسان .. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها، وتحويلات كاملة في ماهيتها؟ غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون، مغلقي القلوب، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب .. وإن مجرد التفكير في أن الإنسان- هذا الكائن المعقد- كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة حتى لا تراها العين المجردة، وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عند ما ينشأ خلقا آخر. فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة. هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة .. إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب .. )

فوائد

فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ .. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام! فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ عن شجرة الزيتون ذكر ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» وروى عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» ........ روى أبو القاسم الطبراني عن الصعب بن حكيم بن شريك بن نميلة عن أبيه عن جده قال: ضفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة عاشوراء، فأطعمني من رأس بعير بارد وأطعمنا زيتا وقال هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم). 2 - وبمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال عنه حسن صحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك». 3 - موضوع انتقال الجنين من حال إلى حال موضوع يمر معنا كثيرا، ونحب هنا أن ننقل نقولا يتبين بها بعض أسرار الإعجاز: قال الدكتور/ خالص كنجو: في كتاب (الطب محراب للإيمان): بعد أن يتم تلقيح البيضة تضرب في محيطها الخارجي جدارا كتيما، بحيث إن جميع النطف التي تأتي بعد ذلك وتضرب برءوسها الجدار لا تستطيع اختراقها، وهكذا تموت بقية النطف. ثم لنتابع رحلة البيضة الملقحة حيث نجد أنها تبدأ بالانقسام بشكل سلسلة هندسية 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، 256، 512، وهذا ينتج عددا ضخما من الخلايا مع عدم زيادة حجم البيضة الأصلية أي أن الذي يحصل هو تقسم البيضة فقط، وأثناء هذا الانقسام تكون البيضة سائرة في نفق

العلقة واللوحة المضغية

البوق، حيث تدفعها التيارات المصلية الموجودة في البوق، وتستغرق هذه الرحلة عبر هذا النفق البوقي قرابة عشرة أيام، حيث يكون الانقسام قد أخذ ذروته، وعلى ما يذكر البعض يحصل قرابة خمسين انقساما، وعند ما تصل إلى الرحم يكون الغشاء المخاطي الرحمي مهيأ لاستقبالها كما ذكرنا، وهنا يبدأ عمل عجيب ومهم، وهو دخول البيضة إلى داخل الجدار الرحمي والجدار مغلق أمامها. ثم لا نلبث أن نرى أن هذه البيضة التي أصبح لها شكل التوتة من كثرة ازدحامها بالخلايا، تمد أرجلا كأرجل الأخطبوط تعمل بقوة وعنف في فتح الجدار الرحمي أمام التوتة، وعند ما يتم لها ذلك تنطمر هذه البيضة التوتية في جدار الرحم، ويغلق الباب الذي فتح لها خلفها، ثم ماذا؟ إن هذه الأرجل الأخطبوطية تمتد على مدار التوتة وهي ما تعرف (بالزغابات) حيث تقوم بقضم محتويات الجدار مع العروق الدموية، فينسكب الدم الغزير بشكل برك تحيط بهذه العلقة!! لأنها علقت في جدار الرحم، وتنغمس الأرجل الأخطبوطية في برك الدم؛ لتمتص الغذاء للجنين. العلقة واللوحة المضغية: وهكذا نرى أن العلقة الإنسانية تصبح محاطة من كل الجوانب بالزغابات الكوريونية التي تمتص من الدم كل ما يلزم لتخلق الجنين من الماء والأملاح المعدنية والفيتامينات والسكريات والآحينات والدسم، فهل هناك أعجب من أن يكون المرء في غرفة، والمواد الغذائية من فواكه وخضروات ومآكل طيبة، ووجبات دسمة تقدم له من السقف والأرض والنوافذ، وجدران الغرفة، إن هذا هو ما يحصل بالضبط للعلقة الإنسانية حين تتغذى!! ..... لو دخلنا إلى داخل هذه العلقة لوجدنا أن بعض المناطق فيها لها شكل يختلف عن بقية المناطق، هذا المكان رقيق يشبه اللوحة أو القرص الصغير، سمي باللوحة المضغية، وهو أبعد الأماكن التي يتخيلها الذهن، والتي يمكن أن تكون مصدر الكيان الإنساني، وهكذا نرى أن أكداس الخلايا التي تكونت وشكلت ما يعرف بالتوتة، يختص قسم منها بالتكوين الخارجي للمضغة ويختص قسم صغير منها في تكوين الخريطة الأولى للمساحة الإنسانية، هذه اللوحة يسمونها بمجموع الوريقات التي ستتخلق منها الأعضاء، وهي تعرف بالوريقة الباطنة والظاهرة والمتوسطة، فلنر الآن كيف ستبدأ عملية التخلق ..... تظهر ميزابة في وسط المضغة والتي ستكون في المستقبل الدماغ والنخاع، كما تظهر بجانبها قطع عرفت بالقطع البدئية ومن هذه القطع تتولد الفقرات

وامتدادها العظمي، وهي عظام الأطراف، ومنها العضلات حيث تمتد لتكون عضلات كل الجسم. والعجيب أن العظام تتكون بالأصل، ثم تأتي العضلات بعد ذلك لتكسوها، وصدق الله العظيم فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثم تبدأ العملية الجبارة في خلق أعضاء الجنين، فطائفة من الخلايا تختص بالحواس، وأخرى بالعظام، وثالثة بالعضلات، ورابعة بالأجهزة، وهكذا يتكون من الوريقة الباطنة الرغامي والقصبات، والرئتان، والبلعوم، والأنبوب الهضمي، والكبد، والمعثكلة، كما يتشكل من الوريقة المتوسطة الجمجمة، ونسيج الرأس الضام وعضلات الأطراف، وهيكل العظام، والجهاز التناسلي، وغشاء الجنب (غشاء الجنب يغلف الرئتين) والثامور (غشاء يغلف القلب) والصفاق (غشاء يغلف الأمعاء) والقلب والعروق، والبلغم والجملة البولية، كما يتكون من الوريقة الظاهرة بشرة الجلد، والعناصر الملحقة به من غدد وأشعار وأظافر وأعضاء الحواس، والجملة العصبية، فكيف خططت كل هذه الأجهزة وكيف سار البناء في نسق واحد، بحيث أن كل مجموعة خلوية تقوم ببناء جهاز خاص بل نسيج خاص وهي لا تعمل مستقلة، بل متعاونة مع غيرها، بحيث إن كل جهاز يأخذ مكانه الطبيعي، وأي خلل يعطي تشوهات خطيرة للمستقبل، كما يعرض الحياة للخطر، ولذا لم نجد أن العين نمت في البطن، أو أن اليد انبثقت من الرأس، أو أن الأذن نبتت على الساق، أو أن الشرج ركب في الظهر يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ، كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وعند ما ينمو الجنين أو بالأصح عند ما تنمو المضغة وجد أنها خلال الأسابيع الأولى تشبه كثيرا مضغة الزواحف والطيور، وحتى الخنازير!! ولكن ما إن يكتمل الشهر الثاني حتى يبدأ تخلق الإنسان، وينشأ إنشاء جديدا وصدق الله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. 4 - رأينا مجموع ما فهم به المفسرون القدامى قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ وهناك اتجاه جديد اتجه إليه بعض علماء الطبيعة وهو أن في الآية إشارة إلى الإنزال الأول، وذلك أن الأرض كانت كتلة نارية، وإذ ذاك لم يكن الأمر على ما هو عليه الآن، فلما بدأت تتبرد لم يكن على قشرتها شئ من الماء، وإنما كان الماء كله بخارا، ثم بدأ البخار ينعقد فيتشكل

مطرا، ثم يتبخر، وتكرر ذلك فترة طويلة من الزمان حتى استقر كله على الأرض، وبدأت دورته تنتظم من الأرض يكون التبخر، ثم يكون المطر، وهذا مظهر من مظاهر كون القرآن يسع الزمان والمكان. إن الحديث عن دورة الماء في هذا الكون لدليل على أن هذا القرآن من عند الله، وقد لفت هذا الموضوع نظر باحث فرنسي اسمه (موزيس بوكاي) فجعله أحد مواضيعه التي أثبت بها ربانية القرآن في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) وها نحن أولاء ننقل لك هذا البحث مع ملاحظات لنا على بعض تعبيراته قال: - دورة الماء: في عصرنا، عند ما نقرأ، المرة بعد الأخرى، الآيات القرآنية الخاصة بدور المياه في حياة الإنسان، فإنها تبدو لنا معبرة عن أفكار واضحة تماما. والسبب في ذلك بسيط: ففي عصرنا نعرف كلنا- بدقة قد تقل أو قد تكثر- كيف تتم دورة الماء في الطبيعة. أما إذا أخذنا في اعتبارنا ما كان عليه مختلف المفاهيم القديمة في هذا الموضوع، فإننا ندرك أن المعطيات القرآنية لا تحتوي على عناصر نابعة من المفاهيم الأسطورية التي كانت سائدة في ذلك العصر، والتي كان للتفكير النظري فيها دور أكبر من معطيات الملاحظة، وإذا كان الناس قد نجحوا بالتجربة في اكتساب معارف عملية مفيدة على مستوى محدود لتحسين ري الأراضي، فعلى العكس فإن مفاهيمهم عن دورة الماء عموما غير مقبولة في عصرنا، وقد كان يمكن تخيل أن المياه الجوفية تأتي من تسرب مياه الأمطار داخل الأرض، ولكن ذلك لم يحدث، والمذكور- كاستثناء في تلك العصور القديمة- هو مفهوم رجل يدعى فيتروف أيد هذه الفكرة في روما في القرن الأول قبل الميلاد. وعلى هذا وطيلة قرون طويلة، يقع بينها عصر تنزيل القرآن، كان للناس مفاهيم مغلوطة تماما عن جريان المياه في الطبيعة. وفي مقال الهيدرولوجيا بدائرة معارف أو نيفرساليس: ج. كاستاني وب. بلافو وهما كاتبان متخصصان في هذه المسائل، يقدمان عن هذه المسألة اللمحة التاريخية المعبرة التالية: عند تاليس دي ميلات وكان ذلك في القرن السابع قبل الميلاد، كانت النظرية هي اندفاع مياه المحيطات بتأثير الرياح إلى داخل القارات، ثم سقوطه على الأرض، ثم ولوجه إلى التربة. وكان أفلاطون يقاسم هذه الأفكار، ويعتقد أن عودة المياه إلى المحيط تتم بواسطة هوة سحيقة اسمها تاتار. وقد كان لهذه النظرية أتباع عديدون حتى القرن الثامن عشر، ومنهم ديكارت، أما أرسطو فقد افترض أن بخار ماء التربة يتكاثف في التجاويف الباردة

للجبال وتشكل بحيرات تحت الأرض تغذي الينابيع وقد تبعه سنيكا (القرن الأول الميلادي) في ذلك الرأي وكان له أتباع كثيرون حتى عام 1877 ومنهم: أ. فولجر ويعود أول مفهوم صحيح عن دورة الماء إلى برنارد باليس عام 1580، الذي أكد أن المياه الجوفية تأتي من تسرب ماء المطر في التربة، وقد صادق أ. ماريوت وب. بيرو في القرن السابع عشر هذا الرأي. أما المفاهيم غير الصحيحة السائدة في عصر محمد صلى الله عليه وسلم فإننا لا نجد لها أي صدى في عبارات القرآن، ولا في أي موضع آخر. سورة ق 50 - الآيات من 9 إلى 11: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ سورة المؤمنون 23 - الآيتان 18 و 19: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ* فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. سورة الحجر 15 - الآية 22: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ بالنسبة لهذه الآية الأخيرة فهناك إمكانيتان للتفسير: يمكن اعتبار الرياح مخصبة للنباتات بواسطة نقل اللقاح، ولكن قد يكون المقصود هو صورة تعبيرية تذكر قياسا دور الريح الذي يجعل من سحابة لا تعطي مطرا سحابة تفك المطرة الفجائية، وكثيرا ما يذكر هذا الدور مثلما نرى في الآيات التالية: سورة فاطر 35 - الآية: 9: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ويلاحظ أن الأسلوب في الجزء الأول من الآية هو أسلوب القصة، ويليه دون تمهيد تصريح من الله. وهذه التعديلات الفجائية في شكل الخطاب تتردد كثيرا في القرآن. سورة الروم 30 - الآية 48: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ

سورة الأعراف 7 - الآية 57: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ سورة الفرقان 25 - الآيتان 48 و 49: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً. سورة الجاثية 45 - الآية 5: .... وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. والرزق المقصود في الآية الأخيرة هو الماء الذي ينزل من السماء، كما يشير السياق إلى ذلك، ثم إن نبرة الآية تؤكد على تغير الرياح، فهي التي تعدل نظام سقوط الأمطار. سورة الرعد 13 - الآية 17: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ..... سورة الملك 67 - الآية 30: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ سورة الزمر 39 - الآية 21: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ...... سورة يس 36 - الآية 34: وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. تؤكد الآيات الثلاث الأخيرة على أهمية العيون المائية، وتموينها بماء المطر الذي يتجه إليها ويستحق الأمر وقفة لنذكر بتسلط بعض المفاهيم في القرون الوسطى كمفهوم أرسطو الذي كان يرى أن الينابيع المائية تتمون بواسطة بحيرات جوفية، ويصف ر. أمينيراس الأستاذ بالمدرسة الوطنية للهندسة الزراعية والمياه والغابات في مقاله الهيدرولوجيا بدائرة معارف أونيفرساليس، يصف المراحل الرئيسية في علم المياه ويستشهد بأعمال الري القديمة الرائعة، وخاصة تلك التي أنجزت في الشرق الأوسط، وهو يلاحظ أن المعرفة العلمية قد سادت كل هذه الإنجازات، على حين كانت الأفكار صادرة عن مفاهيم مغلوطة ويردف المؤلف قائلا: (ويجب أن ننتظر حتى عصر النهضة

(ما بين 1400 و 1600) تقريبا حتى تخلي المفاهيم الفلسفية الصرف المكان لأبحاث تعتمد على الملاحظة الموضوعية للظاهرات الهيدرولوجية. فقد ثار ليونارد دافنشي (1452 - 1519) على دعاوى أرسطو. ويعطي برنارد باليس في بحث له بعنوان (خطاب في روعة طبيعة المياه والعيون الطبيعية منها والصناعية) (باريس 1570) يعطي تفسيرا صحيحا عن دور الماء وخاصة عن تمريره الأمطار للينابيع ... أليست هذه بالتحديد هي الإشارة التي نجدها في الآية 21 من سورة الزمر التي تذكر اتجاه مياه الأمطار نحو الينابيع في الأرض. إن المطر والبرد موضوعا الآية: 43 من سورة النور: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ وتستحق العبارة التالية تعليقا (سورة الواقعة الآيات من: 68 إلى 70): أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ. الاستشهاد بأن الله كان يستطيع أن يجعل الماء الطيب بطبيعته مالحا شديد الملوحة. هو طريقة في التعبير عن القدرة الإلهية أو طريقة أخرى في التعبير عن هذه المقدرة نفسها: تحدي الإنسان أن ينزل الماء من السحاب. ولكن، إذا كانت الطريقة الأولى مجرد قول بديهي، أفلا تكون الثانية كذلك في العصر الحديث حيث سمحت التكنولوجيا بإطلاق المطر صناعيا ... ؟ أيمكن معارضة دعوى القرآن بطاقة البشر على إنتاج المطر ... ؟ ليس الأمر كذلك، إذ يبدو أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار بحدود إمكانيات الإنسان في هذا الميدان. وقد كتب م. ا. فاسى. مهندس عام الأرصاد الجوية الوطنية في مقاله «الهواطل» بدائرة معارف أو نيفرث ساليس ما يلي: لن يمكن أبدا إسقاط المطر من سحابة لا تحتوي على سمات السحابة القابلة للهطول أو من سحابة لم تصل إلى درجة مناسبة من التطور (أو النضج). وبالتالي فإن الإنسان لا يستطيع إلا أن يعجل بعملية الهطول مستعينا في ذلك بالوسائل التقنية الملائمة على شرط أن تكون الظروف الطبيعية لذلك جاهزة سلفا. ولو كان الأمر غير ذلك لما كان الجفاف عمليا، وهذا غير حادث، كما هو واضح التحكم في المطر والطقس الجميل ما زال حتى اليوم حلما. لا يستطيع الإنسان أن يقطع كيفما يشاء الدورة الثابتة التي تضمن حركة المياه في الطبيعة، وعلى حسب تعليمات

الهيدرولوجيا الحديثة فيمكن تلخيص هذه الدورة كما يلي:- يثير الإشعاع الحراري للشمس تبخر الماء في المحيطات وكل السطوح الأرضية المغطاة أو المشبعة بالماء يتصاعد بخار الماء بهذا الشكل نحو الجو، ويشكل سحبا عن طريق تكاثفه. عندئذ تدخل الرياح لتؤدي دورها في نقل السحب بعد تشكلها إلى مسافات متنوعة. وقد تختفي السحب دون أن تعطي مطرا. كما يمكن أن تلتقي كتل السحاب مع كتل أخرى لتعطي بذلك سحبا ذات كثافة كبرى، وقد تتجزأ لتعطي مطرا في مرحلة من تطورها. وسرعان ما تتم الدورة بوصول المطر إلى البحار (التي تشكل 70% من سطح الكرة الأرضية). أما المطر الذي يصل إلى الأرض فقد يمتص جزئيا بواسطة النباتات، مساهما في نموها وهذه بدورها تقوم من خلال ترشيحها بإعطاء جزء من الماء إلى الجو. أما الجزء الآخر فإنه يتسلل بمقدار قد يقل أو يكثر إلى التربة ليتجه نحو المحيطات عبر مجاري الماء، أو قد يتسرب في التربة ليعود نحو الشبكة السطحية عن طريق الينابيع أو الأماكن الأخرى، التي يخرج منها الماء إلى السطح. ولنقارن معطيات علم الهيدرولوجيا الحديث بتلك التي نجدها في كثير من الآيات القرآنية المذكورة في هذه الفقرة، سنلاحظ وجود توافق رائع بين الاثنين ***

المجموعة الثالثة من المقطع الأول

المجموعة الثالثة من المقطع الأول وتمتد من الآية (23) إلى نهاية الآية (56) وهذه هي: [سورة المؤمنون (23): الآيات 23 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحدوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي من معبود غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عقوبة الله الذي هو ربكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شئ فَقالَ الْمَلَأُ أي السادة والأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ قالوا للعامة ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يأكل ويشرب ويطلب بدعواه الفضل عليكم والترؤس يعنون: يتفضل عليكم ويترفع بدعوى النبوة وهو بشر مثلكم، فكيف أوحي إليه دونكم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال رسول لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا أي ببعثة البشر فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية قال النسفي: والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون أي فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي، وهو ككلام ملاحدة العصر، إذ يعللون ظاهرة النبوة بأنها نوع صرع فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره، فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ لما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم، والمعنى: يا رب أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، إذ في نصرته إهلاكهم، والمعنى: أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أجبنا دعاءه أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أي السفينة بِأَعْيُنِنا قال النسفي: أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك، أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفاظا يكلئونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا بأمرنا وَفارَ التَّنُّورُ أي فار الماء من تنور الخبز قال النسفي: أخرج سبب الغرق من موضع الحرق؛ ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار فَاسْلُكْ فِيها أي فأدخل

[سورة المؤمنون (23): آية 28]

في السفينة مِنْ كُلٍّ أي من كل صنف من أصناف المخلوقات زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال ابن كثير: أي ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك وَأَهْلَكَ أي وأدخل فيها أولادك ومن معك من المؤمنين والمؤمنات إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من الله بإهلاكهم مِنْهُمْ وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تسألني نجاة الذين كفروا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان، هذا نهي له أن تأخذه رأفة بقومه، وشفقة عليهم، وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون، وذلك عند معاينة إنزال المطر العظيم فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ أي فإذا تمكنتم عليها راكبين فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم قال النسفي: ولم يقل: فقولوا وإن كان فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ في معنى إذا استويتم لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وَقُلْ حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا أي إنزالا مُبارَكاً قال النسفي: البركة في السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فاختر لنا إِنَّ فِي ذلِكَ أي في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لَآياتٍ أي لعبرا ومواعظ وحججا ودلالات واضحات على صدق ما الأنبياء جاءوا به عن الله تعالى، وأنه تعالى فاعل لما يشاء، قادر على كل شئ عليم بكل شئ وَإِنْ أي وإن الشأن والقصة كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر ثُمَّ أَنْشَأْنا أي خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ أى بعد قوم نوح قَرْناً آخَرِينَ قيل المراد بهم عاد فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل المراد بهؤلاء ثمود، ورجح النسفي أنهم عاد قوم هود قال: ويشهد له قول هود وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أي من القوم أنفسهم، وليس من غيرهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فماذا كان موقف الكفر وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك وَأَتْرَفْناهُمْ أي ونعمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأولاد والأموال قال هؤلاء ما هذا أي النبي إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

[سورة المؤمنون (23): آية 34]

يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ أي منه أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ أي فيما يأمركم به وينهاكم عنه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بالانقياد لمثلكم، قال النسفي: ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أي مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب هَيْهاتَ هَيْهاتَ أي بعد بعد لِما تُوعَدُونَ من العذاب أو من البعث إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن فيأتي قرن آخر وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي بعد الموت إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له، وفيما يعدنا من البعث وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ استفتح عليهم الرسول، واستنصر ربه عليهم فأجاب دعاءه قالَ عَمَّا قَلِيلٍ أي عن قليل لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ إذا عاينوا ما يحل بهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ قال النسفي: أي صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم بِالْحَقِّ أي بالعدل من الله أي كانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً شبههم في دمارهم بالغثاء: وهو حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان فَبُعْداً أي هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي الكافرين ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ أي أمما وخلائق، كقوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي ما تسبق أمة أَجَلَها المكتوب لها، والوقت الذي حد لهلاكها وكتب وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي لا يتأخرون عنه يعني: بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم الله تعالى في كتابه المحفوظ ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أي متتابعين واحدا بعد واحد قال ابن عباس: يتبع بعضهم بعضا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها المرسل إليها كَذَّبُوهُ أي جمهورهم وأكثرهم فَأَتْبَعْنا الأمم والقرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي أخبارا وأحاديث للناس قال النسفي: أخبارا يسمع بها ويتعجب منها، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث، ومنه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون جمعا للأحدوثة وهو ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا وهو المراد هنا فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي فهلاكا لقوم كافرين ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي وحجة ظاهرة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا أي امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعا وتكبرا

[سورة المؤمنون (23): آية 47]

وَكانُوا قَوْماً عالِينَ أي متكبرين مترفعين فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما أي بنو إسرائيل لَنا عابِدُونَ أي خاضعون مطيعون وكل من دان لملك فهو عابد له عند العرب فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ أي لعل قومه يَهْتَدُونَ أي يعملون بشرائعها ومواعظها وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً تدل على قدرتنا على ما نشاء لأنه خلق من غير نطفة وكان هو وأمه آية لأن الأعجوبة فيهما واحدة وَآوَيْناهُما أي جعلنا مأواهما أي منزلهما إِلى رَبْوَةٍ أي إلى أرض مرتفعة ذاتِ قَرارٍ أي مستقر من أرض مستوية منبسطة، أو ذات ثمار وماء، لأنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها وَمَعِينٍ أي وماء ظاهر جار على وجه الأرض قال النسفي: وهي بيت المقدس أو دمشق أو الرملة أو مصر. وقال ابن كثير: وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: المعين: الماء الجاري وهو النهر الذي قال الله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلال وَاعْمَلُوا صالِحاً أي موافقا للشريعة قال ابن كثير: فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، وقال النسفي (هذا الخطاب والنداء ليسا على ظاهرهما؛ لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصي به، ليعتقد السامع أن أمرا نودي به جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به، ويعمل عليه أو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله ومقامه مقام الكل في زمانه، وكان يأكل من الغنائم، أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره، وكان يأكل من غزل أمه، وهو أطيب الطيبات، والمراد بالطيبات ما حل والأمر للتكليف، أو ما يستطاب يستلذ والأمر للترفيه والإباحة) إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فأجازيكم على أعمالكم وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ يا معشر الأنبياء والرسل أُمَّةً واحِدَةً ملة واحدة، وشريعة واحدة، ودينا واحدا وَأَنَا رَبُّكُمْ وحدي فَاتَّقُونِ أي فخافوا عقابي في مخالفتكم أمري فَتَقَطَّعُوا أي قطعت الأمم أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً أي قطعا يعني: جعلوا دينهم أديانا، يعني قطعت الأمم أمر الأنبياء قطعا، وأخذت كل طائفة قطعة، وأمرهم واحد، وعن الحسن: قطعوا كتاب الله قطعا، وحرفوه كُلُّ حِزْبٍ أي كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم بِما لَدَيْهِمْ من الهوى والرأي فَرِحُونَ مسرورون معتقدون أنهم على الحق، ولهذا قال: متوعدا فَذَرْهُمْ أي فدعهم فِي غَمْرَتِهِمْ أي في

[سورة المؤمنون (23): الآيات 55 إلى 56]

جهالتهم وغفلتهم حَتَّى حِينٍ أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا، ومعزتهم عندنا! كلا ليس الأمر كما يزعمون، لقد أخطئوا في ذلك، وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء بَلْ لا يَشْعُرُونَ أنه استدراج لهم؛ لأنهم لا يتأملون ليدركوا أنهم لا يستأهلون، فيعرفوا أنهم مستدرجون والمعنى: أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، ومعالجة بالثواب، جزاء على حسن صنيعهم. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ قال ابن كثير: قال الحسن البصري في قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قال: أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال انتهوا إلى الحلال منه، وقال سعيد بن جبير والضحاك كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ يعني: الحلال، وقال أبو إسحاق السبيعي ...... كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه. وفي الصحيح «وما من نبي إلا رعى الغنم» قالوا: وأنت يا رسول الله؟ - قال «نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» وفي الصحيح «أن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده» وفي الصحيحين «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» وروى ابن أبي حاتم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله بنت شداد بن أوس قالت: بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم، وذلك في أول النهار، وشدة الحر، فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله بنت شداد فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر فرددت إلى الرسول فيه فقال لها: «بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا» وقد ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له من حديث فضيل بن مرزوق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ

كلمة في السياق

وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب فأنى يستجاب لذلك، وقال الترمذي: حسن غريب. 2 - بمناسبة قوله تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟ قال غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث». كلمة في السياق: لاحظنا أن المجموعة الأولى من السورة حددت صفات المؤمنين وبشرتهم، وأن المجموعة الثانية ذكرت ما يعمق الإيمان وما يقويه وما يبعث عليه، وجاءت المجموعة الثالثة وبها تم المقطع، لتذكر من خلال قصة قوم نوح ومن بعده بجزاء الكافرين فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ، ولتذكر بعناية الله بالمؤمنين، ولتصحح مفاهيم وأغاليط كافرة، ثم لتنتهي بدعوة الرسل، ومن باب أولى الخلق كلهم إلى أكل الحلال والعمل الصالح، لتصل إلى وحدة الأمة الإسلامية، وبالتالي وحدة مواقفها، ثم لتحدد ما ينبغي فعله في مقابل الكفر، وتصحح مفهوما خاطئا، هو أن الخير الدنيوي ليس مقياس الحق والرضا من الله، فالسورة إذن تتعانق مجموعاتها لتخدم قضية الإيمان والعمل الصالح، ومن ثم نلاحظ أن المجموعة الثالثة بعد أن قصت علينا شيئا من سير الأنبياء، وصلت إلى القول يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً وقد ذكرنا من قبل الصلة بين العمل الصالح، وأكل الحلال، وواضح أن العمل الصالح يخدم قضية الإيمان ويعمقها، فلنر محل هذه المجموعة بالنسبة للسياق القرآني العام:

1 - ذكرنا أن محور سورة المؤمنون وهو الآيات الخمس من سورة البقرة المبدوءة بقوله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...... والآتية في حيز قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وكما أن الآيات الخمس في سورة البقرة تخدم هذا الأمر، فإننا نلاحظ أن السورة التي تفصل هذه الآيات الخمس تخدم هذا الأمر، ومن ثم نلاحظ في المجموعة التي بين أيدينا مجيء قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ* فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وكما أننا فهمنا من الآيات الخمس الآتية في حيز هذا الأمر في سورة البقرة: أنه وجد كفر وكافرون، وفساد ومفسدون، فإن سياق المجموعة دلنا على أنه وجد كفر وكافرون في كل زمان ومكان كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ .... وإذن فكما أن للآيات الخمس في سورة البقرة صلة في الأمر يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ..... فلهذه المجموعة ولسورة المؤمنين كلها صلة بهذا الحيز. 2 - الآية الأولى من الآيات الخمس هي وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..... هذه الآية خدمتها هذه المجموعة، من حيث عرضت لنا نموذجا للمؤمنين الكاملين، المتمثلين بالرسل عليهم الصلاة والصلام والسلام، بدليل أنها ذكرت بعد ما ذكرت الرسل يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً .... إن تقرير وحدة الرسالات والإنكار على من فرق أمر الرسل، وذكر اشتراك الرسل بالإيمان والعمل الصالح، وفي فعل الله للرسل وبهم من نصر وهداية ورعاية كل ذلك نمط من التبشير لأهل الإيمان. 3 - نهاية الآية الثانية من الآيات الخمس والآية الثالثة منها وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وفي ذكر ما فعل الأقوام برسلهم وما قالوه، وما حل بهم، نماذج على هذه الأخلاق، ونماذج على الخسارة، وفي ذكر إيتاء موسى الكتاب لعلهم يهتدون، نموذج على سنة الله في إنزاله الكتب. 4 - الآية الرابعة من الآيات الخمس في سورة البقرة هي قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ .... وفي هذه الآية تدليل على الإيمان، وإنكار

وفي نهاية هذه الكلمة أذكر هذه الملاحظة

على الكفر، وفي ذكر قصة عيسى وأمه وكونهما آية، إشارة إلى نوع من خلق الحياة هو وحده دليل على وجود الله. 5 - الآية الخامسة من الآيات الخمس هي: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هذه الآية خدمها في المجموعة قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ إذ أباحت وطالبت، فإباحة ما في الأرض يقتضي عملا صالحا، وفي قوله تعالى بعد ذلك وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ما يشير إلى أن أدب الأمة الإسلامية في كل العصور، أكل الطيبات والعمل الصالح، ثم يأتي قوله تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ مشيرا إلى أن الحجة على الكفر قائمة، وإذا كان عند الكافرين تصور خاطئ هو ارتباط فكرة الرخاء عندهم بفكرة رضى الله فقد صحح الله لهم هذا المفهوم أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ وإذن فالمجموعة الثالثة- كسابقتها- قد خدمت محور السورة؛ ففصلت نوع تفصيل الآيات الخمس في سورة البقرة مع خدمة حيز هذه الآيات في سورة البقرة. ... وفي نهاية هذه الكلمة أذكر هذه الملاحظة: في سورة البقرة ورد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وردت هذه الآية هناك، ولم يرد مباشرة ماذا يترتب على ذلك، وفي سورة المؤمنون يرد قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لاحظ أن آية سورة البقرة مختومة بقوله تعالى وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وأن آية سورة المؤمنون مختومة بقوله تعالى إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وأن الأمر: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ هو مقتضى الإباحة في قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وأن الأمر وَاعْمَلُوا صالِحاً هو مقتضى الشكر على الإباحة، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أفلا ترى أن مجيء هذه الآية بعد ذكر المجموعة الثانية التي فصلت بعض آثار قدرة الله، وذكرت أمهات نعمه، ألا ترى أن ذلك كله مفهوم الاتصال، مفهوم الروابط!!. ...

كلمة في المقطع الأول

وبعد، فإن المجموعات الثلاث التي مرت معنا في سورة المؤمنون تشكل المقطع الأول من هذه السورة، وقبل أن نبدأ عرض المقطع الثاني والأخير من السورة فلنذكر كلمة حول المقطع الأول. كلمة في المقطع الأول: بشر المقطع الأول أهل الإيمان والعمل الصالح بالجنة، وعرض خلال ذلك مجموعة الأخلاق والأعمال التي بها استحقوا ذلك، ثم عرض علينا مظاهر من أفعاله جل جلاله، تقتضي منا إيمانا وعملا وشكرا، ثم قص علينا من قصص الأنبياء ما فيه موعظة وتذكير وتحذير، ثم خاطب الرسل مطالبا إياهم بالعمل الصالح في مقابل أكل الطيبات، ثم بين لنا أن أمتنا واحدة، ومن ثم فإن كل مسلم مطالب بالعمل الصالح وأكل الحلال، ثم أنكر على من تقطع أمر الأنبياء، ثم بين أن مجرد السعة في الرزق لا تعني رضا الله؛ إذ رضا الله مرتبط- كما مر معنا من قبل- بالإيمان والعمل الصالح، وسار المقطع، كما رأينا من قبل- مفصلا لخمس آيات من سورة البقرة، حتى وصل السياق إلى ما وصل إليه، وهو أنه لا بد من العمل الصالح، وإن من يتوهم أن رضوان الله علامته السعة في الدنيا فهو خاطئ، إن رضوان الله علامته التوفيق إلى العمل الصالح الذي يستحق أهله البشارة، والذي هو الشكر العملي على إباحة الله للإنسان الطيبات، وبعد أن تستقر هذه المعاني يأتي المقطع الثاني: المقطع الثاني ويمتد من الآية (57) إلى نهاية الآية (118) أي إلى نهاية السورة. نلاحظ أن المقطع الثاني يتألف من أربع مجموعات، أو مقدمة ومجموعتين وخاتمة، المقدمة تتحدث عن الخصائص التي إذا وجدت وجد العمل الصالح، كما تتحدث عن كون التكليف بالعمل الصالح إنما هو بقدر الطاقة، ثم تتحدث عن الكافرين وحالهم في الرخاء وأعمالهم، ثم تأتي مجموعتان، ثم يختتم المقطع بخاتمة. ومن هذه الكلمة المختصرة عن المقطع ندرك أن المقطع الثاني على صلة كاملة بالمقطع الأول، فهو يربي على العمل الصالح، ويبين مرتكزاته النفسية، ويعالج موانعه، وينذر الكافرين الذين لا يؤمنون فيعملون. ونحن سنعرض المقطع على أنه مجموعات أربع، ونبين خلال العرض صلة آياته بسياق السورة الخاص والعام.

المجموعة الأولى وهي مقدمة المقطع الثاني

المجموعة الأولى وهي مقدمة المقطع الثاني وتمتد من الآية (57) إلى نهاية الآية (63) وهذه هي: [سورة المؤمنون (23): الآيات 57 الى 63] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) التفسير: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي: خائفون، قال ابن كثير، أي: هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله، خائفون منه وجلون من مكره بهم، كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي: يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، ومن ذلك كتبه، فلا يفرقون بين كتبه ولا بين معنى ومعنى في كتاب، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم، كأهل الكتاب وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ أي: لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله الأحد الصمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له ولا كفء له وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي: خائفة ألا تقبل منهم بتقصيرهم. قال ابن كثير: أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون ألا يتقبل منهم

[سورة المؤمنون (23): آية 61]

لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي: لأنهم إلى ربهم راجعون أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يرغبون في الطاعات فيبادرونها وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي: وهم لأجل الخيرات سابقون إلى الجنان، أو لأجلها سبقوا الناس. كلمة في السياق: بينت الآيات أن من اجتمعت له هذه الخصائص الأربع وهي الخشية، والإيمان، والتوحيد، وتقديم العطاء، مع الوجل من عدم القبول، هو الذي يسارع في العمل الصالح، وعلى هذا فبعد أن بشرت السورة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وأوصلت إلى ضرورة ذلك بينت هذه الآيات ما هي الخصائص التي ينبع عنها العمل الصالح، ولنعد إلى التفسير: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: طاقتها يعني أن الذي وصف به الصالحون وطولب به الإنسان من العمل الصالح، غير خارج عن حد الوسع والطاقة وَلَدَيْنا كِتابٌ هو اللوح، أو صحيفة الأعمال يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان، ولا يظلم منهم أحدا بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، أو بتكليف ما لا وسع له به بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي ولهم أعمال خبيثة متجاوزة متخطية لذلك، أي: لما وصف به المؤمنون هُمْ لَها عامِلُونَ وعليها مقيمون لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب. ... كلمة في السياق: بعد أن بينت السورة ضرورة العمل الصالح، ومن هم أهله، بينت أن التكليف بحسب الوسع، ثم بينت أن الكافرين غافلون عن العمل الصالح، وغارقون في العمل السيئ دل ذلك على أن العمل الصالح أثر عن حال معينة للقلب وأن العمل السيئ أثر عن

حال معينة للقلب. والآن نلاحظ أن كلمة (حتى) تتكرر ثلاث مرات بعد قوله تعالى بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ 1 - حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ الآية 64. 2 - حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ الآية 77. 3 - حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الآية 99، 100. ومن الآيات السابقة ندرك الآن سير السورة، فالكافرون قلوبهم في غمرة، وقد أنذرهم الله ثلاثة أشياء ليخرجهم من هذه الغمرة، ثم يأتي الإنذار الأخير في السورة فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ... فهو إنذار رابع للكافرين الذين يعملون السيئات، إن السورة تبشر الذين يعملون الصالحات، وتنذر الذين يعملون السيئات، والسورة تبين ماهية العمل الصالح، وما هي مرتكزاته وأسبابه ودوافعه. وتبين العمل السيئ وأسبابه ودوافعه ومرتكزاته. وها نحن سنعرض عليك المجموعة الثانية في المقطع الثاني بعد أن ذكرنا بعض مفاتيح السياق. ***

المجموعة الثانية من المقطع الثاني

المجموعة الثانية من المقطع الثاني وتمتد من الآية (64) إلى نهاية الآية (77) وهذه هي: [سورة المؤمنون (23): الآيات 64 الى 77] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) ***

التفسير

التفسير: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي متنعميهم بِالْعَذابِ في الدنيا إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يصرخون استغاثة إذ الجؤار: هو الصراخ باستغاثة فيقال لهم: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فإن الجؤار غير نافع لكم إِنَّكُمْ مِنَّا أي: من جهتنا لا تُنْصَرُونَ لا يلحقكم نصر أو معونة، قال ابن كثير: أي: لا يجيركم أحد مما حل بكم، سواء جأرتم أو سكتم، لا محيد ولا مناص ولا وزر، لزم الأمر، ووجب العذاب، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: قَدْ كانَتْ آياتِي أي: القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي: ترجعون القهقرى، النكوص: هو أن يرجع الإنسان القهقرى، وهي أبشع مشية لأنه لا يرى ما وراءه، والمعنى: إذا دعيتم أبيتم، وإذا طلبتم امتنعتم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي متكبرين بالبيت أو بالحرم عن قبول الحق، كأنكم أهل الحرم أكبر من أن تكلفوا، أو مستكبرين بالقرآن، ومعنى استكبارهم به: تكذيبهم به استكبارا سامِراً تَهْجُرُونَ الهجر: الهذيان من القول، والفحش فيه، والسمر معروف، والمعنى: تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن، وتسميته شعرا وسحرا، وقال النسفي: والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين، فيصدقوا به وبمن جاء به أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أي بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، فلذلك أنكروه واستبعدوه أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمدا بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق؟ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ بغيا وحسدا، فقد عرفوه بصفاته وأنكروه أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلا، وأثقبهم ذهنا بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ الأبلج والصراط المستقيم، وبما خالف شهواتهم وأهواءهم، وهو التوحيد والإسلام، ولم يجدوا له مردا، ولا مدفعا، فلذلك نسبوه إلى الجنون وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ الأكثرون منهم يعرفون الحق ولا يؤمنون كراهة له، وبعضهم- وهم الأقل- لم يكونوا كارهين للحق- بل كانوا تاركين للإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ أقوامهم، وأن يقولوا صبئوا وتركوا دين آبائهم، كأبي طالب وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أي الله عزّ وجل أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قال ابن كثير: والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى، وشرع الأمور على وفق ذلك، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم

[سورة المؤمنون (23): آية 72]

واختلافها بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي الكتاب الذي هو ذكرهم، أي وعظهم أو شرفهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم والقرآن بلغتهم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي بسوء اختيارهم أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي أجرا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي أفضل المعطين، أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو دين الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ. أي لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ مما يجأرون إلى الله بإزالته لَلَجُّوا أي لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يترددون يعني: لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي فما خضعوا ولا خشعوا وَما يَتَضَرَّعُونَ أي وما يدعون الله حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ يعمهم جميعا إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي متحيرون آيسون من كل خير. نقل: عند قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ... قال صاحب الظلال: (فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يدبر الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سننه لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس؛ وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول، وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد، والانفعالات والتأثيرات .. وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد. ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة

فوائد المجموعتين

البشرية جزءا من الناموس الكوني، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله، وتنسق أجزاءه جميعا. والبشر جزء من هذا الكون، خاضع لناموسه الكبير، فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، ويدبره في تناسق عجيب. بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ. فوائد المجموعتين: 1 - عند قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزّ وجل؟ قال: لا يا بنت الصديق: ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عزّ وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم وقال «لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم». 2 - رأينا أن بعض المفسرين فسروا قوله تعالى أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ فسروها بقولهم هم لأجلها سابقون، ويمكن أن يكون المعنى أن من اتصف بهذه الصفات يسبق الخيرات ويتقدم عليها بمعنى: أنه إذا مشى فالخير يمشي على أثره. 3 - بمناسبة قوله تعالى بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ قال ابن كثير: (وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا «فقال له: أسلم» فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كنت كارها» وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له «أسلم» فتصعده ذلك وكبر عليه، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث، فلقيت رجلا تعرف وجهه، وتعرف نسبه، فدعاك إلى طريق واسع سهل، أكنت تتبعه؟ - قال نعم، وقال: فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو كنت عليه، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له «أسلم» فتصعده ذلك فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «أرأيت لو كان لك فتيان أحدهما: إذا حدثك صدقك، وإذا ائتمنته أدى إليك. أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك، وإذا ائتمنته خانك؟» قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني، وإذا ائتمنه أدى إلي، فقال نبي

الله صلى الله عليه وسلم: «كذا كم أنتم عند ربكم». 4 - بمناسبة قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذكر ابن كثير هذين الحديثين: أ- روى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان، قعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثل هذا ومثل أمته، كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة، وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم، وأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا: بلى، قال: فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتبعوني، قال: فقالت: طائفة: صدق والله لنتبعنه، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه». ب- وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله «إني ممسك بحجزكم هلم عن النار، هلم عن النار، وتغلبونني تتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب، فأوشك أن أرسل حجزكم، وأنا فرطكم على الحوض، فتردون علي جمعا وأشتاتا، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله، فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال، فأناشد فيكم رب العالمين، أي رب قومي أي رب أمتي فيقال يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد، يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي يا محمد يا محمد، فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد، فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت».

كلمة في السياق

5 - بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز- يعني الوبر والدم- فأنزل الله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا الآية، وكذا رواه النسائي، وأصله في الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» وروى ابن أبي حاتم عن وهب بن عمر ابن كيسان قال: حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء: ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله؟ فقال وهب: نحن في طرف من عذاب الله، والله يقول: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ قال: وصام وهب ثلاثا متواصلة، فقيل له ما هذا الصوم يا أبا عبد الله؟ قال أحدث لنا فأحدثنا: يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة). كلمة في السياق: بعد المجموعة الأولى التي حددت صفات من يسارع إلى الخيرات، وبينت أن التكليف بحسب الطاقة وأن بعض القلوب في غمرة من مثل هذه الخصائص، وأعمال أصحابها سيئة، جاءت هذه المجموعة المبدوءة ب حَتَّى والمنتهية ب حَتَّى والتي ذكر فيها نوعان من المنبهات: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ الأولى افتتحت بها المجموعة. والثانية ختمت بها المجموعة. والذي أفهمه أن الله عزّ وجل أشار في الآيتين إلى نوعين من العذاب: عذابا يخص به، وعذابا يعم به. وكنموذج على العذابين في زمن النبوة: ضربة بدر، إذ أصابت في الغالب المترفين، ثم تسليط القحط على قريش حتى أكلوا الوبر بالدم. وكنموذج على العذابين في بلاد الإسلام: أن سلط الله الأنظمة المتطرفة على المترفين أولا، ثم عم بعذاب هذه الأنظمة الأمة. ففي العذاب الأول لا نرى أحدا يتعظ، وفي العذاب الثاني ييأس الناس. وفي ذكر هذين النوعين من العذاب تخليص للمسلم المؤمن من الغمرة إن أصابته، وفيما بين العذابين ذكر الله الأدلة، ووجه النظر، وأقام الحجة على الإيمان لاستخراج العمل الصالح، والآن تأتي مجموعة تذكر بفعل الله للإنسان، وصلة ذلك بقضية اليوم الآخر، والرد على من أنكره، وفيها أوامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتختم المجموعة بكلمة حَتَّى كما ختمت المجموعة السابقة.

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (78) حتى نهاية الآية (100) وهذه هي: [سورة المؤمنون (23): الآيات 78 الى 100] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

التفسير

التفسير: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي العقول التي يعتبرون بواسطتها بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله، وأنه الفاعل المختار، وقد خص الله عزّ وجل هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية، مما لا يتعلق بغيرها قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم أي تشكرون شكرا قليلا. والمعنى: أنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم، ووضعتموها في غير مواضعها، فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم في آيات الله وأفعاله، ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشكروا له وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم، وبثكم بالتناسل وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي النسم بالإنشاء ويميتها بالإفناء وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ المراد مجيء أحدهما عقيب الآخر، أو اختلافهما في الظلمة والنور، أو في الزيادة والنقصان، واختلافهما مختص به وحده، ولا يقدر على تصريفهما غيره عزّ وجل أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفليس لكم عقول تعرفون بها قدرتنا على البعث، أو تستدلون بواسطتها بالصنع على الصانع فتؤمنون بَلْ قالُوا أي الكافرون والمشركون مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي الكفار قبلهم، ثم بين ما قالوا قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا أي بالبعث مِنْ قَبْلُ أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي اختلافات الأولين، فالأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة هي الشئ المختلق.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: إن سورة المؤمنون محورها الآيات الخمس التي آخرها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والملاحظ أن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومن ثم فإن في آية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً تدليلا على وجود الله، وتدليلا على اليوم الآخر. وقد لاحظنا أن المقطع الأول انتهى بالتذكير بما ينبغي أن يكون عليه الناس من شكر المنعم، والآن يعود السياق إلى ذكر النعم أي إلى تفصيل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ......... وعقب على ذلك بذكر إنكارهم لليوم الآخر، ولو تذكرنا محور السورة لأدركنا الصلة بين الموضوعين، فلنر كيف ردت المجموعة على إنكارهم لليوم الآخر: ... قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات، إن كان عندكم علم؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لأنهم يقرون بأنه الخالق، فإذا أقروا بذلك قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها، كان قادرا على إعادة الخلق وكان حقيقا بألا يشرك به بعض خلقه في الربوبية قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي من هو خالق العالم العلوي سماواته وعرشه!؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ. وإذا اعترفوا بمالكية الله له فقد اعترفوا بربوبيته وإذا اعترفوا: قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون فلا تشركون به، أو أفلا تتقون في جحودكم قدرته على البعث، مع اعترافكم بقدرته على خلق الأشياء قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي بيده الملك وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أي سيعرفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله وحده لا شريك له قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك، وكيف تذهب عقولكم فلا تؤمنون باليوم الآخر. قال النسفي في تفسير تسحرون: تخدعون عن الحق، أو عن

[سورة المؤمنون (23): آية 90]

توحيده وطاعته والخادع هو الشيطان والهوى بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ في أمر العبادة والتقوى والتصورات والعقائد والشعائر والمشاعر وكل شئ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في دعواهم الإيمان بالله، وفي إنكارهم اليوم الآخر، وفي كل موقف خالف الإسلام. كلمة في السياق: نلاحظ أن الأسئلة التي وجهت في هذه الفقرة لها صلة بقوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كما أنها كانت ردا شاملا لإنكارهم اليوم الآخر، مع تركيزها على الإيمان الصحيح بالله، ومن ثم تأتي الآن آيتان تنفيان اتخاذ الله ولدا وتنفيان الشرك. ... مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لأنه منزه عن النوع والجنس، وولد الرجل من جنسه وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أي وليس معه شريك في الألوهية إذ لو كان إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي لانفرد كل واحد من الآلهة بالذي خلقه فاستبد به، ولتميز ملك كل واحد منهم عن الآخر وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي ولغلب بعضهم بعضا، وإذ لم تروا أثرا لتمايز الممالك، وللتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شئ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والأولاد عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدس وتنزه، وتعالى عزّ وجل عما يقول الظالمون والجاحدون، وإذ قامت الحجة على الكفر والشرك يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لكل مسلم: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي إن كان لا بد أن تريني ما تعدهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ قال ابن كثير: (أي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحنة). وقال النسفي: (كانوا ينكرون الموعد بالعذاب، ويضحكون منه، فقيل لهم إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم فما وجه هذا الإنكار). قال ابن كثير: (ثم قال تعالى مرشدا له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسئ إليه، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة فقال تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ادفع بالخصلة التي هي أحسن السيئة). قال النسفي: وهو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة، لما فيه من التفضيل، كأنه قال ادفع بالحسنى السيئة، والمعنى:

[سورة المؤمنون (23): آية 97]

اصفح عن إساءتهم وقابلها بالإحسان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما مفسرا الحسنى بأنها: شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة: بأنها الشرك، وهناك اتجاهات كثيرة في تفسير الحسنة والسيئة، قال بعضهم مفسرا الآية: ادفع الفحش بالسلام، والمنكر بالموعظة، وذهب بعضهم في الآية إلى أنها منسوخة، وقال آخرون: إنها محكمة إذ المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ من الشرك والأذى وغير ذلك فنجازيهم عليه وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي من وساوسهم ونخساتهم. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا، أو عند تلاوة قرآن أو عند النزع. كلمة في السياق: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيتين الأخيرتين: أن يدعو دعوتين، وأمره قبل ذلك أن يدفع السيئة بالحسنة، ومن ذلك نفهم أن دفع السيئة بالحسنة يحتاج إلى استعاذة بالله من الشيطان، إذ النفس يصعب عليها هذا المقام، والشيطان يستغل هذه الصعوبة، ومجيء أمر الدفع بالحسنة بعد الدعاء بألا يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب الظالمين، يشير إلى الحالة الشعورية التي ينبغي أن يكون عليها المسلم، حتى وهو يحسن ويصفح، ومجيء هذه المعاني في سياق الأمر بالإيمان والعمل الصالح يذكرنا بأن هذه الأمور من الأعمال الصالحة، ومن مقتضيات الإيمان، والآن تأتي آخر آية في المجموعة وهي تحذر من ترك الإيمان والعمل الصالح. ... حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي لا يزالون يكفرون ويعملون السيئات إلى هذا الوقت قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي ردوني إلى الدنيا لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي في الموضع الذي تركت، وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى، قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهل، ولا إلى عشيرة، ولكن ليتدارك ما فرط كَلَّا حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ أي حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي، لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى

كلمة في السياق

الآخرة. كلمة في السياق: في قوله تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ مفتاح من مفاتيح السياق، فالعمل الصالح أحد مواضيع السورة الرئيسية الموجودة في المحور، وهذه الآية التي استقر عليها سياق المجموعة التي بين أيدينا، تدل على ذلك، ثم إن هذه الآية تشكل التهديد الثالث في هذا السياق للذين قلوبهم في غمرة عن الحق، ويعملون السيئات. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ينقل ابن كثير نقولا حول العرش قال: (كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سماواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة، وفي الحديث الآخر: «ما السماوات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» ولهذا قال بعض السلف: إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة. وقال الضحاك عن ابن عباس: إنما سمي عرشا لارتفاعه، وقال الأعمش عن كعب الأحبار: إن السماوات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض. وقال مجاهد: ما السماوات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة. وقال ابن أبي حاتم: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: العرش لا يقدر قدره أحد، وفي رواية إلا الله عزّ وجل). 2 - وبمناسبة قوله تعالى مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ذكر ابن كثير دليل التمانع الذي يتحدث عنه المتكلمون قال: (وعبروا عنه بدليل التمانع وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم، والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزا، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد فيكون محالا، فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر كان الغالب هو الواجب، والآخر المغلوب ممكنا، لأنه لا يليق

بصفة الواجب أن يكون مقهورا ولهذا قال تعالى: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد، أو الشريك علوا كبيرا عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تقدس وتنزه وتعالى وعزّ وجل عما يقول الظالمون والجاحدون). 3 - وعند قوله تعالى وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ قال ابن كثير: (أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف، وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» وقوله تعالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي في شئ من أمري، ولهذا أمر بذلك الله في ابتداء الأمور، وذلك لطرد الشيطان عند الأكل، والجماع، والذبح، وغير ذلك من الأمور، ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» وروى الإمام أحمد: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع: «بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق وقال الترمذي حسن غريب. 4 - بمناسبة قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال ابن كثير: (وقال قتادة في قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قال: كان العلاء ابن زياد يقول: لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل في طاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا قوة إلا بالله، وعن محمد بن كعب القرظي نحوه، وروى محمد بن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: إذا وضع- يعني الكافر- في قبره فيرى مقعده من النار قال فيقول: رب ارجعون أتوب وأعمل

المجموعة الرابعة وهي خاتمة السورة

صالحا، قال فيقال قد عمرت ما كنت معمرا، قال فيضيق عليه قبره ويلتئم، فهو كالمنهوش ينام ويفزع، تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها، وروى أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أودهم، حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيان في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ يعني أمامهم. وقال مجاهد: البرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة. وقال محمد بن كعب: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم. وقال أبو صخر البرزخ: المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون، وفي قوله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ كما قال تعالى مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وقال تعالى وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ وقوله تعالى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث كما جاء في الحديث «فلا يزال معذبا فيها» أي في الأرض). المجموعة الرابعة وهي خاتمة السورة وتمتد من الآية (101) حتى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (118) وهذه هي: [سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 118] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

كلمة بين يدي المجموعة الرابعة

كلمة بين يدي المجموعة الرابعة: لقد تدرج الإنذار في هذا المقطع، أنذرهم أولا بأخذ المترفين، ثم أنذرهم بأخذ الجميع، ثم أنذرهم بالموت، وها هي المجموعة الرابعة تنذرهم باليوم الآخر. ... التفسير: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة النشور وهي النفخة الثانية فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ يعني في ذلك اليوم يقع التقاطع بينهم، حيث يتفرقون مثابين ومعاقبين، فيومئذ لا يكون التواصل بينهم بالأنساب، وإنما بالأعمال وَلا يَتَساءَلُونَ أي سؤال

[سورة المؤمنون (23): آية 102]

تواصل كما كانوا في الدنيا، لأن كلا مشغول عن سؤال صاحبه بحاله والجمع بين هذا وبين قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ*، أن للقيامة مواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون فيتساءلون فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ قال النسفي: جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن، وقدر عند الله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. كلمة في السياق: لاحظ بداية السورة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ولاحظ قوله تعالى هنا فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثم لاحظ الآية اللاحقة فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ تجد أن السورة كلها تصب مصبا واحدا، الفلاح للمؤمنين، الخسار للكافرين، وتذكر بعد ذلك محور السورة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..... وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ .... أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بالسيئات والمراد بهم في هذا المقام الكفار فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي غبنوها فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي ماكثون فيها، دائمون مقيمون فلا يظعنون تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرقها وَهُمْ فِيها كالِحُونَ أي عابسون فيقال لهم تقريعا وتوبيخا لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ في الدنيا فَكُنْتُمْ بِها بألفاظها ومعانيها تُكَذِّبُونَ وتزعمون أنها ليست من الله تعالى قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي ملكتنا شقوتنا أي شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي ضائعين عن الحق والصواب رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أي من النار فَإِنْ عُدْنا إلى الكفر والتكذيب والعمل السيئ فَإِنَّا ظالِمُونَ أي لأنفسنا قالَ اخْسَؤُا فِيها أي اسكتوا سكوت ذلة وهوان وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب عنكم، فإنه لا يرفع ولا يخفف، قال النسفي: قيل هو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير إِنَّهُ أي إن الأمر والشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم عن ذكري فتركتموه، أي كان التشاغل بهم سببا لنسيانكم معاملتي فلا ذكر ولا اتباع للذكر وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ استهزاء

[سورة المؤمنون (23): آية 111]

من صنيعهم وعبادتهم وأشخاصهم إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على أذاكم لهم، واستهزائكم بهم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي جعلتهم هم الفائزين بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار قالَ الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي كم كانت إقامتكم في الدنيا قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم في النار، لما هم فيه من عذابها، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي المؤرخين، أو الملائكة الذين يعدون أعمار العباد وأعمالهم قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي ما لبثتم إلا قليلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صدقهم الله تعالى في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي عابثين أي أظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة ولا حكمة وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي لا تعودون في الدار الآخرة أي بل خلقناكم للتكليف، ثم للرجوع من دار التكليف إلى دار الجزاء فنثيب المحسن ونعاقب المسيء فَتَعالَى اللَّهُ أي عن أن يخلق عبثا الْمَلِكُ الْحَقُّ ومن كان الملك الحق فإنه لا يتصرف تصرفا عابثا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تتنزل منه، أو لنسبته لأكرم الأكرمين وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي لا حجة له به، وليس إلا الله تقوم الحجة على ألوهيته فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. أي جزاؤه عند ربه، أي فهو يجازيه لا محالة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لديه يوم القيامة إنه لا فلاح لهم ولا نجاة، قال النسفي: (جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وخاتمتها إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فشتان بين الفاتحة والخاتمة، ثم علمنا سؤال المغفرة والرحمة بقوله وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ثم قال وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ لأن رحمته إذا أدركت أحدا أغنته عن رحمة غيره، ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته). كلمة في السياق: أنذرت هذه المجموعة باليوم الآخر، مبينة عاقبة المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وعاقبة الكافرين الذين يعملون السيئات، ثم أقامت الحجة على الكافرين يوم القيامة، وختمت ببيان عاقبة المشركين، وأمرت بطلب المغفرة من الله، ولذلك صلاته بسياق السورة الخاص وبمحورها.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ قال ابن كثير: (وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه، قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته، وإن كان صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ رواه ابن أبي حاتم، وروى الإمام أحمد عن المسور- هو ابن مخرمة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة بضعة مني، يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» وهذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما آذاها» وروى الإمام أحمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر «ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم، قال رجل يا رسول الله أنا ابن فلان، فأقول لهم: أما النسب فقد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى» وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفا إعظاما وإكراما رضي الله عنه، فقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .... عن محمد ابن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» وروي عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «سألت ربي عزّ وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلى أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك». 2 - بمناسبة قوله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ نقل ابن كثير: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَهُمْ فِيها

كالِحُونَ قال: تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» ورواه الترمذي وقال حسن غريب. 3 - بمناسبة قوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ قال ابن كثير: (وقال ابن أبي حاتم: عن عبد الله بن عمرو قال «إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم» إِنَّكُمْ ماكِثُونَ قال هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك، ثم يدعون ربهم فيقولون رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ. رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قال فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ قال فو الله ما نبس القوم بعد بكلمة واحدة، وما هو إلا الشهيق والزفير في نار جهنم، قال فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير، أولها شهيق وآخرها زفير، وقال ابن أبي حاتم أيضا قال عبد الله بن مسعود: إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحدا أي من جهنم غير وجوههم وألوانهم، فيجئ الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول يا رب فيقول الله: من عرف أحدا فليخرجه، فيجئ الرجل من المؤمنين، فينظر فلا يعرف أحدا، فيناديه الرجل يا فلان أنا فلان فيقول: ما أعرفك قال: فعند ذلك يقول رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فعند ذلك يقول الله تعالى اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد). 4 - بمناسبة قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه يسمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، قال لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم قال: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين». 5 - بمناسبة قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً قال ابن كثير: (قال ابن أبي حاتم: عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز: بعد أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم، والفصل

بينكم، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردون إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عزّ وجل، قد قضى نحبه وانقضى أجله، حتى يغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأحباب وباشر التراب وواجه الحساب، مرتهن بعمله غني عما ترك، فقير إلى ما قدم، فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم، ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله. وقال ابن أبي حاتم إن رجلا مصابا مر به على عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الآية أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ .... حتى ختم السورة، فبرأ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بماذا قرأت في أذنه؟ «فأخبره فقال له «إنها إذا قرئت في أذنه أحرقته، أي أحرقت الشيطان» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» وروى أبو نعيم عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ قال فقرأناها فغنمنا وسلمنا. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينةبسم الله الملك الحق، وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون، بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم». 6 - وبمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ قال ابن كثير: قال قتادة: ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل «ما تعبد؟» قال أعبد الله، وكذا وكذا، حتى عد أصناما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك؟» قال: الله عزّ وجل. قال «فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها؟» قال: الله عزّ وجل. وقال: «فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه» قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلمون ولا يعلمون» فقال الرجل بعد ما أسلم: لقيت رجلا خصمني. هذا مرسل من هذا الوجه، وقد رواه أبو عيسى

كلمة في سورة المؤمنون

الترمذي في جامعه مسندا عن عمران بن الحصين عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. كلمة في سورة المؤمنون: بدأت السورة بتبشير المؤمنين، وتحديد صفاتهم التي إذا تحققوا بها اجتمعت لهم صفتا الإيمان والعمل الصالح، ولما كان الإيمان أثر المعرفة، والعمل الصالح أثرا عن رؤية النعمة لأنه شكرها فقد جاءت مجموعة تعرف على الله وعلى نعمه من خلال عرض مظاهر من آثار قدرته وعنايته، ثم قص الله علينا من خبر الأنبياء وختم ذلك بقوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً فكان في ذكره هذه القصص ما يشير إلى عناية خاصة بأهل الإيمان، وكان في هذا النداء ما يشير إلى أن شكر النعمة إنما هو بالعمل الصالح، ثم ذكرنا الله بوحدة هذه الأمة، ووحدة أمرها مما أفهمنا به أن هذه الأمة مطالبة بهدي الأنبياء كله، وذلك هو العمل الصالح. ثم ذكرت السورة الحقائق التي إذا تحقق بها إنسان عمل الصالحات، وسارع إليها بل وسبقها، ثم قررت أن التكليف بحسب الطاقة مما يشير إلى أن الإنسان لا يطالب من الصالحات إلا في حدود وسعه، ثم بينت السورة أن قلوب الكافرين غافلة عن مثل هذا وأن أعمالهم سيئة، فقررت بذلك أن العمل الصالح أثر عن العقيدة الصالحة، والقلب الصالح، والأعمال السيئة أثر عن العقيدة الفاسدة، والقلب الفاسد، ثم أنذرت أصحاب القلوب الغافلة بعقوبات: فذكرت العقوبة الأولى، ثم دعت إلى الإيمان، وفندت الكفر، وبينت أن هؤلاء لن يستفيدوا عظة وعبرة من هذه العقوبة. ثم أنذرت هؤلاء بعقوبة ثانية تعم الجميع حتى لتجعلهم آيسين، ثم ذكرت بنعم الله الكبرى على الإنسان، وذكرت إلحاد الكافرين باليوم الآخر، وأقامت عليهم الحجة، ثم ختمت بالتذكير بحال الكافرين عند الموت، منذرة إياهم، مبينة أنهم وقتها يطالبون بالعودة إلى الدنيا، لتتاح لهم فرصة العمل الصالح. ثم تبين السورة حال المؤمنين الصالحين في الآخرة، وحال الكافرين الذين لا يعملون الصالحات ويسخرون من المؤمنين، وما أعد الله لهؤلاء وهؤلاء، مبينة من خلال العرض أنه لم يخلق الإنسان سدى، ومثبتة من خلال ذلك أهل العمل الصالح وأهل الإيمان، ومصبرة لهم على أقوال الكافرين وأفعالهم، وفي هذا السياق أمر الله رسوله

صلى الله عليه وسلم بدعاءين، وخلق هي زاد الطريق للاستمرار على العمل الصالح وختمت السورة بأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ وهذا الختام في السورة يشير إلى أن المؤمن مع كل ما يبذله من جهد يحتاج إلى المغفرة والرحمة، وهو مفتقر إليهما. هذه المعاني جاءت في السورة كما رأينا بشكل فصلت فيه السورة آيات سورة البقرة الخمس: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فصلت سورة المؤمنون هذه الآيات بشكل عجيب، إذ فصلت بعض آياتها تفصيلا مباشرا، وبنت على ما تقتضيه بعض آياتها بناء مباشرا. وإذ كان العمل السيئ أثر الكفر فقد تحدثت عن الكفر منكرة له، وذكرت بما يقطع دابره لمن كان له قلب، ولذلك صلاته بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومن قرأ السورة وتمعن في معانيها لم يشك بأنها كانت تفصيلا عجيبا للآيات الخمس. وقد يكون من المناسب أن نذكر بأمهات الأعمال الصالحة التي ذكرتها السورة: الخشوع في الصلاة، وترك اللغو، وفعل الزكاة، وحفظ الفروج، وأداء الأمانات، والوفاء بالعهود، والمحافظة على الصلوات، وأكل الحلال، والعمل الصالح، والخشية والإيمان، والتوحيد، وفعل الخير، والدعاء، ودفع السيئة بالحسنة، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والصبر على إيذاء الكافرين وسخريتهم، وملازمة قوله تعالى رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.

سورة النور

سورة النور وهي السورة الرابعة والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة من المجموعة الثالثة من قسم المئين، وآياتها أربع وستون آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة النور

[قال الألوسي في تقديمه لسورة النور:] قال الألوسي في تقديمه لسورة النور: (مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم. وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا، وعن القرطبي أن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الخ مكية، وهي اثنتان وستون آية، وقيل أربع وستون آية، ووجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا، والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، ونهي عن إكراه الفتيات على الزنا. وقال الطبرسي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا هاهنا جملة من الأوامر والنواهي، ولعل الأول أولى. وجاء عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور» وعن حارثة بن مضرب رضي الله عنه قال: «كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور»). وقال صاحب الظلال: (هذه سورة النور .. يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة. وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة؛ ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح، وإشراق في القلوب، وشفافية في الضمائر .. وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف، ومن آداب وأخلاق: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها، وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .. فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة؛ ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية .. والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية. التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود. وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين.

ومن تقديم الأستاذ المودودي لسورة النور نأخذ هذه الفقرة

هو تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله .. وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية، وإشراق وطهارة.). ومن تقديم الأستاذ المودودي لسورة النور نأخذ هذه الفقرة: (والذي يجدر بالملاحظة أن سورة النور خالية من المرارة التي قد تنشأ في الأذهان والقلوب عند رد الحملات الشنيعة القذرة. انظر في جانب في الظروف التي نزلت فيها هذه السورة، وانظر في الجانب الآخر في ما تشتمل عليه من الموضوعات، تعرف أي رزانة وتدبر معتدل وترفع عظيم وحكمة بالغة علينا أن نواجه به الفتن ونعالجها في أقسى الظروف المثيرة للعواطف، بل يثبت لنا في الوقت نفسه أن ليس هذا الكتاب مما اختلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، بل قد أنزله عليه الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولو أن هذا الكتاب كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، لكان ظهر فيه- على كل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر والأناة ورحابة الصدر وتحمل الشدائد- ولو بعض أثر للمرارة التي لا بد أن يجدها كل إنسان عفيف في نفسه إذا أصيب في عرضه). كلمة في سورة النور ومحورها: فكرت كثيرا أي آية يمكن أن تكون محور سورة النور من البقرة، بحيث تأتي بعد محور سورة (المؤمنون) وقبل محور سورة الفرقان؟ فوقع في النفس أولا أن محورها هو قوله تعالى وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (البقرة: 99) إلا أنني لاحظت أنه قد جاء في سورة المؤمنون قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً (الآية: 51) وهو يشبه قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً (الآية: 168) ويشبه قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ... (الآية: 172) فافترضت أن يكون المحور متأخرا على هذه الآيات ولذلك فقد استقر القلب على أن محور سورة النور هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ

كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 208، 209). ولنتساءل ما الذي دلنا على أن هاتين الآيتين هما محور السورة؟ نلاحظ أن الآية الأولى في السورة هي: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. كما نلاحظ أن الآية (34) كانت وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ كما نلاحظ أن الآية (46) كانت: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فذكر البينات والمبينات في هذه الآيات، وكون السورة تفصل أحكاما من الإسلام، وورود النهي عن اتباع خطوات الشيطان فيها، كل ذلك دلنا على أن هاتين الآيتين هما محور سورة النور. ونلاحظ أن السورة تتردد فيها كلمة الآيات كثيرا: وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18). كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58). كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59). كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61). لاحظ صلة هذه الخواتيم للآيات بقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إن هذه السورة نموذج على الآيات البينات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ومن ثم تجد فيها روائع التشريع وروائع الأسلوب، وروائع الانتقال، وذرى البلاغة، والقرآن كله كذلك، ولكن هذه الأمور في هذه السورة تكاد تكون أظهر، إن في هذه السورة من التصوير أروعه، ومن التمثيل أروعه، ومن التشريع أروعه، ومن الإنذار أروعه، ومن التبشير أروعه، ومن التأديب أروعه، ومن ثم فإن من فهم هذه السورة وعرف أسرارها أدرك من أسرار البيان القرآني وأسرار الإعجاز ما به تشرق أنوار اليقين على قلبه فتغمره. إنك تجد فيها مقاطع كل مقطع له نكهة خاصة، وله بداية ونهاية خاصتان، وفي كل مقطع جمال وجلال وأسرار، إنها سورة اجتمع فيها من الأناقة والرشاقة في اللفظ والموضوع والتسلسل والتوجيه ما هو النموذج لإدراك أن هذا القرآن آيات بينات.

إن محور السورة هو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن ثم نلاحظ أن السورة قد عرضت لأحكام في الإسلام: حد الزنا، وحد القذف، واللعان، وأحكام الاستئذان وآدابه، وأحكام العورة، وغض البصر، وإنكاح الأيامى، ومكاتبة الرقيق، وآداب الدخول إلى البيوت المسكونة وغير المسكونة، وإباحة الأكل من بيوت دوائر معينة، وبعض آداب الاجتماعات في الإسلام، وبعض آداب ينبغي أن تراعى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل هذا يدخل في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وقد جاء في السورة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ كما ذكرت كثيرا من نماذج اتباع خطوات الشيطان. وذلك واضح الصلة مع قوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وفي السورة بيان لما ينبغي فعله إذا حدثت أنواع من الزلل، وبيان لأنواع من الزلل. فالسورة إذن تعالج الزلل إذا وقع، ومن خلال هذه المعالجة نتعرف على اسمي الله العزيز والحكيم، إذ نتعرف على أن الله عزيز من خلال الأحكام، ومن خلال العقوبات، ونتعرف على اسم الله الحكيم في كل ما شرع، ولذلك صلة بقوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. والآن فلنتذكر شيئا قلناه من قبل: قلنا: إن هناك صلة بين آيات المحاور في سورة البقرة ولو تباعدت هذه الآيات، ما دامت محاور لمجموعة سور، وكنموذج على ذلك هذه الصلة بين أواخر آيات محور سورة المؤمنون وما ذكرنا أنه محور سورة النور: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة: 28، 29) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 208، 209). فبعد إقامة الحجة والتذكير بالنعم يؤمر المؤمنون بالدخول في الإسلام كله. إن المعاني التي عرضت في السورة، وطريقة العرض، وتسلسل المعاني وتنوعها تدل على الإعجاز

في هذا القرآن، وعلى استحالة أن يكون مصدره بشريا سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إن هذا الوضوح وهذا البيان في آيات السورة، ميزة تشهد على أن هذا الكمال، وهذا الجمال، لا يمكن أن يكون إلا من عند الله ذي الكمال والجمال. تتألف السورة من ثلاثة مقاطع: المقطع الأول: ويمتد من الآية الأولى حتى نهاية الآية (34): الآية الأولى منه هي: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والآية الأخيرة منه هي: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لاحظ الصلة بين بداية هذا المقطع ونهايته. لقد عرض هذا المقطع آيات بينات في قضايا تشريعية وتوجيهية واجتماعية. المقطع الثاني: ويمتد من الآية (35) حتى نهاية الآية (46) يبدأ بقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... وينتهي بقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لاحظ الصلة بين بداية المقطع ونهايته ويتميز هذا المقطع بكون آياته البينات في موضوع العقيدة والكفر والإيمان والكون والحياة. المقطع الثالث: ويمتد من الآية (47) إلى نهاية السورة ويتميز هذا المقطع بأن آياته البينات في موضوع المواقف والتوجيه. وكل مقطع من هذه المقاطع يتألف من مجموعات وكل ذلك يرتبط بعضه ببعض بوشائج كثيرة. وقد عرض الله عزّ وجل في هذه السورة أمهات من القضايا الاجتماعية والسلوكية والإيمانية والأخلاقية، ذات تأثير كبير على المجتمعات البشرية، وللمرأة من ذلك حظ كبير، مما يتعين معه على الرجال والنساء أن يدرسوا هذه السورة، ولذلك بدأت السورة بقوله تعالى: وَفَرَضْناها وجاءت آثار تحض على تعليم النساء هذه السورة. وإن امرأ لا يخرج من دراسة هذه السورة برؤية الإعجاز واضحا وبالإيمان كاملا في

المقطع الأول

مقتضياته السلوكية والأدبية والاعتبارية، إن امرأ لا يخرج من دراسة هذه السورة بهذا كله حظه قليل. *** المقطع الأول ويمتد من الآية الأولى إلى نهاية الآية (34) ويتألف من أربع مجموعات، كل منها يشكل وحدة متكاملة. والمقطع بمجموعاته الأربع يشكل وحدة متكاملة أكثر شمولا وسنعرض المقطع على مجموعات. المجموعة الأولى من المقطع الأول وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (10) وهذه هي مع البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم [سورة النور (24): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

التفسير

التفسير: سُورَةٌ أَنْزَلْناها قال النسفي: (والسورة: الجامعة لجملة آيات بفاتحة لها وخاتمة واشتقاقها من سور المدينة وفي قوله سُورَةٌ أَنْزَلْناها تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي الاعتناء بها الاعتناء بما عداها وَفَرَضْناها أي فرضنا أحكامها التي فيها، وجعلناها مقطوعا بها، وأصل الفرض في اللغة القطع قال مجاهد وقتادة: «أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي) وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أي دلائل مفسرات واضحات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتعظوا، فهذه هي حكمة إنزال سورة النور على ما هي عليه، فمن لم يحقق هذه الحكمة في نفسه فقد أسرف، ومعنى الآية: سورة أنزلها الله، وفرض أحكامها، من حلال وحرام، وأمر ونهي وحدود، وأنزل فيها آيات مفسرات واضحات لكي نتعظ. هذه الآية هي مقدمة السورة وهي تبين أن السورة محكمة، وأن فيها فرائض، وأن فيها آيات بينات، فهي مدخل إلى السورة التي تفصل في موضوع الدخول في الإسلام كله، وبعد أن قرر الله في هذه المقدمة ما قرر تبدأ السورة تفصل لنا ما فرض الله وما حكم مما فيه آيات بينات، ومما هو من الإسلام الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي البكران اللذان لم يتزوجا أما المحصن الذي قد وطئ ولو مرة واحدة في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل

[سورة النور (24): آية 3]

فله حكم آخر كما سنرى في الفوائد فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قال النسفي: والجلد: ضرب الجلد، وفيه إشارة إلى أنه لا يبالغ ليصل الألم إلى اللحم، والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين، وهي على الكل، إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم، وهذا حكم من ليس بمحصن، إذ حكم المحصن الرجم، وشرائط إحصان الرجم: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي رحمة، وقيل الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب، والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده، فيعطلوا الحدود، أو يخففوا الضرب فِي دِينِ اللَّهِ أي في طاعة الله أو حكمه إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي وليحضر موضع حدهما- وتسميته عذابا دليل على أنه عقوبة- طائِفَةٌ أي فرقة تشكل حلقة ليعتبروا وينزجروا قال النسفي: وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي أي الطائفة صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول شئ وعن ابن عباس رضي الله عنه أربعة إلى أربعين رجلا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدقين بالله الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ قال النسفي: أي الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في خبيثة من شكله أو في مشركة، والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين، فالآية تزهيد في نكاح البغايا إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن ... وقدمت الزانية على الزاني أولا- أي الآية السابقة على هذه- ثم قدم عليها ثانيا- أي في هذه الآية- لأن تلك الآية سبقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية؛ لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له، ولم تمكنه، لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا في ذلك بدئ بذكرها، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه، لأنه الخاطب ومنه بدء الطلب وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي الزنا أو نكاح البغايا لقصد التكسب بالزنا أو لما فيه من التشبه بالفساق وحضور مواقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة، ومجالسة الخاطئين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف كما قال النسفي: (بمزاوجة الزواني والقحاب) وبعد أن قرر الله عزّ وجل حد الزنا وحرمته وتنزه المؤمنين والمؤمنات عنه فقد ذكر حد القذف الذي شرع لحماية أعراض المؤمنين والمؤمنات أن

[سورة النور (24): آية 5]

تمس إلا ببينة لا تقبل جدلا فقال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يقذفون بالزنا الحرائر والعفائف المسلمات المكلفات، والقذف يكون بالزنا وغيره، والمراد هنا قذفهن بالزنا بأن يقول يا زانية بدليل ذكر المحصنات عقيب الزواني، ولاشتراط أربعة شهداء بقوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي ثم لم يأتوا بأربعة شهود يشهدون على الزنا لأن القذف بغير الزنا بأن يقول: يا فاسق يا آكل الربا يكفي فيه شاهدان وعليه التعزير، وشروط إحصان القذف الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والعفة عن الزنا، والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً إن كان القاذف حرا وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً الصيغة تنفي قبول كل شهادة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال ابن كثير: (أوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام (أحدها) أن يجلد ثمانين جلدة (الثاني) أنه ترد شهادته أبدا (الثالث) أن يكون فاسقا ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد القذف وَأَصْلَحُوا أحوالهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر ذنوبهم ويرحمهم قال ابن كثير: (واختلف العلماء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة- وإن تاب- أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى، سواء تاب أو أصر، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف، فذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين، وجماعة من السلف أيضا، وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط؛ فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدا وممن ذهب إليه من السلف القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان فحينئذ تقبل شهادته والله أعلم). وبعد أن ذكر حكم قذف الأجنبيات بين حكم قذف الزوجات إذ للأزواج وضع خاص وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي يقذفون زوجاتهم بالزنا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا، وعلى هذا فإذا قذف أحدهم زوجته، وتعسر عليه إقامة البينة، فإن عليه أن يلاعنها كما أمر الله عزّ

[سورة النور (24): آية 7]

وجل، وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين، أي فيما رماها به من الزنا وَالْخامِسَةُ أي والشهادة الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رماها به من الزنا قال ابن كثير: (فإذا قال ذلك بانت منه بنفس اللعان عند الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وحرمت عليه أبدا، ويعطيها مهرها، ويتوجه عليها حد الزنا، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات إنه لمن الكاذبين، أي فيما رماها به) ومن ثم قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي ويدفع عنها العذاب، والمراد بالعذاب هنا الحبس عند الحنفية، فإنها عندهم إذا رفضت الملاعنة تحبس حتى تلاعن أو تعترف أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أي الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رماها به من الزنا وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما رماها به، خصها بالغضب لأن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا وهو صادق معذور، وهي تعلم صدقه فيما رماها به، ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها، والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه. قال النسفي: (وجعل الغضب في جانبها لأن النساء يستعملن اللعن كثيرا، كما ورد به الحديث فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقوعه على قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن ليكون رادعا لهن) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي ولولا تفضله عليكم وَرَحْمَتُهُ أي نعمته وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي لولا ذلك لفضحكم الله، أو لعاجلكم بالعقوبة. نقول: ذكر الأستاذ المودودي موقف الناس من عقوبة الزنا، ثم ذكر حكم الإسلام في هذا الموضوع فقال: (الوجهات المختلفة في اعتبار الزنا جريمة مستلزمة للعقوبة: أما القضية التي فيها الخلاف بين مختلف القوانين والشرائع بعد اتفاقها على حرمة الزنا، فهي كون الزنا «جريمة مستلزمة للعقوبة في نظر القانون» فالمجتمعات التي كانت على قرب من الفطرة الإنسانية، ما زالت تعد الزنا (أي العلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة) في حد ذاته جريمة قررت لها العقوبات الشديدة، ولكن ظل سلوك المجتمعات واتجاهها نحو الزنا يلين شيئا فشيئا على قدر ما ظلت زخارف المدنية تفسد هذه المجتمعات. فأول تساهل جيء به عامة في هذه القضية، أنهم فرقوا بين «الزنا المحض»

(Pornication) و«الزنا بزوجة الغير (Adultery) «فاعتبروا الأول خطيئة أو زلة يسيرة، ولم يعتبروا جريمة مستلزمة للعقوبة إلا الآخر. أما تعريف «الزنا المحض» عندهم، فهو «أن يجامع أيما رجل- بكرا كان أو متزوجا- امرأة ليست بزوجة لأحد»، فما العبرة في هذا التعريف للزنا بحال الرجل وإنما هي بحال المرأة، فهي إذا كانت بدون زوج، فجماعها هو الزنا المحض، بقطع النظر عما إن كان الرجل الذي جامعها متزوجا أو غير متزوج. فحد هذه الخطيئة أي عقوبتها هين جدا في قوانين مصر القديمة وبابل وآشور والهند؛ وهذه القاعدة هي التي أخذت بها اليونان والروم، وبها تأثر اليهود أخيرا. فهي لم تذكر في الكتاب المقدس لليهود إلا كخطيئة يلزم الرجل عليها غرامة لا غير، فقد جاء في كتاب الخروج: (وإذا راود رجل عذراء لم تخطب فاضطجع معها يمهرها لنفسه زوجة. إن أبى أبوها أن يعطيه إياها يزن له فضة كمهر العذارى) (¬1). وجاء هذا الحكم بعينه في كتاب الاستثناء بشيء من الاختلافات في ألفاظه وبعده التصريح بأنه (إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين مثقالا من الفضة، وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها) (¬2) غير أنه إذا زنى أحد ببنت القسيس، عوقب بالشنق بموجب القانون اليهودي وعوقبت البنت بالإحراق (¬3). وهذه الفكرة ما أشبهها بفكرة الهنادك، ستعرف ذلك إذا راجعت كتاب (القانون الديني) لمانو (¬4)، حيث جاء فيه (أيما رجل زنى ببنت من طبقته عن رضاها فليس عليه شئ من العقوبة، وله أن يؤدي الأجرة إلى والدها وينكحها إن رضي به. وأما إذا كانت البنت من طبقة أعلى من طبقته، فلتخرج البنت من بيتها ويعاقب الرجل بقطع الأعضاء». ويجوز تغيير هذه العقوبة بإحراق البنت حية إذا كانت من الطبقة البرهمية. فالحقيقة أن هذه القوانين كلها ليست الجريمة الأصلية فيها إلا «الزنا بزوجة الغير» أي أن يزني الرجل بامرأة هي زوجة لغيره، كأنه ليس الأساس لاعتبار هذه الفعلة جريمة أن ¬

_ (¬1) الإصحاح الثاني والعشرون: (16، 17). (¬2) الإصحاح الثاني والعشرون: (28، 29). (¬3) Every man ,s Talmud B.P /319.20 (¬4) أكبر واضعي القانون الديني للهنادك.

قد ارتكب الزنا رجل وامرأة، وإنما هو أنهما قد عرضا رجلا في المجتمع لخطر أن يقوم بتربية طفل ليس من صلبه، أي ليس الزنا هو الأساس، وإنما الأساس هو خطر اختلاط النسب، وأن يتربى الطفل على نفقة رجل غير والده ويرثه. وعلى هذا الأساس كان الرجل والمرأة معا مشتركين في ارتكاب الجريمة. أما عقوبة هذه الجريمة عند المصريين: فهي أن يضرب الرجل ضربا شديدا بالعصا، ويجدع أنف المرأة. ومثل هذه العقوبة كانت لهذه الجريمة في بابل وآشور وفارس القديمة. أما الهنود فكانت عقوبة المرأة عندهم أن تطرح أمام الكلاب حتى تمزقها، وعقوبة الرجل أن يضجع على سرير محمى من الحديد وتشعل حوله النار. وقد كان من حق الرجل عند اليونان والروم في بدء الأمر أنه إذا وجد أحدا يزني بامرأته، أن يقتله أو ينال منه- إن شاء- غرامة مالية. ثم أصدر قيصر أغسطس في القرن الأول قبل المسيح مرسوما بأن يصادر الرجل بنصف ما يملك من المال والبيوت، وينفى من موطنه، وأن تحرم المرأة من نصف صداقها، وتصادر بثلث ما تملك من المال، وتنفى إلى بقعة أخرى من بقاع المملكة. ثم جاء قسطنطين وغير هذا القانون بإعدام الرجل والمرأة. ثم تغير هذا القانون في عهد ليو (Leo) ومارسين (Marcian) بالحبس المؤبد، ثم جاء قيصر جستينين وخفف هذه العقوبة وغيرها بضرب المرأة بالأسواط ثم حبسها في دير الراهبات، وإعطاء زوجها الحق في أنه إن شاء استخرجها من الدير في ضمن سنتين، أو تركها فيه إن شاء إلى طول حياتها. وأما الأحكام الموجودة في القانون اليهودي عن الزنا بامرأة الغير، فهي: (وإذا اضطجع رجل مع امرأة اضطجاع زرع وهي أمة مخطوبة لرجل ولم تفد فداء ولا أعطيت حريتها، فليكن تأديب. ولا يقتلا لأنها لم تعتق) (¬1). (إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل، يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة) (¬2). (إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنتزع الشر من وسطك. ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها يموت الرجل ¬

_ (¬1) كتاب التثنية، الإصحاح الثاني والعشرون، (22). (¬2) كتاب التثنية، الإصحاح الثاني والعشرون، (22).

بلوغ وعقل وحرية … ورابعها كونه مسلما وعقد صحيح ووطء مباح … متى اختل شرط فلن يرجما وزاد غير واحد أن يكون كل من الزوجين مساويا الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد. وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد فلو ارتدا والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفاقة، وقيل

بالوطء بعده. والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة، وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد، وقول مالك كقولنا. وقال صاحب الظلال في تبيان حكمة بعض العقوبات في الإسلام: (والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها. فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول، ولا خير لهم في كبتها أو قتلها. ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم، وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر، يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة، وعمارة الأرض، التي استخلف فيها هذا الإنسان. إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد، أو لا تهدف إلى إقامة بيت، وبناء عش، وإنشاء حياة مشتركة لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان. من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية، تذهب بكل هذه المعاني، وتطيح بكل هذه الأهداف؛ وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا، لا يفرق بين أنثى وأنثى، ولا بين ذكر وذكر. مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة. فليس وراء اللذة بناء في الحياة، وليس وراءها عمارة في الأرض، وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية، لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار. وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المنقطع، الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها، وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها؛ إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. فأما الزنا- وبخاصة البغاء- فيجرد هذا الميل الفطري من كل

الرفرفات الروحية، والأشواق العلوية؛ ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل؛ ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان، بل أشد غلظا من الحيوان. ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة، في حياة زوجية منظمة، بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا- وبخاصة البغاء- في بعض بيئات الإنسان! ودفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا .. ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن الجريمة، من اختلاط الأنساب، وإثارة الأحقاد، وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة .. وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة. ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية، ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس، والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد ... هذا السبب هو الأهم في اعتقادي. وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى. على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام منهج حياة متكامل، لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة. ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر. وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق .. فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (¬1) لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل أو اعترافا لا شبهة في صحته. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا، لأنها غير قابلة للتطبيق. ولكن الإسلام- كما ذكرنا- لا يقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة؛ وعلى تهذيب النفوس، وتطهير الضمائر؛ وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة. ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود. أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية. وقد جاء كل منهما يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطهره بالحد، ويلح في ذلك، على الرغم من إعراض النبي مرارا؛ حتى بلغ الإقرار أربع مرات. ولم يعد بد من إقامة الحد، لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» (¬2). فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى الحاكم، فقد وجب الحد ولا هوادة، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة، وعلى الآداب الإنسانية، وعلى الضمير البشري. وهي رأفة مصطنعة. فالله أرأف بعباده. وقد اختار لهم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة، وترتكس في الحمأة، وتنتكس إلى درك البهيمية الأولى .. والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه. والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة- كما قلنا- إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة. لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة. ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ .. ¬

_ (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود (باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان).

إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات- وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا- بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء؛ ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار .. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق. ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث؛ وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها! ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء. لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم .. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا .. ثمانين جلدة .. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق .. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم .. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحا. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة. والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - هذه الآيات العشر تشكل المجموعة الأولى من المقطع الأول وهي منتهية بقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ وتأتي بعد ذلك مجموعة ثانية حتى نهاية الآية (20) وهي منتهية بقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ إن هاتين الآيتين المتشابهتين تدلاننا على نهاية كل من المجموعتين وتدلاننا على السياق الواحد، فبين المجموعتين صلة واتصال، فالمجموعة الثانية تتحدث عن حادثة الإفك ودروسها، وهي أصعب حادثة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت المجموعة الأولى مقدمة لها كما كانت هي تعليلا لضرورة الأحكام الموجودة في المجموعة الأولى. 2 - لقد ذكرنا أن محور سورة النور هو قوله تعالى من سورة البقرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وإذا تأملنا المجموعة التي مرت معنا في سورة النور فإننا نجد أنها حدثتنا عن نوع من الزلل وهو الزنا، وذكرت عقوبته والمخرج منه وهي عقوبة نعلم منها عزة الله وحكمته، ثم ذكرت نوعا آخر من الزلل، وهو قذف المحصنات، وبينت عقوبته، وهي عقوبة نعلم بها عزة الله وحكمته، ثم ذكرت موضوع معالجة زلل الزوجة إذا لم يشهده إلا الزوج والمخرج منه وهو مخرج نرى فيه حكمة الله وعزته، ثم ختمت المجموعة بقوله تعالى وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ لتذكرنا بأن هذه الأحكام أثر عن كون الله توابا على من زل إذا تاب، وأن هذه الأحكام أثر عن حكمة الله تعالى، قارن هذا بقوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. 3 - بدأت المجموعة بقوله تعالى سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ثم جاء فيها أكثر من خطاب للأمة: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً هذا الخطاب موجه للأمة التي أمرت في الدخول في السلم كافة، فمن هذا الخطاب، ومن مقدمة السورة، ومن صلة هذه السورة بمحورها، ندرك أن إقامة الحدود والأحكام فريضة الله على هذه الأمة، وأنها إذا لم تفعل ذلك لا تكون قد حققت الأمر، وإذا كان هذا لا يتم إلا بسلطان مسلم أو بخليفة مسلم، أي لا يتم إلا بحكومة

ملاحظات

إسلامية، فإن إقامة الدولة الإسلامية فريضة الله الدائمة على هذه الأمة، فمن لم يعمل لها في حال فقدانها فإنه آثم، ومن لم يدعمها حال وجودها فإنه آثم، ومن لم يقومها حال انحرافها وهو يستطيع فإنه آثم. ملاحظات: 1 - الزواج بالزانية حرام إذا لم يكن توبة، أما مع التوبة فلا حرمة: عن ابن أبي ذئب قال: (سمعت شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت ابن عباس وسأله رجل فقال: إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عزّ وجل علي، فرزق الله عزّ وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها، فقال أناس إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فقال: ابن عباس: ليس هذا في هذا انكحها فما كان من إثم فعلي). 2 - ليس المراد بالرأفة في قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الرأفة الطبيعية وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد أو عدم إقامته على وجهه، لأن القاعدة أن الحد إذا رفع إلى السلطان فقد وجبت إقامته، وحرم العفو عن المدعى عليه إذا ثبت عليه الحد، أما إذا لم يصل إلى السلطان فالعفو والستر أفضل، إلا إذا كان الجاني كثير الإفساد، وفي الحديث: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» وقد دل النهي عن الرأفة في الحدود، أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده؛ فيعطلوا الحدود أو يخففوا الضرب، وسنرى كلام ابن كثير في الفوائد في هذا الموضوع. 3 - قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إن شهود المؤمنين للجلد فيه تنكيل للزانيين فذلك أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما، فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة، إذا كان الناس حضورا، وبذلك يعرف الناس المحدود، حتى إذا وقف موقف ريبة لم يغب ذلك عن الناس، وقد أشرنا إلى هذا هنا لأن هناك اتجاها سنراه في الفوائد هذا الاتجاه يقول: (ليس ذلك للفضيحة إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة) فالشطر الأول من هذا الكلام مردود، والشطر الآخر جميل. 4 - في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أقوال للمفسرين: فبعضهم اعتبر هذه الآية

منسوخة بقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وهو رأي سعيد بن المسيب، وعلى هذا الاتجاه فالعقد على الزانية، جائز ونافذ، وعلى جواز العقد ونفاذه بعض الأئمة، ولكن مما يضعف اتجاه النسخ أول آية في السورة؛ إذ إنها تشعر بإحكام السورة كلها. وبعض العلماء حرم التزوج من الزانية والتزويج من الزاني ولكنه اعتبر العقد نافذا في حالة وقوعه بشروط. وبعض العلماء حرم الزواج من الزاني أو الزانية واعتبر العقد باطلا ولابن عباس اتجاه في الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ هذا الاتجاه الذي يراه ابن عباس هو: أن الآية تقرر واقعا وهو أن الزاني لا يزني إلا بزانية، وكذلك الزانية لا يزني بها إلا زان، قال ابن عباس بإسناد صحيح عنه «ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك» فالمعنى في رأيه: أن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي لا يطاوعه على مراده في الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية، ويفهم من ذلك أن المؤمنين الكمل لا يقعون في الزنا ويؤيد ذلك الحديث «ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وعلى كل الأحوال ففي الآية تزهيد في نكاح البغايا إذ الزنا عديل الشرك في القبح، والإيمان قرين العفاف والتحصن وهو نظير قوله تعالى الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ من هذه الحيثية. 5 - رأينا أن الزاني المحصن والزانية المحصنة حدهما الرجم تواردت على ذلك الآثار من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعله لدرجة التواتر، فمن أنكر ذلك يكفر، وأعظم الأدلة في ذلك الآية المنسوخة التلاوة المحكمة الحكم: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وقد ورد ذلك في الكتب الستة ولكن هل يجمع بين الرجم والجلد؟ الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي ومالك على عدم الجمع، وذهب الإمام أحمد إلى الجمع: الجلد مائة أولا ثم الرجم؛ جمعا بين الكتاب والسنة. 6 - رأينا أن هناك خلافا في جواز تزوج الزانية، وخلافا في صحة العقد، ورأينا الأقوال في ذلك وهاهنا مسألة هي: لو أن إنسانا تزوج ثم تبين له بعد الزواج أن زوجته تفجر فما الحكم؟ لا شك أن له في هذه الحالة أن يلاعن أو يطلق دون أن يلاعن، ولكن هل له أن يحتفظ بها؟ قال فقهاء الحنفية: «لا يجب على الزوج تطليق المرأة الفاجرة، ولا عليها تسريح

الفوائد

الفاجر إلا إذا خافت ألا يقيما حدود الله، والفجور يعم الزنا وغيره» ويستند الحنفية فيما ذهبوا إليه على حديث بعض أسانيده جيدة هو: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة من أحب الناس إلي، وهي لا تمنع يد لامس قال: طلقها، قال لا صبر لي عنها قال: استمتع بها» وكما ترى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالطلاق ابتداء. وعلى كل الأحوال فإن عدم وجوب التطليق لا يعني الرضا بالفاحشة؛ إذ الرضى بالفاحشة مع استحلالها كفر، والرضى بالفاحشة مع الركون إليها وألفتها- ولو بلا استحلال- كبيرة. قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث» رواه الإمام أحمد. الفوائد: 1 - عند قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (يذكر عادة موضوعان) الأول هو هل مع جلد المائة توجد عقوبة أخرى للبكر أو لا؟ والموضوع الثاني ما هو حد المحصن أي المتزوج؟. قال ابن كثير: (هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا وهو الذي لم يتزوج، أو محصنا وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل، فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية، ويزاد على ذلك أن يغرب عاما عن بلده عند جمهور العلماء، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب، وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين من رواية الزهري ...... عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا- يعني أجيرا- على هذا فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا: الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام. واغد يا أنيس- لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها. وفي هذا دلالة على تعريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج فأما إذا كان محصنا وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فإنه يرجم كما قال الإمام مالك ... عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره أن عمر

قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق، على من زنى إذا أحصن، من الرجال ومن النساء، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف) أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذه قطعة منه فيها مقصودنا هاهنا وروى الإمام أحمد .. عن عبد الرحمن بن عوف أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول: (ألا وإن ناسا يقولون ما الرجم في كتاب الله، وإنما فيه الجلد، وقد رجم رسول الله ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت به) وقد روى الإمام أحمد .. عن ابن عباس قال: «خطب عمر ابن الخطاب فذكر الرجم فقال لا نجد من الرجم بدا فإنه حد من حدود الله تعالى، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف، وشهد عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده، ألا إنه سيكون قوم من بعدكم يكذبون بالرجم، والشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا». روى أحمد .. عن عمر بن الخطاب: «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم» وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي .. قال ابن عمر نبئت عن كثير بن الصلت قال: كنا عند مروان .. وفينا زيد، فقال زيد بن ثابت: كنا نقرأ: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولا به والله أعلم. 2 - وعند قوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قال ابن كثير: وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد، فلا يجوز ذلك قال مجاهد: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قال: إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل .. وقد جاء في الحديث «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» وفي الحديث الآخر «لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا» وقيل المراد وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ

اللَّهِ فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم، وليس المراد بالضرب المبرح. قال عامر الشعبي وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قال: رحمة في شدة الضرب. وقال عطاء: ضرب ليس بالمبرح. وقال سعيد بن أبي عروبة عن حماد بن سليمان: يجلد القاذف وعليه ثيابه والزاني تخلع ثيابه ثم تلا وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فقلت: هذا في الحكم؟ قال: هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب. وقال ابن أبي حاتم .. «عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها قال نافع أراه قال ظهرها قال قلت: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قال: يا بني- ورأيتني أخذتني بها رأفة- إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جلدها في رأسها، وقد أوجعت حين ضربتها». 3 - وفي قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رأينا أثناء التفسير أن أقل الطائفة ثلاثة أو أربعة، غير أن هناك اتجاهات أخرى، وفي هذا النص يقول ابن كثير: (هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما؛ فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا قال الحسن البصري في قوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: يعني علانية، ثم قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة: الرجل فما فوقه وقال مجاهد: الطائفة: الرجل الواحد إلى الألف، وكذا قال عكرمة. ولهذا قال أحمد: إن الطائفة تصدق على واحد، وقال عطاء بن أبي رباح اثنان، وبه قال إسحاق بن راهويه وكذا قال سعيد بن جبير طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال: الطائفة أربعة نفر فصاعدا، وقال الزهري: ثلاثة نفر فصاعدا، وقال عبد الله بن وهب عن الإمام مالك في قوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال: الطائفة أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أربعة شهداء فصاعدا وبه قال الشافعي، وقال ربيعة: خمسة وقال الحسن البصري: عشرة، وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا. قال ابن أبي حاتم عن بقية قال: سمعت نصر بن علقمة يقول في قوله تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال: ليس ذلك للفضيحة إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة) وقد علقنا من قبل على الكلام الأخير

4 - عامة الفقهاء على أن الزواج من البغي قبل توبتها حرام، لكن العقد عليها جائز بمعنى أنه غير باطل، ولكن الإمام أحمد يرى أن العقد عليها باطل أخذا من قوله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال ابن كثير: ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها، وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا من المؤمنين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه، قال فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها، قال: فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وقال النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول، وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنزل الله عزّ وجل الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجل يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة له، وأنه واعد رجلا من أسارى مكة بحمله، قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط، فلما انتهت إلي عرفتني فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة، قال فقلت: يا عناق حرم الله الزنا، فقالت يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، قال فتبعني ثمانية، ودخلت الحديقة، فانتهيت إلى غار- أو كهف- فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا، فظل بولهم على رأسي فأعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أحبله فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله أنكح عناقا أنكح عناقا- مرتين؟ - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا حتى نزلت الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا

مرثد: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فلا تنكحها» ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروى ابن أبي حاتم .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وروى الإمام أحمد .. عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال أشهد لسمعت سالما يقول: قال: عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يدخلون الجنة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة- المتشبهة بالرجال، والديوث، وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر والمنان بما أعطى» وروى الإمام أحمد .. عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والذي يقر في أهله الخبث» اه كلام ابن كثير. أقول: إن كثيرا من مناطق العالم قد انتشر فيها الزنا انتشارا كبيرا، وأصبح في بعض المناطق عادة، ولذلك فإن على مريد الزواج أن يلحظ هذا الموضوع. 5 - قال ابن كثير عند قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ (وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية، وذكر سبب نزولها وفيمن نزلت فيه من الصحابة، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق، وأنها من الله، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فو الله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته- قال: فما لبثوا إلا يسيرا- حتى جاء هلال بن أمية- وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه،

واجتمعت عليه الأنصار، وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، وقال هلال: يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق، فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي، فنزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ الآية فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا» فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عزّ وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما، فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاعنوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها في الخامسة: اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قوت لها؛ من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها، وقال «إن جاءت به أصيهب، أييشح، حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق، جعدا جماليا خدلج الساقين، سابغ الأليتين فهو الذي رميت به» فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب، ورواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يزيد بن هارون به نحوه مختصرا. ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة.

وروى الإمام أحمد عن علقمة عن عبد الله قال: كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد، فقال رجل من الأنصار: أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ، والله لإن أصبحت صحيحا لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فسأله فقال يا رسول الله: إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ اللهم احكم، قال فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به، انفرد بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن سليمان بن مهران الأعمش به. وروى الإمام أحمد أيضا عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال له: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، قال فلقيه عويمر فقال: ما صنعت؟ قال: ما صنعت إنك لم تأتني بخير، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل، فقال عويمر والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيها. قال: فدعا بهما ولا عن بينهما. قال عويمر إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها. ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبصروها فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر، كأنه وحرة، فلا أراه إلا كاذبا» فجاءت به على النعت المكروه. أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي. ورواه البخاري أيضا من طرق عن الزهري به فقال حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع حدثنا فليح عن الزهري عن سهل بن سعد «أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا رأى مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟» فأنزل الله تعالى فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد قضي فيك وفي امرأتك» قال: فتلاعنا وأنا شاهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففارقها فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملا، فأنكر حملها، وكان ابنها يدعى إليها. ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه، ما فرض الله لها). ***

المجموعة الثانية من المقطع الأول

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (11) الى نهاية الآية (20) وهذه هي: [سورة النور (24): الآيات 11 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) ***

بين يدي التفسير

بين يدي التفسير: قال ابن كثير في تقديمه لهذه المجموعة: (هذه الآيات العشر كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت، والفرية التي غار الله عزّ وجل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله تعالى صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين فإنه كان يجمعه ويستوشيه، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر، حتى نزل القرآن، وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة. وروى الإمام أحمد ... عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله تعالى، وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضا: ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى تجاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم ليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني

فيرجعون إلي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني- وكان قد رآني قبل الحجاب- فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فأنطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزل موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول «كيف تيكم؟» فذلك الذي يريبني، ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت؛ تسبين رجلا شهد بدرا فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي- قالت وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما- فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنية هوني عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها، فقلت سبحان الله أوقد تحدث الناس بها؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله

أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي بريرة هل رأيت من شئ يريبك من عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج- وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية- فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي قالت: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شئ قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه» قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت فقلت- وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن-: والله لقد علمت لقد سمعتم بهذا الحديث، حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني فو الله ما أجد لي ولكم

التفسير

مثلا إلا كما قال أبو يوسف «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» قالت: ثم تحولت فاضجعت على فراشي، قالت: وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك» قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزّ وجل؛ هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزّ وجل إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري فقال «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك، قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط. أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما) ثم ذكر ابن كثير روايات أخرى فليراجعها من شاء. التفسير: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي الكذب والبهت والافتراء، بل الإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وأصله الأفك: وهو القلب، لأنه قول مأفوك عن وجهه، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله عنها عُصْبَةٌ أي جماعة منكم إذ العصبة: هي الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين،

[سورة النور (24): آية 12]

وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم مِنْكُمْ أي من جماعة المسلمين إما ظاهرا وباطنا، وإما ظاهرا وإن كان في القلب كافرا كعبد الله بن أبي لا تَحْسَبُوهُ أيها المسلمون شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن الله أنزل في البراءة منه ما أنزل، وفي ذلك من الدروس والعبر الكثير؛ إذ حمى الله بسبب العبرة من هذه القصة ملايين الأعراض، وبعضهم حمل الخطاب على أن المراد به آل بكر، وأن الخيرية لهم بسبب أن الحادثة كانت لسان صدق في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي لكل من تكلم في هذه القضية، ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب على مقدار خوضه فيه، وكان بعضهم ضحك، وبعضهم تكلم فيه، وبعضهم سكت وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ أي عظمه مِنْهُمْ أي من العصبة لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي جهنم ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي لَوْلا أي هلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، قال النسفي: (وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل «ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم» ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان، على أن الاشتراك فيه يقتضي ألا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب أو طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به، والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوانه) وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها قال ابن كثير: (فإن الذي وقع لم يكن ريبة، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هذا جهرة، ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رءوس الأشهاد، بل كان هذا يكون- لو قدر- خفية مستورا، فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت، والقول الزور، والرعونة الفاحشة الفاجرة، والصفقة الخاسرة).

[سورة النور (24): آية 13]

لَوْلا أي هلا جاؤُ عَلَيْهِ أى على القذف لو كانوا صادقين بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يشهدون على صحة ما جاءوا به فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربعة فَأُولئِكَ القاذفون عِنْدَ اللَّهِ أى في حكمه وشريعته هُمُ الْكاذِبُونَ لأن الله تعالى جعل التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت شهادة الشهود الأربعة، وانتفاءها، والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم يكن لهم بينة على قولهم فكانوا كاذبين وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ أيها الخائضون فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ من قضية الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ قال ابن كثير: وهذا أي الفضل والرحمة فيمن عنده إيمان يقبل الله بسببه التوبة كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش، فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولئك مرادين في هذه الآية، لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا، ولا ما يعارضه وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقا مشروطا بعدم التوبة، أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه، أو يرجح عليه إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أي يأخذه بعضكم من بعض بِأَلْسِنَتِكُمْ أي تنطقون به بمجرد التلقي دون التدبر والتعقل وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ قال النسفي: إنما قيد بالأفواه مع أن القول لا يكون إلا بالفم لأن الشئ المعلوم يكون علمه في القلب، ثم يترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولا يدور في أفواههم من غير ترجمة عن علم به في القلب وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي وتحسبون خوضكم في عائشة رضى الله عنها يسيرا صغيرا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي كبير، قال ابن كثير: (أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين، وتحسبون ذلك يسيرا سهلا، ولو لم تكن زوجة النبي لما كان هينا فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟؟ فعظيم عند الله أن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا، وهو سبحانه وتعالى لا يقدر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك- حاشا وكلا- ولما لم يكن ذلك، فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وفي الصحيحين «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض وفي رواية لا يلقي لها بالا»). وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا والمعنى: هلا قلتم إذ سمعتم الإفك: ما يصح لنا أن نتكلم بهذا، أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام، ولا نذكره

[سورة النور (24): آية 17]

لأحد سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ أي هذا زور كبير، أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله، قال ابن كثير: (هذا تأديب آخر بعد الأول الآمر بظن الخير، أي إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة، فأولا ينبغي الظن بهم خيرا، وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن علق بنفسه شئ من ذلك وسوسة أو خيالا فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل» أخرجاه في الصحيحين. وكلمة سُبْحانَكَ في الآية تفيد التعجب قال النسفي: («سبحانك» للتعجب من عظم الأمر، ومعنى التعجب في كلمة التسبيح أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة، وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة، كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؛ لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه، والكفر غير منفر عندهم وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات). يَعِظُكُمُ اللَّهُ في أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي لمثل هذا الحديث من القذف أو استماع حديثه أَبَداً أي ما دمتم أحياء مكلفين، أى ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا أي فيما يستقبل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وشرعه، قال النسفي: فيه تهييج لهم ليتعظوا، وتذكير بما يوجب ترك العود وهو الإيمان الصاد عن كل قبيح وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الدلالات الواضحات، وأحكام الشرائع والآداب الجميلة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يصلح عباده، وعليم بهم وبأعمالهم حَكِيمٌ في شرعه وقدره، ومن حكمته أن كانت حادثة الإفك وإنزاله براءة عائشة لعلمه بصدق نزاهتها لكي لا تقعوا في زلل مشابه، وإذا وقعتم أن تتوبوا إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي ما قبح جدا فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي في المؤمنين بنشر إشاعاتها عنهم وفيهم، فيؤدي ذلك إلى الاستخفاف بالفاحشة، أو تشويه سمعة المؤمنين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بالحد وَالْآخِرَةِ بالنار إن لم يتوبوا وَاللَّهُ يَعْلَمُ بواطن الأمور، وسرائر الصدور، أي إنه قد علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبة عليها، أو والله يعلم إذ شرع ما شرع، وحذر ما حذر، ووعظ ما وعظ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فسلموا لله حكمه وشرعه وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال ابن كثير: أي لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رءوف

كلمة في السياق

بعباده رحيم بهم، فتاب على من تاب إليه من هذه القضية، وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم. كلمة في السياق: إن قصة الإفك تعليل للأحكام التي وردت في المجموعة الأولى، وتفهيم لحكمة هذه الأحكام، وتعليم لما ينبغي أن يكون الموقف عند ما تحدث شائعة زنا؛ إن من يدرس حادثة الإفك يدرك حكمة اشتراط الشهود للزنا، وحكمة حد القذف، كما يدرك ضرورة الظن الحسن بالمؤمنين، وأن الأصل في المؤمن والمؤمنة عدم الزنا، فالصلة إذن بين آيات هذه المجموعة وما قبلها واضحة، والصلة بينها وبين محور السورة واضح، فالآيات فصلت جزءا من أخلاق الإسلام في موضوع الشائعات، وبعد المجموعة الثانية تأتي المجموعة الثالثة، وهي امتداد لقصة الإفك، ولذلك فسنفسرها ونذكر صلتها بالسياق، ثم نذكر فوائد المجموعتين الثانية والثالثة. ***

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (21) الى نهاية الآية (26) وهذه هي: [سورة النور (24): الآيات 21 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني طرائقه ومسالكه وآثاره ووساوسه وما يأمر به وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ أي الشيطان يَأْمُرُ

كلمة في السياق

بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ الفحشاء: ما أفرط قبحه، والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه، ولا ترتضيه، وقد جاءت الشريعة محددة لكل ما تستفحشه الفطرة، وتستنكره الأنفس الصافية، والعقول الكاملة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً أي لولا أنه يرزق من يشاء التوبة، والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودنسها، وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي أي يطهر نفس مَنْ يَشاءُ من خلقه، ويضل من يشاء، ويرديه في مهالك الضلال والغي وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي سميع لأقوال عباده عَلِيمٌ بمن يستحق منهم الهدى والضلال. كلمة في السياق: جاء هذا النداء بعد مجموعتين سابقتين عليه، عرض فيهما نماذج على خطوات الشيطان، وعلى ما يأمر به من فحشاء كالزنا، وعلى ما يأمر به من منكر كالقذف، وإذن فالصلة واضحة بين هذا النداء وبين ما قبله، كما أن الصلة واضحة بينه وبين محور السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة: 208، 209). إنه في المجموعتين السابقتين ذكرت أحكام وآداب من الإسلام، أمرنا بمراعاتها وإقامتها، فهي تفصيل لقوله تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وتأتي هذه المجموعة لتؤكد النهي وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وفي قوله تعالى وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً تأكيد لقوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإذا وقع الزلل لا تيأس أن يزكيك الله، واطلب منه التوبة والمغفرة والتزكية، إن الصلة بين الآية الأولى من المجموعة الثالثة، وبين ما قبلها، وبينها وبين محور السورة من سورة البقرة واضحة. وَلا يَأْتَلِ أي ولا يحلف أُولُوا الْفَضْلِ أي في الدين مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أي في الدنيا أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم والمساكين والمهاجرين ولو أساءوا وظلموا، أو لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم وإن كانت بينكم وبينهم شحناء، لجناية اقترفوها وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا العفو: الستر، والصفح: الإعراض، وليتجاوزوا عن الجفاء،

سبب نزول هذه الآية

وليعرضوا عن العقوبة أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي فليفعلوا بهم ما يرجون أن يفعل بهم ربهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر ويرحم، قال النسفي: فتأدبوا بأدب الله، واغفروا وارحموا. سبب نزول هذه الآية: قال ابن كثير: (وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا، بعد ما قال في عائشة ما قال- كما تقدم في الحديث- فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه شرع تبارك وتعالى- وله الفضل والمنة- يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له، إلا ما ينفق عليه أبو بكر، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها، وضرب الحد عليها، وكان الصديق رضي الله عنه معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ الآية فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك وكما تصفح يصفح عنك، فعند ذلك قال: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا- في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا- فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته»). أقول: والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. كلمة في السياق: لقد جاءت الآية الأولى من هذه المجموعة لتحذر وتنفر عن اتباع خطوات الشيطان التي رأينا نماذج منها في المجموعتين السابقتين، ثم جاءت هذه الآية لتأسو الجراح إذا حدث في المجتمع الإسلامي اتباع لخطوات الشيطان، وقد جاء هذا الأدب الآسي في جو لا يسع المسلم معه ألا يرتقي إلى آفاقه، إنه أدب تتجنب فيه أوامر الشيطان الحاثة على التقاطع والتدابر، فهو أدب تظهر به كل معاني المحور: الدخول في الإسلام كله، ترك اتباع خطوات الشيطان، ما ينبغي فعله بعد الزلل. ثم تأتي بعد ذلك ثلاث آيات تبين ما يستحقه القذفة الذين يقذفون الأعراض

[سورة النور (24): آية 23]

المؤمنة، ونلاحظ أن بين هذه الآيات وبين المجموعة الأولى التي تحدثت عن حد القذف صلة واضحة، وقد جاءت حادثة الإفك في الوسط لنعرف من خلالها شناعة جريمة القذف، ولنعرف حكمة عقوباتها، ولقد ذكر في المجموعة الأولى عقوبة القذف الدنيوية، وهاهنا تذكر بالتفصيل عقوبته الأخروية وهذه هي الآيات: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ أي العفائف السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللائي ليس فيهن دهاء ولا مكر، لأنهن لم يجربن الأمور الْمُؤْمِناتِ بما يجب الإيمان به، وأمهات المؤمنين يدخلن بالأولى في استحقاق قاذفهن هذه العقوبة لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ قال النسفي: جعل القذفة ملعونين في الدارين، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة إن لم يتوبوا يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بما أفكوا أو بهتوا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي حسابهم الحق الذي لا ظلم فيه وَيَعْلَمُونَ عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ لارتفاع الشكوك وقتذاك، وحصول العلم الضروري قال ابن كثير في تفسيرها: (أي وعده ووعيده، وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه)، ولم يبق عندنا من المجموعة الثالثة إلا آية واحدة تختم بها حادثة الإفك، وتعطي الدرس الأخير في هذا الموضوع، وتقرر حقيقة، وتعزز ثقة. الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قال ابن كثير في هذه الآية: قال ابن عباس: (الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول- قال- ونزلت في عائشة وأهل الإفك وهكذا روى مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن بن أبي الحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك، واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولهذا قال تعالى أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا أيضا يرجع إلى ما قاله أولئك

كلمة في السياق

باللازم، أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة، لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرا، ولهذا قال تعالى أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي عند الله في جنات النعيم، وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، روى ابن أبي حاتم ... عن الحكم بإسناده إلى يحيى بن الجزار قال: جاء أسيد بن جابر إلى عبد الله فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم اليوم بكلام أعجبني فقال عبد الله: إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما يستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه، وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الخبيثة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ الآية. ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا «مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشر ما سمع، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم فقال: اجزر لي شاة، فقال: اذهب فخذ بأذن أيها شئت، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم» وفي الحديث الآخر «الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها). أقول: فالآية تقرر حقيقة، وتعزز ثقة المسلم بأهله وإخوانه المؤمنين، وتعزز ثقة المرأة المسلمة بزوجها، وتبين لم يستحق القذفة العقوبة التي حددها الله، وذلك لأنهم ظلموا وجاروا، وبهذا تنتهي المجموعة الثالثة. كلمة في السياق: هذه المجموعات الثلاث قررت أحكاما إسلامية، فهي تفصل الأمر ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وبينت مجموعة من خطوات الشيطان؛ فهي تفصل وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وعالجت حالات من الزلل؛ فهي تفصل فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن ثم نعلم صلة المجموعات الثلاث بمحور السورة، أما الصلة فيما بينها فقد تحدثنا عنها بما فيه الكفاية، وقد بقيت عندنا في المقطع الأول مجموعة رابعة، تكمل هذه المجموعات، إذ إنها تضع القواعد التي تحفظ بها الأعراض، وتزال بها الشبهة عن المجتمع الإسلامي، وتبعد عن كل ما يؤدي إلى الفواحش والمنكرات قال الألوسي: (ثم إنه عزّ وجل إثر ما

فوائد

فصل الزواجر عن الزنا، وعن رمي العفائف عنه، شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما، من مخالطة الرجال بالنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات، وتعليم الآداب الجميلة، والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين) وقبل أن نعرض المجموعة الرابعة نحب أن ننقل بعض الفوائد المتعلقة بالمجموعتين الثانية والثالثة. فوائد: 1 - بمناسبة كون آيات المجموعة الثانية والمجموعة الثالثة نزلت في براءة أمنا الكريمة السيدة عائشة رضي الله عنها قال ابن كثير: (ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم وكان يحبك، ولم يتزوج بكرا غيرك، ونزلت براءتك من السماء وقال ابن جرير في تفسيره حدثني محمد بن عثمان الواسطي حدثنا جعفر بن عون عن المعلى بن عرفان عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما، فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتاب الله، حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة، فقالت لها زينب: يا عائشة ما قلت حين ركبتها؟ قالت: قلت حسبي الله ونعم الوكيل، قالت: قلت كلمة المؤمنين). 2 - بمناسبة قوله تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ذكر ابن كثير أن الأكثرين على أن المراد به هو عبد الله بن أبي، وهناك قول آخر أنه حسان بن ثابت، ولكن قال عنه ابن كثير: وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هاجهم وجبريل معك» وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها فدخل حسان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك، وفي رواية قيل لها أتأذنين لهذا يدخل عليك، وقد قال الله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قالت: وأي عذاب أشد من العمى وكان قد ذهب بصره، لعل الله أن يجعل ذاك هو العذاب العظيم، ثم قالت إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه أنشدها عند ما دخل عليها شعرا يمتدحها به فقال:

حصان رزان ما تزن بريبة … وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت: أما أنت فلست كذلك، وفي رواية: لكنك لست كذلك، وقال ابن جرير حدثنا الحسن بن قزعة حدثنا داود عن عامر عن عائشة أنها قالت: ما سمعت بشعر أحسن من شعر حسان، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. هجوت محمدا فأجبت عنه … وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي … لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفء؟ … فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه … وبحري لا تكدره الدلاء فقيل: يا أم المؤمنين أليس هذا لغوا؟ قالت: لا إنما اللغو ما قيل عند النساء، قيل أليس الله يقول وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قالت: أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل السلمي حين بلغه أنه يتكلم في ذلك، فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله). أقول: ليس المراد بقوله تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ حسان ابن ثابت رضي الله عنه وإنما هو عبد الله بن أبي. 3 - بمناسبة قوله تعالى لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً قال ابن كثير: (وقد قيل إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما، كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك، قال فلما نزل القرآن ذكر الله عزّ وجل من قال في الفاحشة ما قال في أهل الإفك إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ثم قال تعالى لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الآية أي كما قال أبو أيوب وصاحبته، وقال محمد بن عمر الواقدي .... عن أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب؛ أفكنت يا أم

أيوب فاعلة ذلك؟ قالت: لا والله، قال: فعائشة والله خير منك، فلما نزل القرآن، وذكر أهل الإفك قال الله عزّ وجل لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال، ويقال إنما قالها أبي بن كعب). 4 - بمناسبة قوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ذكر ابن كثير مجموعة أقوال للمفسرين تفسر خطوات الشيطان، أو تمثل لها، قال: (وقال قتادة: كل معصية فهي من خطوات الشيطان، وقال أبو مجلز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان، وقال مسروق: سأل رجل ابن مسعود فقال: إني حرمت أن آكل طعاما وسماه فقال هذا من نزغات الشيطان، كفر عن يمينك وكل، وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده: هذا من نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشا، وقال ابن أبي حاتم .... عن أبي رافع قال: غضبت علي امرأتي فقالت هي يوم يهودية، ويوم نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك، فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نزغات الشيطان وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة، وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك). 5 - حمل بعض المفسرين قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ على أنها خاصة فيمن قذف عائشة، أو فيمن قذف أمهات المؤمنين. قال ابن كثير: (وقد اختار ابن جرير عمومها وهو الصحيح ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم ... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» أخرجاه في الصحيحين، وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة»). 6 - بمناسبة قوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ قال ابن كثير: (قال ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس قال: إنهم- يعني المشركين- إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة قالوا: تعالوا حتى نجحد فيجحدون فيختم على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون حديثا. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير

أيضا ... عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ثم يدخلهم النار» وقال ابن أبي حاتم أيضا ... عن أنس بن مالك: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: «أتدرون مم أضحك؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «من مجادلة العبد لربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام عليك شهودا فيختم علي فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبيه عن عبد الله الأشجعي عن سفيان الثوري به، ثم قال النسائي لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي وهو حديث غريب والله أعلم، هكذا قال. وقال قتادة بن أبي آدم: والله إن عليك لشهودا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله.) 7 - مما قاله النسفي بمناسبة السياقات السابقة: (ولم يغلظ الله تعالى في القرآن في شئ من المعاصي تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها، فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وما ذاك إلا لأمر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته، إلا من خاض في أمر عائشة. وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك، ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها. وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم رضي الله عنها بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآي العظام، في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر. فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسوله والتنبيه على إنافة محله صلى الله عليه وسلم وعلى آله). 8 - وقال النسفي: وقالت عائشة رضي الله عنها: «لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر عليه الصلاة والسلام أن يتزوجني، وتزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، وتوفي عليه الصلاة والسلام ورأسه في

حجري، وقبره في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخلقت طيبة عند طيب ووعدت مغفرة ورزقا كريما». 9 - إن القرآن كله معجز. والإعجاز يكون في السورة، ويكون فيما هو أكثر من ذلك، وفيما هو أقل، والتدليل على الإعجاز سهل، ولكنه في بعض المواطن أسهل، فمثلا أن قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ تحس به الإعجاز الذي يعطيك ذاته، فالأصل أن يتلقى الإنسان الكلام بإذنه، ثم يستوعبه بعقله وقلبه، ثم يتكلم به بعد ذلك، أو لا يتكلم، ولكن في هذه الحادثة كان التلقي باللسان بدل الأذن والقلب، فهو إشارة إلى سرعة الأخذ، وسرعة النطق دون التعقل والتدبر، إن أمثال هذه التعابير المعجزة في القرآن كثيرة، وهي وحدها تدلك على أن هذا القرآن من عند الله، فكيف إذا اجتمع مع هذا كله الإعجاز؟ وكيف إذا رافق هذا الإعجاز معجزات لا تحصى. ***

المجموعة الرابعة من المقطع الأول

المجموعة الرابعة من المقطع الأول وتمتد من الآية (27) الى نهاية الآية (34) وهذه هي: [سورة النور (24): الآيات 27 الى 34] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

التفسير

التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي بيوتا لستم تملكونها ولا تسكنونها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا، والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف، أي حتى تستعملوا أيطلق لكم الدخول أم لا، قال النسفي: وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو بتنحنح وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها التسليم أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ ثلاث مرات فإن أذن له وإلا رجع، وقيل: إن تلاقيا يقدم التسليم، وإلا فالاستئذان. قال ابن كثير: (هذه آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي يستأذنوا قبل الدخول، ويسلموا بعده، وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف ... ) وتتمة آداب الاستئذان وأدلتها ستأتي في الفوائد ذلِكُمْ أي الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ أى خير للطرفين للمستأذن ولأهل البيت لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي قيل لكم هذا لكي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: لاحظ ما ختمت به الآية الأولى من هذه المجموعة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وأنه عين الذي ختمت به الآية الأولى من السورة سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهذا يفيد أن التذكر كما يكون أثرا عن البيان، يكون أثرا عن تطبيق الأحكام، فلا يكون الإنسان لله ذاكرا إلا باجتماع الذكر، وقراءة القرآن، وتطبيق الأحكام، ولنعد إلى التفسير. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها في البيوت أَحَداً من الآذنين فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي حتى تجدوا من يأذن لكم، أو فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها، لأن التصرف في ملك الغير لا بد أن يكون برضاه وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا إذا كان فيها قوم فقالوا قبل الإذن أو بعده ارجعوا فارجعوا، ولا تلحوا في إطلاق الإذن، ولا تلجوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب، لأن هذا مما يجلب الكراهة، وإذا نهي عن ذلك فقد نهي ضمنا عن كل ما يؤدي إلى إزعاج أهل البيت، من قرع الباب بعنف، ورفع الصوت وغير ذلك هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي الرجوع أطيب وأطهر؛ لما فيه من سلامة الصدور، والبعد عن الريبة، أو أنفع وأنمى خيرا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به، فموف جزاءه عليه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم في أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ قال ابن كثير: (هذه الآية الكريمة أخص من التي قبلها، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن، كالبيت المعد للضيف، إذا أذن له فيه أول مرة كفى .. وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار، وبيوت مكة، وغير ذلك، واختار ذلك ابن جرير) أقول: ويدخل في ذلك في عصرنا الفنادق فِيها مَتاعٌ لَكُمْ المراد بالمتاع إما الأغراض الخاصة، وإما المنفعة العامة قال النسفي: أي منفعة كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال، والسلع والشراء والبيع وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ قال النسفي: هذا وعيد للذين يدخلون الخربات، والدور الخالية من أهل الريبة. كلمة في السياق: في هذه الآيات الثلاث ذكر الله عزّ وجل آدابا عامة في موضوع الدخول إلى البيوت

[سورة النور (24): آية 30]

الخاصة والعامة، ومجيء هذه الآداب بعد الأحكام التي مرت في المجموعات الثلاث الأولى مرتبط نوع ارتباط بها؛ فبالاستئذان تنتفي الريبة، وينتفي الاطلاع على ما لا يرغب الآخرون أن يطلع عليه أحد، وينتفي سوء الظن إذا رأى الإنسان شيئا لا يعرف وجهه الصحيح، ومجيء هذه الآداب في السورة التي محورها ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً معلوم الحكمة، فهي أجزاء من الإسلام ينبغي أن تطبق، وما خالفها اتباع لخطوات الشيطان، ومن زل عنها أخطأ الطريق بعد البيان. ولنعد إلى التفسير: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ المراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، قال النسفي: (ويجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفها وقدميها- في رواية- وإلى رأس المحارم والصدر والساقين والعضدين) وهذا كله بلا شهوة، أما بشهوة فلا يجوز النظر بحال، لا لمحرم ولا لأجنبية، وقال النسفي: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعا وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي من الزنا، ومن النظر إليه لغير زوجة أو زوج أو أمة أو سيد بالنسبة للأمة ذلِكَ أي غض البصر وحفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ أي أطهر من دنس الإثم قال ابن كثير: (أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم) إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ فيه ترغيب وترهيب، يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم، وكيف يجيلون أبصارهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا على تقوى وحذر في كل حركة وسكون وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ قال النسفي: (أمرن بغض الأبصار، فلا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبتيه، وإن اشتهت غضت بصرها رأسا ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك، وغض بصرها من الأجانب أصلا أولى بها، وإنما قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؛ لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، فبذر الهوى طموح العين). وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي مواضع زينتهن، قال النسفي- وهو حنفي-: (ومواضعها الرأس، والأذن، والعنق، والصدر، والعضدان، والذراع والساق، فهي الإكليل، والقرط، والقلادة، والوشاح، والدملج، والسوار، والخلخال) إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال النسفي وهو حنفي: إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان، ففي سترها حرج بين، فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة، والمحاكمة،

والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن). قال الأعمش: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تفسير إلا ما ظهر منها قال: وجهها وكفيها والخاتم، وهذا موضوع سنعود إليه في الفوائد. وَلْيَضْرِبْنَ أي وليضعن بِخُمُرِهِنَّ جمع خمار وهو ما يخمر به، أي يغطي به الرأس عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني على الصدر والنحر، فلا يرى منه شئ، والجيوب فتحات الثياب من العنق قال النسفي: (كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهن، وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن، فتبقى مكشوفة، فأمرن أن يسدلنها من قدامهن، حتى يغطينها) وقال ابن كثير: (يعني المقامع، يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن، لتواري ما تحتها من صدرها، وترائبها؛ ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شئ، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن). وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي مواضع الزينة الباطنة، كالصدر والساق والرأس ونحوها إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي لأزواجهن أَوْ آبائِهِنَّ ويدخل فيهم الأجداد أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ لأنهم صاروا محارم أَوْ أَبْنائِهِنَّ سواء كانوا أبناء نسب أو رضاع أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ فقد صاروا محارم. أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ من النسب أو الرضاع، ويدخل في ذلك سائر المحارم كالأعمام والأخوال، وغيرهم دلالة، كما ذكر النسفي إلا أن بعضهم فهم من عدم ذكر العم والخال أنها تحتاط معهما لأنهما ينعتان لأبنائهما ومن ثم لم يذكرا، ولما كانت الزينة في الأصل للزوج وحده فإن له ما ليس لغيره من الحقوق، إذ يحق له أن ينظر إليها كلها، وتتصنع له ما لا تتصنع لغيره. أَوْ نِسائِهِنَّ قال النسفي: (أي الحرائر لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر). وقال ابن كثير: (يعني تظهر بزينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة ... وقال مجاهد: نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة) ولنا عودة في الفوائد على هذا الموضوع. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال النسفي: أي إمائهن، ولا يحل لعبدها أن ينظر إلى هذه المواضع منها، خصيا كان أو عنينا أو فحلا، قال سعيد ابن المسيب: لا تغرنكم سورة النور، فإنها في الإماء دون الذكور وقال ابن كثير: قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة؛

نقل

لأنها أمتها، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وقال آخرون بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، كظهورها لمحارمها أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي غير أولي الحاجة إلى النساء، كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، ولا هم لهم إلى النساء، ولا يشتهونهن، وقال النسفي: قيل هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله، لا يعرفون شيئا من أمرهن، أو شيوخ صلحاء، أو العنين أو الخصي أو المخنث. أي الذي لا يشتهي النساء ولا يعرف عن أمرهن شيئا. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ قال النسفي: أي لم يطلعوا لعدم الشهوة .. أو لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء، وقال ابن كثير: يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية، وحركاتهن، وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قال ابن كثير: (كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت، لا يعلم صوتها، ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شئ من زينتها مستورا وتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها، فيشم الرجال طيبها). وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قال النسفي: (العبد لا يخلو عن سهو وتقصير في أوامره ونواهيه وإن اجتهد، فلذا وصى المؤمنين جميعا بالتوبة، وبتأميل الفلاح إذا تابوا، وقيل أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان) وقال ابن كثير: (أي افعلوا ما أمركم من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه). نقل: قال صاحب الظلال بين يدي الآيتين اللتين مرتا معنا: (إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا

تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين. فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري ... كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد، وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!!! وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليما، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف. ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة .. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون ... الخ. شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! - وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس. نعم. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه .. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد، ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شئ! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.

كلمة في السياق

إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود. وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة. فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة. وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير. والحركة تثير. والضحكة تثير. والدعابة تثير. والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير. والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبى تلبية طبيعية .. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام. مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد! وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين) كلمة في السياق: ذكر في هاتين الآيتين أحكام غض البصر، وحفظ الفروج، وحفظ العورات، وذلك كله لقطع الذريعة إلى الزنا، فالتبرج وتسريح البصر إلى ما حرم الله، هما بابا الزنا الكبيران، فإذا أغلقا انحسم الزنا وانحسر، فالصلة بين هاتين الآيتين وبين ما سبقهما في مجموعتهما، أو في المجموعات الثلاث الأولى واضحة، وأما صلة الآيتين بمحور السورة فمن حيث إنهما تحدثتا عن أحكام وآداب إسلامية، وذلك داخل ضمن قوله تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ونهتا عن أخلاق جاهلية وذلك داخل تحت قوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وطالبتا بالتوبة، وذكرتا بعلم الله، وذلك داخل ضمن قوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وإذ كان ما مر معنا في هاتين الآيتين هو من باب سد الذرائع التي توصل إلى الزنا، ولما كان الزواج هو الطريق الإيجابي الأقوى لقطع الطريق على الزنا، فإن الآية اللاحقة تأمر به. وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الأيامى: جمع أيم وهو من لا زوج له، رجلا كان أو امرأة، بكرا كان أو ثيبا وَالصَّالِحِينَ أي الخيرين أو المؤمنين مِنْ عِبادِكُمْ أي من عبيدكم أي من أرقائكم وَإِمائِكُمْ أي جواريكم والمعني: زوجوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح من عبيدكم وإمائكم قال النسفي:

[سورة النور (24): آية 33]

(والأمر للندب إذ النكاح مندوب إليه) أقول: هناك حالات يكون النكاح فيها واجبا أو مفروضا والمجتمع الإسلامي متضامن متكافل في تحقيق هذا الأمر، ومن ثم كان عمر ابن عبد العزيز يرسل مناديه ينادي ... أين الناكحون ... حتى أغنى كلا من هؤلاء، وقد زوج عمر بن الخطاب من بيت مال المسلمين، ولنا عودة على هذا الموضوع. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ من المال يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بالكفاية والقناعة وَاللَّهُ واسِعٌ أي غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق عَلِيمٌ كيف يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي لا يجدون استطاعة تزوج من المهر والنفقة، والمعنى وليجتهد هؤلاء في العفة بسلوك طريق ذلك من الصوم والفكر في ملكوت السموات والأرض، والذكر والبعد عن كل مهيج من رؤية وغيرها حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي حتى يقدرهم على المهر والنفقة. قال النسفي: (فانظر كيف رتب هذه الأوامر، فأمر أولا بما يعصم عن الفتنة، ويبعد عن مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح المحصن للدين، المغني عن الحرام، ثم بعفة النفس الأمارة بالسوء، عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح، إلى أن تقدر عليه). وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من مماليككم رجالا كانوا أو نساء فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي قدرة على الكسب أو أمانة وديانة وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قال النسفي: (هذا أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين، وإعطائهم سهمهم من الزكاة ... وعند الشافعي رحمه الله حطوا من بدل الكتابة ربعا، وهذا عندنا على وجه الندب، والكتاب والمكاتبة بمعنى واحد وهو أن يقول لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق، ومعناه: كتبت على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك، أو كتبت عليك الوفاء، وكتبت علي العتق، ويجوز حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم لإطلاق الأمر) وهل يجب على السيد إذا كان لعبده حيلة أو كسب يستطيع أن يؤدي إلى سيده المال أن يكاتبه سيده أو يندب له؟ قال ابن كثير: (وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب ... وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذا بظاهر هذا الأمر) ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد.

نقول

والملاحظ أن الأمر بالمكاتبة جاء بعد الأمر بالإنكاح، فما هي الصلة بين الأمرين؟ أقول: إن الإنكاح سبب لزيادة المسلمين، والمكاتبة تكثير لسواد المسلمين، إذ العبودية نوع موت، ثم إن الأمر بإنكاح الإماء والعبيد الصالحين يوصل إلى الكلام عن حريتهم والطريق إليها، لأن العبد يحرص على أن يتزوج بعد أن يكون حرا، كما أنه يكون أكثر حرصا على الحرية بعد زواجه، وأما الصلة بين هذا الموضوع وبين محور السورة فواضح؛ فهذا جزء من نظام الإسلام الذي أمر الله المسلمين في الدخول به كافة. وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي إمائكم عَلَى الْبِغاءِ أي على الزنا إذ البغاء الزنا للنساء خاصة إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا عن الزنا، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يعني هذا أنه يجوز للرجل إذا لم ترد أمته التحصن أن يدفعها إلى الزنا، كما لا يعني أن الأمة بالخيار في أن تتحصن أو تزني، بل كان القيد بهذا الشرط لأن الإكراه لا يكون إلا مع إرادة التحصن، فآمر المطيعة لا يسمى مكرها، ولا أمره إكراها ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة، وفيه توبيخ للأسياد فكأنه قال: إذا رغبن في التحصن فأنتم أحق بأن تفرحوا بذلك، وتعينوهن عليه فكيف تكرهونهن؟ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ أي على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ لهن رَحِيمٌ بهن أو لهم وبهم إذا تابوا. نقول: 1 - قال صاحب الظلال في الآيات الأخيرة: (إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس. والإسلام نظام متكامل، فهو يفرض العفة وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر. لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. إِنْ يَكُونُوا

فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين .. والمقصود هنا الأحرار. وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. وهذا أمر للجماعة بتزويجهم. والجمهور على أن الأمر هنا للندب. ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزوجوا. ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم. ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة. وهو واجب. ووسيلة الواجب واجبة. وينبغي أن نضع في حسابنا- مع هذا- أن الإسلام- بوصفه نظاما متكاملا- يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال. ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات .. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله. وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد. أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام. فإذا وجد في المجتمع الإسلامي- بعد ذلك- أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم. وكذلك العبيد والإماء. غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين. ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج- متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء- فالرزق بيد الله. وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف (¬1)». ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي والنسائي.

وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه. وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال. والمال هو العقبة الكئود غالبا في طريق الإحصان. ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية. وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً .. وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ. ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا. والخير هو الإسلام أولا. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى. وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها- وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم- فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:

وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا. وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ). 2 - وقال الألوسي عند قوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً الآية (ويكسر شهوته بالصوم للحديث، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه فإن لم تنكسر به تزوج، ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل، وقول جمع: إن الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود، على أن الأدوية خطيرة، وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللا مزمنة، ثم أرادوا الاحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم). أقول: أما إذا كانت الأدوية تخفف من حدة الشهوة ولا تؤدي إلى قطع النسل فلا بأس باستعمالها للرجل أو للمرأة، ثم إذا كان الزوج أو الزوجة في غيبة عن الآخر فلكل منهما استعمال الأدوية المهدأة التي لا تقطع النسل. 3 - بمناسبة الكلام عن المكاتبين في الآيات يقول الأستاذ المودودي في تفسيره لسورة النور: (ومما يجدر بنا ذكره بهذه المناسبة أن الأرقاء في الزمن القديم كانوا على ثلاثة أنواع: 1 - أسارى الحرب، و 2 - الأحرار الذين كانوا يؤخذون ويسترقون ظلما فيباعون، و 3 - الذين كانوا في الرق كابرا عن كابر، ولا يعرف متى كان آباؤهم قد استرقوا، ومن أي النوعين رقهم. فلما جاء الإسلام، كان المجتمع الإسلامي في بلاد العرب وغيرها من أقطار العالم ممتلئا بالأرقاء من هذه الأنواع الثلاثة، وعليهم تقريبا كان يعتمد النظام الاقتصادي والاجتماعي في سيره أكثر مما كان يعتمد على الخدمة والأجراء. فالإسلام واجهته في مثل هذا الوضع مسألتان: الأولى هي مشكلة الأرقاء الذين كانوا موجودين في المجتمع إذ ذاك، والثانية هي حل مشكلة الرق في المستقبل. فجوابا عن المسألة الأولى ما ألغى الإسلام دفعة واحدة حقوق الملكية التي كانت للناس على أرقائهم منذ الزمان القديم، لأنه لو فعل ذلك، لما عطل نظام البلاد الاقتصادي والاجتماعي بأسره فحسب، بل لجر البلاد- أيضا- إلى حرب داخلية مدمرة مثل الحرب التي ظهرت في البلاد الأميركية لما أقدمت على إلغاء نظام الرق، بل لظلت القضية على ظهور هذه الحرب بدون حل، كما بقيت قضية ذل الزنوج (Negros) بدون حل في أميركا. فأعرض الإسلام عن هذا الطريق الخاطئ للإصلاح، وقام في البلاد بحركة شاملة قوية

لمنح الأرقاء حريتهم، واستحث الناس بوسائل الترغيب والتلقين، وأحكام الدين، وقوانين البلاد، على أن يمنوا على أرقائهم بالعتق ابتغاء لنجاتهم الأخروية، أو تكفيرا لذنوبهم حسب الأحكام الدينية، أو في مقابل مقدار معلوم من المال يأخذونه منهم. فهذه الحركة القوية التي قام بها الإسلام في بلاد العرب أعتق النبي صلى الله عليه وسلم بموجبها 63 رقبة، وأعتقت إحدى نسائه وهي عائشة رضي الله عنها 67 رقبة، وأعتق عمه العباس بن عبد المطلب في حياته 70 رقبة، وأعتق حكيم بن حزام رضي الله عنه مائة رقبة، وأعتق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ألف رقبة، وأعتق ذو الكلاع الحميري رضي الله عنه ثمانية آلاف رقبة، وأعتق عبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألف رقبة. ونجد مثل هذه النظائر كثيرة في حياة غير هؤلاء من الصحابة من أبرزهم ذكرا أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، فكأن الناس في ذلك الزمان كان بهم ولوع شديد بفعل الخيرات، ونيل رضا ربهم، فكانوا لأجل ذلك يعتقون أرقاءهم، ويشترون أرقاء غيرهم ويعتقونهم، حتى نال أرقاء الجاهلية كلهم حريتهم قبل انقضاء عهد الخلفاء الراشدين. أما قضية الرق بالنسبة للمستقبل، فعالجها الإسلام بأن حرم تحريما باتا أن يؤسر حر ويسترق فيباع ويشترى. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره .. » رواه البخاري وغيره. غير أن الإسلام قد أذن- نعم، أذن فقط ولم يأمر- باستعباد أسارى الحرب في ما إن كانت حكومتهم لا ترضى باستردادهم من الدولة الإسلامية بمن بيدها من أساراها، ولا هم يفدون أنفسهم بأنفسهم. ولكن مع ذلك فقد ترك الإسلام مجالا واسعا في وجوههم لأن يشتروا حريتهم بالمكاتبة، كما أبقى في حقهم جميع التعاليم والأحكام المتعلقة بتحريض الناس على منح الحرية لأرقائهم القدماء، أي تحريرهم ابتغاء لمرضاة الله أو تكفيرا للذنوب، أو وصية الرجل عند وفاته بعتق رقيقه بعده- وهو ما يعبر عنه بالتدبير في المصطلح الإسلامي- أو نيل الأمة حريتها مع وفاة سيدها، سواء أكان أوصى بعتقها أو لم يوص، إن كان استمتع منها فولدت له ولدا. فهذا هو الحل الموفق الذي عالج به الإسلام قضية الرق. فالجهال لا يدركون حقيقة هذه القضية في الإسلام فيوردون عليها أنواعا من الاعتراضات، وبالجانب الآخر أن محترفي الاعتذار لا يعتذرون عن قضية الرق فحسب، بل وينكرون أصلا إباحة الإسلام للرق في أي صورة من صورها).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: جاء النهي عن إكراه الإماء على الزنا بعد الكلام عن إنكاح الإماء والعبيد ومكاتبتهم، لعلاقة ذلك ببعضه بعضا، والصلة بين ذلك وبين السورة كلها واضحة، فبعد أن تحدث السياق عن كل ما يتعلق ويحيط بموضوع الزنا، كان من المناسب أن يذكر في آخر هذا المقطع المؤلف من أربع مجموعات هذا الموضوع، ثم هو حكم من أحكام الإسلام الذي أمرنا في الدخول فيه كله، والإكراه عمل من أعمال الشيطان وهو زلل، يقتضي أن يعرف ما ينبغي فعله إذا وجد، وهي معان ترتبط كلها بمحور السورة، ولم يبق عندنا من المجموعة الرابعة، إلا آية هي خاتمة هذه المجموعات الأربع، التي تشكل المقطع الأول من السورة فلنرها: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ قال ابن كثير: يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات، ومن الآيات الواضحات آيات هذه السورة التي اجتمع فيها من الإعجاز الكثير وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ قال ابن كثير: أي خبرا عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي زاجرا عن ارتكاب المآثم والمحارم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي زاجرا عن ارتكاب المآثم والمحارم لمن اتقى الله وخافه، أي هم المنتفعون بها وإن كانت موعظة للكل، وقد وضح من هذه الآية أن في القرآن معجزات ودلالات تدل على الله، وأن فيه قصصا وعبرا، وأن فيه موعظة وتذكيرا، فمن لم ير في الآيات، ومن لم يعتبر بما قصه الله علينا في هذا القرآن، ومن لم يتذكر ويتعظ بهذا القرآن، فإنه يكون بينه وبين القرآن حجاب، وقد جاءت هذه الآية قبل المقطع الثاني الذي فيه أروع حديث عن الله عزّ وجل، فهو نموذج كامل على أن القرآن آيات بينات وعلى أنه واعظ ومذكر، كما جاءت خاتمة لمقطعها الذي فصل وبين ووعظ وذكر فهي في محلها تخدم ما قبلها وما بعدها. كلمة في المقطع الأول: تألف المقطع الأول من أربع مجموعات، بينها من الصلات والترابط ما رأيناه، وكلها يخدم تفصيل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا

نقول

أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقد رأينا صلة كل مجموعات المقطع بهاتين الآيتين بما يغني عن إعادته هنا، لقد عمقت المجموعات الأربع معنى الدخول في الإسلام وعمقت موضوع ترك اتباع خطوات الشيطان، وعمقت موضوع عدم الوقوع في الزلل، ودلت على الطريق الواجب اتباعه للبعد عن الزلل، وللتوبة منه حين الوقوع فيه، وقد بدأ المقطع بقوله تعالى سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ثم سار المقطع ضمن مواضيع متعانقة حتى استقر على الآية وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لاحظ الصلة بين أول آية في المقطع، وبين آخر آية فيه، فإذا ما أضيف إلى هذا أن آيات المقطع الثاني ذات موضوع جديد اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهذا وذلك يدل على أن مقطعا قد انتهى، وأن مقطعا جديدا قد جاء، وقد عرض المقطع الأول علينا بعض فرائض الله عزّ وجل، كما أنه قد عرض بعض الآيات الواضحات، كما أنه ذكرنا ووعظنا، وذلك كله قد تضمنته آيتا البدء والختام. نقول: قال ابن تيمية رحمه الله بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ .. والنظر إلى وجه الأمرد بشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم، والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو كانت شهوة التلذذ بالنظر، كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية، وإذ كان معلوما لكل أحد أن هذا حرام فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة. وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة كقوله إن النظر إلى وجوه النساء، والنظر إلى محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته عبادة، ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة، فهو بمنزلة من جعل الفواحش عبادة قال الله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (الأعراف: 28) ومعلوم أنه قد يكون في صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما في صور المردان، فهل يقول مسلم إن للإنسان أن ينظر بهذا الوجه إلى صور النساء نساء العالمين وصور محارمه؛ ويقول إن ذلك عبادة، بل من جعل مثل هذا النظر عبادة فإنه كافر مرتد يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفاحشة عبادة، أو

جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر من الحشيشة عبادة. فمن جعل المعاونة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئا من المحرمات التي يعلم تحريمها في دين الإسلام عبادة، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل وهو مضاهاة للمشركين الذين إذا فعلوا الفاحشة قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية، وقد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف ممن جعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة. والله سبحانه قد أمر في كتابه بغض البصر، وهو نوعان: غض البصر عن العورة، وغضها عن محل الشهوة، فالأول كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة» ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة (¬1) «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس» ويجوز كشفها بقدر الحاجة كما تنكشف عند التخلي. ولذلك إذا اغتسل الرجل وحده بحيث يجد ما يستره فله أن يغتسل عريانا، كما اغتسل موسى (¬2) عريانا وأيوب (¬3)، وكما في ¬

_ (¬1) الحديث رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة القشيري الصحابي المشهور قال قلت: يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر فذكر الحديث. وبهز وأبوه ليسا من شرط البخاري ولذلك فقد رواه معلقا. (¬2) حديث اغتسال موسى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر» إلى آخر الحديث المتفق عليه. صحيح البخاري بشرح فتح الباري 385/ 1.، المنتقى بشرح نيل الأوطار 397/ 1. (¬3) وحديث اغتسال أيوب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك». صحيح البخاري بشرح الفتح 387/ 1.

اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم يوم (¬1) الفتح، واغتساله في حديث ميمونة (¬2). وأما النوع الثاني من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا نظر لها مستحلا لها كان عليه التعزير، لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهي الخمر، وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن، وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة، والخالق سبحانه يسبح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب في قدرته من خلق ذي اللحية، ولا خلق النساء بأعجب في قدرته من خلق الرجال، فتخصيص الإنسان بالتسبيح نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه بالتسبيح بنظره إلى المرأة دون الرجل، وذاك لأنه أدل على عظمة الخالق عنده، ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله وقد يذهله ما رآه فيكون تسبيحه لما حصل في نفسه من الهوى، كما أن النسوة لما رأين يوسف أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (يوسف 31) وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم فإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به. وقد قال تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (طه: 131) وقال في المنافقين وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ ¬

_ (¬1) من ذلك حديث أم هانئ بنت أبي طالب: «ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة تستره، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ». صحيح البخاري بشرح الفتح 1/ 387. (¬2) حديث ميمونة بنت الحارث ورواه عنها ابن عباس قالت: «وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا وسترته فصب على يده فغسلها مرة أو مرتين- قال سليمان (الأعمش أحد رواة الحديث) لا أدري أذكر الثالثة أم لا- ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم ذلك يده بالأرض أو بالحائط، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه وغسل رأسه ثم صب على جسده ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته خرقة فقال بيده هكذا ولم يردها» والحديث رواه الجماعة. الصحيح بشرح الفتح 375/ 1 المنتقى بشرح نيل الأوطار 278/ 1.

يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ (المنافقون: 4) فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم؛ لما فيهم من البهاء والرواء والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن ينظر إليه لشهوة، وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى، وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته، وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور، فهذا حسن، وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه كما ينظر إلى الخيل والبهائم. وكما ينظر إلى الأشجار والأنهار والأزهار، فهذا أيضا إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم. بقوله وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط، كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي لا يستعان به على الحق. وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع النظر بالشهوة، أو كان نظرا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره إلى النسوان والمردان، فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعي، فصار النظر إلى المردان ثلاثة أقسام: أحدها ما تقترن به الشهوة، فهو محرم بالاتفاق، والثاني ما يجزم أنه لا شهوة معه، كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا تقترن به شهوة، إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترن به الشهوة حرم. وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى المردان، كما كان الصحابة، وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبي أجنبي، لا يخطر بقلبه شئ من الشهوة، لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرءوس، ويخدمن من الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس في مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين، كان هذا من باب الفساد، وكذلك المرد الحسان لا يصلح أن يخرجوا في الأمكنة والأزقة التي يخاف فيها الفتنة بهم، إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس في الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، وهو النظر إليه كذلك.

وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو النظر إليه بغير شهوة لكن مع خوف ثورانها، ففيه وجهان. في مذهب أحمد أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي، وغيره أنه لا يجوز، والثاني يجوز لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره، والأول هو الراجح، كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان هذا النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة، لكن مع عدم الشهوة، وأما النظر لغير حاجة محل الفتنة فلا يجوز. ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وأدامه، وقال: إني لا انظر لشهوة، كذب في ذلك، فإنه إذا لم يكن له داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك. وأما نظر الفجأة فهو عفو، إذا صرف بصره، كما ثبت في الصحاح عن جرير قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك» رواه مسلم، وأحمد، وفي السنن أنه قال لعلي رضي الله عنه «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية»: وفي الحديث الذي في المسند وغيره «النظر سهم مسموم من سهام إبليس»: وفيه «من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها يوم القيامة» أو كما قال. ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها كالمرأة والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان، ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور، لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تنجذب بسببها إلى الصور حتى تبقى الصورة تخطف أحدهم وتصرعه كما يصرعه السبع. ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه

من حدث جميل يجلس إليه، وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى أولاد الملوك فإن فتنتهم كفتنة العذارى، وما زال أئمة العلم والدين كأئمة الهدى وشيوخ الطريق يوصون بترك صحبة الأحداث، حتى يروى عن فتح الموصلي أنه قال: صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم يوصيني عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه بصحبة هؤلاء الأنتان. ثم النظر يولد المحبة، فتكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غراما للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيما، والمتيم المعبد، وتيم الله: عبد الله، فيبقى القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون أخا ولا خادما، وهذا إنما يبتلى به أهل الأعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص كما قال الله في حق يوسف عليه السلام كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف: 24) فامرأة العزيز كانت مشركة، فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبيته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقا لقوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (الحجر: 39، 40) قال تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (الحجر: 42) والغي: هو اتباع الهوى. وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس، كما يذكر عن بعضهم من جهال المتصوفة، فإنهم أهل ضلال، فهم مع مشاركة اليهود في الغي، والنصارى في الضلال، زادوا على الأمتين في ذلك، فإن هذا- وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتلطيف نفسه وتهذيب أخلاقه، أو للمعشوق من السعي في مصالحه وتعليمه وتأديبه، وغير ذلك- فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من نفعه. وإنما هذا كما يقال إن في الزنا منفعة لكل منهما، بما يحصل له من اللذة والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال: إن في شرب الخمر منافع بدنية ونفسية: وقال تعالى في الخمر والميسر قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما (البقرة: 329) وهذا قبل التحريم، دع ما قاله عند التحريم، وبعده، فإن التعبد بهذه الصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من

باطن الإثم قال الله تعالى وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ (الأنعام: 120) وقال تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ (الأعراف: 33) وقال تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (الأعراف: 28). وليس بين أئمة الدين نزاع في أن هذا ليس بمستحب، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج عن إجماع المسلمين واليهود والنصارى، بل وعما عليه عقلاء بني آدم من جميع الأمم، وهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص: 50) وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (النازعات: 40) وقال تعالى وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (سورة ص: 26). وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال الإلهي، وجعل هذا طريقا إلى الله، كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة، فقوله هذا أعظم كفرا من قول عباد الأصنام، ومن كفر قوم لوط، فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين الذين يجب قتلهم بإجماع كل أمة، فإن عباد الأصنام قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، وهؤلاء يجعلون الله سبحانه موجودا في نفس الأصنام وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه في المخلوقات أنها أدلة عليه، وآيات له، بل يريدون أنه سبحانه ظهر فيها وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء في الصوفة، والزبد في اللبن والزيت في الزيتون والدهن في السمسم، ونحو ذلك مما يقضي حلول نفس ذاته في مخلوقاته أو اتحاده فيها، فيقولون في جميع المخلوقات نظير ما قاله النصارى في المسيح خاصة، ثم يجلون المردان مظاهر الجمال، فيقرون هذا الشرك الأعظم طريقا إلى استحلال الفواحش بل استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل مشايخهم ... إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمي وأختي وبنتي، حتى يكون هذا حلالا وهذا حراما؟، قال: الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص. إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو بعض الصحابة، كقول الغالية في علي أو ببعض الشيوخ

كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك أو ببعض الصور كصور المردان، ويقول أحدهم: إنما انظر إلى صفات خالقي وأشهدها في هذه الصورة، والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله، ولو قال مثل هذا الكلام في نبي كريم لكان كافرا، فكيف إذا قاله في صبي أمرد، فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها. وقد قال تعالى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران: 80) فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله كفارا، فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا مع قوله إن الله فيها أو متحد بها، فوجوده وجودها، ونحو ذلك من المقالات. (وأما الفائدة الثانية في غض البصر،) فهو يورث نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (الحجر: 72) فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل جنونه كما قيل. سكران سكر هوى وسكر مدامة … ومتى إفاقة من به سكران وقيل أيضا: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم … العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه … وإنما يصرع المجنون في الحين وذكر الله سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان شاه بن شجاع الكرماني (¬1) لا تخطئ له فراسة وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات وذكر خصلة خامسة أظنه هو أكل الحلال- لم تخطئ له فراسة، والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب. (الفائدة الثالثة) قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن في الأثر: الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وإن الله جعل ¬

_ (¬1) كان رحمه الله ورضي عنه من أولاد الملوك صحب أبا تراب النخشبي وأبا عبيد البسري وأولئك الطبقة وكان أحد الفتيان كبير الشان مات قبل الثلاثمائة.

العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه قال تعالى يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: 8) وقال تعالى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران: 139). ولهذا كان في كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله: وكان الحسن البصري يقول: إن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه، وفي دعاء القنوت «إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت». والصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحسنون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث وفي الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وإنما استحسنه من يتشبه به مما هو عاص أو فاسق أو كافر، فيظاهر بدعوى الولاية، لله وتحقيق الإيمان والعرفان وهو من شر أهل العداوة لله، وأهل النفاق والبهتان، والله تعالى يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة، والله سبحانه أعلم). قال الألوسي عند قوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ .. : (فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء، وهي ما بين السرة والركبة، وفي الزواجر لابن حجر المكي كما يحرم نظر الرجل للمرأة، يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة، نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا ما بين السرة والركبة بشهوة حرم، وإن بدونها لا يحرم. نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن، فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه فقلت: يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟»، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شئ من الرجل الأجنبي مطلقا، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، إذا كان بشهوة، ولا تستبعد وقوع هذا النظر، فإنه كثير ممن يستعملن

السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق، أو من الإبداء، أو مما يعم ذلك والإبداء وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي ما يتزين به من الحلي ونحوه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور، كالخاتم والفتخة، والكحل، والخضاب، فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب، وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة، كالسوار، والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح والقرط). (المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة أن مواقع الزينة الظاهرة من الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها، وقد أخرج أبو داود. وابن مردويه. والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلى الله عليه وسلم»، وأخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها رقعة الوجه وباطن الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه والكفان، ولعل القدمين عندهما كالكفين، إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة، فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين، لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات). وعند قوله تعالى أَوْ نِسائِهِنَّ قال الألوسي: (المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات، فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال، فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب، ولا فرق في ذلك بين الذمية وغيرها، وإلى هذا ذهب أكثر السلف* وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر. والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أما بعد: فإنه بلعني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان: أصحهما ما عند الغزالي أنها كالمسلمة، وأصحهما عند البغوي المنع، وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة، ومقتضاه أنها معها كالأجنبي، واعتمده جمع من الشافعية، وقال ابن حجر.

الفوائد

الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها، ومحرمها، ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال الإمام الرازي: المذهب أنها كالمسلمة، والمراد بنسائهن جميع النساء، وقول السلف محمول على الاستحباب وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات). الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذكر ابن كثير مجموعة من آداب الاستئذان وأدلتها. ونحن نجتزئ لك من كلامه ما يلي: (قال: وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف» فقال عمر: لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربا، فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا: لا يشهد لك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري، فأخبر عمر بذلك، فقال ألهاني عنه الصفق بالأسواق.» وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد ... عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فرد سعد ردا خفيا قال قيس: قلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال دعه يكثر علينا من السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام؛ قال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة». قال ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حمارا قد وطئ عليه بقطيفة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم،

قال قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اركب» فأبيت فقال: «إما أن تركب وإما أن تنصرف» قال: فانصرفت، وقد روي هذا من وجوه أخرى فهو حديث جيد قوي والله أعلم. ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، لما رواه أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول «السلام عليكم السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، انفرد به أبو داود. وقال أبو داود أيضا حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير حينئذ قال أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال جاء رجل فقال عثمان: سعد، فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «هكذا عنك- أو هكذا- فإنما الاستئذان من النظر» وقد رواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود من حديثه، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح» وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب فقال: «من ذا» فقلت أنا، قال: أنا أنا؟! كأنه كرهه، وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه، أو كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية. وقد روى الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبإ وجداية وضغابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم استأذن، فقال صلى الله عليه وسلم «ارجع فقل السلام عليكم أأدخل». وذلك بعد ما أسلم صفوان. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به، وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وروى أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «أخرج إلى هذا

فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل» فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وقال هشيم أخبرنا منصور عن ابن سيرين وأخبرنا يونس عن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أألج أو أنلج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له يقول السلام عليكم أأدخل» فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل فقال «ادخل». وقال هشيم أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم. وأخواتكم. وقال أشعث عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وأنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال. قال فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً الآية. وقال ابن جريج سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثلاث آيات جحدهنّ الناس. قال الله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (الحجرات: 13) قال: ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتا، قال والأدب كله قد جحده الناس، قال قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم فرددت عليه ليرخص لي، فأبى فقال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن، قال فراجعته أيضا: أتحب أن تطيع الله؟ قال قلت: نعم. قال فاستأذن. قال ابن جريج وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم قال: وكان يشدد في ذلك وقال ابن جريج عن الزهري: سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم، وقال ابن جريج قلت لعطاء أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به؛ لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن حازم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود، عن زينب رضي الله عنها قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. إسناده صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا الأعمش عن

عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال: كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس تكلم ورفع صوته. وقال مجاهد حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قال تنحنحوا أو تنخموا. وعن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أنه قال: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح، أو يحرك نعليه ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا، وفي رواية ليلا يتخونهم، وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارا فأناخ بظاهرها وقال: «انتظروا حتى ندخل عشاء- يعني آخر النهار- حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن واصل بن السائب، حدثنا أبو ثورة بن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله هذا السلام فما الاستئناس؟ قال «يتكلم الرجل بتسبيحة، أو تكبيرة، أو تحميدة، ويتنحنح، فيؤذن أهل البيت» هذا حديث غريب، وقال قتادة في قوله تعالى حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا هو الاستئذان ثلاثا، فمن لم يؤذن له منهم فليرجع، أما الأولى فليسمع الحي؛ وأما الثانية فليأخذوا حذرهم. وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه، ويقول: حييت صباحا، وحييت مساء. وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول: قد دخلت ونحو ذلك، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله. فغير الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها الآية وهذا الذي قاله مقاتل حسن). 2 - بمناسبة قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... قال ابن كثير: (هو أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد ... عن جرير بن عبد الله البجلي

رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري وكذا رواه الإمام أحمد ... وفي رواية لبعضهم فقال «أطرق بصرك» يعني: انظر إلى الأرض، والصرف أعم، فإنه قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى، والله أعلم، وقال أبو داود ... عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس على الطرقات»، قالوا يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» وقال أبو القاسم البغوي حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا فضيل بن حسين، سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اكفلوا لي ستا أكفل لكم الجنة، إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» وفي صحيح البخاري «من يكفل لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أكفل له الجنة» وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: كل ما عصي الله به فهو كبيرة، وقد ذكر الطرفين فقال قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب كما قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب. ولذلك أمر الله بحفظ الفروج، كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك فقال تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا، كما قال تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية (المعارج: 29). وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك» ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي أطهر لقلوبهم واتقى لدينهم، كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته، ويروى في قلبه. وروى الإمام أحمد حدثنا عتاب حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا يحيى بن أبي أيوب عن عبيد الله بن زحر، عن علي ابن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» وروى هذا مرفوعا عن أبي عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم، ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب، ومثله يتسامح فيه، وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن يزيد عن علي بن

يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا «لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن وجوهكم». وقال الطبراني حدثنا أحمد بن زهير التستري قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقري حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا حريم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ كما قال تعالى يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (غافر: 19) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» رواه البخاري تعليقا، ومسلم مسندا من وجه آخر بنحو ما ذكر. وقد قال كثير من السلف إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل نظره إلى الأمرد وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أهل العلم؛ لما فيه من الافتتان، وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا، وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدني حدثنا عمر بن سهل المازني حدثني عمر بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل عين باكية يوم القيامة، إلا عينا غضت من محارم الله، وعينا سهرت في سبيل الله، وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عزّ وجل). 3 - ذكر ابن كثير مجموع ما قاله العلماء في الآية وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ... ونلاحظ أن بعض الآيات كان للعلماء فيها وجهتا نظر، كستر الوجه مثلا، فمنهم من يعتبره مفروضا، وقد عرض ابن كثير أدلة الطرفين، والذي نراه في هذا الموضوع وغيره أن القول الأدنى هو الرخصة، والقول الأعلى هو العزيمة، وما دام المسلم في الأدنى فلا حرج، وإذا ارتقى إلى الأعلى فذلك الأكمل، وهذه وجهة نظر لبعضهم، إذ يرى أن كل ما اختلف فيه أئمة الاجتهاد فإنه يدور ما بين رخصة وعزيمة، والورع هو الأطيب، ولا يحق للآخذ بالرخصة أن ينكر على من يبتغي الكمال، كما ليس للعامل في العزيمة أن يطالب كل الناس بالحد الأعلى، ثم إذا ترجح لأحد وجهة نظر لدليل- وخاصة إذا كان من أهل النظر- فعليه أن يعمل به، وله أن يدعو له

بالإحسان، ولكن ليس له أن يشتد على من خالفه ما دام على رأي للأئمة، وفي هذا المقام نحب أن نسجل ملاحظة: هي أن هناك أقوالا تسع عصرا من العصور، فمن المصلحة في هذه الحالة ألا نعارض مثل هذه الأقوال، إذا كان عليها بعض أئمة الاجتهاد، لأن طاقة الناس ليست واحدة في مجابهة الضغوط الاجتماعية، فإذا اتضح هذا المقام فلننقل كلام ابن كثير كله في هذه الآية؛ فإنه استوعب الأقوال كلها قال في الآية: (هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عبادة المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية، وفعال المشركات، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكر مقاتل بن حيان قال: بلغنا- والله أعلم- أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الآية، فقوله تعالى وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا، واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري ... أن أم سلمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة فقالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه» فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوعمياوان أنتما، أو ألستما تبصرانه؟» ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم، حتى ملت ورجعت. وقوله وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ قال سعيد بن جبير: عن الفواحش، وقال قتادة وسفيان: عما لا يحل لهن، وقال مقاتل: عن الزنا، وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الآية وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أن لا يراها أحد، وقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه،

ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة، وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب وقال الزهري: لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم، وقال مالك عن الزهري إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الخاتم والخلخال، ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه، حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هو مرسل. خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها والله أعلم، وقوله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني المقانع، يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها؛ ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية؛ فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شئ، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقرطة آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ (الأحزاب: 59) وقال في هذه الآية الكريمة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمر: جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع. قال سعيد بن جبير وَلْيَضْرِبْنَ وليشددن بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ يعني: على النحر والصدر، فلا يرى منه شئ وقال البخاري وقال أحمد بن شبيب:

حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن فاختمرن بها. وقال أيضا حدثنا أبو نعيم حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول لما نزلت الآية وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ: أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثني الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، وأشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات، كأن على رءوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبة به، وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرقرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به، وقوله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي أزواجهن أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر بزينتها، ولكن من غير تبرج، وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى- يعني ابن هارون- حدثنا أبو بكر- يعني ابن أبي شيبة- حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ حتى فرغ منها وقال: لم يذكر العم، ولا الخال، لأنهما ينعتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال، فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره. وقوله أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: تظهر بزينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة؛ لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد؛ فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك

حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» وأخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود، وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحارث بن قيس أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وقال مجاهد في قوله أَوْ نِسائِهِنَّ قال: نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة. وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أَوْ نِسائِهِنَّ قال: هن المسلمات، لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر والقرط والوشاح، وما لا يحل أن يراه إلا محرم، وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة؛ لأن الله تعالى يقول أَوْ نِسائِهِنَّ فليست من نسائهن. وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة، فأما ما رواه ابن أبي حاتم عن عطاء قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات، فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة، أو أن ذلك من باب الامتهان، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد والله أعلم. وقوله تعالى أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال ابن جرير يعني من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها، وإن كانت مشركة لأنها أمتها، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وقال الأكثرون بل يجوز لها أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقي قال: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك». وقد ذكر الحافظ بن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة، وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته. ثم قد كان بعد ذلك كله مع معاوية أيام صفين، وكان من أشد الناس على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه» ورواه أبو داود عن مسدد عن سفيان به. وقوله تعالى أَوْ

التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله، ولا هم لهم إلى النساء ولا يشتهونهن. قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد: هو الأبله، وقال عكرمة: هو المخنث الذي لا يقوم ذكره، وكذلك قال غير واحد من السلف. وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة، يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة يستطعم. وروى الإمام أحمد عن أم سلمة أنها قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها مخنث وعندها عبد الله ابن أمية يعني أخاها والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، قال فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة «لا يدخلن هذا عليك» أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة. وقال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنثا، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة، فقال: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلن عليكم هذا» فحجبوه ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة. وقوله تعالى أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ يعني لصغرهم، لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية، وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إياكم والدخول على النساء» قيل يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال «الحمو الموت» وقوله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق، وفي رجلها خلخال صامت، لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذا إذا كان شئ من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي ولقوله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ إلى آخره، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها، فيشم الرجال طيبها، فقد قال أبو

عيسى الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا». يعني زانية، قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حسن صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به. وقال أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة شم منها ريح الطيب، ولذيلها إعصار، فقال يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت: نعم. قال لها: تطيبت؟ قالت: نعم. قال إني سمعت حبيبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد، حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة» ورواه ابن ماجه. عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضا من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها». ومن ذلك أيضا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق، لما فيه من التبرج قال أبو داود عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة، والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه، والله تعالى هو المستعان). 4 - عند قوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن كثير: (هذا أمر بالتزويج وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه، على كل من قدر، واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تزوجوا الولود تناسلوا؛ فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» وفي رواية «حتى بالسقط» والأيامى: جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له،

وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال رجل أيم وامرأة أيم وقوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى فقال إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال ابن أبي حاتم ... أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعن ابن مسعود «التمسوا الغنى في النكاح» يقول الله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر نحوه وعن الليث ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يكن عليه إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث «تزوجوا فقراء يغنكم الله» فلا أصل له، ولم أره باسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن. وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة). 5 - وعند قوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن كثير: (هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» الحديث، وهذه الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ إلى قوله تعالى وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم، لأن الولد يجئ رقيقا قال عكرمة في قوله وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً قال هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر إلى ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله). 6 - رأينا أن هناك اتجاهين للمفسرين في قوله تعالى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ

خَيْراً هل هذا الأمر للندب أو هو للوجوب، ولننقل كل ما قاله ابن كثير في هذا الموضوع: ثم نعقب تعقيبا خفيفا على موضوع الرق. قال ابن كثير: (هذا أمر من الله تعالى للسادة، إذا طلب عبيدهم منهم أن يكاتبوهم، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة، إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه، قال الثوري عن جابر عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، وكذا روى ابن وهب ... عن عطاء بن أبي رياح: إن يشأ كاتبه، وإن يشأ لم يكاتبه، وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري، وذهب آخرون إلى إنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذا بظاهر هذا الأمر. وقال البخاري، وقال روح ابن جريج قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبا، وقال عمرو بن دينار قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا، ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسا المكاتبة، وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال: كاتبه، فأبى فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فكاتبه هكذا ذكره البخاري معلقا، ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال ما أراه إلا واجبا. وقال ابن جرير ... عن أنس بن مالك أن سيرين أراد أن يكاتبه فتلكأ عليه، فقال له عمر لتكاتبنه. إسناد صحيح، وروى سعيد بن منصور ... عن الضحاك قال: هي عزمة، وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس» وقال ابن وهب قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدا من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده، قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله تعالى، وإذن منه للناس، وليس بواجب، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية وقوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال بعضهم أمانة، وقال بعضهم صدقا، وقال بعضهم مالا، وقال بعضهم حيلة وكسبا، وروى أبو داود في المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال تعالى «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس».

تعقيب

تعقيب: الرق إما استمرار لوضع وجد قبل الإسلام، أو هو مبتدأ بعد الإسلام، وما كان مبتدأ بعد الإسلام، فإما أنه بسبب من وجوده عند الآخرين، فيشتري المسلم منهم، وإما بسبب الحرب. وإن نظام الرق في الإسلام- كأثر من آثار الحرب- هو أرفق ملايين المرات من الأسر ونظام السخرة. وفتح باب المكاتبة لا يبقي مجالا لأحد يرغب في الحرية إلا ويطالها والمسلمون أعطاهم دينهم من السعة ما يستطيعون به أن يتعاملوا مع الشعوب بمثل ما تعاملهم به الشعوب، بل أكمل، ولكن يبقى نظام الرق مقررا وللمسلمين إذا رأوا مصلحة باستئنافه أن يستأنفوه، إلا إذا دخلوا في معاهدات دولية- لمصلحة إسلامية- فعليهم الوفاء بها. قارن بين هاتين الصورتين: في الحرب العالمية الثانية أسرت الأطراف المتحاربة من بعضها الأعداد الهائلة، وقد ادعى الروس أن الألمان أسروا لهم ستة ملايين لم ينج منهم إلا مليون، وكان الأسرى خلال الحرب في معسكرات اعتقال رجالا ونساء، وكان الحرمان والإذلال والجوع والعطش والبرد والحر بعض ما أصابهم، وكانت الفوضى الجنسية هي الأساس. قارن هذه الصورة بما يحدث إسلاميا: خيرنا الإسلام أثناء الحرب بالنسبة للأسرى خيارات متعددة، أحدها الاسترقاق، فيوزع الأسرى على المقاتلين، ومن كان من الخمس وزع على مستحقه، ومن حق الرقيق على سيده أن يطعمه مما يطعم، وأن يلبسه مما يلبس، وأن يسكنه السكن المناسب، ثم إن كان للرقيق قدرة على العمل والكسب- بحيث يستطيع أن يؤدي ثمن نفسه- يستطيع أن يطالب بالمكاتبة، وإذا كاتب طولب المسلمون بمساعدته، فإذا أدى الذي عليه أصبح حرا، وفي هذه الحالة يصبح جزءا من المجتمع الإسلامي له حق المواطنة كبقية أبناء الوطن الإسلامي، سواء أسلم أو لم يسلم، قارن بين هاتين الصورتين لترى أن الصورة الثانية هي الأرفق والأرحم، ومع هذا فإن الاسترقاق هو أحد الخيارات التي أعطيت لأمير المؤمنين في معاملة الأسرى. 7 - بمناسبة قوله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ. نقل ابن

كثير الآثار الواردة في سبب نزولها ونحن نجتزئ من ذلك ما يلي: (قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها معاذة، يكرهها على الزنا، فلما جاء الإسلام نزلت وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية، وروى الأعمش عن جابر في هذه الآية قال: نزلت في أمة لعبد الله ابن أبي بن سلول يقال لها مسيكة، وكان يكرهها على الفجور، وكانت لا بأس بها فتأبى فأنزل الله هذه الآية وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إلى قوله وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ وروى النسائي من حديث ابن جرير عن أبي الزبير عن جابر نحوه وروى الحافظ أبو بكر البزار عن جابر قال كان لعبد الله بن أبي بن سلول جارية يقال لها مسيكة، وكان يكرهها على البغاء فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إلى قوله وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ... وقال مقاتل بن حيان: بلغني- والله أعلم- أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما أحدهما اسمها مسيكة، وكانت للأنصار، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له، فأنزل الله في ذلك وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ يعني الزنا. 8 - للنسفي كلام جميل أثناء حديثه عن المكاتبين إذ عبر من الحديث عن أنواع العبيد للناس إلى أنواع العبيد لله فقال: (واعلم أن العبيد أربعة: قن مقتنى للخدمة، ومأذون في التجارة، ومكاتب، وآبق. فمثال الأول ولي العزلة الذي حصل العزلة بإيثار الخلوة وترك العشرة. والثاني ولي العشرة، فهو نجي الحضرة، يخالط الناس للخبرة، وينظر إليهم بالعبرة، ويأمرهم بالعبرة، فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكم بحكم الله، ويأخذ لله، ويعطي في الله، ويفهم عن الله، ويتكلم مع الله، فالدنيا سوق تجارته، والعقل رأس بضاعته، والعدل في الغضب والرضا ميزانه، والقصد في الفقر والغنى عنوانه، والعلم مفزعه ومنحاه، والقرآن كتاب الإذن من مولاه، هو كائن في الناس بظواهره، بائن منهم بسرائره، فقد هجرهم فيما له عليهم في الله باطنا، ثم وصلهم فيما لهم عليه ظاهرا. وما هو منهمو بالعيش فيهم … ولكن معدن الذهب الرغام

يأكل ما يأكلون، ويشرب ما يشربون، وما يدريهم أنه ضيف الله، يرى السموات والأرض قائمات بأمره، وكأنه قيل فيه: فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإن المسك بعض دم الغزال فحال ولي العزلة أصفى وأحلى، وحال ولي العشرة أوفى وأعلى. ونزل الأول من الثاني في حضرة الرحمن منزلة النديم من الوزير عند السلطان، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو كريم الطرفين، ومعدن الشذرين، ومجمع الحالين، ومنبع الزلالين، فباطن أحواله مهتدى ولي العزلة، وظاهر أعماله مقتدى ولي العشرة، والثالث: المجاهد المحاسب، العامل المطالب بالضرائب، كنجوم المكاتب، عليه في اليوم والليلة خمس، وفي المائتي درهم خمسة، وفي السنة شهر، وفي العمر زورة، فكأنه اشترى نفسه من ربه بهذه النجوم المرتبة، فيسعى في فكاك رقبته خوفا من البقاء في ربقة العبودية، وطمعا في فتح باب الحرية، ليسرح في رياض الجنة، فيتمتع بمبياه، ويفعل ما يشاؤه ويهواه، والرابع: الأباق فما أكثرهم، فمنهم القاضي الجائر، والعالم غير العامل، والعامل المرائي، والواعظ الذي لا يفعل ما يقول، ويكون أكثر أقواله الفضول، وعلى كل ما لا ينفعه يصول، فضلا عن السارق والزاني والغاصب فعنهم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله لينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة). ***

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (35) إلى نهاية الآية (46) وهذا هو: [سورة النور (24): الآيات 35 الى 46] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

بين يدي المقطع الثاني

بين يدي المقطع الثاني: - إن المقطع الأول ينتهي بقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وهذا المقطع ينتهي بقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. والمقطع يعرفنا على الله بشكل رئيسي، ولذلك فإن الفقرة الأولى منه تبدأ بقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والفقرة الثانية تبدأ بقوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. وقد جاء المقطع في وسط سورة النور، فهو يخدم ما قبله، وما بعده، ويعلل لما قبله ولما بعده، فهو واسطة العقد في هذه السورة العجيبة. إن في هذا المقطع من الجمال والكمال والإعجاز في اللفظ والمعنى، كما أن فيه من

المعجزات الأخرى ما يدهش ويحير، وإن فيه من الروعة ما لا يحيط به بيان، وقد كتبت في آيات منه رسائل وكتب، إن فيه الكثير مما لو تأمله المنصف فإنه يهتدي إلى الإيمان، وإن من فهمه واستوعب معانيه يدرك كيف أن في سورة النور بينات، وكيف أن هذا القرآن من عند الله، ولقد قدم صاحب الظلال لهذا المقطع بقوله: (في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري. ليرققه ويطهره، ويرتفع به إلى آفاق النور. عالج عرامة اللحم والدم، وشهوة العين والفرج، ورغبة التجريح والتشهير، ودفعة الغضب والغيظ. وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة، وأن تشيع في القول. عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف. وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات. وعالجها بالوسائل الواقية: بالاستئذان على البيوت، وغض البصر، وإخفاء الزينة، والنهي عن مثيرات الفتنة، وموقظات الشهوة. ثم بالإحصان، ومنع البغاء، وتحرير الرقيق .. كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق. وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ، ومن اضطراب في المقاييس، وقلق في النفوس. فإذا نفس محمد- رسول الله صلى الله عليه وسلم- مطمئنة هادئة. وإذا نفس عائشة- رضي الله عنها- قريرة راضية. وإذا نفس أبي بكر- رضي الله عنه- سمحة صافية. وإذا نفس صفوان بن المعطل- رضي الله عنه- قانعة بشهادة الله وتبرئته. وإذا نفوس المسلمين آئبة تائبة. وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه. فثابت إلى ربها، شاكرة فضله ورحمته وهدايته .. بهذا التعليم. وهذا التهذيب. وهذا التوجيه. عالج الكيان البشري، حتى أشرق بالنور؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء؛ واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل، الغامر في عالم كله إشراق، وكله نور: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء؛ فيغمر الكون كله، ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر؛ وحتى تعانقه وترشفه العيون والبصائر؛ وحتى تنزاح الحجب، وتشف القلوب، وترف الأرواح.

التفسير

ويسبح كل شئ في الفيض الغامر، ويتطهر كل شئ في بحر النور، ويتجرد كل شئ من كثافته وثقله، فإذا هو انطلاق ورفرفة، ولقاء ومعرفة، وامتزاج وألفة، وفرح وحبور. وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود، تتصل فيه السماوات بالأرض، والأحياء بالجماد، والبعيد بالقريب؛ وتلتقي فيه الشعاب والدروب، والطوايا والظواهر، والحواس والقلوب .. اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. النور الذي منه قوامها ومنه نظامها .. فهو الذى يهبها جوهر وجودها، ويودعها ناموسها .. ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى، عند ما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة- بعد تحطيم الذرة- إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور! ولا «مادة» لها إلا النور! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونات، تنطلق- عند تحطيمها- في هيئة إشعاع قوامه هو النور! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون. كان يدركها كلما شف ورف، وانطلق إلى آفاق النور. ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففاض بها وهو عائد من الطائف، نافض كفيه من الناس، عائذ بوجه ربه يقول: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة». وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج. فلما سألته عائشة: هل رأيت ربك؟ قال: «نور. أنى أراه.». ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما، ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد. فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي، عاد يقارب مداه، ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود، في مثل قريب محسوس: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. نُورٌ عَلى نُورٍ .. التفسير: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هداها فهو الذي هدى السموات والأرض ومن فيهن. قال ابن عباس فيها: (أي هادي أهل السموات والأرض) فلا هدى إلا بهداه، فكل نوع من أنواع الهدى فإنما هو به ومنه، وقد تحدثنا عن ظاهرة الهداية في

كتابنا (الله جل جلاله) فلتراجع، وبعد أن قرر الله عزّ وجل هذه القاعدة الكلية وهي أنه الهادي لكل شئ، ضرب مثلا لنوع من هداه وهو هداه الخاص لقلوب عباده المؤمنين مَثَلُ نُورِهِ أي مثل هداه، وإذن فبعد أن قرر أنه نور السموات والأرض بدأ بضرب مثل نعرف منه معنى كونه نور السموات والأرض وهاديهما، هذا المثل يتضمن الكلام عن الهدى في قلب المؤمن، فمن عرف هداية الله لقلوب عباده المؤمنين يدرك كيف أن الله هادي السموات والأرض، وإنما عرفنا ذلك من السياق، ومن القراءات الشاذة الواردة في هذا المقام، إذ القراءات الشاذة إذا كانت صحيحة تعتبر من باب التفسير المأثور للآية كَمِشْكاةٍ المشكاة: هي الكوة- غير النافذة- في الجدار فِيها مِصْباحٌ أي سراج ضخم ثاقب الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي في قنديل من زجاج صاف الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي كأنها كوكب مضيء أي كأنها كوكب من در يُوقَدُ أي هذا المصباح مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة، وهي شجرة الزيتون، وبركتها كثرة منافعها كما قال النسفي زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجئ زيتها صافيا معتدلا مشرقا يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ من صفائه ونقائه وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي لتلألئه يكاد يضيء من غير نار نُورٌ عَلى نُورٍ أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف، قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور إلا وقد وجدت، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق- كالمشكاة- كان أجمع لنوره كما نرى ذلك في مصابيح السيارة، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه، والزجاج أعون شيء على زيادة الإنارة كما نرى ذلك في عصرنا في المصابيح الكهربائية، وصفاء الزيت يساعد على صفاء النور وقوته، وبعد أن أنهى الله ضرب المثل على نوع من هداه قال يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي لهداه مَنْ يَشاءُ أي فيوفقه إلى إصابة الحق إما بإلهام من الله أو بنظر في الدليل وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا لأفهامهم ليعتبروا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال. والآن وقد عرفنا المعنى الحرفى للكلمات فلنر المراد منها: أما المشكاة فإنها المؤمن، وأما الزجاجة فإنها قلبه، وأما المصباح فإنه نور قلبه وفطرته، وأما الزيت فهو عمله بالشريعة، وأما الزيتونة فإنها الشريعة لا شرقية ولا غربية، وأما النور فإنه نور الفطرة ونور الشريعة، فإذا اجتمع لإنسان نور الفطرة ونور

[سورة النور (24): آية 36]

الشريعة فكيف يكون هداه؟ إنه يكون على غاية من الهدى في كل ما يفعل ويذر، فهذا نموذج على هدى الله الذي هدى به السماوات والأرض، فالله عزّ وجل ضرب مثلا لهداية السموات والأرض بحال المؤمن المهتدي بنور الشريعة والنص في سياقة يفيد أن الله- عزّ وجل- إذا هدى أحدا بهداه الخاص فإنه بذلك يكون منسجما مع نظام الكون كله، إن هذه الآية لا يفهمها إلا من اجتمع له علم وسلوك إلى الله أمثال هؤلاء هم الذين يدركون المعنى الحقيقي للآية. ولتوضيح هذا المقام نذكر الحديث الذي ذكره ابن كثير عند هذه الآية، والذي رواه الإمام أحمد وقال عنه ابن كثير إسناده جيد ولم يخرجوه. أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس مصفح، فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف: فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس: فقلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح: فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة، يمدها الدم والقيح فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه». إن هذا الحديث يعتبر أساسا في فهم موضوع القلب والسلوك، فالقلب المذكور فى الآية هو القلب الأجرد الذي فيه مثل السراج يزهر، هذا القلب يحتاج إلى مدد دائم بالعمل بالشريعة فذلك زيته ووقوده، والقلب المصفح قلب يحتاج إلى جهد مضاعف، كي يتخلص من رواسبه ونفاقه ليصل صاحبه إلى القلب الأول، وقد يحتاج إلى طبيب يعرف كيف يداويه، وأما القلب المنكوس والقلب الأغلف فهذان انتهى أمرهما، ولم يعد منهما خير، أو فيهما أمل، إنه ما لم يكن في القلب شئ من نور الفطرة، فإن الإنسان يكاد يكون ميئوسا منه، ولكون هذا غيبا فإن علينا أن ندعو، والإحساس بهذه المعانى- كما قلنا من قبل- لا يدركها إلا من اجتمع له علم وسلوك، وسير قلبي إلى الله. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أي أمر الله أَنْ تُرْفَعَ أي تبنى أو تعظم وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بالصلاة والذكر والعلم، وقراءة القرآن، والمراد بها المساجد، وتقدير الكلام. كمشكاة في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، وقد رأينا أن المراد بالمشكاة في

[سورة النور (24): آية 37]

المثل هو المؤمن. قال ابن كثير: (لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزجاجة الصافية، المتوقد من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد) وعلى هذا فكأن الله عزّ وجل أفهمنا أن مظنة وجود هذا النوع من الناس، الذين وصف الله قلوبهم بما وصف، هي المساجد التي أمر الله أن تعظم، بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو، والأقوال، والأفعال، التي لا تليق فيها، وأن يذكر فيها اسمه في الصلاة، وحلقات العلم والذكر، وقراءة القرآن، وأمثال ذلك. ومن ثم ورد في الحديث «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» وبعض المفسرين علق قوله تعالى فِي بُيُوتٍ بقوله تعالى يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وعلى هذا يكون المعنى: أن القلوب المؤمنة، توقد من شريعة الله، في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، وهذا يفيد أن مدد الإيمان مظنته المساجد، ومن ثم فعلى العلماء أن يقيموا حلقات العلم، والقرآن في المساجد، من أجل أن يوقدوا مصباح الإنسان وهو قلبه، وعلى أي من التفسيرين، فإن المساجد لها الدور الأول في إيجاد الإيمان، ووجود المؤمن، وهذا يجعل مسئوليتنا كبيرة في عمارة المساجد، ولنا عودة هذا الموضوع في الفوائد. بعد أن عرفنا أن المساجد هي مظنة وجود هذا النوع من القلوب، أو هذا النوع من المؤمنين المهتدين المذكورين في الآية السابقة، وبعد أن ذكرنا الله عزّ وجل أن من شأن المساجد أن تعظم عن كل ما لا يليق بها، وأن من شأنها أن يذكر فيها اسمه قال: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها أي في المساجد بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي في البكور والعشيات، والآصال: جمع الجمع، فهي جمع أصل، التي هي جمع أصيل، وهو آخر النهار، وإنما وحد الغدو لأن صلاته واحدة، أما الآصال فصلواتها أربع رِجالٌ أي يصلي لله في المساجد رجال في الغدو، أي صلاة الفجر، والآصال: أي صلاة الظهر، والعصر، والعشاءين، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «كل تسبيح في القرآن هو الصلاة» ثم وصف الله هؤلاء الرجال بقوله: لا تُلْهِيهِمْ أي لا تشغلهم تِجارَةٌ في سفر وَلا بَيْعٌ في الحضر، ويمكن أن يكون المراد بالتجارة الشراء، والبيع معروف عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بالقلب واللسان وَإِقامِ الصَّلاةِ أي وعن إقامة الصلاة وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي وعن إيتاء الزكاة، وهل المعنى أنه لا تجارة لهم أصلا؟ أو أن لهم تجارة ولكن لا تشغلهم عن القيام بحق الله؟ قولان للمفسرين، والراجح

[سورة النور (24): آية 38]

الثاني، ويؤيد هذا ذكر الزكاة، فمن لا عمل له لا مال له، ومن لا مال له كيف يزكي؟ ثم أكمل الله وصفهم بقوله يَخافُونَ يَوْماً أي يوم القيامة تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ ببلوغها إلى الحناجر وَالْأَبْصارُ بالشخوص والزرقة، أو تتقلب فيه القلوب والأبصار من حال إلى حال، على حسب جلال الموقف ورهبته أو تتقلب فيه القلوب إلى الإيمان بعد الكفران، والأبصار إلى العيان بعد الإنكار في الدنيا وقوله رِجالٌ فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه، كما أن فيه إشعارا أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل. ثم قال تعالى لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي هم يفعلون ما يفعلون من أجل أن يجزيهم الله، فهم يسبحون ويخافون ويفعلون ما يفعلونه في الخير ليجزيهم الله أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم، والسياق يشعر أنهم يفعلون الخير ليحصلوا ذاك، وأنهم قد حصلوا فعلا وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي يثيب من يشاء ثوابا لا يدخل في حساب الخلق، وبهذا أنهى الله الكلام عن صفات المهتدين، والملاحظ أنه من خلال عرض صفات المهتدين بنوره، قد ذكر الله عزّ وجل ماهية العمل الذي يضيء القلب وينيره، وهو التسبيح بإقامة الصلوات في المساجد، والذكر، والصلاة بشكل مطلق، والزكاة، والخوف من الله، والرغبة فيما عنده، إن هذا هو الطريق لتنمية الإيمان. تلخيص: في الآيات التي مرت معنا من المقطع الثاني حدثنا الله عزّ وجل عن هدايته للسماوات والأرض، وضرب لنا مثلا على هذه الهداية بهدايته لعبده المؤمن، وعرفنا من ذلك أن هناك هدايتين: هداية الفطرة، وهداية الشريعة، وأن هداية الفطرة مستمدة من هداية الشريعة. وأن نور القلب لا يزال مشتعلا ما دام هناك عمل بالشريعة، وقد دلنا الله عزّ وجل على الأعمال التي تبقي نور القلب مشتعلا، وإذا أردنا أن نقرب الموضوع للأذهان من خلال ضرب مثل نأخذه من معارف عصرنا نقول: إن المصباح الكهربائي يستمد نوره من مولد الكهرباء، والمولد عادة له مكان، ويحتاج إلى محرك، فالمصباح هو القلب، والمولد هو الشريعة، والمكان هو المسجد، والمحرك هو التسبيح، والصلاة والزكاة ...

كلمة في السياق

كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو الأمر بالدخول في الإسلام كله، وفي الآيات الأربع التي مرت معنا ذكر الله عزّ وجل آداب المساجد التي هي بيوت الإسلام كما ذكر أعمالا من الإسلام، وعرفنا على أهل الإسلام، ما صفاتهم، وما خصائصهم، وأين مظنة وجودهم، وهذا يمضي على نسق سياق السورة، وضمن محورها، وقد عرضت هذه المعاني ضمن الحديث عن الله، وأنه الهادي للسماوات والأرض، وفي ذلك تعليل لضرورة الدخول في الإسلام، كما أنه تدليل على ضرورة الشريعة، وإنزال الوحي ووجوب الاهتداء بهدي الله، أي وجوب الدخول في الإسلام، ووجوب الالتزام بالأحكام وقد اختيرت لذلك ألفاظ تسع الزمان والمكان، فنحن في عصر الكهرباء، نكاد نحس أن جزءا مما نستعمله في الإضاءة الكهربائية قد أريد، وفي عصور أخرى يرون المثل كائنا مرئيا أمامهم. إن مثل هذا الإبداع في البيان- الذي لا يمكن أن تجده إلا في هذا القرآن- لأعظم دليل على أن منزل هذا القرآن هو الرحمن جل وعلا، ولنعد إلى التفسير: بعد أن ضرب الله مثلا لهداه العام من خلال تعريفنا على هداه الخاص للمؤمنين يضرب مثلين للكافرين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ السراب: هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهر، يسرب على وجه الأرض، كأنه ماء يجري بِقِيعَةٍ القيعة: جمع قاع كالجيرة جمع جار، والقاع: هو المنبسط المستوي من الأرض يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ أي يظنه العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ أي إذا جاء ما توهم أنه ماء لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً كما ظنه، لأنه لم يبن عمله على إيمان وَوَجَدَ اللَّهَ أي جزاءه عِنْدَهُ أي عند الكافر فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي أعطاه جزاء عمله وافيا كاملا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو المعنى: أن حسابه قريب لأن ما هو آت قريب. قال النسفي: (شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان، ولا يتبع الحق، من الأعمال الصالحة، التي يحسبها تنفعه عند الله، وتنجيه من عذابه، ثم يخيب في العاقبة أمله، ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما

[سورة النور (24): آية 40]

رجاه، بل يجد زبانية الله عنده يأخذونه فيلقونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم عامِلَةٌ ناصِبَةٌ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً مما قاله النسفي نفهم أن هذا المثل هو في نوع من الكافرين رفضوا الإسلام، ويظنون أنهم على شئ كحال اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية مثلا. قال ابن كثير: (وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيزا ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: يا رب عطشنا فاسقنا فيقال: ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب، يحطم بعضها بعضا، فينطلقون فيتهافتون فيها ... وعلى هذا فإن المثل الآتي يمكن أن يكون في نوع آخر من الكفار كالملاحدة مثلا أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ فالكافر في ظلمات كثيرة من حيث إن أحواله مظلمة المصدر، مظلمة الهدف، مظلمة التركيب، مظلمة النتيجة، مظلمة الطبيعة يَغْشاهُ مَوْجٌ أي يغشى البحر موج، أي يعلوه ويغطيه، أي يغشى من فيه موج مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي من فوق الموج موج آخر، وفي ذلك إشارة إلى نوعين من الأمواج، وتلك معجزة قرآنية زائدة على الإعجاز العام، وسنرى ذلك في الفوائد مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أي من فوق الموج الأعلى سحاب كَظُلُماتٍ أي هذه ظلمات، ظلمة السحاب، وظلمة الموج، وظلمة البحر بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة الموج، على ظلمة البحر، وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج إِذا أَخْرَجَ أي الكائن فيه يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي من لم يهده الله فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي ليس له هداية، شبه أعمال هذا النوع من الكافرين بظلمات متراكمة، من لج البحر والأمواج والسحاب، لكونها باطلة، ولخلوها عن نور الحق، لعدم كونها من أمر الله وهديه، ولعدم كونها مرادا بها وجهه، ومرغوبا بها إليه، وهذا يشبه عمل الملاحدة؛ فأعمالهم باطلة، وهي ليست من وحي الله وشرعه، وهؤلاء لا يؤمنون بحساب وعقاب، ومن ثم لا يريدون بعمل ما وجه الله، فهؤلاء في ظلمات لا يقاربون فيها رؤية الحق، فضلا عن أن يروه، قال أبي بن كعب في هذا الصنف: (فهو يتقلب في خمسة من الظلم، فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات، إلى النار). دل هذا على أن وحي الله وحده هو النور، وهو الهدى، وأن الملحد قلبه ظلام، وعمله ظلام، ونتائج

كلمة في السياق

عمله ظلام، فليس له نور في قلبه، وليس له نور خارجي يهتدي به. وبمناسبة هذه الآية فلنذكر هذا الحديث: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى، ومن أخطأ ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله عزّ وجل» إن هذا الحديث يدل على أن الله علم أزلا من سيضل، فأراده له، ومن علم الله منه الهداية أعطاه نورا فبهذا النور اهتدى فآمن وأسلم، وأما الكافر فإنه مظلم القلب، ومن ثم لا يرى ولا يهتدي، وليس له حجة؛ إذ العلم كاشف لا مجبر. كلمة في السياق: كررنا أكثر من مرة أن هذه السورة تفصل قوله تعالى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً والناس أحد اثنين: إما مستجيب، وقد ضرب الله له المثل الأول في هذا المقطع، وإما رافض، وهو قسمان: قسم رفضوا وهم أصحاب دين سابق، فهؤلاء ضرب الله لهم مثلا بين فيه عدم نفع أعمالهم، وأن آمالهم في القبول والرضوان في غير محلها، والقسم الآخر ليسوا على دين، فهؤلاء في ظلمة كاملة في الدنيا، وليس أبلغ في الدعوة إلى الدخول في الإسلام من هذه الأمثلة، فالصلة بين هذه الأمثلة، وسياق السورة، ومحورها، واضحة كما أن الصلة بين المثلين الأخيرين والمثل الأول واضحة. فقد قرر الله عزّ وجل في بداية المقطع أنه الهادي للسماوات والأرض، وضرب مثلا لهدايته بهدايته الخاصة لأهل الإيمان هداية الفطرة، وهداية الشريعة، ولكي تعرف الهداية لا بد من معرفة الضلال، ومن ثم ضرب مثلين لنوعين من الضلال: النوع الأول: مثل لناس يعملون ولكن عملهم لا يوصل إلى غاية، فلا هو يصل إلى القلب بنوره، ولا هو يوصل إلى الرضوان، هو عمل ضال، يترتب عليه أمل كاذب. والنوع الثاني: عمل مظلم، محاط بظلمات، فهو لا يعرف هداية أصلا، وليس هو من الهدى في شئ. ومن خلال معرفة الهدى والضلال، في الحياة البشرية؛ نتعرف كيف أن الله هادي السموات والأرض، فهما لا يضلان ولا يخرجان عن المسار الذي حدده الله لهما، فكيف تخرج أيها الإنسان عن المسار الذي حدده الله لك، فترفض الدخول في الإسلام، ثم إن الله عزّ وجل بعد ذلك يلفت نظر الإنسان إلى شيئين، تجري فيهما هدايته، فيأخذ منهما الإنسان درسين على ضرورة الإسلام والاستسلام لله،

[سورة النور (24): آية 41]

وكل من الدرسين مصدر بكلمة أَلَمْ تَرَ. (1) أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم علما يقوم مقام العيان في الإيقان أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان والنبات والجماد وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ يصففن أجنحتهن في الهواء، فهذه الطيور الصافات أجنحتها تسبح ربها، وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلم ما هي فاعلة كُلٌّ قَدْ عَلِمَ الضمير في (علم) لله، أو للمراد بكلمة (كل) صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزّ وجل وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فلا يعزب عنه شئ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه خالقهما، ومن ملك شيئا فبتمليك الله إياه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فمرجع الكل يوم القيامة إليه؛ فيحكم بالجميع بما يشاء. كلمة في السياق: إن كل شئ يسبح بحمد الله، والإنسان يدرك نوع إدراك كيف أن الأشياء كلها تسبح بحمد الله، فهي شاهدة على تنزيهه، وشاهدة على إنعامه، وإذا كان كل شئ يسبح بحمد الله فهو إذن مهتد، وهذا هو المعنى الأول الذي يربط هاتين الآيتين بما قبلهما، وإذا كان كل شئ يسبح بحمده فهو خاضع وعابد، فعلى الإنسان أن يخضع ويعبد، وذلك يكون بدخوله بالإسلام، فالصلة بين هذا المعنى ومحور السورة قائمة، وكما ذكرنا الله عزّ وجل في نهاية الآية الأولى بعلمه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فههنا ذكرنا بعلمه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فالله يعلم تسبيح الأشياء، كما يعلم تسبيح الإنسان وعبادته، وفي هذا دعوة إلى عبادة الله وحده، لأنه يعلم، وغيره لا يعلم. وفي قوله وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ دعوة للدخول في الإسلام، لأنه المالك، وفي قوله وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تهديد ووعيد لمن رفض الدخول الاختياري بالإسلام، ومن خلال لفت نظر الإنسان في الآيتين عرفنا أن هداية الله شاملة للمخلوقات كلها، وأن الإسلام دين المخلوقات كلها، ومن ذلك نعلم محل الآيتين ضمن السياق الخاص للسورة، بما يخدم محور السورة، والآن يأتي لفت النظر الثاني:

[سورة النور (24): آية 43]

(2) أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي يسوق سَحاباً السحاب جمع سحابة كما قال النسفي ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي ثم يضم بعضه إلى بعض ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ يخرج من بينه وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب مِنْ جِبالٍ فِيها أي من كتل ضخمة منها، تشبه الجبال في عظمتها، ومساقطها وهيئتها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد أو بالبرد والمطر مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا يصيبه البرد وحده، أو البرد والمطر، ويمكن أن يكون المراد: يعذب بالبرد من يشاء، ويصرفه عن من يشاء فلا يعذبه، ومن ذهب إلى هذا المعنى نظر إلى ما يفعله البرد أحيانا من نثر الثمار، وإتلاف الزروع والأشجار يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوؤه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يخطفها والمعنى: يكاد ضوء برقه- من شدته- يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي هو المصرف لهما في تعاقبهما واختلافهما طولا وقصرا إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إزجاء السحاب، وإنزال الودق والبرد، وتقلب الليل والنهار لَعِبْرَةً أي لدليلا على عظمته لِأُولِي الْأَبْصارِ التي ترى ويعقل أصحابها. كلمة في السياق: إن ظاهرة الهداية في المطر والبرد والليل والنهار واضحة، فما ذكر في هاتين الآيتين فيه إشارة إلى مظهر من مظاهر الهداية، وإن الإنسان المنصف المدرك العاقل يعلم أن هذا ما كان ليكون لولا الله، فمن لم يعلم ذلك فهو أجهل الجاهلين، ومن علم ذلك عرف عظمة الله فعبد وخضع، أي دخل في الإسلام واهتدى بهدى الله، ومن هذا نعلم صلة الفقرة بسياق السورة ومحورها، ونحب هنا أن نشير إلى أن في الفقرة السابقة معجزة علمية سنراها في الفوائد، ولنعد إلى التفسير: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي كل حيوان يدب على وجه الأرض مِنْ ماءٍ يحتمل أن المراد بالماء الماء المخصوص كالنطفة. أو المراد به الماء العادي، فإنه واحد، مع أن الأحياء التي يدخل الماء في تركيبها- كأهم شئ وأكثره- مختلفة الأجناس والأشكال. وفي ذلك كله دليل قدرته فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية وما

كلمة في السياق

شاكلها وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالأنعام وسائر الحيوانات ولهذا قال: يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي بقدرته، لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولهذا قال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يتعذر عليه شئ. كلمة في السياق: إن في هذه الآية تدليلا على هداية الله نجده في قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ إلا أن الآية في سياقها الرئيسي تدليل على القدرة. فالله الذي خلق من الماء الواحد هذه الأنواع الكثيرة من الأحياء، قادر على كل شئ. والهداية ليست إلا مظهرا من مظاهر القدرة. فإذا تقرر أن الله هو القادر، وأنه الهادي، فكيف لا يسلم له الإنسان شرعا وقدرا؛ فيدخل في الإسلام كله، ويسلم له ويستسلم. ثم ختم الله المقطع بآية شبيهة بالآية التي ختم بها المقطع السابق فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال وغيرها ما هو معجزات ودلائل واضحات وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بلطفه ومشيئته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الإسلام الذي يوصل إلى جنته، لاحظ الصلة بين قوله تعالى: في هذه الآية وَاللَّهُ يَهْدِي وبين بداية المقطع: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هاديهما، ولاحظ صلة هذه الآية بقوله تعالى في محور السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ ... قال النسفي: (وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا بعلي غير معين ولا مشهود. فأبو تمام لما قال في المأمون: إقدام عمرو في سماحة حاتم … في حلم أحنف في ذكاء إياس قيل له إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلا: لا تنكروا ضربي له من دونه … مثلا شرودا في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره … مثلا من المشكاة والنبراس 2 - في الضمير في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ قولان: أحدهما أنه عائد إلى الله، والثاني أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام الآتي. فعلى القول الأول صار المعنى: أن مثل هدى الله الذي هدى به المؤمن في القوة والوضوح وبيان الحجة وفوقها كمثل ما ذكر، فإذا بقي قلب لم يهتد فما ذلك إلا لعماه، أو أن المعنى على هذا القول: مثل هدى الله في قلب المؤمن كمثل مشكاة فيها مصباح، أي هداه في قلب المؤمن في غاية الإنارة والوضوح، وعلى القول الثاني في الضمير: يكون المعنى: مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة، فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهر، وما يستهدي به من القرآن والشرع، بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف، أي شبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه بالمثل المذكور فهو يشبه قوله تعالى أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فالمشكاة جسد المؤمن، والزجاجة قلبه، والمصباح الفطرة، والزيت شريعة الله المتميزة، التي ليست بشرقية ولا غربية، أي ليست بشرية. ويفهم من هذا أن الفطرة إذا انقطع عنها مدد الشريعة بالإيمان والعمل انطفأت، كما ينطفئ المصباح لو لم يكن له مدد يستمد منه. ويفهم من هذا أن نور الفطرة قوي جدا، ويفهم من هذا أن ما أنزل الله من الهدى في غاية الصفاء، ونصوع الحجة. المشكاة هي الجسد؛ إذ هو مركز تجمع النور، والزجاجة القلب، والمصباح الإيمان، والزيت العمل بالشريعة، ولا نور إلا بعمل، فمن افتقد النور فعليه بالعمل. 3 - في شرح قوله تعالى زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قالوا: إنها في مستوى من الأرض، في مكان فسيح باد، ظاهر، ضاح للشمس، تقرعه من أول النهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف. وأقوى الأقوال في هذا النص: أن هذا مثل ضربه الله تعالى لشريعته، وهناك اتجاهات أحرى ذكرها ابن كثير، من ذلك ما قاله شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن

يضيء. ومن الأقوال في النص ما ذكره ابن كثير عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ رجل صالح لا يهودي ولا نصراني. فعلى هذين الاتجاهين في التفسير- فإن مدد الفطرة إلى القلب لا يستمر إلا إذا وجدت تغذية من رجل صالح، من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وهذا معنى ينبغي أن يفطن له المربون، وقد ركز عليه بعض الصوفية إلا أن الكثير منهم خلطه بطامات كثيرة. وقد ذكرنا في بعض كتبنا على ضرورة إحياء رتبة الربانية لاستئناف الحياة الإسلامية. 4 - بمناسبة قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ قالوا: أي هذا النور الذي شبه به الحق في قلب المؤمن نور متضاعف، قد تناصر فيه المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والزيت، حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره، كما نرى ذلك في مصابيح السيارة والكشافات، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه، والقنديل أعون شئ على زيادة الإنارة، كما نرى ذلك في المصابيح الكهربائية، ونور زيت الزيتون الصافي على غاية من الصفاء والقوة. وقال السدي في تفسير قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ قال: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه، كذلك نور القرآن، ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه. وهذا يؤكد تفسيرنا أن الإيمان في القلب هو السراج، والزيت هو الشريعة، والعمل بها. قال أبي بن كعب في تفسير قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ: يتقلب (أي المؤمن) في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة. فكأنه أراد أن يقول إن المؤمن في نور متضاعف متزايد في حاله كله، في يومه وغده، في دنياه وأخراه، ما دام قد اجتمع نور الإيمان ونور القرآن. 5 - لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية، المتوقد من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي

لمساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها، ويوحد فقال تعالى فِي بُيُوتٍ ... فكأن معدن هذه القلوب هي هذه المساجد، وهذه إشارة واضحة إلى أن التربية الإيمانية الكاملة إنما تكون في المسجد، إذ هي وحدها التي تتوافر فيها شروط التربية الصالحة. والجار والمجرور في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. إما أن نعلقه ب (كمشكاة) وإما أن نعلقه ب (يوقد) السابقين في الذكر، وإما أن نعلقه ب (يسبح) المتأخر والتعليقان الأولان أقوى، فعلى التعليق الأول إنما يأخذ النور الكامل من حياته في المسجد، وعلى التعليق الثاني نفهم أن إمداد القلب بالشريعة ومن أهلها إنما يكون داخل المسجد. قال قتادة في تفسير (البيوت) في الآية: هي هذه المساجد، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها، وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول: (مكتوب في التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي، أكرمته، وحق على المزور كرامة الزائر) ومعنى أذن هنا أمر بدليل ما بعده، إلا أن مع الأمر يوجد الإرادة المشرفة، فقد شاء الله لهذه البيوت أن تكون معدنا للخير، وفي (أن ترفع) تفسيران: تفسير الرفعة بالرفع الحسي، فهو أمر ببنائها وتشييدها، وتفسير الرفعة بالرفع المعنوي، فهو أمر بتعظيمها، ولا شك أن المسلمين مأمورون بهذا وهذا، وموعودون على هذا وهذا الخير الكثير، ومما يدخل تحت الرفع المعنوي: عدم اللغو فيها ولا يدخل في الرفع الحسي زخرفتها. 6 - بمناسبة قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أقول: دلت الآية على أن أصحاب القلوب المذكورة لهم عمل صالح، وحال خائف، فيا ويح المقصرين بالعمل، ويا ويح الغافلين الآمنين. روى النسائي عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق». 7 - تشبيه المؤمن بالمشكاة دليل على أن جسد المسلم هو مركز تجمع النور، ومركز توجيهه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمن الكامل ينير للناس الطريق، ويرى الناس

به الحقائق. 8 - بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن كثير: (وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله». الحديث. وعن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه). أقول: إن كثيرا من الناس أخطأ فهم كلمة ابن مسعود هذه، والمهم ألا نفهم أن نور الله كالأنوار المحسوسة، وأن ننزه الله عن أن يكون شئ من الأشياء بمثابة الجزء من الله- تعالى الله عن ذلك- قال تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (الزخرف: 15). 9 - في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ تلخيص لكل آداب المسلم مع المساجد، فأدب المسلم مع المساجد تعظيمها، وذكر الله فيها، وبمناسبة هذه الآية قال ابن كثير: (وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها، وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءا على حدة، ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر هنا طرفا من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان، فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة». أخرجاه في الصحيحين. وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة» وللنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله. والأحاديث في هذا كثيرة جدا. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب. رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي، ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم، وإياك، أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس». وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلا أنشد

في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له». رواه مسلم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار في المساجد». رواه أحمد وأهل السنن. وقال الترمذي حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك» رواه الترمذي وقال حسن غريب، وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعا قال: «خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقا، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه، ولا يقتص فيه أحد، ولا يتخذ سوقا» وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنبوا المساجد صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع» ورواه ابن ماجه أيضا وفي إسنادهما ضعف. أما إنه لا يتخذ طريقا فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة، إذا وجد مندوحة عنه. وفي الأثر «وإن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه» وأما أنه لا يشهر فيه بسلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، فلما يخشى من إصابة بعض الناس به، لكثرة المصلين فيه، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر رجل بسهام أن يقبض على نصالها؛ لئلا يؤذي أحدا، كما ثبت ذلك في الصحيح. وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه. كما نهيت الحائض عن المرور فيه، إذا خافت التلويث، وأما أنه لا يضرب فيه حد، ولا يقتص منه، فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب، أو المقطوع، وأما أنه لا يتخذ سوقا، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد «إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها» ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله. وفي الحديث الثاني: «جنبوا مساجدكم صبيانكم» وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبيانا يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة- وهي الدرة- وكان يعس المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحدا «ومجانينكم» يعني لأجل ضعف عقولهم، وسخر الناس بهم، فيؤدي إلى اللعب فيها، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك «وبيعكم وشراءكم» كما تقدم

«وخصوماتكم» يعني التحاكم والحكم فيه. ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضع غيره، لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه، ولهذا قال بعده: «ورفع أصواتكم». روى البخاري عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. وقال النسائي ... عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟ وهذا أيضا صحيح. وقوله: «وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم» تقدما وقوله «واتخذوا على أبوابها المطاهر» يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء، وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون ويتوضئون وغير ذلك. وقوله: «وجمروها في الجمع» يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ. وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي: ... عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل في الجماعة يضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا». وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدارقطني مرفوعا «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفي السنن «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم» قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم. وروى مسلم بسنده عن أبي حميد- أو أبي أسيد- قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك». ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أحدكم

المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. وروى الإمام أحمد عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك». ورواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى. فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. 10 - وبمناسبة قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ قال ابن كثير (وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن؛ لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها». وروى الإمام أحمد عن السائب مولى أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وقال أحمد أيضا: عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي» قال فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها، فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى» لم يخرجوه؛ هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب، كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» رواه البخاري ومسلم، ولأحمد وأبي داود «وبيوتهن خير لهن» وفي رواية «وليخرجن وهن تفلات» أي لا ريح لهن. وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا» وفي الصحيحين عن عائشة رضي

الله عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل). 11 - رأينا في التفسير وفيما نقلناه من فوائد أهمية المساجد في دين الله، ومن ثم فإننا دعونا في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) إلى إحياء المساجد بحلقات العلم والذكر. وفصلنا في ذلك، وبينا أن هذا هو الطريق لإحياء الإسلام في كثير من مناطق العالم الإسلامي، وفصلنا هناك ما ينبغي فعله من أجل أن يقوم هذا الأمر على كماله وتمامه. وتعرضنا للموضوع نفسه في أكثر من مكان من سلسلة (في البناء). 12 - قلنا إن هناك اتجاهين في فهم قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الأول أن هؤلاء متفرغون للعبادة. والثاني: أنهم لا يلهيهم العمل مع وجوده عن القيام بالواجبات الدينية. قال ابن كثير: (قال هشيم عن شيبان قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة. فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الآية. وهكذا روى عمرو ابن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ما يسرني أني قمت على هذا الدرج أبايع عليه، أربح كل يوم ثلاثمائة دينار، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد، أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال، ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). أقول: هذا يدل على أن أبا الدرداء قد فهم النص على أن المراد به التفرغ للعبادة، والأكثرون على غير ذلك، قال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله، ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا سالم هذه الآية رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ثم قال: هم هؤلاء. وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الوراق: كانوا يبيعون

ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يقول: عن الصلاة المكتوبة، وكذا قال مقاتل بن حيان، والربيع بن أنس. وقال السدي: عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحافظوا علي مواقيتها وما استحفظهم الله فيها». 13 - عند قوله تعالى يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ قال ابن كثير: (وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا، فكلهم لم يشربه؛ لأنه كان صائما، فتناوله ابن مسعود فشربه، لأنه كان مفطرا، ثم تلا قوله يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ). 14 - وعند قوله تعالى لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ذكر ابن كثير ما رواه الطبراني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: أجورهم يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا». 15 - في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) تحدثنا أثناء الكلام عن المعجزة القرآنية عن ما اكتشفه علماء البحار من أن هناك نوعين من الأمواج، في بعض البحار العميقة أمواجا باطنية هي أشد وأعتى من الأمواج الظاهرية، والأمواج الظاهرية المعروفة، وهي قضية لم يعرفها الإنسان إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، فإن يذكر الله عزّ وجل هذا المعنى في القرآن فذلك من أكبر الأدلة على أن منزل هذا القرآن هو المحيط علما بكل شئ. 16 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بمناسبة هذه الآية قلنا إن في هذا النص معجزة علمية وفي ذلك يقول موريس بوكاي: في كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) تحت عنوان (الكهرباء الجوية) قال: الكهرباء الجوية ونتائجها الصواعق والبرد مشار إليها في الآيات التالية: سورة الرعد الآيتان (12، 13).

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. سورة النور الآية (43). أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ. وفي هاتين الآيتين تعبير عن علاقة واضحة بين تشكل سحب المطر الثقيلة، أو البرد ووقوع الصاعقة). وقال صاحب الظلال: (إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان. ثم تؤلف بينه وتجمعه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض. فإذا ثقل خرج منه الماء، والوبل الهاطل، وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة ... ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحاب أو تسير بينها، فإذا المشهد مشهد الجبال حقا، بضخامتها، ومساقطها، وارتفاعاتها، وانخفاضاتها، وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس إلا بعد ما ركبوا الطائرات). 17 - بمناسبة قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ نذكر بالحديث الذي رواه الحارث الأعور عن الإمام علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن: «فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... ». ***

المقطع الثالث

المقطع الثالث ويمتد من الآية (47) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (64) وهذا هو: [سورة النور (24): الآيات 47 الى 64] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

بين يدي المقطع الثالث

بين يدي المقطع الثالث: 1 - يبدأ المقطع الثالث بنفي الإيمان عن أناس، وينتهي بتعريف أهل الإيمان: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ لاحظ قوله تعالى وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وينتهي المقطع بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ... فالمقطع يبدأ بنفي الإيمان عن أناس، وينتهي بإثبات الإيمان لأناس وذلك من مظاهر وحدته. 2 - رأينا أن المقطع الثاني قد تحدث عن المهتدين وعن الكافرين، وختم بقوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وبعد ذلك يأتي هذا المقطع لينفي الإيمان والهداية عن ناس يتظاهرون بالإيمان، وليشد عزائم أهل الإيمان، ثم ليوجه أهل الإيمان إلى كمالاتهم قال النسفي: (لما ذكر إنزال الآيات، ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق: فرقة صدقت ظاهرا وكذبت باطنا، وهم

المنافقون، وفرقة صدقت ظاهرا وباطنا، وهم المخلصون، وفرقة كذبت ظاهرا وباطنا، وهم الكافرون، على هذا الترتيب وبدأ بالمنافقين) أقول: يلاحظ أن قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... قد سبق بكلام عن المؤمنين والمنافقين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ... وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ثم جاء قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وهاهنا بدأ الكلام عن المنافقين، ثم كان كلام عن المؤمنين، ثم جاءت أوامر لأهل الإيمان تفصل أحكاما من الإسلام. 3 - يتألف المقطع من ثلاث مجموعات، أو من مجموعتين وخاتمة: المجموعة الأولى في المنافقين والمؤمنين والكافرين، وفيها وعد لأهل الإيمان، والمجموعة الثانية فيها توجيهات عملية لأهل الإيمان، والمجموعة الثالثة وفيها تعريف لأهل الإيمان. 4 - سبق هذا المقطع بقوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وقد أنزلت هذه الآيات على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي أدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن المقطع فصل في هذا الشأن: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ... قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ... لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً .... 5 - رأينا أن محور سورة النور هو قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وهذا المقطع يعمق الالتزام بالإسلام، وينفي الصوارف عن الالتزام به، فمن الصوارف عن الالتزام بالإسلام كله؛ ظن بعض الناس أن الكافرين أقوياء، والمقطع يقول لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ والمقطع يعد أهل الإيمان بالاستخلاف وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... والمقطع يبين أن عدم الالتزام

بالإسلام يعني النفاق، وإذ كانت إقامة الإسلام كله تقتضي عملا جماعيا، فإن المقطع يحدثنا عن بعض آداب الاجتماعات في الإسلام: وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. 6 - وقد بدأت السورة بقوله تعالى سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ولقد جاء هذا المقطع نموذجا آخر على الآيات البينات في السورة، ولذلك نجد فيه تأكيدا على ذلك: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وقد قدم صاحب الظلال للمجموعة الأولى في هذا المقطع بقوله: (بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور، في مشاهد الكون الكبير .. يعود سياق السورة إلى موضوعها الأصيل. موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة، لتتطهر قلوبها وتشرق، وتتصل بنور الله في السماوات والأرض. ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم، وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض. فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين، الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون. فهم يظهرون الإسلام، ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي الرضى بحكمه، والطمأنينة إليه. ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم. أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والأمن في المقام، جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله. وطاعتهم لله ورسوله. وذلك على الرغم من عداء الكافرين. وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير .. ) ثم قدم صاحب الظلال لما بعد المجموعة الأولى من المقطع بقوله: (إن الإسلام منهاج حياة كامل؛ فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها، وفي كل علاقاتها وارتباطاتها، وفي كل حركاتها وسكناتها. ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة؛ وينسق بينها

المجموعة الأولى

جميعا، ويتجه بها إلى الله في النهاية. وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق. لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت. وإلى جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود. ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله، وسوء أدب المنافقين. إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين. وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت؛ إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء؛ إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه ... فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علاقاتها. والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على السواء). المجموعة الأولى وهي إحدى عشرة آية وَيَقُولُونَ أي يقول المنافقون بألسنتهم وهو خلاف ما في قلوبهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ أي صدقنا بقلوبنا بالله وبالرسول وَأَطَعْنا الله والرسول ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يعرض عن الانقياد لحكم الله ورسوله فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد إعلانهم الإيمان والإسلام، وإعطائهم الطاعة، فهم يخالفون أقوالهم بأعمالهم، فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ المخلصين، قال النسفي: (وهو إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده، وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتف عنهم الإيمان؛ لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء، والإعراض وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ الإعراض من فريق منهم وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ أي إذا كان الحق لهم على غيرهم يَأْتُوا إِلَيْهِ أي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مُذْعِنِينَ أي جاءوا سامعين مسرعين في الطاعة؛ طلبا لحقهم، لا رضا بحكم رسولهم قال النسفي: والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المر، والعدل الحق، يمتنعون عن المحاكمة إليك، إذا وكبهم الحق؛ لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك؛ لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من

كلمة في السياق

أمراض القلوب أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ قال النسفي: (قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب، منافقين أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه) ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله وإنما هم ظالمون، يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، وذلك شئ لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثم يأبون المحاكمة إليه، قال ابن كثير في الآية: (يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم، وأيا ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم، وما هو منطو عليه من هذه الصفات ... ) كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً والآيات التي مرت معنا تذكر ناسا يتظاهرون بالدخول في الإسلام، ولكنهم إذا دعوا إلى الاحتكام إلى الإسلام في أمر يتعارض مع مصالحهم رفضوا أن يحتكموا إلى الإسلام وأهله، فهؤلاء ليسوا من الداخلين في الإسلام، وبعد أن عرض الله لنا هذه الظاهرة التي تتنافى مع الهدى والإسلام، يعرض الآن موقف المؤمنين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله، ويعطينا بذلك علامة من علامات الاهتداء والدخول في الإسلام كله، ثم يبشر هؤلاء: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَرَسُولِهِ أي إلى شخصه في حياته صلى الله عليه وسلم وإلى سنته بعد وفاته لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي سمعا وطاعة، أي سمعنا قول الله والرسول، وأطعنا أمر الله والرسول، فهذه علامة الاهتداء، وعلامة الدخول في الإسلام كله، ولهذا وصفهم الله بالفلاح: وهو نيل المطلوب، والسلامة من المرهوب وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون، ثم بشرهم ووعدهم مع التفصيل في وصف من هو مظنة هذا الخلق فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في كتابه وفرائضه وَرَسُولَهُ في أوامره وسنته وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الذين فازوا بكل خير، وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: أعطانا الله عزّ وجل فيما مر معنا من آيات المجموعة ميزانا نعلم به صدق الإنسان في دعواه الدخول في الإسلام وبهذا الميزان نعرف الصادق من الكاذب. إن ميزان الصدق في الدخول في الإسلام كله هو: قبول الاحتكام إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم والسمع والطاعة، والخشية والتقوى، وهذه علامة الهداية إلى الصراط المستقيم الذي تحدثت عنه الآية السابقة على هذه المجموعة: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وإن علامة النفاق رفض الاحتكام إلى الله والرسول، وهي علامة الضلال، وعلامة عدم الدخول الصادق في الإسلام وعلامة عدم الدخول في الصراط المستقيم، فالصلة بين آيات المجموعة وبين ما سبقها واضحة، والصلة بينها وبين محور السورة واضحة، فلنر الآن الصلة بينها وبين سياق السورة الخاص: قال الله تعالى في مقدمة السورة سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والآيات التي مرت معنا فيها فريضة من فرائض الله، وهي قبول الاحتكام لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها آيات بينات تعظ المسلم وتذكره؛ وتعظه من أن ينحرف عن أمر الله، أو يشك، أو يرتاب، أو يرفض الاحتكام إلى الله والرسول، أو يرفض الإذعان الكامل في أي حال. وبعد أن تقرر أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فريضة من فرائض الله، وأنها علامة الإيمان الصادق، ومظهر الدخول في الإسلام، والصراط المستقيم، فإن المجموعة تتجه لعرض موقف المنافقين من الطاعة، ثم لعرض الموقف الصحيح منها، ثم تعقب بوعد لأهل الإيمان، كما عرضت موقف المنافقين من الاحتكام إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والموقف الصحيح من ذلك، ثم أتبعت ذلك بوعد. فالمجموعة تسجل موقفا خاطئا، ثم تصحح، ثم تعد، ثم تعود لتسجيل موقف خاطئ، ثم تصحح، ثم تعد. إن رفض الاحتكام إلى الله والرسول من قبل المنافق هو أثر عن تصوره أن الفلاح والفوز الرفض، فعند ما يسجل الله عزّ وجل الموقف الصحيح، ويبين أن الفلاح والفوز في غير ذلك، فذلك تصحيح وتوجيه.

[سورة النور (24): آية 53]

وعند ما يعطي المنافق الطاعة بلسانه ويمنعها على أرض الواقع، فإنما يفعل ذلك لعدم تصوره الصحيح لرعاية الله للمسلمين، فعند ما يأتي في هذا المقام وعد من الله، وشروط تحقيق هذا الوعد، فإن في ذلك تصحيحا وتوجيها. وفي ذلك مظهر من مظاهر تكامل المجموعة. إن الذي يصرف الناس عن الدخول في الإسلام، والالتزام به، هو خطؤهم في فهم التكليف الإلهي أو تصورهم أن الدولة لا تكون للمسلمين، أو توهمهم أن الكافرين لا يغلبون والآيات الآتية من المجموعة تعالج ذلك كله. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي حلف المنافقون بالله جهد اليمين، ووصفت أيمانهم بذلك لأنهم يبذلون فيها مجهودهم، وذلك يكون إذا بالغ الحالف في اليمين فبلغ غاية شدتها ووكادتها لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ أي حلفوا لئن أمرنا محمد صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الغزو لنغزون، أو لئن أمرنا بالخروج من ديارنا لنخرجن قُلْ لا تُقْسِمُوا أي لا تحلفوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أي طاعة معروفة أمثل بكم وأولى لكم من هذه الأيمان الكاذبة، أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة، أي معلومة لا يشك فيها، ولا يرتاب، كطاعة المخلص من المؤمنين، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم، وقلوبكم على خلافها، وقيل معناه: طاعتكم طاعة معروفة، أي قد عرفت طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، وفي ذلك إشارة إلى أن من سجيتهم الكذب، حتى فيما يختارونه، وقيل معناه: ليكن أمركم طاعة بالمعروف، من غير حلف ولا أقسام، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف، فكونوا أنتم مثلهم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي هو خبير بكم، وبمن يطيع ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن راج على المخلوق، فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى، لا يروج عليه شئ من التدليس، بل هو خبير بضمائر عباده، وإن أظهروا خلافها، وفي ذلك تهديد لهم أن يفضحوا قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قال ابن كثير: أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ يريد فإن تتولوا فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى، وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان والعمل، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا أي وإن أطعتموه فيما يأمركم وينهاكم، فقد

كلمة في السياق

أحرزتم نصيبكم من الهدى فالضرر والنفع عائدان إليكم وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي إلا أن يبلغ فليس له نفع في قبولكم، وليس عليه ضرر في توليكم الْمُبِينُ أي الظاهر الواضح لكونه مقرونا بالآيات والمعجزات. كلمة في السياق: رأينا أن هذا المقطع قد سبق بقوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وقد ذكر الله عزّ وجل في آخر آية عرضناها: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا فدل على أن الصراط المستقيم هو الطاعة لله والرسول، وقد عرض الله علينا فيما مر ظاهرتين خاطئتين تتنافيان مع الطاعة والاهتداء وهما: رفض الاحتكام إلى الله والرسول، وادعاء الطاعة باللسان، والأمر على خلافه، وهذا يدلنا على أن الصراط المستقيم مظهره قبول الاحتكام إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم في كل شئ، والطاعة الكاملة في الظاهر والباطن، والآن تأتي بشارة لأهل الإيمان بالاستخلاف، ومجئ هذه البشارة في هذا المقام يشير إلى أن المنافقين ليس لهم في هذه البشارة نصيب، وإنما هي بشارة لمن دخل دخولا حقيقيا في الصراط المستقيم، أي هي بشارة لمن دخل في الإسلام كله، اعتقادا وعملا، وقام بحق التكليف الإلهي. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر، ويورثهم الأرض، ويجعلهم خلفاء فيها كما فعل بمن حمل دينه من قبل، وأن يمكن الدين المرتضى وهو الإسلام- وتمكينه تثبيته وتوطيده- وأن يؤمن سربهم، ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه، وقد فعل جل جلاله، ونسأله سبحانه أن يفعل، فنحن الآن في غربة الإسلام، ونحن في خوف وضعف يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً يحتمل أن يكون المراد: أن هذا التمكين من أجل أن يعبدوا، ويمكن أن يكون المراد أن هذا التمكين يكون في حال كونهم عابدين وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد هذا التمكين فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي هم الكاملون في فسقهم، حيث كفروا تلك النعمة الجسيمة، وجسروا على غمطها، وهي آية تدل على صحة الإسلام، وهي نعمة تستوجب الشكر لا الكفر. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ قال النسفي: (معطوف على قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

كلمة في السياق

الرَّسُولَ ولا يضر الفصل وإن طال). أقول: مجئ هذا الأمر بعد الوعد- مع كونه معطوفا على ما ذكر- يفيد أن عليكم أن تفعلوا ذلك في كل الأحوال قبل الاستخلاف وبعده وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يدعوكم إليه، قال النسفي: (وكررت طاعة الرسول تأكيدا لوجوبها) لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا، فإنها من مستجلبات الرحمة. كلمة في السياق: من خلال العرض السابق اتضحت لنا خصائص رئيسية في الإيمان والنفاق، واتضحت لنا أوامر هي من الإسلام، واتضح لنا ما وعد به أهل الإسلام الصادقون. وقد رأينا أن ذلك كله يتفق مع محور السورة، الآمر بالدخول في الإسلام كله ويتفق مع سياق السورة، والآن يأتي نهي ينهى عن خلق يتنافى مع الإسلام، وهو أن يظن مسلم بأن الكافرين لا يغلبون، وفي النص إشارة إلى أن الكافرين قد يمتلكون من أسباب القوة أكثر مما يملكه المسلمون، ويأتي هذا بعد البشارة بالاستخلاف، حتى لا يتوهم متوهم أن قوة الكافرين تحول دون استخلاف الله للمسلمين. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي فائتين الله، بألا يقدر عليهم فيها وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي لا يفوتون الله، ومأواهم النار وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع، وأي مصير أفظع من النار، وبئس المآل، وبئس القرار، وبئس المهاد. وبهذا انتهت المجموعة الأولى، وقد رأينا محلها في السياق الخاص، ومحلها في السياق العام، ومحلها في خدمة محور السورة، والآن تأتي المجموعة الثانية، وهي مجموعة تتحدث عن مواضيع لها علاقة في الاستئذان، ودخول البيوت، وهو موضوع مر معنا قبل المقطع الثاني، فكأن ما يرد هنا استمرار لما ورد هناك. غير أنه قد فصل بين آيات الاستئذان بمعان متعددة، بعضها يقتضيه سياق الآيات التي ورد فيها الاستئذان هناك، وبعضها يخدم قضية الاستئذان هاهنا. جاءت آيات الاستئذان هناك في سياق الكلام عن القذف والزنى فلم يتناسب في ذلك السياق أن يذكر موضوع الاستئذان من قبل المماليك والصغار ... ، ثم إن موضوع الاستئذان بالنسبة للطوافين يحتاج إلى مقدمات، ولذلك فقد جاء هنا بعد

نقل

مقدمات طويلة توطئ للالتزام. لقد جاء في وسط السورة مقطع يتحدث عن الهداية والضلال، ثم جاءت مجموعة تتحدث عن علامات الهداية والضلال، وكل ذلك قبل ما تبقى من المقطع الثالث لاحتياج هذه المعاني إلى تلك التوطئات. لقد جاءت في وسط السورة آيات فيها معان تخدم الالتزام في الأحكام، وجاء على حافتي هذه الآيات آيات فيها أحكام. وقبل أن نعرض آيات المجموعة الثانية من المقطع الثالث فلنذكر بعض النقول والفوائد. نقل: بمناسبة قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. قال الأستاذ المودودي في تفسيره لسورة النور: (هذا وعد من الله تعالى للمسلمين، بأنه سيجعلهم خلفاء الأرض- أي أئمة الناس وقادتهم- والمقصود من هذه الآية- كما أشرنا إليه من قبل- تنبيه المنافقين على أن هذا الوعد الذي قد قطعه الله تبارك وتعالى للمسلمين، ليس الخطاب فيه لكل من ينتمي إلى الإسلام ولو اسما، بل إنما هو للمسلمين الذين هم صادقون في إيمانهم، وصالحون باعتبار أخلاقهم وأعمالهم، ومتبعون لدين الله الذي قد ارتضاه لهم، وملتزمون لعبادته وعبوديته وحده، وغير مشركين به شيئا، وأما الذين ليسوا على تلك الصفات، وإنما يدعون الإيمان بألسنتهم، فلا يستأهلون هذا الوعد؛ لأنه لم يقطع لهم، فلا يرجون أن ينالوا نصيبا منه. قد رأينا بعض المغرضين من الناس يجعلون «الخلافة» بمعنى: مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم والتمكن، ثم يستنتجون من هذه الآية أن كل من حصل له العلو والغلبة في الأرض، فهو مؤمن صالح، متبع لدين الله المرتضى، قائم بعبوديته مجتنب للشرك به. بل هم- فوق ذلك- يبدلون مفهوم كل كلمة من كلمات الإيمان والصلاح والدين والعبادة والشرك، حتى يجعلوها متفقة مع أهوائهم ونظريتهم الزائغة هذه. فهذا أشنع تحريف معنوي للقرآن، قد فاق تحريف اليهود والنصارى لكتبهم، عند ما أعطى لآية الاستخلاف هذه معنى يريد أن يمسخ تعليم القرآن كله، ولا يترك شيئا من الإسلام في مقامه، فإنه لا بد- بعد هذا التحريف للخلافة- أن تنطبق هذه الآية على كل من

لهم العلو والغلبة في الأرض اليوم، أو كانت لهم في الزمن الماضي، ولو كانوا جاحدين بالله والرسالة والوحي واليوم الآخر، منغمسين في أدناس الفسق والفجور التي قد عدها القرآن من الكبائر، كأكل الربا، وارتكاب الزنا، وشرب الخمر، ولعب الميسر، وما إليها. فإن كان أمثال هؤلاء من المؤمنين الصالحين، ولأجل إيمانهم وصلاحهم نالوا العلو والغلبة في الأرض، فأي معنى يمكن أن يكون للإيمان غير الإذعان لقوانين الطبيعة، وللصلاح غير العمل وفق هذه القوانين؟ وماذا يمكن أن يكون دين الله المرتضى غير بلوغ الكمال في العلوم الطبيعية وترقية الصناعة والتجارة والسياسة القومية؟ وهل يمكن بعد التسليم بنظريتهم الزائغة أن تكون عبادة الله غير التزام القواعد والضوابط التي تساعد على بلوغ النجاح في السعي الفردي والاجتماعي فقط؟ وهل يبقي الشرك إذن عبارة عن شئ غير مزج هذه القواعد والضوابط المفيدة بالطرق المضرة؟ ولكن هل لأحد قد قرأ القرآن مرة بقلب مفتوح، وعينين مبصرتين أن يقول بأن هذه هي المعاني لكلمات الإيمان، والعمل الصالح، ودين الحق، والعبادة، والتوحيد، والشرك المذكورة في القرآن؟ الحقيقة أنه لا يكاد يقول بهذه المعاني إلا رجل لم يكن قد قرأ القرآن ولا مرة واحدة من بدئه إلى آخره، مع فهم معانيه، وإدراك مقاصده، وإنما أخذ آية من هنا وأخرى من هناك فحرفها وفقا لأهوائه ونظرياته وأفكاره، أو رجل ما زال عند قراءته للقرآن يبطل ويخطئ بزعمه جميع الآيات التي فيها دعوة للناس إلى الإيمان بالله ربا واحدا، وإلها لا شريك له، وبوحيه الذي أنزله على رسوله وسيلة وحيدة لمعرفة الهداية، وبكل نبي أرسله إلى الدنيا قائدا، يجب على الناس أن يطيعوه، أو فيها الأمر للناس باعتقاد حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، بل قيل لهم فيها أن لا فلاح للذين يريدون الحياة الدنيا فقط، وهم عن الآخرة غافلون. وهذه الموضوعات قد أبدئ في ذكرها وأعيد في القرآن بكثرة، وبطرق مختلفة، وبألفاظ واضحة صريحة، حيث يتعسر علينا تصديق أن يقرأ أحد القرآن- بإخلاص وأمانة- ثم يقع في مثل الأخطاء والأغلوطات التي قد وقع فيها هؤلاء المفسرون الجدد لآية الاستخلاف، فالحقيقة أن المعنى الذي بينوه لكلمتي: الخلافة والاستخلاف، وعلى أساسه قد رفعوا بناءهم، إنما اختلقوه من عند أنفسهم، ولا يكاد يقول به أحد يعرف القرآن. إن القرآن يستعمل كلمة الخلافة بثلاثة معان مختلفة، وفي كل موضع من مواضع

استعماله لهذه الكلمة نعرف بسياقها، وسياقها من دون شك في أي معنى من هذه المعاني الثلاثة قد استعملها. فمعناها الأول: (حمل أمانة السلطة والصلاحيات) وبهذا المعنى إن ذرية آدم كلها خليفة الله في الأرض. ومعناها الثاني: (ممارسة صلاحيات الخلافة تحت أمر الله التشريعي- لا تحت أمره التكويني فقط- مع التسليم بحاكميته العليا) وبهذا المعنى إنما المؤمن الصالح هو الخليفة في الأرض، لأنه هو الذي يؤدي حق الخلافة على وجهه الصحيح، وعلى العكس منه ليس الكافر والفاسق بخليفة لله، بل هو خارج عليه، لأنه يتصرف في ملكه على طريق معصيته. ومعناها الثالث: (قيام أمة جديدة مقام أمة غالبة في عصر من العصور بعد انقراضها) المعنيان الأولان مأخوذان من الخلافة بمعنى النيابة، والمعنى الثالث مأخوذ من الخلافة بمعنى البقاء، والقيام مقام الغير، وهذان المعنيان لكلمة الخلافة معروفان في لغة العرب. فمن قرأ الآن آية الاستخلاف بهذا السياق والسباق فإنه لا يكاد يشك لطرفة عين في أن كلمة الخلافة قد استعملت في هذا المقام بمعنى الحكومة القائمة بحق نيابة الله تعالى، وفق أمره الشرعي، ولأجل ذلك يأبى الله تعالى أن يشمل المنافقين المدعين بإسلامهم في وعده الذي يقطعه للمسلمين في هذه الآية، فضلا عن أن يشمل فيه الكفار، ولأجل ذلك يقول: إنه لا يستحق هذا الوعد إلا المتصفون بصفات الإيمان والعمل الصالح، ولأجل ذلك يذكر سبحانه وتعالى من ثمرات قيام الخلافة في الأرض أن يقوم دينه الذي ارتضى، أي الإسلام، على الأسس القوية، ولأجل ذلك ذكر هذه النعمة مشترطة بأن يبقى المسلمون قائمين بحق عبادته يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أما توسيع هذا الوعد إلى النطاق الدولي، والتقرب به إلى كل من كان له العلو والكلمة النافذة في العالم- أمريكا أو روسيا أو غيرهما- فإن هو إلا طغيان في الغي، وتماد في الجهل والضلال ولا غير. وأمر آخر يجدر بالذكر في هذا المقام، هو أن هذا الوعد وإن كان شاملا للمسلمين في جميع الأزمان، ولكن الخطاب المباشر فيه لأولئك المسلمين الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وحقا إن المسلمين كانوا في حالة شديدة من الخوف أيام نزول هذا الوعد، حتى كانوا لا يضعون سلاحهم، وما كان دين الإسلام قد تمكن لهم، حتى ولا في أرض الحجاز، ولكن هذه الحالة ما تبدلت في عدة سنوات بحالة الأمن والرفاهة والطمأنينة فحسب، بل تجاوز فيها الإسلام حدود جزيرة العرب، وانتشر في أكبر جزء

من إفريقية وآسيا، ولم ترسخ جذوره في منبت أرومته فقط، بل وفي أكثر أقطار الأرض. فهذا شاهد تاريخي بأن الله تعالى قد أنجز وعده في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. ولا يكاد يشك بعد ذلك رجل يقيم أدنى وزن للإنصاف في أن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان حق قد صادق عليه القرآن نفسه، وأن الله تعالى نفسه يشهد بكونهم مؤمنين صالحين. بيد أن من كان في ريب من ذلك، فعليه أن يراجع كتاب نهج البلاغة، ويقرأ فيه الكلام الآتي لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما استشاره عمر في غزو الفرس بنفسه: (إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيثما طلع. ونحن على موعد من الله تعالى حيث قال عز اسمه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ .. والله منجز وعده وناصر جنده. ومكان القيم بالأمر (¬1) مكان النظام من الخرز: يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام، تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا. والعرب اليوم وإن كانوا قليلين فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب. فإنك إن شخصت (¬2) من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك (¬3) وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل في ما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة (¬4). ¬

_ (¬1) القائم به يريد الخليفة، والنظام هو السلك الذي ينظم فيه الحرز. (¬2) شخصت: خرجت. (¬3) انتقاضهم عليك للقتل. (¬4) نهج البلاغة ج 1 ص 283.

فوائد

ولكل من يقرأ هذا الكلام أن يرى: من الذي يجعله سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصداقا لآية الاستخلاف؟) فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ذكر ابن كثير ما رواه الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له» وذكر ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم كسبب لنزول الآيات عن الحسن قال: «كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال: أنطلق إلى فلان؛ فأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان بينه وبين أخيه شئ فدعي إلى حكم من حكام المسلمين فأبى أن يجيب له فهو ظالم لا حق له» وهذا حديث غريب وهو مرسل. 2 - بمناسبة قوله تعالى إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال ابن كثير: (وقال قتادة في هذه الآية أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا ذكر لنا أن عبادة بن الصامت- وكان عقبيا بدريا أحد نقباء الأنصار- أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى، قال فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شئ يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة، قال وقد: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين. ورواه ابن أبي حاتم. والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله، وسنة رسوله، وللخلفاء الراشدين، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله، أكثر من أن تحصر في هذا المكان) 3 - بمناسبة قوله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ قال النسفي: (وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية وهي جامعة لأسباب الفوز).

4 - بمناسبة قوله تعالى وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قال ابن كثير: (قال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء، أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي، فقام فقال: يا سماء اسمعي، ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقضي شأنا، ويدبر أمرا هو منفذه، إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة، والآجام في الغيطان، والأنهار في الصحارى، والنعمة في الفقراء، والملك في الرعاة، ويريد أن يبعث أميا من الأميين، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه، بعثته بشيرا ونذيرا لا يقول الخنا، أفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وأسدده بكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به من الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأستنقذ به فئاما من الناس عظيما من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين، مخلصين مصدقين بما جاءت به الرسل.» رواه ابن أبي حاتم. أقول: يبدأ سفر أشعيا الموجود حاليا بهذه الكلمات: (اسمعي أيتها السموات واصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلم) الإصحاح الأول، وفي الإصحاح الحادي والأربعين نجد العبارات التالية: (أفتح على الهضاب أنهارا. وفي وسط البقاع ينابيع. أجعل الفقر أجمة ماء. والأرض اليابسة مفاجر مياه. أجعل في البرية الأرز والسنط والآس وشجرة الزيت. أضع في البادية السرو والسنديان والشربين معا) (قد أنهضته من الشمال فأتى من مشرق الشمس يدعو باسمي يأتي على الولاة كما على الملاط وكخزاف يدوس الطين) وفي الإصحاح الثاني والأربعين: (هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق لا يكل ولا ينكسر حتى يضع

الإصحاح الرابع والخمسون

الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته). (أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة) (أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ... ) (لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال ليهتفوا) لاحظ أن قيدار هو ابن إسماعيل، فالمراد به هنا الشعب العربي، ولاحظ أن سلعا هو من جبال المدينة. (وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم، أجعل الظلمة أمامهم نورا، والمعوجات مستقيمة هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم). (الرب قد سر من أجل بره يعظم الشريعة ويكرمها). لقد تتبعت سفر أشعياء فرأيت هذه النقول تشبه ما ذكره وهب بن منبه عن هذا السفر، وواضح أن هاهنا بشارة برسولنا عليه الصلاة والسلام، ومع كثرة التحريفات وتعدد الترجمات فلا زال في السفر ما يدل على أن في هذه النصوص بشارة برسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي سفر أشعياء بشارة أخرى بنبوة وأمة وشريعة وأرض، ولا تنطبق هذه البشارة إلا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أوضحنا ذلك في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) وها نحن ننقل لك هذه البشارة فتأملها: الإصحاح الرابع والخمسون «ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب، أو سعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتادك؛ لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة، لا تخافي لأنك لا تخزين، ولا تخجلي لأنك لا تستحين، فإنك تنسين خزي صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد، لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه ووليك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يدعى. لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وبإحسان أبدي أرحمك قال وليك الرب. لأنه كمياه نوح هذه لي. كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك. فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب. أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية ها أنا ذا أبني بالأثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق

أؤسسك. وأجعل شرفك ياقوتا وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة. وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرا. بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين وعن الارتعاب فلا يدنو منك. ها إنهم يجتمعون اجتماعا ليس من عندي. من اجتمع عليك فإليك يسقط. ها أنا ذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ويخرج آلة لعمله وأنا خلقت المهلك ليخرب. كل آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه. هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب). 5 - عند قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً نحب أن نقف عدة وقفات: أ- إن هذا الوعد قد تحقق لهذه الأمة، وهو مستمر لكل من تحقق بمواصفات الاستخلاف، لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة. وفي رواية: حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وفي رواية- حتى يقاتلوا الدجال- وفي رواية- حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون» قال ابن كثير: وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها. ب- إن الاستخلاف والتمكين والأمن لا تكون إلا بعد خوف، واستمرار على الحق، واستمرار على الإيمان والعمل الصالح، حتى يأتي النصر، والذي نلاحظه أن كثيرا من المسلمين إذا جاء الخوف تركوا وانعزلوا، وأن كثيرين ليسوا متحققين بشروط الاستخلاف، ومن ثم نرى أن النصر يبطئ على حملة دعوة الله، والرجاء من أهل الإسلام أن يتحققوا ويستمروا. ج- في هذه الآية معجزة من معجزات القرآن؛ إذ أنها تحدثت عن غيب ووقع. قال ابن كثير: (هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، وحكما فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى، وله الحمد والمنة: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين

وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة، الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه. ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته، أبو بكر الصديق، فلم شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأخذ جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس، صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه، ففتحوا طرفا منها، وقتلوا خلقا من أهلها، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق، ومخاليفهما من بلاد حوران، وما والاها، وتوفاه الله عزّ وجل واختار له ما عنده من الكرامة. ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياما تاما لم يدر الفلك- بعد الأنبياء- على مثله، في قوة سيرته، وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر، إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس. وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالها في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة، ثم لما كانت الدولة العثمانية أي دولة عثمان بن عفان، امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبته مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق، وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها»). فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا. قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا» ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت

عني، فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: قال «كلهم من قريش» ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به، وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك، وذكر معه أحاديث أخر، وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادل، وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثنى عشر؛ فإن كثيرا من أولئك لم يكن لهم من الأمر شئ، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش، يولون فيعدلون، وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة، ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا، وقد وجد منهم أربعة على الولاء، وهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ثم كانت بعدهم فترة، ثم وجد منهم من شاء الله، ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى، ومنهم المهدي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما. قد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا» وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً الآية قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له سرا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة، فقدموها فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة» وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فآمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط، وغيروا فغير بهم، وقال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية، وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الأنفال: 26) وقوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ (الأعراف: 129) وقال تعالى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ (القصص: 5). وقوله وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ الآية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمن هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» قال عدي ابن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها». وروى الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» وقال الألوسي: (هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم، لأن الله تعالى وعد فيها من في حضرة الرسالة من المؤمنين بالاستخلاف، وتمكين الدين، والأمن العظيم من الأعداء، ولا بد من وقوع ما وعد به، ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى، ولم يقع ذلك المجموع إلا في عهدهم، فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف الله تعالى إياه حسبما وعد جل وعلا). 6 - بمناسبة قوله تعالى يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل قال: «يا معاذ» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قلت: الله ورسوله أعلم قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» قال: ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: «فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟»

المجموعة الثانية

قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم» أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة). المجموعة الثانية وهي أربع آيات كلمة بين يدي هذه المجموعة: يلاحظ أن أكثر آيات المجموعة الثانية منته بذكر الآيات: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فإذا تذكرنا مقدمة السورة: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أدركنا أن في هذه المجموعة نموذجا على الآيات البينات في السورة: إن آيات هذه المجموعة ترتبط بما تقدمها من السورة بروابط متعددة: فبعد المجموعة التي علمتنا على الطاعة والالتزام تأتي هذه المجموعة، وفيها آداب وأحكام ينبغي أن تلتزم. ولقد جاء المقطع الأول وفيه كلام عن الاستئذان، وغض البصر، وترك التبرج، وجاءت هذه المجموعة لتستكمل هذه الأمور، فتذكر ضرورة استئذان المماليك والصغار، وتذكر حكم القواعد من النساء. وجاء في المقطع الأول موضوع النهي عن دخول البيوت إلا بإذن، وهاهنا يأتي حكم الأكل من بعض البيوت، إلى غير ذلك، فالمجموعة تكمل الكلام عن معان وردت في المقطع الأول، ويربط بين آياتها أنها تتحدث عن آداب اجتماعية وسلوكية. ولعل توزع آيات الاستئذان في هذه السورة هو أجود مناسبة للحديث عن بعض الحكم في موضوع يتساءل عن الحكمة فيه بعض الناس، وما الحكمة في كون المواضيع القرآنية موزعة مفرقة في القرآن كله؟. لقد رأينا في كل سورة عرضناها كيف أن للسورة وحدتها، ومحورها، فليس هناك آية إلا وهي في محلها الأكمل، ثم إننا نجد في كل سورة خصائص القرآن كله، من كونه مذكرا وواعظا ومعلما ومربيا وهاديا، فنجد السورة الواحدة تعرض ما تعرضه بأسلوب يجتمع فيه من الخصائص ما لا يحاط به، وهذا بعض أسرار كون القرآن على ما

هو عليه، ثم إنك تجد السورة الواحدة- ولو تعددت معانيها- فإن كل معنى فيها يخدم بقية المعاني، ويؤسس لها بشكل لا يمل معه الإنسان، وبشكل يملأ العقل والقلب والشعور وعوالم النفس. إن هناك معنى إذا وضع بجانب معنى آخر فإنه يكون أولى به، حتى من معنى يشبهه. وهناك معنى يحتاج إلى عشر مقدمات، ومعنى يحتاج إلى مقدمتين، من أجل أن يعطي ثماره في القلب من أقرب طريق، ومن ثم يكون هذا في مكان، والثاني في مكان آخر، بعد أن يأخذ كل منهما المقدمات الضرورية له. وفي عملية التكوين الشامل للنفس البشرية تحتاج هذه النفس إلى جرعات متفاوتة بحسب الاحتياج، والنفس البشرية ملول، ومن متعتها تغير المشاهد، وهي تحتاج إلى أن تأخذ بعض المواضيع متداخلة، وأحيانا متسلسلة، وأحيانا تحتاج إلى أن تأخذ المعنى الواحد ضمن إطار، ثم تأخذه ضمن إطار آخر، والتكليف فيه مشقة؛ فإن يجزأ التكليف، وأن يوضع كل جزء منه في الإطار الذي تقبله النفس دون تلكؤ، كل هذه المعاني وغيرها بعض حكم كون المواضيع القرآنية عرضت كما هي في القرآن، وبشكل لا يمكن أن يعلم حدوده وحقوقه إلا الله عزّ وجل؛ فالله عزّ وجل الذي خلق الكون والإنسان- وهو الأعلم بالإنسان- جعل كتابه الهادي لهذا الإنسان، بما يتفق مع خلق هذا الإنسان، وتركيبه العقلي والنفسي والشعوري. إن الله عزّ وجل هو الأول والآخر، والله عزّ وجل يعلم ما كان وما يكون، وقد خلق الإنسان وهو أعلم به، وخلق السموات والأرض بما يتفق ومصلحة هذا الإنسان هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (البقرة: 29) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ (لقمان: 20) وجعل كل جزء يحتاجه الإنسان بحجم وكيفية، وجعل له محل وجود، وجعل الوصول إليه متدرجا، فكل عصر، وكل إنسان، وكل زمان، وكل مكان، يأخذ احتياجاته، ويكتشف شيئا جديدا، بما يحقق التجديد ويحقق الكفاية وتجد بعض الأشياء مبثوثة في كل مكان، وتجد بعض الأشياء مبثوثة هنا وهناك، وكل ذلك ضمن حكمة لا يحيط بها إلا الله، وضمن وحدة كلية لا يدرك الإنسان من أسرارها إلا القليل.

التفسير

والقرآن الذي هو كلام الله الدال على علمه، والذي كان قبل الزمان وقبل المكان، والذي أنزله الله في الزمن المناسب لهذا الإنسان، تجده على ما هو عليه مما يناسب هذا الإنسان في كل زمان ومكان، مناسبة لا يمكن أن تكون، لولا أن خالق هذا الإنسان، ومنزل هذا القرآن واحد، وهو الله. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان: 6) الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ فهذا بعض شأن القرآن وهذا هو الأنسب للإنسان. إن كل سورة لها مقاصد تحققها، وهذه المقاصد لا تتحقق إلا إذا كان العرض على ما هو عليه، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن يدل على أن القرآن من عند الله، فإذا اتضح كل ما مر نكون قد عرفنا بعض حكم توزع المواضيع في السورة الواحدة، أو في القرآن كله. إن آيات استئذان الأجانب أولى بها أن تكون في سياق عملية التطهير النفسي والقلبي للمسلم، في قضية تمس العرض، وآيات استئذان الأقارب أولى أن تكون ضمن سياق كون هذا القرآن بينات وضمن سياق أن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. إن القرآن ليس كتابا كبقية الكتب، يضع الموضوع بجانب الموضوع، ليشكل في النهاية كتابا موضوعه جزء من أجزاء الحياة، بل القرآن كتاب الحياة، وكتاب الإنسان، وكتاب الكون، وكتاب الدنيا والآخرة، وكتاب كل شئ، وقد أعطت كل سورة من سوره هذا الإنسان ما يناسب كينونته مناسبة ما، وكذلك مجموعة السور، وكذلك كل المجموعات في القسم، وكذلك كل الأقسام، فكان حصيلة ذلك مناسبة هذا القرآن للكينونة البشرية في الزمان والمكان، بما يسع هذه الكينونة كلها. التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي العبيد والإماء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي الأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ثَلاثَ مَرَّاتٍ في اليوم والليلة وهي مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ما ينام فيه من الثياب، ولبس ثياب اليقظة وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وهي نصف النهار في القيظ، لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة وَمِنْ

[سورة النور (24): آية 59]

بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، والالتحاف بثياب النوم ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي هي أوقات ثلاث عورات وسمي كل واحد من هذه الأحوال عورة لأن الإنسان يختل تستره فيها، والعورة الخلل لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات والمعنى: أي لا إثم عليكم ولا على المذكورين في الدخول بغير استئذان بعدهن، ثم بين العلة في ترك الاستئذان وراء هذه الأوقات بقوله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة، وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج، وهو مدفوع في الشرع بالنص كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي كما بين حكم الاستئذان يبين لكم غيره من الآيات التي احتجتم إلى بيانها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده حَكِيمٌ في بيان مراده وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي الاحتلام فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي إذا بلغوا، وأرادوا الدخول عليكم فليستأذنوا في جميع الأوقات كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال، أو الذين ذكروا في الاستئذان أول السورة، والمعنى: أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا بالاحتلام، أو بالسن، وجب أن يفطموا عن تلك العادة، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات، كالرجال الكبار، الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن، والناس عن هذا غافلون كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بمصالح الأنام، حكيم فيما بين من الأحكام، قال ابن كثير: (هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض). وعلى هذا فآيات الاستئذان هذه مكملة لآداب الاستئذان المذكورة من قبل. وكما أنه بعد آيات الاستئذان هناك جاء الأمر بغض البصر، وعدم إبداء الزينة، تأتي هنا آية تكمل الحكم ذاك، وهو أن القواعد من النساء ليس عليهن من الحجر في التستر، كما على غيرهن من النساء، وكما كان بين الأمر بالتستر والاستئذان هناك صلة، فالأمر كذلك هنا، لأن القواعد من النساء أكثر من يدخل عليهن الأقارب، ومن ثم جاء حكمهن في التستر بعد آداب الاستئذان الخاصة في الأقارب قال تعالى: وَالْقَواعِدُ

[سورة النور (24): آية 61]

مِنَ النِّساءِ القواعد جمع قاعد وهي صفة مختصة بالنساء والمعنى: واللاتي قعدن عن الحيض والولد من النساء لكبرهن اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج، ولا يطمعن فيه فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أي إثم في أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات زينة، فلا هن متزينات، ولسن كاشفات عن مواطن الزينة الخفية، كالشعر والنحر والساق ونحو ذلك، وحقيقة التبرج: تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، فهن لا يقصدن بوضع ثيابهن التبرج، ولكن التخفيف وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي وأن يطلبن العفة عن وضع الثياب فيستترن خير لهن وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقلن، ويقال فيهن عَلِيمٌ بما يقصدن، وعليم إذ شرع لهن ما شرع. والآن تأتي آية تحدد البيوت التي يجوز للإنسان أن يأكل منها، والصلة بينها وبين آيات الاستئذان: أن الاستئذان يعقبه دخول، والدخول يعقبه رؤية لما في البيت، وقد يكون في البيت طعام، فهل يحق للإنسان أن يأكل؟ كما أن هناك حالات قد يدخل الإنسان فيها إلى بيوت المذكورين في الآية، في حالة غيبتهم، بإذن مسبق، فاقتضى ذلك معرفة أحكام الأكل من مثل هذه البيوت. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ قال ابن كثير: (روى الزهري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم، ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه، فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء، فأنزل الله هذه الآية، ومن المعلوم أن الأعمى والمريض والأعرج هم الذين كانوا يتخلفون عن الجهاد، وتوضع عندهم مفاتح البيوت، ويؤذن لهم في الأكل، فكانوا يتحرجون أن يأكلوا، فأنزل الله رفع الحرج عنهم في أن يأكلوا ما دام الإذن موجودا) وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ حرج أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي بيوت أولادكم، لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه، ولهذا لم يذكر الأولاد في الآية، أو بيوت أزواجكم لأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة كبيت الزوج أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ قال النسفي: (لأن الإذن من هؤلاء ثابت دلالة) أَوْ ما مَلَكْتُمْ

كلمة في السياق

مَفاتِحَهُ المفاتح: جمع مفتح، وهو: ما يفتح به الغلق، قال سعيد بن جبير والسدي كما ذكر ابن كثير في تفسير المراد بمالك المفاتح هنا: هو خادم الرجل من عبد وقهرمان، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف. وقال النسفي: (قال ابن عباس رضي الله عنه: هو وكيل الرجل وقيمه في ضيعته، وماشيته، له أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته) وإذن فقد أريد بملك المفاتح كونها في يده وحفظه وقيل: أريد بالمالك في الآية بيت عبده، لأن العبد وما في يده لمولاه أَوْ صَدِيقِكُمْ قال ابن كثير: (أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم، ولا يكرهون ذلك. وقال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أي مجتمعين أَوْ أَشْتاتاً أي متفرقين، نفت هذه الآية الحرج عن الناس في الأكل منفردين أو مجتمعين، إذ كان ناس يتحرجون أن يأكلوا منفردين، وكان ناس يتحرجون أن يأكلوا مجتمعين، خوفا أن يأكل أحدهم أكثر من الآخر، فجاءت هذه الآية لتنفي الحرج عن كل هذا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي من هذه البيوت لتأكلوا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي فابدءوا بالسلام على أهلها الذين منكم دينا وقرابة، أو المعنى: فإذا دخلتم بيوتا فارغة أو مسجدا فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله مُبارَكَةً طَيِّبَةً وصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن، يرجى بها من الله زيادة الخير، وطيب الرزق كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا وتفهموا قال ابن كثير: (لما ذكر تعالى ما في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحكمة، والشرائع المتقنة المبرمة، نبه تعالى عباده على أنه يبين لهم الآيات بيانا شافيا ليتدبروها ويعقلوها). كلمة في السياق: جاء في هذه المجموعة عدة أحكام فإذا تذكرنا أن هذه السورة محورها ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وأن سياقها تحدده الآية الأولى منها وهي سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ إذا تذكرنا هذا علمنا أن هذه الأحكام مما ينبغي أن يعرفه المسلم ويعتقده ويلتزم بما فيه، كي يحقق أمر الدخول في الإسلام كله، ولم يبق عندنا إلا خاتمة السورة فلنذكر بعض الفوائد حول المجموعة الثانية، ثم نذكر بعد

الفوائد

ذلك خاتمة السورة. الفوائد: 1 - في قوله تعالى طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ تعليل لعدم طلب الاستئذان من المذكورين إلا في العورات الثلاث، ومن ثم نفهم أن كثرة الخلطة علة للتخفيف، قال ابن كثير: (ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم، ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات). 2 - في سبب نزول قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ... قال ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لما أنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلى قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ وكانوا أيضا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم في ذلك فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً وقال قتادة: كان هذا الحي من بني كنانة يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى أن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل، كما رواه الإمام أحمد عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأكل ولا نشبع. قال «لعلكم تأكلون متفرقين؛ اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» وقد روى ابن ماجه ... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلوا جميعا ولا تفرقوا؛ فإن البركة مع الجماعة). 3 - بمناسبة قوله تعالى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً قال ابن كثير: (قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري: يعني فليسلم بعضكم على بعض، وقال ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، تحية من عند الله مباركة طيبة، قال: ما رأيته إلا بركة، روى ابن جريج عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا

المجموعة الثالثة وهي خاتمة السورة

دخل أحدكم بيته فليسلم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال: لا، ولا أوثر وجوبه عن أحد، ولكن هو أحب إلي، وما أدعه إلا ناسيا. وقال مجاهد: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وروى الثوري عن مجاهد: إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل: بسم الله، والحمد لله، السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه، وقال الحافظ أبو بكر البزار ... عن أنس قال: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال: «يا أنس أسبغ الوضوء؛ يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي؛ تكثر حسناتك، وإذا دخلت- يعني بيتك- فسلم على أهلك؛ يكثر خير بيتك؛ وصل صلاة الضحى؛ فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقر الكبير، تكن من رفقائي يوم القيامة). ولننتقل الآن إلى تفسير خاتمة السورة ملاحظين أن موضوع الاستئذان، وموضوع الإذعان لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان من مواضيع السورة الرئيسية، وخاتمة السورة قد أشارت إلى أدب من آداب الانصراف، وأدب من آداب التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما أدبان بارزان ضمن آداب أخرى. المجموعة الثالثة وهي خاتمة السورة التفسير: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي الذي يجمع له الناس نحو الجهاد، والتدبير في الحرب، وكل اجتماع في الله حتى الجمعة والعيدين لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أي ويأذن لهم، لما أراد الله عزّ وجل أن يريهم عظمة الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع، جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وضمنه شيئا آخر وهو

[سورة النور (24): آية 63]

أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ في الانصراف لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي أمرهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأفضل ألا يستأذن. قال النسفي: (قالوا: وينبغي أن يكون الناس كذلك مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم، يظاهرونهم ولا يتفرقون عنهم، إلا بإذن) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه. ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي. أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، فلا تقولوا: يا محمد ولكن يا نبي الله، يا رسول الله، مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض، وهناك قول آخر في معناها: أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره؛ فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي يخرجون قليلا قليلا مِنْكُمْ لِواذاً أي ملاوذين واللواذ والملاوذة: هو أن يلوذ هذا بذاك، وذاك بهذا، أي ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة، واستتار بعضهم ببعض فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قال ابن كثير: (أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيله ومنهاجه، وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الله باطنا وظاهرا أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ قال ابن كثير في تفسير الفتنة هنا: (كفر أو نفاق أو بدعة) وقال النسفي: (أي محنة في الدنيا، أو قتل، أو زلازل وأهوال، أو تسليط سلطان جائر، أو قسوة القلب عن معرفة الرب، أو إسباغ النعم استدراجا) أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هذا تنبيه على ألا يخالفوا أمر من هذا شأنه قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أدخل (قد) على الفعل المضارع ليفيد التوكيد، والمعنى: أن جميع ما في السموات والأرض مختص به، خلقا وملكا وعلما، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجهدون في سترها، ويمكن أن يكون قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ خطابا لكل أحد وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أي ويعلم يوم يردون إلى جزائه وهو يوم القيامة فَيُنَبِّئُهُمْ يوم القيامة بِما عَمِلُوا أي بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حق جزائهم وَاللَّهُ

نقل

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه خافية. نقل: قال الألوسي عند قوله تعالى فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ: (تفويض الأمر إلى رأيه صلى الله عليه وسلم؛ واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم، وهذه مسئلة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين، وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له: احكم بما شئت فإنه صواب، فأجاز ذلك قوم، لكن اختلفوا، فقال موسى بن عمران: بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء، وقال أبو علي الجبائي: بجواز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه، وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع، ومنع من ذلك الباقون. والمجوزون اختلفوا في الوقوع، قال الآمدي: والمختار الجواز دون الوقوع، وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع. والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويا لا تشهيا، ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالاجتهاد، والأليق بشأن الله تعالى وشأن رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة). فوائد: 1 - أكدت هذه الآيات أدبا من آداب اجتماع المسلمين، وهو أنهم إذا اجتمعوا لأمر فلا يحق لإنسان أن يخرج إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوده، أو بإذن مقدمهم في الدين حال غيابه، أو بعد موته صلى الله عليه وسلم، كما أكدت على وجوب تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون الاحترام بالنداء، وطريقة الكلام، والاستجابة، وعدم الانصراف إلا بإذن، وهي آداب تراعى مع وراثه صلى الله عليه وسلم، ومع من له إمرة شرعية من المسلمين. 2 - وبمناسبة ذكر أدب الاستئذان للانصراف يذكر ابن كثير أدبا آخر وهو: ضرورة السلام للدخول والخروج كما ورد في الحديث الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة» مع ملاحظة مراعاة أدب التسليم والمواطن التي ليس من الأدب أن يسلم فيها. 3 - رأينا أن هناك ثلاثة أقوال في تفسير قوله تعالى لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وقد ذكر اثنين منها ابن كثير وهذا كلامه: (قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عزّ وجل

عن ذلك؛ إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم قال فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود. وقال مقاتل في قوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً يقول: لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عبد الله، ولكن شرفوه؛ فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قال: أمرهم الله أن يشرفوه، هذا قول، والظاهر من السياق كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا إلى آخر الآية، وقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ الآية فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، والكلام معه وعنده، كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته. والقول الثاني في ذلك أن المعنى في لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي والله أعلم). 4 - عرض ابن كثير أقوال المفسرين في قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فقال: (قال مقاتل بن حيان: هم المنافقون، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة، ويعني بالحديث الخطبة، فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد، وكان لا يصح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل، لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته. وقال السدي: كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض، حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم. وقال قتادة في قوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً يعني لواذا عن نبي الله وعن كتابه، وقال سفيان قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قال من الصف. وقال مجاهد في الآية لِواذاً خلافا). 5 - وبمناسبة قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل

كلمة في السياق

الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها- قال- فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها» أخرجاه (في الصحيحين) من حديث عبد الرزاق). كلمة في السياق: ختم المقطع الثالث وهو المقطع الأخير في السورة بالتذكير بوجوب تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم مجالسه، وجعل ذلك علامة على الإيمان، فالمقطع بدأ بتبيان ما هو من الإيمان، وختم بما هو من الإيمان، وتحدث في الوسط عن أحكام من الإسلام، والصلة بين الخاتمة وبين محور السورة واضحة. إن محور السورة هو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ والسلم: هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قالت خاتمة السورة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إن هذا النص هو تفسير لقوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فمن عزته أن يفتنكم إن زللتم، أو يعذبكم في الدنيا والآخرة، ومن حكمته أن يفتنكم إن زللتم، أو يعذبكم في الدنيا والآخرة. كلمة في سورة النور: إن سورة النور عرضت بشكل رئيسي إلى أحكام من الإسلام: حد الزنا، ثم حد القذف، ثم الملاعنة، ثم الموقف من إشاعة الفاحشة، ثم العفو والصفح، ثم عدم دخول بيت الغير إلا بإذنه، ثم غض البصر، وحفظ الفروج، وعدم إبداء الزينة إلا لدوائر معينة، والتوبة، وإنكاح الأيامى، والأرقاء، والاستعفاف عن الزنا حال فقد النكاح، والمكاتبة، وعدم إكراه الإماء على البغاء، وحددت خصائص الإيمان الكامل، وذكرت آداب المسلم مع المساجد، وحددت وظائف المسجد، وذكرت خصائص رواده، ومثلت لأعمال الكافرين من أهل الكتاب، ومثلت لأعمال الكافرين من غيرهم، وحددت خلقين من أخلاق المنافقين، وحددت ما يقابلهما من أخلاق المؤمنين، ووعدت المؤمنين بالاستخلاف، والتمكين والأمن، وأمرت بالصلاة والزكاة وطاعة الرسول، ونهت عن حسبان المؤمنين أن الكافرين لا يغلبون، أو يقهرون، ثم

أمرت الأرقاء والأطفال أن يستأذنوا على أهليهم في ثلاث أوقات، وأمرت الكبار بالاستئذان في كل حال، وأذنت للقواعد من النساء بالتخفف من الثياب، وأذنت للأعمى والأعرج والمريض بالأكل مما أذن لهم أن يأكلوا منه، وأذنت للإنسان أن يأكل من بيوت دائرة حددتها، وأباحت أكل الجماعة، وأكل المنفرد، وأمرت أن يسلم الإنسان على نفسه إذا دخل بيتا ليس فيه أحد، وحددت بعض آداب المسلمين في اجتماعاتهم، وأمرت بالأدب الكامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، محددة بعض الآداب، وبهذا يعرف المسلم ماهية كثير من دين الله، الإسلام الذي أمر أن يدخل فيه، ولذلك كله صلة بقوله تعالى في المحور يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وقد نهت السورة عن اتباع خطوات الشيطان، ولذلك صلة بقوله تعالى في المحور وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وحذرت السورة من الزلل، وحذرت من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوعدت من يفعل ذلك، ولذلك صلة بقوله تعالى في المحور: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ولقد جاء التحذير الأخير في السورة بعد ذكر الآيات البينات: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ. لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. فالسورة ذكرت آيات بينات، ثم حذرت من مخالفة الأمر: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ولذلك- كما قلنا- صلاته بآية المحور: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وكنا ذكرنا من قبل أن أي سورة تفصل في محور من سورة البقرة فإنها تفصل في هذا المحور وفي امتدادات معانيه في سورة البقرة نفسها ولا شك أن قوله تعالى في سورة البقرة وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ مرتبط بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ ... إن هناك صلة واضحة بين آية سورة البقرة المذكورة، وبين الآيتين

اللتين شكلتا محور سورة النور، ولذلك نلاحظ أن لسورة النور صلة قوية بتلك الآية، سواء في شقها الأول: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ كما رأينا أو في شقها الثاني: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ فلقد وردت كلمة (الفاسقون) مرتين في سورة النور: مرة في أول السورة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ومرة في أواخر السورة بعد الوعد بالاستخلاف: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وفي هذا إشارة إلى فظاعة جريمة الكفر بعد النصر، وإلى عظم جريمة القذف. وبعد: فقد اجتمعت في هذه السورة خصائص القرآن كلها على أوضح ما يكون ذلك، ففيها البيان، وفيها المثل، وفيها الموعظة، وفيها الهداية، وفيها الحق، والعدل، وفيها الحكم التكليفي، وفيها التعليل، وفيها التذكير، إلى غير ذلك مما هو من خصائص القرآن. ***

سورة الفرقان

سورة الفرقان وهي السورة الخامسة والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة السادسة من المجموعة الثالثة من قسم المئين، وآياتها سبع وسبعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الفرقان

[قال الألوسي في تقديمه لسورة الفرقان:] قال الألوسي في تقديمه لسورة الفرقان: (أطلق الجمهور القول بمكيتها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله سبحانه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وقال الضحاك: هي مدنية إلا أولها إلى قوله تعالى وَلا نُشُوراً فهو مكي، وعدد آياتها سبع وسبعون آية بلا خلاف كما ذكره الطبرسي والداني في كتاب العدد، ولما ذكر جل وعلا في آخر السورة السابقة وجوب متابعة المؤمنين للرسول صلى الله عليه وسلم ومدح المتابعين، وحذر المخالفين، افتتح سبحانه هذه السورة بما يدل على تعاليه جل شأنه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، أو على كثرة خيره تعالى ودوامه، وأنه أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا إطماعا في خيره وتحذيرا من عقابه جل شأنه. وفي هذه السورة أيضا من تأكيد ما في السابقة من مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيها فقال تبارك وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. وقال صاحب الظلال: هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية، وتطمين له وتقوية، وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم له، وتطاولهم عليه، وتعنتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدى وصدهم عنه. فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله؛ وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا؛ ويهدهد قلبه، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة. وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله عنادا، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين. إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ .. أو تقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا والتي تقول في استهزاء: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟ .. والتي لا تكتفي بهذا الضلال، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً. أو تتعنت فتقول: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟.

وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير ... لقد اعترض القوم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً! واعترضوا على حظه من المال، فقالوا: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها. واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً!. وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم. ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه هذا كله، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه، ولا يحفل بشيء سواه: «رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى» .. فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه، ويمسح على آلامه ومتاعبه، ويهدهده ويسري عنه. ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره .. فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك! وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً .. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً* وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً .. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ .. ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوى الهابط الذي يتمرغون فيه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا!. ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً .. وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل: قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون.

كلمة في سورة الفرقان ومحورها

ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا .. بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً* إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً* وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً* لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً .. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا .. ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ .. وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً. ويكلفه أن يصبر ويصابر، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً .. ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ* وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً .. وهكذا تمضي السورة: في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال. حتى تقرب من نهايتها، فإذا ريح رخاء وروح وريحان، وطمأنينة وسلام .. وإذا صورة عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً .. وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهاد الشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة؛ وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك. وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً .. كلمة في سورة الفرقان ومحورها: عند ما ننظر في المعاني الموجودة في سورة الفرقان، ونبحث عن محور لها، يأتي بعد

قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... من سورة البقرة فإننا نجد ذلك في قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. إن هذه الآية من سورة البقرة قد فصلت قسما من معانيها سورة مريم، وتفصل قسما من معانيها سورة الفرقان، إن سورة الفرقان تفصل من هذه الآية جزءا من قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بعث على فترة من الرسل بشيرا ونذيرا، وأنزل الله معه الكتاب بالحق، ومن ثم نلاحظ أن السورة بدأت بقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. فكيف كان موقف الناس من هذا القرآن!! وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ .. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وكيف كان موقفهم من الرسول!!. وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ .. وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا من هذه الآيات الواردة في السورة ومن قوله تعالى فيها: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. ومن قوله تعالى فيها: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً

من مثل هذا وغيره في السورة فهمنا أن محور هذه السورة هي الآية التي ذكرناها من سورة البقرة وخاصة قوله تعالى منها: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ وسنرى ذلك بالتفصيل أثناء عرض السورة إن شاء الله. ... تتألف السورة من مقدمة، ومقطعين، وكلها تدور حول كون محمد صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، وأن الله قد أنزل عليه الكتاب، وكيف كان موقف الكافرين، وما هو الرد عليه، وما هي أمهات القضايا التي كان فيها التبشير والإنذار، وما هو موقف الناس منها، وإذا كانت السورة اسمها سورة الفرقان فقد كان فيها من المعجزات الزائدة على الإعجاز العام في القرآن ما به تظهر الحجة ظهورا كاملا، ويتم الفرق بين الحق والباطل. وأمام المواقف الكافرة من هذا الفرقان ومن هذا البشير النذير تبين السورة كيف ينبغي أن تكون مواقف البشير النذير، وما هي المعاني التي يجابه بها هذه المواقف. كل هذه المعاني نجدها في السورة. ... ولكون الآية التي هي محور سورة الفرقان آتية في حيز قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... فإننا نجد آثار ذلك في السورة. لقد جاءت آية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ... من سورة البقرة في سياق الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً لتخدمها وتعلل لها وتدلل، وتمكنها في القلب، وجاء قبل آية ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ما كان كالتمهيد والأساس لذلك الأمر، فكذلك هاهنا: إن ما قبل سورة النور كان تمهيدا لها وأساسا يوصل إليها، وهذه سورة الفرقان تأتي لتخدم سورة النور، وكل ذلك على أسلوب عجيب ما كان ليكون لولا أن الله رب العالمين هو منزل هذا القرآن الذي لا يحيط أحد بكمالاته. ... فإذا تقرر هذا فلنبدأ عرض السورة مبتدءين بالمقدمة.

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتتألف من ثلاث آيات وهذه هي مع البسملة بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) التفسير: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي القرآن وسمي القرآن فرقانا لفصله بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ومعنى تبارك الله: أي تزايد خيره، وتكاثر أو تزايد على كل شئ، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله وحده عَلى عَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: (هذه صفة مدح وثناء، لأنه أضافه إلى عبوديته، كما وصفه بها في مقام الدعوة إليه .. وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب ونزول الملك إليه) لِيَكُونَ أي الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن لِلْعالَمِينَ إنسهم وجنهم نَذِيراً أي منذرا أي مخوفا أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي جعله فرقانا عظيما ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء، كما قال صلى الله عليه وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنزل هذا القرآن الذي له ملك السموات والأرض على الخلوص وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح عليهما السلام وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما زعم المشركون، ومن ذلك المجوس الذين يقولون

[سورة الفرقان (25): آية 3]

بالثنوية من النور والظلمة، ويزدان وأهرمن وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أحدث كل شئ وحده فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي فهيأه لما يصلح له بلا خلل فيه، كما أنه خلق الإنسان على هذا الشكل الذي نراه، فقدره للتكاليف والمصالح في الدين والدنيا، أو قدره للبقاء إلى أمد معلوم، أو قدره تقديرا بما يناسب الحكمة التي لا يحيط بها إلا هو وَاتَّخَذُوا أي واتخذ الكافرون مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً من الحجر والبشر والشجر والشمس والنجوم والقمر لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي إنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والملك والخلق والتقدير عبادة عجزة لا يقدرون على خلق شئ وهم يخلقون وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فكيف يملكون لعابديهم؟ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي إماتة وَلا حَياةً أي إحياء وَلا نُشُوراً أي إحياء بعد الموت، فكيف يعبد من هذا شأنه، وكيف تترك عبادة من شأنه الخلق والضر والنفع والإماتة، والإحياء والنشور؟. نقل: قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (قدر حجمه وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر زمانه ومكانه. وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شئ فيه، لما يدعو إلى الدهشة حقا، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهرة، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. يقول (ا. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: «الإنسان لا يقوم وحده (¬1)». ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغا هذه الدقة الفائقة لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني ¬

_ (¬1) ترجمة محمود صالح الفلكى بعنوان: (العلم يدعو إلى الإيمان).

أكسيد الكربون الأوكسيجين، ولما أمكن وجود حياة النبات. (ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شئ قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مروعة، أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره! «إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم، وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور- ومعظمها سام- فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء- أي المحيط- الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، والنباتات. وأخيرا الإنسان نفسه ... ». ويقول في فصل آخر: «لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان- كالنار مثلا- تتوافر له». ويقول في فصل ثالث. «ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان- مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره- من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلا في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.

«والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في أستراليا. كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة. ولم يجد الأهالى وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق! «وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد. «وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائما مجدية. «ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها، أو يكسبون مناعة منها؟ ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك .. ولماذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم، الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري، رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة! ... «إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب. وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبسبب جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته، أو في مثل هذا الحجم!

كلمة في السياق

«ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان أي حيوان- بل كذلك أي نبات- يمكن أن يبقى في الوجود .. الخ». وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم، شئ من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً .. ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئا من هذا كله. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؛ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً .. كلمة في السياق: هذه مقدمة السورة وهي تتحدث عن بعثة الرسول وإنزال القرآن عليه لينذر العالم كله، وكيف كان الناس جميعا عند ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم قد عبدوا غير الله فلنر صلة هذه المقدمة في المحور: إن محور السورة هو: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ويوم بعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق في العالم كله أحد على الدين الحق كما هو معروف من قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه وقد عرضناها في كتابنا (الرسول) وكما هو مفهوم من قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ومعنى هذا أن الناس قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعا كافرين كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً وهذا الذي نراه في قوله تعالى في سورة الفرقان وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي اتخذ العالمون من دونه آلهة وهذا هو الحال الذي إذا صارت إليه البشرية فإن سنة الله أن يرسل إليها رسلا مبشرين ومنذرين وينزل معهم الكتاب، وهذا الذي كان إذ أنزل الله عزّ وجل هذا القرآن على عبده محمد صلى الله عليه وسلم لينذر ويبشر وهكذا نجد أن مقدمة السورة فيها الإشارة إلى أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هي مظهر سنة الله عزّ وجل المذكورة في قوله تعالى كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فليس بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن في الوقت الذي لم يبق فيه موحد إلا استمرارا لسنة الله عزّ وجل، فكيف استقبل الكافرون القرآن والرسول والإنذار، والدعوة إلى التوحيد؟ هذا وغيره سنجده في المقطعين الآتيين في السورة فلنر المقطع الأول.

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد من الآية (4) إلى الآية (31) وهذا هو: [سورة الفرقان (25): الآيات 4 الى 31] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)

التفسير

التفسير: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالت هذا الكلام قريش، ويقوله كل كافر، وأكثر من فلسف فيه فلسفة ظالمة المستشرقون والمبشرون في عصرنا إِنْ هَذا أي القرآن إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أي كذب اختلفه وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي واستعان على جمعه بقوم آخرين وقد ألف المبشرون والمستشرقون الكتب في مصادر هذا القرآن، التي استعان بها محمد صلى الله عليه وسلم- في زعمهم- وهكذا نجد أن منطق الكافرين في كل عصر واحد فَقَدْ جاؤُ أي فقد جاء هؤلاء الزاعمون ظُلْماً وَزُوراً التقدير: جاءوا بظلم وزور، وظلمهم أنهم جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، أو ظلمهم أنهم افتروا على الحقيقة ما ليس منها، والزور أن بهتوه بنسبة ما هو برئ منه إليه وَقالُوا أي وقال هؤلاء الكافرون أيضا في رفضهم لهذا القرآن أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي خرافات الأولين وأحاديثهم اكْتَتَبَها أي استنسخها وكتبها لنفسه فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه بُكْرَةً أي أول النهار وَأَصِيلًا أي آخره فيحفظ ما يملى عليه ثم يتلوه علينا، هذه هي الشبه التي زورها الكافرون ضد القرآن: أنه كذب، وأنه أساطير الأولين، وأن غير محمد صلى الله عليه وسلم قد ساعده عليه، ويأتي الجواب الدامغ على هذه الشبه بآية واحدة: قُلْ أي: جوابا على هؤلاء أَنْزَلَهُ أي: أنزل هذا القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنزل هذا القرآن الذي يعلم كل سر خفي من أسرار السموات والأرض، وكل سر خفي في السموات وفي الأرض، لقد اشتمل هذا القرآن على علوم وأسرار يستحيل في العادة- أن يعلمها محمد عليه الصلاة والسلام، أو غيره ساعة نزول القرآن، وذلك وحده دليل على أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل، وليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم، لا منفردا، ولا بالتعاون مع الآخرين، وقد رأينا خلال هذا التفسير، ورأينا في بحث المعجزة القرآنية من كتابنا (الرسول) الكثير من أسرار السموات والأرض، مما تعرض له القرآن، ولم يك أحد يعرفه أو يتصوره أو يخطر بباله، فما بالك إذا كان مع هذا غيره وغيره وغيره، مما لا يمكن أن يتصور عاقل أن

فوائد

هذا القرآن يمكن أن يكون بشري المصدر، ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي ومن ثم فإنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة، وإن استوجبوها بمكابرتهم. قال ابن كثير: (هذا دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبارهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم إلى التوبة، والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ... ) فوائد: 1 - بمناسبة قول الكافرين عن القرآن إنه إفك، وأساطير الأولين، قال ابن كثير: (وهذا كلام لسخافته وكذبه وبهته منهم كل أحد يعلم بطلانه، فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئا من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته، وبعده عن الكذب والفجور، وسائر الأخلاق الرذيلة، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث: الأمين؛ لما يعلمون من صدقه وبره، فلما أكرمه به نصبوا له العداوة، ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا فيما يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون ساحر، وتارة يقولون شاعر، وتارة يقولون مجنون، وتارة يقولون كذاب وقال الله تعالى انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخبارا حقا صدقا مطابقا للواقع في الخارج، ماضيا ومستقبلا، الذي يعلم السر أي الله الذي يعلم غيب السموات والأرض. ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر. 2 - كنا تحدثنا من قبل عن كتاب (موريس بوكاي) الطبيب الفرنسي (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) ونقلنا عن هذا الكتاب بعض النقول، وعند ما ظهر الكتاب إلى الوجود لم يكن مؤلفه قد أعلن إسلامه، ولقد حاول في كتابه هذا أن يقدم دراسة شاملة- من وجهة نظره العلمية- حول كل ما ذكر في القرآن، أو في التوراة والإنجيل الحاليين، مما يمكن أن يمتحن على ضوء معلومات الإنسان

كلمة في السياق

المعاصرة، فوصل إلى أنه لا يوجد في القرآن نص يمكن امتحانه علميا إلا وهو سابق للعلم، وأنه لا يتناقض مع أي معطيات علمية قطعية على عكس التوراة والإنجيل فيما وصلانا، فإن الكثير مما فيهما لا يثبت أمام المعطيات العلمية، ولقد تكلم في عشرات الأبواب التي تعرض لها القرآن وكانت النتيجة واحدة، وهذا في الحقيقة مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، ودليل على أن منزله هو الذي يعلم أسرار السموات والأرض: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يقول موريس بوكاي في مقدمة كتابه: (لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة، باحثا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول- أي سفر التكوين- فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة ونعنى بها شجرة أنساب المسيح. وذلك أن نص إنجيل متى يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، Lue وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض). كلمة في السياق: رأينا في مقدمة السورة كيف أن الله عزّ وجل ذكر أنه أنزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيرا، وقد بدأ هذا المقطع في عرض موقف الكافرين من القرآن، ثم رد عليه، وكنا ذكرنا أن السورة ستتعرض لكيفية استقبال الكافرين للقرآن ولبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وللإنذار، وللدعوة إلى التوحيد وقد رأينا في هذه الآيات موقفا من مواقف الكافرين من القرآن، وردا على ذلك الموقف، والآن يذكر لنا السياق موقفا من

فائدة

مواقفهم من البعثة والرسول، ويرد عليه، وصلة ذلك بمقدمة السورة واضحة، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فها هم الناس أصبحوا أمة واحدة، وها أن الله قد أرسل لهم محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه القرآن فكيف استقبل الكافرون القرآن؟ ردت على ذلك الآيات السابقة، وماذا قالوا في الرسول؟ هذا الذي سنراه فيما يأتي. فائدة: نلاحظ أن بدء النبوة كان بعد إذ أصبح الناس كلهم كافرين، وأن ختم النبوة كان برسالة محمد بعد إذ أصبح الناس كلهم كافرين، ومن حكم ختم النبوة أن البشرية لن تعود مرة ثانية إلى أن تصبح كافرة، ففي الحديث «لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله» ثم إن القرآن الذي يقوم بعملية النذارة والبشارة محفوظ إلى قيام الساعة؛ ومن ثم فلا حاجة إلى بعثة جديدة، وإنما الحاجة إلى تجديد، وهذا يقوم به أولياء هذه الأمة وعلماؤها «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها» ولنعد إلى التفسير: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يسمونه رسولا من باب السخرية كأنهم قالوا: أي شئ لهذا الزاعم أنه رسول يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكله، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يتردد فيها وإليها؛ طلبا للتكسب والتجارة لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يقولون: هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون شاهدا على صدق ما يدعيه أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ينفق منه أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي تسير معه حيث سار وَقالَ الظَّالِمُونَ دل هذا على أن اقتراحاتهم كلها وأقوالهم كلها من باب الظلم إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إن اتبعتم إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي رجلا سحر فجن. يقولون: إن صح أنه رسول الله فما باله يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد؟؟ يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن ذلك الاقتراح إلى أن يكون مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء، يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا إلى أن يكون رجلا له بستان يأكل منه

المرحلة الأولى

كالمياسير، وإذا لم يكن هذا وهذا وهذا فما هو إلا رجل مجنون هكذا كان موقفهم من الرسول أنهم نفوا الرسالة عنه لأنه ليس ملكا وليس معه ملك، وليس معه كنز، وليس له بستان، وبعد أن عرض الله موقفهم تأتي الآيات لتعزي وتنذر وتقيم الحجة، وكل ذلك في سياق الرد على هذا الموقف الهازئ من الرسول والرد يأتي على ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى: انْظُرْ يا محمد وأنت أعلم بنفسك كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا فيك تلك الأقوال، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال، من المفترى والمملى عليه والمسحور فَضَلُّوا أي عن الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فلا يجدون طريقا إلى الحق، وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال حيث توجه، لأن الحق واحد، ومنهجه متحد، يصدق بعضه بعضا، ثم عزى الله رسوله صلى الله عليه وسلم وطيب قلبه فقال تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا، وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور، فهذا كله سهل يسير على الله، ولكن له الحكمة في ترك ذلك، وله الحجة البالغة. هذه هي المرحلة الأولى من الرد وفيها تبيان أنهم ضلال وأنهم ما داموا على ما هم عليه من الآراء لا يهتدون، وأن الله قادر على أن يعطي رسوله أكثر مما طلبوه، ولكنه لا يفعل؛ لأن حكمته لم تقتض ذلك. وفي هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن رسول الله أول من يعلم بطلان أقوالهم، وفي ذلك تعزية له وتبرئة، والملاحظ أن الرد عليهم قد جاء من قبل، حيث قال تعالى قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه متى قامت الحجة على أن هذا القرآن من عند الله، فقد قامت الحجة على أن محمدا رسول الله، ولكن لأنهم جعلوا هذه شبهة مستقلة فقد جاء الجواب عليها بشكل مستقل، ولننتقل إلى المرحلة الثانية في الرد. المرحلة الثانية: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ قال ابن كثير (إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيبا وعنادا، لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال) وهكذا جاء الجواب هنا لافتا النظر إلى الأصل الذي جعلهم

[سورة الفرقان (25): آية 12]

يلقون الكلام على عواهنه، ويطلقون التهم الظالمة بهذه الكثرة وهذه الكثافة، ومن ثم اتجه السياق للكلام عن المكذبين بالساعة وما أعد لهم، وفي ذلك إنذار لهؤلاء وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي وهيأنا للمكذبين بيوم القيامة نارا شديدة في الاستعار إِذا رَأَتْهُمْ النار مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرين في البعد سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي سمعوا صوت غليانها، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح أي من ضيقه مُقَرَّنِينَ أي وهم مع ذلك الضيق مسلسلون، مقرنون في السلاسل، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ويقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة، وفي أرجلهم الأصفاد دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً أي هلاكا أي قالوا وا ثبوراه أي تعال يا هلاك فهذا حينك فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا، إنما هو كثير، قال ابن كثير: والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار قُلْ أَذلِكَ المذكور من صفة النار خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي التي وعدها المتقون كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ أي ما يشاءونه من الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن، ومراكب ومناظر، وأزواج وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خالِدِينَ أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي موعودا مطلوبا، أو حقيقا أن يسأل، أو قد سأله المؤمنون والملائكة في دعواتهم، قال أبو حازم: إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون: ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا. وبهذا يكون السياق قد عرض لنا جزاء المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض لنا كذلك ما أعده للمؤمنين برسله، المصدقين لهم، العاملين بما أمروا، وإذ كان المشركون الذين تحدثت عنهم مقدمة السورة هم الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقترحوا ما اقترحوا، فإن السياق يعرض حالهم وحال آلهتهم يوم القيامة؛ كتتمة لما أعد لهم، ولبيان أن شركهم لا ينفعهم يوم القيامة وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ للبعث وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ومن عبدوهم من الملائكة، والمسيح وعزير- على رأي مجاهد- وقيل هي عامة في كل من عبد من دون الله فَيَقُولُ أي الله عزّ وجل أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ والمعنى: أأنتم أوقعتموهم في الضلال، بإدخال الشبه، أم هم ضلوا عنه

[سورة الفرقان (25): آية 18]

بأنفسهم؟ وفائدة سؤالهم- مع علمه تعالى بالمسئول عنه- أن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فتزيد حسرتهم قالُوا سُبْحانَكَ هذا تعجب منهم مما قيل لهم وقصدوا به تنزيهه سبحانه عن الأنداد، وأن يكون له نبي أو ملك أو غيرهما ندا ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم أن نتولى أحدا دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ بالأموال والأولاد وطول العمر والسلامة من العذاب حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي ذكر الله، والإيمان به، والقرآن والشرائع. قال ابن كثير: (أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك)، وإذن فسبب الكفر هو كثرة النعم، وكان ينبغي أن تكون سبب الشكر وَكانُوا عند الله قَوْماً بُوراً أي هلكى وعندئذ يقال للكافرين فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أي بقولكم فيهم إنهم آلهة، أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً أي فما تستطيعون أنتم أيها الكفار صرف العذاب عنكم، ولا نصر أنفسكم، ثم وجه الخطاب لكل المكلفين وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي يشرك لأن الظلم وضع الشئ في غير موضعه، ومن جعل المخلوق شريك خالقة فقد ظلم نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً بأن نجعله خالدا في النار، وبهذا انتهت المرحلة الثانية من الرد، بأن ذكرت حقيقة التكذيب، وهي الكفر بالساعة، والبطر، والشرك، والآن تأتي المرحلة الثالثة من الرد وهي بمثابة الرد المباشر وكأن المرحلتين السابقتين تمهيد لهذا الرد. المرحلة الثالثة من الرد: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ هذا هو الرد المباشر على إنكارهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يقول تعالى في رده عليهم: أن جميع من بعثه الله من الرسل المتقدمين، كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذية به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك ينافي حالهم ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة الظاهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي محنة وابتلاء، أي

كلمة في السياق

اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، فهذا رسول مكلف بالإنذار، وهذا مكلف بالاتباع، وهذا عالم وهذا جاهل، وهذا سفيه وهذا حليم، وهذا غني وهذا فقير، وهذا ضعيف، وكل مكلف بأن يقيم حكم الله، والصبر هو رفيق التكليف، ومن ثم قال تعالى أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي عالما بالصواب فيما يبتلي به، أو بمن يصبر على القيام بما كلف به، وهكذا أنهى الله عزّ وجل الرد على قولهم: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ وكان ذلك على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى خاطبت رسول الله صلى الله عليه وسلم معجبة من كلامهم، ومسلية له، والمرحلة الثانية: ذكرت الأصول التي انبثق عنها كلامهم، والمرحلة الثالثة: ذكر فيها أن كل رسول بعثه الله للبشر كان بشرا يأكل الطعام، ثم بينت الحكمة في ذلك وأنها الابتلاء، وبينت أن الصابر وحده هو الذي ينجح في الامتحان. كلمة في السياق: أرسل الله رسولا، وأنزل عليه كتابا، وأمر بالإنذار في وقت لم يبق فيه توحيد، فوقف الكافرون من الكتاب موقفا، ووقفوا من الرسول موقفا، وقد سجل الله الموقف الأول، ورد عليه وسجل الموقف الثاني ورد عليه، وكل ذلك مرتبط بمحور السورة من سورة البقرة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والآن تسجل السورة موقفا جديدا للكافرين من الرسول والقرآن والإنذار والتوحيد، وقبل أن نعرض هذا الموقف فلنذكر بعض الفوائد حول ما مر. فوائد: 1 - في قوله تعالى وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قال ابن كثير: (وقال محمد ابن إسحاق في قوله تعالى وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ قال: يقول الله لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن ابتلي العباد بهم، وأبتليهم بهم، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى (إني مبتليك ومبتل بك) وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» وفي الصحيح «أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا».

2 - بمناسبة قوله تعالى إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً* وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً* لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قال ابن كثير: وروى ابن أبي حاتم .. عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يقل علي ما لم أقل أو ادعى إلى غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار- وفي رواية- فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا» قيل يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال أما سمعتم الله يقول إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ الآية. وروى أيضا عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله- يعني ابن مسعود- ومعنا الربيع بن خيثم فمروا على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديده في النار، ونظر الربيع بن خيثم إليها فتمايل الربيع ليسقط، فمر عبد الله على أتون على شاطئ الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فصعق- يعني الربيع- وحملوه إلى أهل بيته، فرابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق رضي الله عنه. وروى أيضا عن ابن عباس قال: «إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف» وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير .. عن ابن عباس قال: «إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ قالت: إنه يستجير مني فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك فيقول: فما كان ظنك؟ فيقول أن تسعنى رحمتك، فيقول أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وروى عبد الرزاق .. عن عبيد بن عمير في قوله سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه، ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسي وقوله إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ قال قتادة: عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح أي من ضيقه. وقال عبد الله ابن وهب .. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قول الله وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ قال: «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» ...

[سورة الفرقان (25): آية 21]

قال ابن كثير: وروى الإمام أحمد .. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقول يا ثبوراه، فيقولون: يا ثبورهم فيقال لهم: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا». 3 - بمناسبة قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً قال ابن كثير: قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيا قبلك، ولا نعطي أحدا من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عزّ وجل في ذلك: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً قال النسفي: وحكي أن بعض الصالحين تبرم بضنك عيشه فخرج ضجرا فرأى خصيا في مواكب ومراكب، فخطر بباله شئ فإذا بمن يقرأ هذه الآية فقالا: بلى فصبرا) ولنعد إلى التفسير: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وهم الكافرون الذين مر ذكرهم، وهم الذين لا يؤمنون بالساعة، والذين قالوا عن القرآن إنه كذب، وقالوا عن الرسول إنه ينبغي أن يكون ويكون .. هؤلاء يعرض الله عزّ وجل علينا قولا جديدا من أقوالهم، فهم مع كونهم لا يرجون لقاء الله لأنهم كفرة لا يؤمنون بالبعث، ولا يأملون خيرا ولا يخافون عقابا، هؤلاء يقولون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي هلا أنزل علينا الملائكة رسلا دون البشر، أو شهودا على النبوة، ودعوى الرسالة أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة فيخبرنا برسالة رسوله، ويأمرنا باتباعه، علقوا إيمانهم بالقرآن والرسول على إنزال الملائكة أو رؤية الله، وهذا موقف جديد وشبهه جديدة وتعنت جديد، لقد استبعدوا في الموقف الثاني أن يكون الرسول بشرا، وفي هذا الموقف يعلقون الإيمان على إنزال الملائكة أو رؤية الله ويأتيهم الجواب: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي لم يطلبوا هذا الطلب إلا استكبارا عن الحق الواضح وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي وظلموا ظلما

[سورة الفرقان (25): آية 22]

فظيعا، أي إنهم لم يجسروا على هذا القول الفظيع إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو، وفي كتابنا (الله جل جلاله) برهنا على أن هذا الطلب منهم غاية في الجهل، لأن الله عزّ وجل لا يدرك في قوانين هذا العالم بالحواس، ولكون هذه بديهة في منطق العقل، لم يرد الله عليهم بخصوصها، فالله عزّ وجل خالق المادة، وهو بالتالي ليس مادة، والحواس اختصاصها ببعض المادة، ومن ثم فقد انصب الرد على الجانب الآخر، وهو طلبهم إنزال الملائكة يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يوم الموت أو يوم البعث لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي للكافرين وَيَقُولُونَ أي الملائكة للكافرين حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما عليكم البشرى، أي جعل الله ذلك حراما عليكم، إنما البشرى للمؤمنين، أو حراما محرما عليكم الفلاح، وبهذه الآية جاء الجواب على اقتراحهم المتعنت، فكأن الله عزّ وجل قال جوابا على طلبهم: إنه في عالم غير هذا العالم، وفي قوانين غير هذه القوانين، ترون الملائكة، ولكن رؤيتكم للملائكة يوم ذاك لن تكون خيرا لكم، ولكن شرا لكم، والسؤال لماذا بلغوا الغاية في الكبر والظلم بسؤالهم رؤية الملائكة أو رؤية الله؟ والجواب: أن بداهة العقل تحكم أن الرسول قد قامت كل الحجج على صدق رسالته، فتعليق الإيمان على شئ آخر كبر وظلم، فكيف إذا كان هذا الشئ الآخر مستحيلا في العادة! بحكم بداهة العقل في قوانين الحياة الدنيا، لقد اقتضت سنة الله ألا يرى الإنسان الملائكة في الدنيا إلا في حالات يختارها الله عزّ وجل ولا تملى عليه، وإذ بين الله عزّ وجل لهؤلاء المتعنتين سفاهة مطلبهم، بين لهم أن رؤيتهم الملائكة تكون عند الموت، أو عند البعث، وأن ذلك سيكون وبالا عليهم، أتم عرض حال هؤلاء يوم القيامة وَقَدِمْنا أي وعمدنا كما قال مجاهد والثوري إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ كانوا يعتقدون أنهم فيه على شئ فَجَعَلْناهُ هَباءً الهباء: هو ما يرى من الكوة مع ضوء الشمس، شبهها بالغبار مَنْثُوراً أي مفرقا وفي تفسير الهباء أقوال كثيرة قال ابن كثير: (وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شئ فلما عرضت على الملك الحكم العدل، الذي لا يجور ولا يظلم، إذا إنها لا شئ بالكلية، وشبهت في ذلك بالشئ التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شئ بالكلية، وقد دلت الآية على أن الله عزّ وجل لا يقبل عملا من كافر، ولا يعني هذا أنه لا يكافئ الكافر على الخير، بل يكافئه بالدنيا؛ إما بعطاء، أو بثناء، وأما في الآخرة فلا يقبل عملا إلا من مؤمن، وتعليل ذلك كما قال ابن كثير: وذلك لأنها فقدت الشرط

[سورة الفرقان (25): آية 24]

الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ) وإذ بين الله عزّ وجل حال الكافرين وحال أعمالهم، بين حال أهل الإيمان والجنة أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا المستقر المكان الذي يكونون فيه، في أكثر أوقاتهم يتجالسون ويتحادثون وَأَحْسَنُ مَقِيلًا المقيل: هو المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم، ولا نوم في الجنة ولكنه سمى مكان استراحتهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه، وإنما نال أهل الجنة ما نالوه، وصاروا إلى ما صاروا إليه بما عملوه من الأعمال المتقبلة، بخلاف أهل النار، فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم، والنجاة من النار، فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء، وأنه لا خير عندهم بالكلية، وفي ذلك تنبيه لهؤلاء المتعنتين على فرط خسارتهم، وعلى ما تكلفهم مواقفهم المستكبرة الظالمة، ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر مشهدين من مشاهد يوم القيامة، في تذكرها عزاء أي عزاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذه المواقف المستكبرة الظالمة: المشهد الأول: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي واذكر يوم تتشقق السماء بالغمام بأن تنفرج عنه، قال ابن كثير: وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا والمعنى: أن السماء تتفتح بغمام أبيض يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ أي الثابت لِلرَّحْمنِ لأن كل ملك يزول يومئذ فلا يبقى إلا ملكه وَكانَ ذلك اليوم يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي شديدا ويفهم منه أنه يسير على المؤمنين، وإنما كان عسيرا على الكافرين لأنه يوم عدل وقضاء فضل. كلمة في السياق: في قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا قال ابن كثير: (قال مجاهد: وهذا كما قال تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.

المشهد الثاني

فلنتذكر على ضوء ذلك ما يلي: إن محور سورة الفرقان هو كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .. وقبل هذه الآية بآيتين آية تشبه الآية التي نحن بصددها، وهي التي ذكرها مجاهد: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن السور تفصل محاور في سورة البقرة، وامتدادات معاني هذه المحاور، والحيز الذي جاءت فيه هذه المحاور ومن ثم فإن المشهد الثاني في هذا السياق له علاقة بالآية التى جاءت مباشرة قبل آية المحور من سورة البقرة وهي آية زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فلنر المشهد الثاني. المشهد الثاني: وَيَوْمَ أي اذكر يوم يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله من الحق المبين، الذي لا مرية فيه، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعض على يديه حسرة وأسفا، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط، أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم ... ) فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ويعض على يديه ويَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ في الدنيا سَبِيلًا أي طريقا إلى الجنة والنجاة وهو الإيمان يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً يعني من صرفه عن الهدى، وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة، قال ابن كثير: وسواء في ذلك أمية بن خلف، أو أخوه أبي بن خلف، أو غيرهما خَلِيلًا أي صديقا ورفيقا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي ذكر الله، أو القرآن أو الإيمان بَعْدَ إِذْ جاءَنِي من الله أي بعد بلوغه إلي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه، ويستعمله في الباطل، ويدعوه إليه، أي من عادة الشيطان ترك من يواليه، وهل هذا حكاية كلام الله أو هو تتمة كلام الظالم يحكيه الله؟ قولان للمفسرين، وهل المراد بالشيطان في الآية خليل الإنسان الذي أضله أو أن المراد به إبليس؟ قولان كذلك، وبهذا انتهى المشهدان اللذان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتذكرهما؛ لما يترتب على تذكرهما من صبر واستقامة، وتحمل وعزاء.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: لم يبق عندنا في المقطع الأول إلا آيتان هما شكوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من مواقف قومه من هذا القرآن، وتعزية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على هذه المواقف، ولنتذكر أن المقطع قد عرض علينا مجموعة من مواقف الكافرين: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا إن حصيلة هذه المواقف شيئان الأول: هجر القرآن، والثاني: العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي تعرضه الآيتان الأخيرتان في المقطع فلنرهما: [تفسير الآيتين] الآية الأولى: وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا شاكيا إلى الله يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا أو العرب اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي متروكا، أي تركوه ولم يؤمنوا به، والشكوى وإن كانت منصبة انصبابا أوليا على قوم الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه، فهي شكوى من قومه في كل زمان، إذا هجروه، وها نحن نجد العرب في عصرنا من أكثر الشعوب الإسلامية هجرا للقرآن، بل إن فيهم من يعادي القرآن عداء هو أمر من أي عداء، وإذ يرفع الرسول صلى الله عليه وسلم الشكوى يعزيه الله عزّ وجل بالآية الثانية: الآية الثانية: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً أي كذلك كان كل نبي قبلك، مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بي هاديا إلى طريق قهرهم، والانتصار منهم، وناصرا لك عليهم، هكذا فسرها النسفي. وقال ابن كثير فيها: أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن كذلك كان في الأمم الماضية، لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الآيتين ولهذا قال هاهنا

كلمة في السياق

وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً أي لمن اتبع رسوله، وآمن بكتابه، وصدقه واتبعه، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة، وإنما قال هادِياً وَنَصِيراً لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن، لئلا يهتدي أحد به، ولتغلب طريقتهم القرآن، وبهذه الآية انتهى المقطع الأول. كلمة في السياق: رأينا أن مقدمة السورة تحدثت عن النذير والقرآن والتوحيد، ورأينا أن المقطع الأول كان حديثا عن مواقف الكافرين من النذير والقرآن والرد على ذلك، فالصلة بين المقطع الأول، ومقدمة السورة قائمة وواضحة، ورأينا محور سورة الفرقان من سورة البقرة، وصلة المقدمة وكل جزء من أجزاء المقطع الأول بهذا المحور، وقد بقي معنا مقطع واحد من السورة وسنرى صلته بالمقدمة وبسياق السورة الخاص وصلته بمحور السورة من سورة البقرة، وهكذا نرى في كل سورة دليلا على وحدة السورة، ودليلا على الوحدة الجامعة لهذا القرآن، وكل ذلك بشكل عجيب لم يعهده البشر ولم يعرفوه، وهذا وحده مظهر من مظاهر الإعجاز، فهذا شئ لا تفطن له العبقريات، ولا يرتقي إليه شأو الإنسان ولا يطيقه، خاصة إذا عرفنا أن القرآن نزل مفرقا، فسبحان من جعل كتابه لا تنقضي عجائبه، وجعل فيه من الأسرار والآيات ما لا يحيط به أحد، فكيف يكفر به الكافرون، أو يجحده الجاحدون. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال ابن كثير: (قال الضحاك عن ابن عباس إنما هي ساعة فيقيل أولياء الله إلى الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين. وقال سعيد بن جبير: يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة، وأهل النار في النار قال الله تعالى أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة وأطعموا

كبد حوت فأشبعهم كلهم، وذلك قوله أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. وروى سفيان عن عبد الله بن مسعود قال: لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وقرأ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال: قالوا في الغرف من الجنة، وكان حسابهم إذا عرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير وهو مثل قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وقال قتادة: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مأوى ومنزلا وقال قتادة: وحدث صفوان بن محرز أنه قال: يجاء برجلين يوم القيامة، أحدهما كان ملكا في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيرا قط فيؤمر به إلى النار، والآخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول: يا رب ما أعطيتني من شئ فتحاسبني به، فيقول الله: صدق عبدي فأرسلوه، فيؤمر به إلى الجنة، ثم يتركان ما شاء الله، ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحمة السوداء فيقال له: كيف وجدت؟ فيقول: شر مقيل: فيقال عد. رواها ابن أبي حاتم كلها، وروى ابن جرير عن عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يتقيلون في رياض الجنة، حتى يفرغ من الناس، وذلك قوله تعالى أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. 2 - وبمناسبة قوله تعالى وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد .. عن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» 3 - بمناسبة قوله تعالى وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً عدد ابن كثير صورا من الهجران لكتاب الله فقال: وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الآية فكانوا إذ تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره

حتى لا يسمعونه، فهذا من هجرانه وترك الإيمان به، وترك تصديقه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدل عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء، أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب. 4 - وفي سبب نزول قوله تعالى وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يقول النسفي: (والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط لعنه الله تعالى وبفلان أبي بن خلف، فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أهل مكة كلهم، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه، وغلب عليه الشقاء، فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال: اطعم يا ابن أخي فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة والسلام من طعامه، فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة، وكان خليله فقال: والله ما صبوت ولكن دخل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا، وذكر فعلا لا يليق إلا بوجه القائل اللعين ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف، وفى رواية إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم، فلما هزم الله تعالى المشركين رحل به جمله في جدد من الأرض، فأخذ أسيرا في سبعين من قريش وقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه- وفي رواية ثابت بن أبي الأفلح- بأن يضرب عنقه، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، قال: بم؟ قال: بكفرك وفجورك وعتوك على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم صرح له بما فعل معه ثم ضربت عنقه، وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال: والله لأقتلن محمدا صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: بل أقتله إن شاء

بين يدي المقطع الثاني

الله تعالى، فأفزعه ذلك، وقال لمن أخبره: أنشدك بالله تعالى أسمعته يقول ذلك؟ قال: نعم فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال قولا إلا كان حقا، فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة والسلام ليحمل عليه، فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة والسلام وبينه، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: خلوا عنه، فأخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته، فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه، فجعل يخور كما يخور الثور، فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور فقالوا: ما هذا والله ما بك إلا خدش، فقال: والله لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني أليس قد قال: أنا أقتله، والله لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم، فما لبث إلا يوما أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن الظالم أبي بن خلف وفلان عقبة). وقال ابن كثير في الآية: (يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعض على يديه حسرة وأسفا، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم كما قال تعالى يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ الآيتين. فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه قائلا يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة، وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما). بين يدي المقطع الثاني: بدأت المقدمة بالكلام عن القرآن والنذير والتوحيد، وعرض المقطع الأول بعض مواقف للكافرين من القرآن والنذير، ورد عليها، وسنلاحظ أن المقطع الثاني يبدأ بعرض شبهة للكافرين حول القرآن ويرد عليها، ثم يعرض موقفا للكافرين من الرسول ويرد عليه، ثم يعرض وضعا شركيا ويرد عليه، ثم يسير المقطع في تقرير التوحيد، وتبيان مهمة الرسول، وما ينبغي أن يقوله، وما ينبغي أن يكون عليه حاله، ثم يعرض لنفور المشركين من عبادة الله، ويعرض في مقابل ذلك حال عباد الله، ويختم المقطع بتوجيه كلام للكافرين، وسنرى ذلك كله ومحله ضمن السياق الخاص والعام.

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (32) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (77) وهذا هو [سورة الفرقان (25): الآيات 32 الى 77] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

تفسير المجموعة الأولى

تفسير المجموعة الأولى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي مجتمعا، يعني: هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد، وما له أنزل علي التفاريق؟ قال النسفي: وهو فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته، لأن أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو متفرقا، وهذا اعتراض فاسد لأنهم تحدوا بالإتيان بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم، حتى لاذوا بالمناصبة، وفزعوا إلى المحاربة، وبذلوا المهج، وما مالوا إلى الحجج كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث، وما يحتاج إليه من الأحكام، ليثبت قلوب المؤمنين به، وقال النسفي: فاعلم أن ذلك لنثبت به بتفريقه فؤادك، حتى تعيه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شئ، وجزءا عقيب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه، أو لنثبت به فؤادك عن الضجر بتواتر الوصول، وتتابع الرسول، لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا الترتيل: التبيين في ترسل وتثبت، هذا وصف القرآن من ناحية، وجواب ثان من ناحية أخرى. والمعنى: وبيناه تبيينا. والصلة بين البيان وبين التفريق: أن السورة- أو الآية- عند ما تنزل مع الحادثة أو قبلها مباشرة، أو بعدها أو معها، فإن ذلك أدعى إلى الفهم، وأقوى لمعرفة الحكمة وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي ولا يأتونك بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة التي كأنها مثل في البطلان، إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه. وبما هو أحسن معنى ومؤدى من مثلهم أي من سؤالهم. وقال ابن كثير في تفسير المثل: أي بحجة وشبهة. فصار المعنى عنده: ولا يأتونك بحجة وشبهة إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم، وعلى هذا فقد أجيبوا على شبهتهم في تنزيل القرآن مفرقا بثلاثة حكم: الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمام ما يواجهونه. الحكمة الثانية: أن الفهم للقرآن يكون أعمق، وأن معرفة الحكمة في أحكامه تكون أدق إذا كان تنزل القرآن على حسب الوقائع والحوادث.

[سورة الفرقان (25): آية 34]

الحكمة الثالثة: مجابهة شبه الكافرين شبهة شبهة وحجة حجة. ثم قال تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا قال النسفي: والمعنى: (أن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضللون سبيله، وتحتقرون مكانه ومنزلته، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه، وسبيلكم أضل من سبيله). وهكذا بدأ المقطع بعرض الشبهة ثم رد عليها، ثم أنذر وحذر أهلها. كلمة في السياق: النذير والقرآن هما الموضوعان اللذان تدور حولهما السورة، رأينا ذلك في المقدمة، وفي المقطع الأول. ورأينا في المجموعة الأولى من المقطع الثاني شبهة حول القرآن، وردا عليها، وإنذارا لأهلها، والآن تأتي مجموعة فيها أمثلة وقصص تخدم سياق السورة بما ينسجم مع سياق المقطع، وبما ينسجم مع محور السورة فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. تفسير المجموعة الثانية: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة كما آتيناك القرآن، فلست بدعا من الرسل، وليس إنزال الكتاب عليك بدعا من الإنزال وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي نبيا مؤازرا، ومؤيدا وناصرا وهو بشر، ولم نجعل له وزيرا من الملائكة كما تتوهمون. قال النسفي: والوزارة لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون أن يؤازر بعضهم بعضا فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي فرعون وقومه، كما أرسلناك يا محمد للناس جميعا، وقد كفروا وأشركوا، وحرفوا وبدلوا، وكذبوا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي أهلكناهم إهلاكا عجيبا. إذ التدمير هو الإهلاك بأمر عجيب، وكما دمر الله فرعون وقومه لتكذيبهم، كذلك دمر قوم نوح وعادا وثمود وأصحاب الرس وغيرهم؛ لتكذيبهم، فليحذر هؤلاء أن يصيبهم ما أصاب أولئك وَقَوْمَ نُوحٍ أي ودمرنا قوم نوح لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان بسبب التكذيب وَجَعَلْناهُمْ أي وجعلنا إغراقهم أو قصتهم

[سورة الفرقان (25): آية 38]

لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة يعتبرون بها وَأَعْتَدْنا أي وهيأنا لِلظَّالِمِينَ أي لكل من اتصف بالظلم عَذاباً أَلِيماً أي النار وَعاداً أي ودمرنا عادا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ سنرى من هم في الفوائد وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي وأهلكنا أمما بين ذلك المذكورين كثيرا لا يعلمها إلا الله، أرسل إليهم رسل، فكذبوهم فأهلكوا وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي بينا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة وأزحنا الأعذار عنهم، وبينا له القصص العجيبة من قصص الأولين وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكنا إهلاكا أفلا يتعظ هؤلاء بما حدث لأولئك، وقد أنذرناهم كما أنذرنا أولئك، وبعثنا لهم رسولا كما بعثنا لأولئك، وضربنا لهم الأمثال كما ضربنا لأولئك، ثم هم يرون من آثار تعذيبنا ما هو مرأى مشاهد وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ وهي قرية سدوم عاصمة قرى لوط، أمطر الله عليها الحجارة أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أي أما شاهدوا ذلك بأبصارهم فيتفكروا فيؤمنوا بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي بل كانوا قوما كفرة بالبعث، لا يخافون بعثا فلا يؤمنون، أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون، يطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. وبهذا تمت المجموعة الثانية من هذا المقطع محذرة ومنذرة. كلمة في السياق: انصب الكلام في هذه المجموعة على الإنذار، وهذا يتفق مع سياق السورة منذ الابتداء لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً وهذه المجموعة خدمت سياق السورة كله، كما خدمت سياق مقطعها، فإن هؤلاء الكفرة بدلا من أن يؤمنوا، وقد قامت عليهم الحجة على صدق القرآن، وصحة رسالة الرسول، فإنهم يتعنتون ويتفلسفون، ويطرحون الشبهة الظالمة بعد الشبهة، ومن ذلك ما طرحوه مما حدثنا الله عنه في أول المقطع، فكانوا كمن سبق، فليحذروا. إن هذه المجموعة تضع الناس أمام ما ينبغي أن يكونوا على ذكر منه، بدلا مما هم فيه من بعد بغي وظلم، والمجموعة تخدم محور السورة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والآن تأتي آيتان تتحدثان عن موقف الكافرين من الرسول فلنرهما. تفسير المجموعة الثالثة: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا يقولون هذا على

[سورة الفرقان (25): آية 42]

سبيل التنقص والازدراء إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام، لولا أن صبروا وتجلوا واستمروا عليها. وفي ذلك دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، حتى شارفوا- بزعمهم- أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم، واستمساكهم بعبادة آلهتهم، ولما كان هذا الموقف موقفا جاهلا كان الرد عليهم تهديدا ووعيدا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ هذا وعيد يدل على أنهم لا يفوتون الله، وإن طالت مدة الإمهال مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا لما نسبوا الإضلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا كان الجواب كذلك، أي إنهم هم الضالون، وسوف يرون ذلك عند ما يرون العذاب. كلمة في السياق: لاحظنا أن المقطع الأول عرض موقفا للكافرين من القرآن، ثم ثنى بموقف من الرسول، ونلاحظ كذلك في هذا المقطع أنه ابتدأ بعرض موقف للكافرين من القرآن، ثم ثنى بموقف من الرسول في هاتين الآيتين، وكل ذلك يسير ضمن نسق واحد في السورة، بدأت مقدمة السورة بذكر إنزال القرآن على الرسول للإنذار، بعد أن كفر الناس، وسار السياق مبينا كيف كان الموقف من القرآن ومن الرسول، وكل ذلك بما يخدم توضيح قوله تعالى من سورة البقرة كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ والآيتان اللتان مرتا معنا أدتا محلهما في السياق للعبور إلى معنى رئيسي من معاني السورة، أشارت إليه السورة فيما مضى إشارات، وهو موضوع الشرك والتوحيد فلنر المسألة بالتفصيل: بدأت مقدمة السورة بقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً* الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً* وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً. وقد مر معنا في المقطع الأول موقف للكافرين من القرآن، ورد عليه، وموقف للكافرين من النذير، ورد عليه، وقد مر معنا في المقطع الثاني موقف للكافرين من

تفسير المجموعة الرابعة

القرآن ورد عليه. وموقف للكافرين من النذير، ورد عليه. والملاحظ أن الموقف من النذير في المقطع الثاني كان جسرا للوصول إلى الحديث عن الشرك لاحظ ما يلي: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا* إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا وإذن فهم مشركون. وتأتي الآن المجموعة الرابعة مبدوءة بقوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ .. لاحظ أن الآية الثالثة من المقدمة هي وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ولاحظ بداية المجموعة الجديدة أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ فإنك تجد الصلة الواضحة بين وَاتَّخَذُوا وبين اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ لقد تحدثت المقدمة عن القرآن والنذير والتوحيد. وتحدث المقطع الأول عن القرآن والنذير، ثم تحدث المقطع الثاني عن القرآن والنذير على الشاكلة التي رأيناها، والآن يبدأ الحديث عن الشرك والتوحيد بعد أن شكلت آخر آيتين مرتا معنا جسرا إلى الكلام عن ذلك، إذ ورد فيهما إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا وهكذا تتحدث المجموعة الرابعة عن الموضوع الثالث في المقدمة ولكنه الحديث الذي يتداخل فيه الكلام عن القرآن والنذير والتوحيد. أما صلة ذلك بالمحور كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فمن حيث إن الناس كانوا أمة واحدة مشركة فبعث الله لهم محمدا بشيرا ونذيرا وأنزل معه الكتاب بالحق، فكيف كان موقف الناس وما هو الحق وما هو الرد؟ تفسير المجموعة الرابعة: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن كان مهما استحسن من شئ ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حفيظا تحفظه من متابعة هواه وعبادة ما يهواه، أو أفأنت تكون عليه موكلا فتصرفه عن الهوى إلى الهدى. دلت الآية على أن من أطاع هواه فيما يأتي ويذر، فهو عابد هواه وجاعله إلهه، ومن ثم بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى، وهذا يفيد أن كل عابد لهواه مشرك، ويفيد أن من

[سورة الفرقان (25): آية 44]

كان كذلك لا يصلح للاستجابة إلى الحق، وهذا يفيد أن على النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ. والآية تنكر على كل من اتبع الهوى وعبد غير الله ومن أولئكم من كان يعبد الأصنام من العرب الذين كانوا كما قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول أَمْ تَحْسَبُ أي بل أتحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أفاد التركيب أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذنا، ولا إلى تدبره عقلا، فهم يشبهون الأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة، فقد ركبهم الشيطان بالاستذلال لتركهم الاستدلال. ثم هم أرجح ضلالة منها، لأن الأنعام تسبح ربها وتسجد له، وتطيع من يعلفها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسئ إليها، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، وقال ابن كثير في الآية: (أي هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة، فإن تلك تفعل ما خلقت له وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له فلم يفعلوا، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم) وقال النسفي: (وإنما ذكر الأكثر لأن فيهم من لم يصده عن الإسلام إلا حب الرئاسة، وكفى به داء عضالا، ولأن فيهم من آمن). وبعد أن أثبت الله عزّ وجل في الآيتين أن كل من عبد غير الله فهو عابد هوى، وأن أكثر هؤلاء لا عقول لهم ولا أسماع، وأنهم أضل من البهائم لفت النظر إلى مظاهر قدرته وأدلة توحيده. قال ابن كثير من هاهنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي بسطه وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي دائما ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يعرف بها الظل، ولولا الشمس لما عرف الظل، فالأشياء تعرف بأضدادها ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي قليلا خفيفا. وفي هذا المقام معجزة من أعظم المعجزات القرآنية إذ بها إشارة إلى موضوع الانكسار الضوئي. وهو موضوع سنراه في الفوائد، قال النسفي: وجاء بثم لتفاضل ما بين الأمور، فكأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني، ولا شك أن أعظم الثلاثة بالتدليل على عظمة الله

[سورة الفرقان (25): آية 47]

وقدرته، والتدليل على كون القرآن حقا هو الأخير) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي يلبس الوجود ويغشاه، قال النسفي. جعل الظلام الساتر كاللباس. وَالنَّوْمَ سُباتاً أي قاطعا للحركة لراحة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت، فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم، قال النسفي: (وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي النوم واليقظة المشبهين بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر، وقال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر، قال النسفي: لأنه ريح ثم سحاب ثم مطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي من السحاب السَّماءِ أي مطرا طَهُوراً أي آلة يتطهر بها لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قال ابن كثير: أي أرضا قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شئ، فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً قال ابن كثير: أي ويشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم. قال النسفي: وقدم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما، وتخصيص الأنعام من الحيوان الشارب لأن عامة منافع الأناسي متعلقة بها، فكأن الإنعام عليهم بسقي الأنعام كالإنعام بسقيهم، وتنكير البلدة لأنه يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين عن مظان الماء، ولما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراما لهم وبيان أن من حقهم أن يؤثروا الطهارة في بواطنهم وظواهرهم لأن الطهورية شرط الإحياء وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن، وفي سائر الكتب، وهو ذكر إنشاء السحاب، وإنزال القطر؛ ليتفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه، فيشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها، وقلة الاكتراث لها، أو المعنى: ولقد صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجون ورذاذ وديمة، مرة في مكان، ومرة في مكان آخر، فأبى أكثر الناس إلا الكفران، ولم يعطوا الشكر، وفي هذه الآية معجزة من معجزات القرآن العلمية سنراها في الفوائد. وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً

[سورة الفرقان (25): آية 52]

قال ابن كثير: (يدعوهم إلى الله عزّ وجل، ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن) وقال النسفي: (لو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيا ينذرها ولكن شئنا أن نجمع لك فضائل جميع المرسلين بالرسالة إلى كافة العالمين، فقصرنا الأمر عليك، وعظمناك به، فتكون وحدك ككلهم) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم، أي قابل نعمتي عليك بالشكر والصبر والتشدد، وكما آثرتك على جميع الأنبياء، فآثر رضائي على جميع الأهواء. قال النسفي: (وأريد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم) وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن، أي جادلهم به وقرعهم بالعجز عنه جِهاداً كَبِيراً أي عظيما موقعه عند الله، لما يحتمل فيه من المشاق ومجيء هاتين الآيتين في وسط الآيات التي تتحدث عن قدرة الله سنرى حكمته فيما بعد وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ قال النسفي: أي خلاهما متجاورين، كقول القائل: مرجت الدابة إذا خليتها ترعى، وسمى الماءين الكثيرين الواسعين بحرين هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي أحدهما عذب شديد العذوبة، حتى يقرب إلى الحلاوة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة وَجَعَلَ بَيْنَهُما أي بين العذب والمالح بَرْزَخاً أي حاجزا وهو اليبس من الأرض وَحِجْراً مَحْجُوراً قال ابن كثير: أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى الآخر، ولنا عودة في الفوائد على هذه الآية، فإنها تحدثت عن مظهر من أعظم مظاهر القدرة الإلهية والرعاية الربانية وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي النطفة بَشَراً أي إنسانا فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً قال ابن كثير: (فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهرا، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات، وكل ذلك من ماء مهين، ولذا قال تعالى: وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً وقال النسفي في الآية: أراد تقسيم البشر قسمين: ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم، فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى في سورة القيامة فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين ذكرا وأنثى، وقيل فجعله نسبا أي قرابة وصهرا مصاهرة يعني الوصلة بالنكاح من باب الأنساب، لأن التواصل يقع بها، وبالمصاهرة لأن التوالد يكون بهما. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ أي إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ إن تركوه. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، بلا دليل قادهم إلى ذلك، ولا حجة أدتهم إليه، بل بمجرد

نقول

الآراء والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم) ولهذا قال تعالى: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي عونا في سبيل الشيطان على حزب الله. وقال مجاهد: أي يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه. وبهذا انتهت المجموعة الرابعة: نقول: 1 - عند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ؛ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً، وَحِجْراً مَحْجُوراً .. قال صاحب الظلال: (وهو الذي ترك البحرين، الفرات العذب والملح المر، يجريان ويلتقيان، فلا يختلطان ولا يمتزجان؛ إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر، ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا شذوذا. وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر- وهو أضخم وأغزر- على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات. ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون. وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغى مياه المحيطات الملحة لا على الأنهار ولا على اليابسة، حتى في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي على سطح الأرض، ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما. يقول صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده (العلم يدعو إلى الإيمان): «يبعد القمر عنا مسافة مائتين وأربعين ألفا من الأميال، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر. والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن. بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شئ منتظما لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدة أقدام، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية. «والمريخ له قمر. قمر صغير. لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا، بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا، فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث إن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها. وفي هذه الحالة ربما كانت لا

توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم. «وإذا فرضنا أن القارات قد اكتسحت، فإن معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف: وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في أعماق المحيط السحيقة على وجه الاحتمال!» ولكن اليد التى تدبر هذا الكون مرجت البحرين، وجعلت بينهما برزخا وحاجزا من طبيعتهما، ومن طبيعة هذا الكون المتناسق الذي تجري مقاديره بيد الصانع المدبر الحكيم؛ هذا الجري المقدر المنسق المرسوم). 2 - وعند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً .. قال صاحب الظلال: (فمن هذا الماء يتخلق الجنين: ذكرا فهو نسب، وأنثى فهو صهر، بما أنها موضع للصهر. وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء. فمن خلية واحدة (من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد ببويضة في الرحم، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب .. الإنسان .. أعجب الكائنات الحية على الإطلاق! ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة، لا يدرك البشر سرها، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها. فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه الميزات. ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا، وهذه إلى أن تكون امرأة، في نهاية المطاف؟ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً .. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب! ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة.

وهذه لمحات من كتاب: «الإنسان لا يقوم وحده» عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة: «كل خلية ذكرا أو أنثى. تحتوى على كروموزومات (¬1) وجينات (وحدات الوراثة) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجنية. والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان. والسيتوبلازم (¬2) هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ الجينات (وحدات الوراثة) من الدقة أنها- وهي المسئولة عن المخلوقات البشرية جميعا، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها- لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم «الكستبان»! «وهذه الجينات الميكرسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات. «والكستبان» الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها. «وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، إنما يقص تاريخا مسجلا. قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم. ... «لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي تميز كل شئ حي. وهي تتحكم تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات. تماما كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان). وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً .. ) ¬

_ (¬1) الكروموزوم هي وحدة المادة العضوية، والعامل في نقل الصفات الوراثية. (¬2) السيتوبلازم هي المادة البروتوبلازمية التي حول نواة الخلية.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: يلاحظ أن هذه المجموعة بدأت بقوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا. وختمت بقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً. وفي الوسط ورد قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً وما سوى ذلك كان كلاما عن مظاهر قدرة الله وعنايته، تأمل صلة ذلك بالمقدمة: بعد أن ذكرت المقدمة إنزال القرآن على الرسول لينذر به قالت: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً وقد جاءت هذه المجموعة لتبين أن الله وحده هو الخالق، وأنه الذي يملك النفع والضر، وأنه الذي يملك الموت والحياة والنشور، وأن من يعبد غيره إنما يعبد هواه، وأن هؤلاء خاطئون إذ يعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم، وإنهم إذ يعبدون غير الله يظاهرون على الله مع أنه خالقهم وخالق كل شئ. وفي ذكر وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً إشارة إلى ارتباط الكلام عن التوحيد والشرك بموضوع النذير والقرآن، وهي المواضيع الثلاثة التي تحدثت عنها المقدمة، ولم يبق عندنا في المقطع إلا مجموعة واحدة مبدوءة بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وفيها أوامر للبشير النذير، وفيها البشارة لمن يستحقون البشارة، وهكذا فإن السورة بعد أن أقامت الحجة على أن هذا القرآن من عند الله، وأقامت الحجة على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفندت الشرك، وأقامت الحجة على التوحيد تتحدث في مجموعتها الأخيرة عن مضمون محور السورة: التبشير والإنذار كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ إن محمدا البشير النذير الذي بعث والناس أمة واحدة في الكفر يخاطب في المجموعة الأخيرة بتبيان مهمته وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً يؤمر أن يقوم بحق الإنذار والتبشير فلنستعرض المجموعة الأخيرة.

تفسير المجموعة الخامسة

تفسير المجموعة الخامسة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين وَنَذِيراً أي منذرا للكافرين مبشرا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيرا بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله، وإذ تحددت مهمته أنه مبشر ومنذر، يؤمر هاهنا ثلاثة أوامر، كما يؤمر في آخر السورة أمرا رابعا. الأمر الأول: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي من أجرة أطلبها منكم على البلاغ وهذا الإنذار، إنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي طريقا ومسلكا ومنهجا، يقتدي فيها بما جئت به والمعنى: لا أسألكم على التبليغ أجرا إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا. أي أجري أن تسلكوا سبيل الله بالإيمان والطاعة والصدقة والنفقة فذلك أجري لأن الله يأجرني عليه. الأمر الثاني: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي كن متوكلا في أمورك كلها على الله الذي لا يموت أبدا. أي اتخذ من لا يموت وكيلا لا يكلك إلى من يموت، يعني: ثق به واسند أمرك إليه في استكفاء شرورهم ولا تتكل على حي يموت. والتوكل: الاعتماد على الله في كل أمر وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي اقرن بين حمده وتسبيحه، فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفى الله خبيرا بذنوب عباده، يعني أنه خبير بأحوالهم، كاف في جزاء أعمالهم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي كما أنه الحي الذي لا يموت، فهو خالق كل شئ وربه ومليكه الذي خلق كل شئ بقدرته وسلطانه ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ أي هو الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي استعلم عنه من هو خبير به، عالم به، فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .. وقال النسفي: (أي فاسأل عنه رجلا عارفا برحمته، أو فاسأل رجلا عارفا يخبرك برحمته، أو فاسأل رجلا خبيرا به وبرحمته) أقول: هذا الأمر فيه إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يكن أعلم الخلق

الأمر الثالث

بالله لكان عنده استعداد لأن يأخذ العلم بالله عمن هو أعرف بالله منه، فإذا كان هو أعلم الخلق بالله فعلى كل أحد أن يأخذ عنه، وكأنه بهذا وما قبله أفهمنا الله عزّ وجل أن زاد الطريق في الدعوة والتبشير والإنذار هو معرفة الله والتسبيح بحمده والتوكل عليه وطلب الأجر منه وحده. الأمر الثالث: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ أي إذا قال محمد عليه الصلاة والسلام للمشركين صلوا له واخضعوا له قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي لا نعرف الرحمن فنسجد له، ولا نقر به أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي لمجرد قولك وَزادَهُمْ قوله اسجدوا للرحمن نُفُوراً أي تباعدا عن الإيمان، وأمام هذا الاستكبار عن السجود لله فقد مجد الله نفسه، ثم ذكر أنه لم يخلق الليل والنهار، يخلف أحدهما الآخر إلا للسجود والعبادة والتذكر فقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي كواكب عظاما على قول مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وهي الشمس المنيرة وَقَمَراً مُنِيراً أي مشرقا ومضيئا، يعكس نور الشمس حال غيابها: فمن كان هذا شأنه كيف يستكبر الكافرون عن السجود له. وفي إحدى قراءات هذه الآية معجزة كبرى من المعجزات العلمية، التي في كل واحدة منها دليل على أن هذا القرآن من عند الله الذي يعلم السر في السموات والأرض وسنرى ما ذكرناه في الفوائد وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي يخلف كل واحد منهما صاحبه، يتعاقبان لا يفتران، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك. أو أن أحدهما يخلف الآخر بأن يقضي الإنسان في أحدهما ما فاته في الآخر من أوراده في عبادة الله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ نعم الله عليه فيحدث لذلك توبة أو تدبرا أَوْ أَرادَ شُكُوراً أو أراد أن يشكر نعمة ربه عليه فيهما. قال ابن كثير: أي جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عزّ وجل، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل. وقد جاء في الحديث الصحيح: «إن الله عزّ وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» وقال أبو داود الطيالسي .. إن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي علي من وردي شئ فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا

[سورة الفرقان (25): آية 63]

هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً. وبهذا عرض الأمر الثالث: فالأمر الثالث هو أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق بالسجود لله، إلا أنه عرض الأمر بصيغة المبني للمجهول، وموقف الكافرين منه والرد عليه. وقد دل ذلك على أن من مهمات النذير الرئيسية أن يأمر خلق الله بالسجود، وأمام رفض الكافرين السجود للرحمن فإن الله يعرض لنا نموذجا لعباده المخلصين الذين يستأهلون البشارة، وكل ذلك يأتي قبل الأمر الرابع: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار، قال النسفي: أي يمشون بسكينة ووقار وتواضع دون مرح واختيال وتكبر، فلا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء. فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشي كأنما ينحط من صبب وكأنما الأرض تطوى له وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي السفهاء قالُوا سَلاماً أي سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإفك، ويمكن أن يكون المراد بالسلام التسلم أي تسلما منكم نتارككم ولا نجاهلكم، فأقيم السلام مقام التسلم. قال ابن كثير: (أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما) قال النسفي عن الآية: قيل نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك، فالإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعا ومروءة وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي في طاعته وعبادته. قال النسفي: وقالوا من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما، وقيل هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعد العشاء، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي هلاكا لازما دائما، وصفهم بإحياء الليل ساجدين قائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون متضرعون إلى الله في صرف العذاب عنهم إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي بئس المنزل منظرا، وبئس المقيل مقاما وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يجاوزوا الحد في النفقة وَلَمْ يَقْتُرُوا أي لم يجاوزوا الحد في التضييق. قال ابن كثير: أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون

[سورة الفرقان (25): آية 68]

فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدولا خيارا. وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً قال النسفي: أي عدلا بينهما. فالقوام العدل بين الشيئين وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يشركون وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها يعني حرم قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ قال النسفي: بقود أو رجم، أو ردة أو شرك أو سعي في الأرض بالفساد وَلا يَزْنُونَ نفي هذه الكبائر عن عباده الصالحين، تعريض لما عليه أعداؤهم كأنه قيل: والذين طهرهم الله مما أنتم عليه وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور من الشرك والقتل بغير حق والزنى يَلْقَ أَثاماً أي نكالا جزاء الإثم يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يكرر عليه ويغلظ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا إِلَّا مَنْ تابَ عن الشرك وَآمَنَ بمحمد عليه السلام وَعَمِلَ بعد توبته عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ إما بأن يوفقهم الله إلى عمل الحسنات بدل السيئات، أو أن السيئة تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات. قال ابن كثير: وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه فإنه لا يضره، وينقلب حسنة في صحيفته. كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف، وسنراها في الفوائد. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً يكفر السيئات رَحِيماً يبدلها بالحسنات وَمَنْ تابَ إلى الله وَعَمِلَ صالِحاً أي وحقق التوبة بالعمل الصالح فَإِنَّهُ يَتُوبُ بذلك إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي مرضيا عنده مكفرا للخطايا، محصلا للثواب وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي الكذب يعني (ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين، فلا يقربونها تنزها عن مخالطة الشر وأهله، إذ مشاهدة الباطل شركة فيه، وكذلك النظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الآثام، لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا، وسبب وجود الزيادة فيه) هذا قول النسفي. وقال ابن كثير: (قيل هو الشرك وعبادة الأصنام، وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل. وقال محمد بن الحنفية: هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هو أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس: هي المجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري: شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه .. وقيل المراد أي شهادة الزور وهي الكذب

[سورة الفرقان (25): آية 73]

متعمدا على غيره .. والأظهر أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي بالفحش وكل ما ينبغي أن يلقى ويطرح. والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مَرُّوا كِراماً أي معرضين مكرمين أنفسهم عن التلوث به وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي قرئ عليهم القرآن، أو وعظوا بالقرآن لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قال النسفي: ليس هذا بنفي الخرور، بل هو إثبات له ونفي للصمم والعمى. قال قتادة: (أي) لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجا وأعقابا عمالا لله تعالى يسرون بمكانهم وتقربهم عيونهم وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي أئمة يقتدي المتقون بنا في الدين أُوْلئِكَ المتصفون بالصفات المذكورة الجميلة، والأقوال والأفعال الجليلة يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي الغرفات وهي العلالي في الجنة بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على القيام بذلك. أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات، وعلى أذى الكفار، ومجاهدتهم، وعلى الفقر وغير ذلك وَيُلَقَّوْنَ فِيها أي في الجنة تَحِيَّةً وَسَلاماً يعني: أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم، أو يحيي بعضهم بعضا، ويسلم عليه. قال ابن كثير: أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار خالِدِينَ فِيها أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون، ولا يزالون عنها ولا يبغون عنها حولا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا أي موضع قرار وَمُقاماً أي وموضع إقامة. وبهذا بشروا، وبما ذكر من خصائصهم استحقوا هذا التبشير. نقول: عند قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً قال صاحب الظلال: (والبروج- على الأرجح- منازل الكواكب السيارة، ومداراتها الفلكية الهائلة. والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قول المشركين: وَمَا الرَّحْمنُ؟ فهذا شئ من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وفي الحقيقة، وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها سِراجاً لما تبعث به من ضوء

إلى أرضنا وغيرها. وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادئ اللطيف. ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما. وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس، وفيهما الكفاية: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً. ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس، ويخلف أحدهما أخاه، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات. بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة. جاء في كتاب (الإنسان لا يقوم وحده) (العلم يدعو إلى الإيمان). (تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة. والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هو الآن عشر مرات. وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض). فتبارك الذي خلق السموات والأرض، وخلق كل شئ فقدره تقديرا. وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً .. وعند قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً. قال صاحب الظلال: وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال. والمسلم- مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة- ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء- كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين، الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله. فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب وذلك فوق سمات فساد القلوب والأخلاق. والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس

كلمة في السياق

الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً .. كلمة في السياق: رأينا محل هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ... ضمن سياق السورة الخاص من حيث إن أهل هذه الآيات هم المبشرون المستحقون للبشارة، وذلك هو المعنى الذي ترتبط به هذه الآيات بمحور السورة المباشر كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ فالموصوفون بالآيات هم الذين استجابوا للرسول والقرآن واستحقوا البشارة. وللآيات ارتباط بحيز آية المحور من سورة البقرة: إن آية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً .. آتية في حيز قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ والذين لا يتبعون خطوات الشيطان هم الذين قال الله فيهم: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ* وإن هذه الآيات التي مرت معنا هي التفصيل لمجموع الصفات والخصائص التي من تحقق بها كان من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان والذين لا يتبعون خطوات الشيطان وهم الذين استجابوا للرسول والقرآن واستحقوا التبشير. ولم يبق عندنا من السورة إلا آية واحدة. الأمر الرابع: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي قال ابن كثير: أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي لولا عبادتكم له فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم ملازما يعني مقتضيا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة. هذا هو الأمر الرابع والأخير، وهو إنذار للكافرين، وأمر لهم بالعبادة. وهكذا ترتبط نهاية السورة ببدايتها: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً

نقول

قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً نقول: قال صاحب الظلال عند هذه الآية التي هي خاتمة السورة: والآن وقد صور عباد الرحمن. تلك الخلاصة الصافية للبشرية. يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء. فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام. قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً .. وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها؛ ومساقها للتسرية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم. وتطاولهم عليه، وهم يعرفون مقامه؛ ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون .. فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله، وتتضرع إليه. كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون؟ من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل. والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض. وأمة واحدة من أمم هذه الأرض. والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟ وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا؛ ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه! وهو هين هين، ضعيف ضعيف، قاصر قاصر، إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد، وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله؛ وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان فضلا من الله الذي كلم هذا الإنسان وأسجد له الملائكة، ليعرفه ويتصل به ويتعبد له، فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة؛ وإلا فهو لقى ضائع، لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان! قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ .. وفي التعبير سند للرسول صلى الله عليه وسلم وإعزاز: قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي فأنا في جواره وحماه. هو ربي وأنا عبده. فما أنتم بغير الإيمان به، والانضمام إلى عباده؟ إنكم حصب جهنم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)

كلمة في السياق

كلمة في السياق: رأينا أن المقطع الثاني بدأ بعرض موقف للكافرين من القرآن، ورد عليه، ثم ثنى بعرض موقف للكافرين من الرسول ورد عليه، ثم عرض لشرك المشركين الذي هو العلة الأساسية في كل موقف من النذير والقرآن ورد عليه. ثم بين أن المهمة الرئيسية للرسول صلى الله عليه وسلم التبشير والإنذار، وبناء عليه صدرت أوامر للرسول صلى الله عليه وسلم كي يبلغها أو يفعلها، وفيما بين الأمر الثالث والرابع عرضت صفات من يستحقون التبشير وبشروا. وكان من جملة صفاتهم الحميدة تذكرهم بالقرآن إذا ذكروا به، وإذعانهم له، وإيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك كله صلاته بسياق السورة الخاص وبمحورها، ولقد رأينا أثناء العرض والتفسير صلة كل مجموعة في المقطع، مع سياق السورة الخاص، وسياقها العام، ورأينا ارتباط مقدمتها ومقطعيها بمحور السورة من سورة البقرة، كما رأينا ارتباط بعض آيات السورة بالآيات التي سبقت آية المحور. وقد آن الأوان لنعرض فوائد المقطع الثاني: الفوائد: 1 - بمناسبة قول الله عزّ وجل على لسان الكافرين لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً يتحدث المفسرون عن كون التوراة والإنجيل والزبور قد أنزلت دفعة واحدة والذي لاحظته من خلال دراسة هذه الكتب- كما هي موجودة الآن- أنها ليست منزلة جملة واحدة فإذا لم يكن نص عن رسولنا عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، فإن هذه القضية لا تعتبر جزما أنها كذلك وبهذه المناسبة قال ابن كثير: (وقد جمع الله للقرآن الصفتين معا، ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث. وروى النسائي بإسناده عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة). 2 - بمناسبة قوله تعالى الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا قال ابن كثير: وفي الصحيح عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة فقال: «إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة». وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين.

3 - ورد في أكثر من مكان من القرآن ذكر أصحاب الرس. فمن هم أصحاب الرس؟ للمفسرين كلام كثير فيهم. قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس. وقد فسر قتادة فلج فقال: فلج من قرى اليمامة. وعلى هذا القول كان يرى بعض أساتذتنا أن بلدة الرس الحالية الموجودة في القصيم من نجد هي الرس المذكورة في القرآن. وقال ابن عباس عنها: بأنها بئر بأذربيجان. وعن عكرمة أنها سميت رسا لأنها بئر رسوا فيها نبيهم. أي دفنوه فيها. وذهب ابن جرير إلى أن أصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج. 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً قال ابن كثير في تعريف القرن: والأظهر أن القرن هو الأمة من الناس كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ وحده بعضهم بمائة وعشرين سنة، وقيل بمائة، وقيل بثمانين، وقيل أربعين، وقيل غير ذلك. والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهو قرن آخر، كما ثبت في الصحيحين: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث. 5 - أشرنا خلال تفسير المقطع إلى آيتين. كل آية منهما فيها معجزة علمية. وكل منهما تحدثنا عنها في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم): الأولى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً هذا النص إشارة إلى موضوع الانكسار الضوئي والله أعلم. فإنه لولا انكسار الشعاع إذا مر بالهواء لكان الظل أكثر امتدادا. ولكن بسبب الانكسار فإن ظل الكرة الأرضية عامة والظل أي ظل- يكون مقبوضا انقباضا يسيرا وهو موضوع مفصل هناك، وقد تحدث عن ذلك صاحب الظاهرة القرآنية. والآية الثانية: هي قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً ففي قراءة حمزة وعلي سِراجاً والسرج: جمع سراج، والسراج هو الشمس، فالآية تشير إلى وجود شموس لا شمس واحدة. وهذا معنى لم يعرفه الناس إلا في عصرنا. ففي عصرنا عرف الناس أن كل هذه النجوم إنما هي شموس كشمسنا، إلا أنها لبعدها عنا ترى صغيرة. وعلى هذه القراءة فينبغي أن تفسر البروج بأنها مسارات النجوم أو أفلاكها.

ومن مثل هذه الدقائق في القرآن وغيرها نعلم أن هذا القرآن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض. 6 - من أعظم الأخطاء الضخمة التي وقع فيها بعض المسلمين أنهم فهموا من قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً* أنه لم يرد بالسماء هنا السحاب، وإنما أراد بها السماء الغيبية التي هي سكن الملائكة، وسبب هذا الخطأ كلمة قالها خالد بن يزيد الأموي وخالد ليس إماما في اللغة، ولا في الفقه، ولا في التفسير. وكلمته تناقض صريح القرآن كقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ذكرنا هذا هنا لأن ابن كثير أورد قول خالد بن يزيد عند قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فليلحظ القارئ ذلك. 7 - من معجزات الإسلام ما قاله ابن عباس وابن مسعود كما نقله عنهما ابن كثير: «ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إن هذا المعنى الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس هو الذي يثبته علماء الكون الآن، إذ يقولون إن نسبة التبخر والأمطار في العالم لا تزيد ذرة في عام عن عام لأن الحرارة التي تأخذها الأرض سنويا لا تزيد ولا تنقص، وإنما المطر ينزل في مكان ما أكثر من مكان، وهذا عين ما أثبته ابن مسعود وابن عباس في تفسيرهما للآية. 8 - إن فهم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً إن فهم هذه الآية على الكمال والتمام متوقف على فهم دورة المياه العالمية، وفهم خصائص ماء البحار والأنهار، وكلما عرف الإنسان سرا من أسرار ذلك أدرك شيئا من حكمة الله في هذا الموضوع، وأدرك مظهرا من مظاهر علم الله وقدرته وعنايته بهذا الإنسان. 9 - في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً معنى عميق جدا، وسر من أسرار كفر الكثيرين، إن كثيرين من الناس يعللون الأشياء على أنها ظواهر طبيعية، فالمطر ينزل بسبب مجموعة من العوامل الطبيعية، والنبات يخرج بسبب مجموعة من العوالم الطبيعية، ونحن لا ننفي القوانين والأسباب، ولكنا نقول إن كل شئ بعلم الله وإرادته وقدرته، فإن يزعم زاعم أنه لا تدخل لله في ظواهر الكون

فذلك كفر، والآية في شطرها الأخير تشير إلى هذا النوع من الكفر. قال عكرمة: يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وهذا الذي قاله عكرمة ورد في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على إثر سماء أصابتهم من الليل «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا الله ورسوله أعلم، قال: «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب». 10 - قلنا في أكثر من مكان في هذا التفسير إن الحادثة الواحدة قد يكون لها سبب حسي وسبب غيبي، وإن كل الأسباب الحسية والغيبية إنما هي بعلم الله وإرادته وقدرته، ومن ذلك موضوع المطر، فهناك أسباب حسية له، هي ما نراه من مجموعة العوامل المؤثرة فيه، وهناك سبب غيبي له علاقة بعالم الملائكة والكل بأمر الله، وابن كثير ينقل في هذا المقام حديثا مرسلا أخرجه ابن أبي حاتم حول صلة الملائكة بموضوع المطر. قال: وقال عمر مولى عقبة: كان جبريل عليه السلام في موضع الجنائز فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب» قال: فقال له جبريل: يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله، فقال: تأتينا صكاك مختمة: اسق بلاد كذا وكذا: كذا قطرة، وكذا وكذا: كذا قطرة» رواه ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل. 11 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ قال ابن كثير: وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها، كما هو مقرر في موضعه. أقول: من الملاحظ أن سورة مريم وسورة الفرقان كلتاهما فيها سجدة. والملاحظ بحسب اجتهادنا أن كلا من السورتين كان محورها الآية: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ 12 - وبمناسبة قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قال ابن كثير: (وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له. وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا فقال ما بالك أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها

وأنتم تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا». وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن عمر بن المختار عن الحسن البصري في قوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الآية قال: إن المؤمنين قوم ذلل، ذلت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وما بالقوم من مرض، وإنهم- والله- لأصحاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في نفوسهم شئ طلبوا به الجنة، ولكن أبكاهم الخوف من النار، إنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب، فقد قل علمه وحضر عذابه») 13 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً قال ابن كثير. وروى الإمام أحمد .. عن النعمان بن مقرن المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وسب رجل رجلا عنده فجعل المسبوب يقول: عليك السلام: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن ملكا بينكما يذب عنك، كلما شتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قلت له وعليك السلام قال: لا بل عليك وأنت أحق به» إسناده حسن ولم يخرجوه. 14 - بمناسبة قوله تعالى عن جهنم إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ذكر ابن كثير: الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة يا حنان يا منان، فيقول الله عزّ وجل لجبريل اذهب فائتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عزّ وجل فيخبره، فيقول الله عزّ وجل ائتني به، فإنه في مكان كذا وكذا فيجيء به، فيوقفه على ربه عزّ وجل فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول الله عزّ وجل: ردوا عبدي، فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها، فيقول الله عزّ وجل دعوا عبدي». 15 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ذكر ابن كثير: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» لم يخرجوه. وروى الحافظ أبو بكر البزار .. عن حذيفة

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر وما أحسن القصد في العبادة». ثم قال لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري ليس في سبيل الله سرف، وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عزّ وجل. 16 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ذكر ابن كثير بعض الأحاديث نختار منها ما يلي: روى الإمام أحمد عن عبد الله هو ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قال ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قال: ثم أي؟ قال «أن تزاني حليلة جارك». قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية وهكذا رواه النسائي وقد أخرجه البخاري ومسلم. وروى الإمام أحمد .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لئن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» قال: «فما تقولون في السرقة؟» قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال: «لئن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره». وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له». وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناسا من أهل الشرك، قتلوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية ونزلت: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، وروى ابن أبي حاتم عن عمرو عن أبي فاختة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: «إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك. وينهاك أن تزني بحليلة جارك». قال سفيان وهو قوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.

17 - بمناسبة قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ الواردة بعد الآية التي تذكر الشرك والزنا والقتل. قال ابن كثير: وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية؛ فإن هذه وإن كانت مدنية- إلا إنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة. ثم قد قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية. وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث وقوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أقول: وقد تكلمنا عن هذا الموضوع في سورة النساء فراجعه. 18 - رأينا أن في قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ اتجاهين نقلناهما في التفسير. والاتجاه الثاني هو الذي رجحه ابن كثير وذكر أن الأحاديث والآثار تشهد له فقال: «فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار. وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول نحوا عنه كبار ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال فيقال له: عملت يوم كذا: كذا وكذا، وعملت يوم كذا: كذا وكذا وكذا، فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها هاهنا». قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» انفرد بإخراجه مسلم. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان اعطني صحيفتك فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محابها عشر سيئات من صحيفة الشيطان، وكتبهن حسنات، فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة، ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة» وروى ابن أبي حاتم عن سلمان قال: يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته، فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات. وروى أيضا عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عزّ وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات. قيل من هم يا أبا هريرة؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، وروى أيضا عن أبي الصيف وكان من أصحاب معاذ بن جبل. قال: يدخل أهل الجنة على أربعة أصناف: المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين قلت: لم سموا أصحاب

اليمين؟ قال: لأنهم قد عملوا بالسيئات والحسنات، فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرءوا سيئاتهم حرفا حرفا، وقالوا: يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا. فعند ذلك محا الله السيئات، وجعلها حسنات، فعند ذلك قالوا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فهم أكثر أهل الجنة. وقال علي بن الحسين زين العابدين يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قال في الآخرة وقال مكحول يغفرها لهم فيجعلها حسنات رواهما ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم، حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولا يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال يا رسول الله رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أأسلمت؟» فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن الله غافر لك غدراتك وفجراتك، ومبدل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك» فقال يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال: «وغدراتك وفجراتك». فولى الرجل يكبر ويهلل. وروى الطبراني عن أبي فروة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة؟ فقال: «أسلمت؟» قال نعم، قال «فافعل الخيرات واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها». قال وغدراتي وفجراتي؟ قال «نعم» فما زال يكبر حتى توارى. ورواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءتني امرأة فقالت هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته، فقلت: لا ولا نعمت العين ولا كرامة، فقامت وهي تدعو بالحسرة، ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فقصصت عليه ما قالت المرأة، وما قلت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئسما قلت أما تقرأ هذه الآية»؟ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ الآية فقرأتها عليها فخرت ساجدة وقالت الحمد لله الذي جعل لي مخرجا، وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم. وقد رواه ابن جرير بسنده بنحوه وعنده فخرجت تدعو بالحسرة وتقول يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبها في جميع دور المدينة فلم يجدها، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته فأخبرها بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجا وتوبة مما عملت. وأعتقت جارية كانت معها وابنتها، وتابت إلى الله عزّ وجل»

19 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ يذكر ابن كثير الحديث المروي في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا بلى يا رسول الله. قال: «الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور». فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، إلا أن ابن كثير يرجح أن الآية تريد معنى أوسع من المعنى المراد بالحديث. 20 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما» .. وعن ميسرة قال بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما» ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً 21 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ قال ابن كثير: (يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم ومن ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله، فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا وإنما أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله، والله لا شئ أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو ولد ولد أو أخا أو حميما مطيعا لله). قال ابن جريج في قوله: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام، وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيرا ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا

كلمة في سورة الفرقان

تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشر حال بعث عليها نبيا من الأنبياء، في فترة جاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إن كان الرجل ليرى والده وولده وأخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وإنها التي قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه. 22 - بمناسبة قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قال ابن كثير: قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم هداة مهتدين دعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا، ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعوا له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية». كلمة في سورة الفرقان: نلاحظ أن آية كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ قد فصلتها نوع تفصيل سورة مريم. ثم جاءت سورة الفرقان ففصلتها تفصيلا آخر، وعند ما نجد آية في سورة البقرة تفصل مرة بعد مرة، فهذا يفيد أن هذه الآية قد تعرضت لمعنى مهم جدا. وفي هذه الحالة فإن كل سورة تفصلها تكمل الأخرى في تعميق كل ما له علاقة في موضوعها. ... ومن ثم نلاحظ أن سورة مريم عرضت لذكر الرسل، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن خلف الرسل خلف سوء، وكيف أن محمدا أنزل عليه القرآن لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ثم جاءت سورة الفرقان تعرض بشكل مباشر مواقف الكافرين من البشير النذير، ومن الكتاب الذي أنزل عليه، وترد الردود المفحمة والقاطعة، ولذلك فإنك تجد في السورة الحجج البالغة العجيبة:

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ... وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ... تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً وكل من هذه الآيات في محلها فيها معجزة وإعجاز وقد رأينا ذلك. .. إنه بعد التكليفات الكثيرة في سورة النور تأتي سورة الفرقان لتعمق الإيمان، وترقي المسلم، وتثبته على الاستقامة، وتفرق بين ما هو حق وما هو باطل. وتحدد معالم الباطل الرئيسية وتحدد معالم الحق الرئيسية، وتؤكد على التمسك بالأخلاق الأساسية، وتربي الإيمان العميق بالنذير والقرآن والتوحيد، وتعرف على الله منزل القرآن ومرسل النذير. إن بدء السورة بقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ثم مجيء قوله تعالى في أواخر السورة: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً إن في ذلك تعريفا لنا على الله، إلى أن الله يعرف بالقرآن، ويعرف بالخلق، وإن في قوله تعالى: الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ما يدل على أن معرفة الله حق المعرفة هدف من أهداف السورة الكبري؛ لارتباط كل شئ بهذا الأصل، فما وقع البشر بخطإ إلا كأثر عن معرفة قاصرة ناقصة لله تعالى. ... وكما عمقت السورة بشكل غير مباشر معرفة الله، فإنها عمقت معنى العبودية لله، وهو موضوع قد حدث خلل كبير بسببه في التفكير البشري، إذ نقطة البداية في الهداية والضلال: هل الإنسان حر غير مسئول، أو عبد لله مسئول أمامه؟ لقد نصبت كتابات كتاب في العالم في عصرنا على تعميق حرية الإنسان، وعدم مسئوليته أمام الله، وكانت آخر قفزة لهذه الفكرة هي الفلسفة الوجودية، التي أعطت هذه الفكرة كل أبعادها الفلسفية، وزخرفتها الكاذبة، وهي الفلسفة التي توافق الأهواء البشرية؛ إذ تطلق للإنسان حريته الشهوانية، فلا عبادة، ولا التزام، ولا ضبط للشهوات، إطلاقا لها مع الرفض والتمرد، وهي فكرة غير جديدة في تاريخ البشرية، بل تعبير مستمر في

الحياة البشرية عن الانفلات من كل قيد، وقد عالجت السورة هذا الموضوع أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ كما عالجت مواضيع أخرى. إن السورة تضيف على التكوين العالي للمسلم لبنة هي في محلها لبنة لا ينوب غيرها منابها. ***

بين يدي السور الثلاث: طسم الشعراء، طس النمل، طسم القصص

بين يدي السور الثلاث: طسم الشعراء، طس النمل، طسم القصص هذه السور الثلاث هي نهاية المجموعة المبدوءة ب (طه) فهي كلها مبدوءة بحرف (الطاء) ثم لا يظهر حرف الطاء في فواتح سور القرآن مرة أخرى، وهي تشبه سورة طه. فقصة موسى ترد في السور الأربع، ومن مجيء سورة العنكبوت بعد هذه السور، وهي مبدوءة ب (الم) نشعر بأن هذه السور الثلاث هي نهاية قسم المئين، ونلاحظ أن بداية السور الثلاث متشابهة ليست فقط في الأحرف بل في الافتتاح كذلك فسورة الشعراء بدايتها: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وسورة النمل بدايتها: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وسورة القصص بدايتها طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فكأن السور الثلاث تصب في بحر واحد، وتتحدث عن محور واحد، وعند ما نبحث عن محور لهذه السور الثلاث بعد محور سورة الفرقان يناسب المقدمة، ويتفق مع مضمون هذه السور، فإننا نجده في سورة البقرة بعد قصة طالوت في آخر آية من الجزء الثاني وهي تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حتى إنك لتجد مقدمة سورة القصص- وهي السورة الأخيرة من هذه السور الثلاث- قد استعملت أكثر ألفاظ هذه الآية: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ. لاحظ الصلة القائمة بين هذه الألفاظ وألفاظ الآية التي اعتبرناها محورا للسور الثلاث: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وسنرى بالتفصيل صلة مضمون هذه السور الثلاث بهذه الآية التي ذكرنا أنها محور لهذه السور. ... ونلاحظ أن آية سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ آتية في السياق البعيد لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ

الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفي السياق القريب لقوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ومن ثم نلاحظ أن قصة موسى قد وردت في السور الثلاث وأن لبني إسرائيل حظا من الذكر في السور الثلاث، يعطي المسلمين عبرا كثيرة. كما أن السور الثلاث تعمق الكثير من المعاني التي تخدم موضوع الدخول في الإسلام. ... ومن خلال ما قدمناه تتبين لنا بعض الخصائص العريضة لهذه السور الثلاث: 1 - أن السور الثلاث تعرض لنا نماذج من آيات هذا القرآن ومعجزاته. 2 - أن السور الثلاث تحدثنا عن نماذج من النبوات تأتي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حلقة من حلقاتها، بل الحلقة الأخيرة فيها. 3 - وأن السور الثلاث من خلال البيان والقدوة ستعطينا معاني عليا من الإسلام في جوانب متعددة من الحياة. 4 - وأن القصة، وأخذ الدروس منها هي الطريقة المتبعة فيها، وذلك ينسجم مع كون آية المحور آتية بعد قصة طالوت. ... ومع أن السور الثلاث تفصل محورا واحدا يفصل لأول مرة بسور مستقلة، فإن لكل سورة خصائصها الخاصة، ومواصفاتها الخاصة وطريقتها الخاصة، وأسلوبها الخاص، وجرسها الخاص، ومعانيها الخاصة. ومن ثم فإنك تجد في السور الثلاث من الإعجاز أنواعا من حيث صلة السور بعضها ببعض، ومن حيث كونها تفصل محورا واحدا، كل منها يفصله بشكل ولون خاصين، ولكل منها نكهة وعبير خاصان، مع التنوع في العرض والانتقاء للمعنى والروعة في اللفظ بشكل عجيب، يجل عن طوق البشر، أفلا يعقل الكافرون فيسترون جهلهم ولو بالسكوت، بدلا من أن يثرثروا مثبتين بثرثرتهم أنهم يفتقدون العقل والحس والذوق والفطرة، والتمييز بين الحق والباطل.

سورة الشعراء

سورة الشعراء وهي السورة السادسة والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة السابعة من المجموعة الثالثة من قسم المئين وآياتها مائتان وسبع وعشرون آية وهي مكية وهي السورة الأولى من زمرة الطاسينات

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الشعراء

[قال الألوسي في تقديمه لسورة الشعراء:] قال الألوسي في تقديمه لسورة الشعراء: (وفي تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة، وقد جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس. وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم إطلاق القول بمكيتها، وأخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخرها، وروي ذلك عن عطاء وقتادة، وقال مقاتل: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً الآية مدنية أيضا، قال الطبرسي: وعدة آياتها مائتان وسبع وعشرون آية في الكوفي. والشامي. والمدني الأول ومائتان وست وعشرون في الباقي. ووجه اتصالها بما قبلها اشتمالها على بسط وتفصيل لبعض ما ذكر فيما قبل، وفيها أيضا من تسليته صلى الله عليه وسلم ما فيها، وقد افتتحت كلتا السورتين بما يفيد مدح القرآن الكريم، وختمتا بإيعاد المكذبين به كما لا يخفى). ... كلمة في سورة الشعراء ومحورها: قلنا إن محور سورة الشعراء هو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. فلنلاحظ الآن ما يلي: بدأت السورة بقوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ثم تأتي مقدمة تختم بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. ثم تأتي قصة موسى عليه السلام وتختم بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. ثم تأتي قصة إبراهيم عليه السلام وتختم بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. ثم تأتي قصة نوح عليه السلام وتختم بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ

أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ثم تأتي قصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب عليهم السلام وكل منها تختم بنفس الآيتين: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.* ثم تأتي خاتمة السورة وهي مبدوءة بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ* وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ* أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ .... وفي أواخر السورة نجد: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ... فأنت ترى أن للسورة من أولها إلى آخرها صلة بقوله تعالى من سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إن صلة السورة بهذه الآية واضحة، ومن ثم لم نتكلف إذ قلنا إن هذه الآية هي محور السورة. ... وعند قصة كل رسول في السورة نجد أن لازمة تتكرر، هذه اللازمة هي قول كل رسول لقومه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إن هذه الآية تتكرر في قصة كل رسول، إما مرة أو مرتين، ما عدا قصة موسى عليه السلام. حتى إذا وصلنا إلى خاتمة السورة وجدنا قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. مما يدل على أن التقوى والطاعة هدفان بعث من أجلهما كل رسول فإذا تذكرنا أن محور السور آت في سياق قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فهذا يعني أنه لا إسلام إلا بتقوى وطاعة. ... وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) أبرزنا فكرة أن التقوى هي مطلب الله من كل عبد. فالإسلام مجموعة أحكام الله في كل شئ، ولكن ما يطالب به كل مسلم من هذا الإسلام هو التقوى. وقد شرحنا هناك ماهية التقوى في الاصطلاح الإسلامي، ولأن

المقدمة: وهي المجموعة الأولى

المسلم جزء من جماعة، ولأن مظهر التزامه بالجماعة هو الطاعة، فهناك تلازم بين التقوى والطاعة، غير أن الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لها شأن خاص، إذ بدون طاعة للرسول لا يكون الإنسان مسلما. إن التقوى والطاعة هما علامتا إسلام المسلم، وعلى قدر طاعته وتقواه يكون داخلا في الإسلام كله، ومن ثم كانت السورة تفصيلا لمحورها ضمن حيزه البعيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وكذلك هي تفصيل لمحورها ضمن حيزه القريب. فقصة طالوت تبرز أهمية الطاعة للقيادة المسلمة، وهي القصة التي تأتي قبل الآية التي هي محور سورة الشعراء مباشرة. ... هاتان ملاحظتان بارزتان حول سورة الشعراء، تبينان صحة ما ذهبنا إليه عن السورة ومحورها، وحيز هذا المحور، وهو موضوع سيتعمق من خلال السير في فهم السورة التي تتألف من مقدمة، وخاتمة، ومجموعة قصص. فلنبدأ عرض السورة. المقدمة: وهي المجموعة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (9) وهذه هي مع البسملة. بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

التفسير

التفسير: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه آيات القرآن المبين الواضح الجلي، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد، الظاهر إعجازه وإنه من عند الله. وهل الإشارة في قوله (تلك) إلى القرآن كله، أو إلى هذه السورة خاصة؟ قولان للعلماء. لَعَلَّكَ من الإشفاق باخِعٌ أي مهلك نَفْسَكَ أي مما تحرص وتحزن عليهم أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لامتناع إيمانهم، أو خيفة ألا يؤمنوا. والمعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على ما فاتك من إسلام قومك، وقد دلت الآية على أن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كبيرا على شرود قومه. وفي الآية تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار، بعد أن قامت الحجة عليهم بهذا القرآن إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ. أي منقادين. قال ابن كثير في الآية: (أي لو نشاء لأنزلنا آية نضطرهم إلى الإيمان قهرا ولكن لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري) وهذا يدل على أن الله قد أنزل من الآيات ما يكفي. وعنده المزيد لو شاء، ولكن أنزل بالقدر الذي تقوم به الحجة، ويتم به الامتحان وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ قال ابن كثير: أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس. وقال النسفي: (أي وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيرا إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به) هذا مع قيام الحجة وظهور الإعجاز ومرافقة المعجزات فَقَدْ كَذَّبُوا أي بما جاءهم من الحق فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ أي أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة ما هو هذا القرآن الذي كانوا يستهزءون به، وسيأتيهم أنباؤه، وأحواله التي كانت خافية عنهم أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف من النبات كَرِيمٍ أي محمود كثير المنفعة يأكل منه الناس والأنعام إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إثبات تلك الأصناف لَآيَةً أي دلالة على قدرة الخالق وخلقه للأشياء وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع وجود الآية وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه من الكفرة، أو العزيز الذي عز على كل شئ وقهره وغلبه الرَّحِيمُ أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه، بل يؤجله وينظره، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. أو الرحيم بمن تاب إليه وأناب.

نقل

نقل: عند قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ. قال صاحب الظلال: (ولكنه- سبحانه- لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة معجزا في كل ناحية: معجزا في بنائه التعبيري، وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه، كما هي الحال في أعمال البشر، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال. معجزا في بنائه من حيث المعنى، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل، وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها .. وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك إحاطة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم. معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها، وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين، وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا لبس ولا معاضلة. لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة الرسالة، ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها، وتضطرها إلى التسليم- ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب. لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعا يشهد .. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا

كلمة في السياق

كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم- لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم- ويلبي حاجاتهم كاملة، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن، ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته، ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين) أقول: وقعت لرسولنا عليه الصلاة والسلام معجزات كثيرة غير القرآن، ولكن القرآن هو معجزته الرئيسية عليه الصلاة والسلام، ولو شاء الله معجزة لا يبقى معها أحد إلا آمن لفعل، ولكنه لم يشأ جل جلاله لحكمة، وهذا النوع من المعجزات هو المنفي في الآية. كلمة في السياق: حددت هذه المقدمة مجموعة معان: 1 - أن آيات هذا القرآن من الوضوح بالمكان البين وهذه السورة نموذج على البيان في الآيات والمعجزات. 2 - بينت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قادر على أن ينزل من الآيات ما به يؤمن البشر إيمانا قسريا، وإن لله حكمة في كونه لا ينزل من الآيات إلا بالقدر الذي تقوم به الحجة الكاملة، ومن ثم فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن لعدم إيمان من لم يؤمن. 3 - ومن ذكر الحقيقتين السابقتين ندرك حكمة إنزال الذكر على ما هو عليه، وندرك ضلال المعرضين، وكيف أن هؤلاء المعرضين المكذبين سيرون أن كل ما نزل في الذكر حق. 4 - لفت الله عزّ وجل النظر إلى آية من آياته العظمى، وهي كثرة ما خلق من أصناف النبات في هذه الأرض، وأنه مع وجود هذه الآية فإن أكثر الخلق لا يؤمنون. ثم ذكرنا الله عزّ وجل بعزته ورحمته. هذه مجمل المعاني التي وردت في المقدمة لاحظ الآن صلتها بمحور السورة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إن المقدمة تحدثت عن آيات هذا

المجموعة الثانية"قصة موسى"

القرآن وأثبتت رسالة الرسول. وتحدثت عن كفاية هذه الآيات للإيمان، وعن موقف أكثر الخلق منها، وعن الحكمة في عدم إنزال آيات غير ما أنزل، ثم لفتت النظر إلى آية دالة على وجود الله، وهي أصناف النبات، ومع ذلك فإن الخلق لا يؤمنون، فالعلة فيهم ومنهم، وعلى الرسول أن يدرك ذلك وألا يحزن، ولكل ذلك صلة مباشرة بمحور السورة، ومن مقدمة السورة ندرك أن السورة ستعرض علينا نماذج من الآيات فيها بيان وفيها إقامة حجة، وفيها كفاية، وفيها تأكيد لكون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها توجيه للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإننا نجد أن في بداية السورة قوله تعالى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وأن في خاتمتها قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. ولننتقل إلى المجموعة الثانية. *** المجموعة الثانية «قصة موسى» وتمتد من الآية (10) إلى نهاية الآية (68) وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 68] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

ملاحظة أولى

ملاحظة أولى: كما أن محور السورة كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فإننا نلاحظ أن كل مجموعة في السورة فيها خطاب مباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها ذكر للآيات أو للقرآن: فمثلا في المقدمة نجد لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ونجد وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كما نجد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وفي قصة موسى نجد الآية الأولى فيها: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ونجد في خاتمتها: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. ونجد أنه بعد كل قصة من القصص اللاحقة يتكرر قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كما يتكرر قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ونجد في خاتمة السورة: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وهكذا نجد توافقا كاملا بين السورة وبين الآية التي هي محورها من سورة البقرة. ملاحظة ثانية: نلاحظ أن مقدمة السورة بعد أن ذكرت أصناف النبات قالت: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كما نلاحظ أن قصة موسى ختمت بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كما نلاحظ أن كل قصة ذكرت في السورة ختمت بنفس الآيتين. وهذا يفيد أن على المتأمل والتالي أن يجد آية في كل ما ذكر إن كان مؤمنا، وأن غير المؤمن هو الذي لا يجد الآية في هذا، والتذكير باسم الله الرحيم في هذا المقام ينسجم مع ذكر الآية ويذكرنا بشكرها والتذكير باسم الله العزيز فيه إنذار للذين لا يرون الآية ولا يؤمنون، فإذا تذكرنا محور السورة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عرفنا أن في كل مجموعة من السورة نموذجا على آيات الله التي أنزلها على رسولة صلى الله عليه وسلم والتي فيها دليل رسالته، ومن ثم فإن على المؤمن أن يتذوق الآية في كل مجموعة من مجموعات هذه السورة.

التفسير

وبعد هاتين الملاحظتين فلنبدأ عرض قصة موسى عليه السلام: ... التفسير: وَإِذْ أي واذكر إذ نادى رَبُّكَ أي دعا ربك مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وبنى إسرائيل بالاستعباد، وذبح الأولاد قَوْمَ فِرْعَوْنَ هم القوم الظالمون أَلا يَتَّقُونَ أي ائتهم زاجرا فقد آن لهم أن يتقوا دل ذلك على أن المهمة الأولى للرسول هي تربية التقوى في قلوب الناس، فمن لم يبدأ بتربية التقوى، أو لم يعرف كيف يربي عليها من الدعاة إلى الله لا يكون وارثا للرسول قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ الخوف هو: غم يلحق الإنسان لأمر سيقع وَيَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إياي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال، وأسمع من الجدال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي أرسل إليه جبريل واجعله نبيا يعينني على الرسالة، وكان هارون بمصر حين بعث موسى وأوحي إليه عند الطور، ولم يكن هذا الالتماس من موسى عليه السلام توقفا في الامتثال، بل التماس عون في تبليغ الرسالة. قال النسفي: وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي تبعة تعللا بقتل من قتلته فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي قصاصا به. قال النسفي: وليس هذا تعللا أيضا بل استدفاع للبلية المتوقعة، وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة. وهكذا شكا موسى إلى الله عزّ وجل كل الاحتمالات الصعبة التي يتوقع أن تواجهه. وهذا يدل على تقدير صحيح منه عليه السلام للموقف الذي يواجهه. ومن ثم فإن كل من يقوم بشأن الدعوة إلى الله عليه أن يقدر الموقف الذي يمكن أن يجابهه، ويطلب من الله العون والله معين، وقد وعد موسى بالحفظ والدفع عنه: قالَ كَلَّا كلمة ردع لما ستدفعه موسى من بلاء وهم، وهي هاهنا وعد، وعده الدفع بكلمة الردع ليردعه عن الخوف ثم قال: فَاذْهَبا أي أنت وهارون، دل ذلك على أنه استجاب دعاء موسى بالإرسال إلى هارون بِآياتِنا أي مع آياتنا وهي اليد والعصا وغير ذلك، وهذا يفيد أن كل رسول يعطى من الآيات ما به تقوم الحجة إِنَّا مَعَكُمْ أي معكما بالعون والنصرة، ومع من أرسلتما إليه بالعلم والقدرة مُسْتَمِعُونَ أي سامعون فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ولم يثن الرسول هنا كما ثناه في سورة

[سورة الشعراء (26): آية 17]

(طه) لأنهما لاتحادهما واتفاقهما على شريعة واحدة كأنهما رسول واحد أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ قال ابن كثير: أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك، وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون، وهم معك في العذاب المهين، فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية، ونظر إليه بعين الازدراء والفحص. فعند ذلك قالَ فرعون أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي ألم تكن صغيرا فربيناك وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وهي الفترة قبل قتله القبطي وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ أي قتلك القبطي وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي الجاحدين. والمعنى: أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا على فراشنا، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا، وجحدت نعمتنا عليك. والملاحظ أن موسى حدد مطلبا رئيسيا من فرعون، وهو الإذن لبني إسرائيل في الخروج من مصر وهو مطلب سياسي، فقد كان الهدف هو تحرير بني إسرائيل من العبودية، والملاحظ أن فرعون فر من الجواب على هذا المطلب الرئيسي بتذكير موسى بنعمته عليه. ملاحظة مهمة: في عصرنا وفي بلادنا حيث الصراع بين اليهود والعرب على فلسطين على أشده، يحاول كثيرون أن يحملوا على اليهود في كل العصور، والذي نقوله: إن اليهود عند ما كانوا مسلمين كانوا جزءا من الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل، ولقد خرجوا من الأمة الإسلامية بكفرهم، وقد كفروا يوم رفضوا رسالة عيسى عليه السلام، وإذ كفروا فهم أعداؤنا ونحن أعداؤهم. وعلى هذا فكل يهودي بعد عيسى كافر، وقد تأكد هذا الكفر .. برفض اليهود لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا الكفر خرجوا عن الأمة الإسلامية وأما إسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان فهم أنبياؤنا ورسلنا، وأتباعهم منا ونحن منهم، فكل الرسل وكل خلفائهم على مدى العصور، يشكلون أمة واحدة هي الأمة الاسلامية. ولنعد إلى التفسير والحوار الذي تم بين موسى وفرعون في الجلسة الأولى- جلسة تبليغ الرسالة .. ...

[سورة الشعراء (26): آية 20]

فبعد أن فر فرعون من الجواب على طلب موسى، وبعد أن من عليه وأنبه على قتله القبطي قالَ موسى فَعَلْتُها إِذاً أي قتلت الرجل إذ ذاك وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين بأن الفعلة تبلغ القتل، أو من الناسين، أو من الغافلين، أو قبل أن يكرمني الله بهداه ووحيه فأكون نبيا فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تقتلوني فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي نبوة وعلما، فزال عني الجهل والضلالة وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من جملة رسله، وكأنه قال: لقد تغير الحال الأول وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت، وإن خالفته عطبت. كلمة في السياق: إذا تأملنا قوله تعالى على لسان موسى فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإننا نجد فيه نكهة شبيهة بقوله تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإنك لتلاحظ بشكل عام أن نكهة سورة الشعراء تشبه نكهة آية المحور، وذلك عدا عن كون معانيها تدور في فلك آية المحور. وهذا مظهر عظيم من أسرار هذا القرآن، فإنك لا تجد سورة فصلت آية من سورة البقرة إلا رأيت تشابها بين نكهة الآية والسورة. فإن تجد ذلك وأن تجد سورة البقرة ذات نكهة خاصة بها، وروح خاصة بها. فذلك وحده شئ عجيب. وذلك دليل على أن الله منزل هذا القرآن. ولنعد إلى التفسير لنرى تتمة جواب موسى لفرعون: ... وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أن جعلت بني إسرائيل عبيدا أذلاء، رد على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله، وأبى أن تسمى هذه نعمة، لأن سببها هو تعبيد بني إسرائيل؛ لأن تعبيدهم وذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ولو تركهم لرباه أبواه، فكأن فرعون امتن على موسى بتعبيد قومه، وإخراجه من حجر أبويه فكيف تسمى هذه نعمة؟ قال ابن كثير في تفسير الآية: أي أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم. وبهذا ختم موسى الرد على فرعون، وكان ردا في غاية القوة وفيه درس للمشتغلين بقضايا تحرير أقوامهم من ظالميهم وجلاديهم، ثم إن فرعون فر ثانية من الجواب،

[سورة الشعراء (26): آية 23]

وطرح سؤالا. وذلك أن موسى أعلمه أنه رسول رب العالمين، وهو يدعي الربوبية، ففي دعوة موسى إبطال لدعواه. ومن ثم أخذ الحوار طابعا عقديا، ونلاحظ أن موسى في هذا الحوار يقابل الحجة بالحجة، والكلمة بالكلمة، لأن الصمت في مقام التبليغ إخلال بالتبليغ، وذلك درس لكل من يتصدى للدعوة إلى الله أو إلى شرعه قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قال النسفي: أي إنك تدعي أنك رسول رب العالمين فما صفته. وقال ابن كثير: قال هذا له فرعون من الذي تزعم أنه رب العالمين غيري، هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف ..... ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هنا سؤالا عن الماهية فقد غلط فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم تعرفون الأشياء بالدليل، فالإيقان هو العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال الله موقن. والمعنى: إن كنتم تعرفون الأشياء بالدليل فكفى خلق هذه الأشياء دليلا، أو إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع فالله عزّ وجل خالق السموات والأرض وما بينهما، ومالك جميع ذلك، والجميع عبيد له خاضعون، ومن كانت لهم قلوب موفقة، وأبصار نافذة عرفوا ذلك فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى كما قال الله تعالى: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلها غيري؟ قالَ لهم موسى رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، أي إن لم تستدلوا بغيركم فبأنفسكم، ولعله ذكر آباءهم لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم قالَ أي فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري قالَ موسى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فتستدلون بما أقول فتعرفون ربكم، قال النسفي. وهذا غاية الإرشاد، حيث عمم أولا بخلق السموات والأرض وما بينهما، ثم خصص ... أنفسهم وآباءهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه، ومن ولد منه، وما شاهد من أحواله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته، ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر (كما يراه الناظر) على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الرحمن من الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمرود بن

[سورة الشعراء (26): آية 29]

كنعان ... ، قال ابن كثير: لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له، ونافذ في موسى عليه السلام فقال ما أخبر الله تعالى عنه قالَ فرعون لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قال ابن كثير: لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، فظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال، وذلك ديدن كل ظالم، أن يلجأ إلى الإرهاب والتهديد به إذا خالفه الناس في مواقفه الظالمة. وقال النسفي: فلما تحير فرعون ولم يتهيأ له، أن يدفع ظهور آثار صنعه قال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل، ولو قال لأسجننك لم يؤد هذا المعنى وإن كان أخصر قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك ببرهان قاطع واضح قالَ فَأْتِ بِهِ أي بالذي يبين صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أن لك بينة، أي فأحضر ما يدل على صدقك فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح. قال النسفي: (أي ظاهر الثعبانية، لا شئ يشبه الثعبان، كما تكون الأشياء المزورة بالشعوذة والسحر وَنَزَعَ يَدَهُ أي من جيبه أي من فتحة عند القميص بعد أن وضعها تحت إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قال النسفي: دليل على أن بياضها كان شيئا يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضها نوريا. وقال ابن كثير: أي تتلألأ كقطعة من القمر فبادره فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد. قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ لمن حوله من أشراف مملكته ووجهائهم وأصحاب النفوذ والرأي فيهم إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي فاضل بارع في السحر فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر فيه فقال: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به من حبس أو قتل؟ قال النسفي: (لما تحير فرعون برؤية الآيتين، زل عنه، ذكر دعوى الإلهية، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه خوفا، طفق يؤامر قومه الذين هم- بزعمه- عبيده وهو إلههم. أو جعلهم آمرين ونفسه مأمورا) وذلك دأب الطغاة يتظاهرون بأنهم منفذون لأوامر شعوبهم قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما ولا تباغت قتلهما خوفا من الفتنة

[سورة الشعراء (26): آية 37]

وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي شرطا يجمعون السحرة يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ والمعنى: أخره وأخاه حتى تجمع من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه ويأتون بنظير ما جاء به فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد، فأجابهم إلى ذلك، وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس جهرة فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم الزينة أي يوم العيد والميقات المحدد من ذلك اليوم هو وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة، كما ذكر ذلك في سورة طه وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي اجتمعوا وفي الصيغة ما يفيد استبطاء اجتماعهم. والمراد منه استعجالهم. واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم وقال قائلهم لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي إن غلبوا موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض ألا يتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قال ابن كثير: ولم يقولوا نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قال ابن كثير: أي مجلس فرعون قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ طلبوا منه الإحسان إليهم والتقريب قالَ فرعون نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي لكم أجر عندي وتكونون مع ذلك من المقربين عندي في المرتبة والجاه، وهكذا فعل فرعون كل ما في وسعه من أجل أن يغلب موسى، ولكن هيهات، فالأمر أكبر من ذلك، إنها الرسالة، وإنها المعجزة، وإن الله من ورائهم محيط قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي من السحر فسوف ترون عاقبته وقد اختصرت في هذا المقام بعض الحيثيات التي ذكرت في سور أخرى، لأن الهدف هنا هو إبراز النتيجة، وتصوير العاقبة فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أقسموا بعزته وقوته أن لهم الغلبة، وهو من أيمان الجاهلية فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ويزورونه ويخيلونه في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، فقد اختطفت ذلك كله وابتلعته، وجمعته من كل بقعة، فلم تدع منه شيئا فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قال النسفي: عبر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة، لأنه ذكر مع الإلقاءات، ولأنهم لسرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقوا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ وحتى لا يبقى لبس بمن أرادوا بكلامهم لأن فرعون يدعي الربوبية قالوا رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قال

[سورة الشعراء (26): آية 49]

ابن كثير: فكان هذا أمرا عظيما جدا، وبرهانا قاطعا للعذر، وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم، وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا، وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين، الذي أرسل موسى وهارون بالحق والمعجزة الباهرة فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحا جريئا، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين- فعدل إلى المكابرة والعناد- ودعوى الباطل- فشرع يتهددهم، ويتوعدهم قالَ فرعون آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ بذلكم، أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا علي في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي وقد تواطأتم معه على أمر ومكر، وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعدهم فرعون فقال فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي وبال ما فعلتم، ثم صرح بما سيفعله بهم فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من أجل خلاف ظهر منكم، أو مخالفا بين أيديكم وأرجلكم في القطع وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وهي عقوبة أراد بها فيما يبدو ترهيب العامة، لئلا يتبعوهم في الإيمان قالُوا لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا، ولا نبالي به إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي المرجع إلى الله عزّ وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، ولهذا قالوا إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي: ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان؟ قال ابن كثير: فقتلهم كلهم. وهكذا قامت الحجة قياما كاملا، ومع ذلك بقي العتو، وأنزل الله الآيات الأخرى التي ذكرت في سورة الأعراف، واختصرت هنا؛ لأن السياق ينصب هنا على فعل الله لأنبيائه. ومن ثم فالسياق هنا ينتقل مباشرة إلى موضوع الخروج والإنجاء وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي بني إسرائيل. أي سربهم ليلا. قال النسفي: سماهم عباده لإيمانهم بنبيه إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه. قال النسفي: علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم، يعني إني بنيت تدبير أمركم وأمرهم، على أن تتقدموا ويتبعوكم، حتى يدخلوا مدخلكم من طريق البحر فأهلكهم، هذا ما كان من وحي الله وتدبيره، وقد ذكر تدبير فرعون ضد بني إسرائيل، ليعلم أن الله عزّ وجل هو الذي يدبر المعركة بين الكافرين والمؤمنين، ومن ثم فمهما دبر الكافرون ضد المؤمنين، فالعاقبة للمتقين؛ لأن

[سورة الشعراء (26): آية 53]

الله يعلم كيدهم، وهو الذي يدبر للمؤمنين، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب. وأما تدبير فرعون فقد انصب على ما يسمى باصطلاح عصرنا بالتوعية الشعبية فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين للناس بعنف، أي أرسل من يجمع الناس ليقولوا لهم: إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ أي لطائفة قَلِيلُونَ أي إنهم لقلتهم لا يعبأ بهم وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي إنهم يفعلون أفعالا تغيظنا، وتضيق صدورنا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي متيقظون بشكل دائم. يعني: ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهكذا لخص الله لنا بأربع آيات تدبير فرعون ضد بني إسرائيل، وهو التدبير المستمر للطغاة في كل العصور ضد أهل الحق: يحشرون الناس، ويجمعونهم بسلطة السلطان، فيعقدون الاجتماعات والندوات، ويسيرون المسيرات للتوعية- في زعمهم- ويقولون عن أهل الحق: إنهم فئة قليلة منحرفة عن إرادة الشعب، وخارجة على إرادة الجماهير، وأنهم يقومون بأعمال إجرامية ضد السلطة، وأن على جميع الشعب أن يكون حذرا وواعيا. إن مثل هذا التسجيل الخالد لفعل فرعون، والذي ينطبق على كل زمان ومكان، لهو وحده معجزة، ومن هنا نفهم سرا من أسرار القصص القرآني، وخصيصة من خصائصه إن القصة القرآنية نموذج خالد مستمر متكرر فيه عبرة وعظة ودروس لكل إنسان، وفي كل زمان. ثم بعد ذلك قص الله علينا عاقبة الجميع فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وقومه مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَعُيُونٍ أي وأنهار جارية وَكُنُوزٍ أي وأموال ظاهرة من الذهب والفضة. قال النسفي: وسماها كنوزا لأنهم لا ينفقون منها في طاعة الله وَمَقامٍ أي ومنزل كَرِيمٍ أي بهي بهيج كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو وأخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي إن كان المراد بأورثناها أورثنا بعضها كالكنوز التي استعارها منهم بنو إسرائيل ليلة الخروج فذلك التوريث كان في ليلة الخروج، وإن كان ما حدث بعد ذلك في زمن بعض ملوك بني إسرائيل كسليمان، إذ امتد نفوذ بني إسرائيل حتى غطى مصر، فذلك التوريث فيما بعد، والآية تحتمل هذا وهذا فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي فلحقوهم داخلين في وقت شروق الشمس وهو طلوعها. وهذا يفيد أن بني إسرائيل نفذوا الأمر بالإسراء ليلا، وأن فرعون وقومه أتبعوهم، وكانت لحظة الإدراك وقت طلوع الشمس فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقابلا، بحيث يرى كل فريق الآخر. والمراد بالجمع بنو إسرائيل

[سورة الشعراء (26): آية 62]

والقبط قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي قرب أن يلحقنا عدونا، وأمامنا البحر قالَ موسى عليه السلام ثقة بوعد الله إياه كَلَّا أي ارتدعوا عن سوء الظن بالله فلن يدركوكم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي سيهديني طريق النجاة من إدراكهم وإضرارهم فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي البحر الأحمر على القول الراجح فَانْفَلَقَ أي فضرب فانفلق وانشق، فصار اثني عشر فرقا على عدد الأسباط فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي كل جزء تفرق منه كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كالجبل الكبير الضارب في الجو وَأَزْلَفْنا ثَمَّ حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ أي قوم فرعون، أي قربناهم من بني إسرائيل أو من البحر وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي فرعون وجنوده، فلم يبق منهم رجل إلا هلك، ثم تأتي الآيتان اللتان تتكرران في هذه السورة عقب المقدمة، وعقب كل قصة وهما: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين، لدلالة وحجة قاطعة، وحكمة بالغة، ومع ذلك فإن أكثر الخلق لا يؤمنون، كما أن في هذه القصة دلالة على أن الله متصف بالعزة والرحمة، ومن عزته أن يقهر أعداءه، ومن رحمته أن ينصر أولياءه. ملاحظة: رأينا أن قصة موسى وفرعون هنا لم تذكر بعض تفصيلات مما ذكر في سور أخرى كالأعراف وطه، وذكرت تفصيلات لم تذكر هناك، وذلك لأن القصة في كل سورة من سور القرآن تخدم سياق السورة الخاص ومحورها، فلا يؤتى منها إلا ما يخدم ذلك، وهذه قضية ينبغي أن يلاحظها الدارسون. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة الشعراء هو قوله تعالى من سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وقد وردت هذه الآية بعد قصة طالوت وجالوت، وكنا قلنا من قبل إن سورة

الشعراء تعرض علينا في كل مجموعة منها آية من آيات الله ومن ثم فكل مجموعة من السورة سوى الأخيرة منها تنتهي بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ولما كان المفروض أن يعقب الآية إيمان ولما كان أكثر الخلق لا ينتفعون بالآيات يأتي بعد اللازمة قوله تعالى: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ثم يأتي بعد ذلك تعقيب هو وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مما يشير إلى عزته، وإن كفر الكافرون وإلى رحمته بالمؤمنين إذ يريهم الآيات وهكذا عرض الله علينا في المقدمة آية من آياته ثم أرانا في قصة موسى وفرعون آية أخرى من آياته. وسنرى في كل مجموعة آية من آياته وذلك كله منسجم مع محور السورة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وفي آية المجموعة التي مرت معنا في قصة فرعون رأينا كيف أن الله عزّ وجل ينصر رسله بالحجة والمعجزة والتدبير، وفي ذلك درس لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم- الذي هو من المرسلين- أن يثق بالله حق الثقة في أن العاقبة له، وقد كان ذلك، ومن قصة موسى وفرعون نعلم أن الله عزّ وجل هو الذي يتولى إدارة شئون المعركة بين أوليائه وأعدائه، وهو الذي يأخذ بيد أوليائه ويقهر أعداءهم في النهاية مهما كانت الظروف صعبة، أو كانت المسألة في بعض صورها لغير صالح المؤمنين، وبعد أن عرض الله علينا آية من آياته في مقدمة السورة وعرض علينا آية ثانية في قصة موسى مع فرعون يعرض علينا نموذجا آخر من آياته في قصة إبراهيم عليه السلام، وذلك في المجموعة الثالثة من السورة ويبدؤها بقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ لاحظ الصلة بين وَاتْلُ وبين نَتْلُوها من آية سورة البقرة مما يشير إلى وضوح الصلة بين سورة الشعراء ومحورها من سورة البقرة، وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الثالثة نحب أن نشير إلى شئ هو أن آية البقرة التي هي محور سورة الشعراء آتية في حيز قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وهذا يفيد أن سورة الشعراء، تخدم هذا الحيز فإذا اتضح هذا تكون قصة موسى وفرعون في الشعراء درسا لحملة الإسلام الكامل الشامل. ***

المجموعة الثالثة"قصة إبراهيم"

المجموعة الثالثة «قصة إبراهيم» وتمتد من الآية 69 إلى نهاية الآية 104 وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 104] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

التفسير

التفسير: وَاتْلُ يا محمد عَلَيْهِمْ أي على أمتك نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره إذ هو خليل الله وإمام الحنفاء، أمر الله أن تتلى قصته على هذه الأمة ليقتدى به في الإخلاص والتوكل وعبادة الله وحده لا شريك له، والتبري من الشرك وأهله إِذْ قالَ إبراهيم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أي قوم إبراهيم أو قوم أبيه ما تَعْبُدُونَ أي أي شئ تعبدون وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس بمستحق للعبادة قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي مقيمين على عبادتها ودعائها قالَ إبراهيم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي هل يسمعون دعاءكم إِذْ تَدْعُونَ أي إذ تدعونهم أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إن عبدتموها أَوْ يَضُرُّونَ إن تركتم عبادتها قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ اعترفوا بأن أصنامهم لا تسمع ولا تنفع، ولا تضر ولا يعبدونها لشئ من ذلك، ولكن وجدوا آباءهم على شئ فقلدوهم، وهاهنا يظهر الفارق بين من يتابع الآباء على الحق، وبين من يتابع الآباء على الباطل، ولو قامت الحجة على بطلانه قالَ إبراهيم ردا عليهم أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أي الأولون فَإِنَّهُمْ أي هذه الآلهة عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير، فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدو لها ولا أبالي بها، ولا أفكر فيها وإذ كان جوابهم عاطفيا فإن جوابه كان عاطفيا عقليا. ولما كان في جوابه إعلان أن الله عزّ وجل ربه بدأ يعرفهم على الله ربه رب العالمين. كلمة في السياق: نلاحظ أن موسى عليه السلام في هذه السورة قال لفرعون: إِنَّا رَسُولُ رَبِ

[سورة الشعراء (26): آية 78]

الْعالَمِينَ قال فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قال موسى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فقد عرف موسى فرعون على الله رب العالمين من خلال ربوبيته للخلق كلهم، وربوبيته للإنسان، وربوبيته للمشرق والمغرب وما بينهما ونلاحظ هاهنا أن إبراهيم عليه السلام حدث قومه عن الله رب العالمين، وسنرى أن إبراهيم سيعرف على الله رب العالمين بما يكمل كلام موسى عليه السلام. وهذا يشير إلى أن دعوة الرسل واحدة، وأنها متكاملة، فإذا تذكرنا أن محور السورة هو قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فإننا ندرك أن السورة تخدم محور السورة بما يعرفنا على خصائص المرسلين ودعوتهم، زيادة على كونها تعرض علينا آيات من آيات الله؛ لنرى من خلال خصائص المرسلين أن محمدا صلى الله عليه وسلم من المرسلين وهذا الذي ذكرناه يأتي بشكل متسلسل في السورة لنجده في خاتمة السورة مكثفا وموجها نحو الهدف العام والخاص للسورة، بما يخدم المحور بشكل مباشر ومكثف، فلنر الآن بم عرف إبراهيم على الله رب العالمين؟ قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي الذي خلقني بالتكوين في القرار المكين، هو الذي يهديني لمناهج الدنيا ولمصالح الدين وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي مع كونه خالقي وهادي فهو كذلك رازقي بما سخر ويسخر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق السحاب، وأنزل الماء، وأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ قال ابن كثير: (أسند المرض إلى نفسه وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا) ومعنى الآية كما قال ابن كثير: أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي يوم القيامة أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو، وكلامه في هذا السياق يفيد أنه .. لا يعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء: الخلق والهداية والإطعام والإسقاء والشفاء والإماتة والإحياء والمغفرة يوم القيامة. فمن كان يفعل هذه الأشياء فهو رب العالمين وهو الذي يستحق العبادة وحده.

فائدة

فائدة: من كلام إبراهيم عليه السلام نعرف عقيدة الأنبياء في موضوع أفعال الله عزّ وجل، ونعرف الحكم القاطع في النزاع الذي دار بين أهل السنة والجماعة، والمعتزلة في موضوع خلق الأفعال، إن كلام إبراهيم قاطع في أن الله هو المؤثر، وأنه لا تأثير للأشياء إلا بالله. ... ولنعد إلى التفسير: فبعد أن أعلم إبراهيم قومه أن معبوديهم أعداؤه، وأن رب العالمين هو ربه ومعبوده، وعرفهم على الله رب العالمين، توجه بالدعاء إلى الله عزّ وجل فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي حكمة أو حكما بين الناس بالحق، أو علما أو فصلا أو نبوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذو حكمة، وذو حكم بين عباد الله وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي الأنبياء، أو واجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ثناء حسنا، وذكرا جميلا في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطي ذلك، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه، ووضع اللسان موضع القول لأن القول يكون به وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي واجعلني وارثا للجنة، أي من الذين يدخلونها خالدين وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ أي اجعله من أهل المغفرة بإعطائه الإسلام إنه كان من الكافرين وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي ولا تذلني يوم يبعث الخلق أي يوم القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ أي يوم لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولا أولاده إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي عن الكفر والنفاق وبقية الأمراض. وبهذا انتهت دعوات إبراهيم عليه السلام، وبها عرفنا المطالب العليا للمسلم الكريم: الحكم، والصلاح، وحسن الذكر في الله، والجنة، والمغفرة للآباء، وعدم الذلة يوم القيامة. ... كلمة في السياق: نلاحظ أن السياق حدثنا عن جولة فقط من النقاش بين إبراهيم وقومه، ثم سار السياق في عرض دعوات إبراهيم. والآن ينقلنا السياق إلى مشهد من مشاهد يوم

[سورة الشعراء (26): آية 90]

القيامة، هو في الحقيقة تعقيب على موقف إبراهيم وموقف قومه؛ بدليل أن الآيتين اللتين تذكران وراء كل قصة في هذا السياق وهما إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هاتان الآيتان تأتيان بعد التعقيب، مما يدل على أن هذا التعقيب تعليق على قصة إبراهيم، فهو يعرض ما يحدث لعباد الله وعباد الشيطان يوم القيامة. ولكنه يذكر بصيغة التعميم، لأن الآيات تنطبق على كل من شابه إبراهيم وشابه قومه. فلنر الآن التعقيب ثم نعود إلى السياق، ملاحظين أن الصلة بين التعقيب وبين ما قبله على غاية المتانة. فقد سبق التعقيب قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ثم ينقلنا السياق إلى عرض مشهد من مشاهد ذلك اليوم. ... وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي قربت وأدنيت من أهلها، مزخرفة مزينة لناظريها، وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا، وعملوا لها في الدنيا وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي للكافرين. أي أظهرت حتى يكاد يأخذهم لهبها. قال ابن كثير: أي أظهرت وكشف عنها، وبدت منها عنق، فزفزت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر وَقِيلَ لَهُمْ وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا، ولا تدفع عن أنفسها، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ أي ألقي بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك فغووا وأغووا وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي متبعوه من عصاة الإنس والجن أو شياطينه ألقي فيها هؤلاء وهؤلاء عن آخرهم قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ أي قال الضعفاء للذين استكبروا، أو قال العصاة للشياطين، أو قال عباد غير الله لآلهتهم من الأصنام وغيرهم تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نعدلكم في العبادة برب العالمين. أو كما قال ابن كثير: نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين، وعبدناكم مع رب العالمين وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون، أي رؤساؤهم الذين أضلوهم، أو إبليس وجنوده ومن سن الشرك فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين إذ يشفع لهم الأنبياء والأولياء والملائكة وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي قريب كما نرى للمؤمنين أصدقاء،

[سورة الشعراء (26): آية 102]

إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي. قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يتمنون هناك أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة الله فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم، والتعقيب عليه لعبرة ومعجزة. قال ابن كثير: أي في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد، لآية أي لدلالة واضحة جليلة على أنه لا إله إلا الله وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع قيام الحجج وظهور الآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ومن عزته تعذيب الكافرين في النار، وإدخال المؤمنين الجنة. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى على لسان إبراهيم وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ذكر النسفي أن الخطيئة التي أشار إليها هي قوله: (إني سقيم) و (بل فعله كبيرهم) و (هذا ربي) و (هي أختي لسارة) ثم قال: وما هي إلا معاريض جائزة، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار، واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، وتعليم للأمم في طلب المغفرة. 2 - بمناسبة قوله تعالى على لسان ابراهيم: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ قال ابن كثير: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى:» قالها ثلاثا، وفي الحديث في الدعاء: «اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين» 3 - وبمناسبة دعوة إبراهيم: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ قال ابن كثير: وقال البخاري عند هذه الآية: قال إبراهيم بن طهمان ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه، عليه الغبرة والقترة، وفي رواية أخرى ... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون. فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين» هكذا رواه عند هذه الآية، وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به، ولفظه: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم يا رب إنك

كلمة في السياق

وعدتني أن لا تخزينى يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول: يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ورواه النسائي في التفسير من سننه الكبير. 4 - بمناسبة قوله تعالى يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال ابن كثير: أي سالم من الدنس والشرك. قال ابن سيرين القلب السليم: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وقال ابن عباس: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ القلب السليم: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وقال مجاهد والحسن وغيرهما بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يعني من الشرك، وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ* قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة. 5 - لخص النسفي قصة إبراهيم عليه السلام في السورة فقال (وما أحسن ما رتب عليه السلام كلامه مع المشركين، حيث سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله تعالى، فعظم شأنه، وعدد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته، مع ما يرجي في الآخرة من رحمته. ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا). أقول: والملاحظ أن ما أسميناه تعقيبا على قصة إبراهيم عليه السلام اعتبره النسفي جزءا من كلام إبراهيم وليس تعقيبا من الله عزّ وجل على قصته، وأيا كان الأمر فالتعقيب على صلة كاملة بقصة إبراهيم حتى لهو جزء منها. أو لكأنه جزء منها. ومن ثم ختم بالآيتين اللتين هما علامة على انتهاء مجموعة في هذه السورة. كلمة في السياق: نلاحظ أن قصة موسى عليه السلام عرضت لنا فعل الله بموسى وفرعون في الدنيا.

فكانت في ذلك الآية، ولكنا لا نجد في قصة إبراهيم عليه السلام مثل هذا، وإنما نجد إقامة حجة من قبل إبراهيم وعرض للعقيدة الإبراهيمية. والعبودية الإبراهيمية، والمعرفة الإبراهيمية لله عزّ وجل، والافتقار الإبراهيمي لله. وانتصار من كان على هذه العقيدة في الآخرة. واندحار وذل وخزي وعذاب من كان على العقيدة الآزرية في الآخرة. وفي ذلك آية ومعجزة. إن في وجود إبراهيم وفي صفاء عقيدته وفي صفاء توجهاته وفي مجموع حججه التي تدحض الباطل إن في ذلك كله آية، وإن في ذكر ذلك المشهد الرائع من مشاهد يوم القيامة والمرتبط بقصة إبراهيم لآية تشهد على الحق، فلنتذكر الآية التي هي محور سورة الشعراء: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد تلا الله علينا في قصة إبراهيم آية من آيات الله هي حق خالص، وقد عرضت لنا هذه الآية بعض خصائص دعوة المرسلين. وبعض أخلاقهم. ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا واحدا منهم في دعوته وأخلاقه. إن مثل هذا الشبه الكامل بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الرسل السابقين مع ظهور الآيات معه دليل أي دليل على صدق نبوته ورسالته، وإن مثل هذا التشابه والتكامل في دعوات المرسلين- كما عرضها القرآن- ليدلك وحده على إعجاز هذا القرآن الذي لا يناقض شئ فيه شيئا آخر. فالقصة والتشريع والواقعة والحادثة والعظة كلها تخرج من مشكاة واحدة، وتؤدي هدفا واحدا، وهذا دليل على أن هذا القرآن من عند الله، لأن هذا غير مستطاع للبشر على مثل هذا الكمال. وبعد قصة إبراهيم تأتي الآن قصة نوح عليه السلام وهي المجموعة الرابعة، لتؤدي دورها في سياق هذه السورة. وقبل أن نذكر المجموعة الرابعة نحب أن نذكر أن آية المحور آتية في السياق البعيد للأمر ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فليست دعوة إبراهيم ودعواته إلا دخولا في السلم كافة. ***

المجموعة الرابعة: قصة نوح عليه السلام

المجموعة الرابعة: قصة نوح عليه السلام وتمتد من الآية 105 إلى الآية 122 وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) التفسير: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وإنما قال المرسلين مع أنهم كذبوا رسولهم وهو واحد لأنهم كانوا يكذبون ببعثة الرسل أصلا. أو لأن من كذب واحدا من الرسل فقد كذب الكل لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ من الآن فصاعدا أن كل قصة من القصص مبدوءة بهذه البداءة: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ وكل ذلك يأتي في مقدمة قصة هي آية من آيات الله، وكل ذلك يصب في الخاتمة التي تتحدث عن تكذيب المشركين والكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم المرسلين، لاحظ صلة ذلك بمحور السورة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لاحظ ختم الآية بكلمة المرسلين، ولاحظ ذكر كلمة المرسلين في خاتمة كل آية من الآيات الخمس ولنعد إلى التفسير: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أي أخوهم في العشيرة والنسب أَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره. قال النسفي: أي ألا تتقون خالق الأنام فتتركوا عبادة الأصنام. كلمة في السياق: نلاحظ أنه في كل قصة من قصص السورة ما عدا قصة إبراهيم وردت كلمة (ألا يتقون، أو ألا تتقون) ففي قصة موسى قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ. وفي قصة نوح أَلا تَتَّقُونَ وفي قصة هود أَلا تَتَّقُونَ وفي قصة صالح أَلا تَتَّقُونَ وفي قصة لوط أَلا تَتَّقُونَ وفي قصة شعيب أَلا تَتَّقُونَ وهذا المعنى مبثوث في القرآن كله كما سجلناه في كتاب (جند الله ثقافة وأخلاقا) وهذا من مظاهر الإعجاز في القرآن، إذ تجد كل معنى من معانيه تصب السور كلها في توضيحه واستكمال جوانبه بحيث لا يناقض شئ منه شيئا آخر. وقد دلتنا هذه الكلمة على أن الهدف الرئيسي من دعوات الرسل جميعا هو إيصال الناس إلى تقوى الله، ولنعد إلى التفسير: ..

[سورة الشعراء (26): آية 107]

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي، ولا أزيد فيها ولا أنقص منها فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الحق وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على هذا الأمر مِنْ أَجْرٍ أي جزاء إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم بل أدخر ثواب ذلك عند الله فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله وائتمنني عليه، فحق عليكم أن تجمعوا بين تقوى الله وطاعتي. قال النسفي: (كرره ليقرره في نفوسهم، مع تعليق كل واحد منهما بعلة، فعلة الأول كونه أمينا فيما بينهم، وعلة الثاني حسم طمعه منهم، كأنه قال: إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله، ثم إذا عرفتم احترازي من الأجر فاتقوا الله). كلمة في السياق: نلاحظ أنه قد جاء في قصة نوح عليه السلام قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وفي قصة هود جاء قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ثم بعد أربع آيات جاء قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وفي قصة صالح إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ* إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ثم بعد أربع آيات يأتي قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وفي قصة لوط يأتي قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ثم لا يتكرر الأمر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وفي قصة شعيب يأتي قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ثم يأتي بعد ثلاث آيات وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وفي كل مرة يتكرر قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ يكون لذلك نكتة سنراها، وحيث لا يتكرر فلذلك نكتة كذلك سنراها، وبشكل عام فإن كل رسول طالب قومه بالتقوى والطاعة، وأعلن أنه لا يريد على دعوته أجرا دنيويا مما يدل على أن الطاعة التي يريدها الرسل هي من أجل كمال الإنسان، وليست من أجل مقصد دنيوي، كما يطلبها أهل الدنيا استزادة للجاه، أو

[سورة الشعراء (26): آية 111]

رغبة في تحقيق هدف دنيوي من ورائها، وهذا أدب عظيم يجب أن يلاحظه وراث الأنبياء، وطلاب الوصول إلى رضوان الله، وإنه لا بد من أن يتربى الإنسان على التقوى لله وأن يعطي الطاعة لأهلها في الله، ثم إنه لا بد أن يلاحظ الدعاة ألا يطلبوا أجرا في مقابل الدعوة إلى الله، وهذه قضية مهمة جدا، قل من يلاحظ خفاياها في نفسه، وندر من يعطيها تطبيقاتها العملية، إن الصديقين وحدهم هم الذين يتفطنون لمثل هذه الشئون. وأما الرسل فالله عزّ وجل أعطاهم الكمال في كل شئ، وفي قول كل رسول: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ دليل على أن تعريف الإنسان بنفسه لتحقيق مقصد أخروي، أو مقصد تحتاجه قضية الدعوة إلى الله لا يعتبر من باب تزكية النفس المكروهة. ولنعد إلى التفسير: قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قال ابن كثير: يقولون لا نؤمن لك ولا نتبعك، ولا نتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين، الذين اتبعوك وصدقوك، وهم أراذلنا. وقال النسفي في تفسير الأرذلون: (بأنهم السفلة ومن كلامه: والرذالة: الخسة والدناءة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم، وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل كانوا من أهل الصناعات الدنيئة، والصناعة لا تزري بالديانة. فالغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى، ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا .. ). أقول: ومن كلامهم نعلم أن هناك ناسا يحول بينهم وبين الهدى تكبرهم عن أن يتبعوا رجلا التف حوله الفقراء والضعفاء جسما أو حالا قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنما أطلب منهم الإيمان، ومن ثم فمهما كانوا عليه فلا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص، إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي، وأكل سرائرهم إلى الله عزّ وجل إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ قال النسفي: قيل إنهم طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم، وقالوا: إن الذين آمنوا بك، ليس في قلوبهم ما يظهرونه فقال: ما علي إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن السرائر إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ إن الله يحاسبهم على ما في قلوبهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن كثير: كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه، فأبى عليهم ذلك. وقال النسفي: أي ليس من شأني أن أتبع شهواتكم بطرد المؤمنين طمعا في إيمانكم. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إنما بعثت نذيرا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه، سواء كان شريفا أو وضيعا، أو جليلا أو حقيرا. وقال النسفي (أي) ما علي إلا أن أنذركم

[سورة الشعراء (26): آية 116]

إنذارا بينا بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل، ثم أنتم أعلم بشأنكم، وفي ذلك كله دروس بليغة للدعاة إلى الله، فإن كثيرين يحرصون أن ينفض الناس عن الدعاة من خلال إيجاد هوة بين الداعية والمستجيبين له، وإن كثيرين يطالبون أن يعرض الدعاة عن الأتباع الفقراء، أو الضعفاء جسما أو عقلا أو سلوكا، وواجب الأتباع أن لا يخدعوا، وواجب الدعاة ألا يفعلوا، فمهما كانت ظواهر الخلق إليهم منقادة فعليهم قبولها، ومحاولة تزكيتهم، وهذا شئ وأن يخدع الداعية شئ آخر قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك لتكونن من المقتولين بالحجارة. وتلك عادة أعداء الله: أنهم يلجئون إلى التهديد في النهاية لثني الدعاة إلى الله عن دعوتهم، وهنالك دعا نوح عليهم قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ أي في وحيك ورسالتك فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي فاحكم بيني وبينهم حكما. قال النسفي: والفتاحة: الحكومة، والفتاح: الحاكم لأنه يفتح المستغلق، كما سمي فيصلا؛ لأنه يفصل بين الخصومات وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من عذاب عملهم إذا عاقبتهم فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي في السفينة المملوءة بالأمتعة والأزواج ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجاء نوح ومن آمن الْباقِينَ من قومه إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والإنجاء لَآيَةً أي لمعجزة ودلالة واضحة على الله عزّ وجل، وعلى صدق الرسل، وعلى صحة دعوتهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع قيام الدليل والحجة وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي المنتقم بإهانة وإهلاك من جحد وأضر الرَّحِيمُ أي المنعم بإعانة وإنجاء من وحد وأقر. ... كلمة في السياق: وهكذا عرض الله عزّ وجل علينا آية من آياته في قصة نوح وقومه، إذ كانت له العاقبة، وكان لهم الهلاك، وفي ذلك معجزة شاهدة على صدق الرسل فيما يقولونه عن الله، فليعرف ذلك الناس، وليحذر من يكذب محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر صلة ذلك كله بالآية التي هي محور سورة الشعراء من سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ***

المجموعة الخامسة: وفيها قصة هود عليه السلام

المجموعة الخامسة: وفيها قصة هود عليه السلام وتمتد من الآية (123) إلى نهاية الآية (140) وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) التفسير: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي مكان مرتفع آيَةً أي بناء هو من الضخامة في المكان المدهش: قال ابن كثير: (اختلف المفسرون في الريع بما حاصله: أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا تَعْبَثُونَ

[سورة الشعراء (26): آية 129]

أي تلعبون، أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للاحتياج إليه، بل لمجرد اللعب واللهو، وإظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة) هذا كلام ابن كثير، ويدخل فيما أنكره هود على قومه كثير من الأعمال التي يعملها الحكام الجاهليون ممن تنطبق عليه أوصاف ما أنكره هود عليه السلام وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ أي قصورا مشيدة، أو حصونا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي ترجون الخلود في الدنيا، أو لكي تقيموا فيها أبدا، وذلك ليس بحاصل لكم، بل زائل عنكم كما زال عمن قبلكم، ويبدو أن إنكار هود عليه السلام ذلك عليهم بسبب استغراقهم في القضايا المادية، والترف والنعيم الدنيويين بدون أي هدف غير الدنيا وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي وإذا أخذتم أحدا بعقوبة بطشتم جبارين قتلا بالسيف وضربا بالسوط، والجبار: هو الذي يقتل ويضرب على الغضب، وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت فَاتَّقُوا اللَّهَ في الكف عن الخطأ وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه من الاستقامة على أمر الله وعبادته. قال ابن كثير في الآية: (أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم) وبعد الإنكار والأمر شرع يذكرهم نعم الله عليهم، وهي طريقة من طرق الدعوة يعلمنا الله إياها: أن تبدأ بالإنكار، وتطالب بالاستقامة، ثم تذكر، ثم تعظ كما هاهنا وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي من النعم، ثم عددها عليهم فقال: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ قال النسفي: قرن البنين بالأنعام لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام عليها وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي وبساتين وينابيع وأنهارا. ثم أنذرهم فقال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن كذبتم وخالفتم، فماذا كان موقفهم من دعوة هود؟ قال ابن كثير: دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي لا نقبل كلامك ونرجع عما نحن عليه وعظت أم سكت إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ يعنون دينهم، وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الآباء والأجداد، ونحن تابعون لهم، سالكون وراءهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد. ولهذا قالوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ في الدنيا ولا في الآخرة؛ فإنه لا بعث ولا حساب فَكَذَّبُوهُ أي فكذبوا هودا فَأَهْلَكْناهُمْ بالريح الصرصر العاتية. كما ذكر في غير هذا المكان. قال ابن كثير: (أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده فأهلكهم الله. وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً أي دلالة على صدق الرسل في

[سورة الشعراء (26): آية 140]

دعواهم، وعلى صحة ما جاءوا به من الله وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع كثرة الآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ومن عزته أن يهلك أعداءه ويقهرهم الرَّحِيمُ ومن رحمته أن ينتصر لأوليائه. فوائد: 1 - بمناسبة الكلام عن عاد قال ابن كثير: (وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام، أنه دعا قومه عادا، وكان قومه يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل قريبا من حضرموت من جهة بلاد اليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح كما قال في سورة الأعراف وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد، والطول المديد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات والأنهار والأبناء، والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله هودا إليهم، رجلا منهم، رسولا وبشيرا ونذيرا، فدعاهم إلى الله وحده، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه). 2 - بمناسبة قوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ينقل ابن كثير نصا ذكره ابن أبي حاتم يدل على تخوف الصحابة على هذه الأمة؛ أن تأخذ بأسباب الترف والبنيان. قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم ... «أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان، ونصب الشجر (بأن قطعوها وجعلوها في القصور) قام في مسجدهم: فنادى يا أهل دمشق فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا تستحيون؟! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون! وتبنون ما لا تسكنون! وتأملون ما لا تدركون! إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟). 3 - ولابن كثير تحقيق رائع حول عاد وحول إرم ذات العماد. وكلامه في هذا المقام نفيس جدا فتأمله، وقد قاله بمناسبة قوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ قال: (أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده فأهلكهم الله، وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن، بأنه أرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية، أي ريحا شديدة الهبوب، ذات برد شديد جدا، فكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإنهم

كلمة في السياق

كانوا أعتى شئ وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (الفجر: 6، 7) وهم عاد الأولى كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (النجم: 5) وهم من نسل إرم ابن سام بن نوح ذاتِ الْعِمادِ الذين كانوا يسكنون العمد، ومن زعم أن إرم مدينة فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب، وليس لذلك أصل أصيل، ولهذا قال: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (الفجر: 8) أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال: التي لم يبن مثلها في البلاد. وقال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (فصلت: 15) وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور، عتت على الخزنة، فأذن الله لها في ذلك، فسلكت فحصبت بلادهم فحصبت كل شئ لهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها الآية. وقال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ إلى قوله: حُسُوماً أي كاملة فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (الحاقة: 7) أي بقوا أبدانا بلا رءوس، وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء، ثم تنكسه على أم رأسه، فتشدخ دماغه، وتكسر رأسه، وتلقيه كأنهم أعجاز نخل منقعر. وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ (نوح: 4) ولهذا قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ الآية). ... كلمة في السياق: جاءت المجموعة الخامسة فأضافت آية جديدة من الآيات التي يتلوها الله عزّ وجل في سورة الشعراء وهي، نموذج على آيات الله خلال العصور، يتلوها محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ لتقوم الحجة بها على رسالته، وصلة ذلك بقوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ واضحة، مما يؤكد أن ما ذهبنا إليه من كون هذه الآية هي محور سورة الشعراء في محله- والله أعلم- لقد عرض الله علينا في هذه السورة نماذج من آياته في الكون، ومن أفعاله خلال العصور: في تنوع أصناف النبات، وفيما فعل

بفرعون، وفي نبأ إبراهيم: وفيما فعل بقوم نوح، وفيما فعل بقوم هود، وفيما فعله بقوم صالح، وفيما فعله بقوم لوط، وفيما فعله بقوم شعيب، وكل آية تختلف عن أختها، وكلها تصب في التأكيد على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكلها تحذر المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكلها تأتي تردف بعضها بعضا لتوصل إلى الخاتمة التي هي المواجهة المباشرة للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونحب هنا أن نسجل ملاحظة هي: إن كثيرا من آيات القرآن تنتهي بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً .. * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ* وهذا يشير إلى أن القرآن لفت النظر في كتابه إلى آيات أخرى زائدة على الإعجاز القرآني. ففي القرآن كله إعجاز يجعل أقصر سورة أو قدرها من القرآن معجزة. لكن آيات القرآن نفسها لفتت النظر إلى آيات أخرى لله في الكون وفي التاريخ، وفي الواقع اليومي للمسلمين، فآيات القرآن تلفت النظر إلى كل علامة تدل على الله، وتدل على صدق رسله، هذا عدا عن معجزات كثيرة مبثوثة في القرآن، كأن يعرض عليك الله أحيانا سرا من أسرار الكون، أو سرا من أسرار الغيب. وهكذا نجد الآية الواحدة من القرآن قد حوت آيات، وهذه الآيات تتعاضد وتتكاثر في هذا القرآن، إن في الأسلوب، أو في اللفظ، أو في المعاني، أو في الأفق الذي تتحدث عنه الآيات، أو في الأفق الذي ترفع إليه الإنسان، هذا عدا عن كون هذا القرآن لا تجد فيه مظهرا من مظاهر الإسفاف، لا في المعنى، ولا في اللفظ، كما أنك لا تجد فيه مظهرا من مظاهر الضعف البشري إن في الأسلوب، أو في العرض، أو في تسجيل معان ضعيفة، أو في إثارة معنى شهواني، أو في الاستفادة من غريزة بشرية نازلة، هذا مع كونه حقا، ومع كونه هو الأعلى في اللفظ والأسلوب، والعرض وطرق الانتقال، ودقائق الوحدة في السورة والسياق، إن كتابا هذا بعض وصفه ليدل دلالة واضحة على أنه من عند الله، وليشهد شهادة كاملة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله. ***

المجموعة السادسة: وفيها قصة صالح عليه السلام

المجموعة السادسة: وفيها قصة صالح عليه السلام وتمتد من الآية (141) إلى نهاية الآية (159) وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) التفسير: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ*. قال ابن كثير: (وهذا إخبار من الله عزّ وجل عن عبده ورسوله صالح عليه السلام، أنه بعثه إلى قومه ثمود، وكانوا عربا يسكنون مدينة الحجر، التي بين

[سورة الشعراء (26): آية 146]

وادي القرى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة مشهورة. وقدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد ثغور الشام، فوصل إلى تبوك، ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك، وكانوا قبل عاد وقبل الخليل عليه السلام، فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عزّ وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه، وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عزّ وجل، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم) فقال: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم آمِنِينَ من العذاب والزوال والموت، ثم فسر ما كانوا به فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي بساتين وينابيع وَزُرُوعٍ يدخل في ذلك الحبوب وغيرها مما يزرع سنويا وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ الطلع: هو ما يخرج من النخل، كنصل السيف والهضيم: هو اللين النضيج، قال النسفي: كأنه قال ونخل قد أرطب ثمره. وَتَنْحِتُونَ أي وتنقبون مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي شرهين أشرين بطرين عابثين من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم، وهي معروفة على بعد حوالي أربعمائة كيلومتر من المدينة المنورة. ولا زالت تدهش من يراها لدقة صنعها، والحذاقة في ذلك، والجهد المبذول فيه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قال ابن كثير: (أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم؛ لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ أي الكافرين أو المتجاوزين الحد. ثم عرف هؤلاء المسرفين فقال: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والكفر والصد عن سبيل الله وَلا يُصْلِحُونَ بالإيمان والعدل، وفي هذا دليل على أن فسادهم ليس معه شئ من الصلاح والإصلاح. ملاحظة: إن قول صالح عليه السلام .. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ يفيد أن الطاعة ينبغي أن تعطى للرسول صلى الله عليه وسلم كاملة، وأن لا تعطى لكل مسرف مفسد غير مصلح، وموضوع الطاعة من أخطر مواضيع العصر، فنادرا ما تجد مسلما يضع الطاعة في محلها، فهو إما متمرد على كل شئ، أو مطيع لمسرف أو يرفض الطاعة لأي أحد، أو لا يعرف لمن يعطي

[سورة الشعراء (26): آية 153]

الطاعة. إن الطاعة في الإسلام يجب أن تعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرائه الذين أمرهم، ثم لخلفائه الراشدين، ومن أمره الخلفاء الراشدون، ثم لجماعة المسلمين وإمامهم، حيث وجد للمسلمين جماعة وإمام، ولا يجوز للمسلم أن يعطي طاعته لكل صاد عن سبيل الله، غير ملتزم بالإسلام، ولهذا الموضوع حيثيات كثيرة، محلها في سلسلتنا (في البناء). ولنعد إلى التفسير: قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي: من المسحورين الذين سحروا حتى غلبوا على عقولهم ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي في دعوى الرسالة قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ أي نصيب من الماء فلا تزاحموها فيه وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي لا تزاحمكم هي فيه وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بضرب أو عقر أو غير ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لحلول العذاب فيه. قال ابن كثير: .. (حذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها، يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا، فلما طال عليهم الأمد، وحضر أشقاهم تمالئوا على قتلها وعقرها) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها، خوفا من نزول العذاب بهم، لا ندم توبة، أو ندموا حين لا ينفع الندم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ قال ابن كثير: (وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين). وإنما عذب الجميع مع أن العاقر واحد، والمؤتمرين تسعة- كما سنرى في سورة النمل- إلا أن الجميع كانوا راضين، فأصابتهم سنة الله في الاستئصال، وذلك أنهم هم الذين اقترحوا الآية، وأجابهم الله، وسنة الله أن من كفر بعد أن جاءته آية اقترحها، أن يستأصل، وهؤلاء اعتدوا على الآية نفسها، فأي كفر أكبر من ذلك؟ وبمناسبة اقتراحهم الآية. قال ابن كثير: (ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقة بما جاءهم به من ربهم، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء- وأشاروا إلى صخرة عندهم- من صفتها كذا وكذا، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق، لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به، وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى، ثم دعا الله عزّ وجل أن يجيبهم

[سورة الشعراء (26): آية 159]

إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء، على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم وكفر أكثرهم). إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما فعل الله بقوم صالح لَآيَةً لدلالة وعلامة على صدق الرسل في صحة رسالتهم من الله وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع وجود الآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ومن عزته أن يقهر أعداءه والكافرين به الرَّحِيمُ ومن رحمته أن ينصر أولياءه على أعدائه. ... فائدة: استدل الفقهاء بقوله تعالى: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ على جواز المهايأة في بعض الأموال المشتركة: قال النسفي: (وهذا دليل على جواز المهايأة لأن قوله تعالى: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ من المهايأة) قال فقهاء الحنفية: (المهايأة جائزة استحسانا .. وتجوز في دار واحدة: بأن يسكن كل منهما طائفة، أو أحدهما علوها والآخر سفلها، ولكل واحد إجارة ما أصابه، وأخذ غلته .. ولو تهايئا في دارين، على أن يسكن كل واحد دارا جاز .... ولو تهايئا في البيت الصغير على أن يسكن هذا مدة وهذا مثلها جاز ولا تجوز في ركوب دابة ولا دابتين؛ لأن الركوب يختلف باختلاف الراكب، لأن منهم الحاذق، والجاهل، فلا تحصل المعادلة .. ولا تجوز في ثمرة الشجرة ولا في لبن الغنم وأولادها لأن ما يحصل من ذلك يتفاوت ... وتجوز المهايأة بين مختلفي المنفعة كسكنى الدار وزرع الأرض، وكذا الحمام والدار؛ لأن كل واحد من المنفعتين يجوز استحقاقها بالمهايأة) اه. بتصرف لا يخل بالمعنى من كتاب الاختيار. كلمة في السياق: وبقصة صالح عليه السلام عرض علينا ربنا عزّ وجل آية سادسة تدل على صحة رسالات رسله، وتحذر من تكذيب رسوله، وصلة ذلك كله بقوله تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ واضحة، ولا نحب أن نقف هاهنا لأن ما مر معنا من قبل من ملاحظات، وكلمات في السياق، كاف لأن المقام واحد. فلننتقل إلى المجموعة السابعة.

المجموعة السابعة: وفيها قصة لوط عليه السلام

المجموعة السابعة: وفيها قصة لوط عليه السلام وتمتد من الآية (160) إلى نهاية الآية (175) وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) التفسير: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام، وكانوا يسكنون سدوم، وأعمالها التي اهلكها الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية حيال البيت المقدس، بينها وبين بلاد الكرك والشوبك، فدعاهم إلى الله عزّ وجل أن

[سورة الشعراء (26): آية 165]

يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكور دون الإناث ولهذا قال تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ أي أتطئون الذكور من الناس مع وجود الإناث، أو أتطئون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران، أي أنتم مختصون بهذه الفاحشة وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي وتتركون فروج الأزواج وقد أباحها الله لكم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي متجاوزون للحد في العدوان، أي بل أنتم قوم أحق بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه الفظيعة، وبدلا من أن يستجيبوا لمنطق الهدى والفطرة والعقل كان جوابهم قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ هددوه بالنفي من بين أظهرهم. والمعنى: لتكونن من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال، فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه، وأنهم مستمرون على ضلالتهم، تبرأ من عملهم، وسأل الله نجاته، ونجاة أهله من عملهم قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي المبغضين لا أحبه ولا أرضى به رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من الوقوع في عملهم، ومن عقوبته في الدنيا والآخرة فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ يعني بناته ومن آمن معه أَجْمَعِينَ أي كلهم إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ هي امرأة لوط، وكانت راضية بالمعصية، والراضي بالمعصية في حكم العاصي، فكانت من الغابرين، أي في الباقين في العذاب فلم تنج منه ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي استأصلناهم بالهلاك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً من حجارة زيادة على جعل عالي بلادهم سافلها فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي الذين أنذروا فكذبوا فعوقبوا بمثل هذا المطر إِنَّ فِي ذلِكَ أي في فعل الله بقوم لوط وإنجائه لوطا لَآيَةً أي لدلالة على وجود الله وإرساله الرسل، وتوليه لهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع كثرة الآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ومن عزته أن يستأصل من شاء الرَّحِيمُ ومن رحمته أن ينجي رسله والمؤمنين. فائدة: من العقوبة الشديدة التي حلت بقوم لوط نعلم فظاعة الجريمة التي كانوا عليها ومن قوله تعالى في الآيات: وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ نعلم أن دبر

نقل

المرأة محرم على الأزواج في كل الشرائع. قال النسفي: (وفيه دليل على تحريم أدبار الزوجات والمملوكات ومن أجازه فقد أخطأ خطأ عظيما). ... نقل: قال صاحب الظلال بمناسبة الكلام عن لوط وقومه في هذه السورة: (والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط (وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن) هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور، وترك النساء. وهو انحراف في الفطرة شنيع. فقد برأ الله الذكر والأنثى؛ وفطر كلا منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل، الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى. فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون. فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف، ولا يحقق غاية، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه. وعجيب أن يجد فيه أحد لذة. واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق الحكمة. فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط. ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا، لخروجهم من ركب الحياة، ومن موكب الفطرة، ولتعريهم من حكمة وجودهم، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد) (خسفت قراهم وغطاها الماء. ومنها قرية سدوم. ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميت في الأردن. وبعض علماء طبقات الأرض يؤكدون أن البحر الميت يغمر مدنا كانت آهلة بالسكان. وقد كشف بعض رجال الآثار بقايا حصن بجوار البحر، وبجواره المذبح الذي تقدم عليه القرابين). ... كلمة في السياق: نلاحظ في قصة موسى أن الخطيئة البارزة التي جاء موسى عليه السلام لعلاجها هي الظلم المتمثل بادعاء فرعون الربوبية، وظلمه لبني إسرائيل. وأن الخطيئة البارزة التي جاء إبراهيم لعلاجها هي شرك قومه وعبادتهم الأصنام، وأن الخطيئة البارزة التي جاء

نوح عليه السلام لعلاجها هي الشرك، وأن الخطيئة البارزة التي جاء هود وصالح يعالجانها هي الشرك مع البطر، وأن الخطيئة البارزة التي جاء لوط عليه السلام يعالجها هي إتيان الذكور مع الشرك. فالشرك هو العلة التي تنبع عنها كل الخطايا. وكما أن مهمة الرسل هي هداية الناس إلى الله رب العالمين فإن مهمتهم أن يبعدوا الناس عن الخطايا كلها، وواضح من السياق أن من مظاهر تأييد الله لرسله عليهم الصلاة والسلام أن يهلك المعاندين هلاك استئصال في النهاية. وفي ذلك آيات تشهد على صدق الرسل ووجود الله. وإذ كان محمد عليه الصلاة والسلام يدعو إلى ما دعا إليه كل الرسل السابقين. فهذا دليل واضح من أدلة رسالته، فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ولنتذكر صلة ذلك كله بقوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ولننتقل إلى المجموعة الثامنة: ***

المجموعة الثامنة: وفيها قصة شعيب عليه السلام

المجموعة الثامنة: وفيها قصة شعيب عليه السلام وتمتد من الآية (176) إلى نهاية الآية (191) وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) بين يدي المجموعة الثامنة: قال صاحب الظلال: (وأصحاب الأيكة هم- غالبا- أهل مدين. والأيكة: الشجر الكثيف الملتف. ويبدو أن مدين كانت تجاورها هذه الغيطة الوريفة من الأشجار. وموقع مدين بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة).

التفسير

التفسير: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ليس لنا ما نقوله حول هذه الآيات سوى الكلام عن أهل الأيكة، والأيكة في اللغة: هي الغيضة تنبت ناعم الشجر. والمفسرون مختلفون: هل أصحاب الأيكة هم أهل مدين نفسها، أو أنهم غيرهم؟ وقد أرسل شعيب مرتين: مرة لمدين، ومرة لأهل الأيكة؟ للمفسرين قولان في هذا الشأن، وبعضهم يرى أن شعيبا أرسل ثلاث مرات، وقد كانت المرة الثالثة لأصحاب الرس، والذي رجحه ابن كثير: أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين. بدليل أنهم أمروا بوفاء المكيال والميزان، كما ورد في قصة مدين سواء بسواء. وقد رد ما استدل به بعضهم من أحاديث أو آثار بأنها ضعيفة، أو غريبة، أو غير مرفوعة. ومن كلامه في هذا المقام: (هؤلاء- يعني أصحاب الأيكة- هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هاهنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة وهي شجرة وقيل شجر ملتف كالغيضة، كانوا يعبدونها، فلهذا قال: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ولم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب وإنما قال: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبا. ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيبا عليه السلام بعثه الله إلى أمتين ومنهم من قال إلى ثلاث أمم .. والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء، ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء. فدل ذلك على أنهما أمة واحدة). أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي أتموه ولا تنقصوا الناس حقوقهم. قال النسفي: (فالكيل واف وهو مأمور به، وطفيف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فتركه دليل على أنه إن فعله فقد أحسن، وإن لم يفعل فلا شئ عليه) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ أي الميزان أو القبان الْمُسْتَقِيمِ أي الذي لا عوج فيه وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم حقوقهم المالية وغيرها وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي ولا تبالغوا فيها في الإفساد، كأن تقطعوا الطريق، وتغيروا وتهلكوا الزروع وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ أي وحلق الجبلة الْأَوَّلِينَ أي وخلق الخلق الأولين. فالجبلة: هي الخلق، فماذا كان جوابهم على هذه الأوامر والنواهي العادلة؟ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من

[سورة الشعراء (26): آية 186]

المسحورين. نفس الجواب الذي أجابت به ثمود، فالقلوب متشابهة وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلست برسول كما تزعم وَإِنْ أي وإنه نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي تتعمد الكذب فيما تقوله، لا أن الله أرسلك إلينا فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا مِنَ السَّماءِ أي من السحاب، أو من جهة فوق إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي في دعوى النبوة، وهو نفس ما قالته قريش، كما ورد في سورة الإسراء وسورة الأنفال، فقلوب الكافرين متشابهة، وألفاظهم متشابهة قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي إن الله أعلم بأعمالكم وبما تستحقون عليها من العذاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فإليه الحكم والمشيئة فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال ابن كثير: (وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم، فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم، مدة سبعة أيام، لا يكنهم منه شئ، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر، فلما اجتمعوا كلهم تحتها، أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم) إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك لَآيَةً أي لدلالة واضحة على الله وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع وجود الآيات وكثرتها وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ومن عزته أن ينتقم من أعداء رسله ومكذبيهم الرَّحِيمُ ومن رحمته أنه لا يتخلى عن رسله وأوليائه، بل يصدقهم وينتقم لهم وينجيهم. ... فوائد: 1 - رأينا أن القول الذي اعتمده ابن كثير أن أصحاب الأيكة هم قوم مدين، ورأينا دليله. وهاهنا نحب أن ننقل الأقوال الأخرى: قال ابن كثير: (روى إسحاق بن بشر الكاهلي- وهو ضعيف- عن خصيف عن عكرمة قالا: ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا. مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة. وروى أبو القاسم البغوي عن قتادة في قوله تعالى: وَأَصْحابَ الرَّسِّ* قوم شعيب وقوله وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ* قوم شعيب، وقاله إسحاق بن بشر. وقال غير جويبر: أصحاب الأيكة ومدين هما واحد والله أعلم. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة .. عن عبد الله

ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه السلام». وهذا غريب وفي رفعه نظر، والأشبه أن يكون موقوفا. والصحيح أنهم أمة واحدة، وصفوا في كل مقام بشيء، ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة). 2 - ورد إهلاك قوم شعيب في أكثر من مكان في القرآن، وفي كل مرة عرض فيه نوع مما أصابهم، ومن ثم قال ابن كثير: (وقد ذكر الله صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق، ففي الأعراف الآية (88) ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة، وفي سورة هود قال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ* وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ* الآية وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال قتادة قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شئ، ثم إن الله أنشأ لهم سحابة فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها بردا وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارا، وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة، وأحمى عليهم الشمس، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها، فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد، ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم، فأرسل الله عليهم الظلة فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلا أطيب ولا أبرد من هذا، هلموا أيها الناس، فدخلوا جميعا تحت الظلة، فصاح بهم صيحة فماتوا جميعا، ثم تلا محمد بن كعب فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وروى محمد بن جرير .. عن يزيد الباهلي سألت ابن عباس عن هذه الآية: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ

كلمة في السياق

يَوْمِ الظُّلَّةِ الآية قال: بعث الله عليهم رعدا وحرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرابا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردا ولذة، فنادى بعضهم بعضا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا. قال ابن عباس فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي العزيز في انتقامه من الكافرين، الرحيم بعباده المؤمنين). 3 - لاحظنا أنه من أول السورة حتى هنا قد تكرر في آخر كل مجموعة قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* كما رأينا تشابها في بدايات المجموعات: الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة. وقد قال النسفي فى حكمة ذلك ما يلي: (وقد كرر في هذه السورة في أول قصة وآخرها ما قرر تقريرا لمعانيها في الصدور ليكون أبلغ في الوعظ والزجر، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت جديرة بأن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به). كلمة في السياق: ورد معنا حتى الآن في السورة ثمان مجموعات، ولم يبق عندنا إلا الخاتمة التي سيقت المجموعات الثمانية قبلها لتصب في خدمتها، إذ الخاتمة تتحدث عن المعجزة القرآنية، وتحذر من الإعراض عنها، ومن عصيان الرسول الذي أنزلت عليه، كما تتحدث عن بعض واجبات هذا الرسول، وعن نزاهته من أن يكون كاذبا. فالمجموعات السابقة لفتت النظر إلى آيات من آيات الله تدل عليه، وتشهد على عزته ورحمته، وفيها تقرير لرسالة المرسلين الذين منهم محمد صلى الله عليه وسلم وفيها تحذير من مخالفة المرسلين الذين منهم محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا اتضح التقرير والتحذير من خلال عرض آيات الله في الكون وفي التاريخ، يتجه السياق الآن للكلام المباشر عن القرآن والرسول، إذ الوصول إلى الكلام عن ذلك هو المقصود الأكبر من السياق في السورة، التي تفصل قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وقد تلا الله عزّ وجل علينا في كل مجموعة آية من آياته وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ودليل ذلك هذه الآيات المنزلة عليك، فليحذر مكذبوك ومخالفوك، وتأمل مطلع الخاتمة وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ* أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ

آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ* لتجد أن ما سبق من السورة يخدم هذه الخاتمة، وأن الخاتمة امتداد للسورة من حيث إنها تعرض لنا آية جديدة من آيات الله في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإرساله وإنزال القرآن الذي هو معجزة عليه. ***

الخاتمة وهي المجموعة التاسعة

الخاتمة وهي المجموعة التاسعة وتمتد من الآية (192) إلى نهاية السورة. أي إلى نهاية الآية (227) وهذه هي: [سورة الشعراء (26): الآيات 192 الى 227] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

التفسير

التفسير: وَإِنَّهُ قال ابن كثير: أي القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك. ... ملاحظة في السياق: مر معنا في قصة موسى عليه وصف رب العالمين قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. ومر معنا في قصة إبراهيم وصف رب العالمين إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ .. والآن يأتي معنا أن رب العالمين هو منزل هذا الكتاب وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وفي ذلك نوع من التكامل في سياق السورة. فليتفطن إليه. ...

[سورة الشعراء (26): آية 193]

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ أي جبريل وهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء فجبريل هو الأمين على وحي الله، وسمي روحا لأنه ينزل بالوحي الذي هو حياة لقلب الإنسان عَلى قَلْبِكَ أي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل على أن القلب هو مركز التلقي عن عالم الغيب، القلب الذي في الصدر وليس الدماغ كما توهم بعضهم، وهو قلب غيبي، بينه وبين القلب الصنوبري صلة وهو موضوع فصلناه في كتابنا (تربيتنا الروحية) لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكفر به، وتبشر به المؤمنين المتبعين بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي فصيح وواضح وصحيح. قال ابن كثير: (أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل؛ ليكون بينا واضحا ظاهرا، قاطعا للعذر، مقيما للحجة دليلا إلى المحجة). كلمة في السياق: لاحظنا أن محور السورة هو قوله تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ولاحظنا أن كل مجموعة من المجموعات الثمانية السابقة على هذه المجموعة حدثتنا عن آية من آيات الله. ولكن الآيات الأربع السابقة تنصب على أن هذا القرآن من عند الله، أنزله الله ليكون محمد صلى الله عليه وسلم من المنذرين، وإذن فهي تفصيل مباشر للآية تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وخاصة في شقها الأخير وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فلنلاحظ ذلك ولنتدبر الخاتمة على ضوء ذلك. ... وَإِنَّهُ أي القرآن لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي لموجود ذكره، أو لموجودة معانيه في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، والتي أنزلها الله نصا كالكتب السماوية، أو أوحى معانيها وسجلت لا ككتب سماوية، ولكن كوحي عن الله. هذا شئ ظاهر وواضح، فإنك عند ما تقرأ كتب العهد القديم والجديد- على تحريفها- تجد القرآن قد استوعبها، وأن كثيرا من معاني القرآن موجود فيها، مما يدل على وحدة الوحي، وأن هذا القرآن من نفس المصدر، وفي كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) ذكرنا مجموعة البشارات الواردة بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن في الكتب الدينية فليراجع. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أي للخلق عامة، لأنهم جميعا مكلفون بالإيمان بهذا القرآن آيَةً أي علامة واضحة، ومعجزة كاملة، تدل على أنه منزل من عند الله أَنْ يَعْلَمَهُ أي أن يعلم

كلمة في السياق

هذا القرآن عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ والمراد منهم المنصفون العدول، فهؤلاء يعلمون أن هذا القرآن موجود فيه التوراة والزبور والإنجيل، وأن ما فيه حق من عند الله، وأنه هو الذي بشرت به وبصاحبه الكتب السابقة، ويدخل في هؤلاء كل من أسلم من علماء التوراة والزبور والإنجيل سابقا ولا حقا، كورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وغيرهم حتى يومنا هذا وما بعده. فما من عالم بكتب العهد القديم والجديد يدخل في الإسلام إلا وفي دخوله معجزة لهذا القرآن، وشاهد على صدقه، وأنه من عند الله. كلمة في السياق: كما أنه في كل مجموعة من مجموعات السورة لفت الله نظرنا فيها إلى آية، فإن هذه المجموعة الأخيرة قد لفت الله نظرنا فيها إلى آية، هي علامة على صحة هذا القرآن، وأنه من عند الله بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وهذا مظهر من مظاهر ارتباط الخاتمة بسياق السورة وبمحورها. وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الأعجمون: جمع أعجم وهو الذي لا يفصح، والمراد به هنا من لا يفصح بلسان العرب، أي ليس عربيا، ولا يتقن العربية، ولا يحسن الحديث بها فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ أي فقرأ هذا القرآن على العرب أو على الناس ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مما يدل على أن عدم الإيمان ليس لعدم وضوح الحجة، بل لمرض في العقل والقلب والروح. قال النسفي في الآيتين: (والمعنى: أنا أنزلنا القرآن على رجل عربي مبين، ففهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على أن البشارة بإنزاله وصفته في كتبهم، وقد تضمنت معانيه وقصصه، وصح بذلك أنها من عند الله، وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به، وسموه شعرا تارة، وسحرا أخرى، وقالوا: هذا من افتراء محمد عليه الصلاة والسلام، ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية- فضلا عن أن يقدر على نظم مثله- فقرأه عليهم هكذا معجزا، لكفروا به كما كفروا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا، ولسموه سحرا). كَذلِكَ سَلَكْناهُ أي أدخلنا التكذيب أو الكفر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه، يعني مثل هذا السلك سلكناه

[سورة الشعراء (26): آية 201]

في قلوبهم، وقررناه فيها، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الكفر به، والتكذيب له، وقد دلت الآية على أن صفة الإجرام إذا تلبس بها إنسان، حالت بينه وبين قبول الحق لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي حتى يعاينوا الوعيد، والمراد به معاينة العذاب الأليم عند الموت، ويكون ذلك إيمان يأس فلا ينفعهم. أو المراد به العذاب الرباني في الدنيا فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بإتيانه فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي يسألون النظرة، والإمهال طرفة عين، فلا يجابون إليها. كلمة في السياق: لاحظنا أنه في نهاية كل مجموعة كان يرد قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وهذا المعنى نفسه يصاغ في الخاتمة على هذا الشاكلة: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ* وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ* كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ .. فموقف الناس من الآيات هو موقفهم، الأكثرية لا تؤمن، والسبب هو أن الأكثرية مجرمة. فالعلة في الرفض هي الإجرام. ... ولنعد إلى التفسير: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ هذا إنكار عليهم وتهديد لهم، لأنهم مع تكذيبهم يستعجلون العذاب. ... كلمة في السياق: لاحظنا من خلال عرض القصص السابقة أن الاستعجال بالعذاب دأب الأمم السابقة، وفي الخاتمة يسجل الله عزّ وجل استعجال الكافرين من هذه الأمة للعذاب، وذلك من جملة مظاهر كون خاتمة السورة امتدادا لسياقها. بل إن كل آية في الخاتمة تكاد تكون امتدادا لمعنى ورد من قبل، ويأتي الرد على المستعجلين بالعذاب بقوله تعالى: ...

[سورة الشعراء (26): الآيات 205 إلى 206]

أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي به في تلك السنين. أي لو أخرناهم، وأنظرناهم، وأملينا لهم برهة من الدهر، وحينا من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شئ يجدي عنهم ما كانوا به من النعيم؟ ثم قال تعالى مخبرا عن عدله، وأنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم، وبعثة الرسل إليهم، وقيام الحجة عليهم فقال: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أي رسل ينذرونهم ذِكْرى أي فعلنا ذلك تذكرة وموعظة وإقامة حجة وَما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك قوما لا يستحقون الهلاك. والمعنى: وما ظلمنا إذ أهلكنا لأننا ما أهلكنا من أهل قرية إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم. كلمة في السياق: يأتي قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ* ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ كرد ثان على استعجالهم العذاب؛ إذ يبين الله سنة من سننه في هذا الشأن، والملاحظ أنه يأتي هذا الموضوع في الخاتمة، بعد أن عرض الله علينا في السورة ستة نماذج على إهلاكه قرى أنذرت فكذبت، ومن ثم تعرف معنى قولنا كيف أن ما ذكر قبل الخاتمة يصب في خدمة الخاتمة، وأن كل آية في الخاتمة مرتبطة بسياق السورة الخاص بشكل بارز وواضح، وبعد أن أثبت الله أنه هو الذي أنزل هذا القرآن، وأقام الحجة على ذلك وعرض لموقف المجرمين، وسبب هذا الموقف، ورد على استعجالهم العذاب، يأتي الآن نفيه القاطع أن يكون للشياطين صلة بموضوع إنزال هذا القرآن، ومجيء هذا النفي هنا يشير إلى الشبهة الكافرة الجاحدة التي لا زال الكافرون يثيرونها وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم (وحاشاه بأبي هو وأمي) كانت له حالات غير صحية تحدث له فيها تخيلات وأوهام، هي أثر عن وسوسات وصرعات، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ما أجهلهم بالطب، وما أجهلهم بالقرآن، وما أجهلهم بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجهلهم بظاهرة الوحي، وما أظلمهم وأسفههم. قال تعالى: ... وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ وذلك لثلاثة أسباب، ذكرها على

[سورة الشعراء (26): آية 212]

الترتيب: فقال: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ قال ابن كثير: (ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم، أي ليس هو من بغيتهم، ولا من طلبتهم، لأن من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وقوله تعالى: وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله ولهذا قال تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ كما قال تعالى مخبرا عن الجن وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً إلى قومه أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً. (الجن: 8 - 10) وإذ قامت الحجة الكاملة على أن هذا القرآن من عند الله، وأن الله أنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين. فإن السياق الآن يتجه إلى النذير، آمرا ناهيا، موجها مؤدبا معلما، وفي ذلك وحده آية على أن هذا القرآن من عند الله؛ إذ تجد فيه آمرا أعلى لا تجد في أوامره أثرا للضعف البشري كما تجد أن محمدا مأمور، مقامه العبودية فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وما كان محمد صلى الله عليه وسلم ليفعل، ولكنه التحريك له على زيادة الإخلاص، والتربية لغيره، ثم لبيان أن منزل هذا القرآن رب العالمين وأن مقام محمد صلى الله عليه وسلم العبودية، وأنه إذا أخل بمقام العبودية فشأنه أن يعذب: فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ فما أجهل الناس بالله. ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخص عشيرته الأقربين بالدعوة، وفي ذلك كذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخصيص الأقربين بالدعوة دليل على أن الأمر جد وحق وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ثم يصدر له الأمر بخفض الجناح للمؤمنين، وفي ذلك دليل آخر على أن القرآن من عند الله، فليست المسألة هنا مسألة زعامة، ولا جاه، ولا طلب كبرياء، فلو كان القرآن أثرا عن كبرياء بشر ما كان فيه مثل هذا الأمر

[سورة الشعراء (26): آية 216]

وَاخْفِضْ جَناحَكَ أي وألن جانبك وتواضع لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من عشيرتك وغيرهم، أما الكافرون فالأدب في شأنهم يختلف باختلاف حالهم فَإِنْ عَصَوْكَ بالمخالفة فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أمره أن يتبرأ من أعمالهم العاصية، لا من ذواتهم. ولما كان الإنذار والتبرؤ من معصية العاصين فيه مخاطر، ولما كان خفض الجناح قد يؤدي إلى أن يسئ المخفوض له الجناح الأدب، جاء الأمر بالتوكل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ العزيز الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته، أي توكل عليه في جميع أمورك؛ فإنه مؤيدك، وحافظك، وناصرك، ومظفرك، ومعل كلمتك الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ أي من الليل متهجدا وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي ويرى تقلبك في المصلين، أي حين تقوم للصلاة بالناس جماعة إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله الْعَلِيمُ بما تنويه وتعلمه. قال النسفي: (هون عليه معاناة مشاق العبادات، حيث أخبره برؤيته له، إذ لا مشقة على من يعمل بمرأى مولاه. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أنه في كل مجموعة من المجموعات الثمانية السابقة ورد في خاتمتها قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وذلك بعد ذكر مظهر من مظاهر عزته ورحمته، وهاهنا رأينا قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ... أي الذي رأيت مظاهر عزته ورحمته فيما مضى، بحيث يورثك العرفان الكامل، والتوكل الأعلى، كيف وهو الذي يراك في أحوالك كلها، ويراك في أعلى مقامات عبوديتك مصليا في الليل منفردا، وإماما في الليل والنهار. وإذن فالصلة بين آيات الخاتمة وسياق السورة واضح في كل آية من آيات الخاتمة. 2 - لو أنك وضعت الآيات التي مرت معنا أخيرا بجانب آية المحور فماذا ترى؟ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (البقرة) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ

[سورة الشعراء (26): آية 221]

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ* إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الشعراء) إنك عند ما تقرأ آية المحور ثم تقرأ بعدها هذه الآيات فإنك تشعر كأنك في موضوع واحد، وهذا من مظاهر صلة السورة بالمحور. ... إن شكر نعمة الرسالة يقتضي توحيدا وإنذارا وخفض جناح وتوكلا، ومن ثم طالبت الآيات الأخيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. ... 3 - ولم يبق معنا من السورة إلا سبع آيات فلنر محلها من الخاتمة كمقدمة لعرضها: تحدثت الخاتمة أن منزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم هو الله رب العالمين، ثم برهنت على ذلك، ثم ذكرت موقف المجرمين من ذلك وردت عليه، ثم نفت أن يكون هذا القرآن من تنزل الشياطين، ثم أمرت ونهت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الأوامر العالية ليقوم بواجب الشكر، وإذ كانت الشبهتان الكبيرتان حول هذا القرآن هما: شبهة أن يكون من وساوس الشياطين، وشبهة أن يكون أثرا أدبيا نابعا عن بلاغة شاعر فإن السياق الآن يتجه لينفي هاتين الشبهتين. ... هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي هل أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ من البشر؟ الجواب تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أي كذاب أَثِيمٍ أي مرتكب للآثام، إذ إنهم ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة يُلْقُونَ السَّمْعَ أي يلقي الشياطين السمع رغبة منهم أن يتعرفوا خبر السماء وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي فيما ينقلونه، ومن ثم فلا يمكن أن يكون هذا القرآن منهم، أو له صلة فيهم، فالقرآن حق خالص، وما ينقلونه فيه الباطل الكثير، ولا مشاكلة بينهم وبين محمد عليه الصلاة والسلام. فمحمد صادق وهم كاذبون. ...

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أنه ورد أولا قوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ثم ورد قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ وفي الوسط جاء قوله تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ* وَأَنْذِرْ .. وَاخْفِضْ .. وَتَوَكَّلْ .. فكأن الله عزّ وجل جعل في الوسط هذه الآيات ليبين أن كتابا يأمر هذه الأوامر، ورسولا يتلقى هذه الأوامر، لا يمكن أن يكون ذلك أثرا عن عالم الشياطين الكاذبين الآثمين، الذين يأتون أمثالهم من الكاذبين الآثمين، ليسيروهم في طريق الكذب والإثم. وقد لاحظ النسفي أن السياق يصب كله في معنى واحد هو التنزيل وعلل لذكر معان أخرى فيما بين ذلك بقوله: (وإنما فرق بين) وإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وهَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ وهن أخوات لأنه إذا فرق بينهن بآيات ليست منهن ثم رجع إليهن مرة بعد مرة دل ذلك على شدة العناية بهن، كما إذا حدثت حديثا وفي صدرك اهتمام بشيء فتعيد ذكره، ولا تنفك عن الرجوع إليه). فكأن النسفي لاحظ أن المعنى الرئيسي في الخاتمة إنما هو إثبات التنزيل، وأنه من عند الله رب العالمين، فإذا اتضح هذا عرفنا حكمة ختم السورة بالكلام عن الشعراء، فلنر ذلك ثم نعلق عليه. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي السفهاء الضلال. ومحمد صلى الله عليه وسلم يتبعه المهتدون ومن ثم فليس شاعرا. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ أي أن الشعراء فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي في كل لغو يخوضون، وفي كل فن من الكلام يتكلمون كذبا أو باطلا أو غير ذلك، بينما هذا القرآن يمشي على سنن واحدة، وطريقة واحدة، ونسق واحد، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس شاعرا، لا بأخلاقه، ولا بسلوكه، ولا بكلامه، فكيف يسمى القرآن شعرا ومحمد شاعرا وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ومحمد صلى الله عليه وسلم بشهادة الجميع لا يقول إلا ما يفعل. وقد ذكرنا في كتابنا (الرسول) شهادات الجميع على ذلك، ومن ثم- ولهذه الأشياء جميعا- فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس شاعرا، ولا يمكن أن يكون القرآن شعرا. فسياق الآيات إذن للتدليل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس شاعرا، وعلى أن القرآن ليس شعرا، بل هو تنزيل رب العالمين. وإذ كان السياق لتأكيد هذا المعنى فقط،

[سورة الشعراء (26): آية 227]

وليس لذم الشعر أيا كان، أو لذم الشعراء أيا كانوا، فقد استثنت الآيات من الشعراء المذمومين من صاغهم هذا القرآن، وهذا الإسلام، وذلك لا يخرق الحجة السابقة؛ لأن هؤلاء لولا القرآن والإسلام ما كانوا كذلك إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، وشعراء الإسلام في كل العصور وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً فتراهم مسبحين، مهللين، مكبرين، حامدين، قارئين للقرآن وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي هم يستعملون شعرهم في رد ظلم من يظلم الإسلام وأهله وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بمحاربة الإسلام وأهله أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ إذا ماتوا، فإنه المنقلب الصعب. كلمة في السياق: نلاحظ أن خاتمة السورة انصبت على إقامة الحجة على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلة بين الخاتمة ومقدمة السورة واضحة: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ* فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* وهكذا نجد السورة ترتبط خاتمتها بمقدمتها، وترتبط مجموعاتها كلها برباط واحد، وسياق واحد وكل ذلك تفصيل للمحور تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقد تحدثنا عن ذلك كرة بعد كرة. نقل: قال صاحب الظلال في الآيات الأخيرة: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ... (وكان في العرب كهان يزعمون أن الجن تنقل إليهم الأخبار، وكان الناس يلجئون إليهم ويركنون إلى نبوءاتهم. وأكثرهم كاذبون. والتصديق بهم جري وراء الأوهام والأكاذيب. وهم على أية حال لا يدعون إلى هدى، ولا يأمرون بتقوى، ولا يقودون إلى إيمان. وما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس بهذا القرآن إلى منهج قويم. ولقد كانوا يقولون عن القرآن أحيانا: إنه شعر، ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه شاعر. وهم في حيرتهم كيف يواجهون هذا القول الذي لا يعرفون له نظيرا، والذي

يدخل إلى قلوب الناس، ويهز مشاعرهم، ويغلبهم على إرادتهم من حيث لا يملكون له ردا. فجاء القرآن يبين لهم في هذه السورة أن منهج محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج القرآن غير منهج الشعراء ومنهج الشعر أصلا. فإن هذا القرآن يستقيم على نهج واضح، ويدعو إلى غاية محددة، ويسير في طريق مستقيم إلى هذه الغاية. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول اليوم قولا ينقضه غدا، ولا يتبع أهواء وانفعالات متقلبة؛ إنما يصر على دعوة، ويثبت على عقيدة، ويدأب على منهج لا عوج فيه. والشعراء ليسوا كذلك. الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة. تتحكم فيهم مشاعرهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت. ويرون الأمر الواحد في لحظة أسود. وفي لحظة أبيض. يرضون فيقولون قولا، ويسخطون فيقولون قولا آخر. ثم هم أصحاب أمزجة لا تثبت على حال!. هذا إلى أنهم يخلقون عوالم من الوهم يعيشون فيها، ويتخيلون أفعالا ونتائج ثم يخالونها حقيقة واقعة يتأثرون بها. فيقل اهتمامهم بواقع الأشياء، لأنهم يخلقون هم في خيالهم واقعا آخر يعيشون عليه!. وليس كذلك صاحب الدعوة المحددة، الذي يريد تحقيقها في عالم الواقع ودنيا الناس. فلصاحب الدعوة هدف، وله منهج، وله طريق. وهو يمضي في طريقه على منهج إلى هدفه مفتوح العين، مفتوح القلب، يقظ العقل؛ لا يرضى بالوهم، ولا يعيش بالرؤى، ولا يقنع بالأحلام، حتى تصبح واقعا في عالم الناس. فمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الشعراء مختلفان، ولا شبهة هناك، فالأمر واضح صريح: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟!. فهم يتبعون المزاج والهوى ومن ثم يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى، الذين لا منهج لهم ولا هدف. وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول، وفق الانفعال الذي يسيطر عليهم في لحظة من اللحظات تحت وقع مؤثر من المؤثرات. وهم يقولون ما لا يفعلون. لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهمة، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة!. إن طبيعة الإسلام- وهو منهج حياة كاملة معد للتنفيذ في واقع الحياة،

وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة- إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية- في الغالب- لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به. فأما الإسلام فيريد تحقيق الكمال ويعمل على تحقيقه، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع. والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوم. فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم، ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به، دفعهم إلى تغييرها، وتحقيق المنهج الذي يريد. ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهومة الطائرة. فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الكمالات الرفيعة، وفق منهجه الضخم العظيم. ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته- كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ. إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن. منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها. فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا!. وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام، في ضوء الإسلام، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا، فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ. ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون، وإلى خفايا النفس البشرية. وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن. وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال. ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا. فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام. هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة، واستقامت حياتهم على منهج. وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام. وانتصروا من بعد ما ظلموا

فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه. ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة- رضي الله عنهم- من شعراء الأنصار، ومنهم عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاهليتهما، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم- أو قال هاجهم- وجبريل معك» .. وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» (رواه الإمام أحمد). والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها. وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام. وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا؛ ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله .. ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا. وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلامي في صميمه. وإن لحظة إشراق واتصال بالله، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام. ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها، وللعلاقات والروابط فيها، فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام. *** وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب. كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات

الفوائد

والقرون. تنتهي بهذا التهديد المخيف. الذي يلخص موضوع السورة. وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب؛ يتمثل في صور شتى، يتمثلها الخيال ويتوقعها. وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا). الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ قال ابن كثير: (وفي الحديث الصحيح «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا والله يا رب» أي ما كأن شيئا كان). وقال النسفي بمناسبة هذه الآية (قال يحيى بن معاذ: أشد الناس غفلة من اغتر بحياته، والتذ بمراداته، وسكن إلى مألوفاته، والله تعالى يقول: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف- وكان يتمنى لقاءه- فقال عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية. فقال ميمون: قد وعظت فأبلغت. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقرؤها عند جلوسه للحكم). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قال ابن كثير: (وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة، بل هي فرد من أجزائها، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. وقال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها. وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا. وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وفي صحيح مسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة فلنذكرها: الحديث الأول: روى الإمام أحمد رحمه الله .. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أنزل الله عزّ وجل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فصعد عليه

ثم نادى: «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجئ إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب؛ يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به. الحديث الثاني: روى الإمام أحمد .. عن عائشة قالت: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم» انفرد بإخراجه مسلم ... الحديث الثالث: روى الإمام أحمد .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار: فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها». ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به. الحديث الرابع: روى الإمام أحمد .. لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر فجعل ينادي «يا بني عبد مناف إنما أنا نذير، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله رجاء أن يسبقوه فجعل ينادي ويهتف يا صباحاه» ورواه مسلم والنسائي. الحديث الخامس: روى الإمام أحمد .. عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا قال: وقال لهم «من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي؟» فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول الله أنت كنت بحرا من يقوم بهذا، قال ثم قال الآخرة- ثلاثا- قال فعرض ذلك على أهل بيته فقال علي أنا .. » وبعد أن ذكر ابن كثير طرق هذا الحديث قال: (فهذه طرق متعددة لهذا

الحديث عن علي رضي الله عنه، ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه، ويخلفوه في أهله يعني إن قتل في سبيل الله، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل، فلما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فعند ذلك أمن، وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ولم يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا ويقينا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه، ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد هذا- والله أعلم- دعاؤه الناس جهرة على الصفا، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا، حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته، لينبه بالأدنى على الأعلى، أي إنما أنا نذير والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي من طريق عمرو بن سمرة عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون، فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أزهد الناس في الدنيا الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون» وذلك فيما أنزل الله عزّ وجل قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ إلى قوله تعالى: فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ اه. وبمناسبة هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أقول: إن البدء بإنذار الأقربين علامة على صدق الداعية في دعوته، وعلامة على جديته فيها، ثم إنه هو الطريق الفطري للدعوة. ومن ثم فعلى الداعية أن يعطي دعوة الأقربين جزءا من وقته وعمله. 3 - ليس هناك أبلغ ولا أعظم ولا أروع في الأمر بالتواضع من قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إن أصل الصلة بين التواضع وخفض الجناح أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع، ولين الجانب، والملاحظ أن الأمر بخفض الجناح قد ورد أكثر من مرة في القرآن من ذلك قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ .. بالنسبة للوالدين، فإذا أمر الله عزّ وجل رسوله بخفض الجناح فإن هذا يعني أنه أمره بأقصى قدر من التواضع، تواضع يشبه تواضع الابن لوالديه. فمن يطيق هذا الأدب مع كل مؤمن إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ومن وفقه الله لمثل ذلك، ولقد رأينا من شيوخنا من يعامل كل مؤمن صغيرا أو كبيرا بمنتهى الأدب، حتى ليستصغر الإنسان أدبه مع أبويه بجانب ذلك الأدب. فرحمهم الله ورزقنا مكارم الأخلاق، وإن من الجماعات الإسلامية المعاصرة من جعلت إكرام المسلم إحدى شعاراتها. وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) أبرزنا ماهية الذلة على المؤمنين كخلق أساسي من أخلاق الإسلام. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال ابن كثير: (أي في جميع أمورك، فإنه مؤيدك وحافظك، وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، وقوله تعالى الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ أي هو معتن بك كما قال تعالى اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا قال ابن عباس الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ يعني إلى الصلاة، وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده، وقال الحسن الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ إذا صليت وحدك، وقال الضحاك الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ أي من فراشك أو مجلسك. وقال قتادة الَّذِي يَراكَ قائما وجالسا وعلى حالاتك وقوله تعالى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال قتادة الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال: في الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع. وهذا قول عكرمة، وعطاء الخراساني، والحسن البصري وقال مجاهد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه. ويشهد لهذا ما صح في الحديث «سووا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري». وروى البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبيا. وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم كما قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ (61: يونس). 5 - بمناسبة قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ قال ابن كثير: (أي يسترقون السمع من السماء، فيسمعون الكلمة من علم الغيب، فيزيدون معها مائة كذبة، ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه، بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء كما صح بذلك الحديث، كما رواه البخاري من حديث الزهري أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله

عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: «إنهم ليسوا بشيء» قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشئ يكون حقا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة». وروى البخاري أيضا .. عن أبي هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض- وصف سفيان بيده فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقول أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» تفرد به البخاري. وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن رجال من الأنصار قريبا من هذا وسيأتي عند قوله تعالى في سورة سبأ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ الآية. وقال البخاري وقال الليث .. عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان- والعنان: الغمام- بالأمر في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة». ورواه البخاري في موضع آخر من كتاب بدء الخلق عن عروة عن عائشة بنحوه). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. قال ابن كثير: (والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر؛ لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة كما قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ وقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وهكذا قال هاهنا: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. إلى أن قال وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ إلى أن قال: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ

أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ* وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ. 7 - بمناسبة قوله تعالى عن الشعراء أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ قال ابن كثير: (فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم، ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم. ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في الطبقات، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة وكان يقول الشعر. فقال: ألا هل أتى الحسناء أن خليلها … بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية … ورقاصة تحنو على كل مبسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني … ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه … تنادمنا بالجوسق المتهدم فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أي والله إنه ليسوؤني ذلك، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أما بعد فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوؤه … تنادمنا بالجوسق المتهدم وايم الله إنه ليسوؤني، وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وما ذاك الشعر إلا شئ طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت. فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره، لأنهم يقولون ما لا يفعلون، ولكن ذمه عمر رضي الله ولامه على ذلك وعزله به. ولهذا جاء في الحديث «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا». قال الألوسي: (وما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه

كلمة في سورة الشعراء

قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا» حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش، وروي نحوه عن عائشة رضي الله عنها فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم» الحديث فقالت: رحم الله تعالى أبا هريرة، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» من الشعر الذي هجيت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلا عن كتاب بستان الزاهدين). 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا في حق الشعراء من أهل الإيمان قال ابن كثير: قال ابن عباس: «أي» يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين، وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد، وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم- أو قال- هاجهم وجبريل معك» وقال الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله عزّ وجل قد أنزل في الشعر ما أنزل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن- يجاهد بسيفه ولسانه- والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل»). 9 - وبمناسبة قوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال ابن كثير: (والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم كما قال ابن أبي حاتم: ذكر عن يحيى ابن زكريا بن يحيى الواسطي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. كلمة في سورة الشعراء: سورة الشعراء هي إحدى السور الثلاث التي تفصل قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ومن الملاحظ أن هذه الآية لم تفصل قبل هذه المرة، ومن ثم فصلتها ثلاث سور كاملة، تشكل زمرة واحدة، شعارها الطاء والسين

طسم طس طسم، وقد عرضت لنا سورة الشعراء آيات من آيات الله وأقامت الحجة على أن محمدا من المرسلين. ... وقد رأينا أن السورة عمقت عندنا مفاهيم تلزم لإقامة الإسلام الكامل الشامل، وذلك أن السورة تفصل محورا آتيا في حيز قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. ومن أبرز المواضيع التي عمقتها السورة موضوع التقوى والطاعة، إن التقوى هي المطلب الرئيسي من كل مسلم، فالتقوى هي تكليفه من الإسلام بحسب طاقته، والطاعة هي رمز التحامه مع الجماعة وفي الحديث «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية» وهذا الموضوع من غوامض المواضيع- وخاصة في أيام الفتن- ولذلك كان العلم فيه من جملة العلوم المفروضة فرض عين، والذين يعرفون أن يتكلموا به قلة. ... وقد عرضت السورة الآداب العليا للمرسلين في الدعوة وأساليبها. وعرضت الأخلاق العليا للرسول من توحيد، لإنذار، لخفض جناح، لتوكل على الله. وقد رأينا ذلك أثناء عرض السورة فلنكتف بهذا القدر. ولننتقل إلى السورة الثانية من هذه الزمرة وهي سورة النمل. والحمد لله رب العالمين. ***

سورة النمل

سورة النمل وهي السورة السابعة والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثامنة من المجموعة الثالثة من قسم المئين وآياتها ثلاث وتسعون آية وهي مكية وهي السورة الثانية من زمرة الطاسينات

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة النمل

[قال الألوسي في تقديمه لسورة النمل:] قال الألوسي في تقديمه لسورة النمل: (وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان، وهي مكية، كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي، ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها، حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان، وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل، وقد وقع فيها إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً الخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن، وكونه من الله تعالى وعلى تسليته صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك، وروي عن ابن عباس. وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص*). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة النمل: (هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء؛ وهي تمضي على نسقها في الأداء: مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه؛ وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصور هذا الموضوع، ويؤكده، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات). ... (والتركيز في هذه السورة على العلم. علم الله المطلق بالظاهر والباطن، وعلمه بالغيب خاصة. وآياته الكونية التي يكشفها للناس. والعلم الذي وهبه لداود وسليمان. وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم .. ومن ثم يجئ في مقدمة السورة: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. ويجئ في التعقيب قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ* بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ويجئ في الختام: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها .. ويجئ في قصة سليمان: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ .. وفي قول سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وفي قول الهدهد: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. وعند ما يريد سليمان استحضار

كلمة في سورة النمل ومحورها

عرش الملكة، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن، إنما يقدر على هذه: الذي عنده علم من الكتاب). كلمة في سورة النمل ومحورها: ذكرنا من قبل أن الطاسينات الثلاث محورها آية واحدة من سورة البقرة هي قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقد رأينا سورة الشعراء وكيف كان تفصيلها. وسورة النمل ستفصل هذه الآية تفصيلا آخر ضمن حيز هذه الآية من سورة البقرة. بدأت سورة النمل بقوله تعالى: طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ فلنلاحظ كلمة (آيات) المشتركة ما بين بداية السورة ومحور السورة، ثم إذا سرنا في السورة فإننا نجد أن الآية السادسة منها هي قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فلنلاحظ صلة هذه الآية بقوله تعالى في محور السورة نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم إذا سرنا في السورة فإننا نجد أن الآيتين (76 و 77) هما إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إن صلة هاتين الآيتين بآية المحور واضحة؛ من حيث إن آية المحور آتية بعد قصة طالوت التي يختلف في فحواها بنو إسرائيل. ثم إذا سرنا في السورة فإننا نجد الآية (92) هي: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ قائمة، ثم إننا نجد أن آخر آية في السورة هي قوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها .. وصلة ذلك بالمحور تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ .. واضحة. ... ونلاحظ أن آية المحور آتية بعد قصة طالوت وداود: فقبيل آية المحور نجد قوله تعالى: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ البقرة: (251) ثم تأتي آية المحور تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ونلاحظ هنا في سورة النمل أن اسم داود يرد في قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ* وَوَرِثَ سُلَيْمانُ

داوُدَ إن صلة ذلك بالمحور والآيات التي جاءت قبله واضحة جدا كما سنرى ذلك بالتفصيل. والسورة عرضت قصة ثلاث رسل: سليمان، وصالح، ولوط عليهم السلام وصلة ذلك بكون محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين واضحة. ... ونلاحظ أن السورة تتألف من مقطعين واضحي المعالم: المقطع الأول وفيه حديث عن المرسلين نجد فيه قصة موسى، وذكر داود وسليمان وصالح ولوط عليهم السلام. المقطع الثاني: وهو مبدوء بقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى .. ومن بداية المقطع الثاني تشعر أن هذا المقطع يبني على ما ذكر في المقطع الأول ضمن سياق محدد هو تفصيل آية المحور. ... ولقد رأينا أن آية المحور آتية ضمن حيز الأمر ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ومن ثم فإننا نجد في السورة ما له علاقة بذلك وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وكما ورد على لسان بلقيس وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ... وإنزال الآيات يقتضي شكرا من الرسول، وفي السورة دروس في ذلك، ويقتضي من الأمة عملا، وفي السورة دروس في ذلك، إن السورة نموذج عجيب على تفصيل القرآن بعضه لبعض، ونموذج عجيب على تفصيل المحور ضمن حيزه، ونموذج عجيب على كيفية كون السورة في محلها تخدم مجموعة أمور دفعة واحدة، إن في سياقها الخاص أو العام، أو ضمن الوحدة القرآنية، وكل ذلك مع الإحكام، والبيان، والدروس الخالدة التي لا تتناهى، ومن ثم يبقى القرآن جديدا على قارئه ولو تلاه آلاف المرات، وجديدا في كل عصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان، ولأمور كثيرة ورد في هذه السورة قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إن هذا القرآن لا يمكن أن يكون على هذه الشاكلة لولا أن منزله المحيط علما بكل شئ، ولولا أن منزله ذو الحكمة الكاملة.

المقطع الأول

إن الله عزّ وجل لا تنفك أقواله وأفعاله وأحكامه عن الحكمة، يعرف ذلك كل من آتاه الله شيئا من البصيرة يرى فيها الأشياء على حقائقها، ومن تأمل هذه السورة عرف أن الله عليم وأنه حكيم. تتألف السورة من مقطعين: المقطع الأول ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (58) وفيه مقدمة السورة وبعض قصص المرسلين. المقطع الثاني ويمتد من الآية (59) إلى نهاية السورة. وسنعرض إن شاء الله تعالى مقطعي السورة على مجموعات، ونتحدث خلال ذلك عن السياق خطوة خطوة، نسأل الله عزّ وجل أن يفتح علينا، وأن يجنبنا الزلل، وأن يتقبل، وأن يختم لنا بكمال الإيمان، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. [المقطع الأول] المجموعة الأولى: وهي مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (6) وهذه هي مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

التفسير

التفسير: طس تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة آياتُ الْقُرْآنِ أي معجزات القرآن وَكِتابٍ مُبِينٍ أي وآيات كتاب مبين، أي ومعجزات كتاب بين واضح، وإبانته أنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي فيه هداية وبشارة، ولكن إنما تحصل الهداية والبشارة منه لمن آمن به واتبعه، وصدقه وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة، وآتى الزكاة المفروضة، وأيقن بالدار الآخرة، وبالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال، خيرها وشرها، والجنة والنار. ومن ثم وصف الله المؤمنين الذين لهم في القرآن هداية وبشارة فقال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يديمون المحافظة على فرائضها وسننها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي ويؤدون زكاة أموالهم وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ قال النسفي: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ... ) ثم علل النسفي لهذا التفسير من جهة اللغة والإعراب كما سنرى في الفوائد. نقول: قال صاحب الظلال: (وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة ضخمة عميقة .. إن القرآن ليس كتاب علم نظري أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرؤه ويستوعب ما فيه. إنما القرآن كتاب يخاطب القلب، أول ما يخاطب، ويسكب نوره وعطره في القلب المفتوح، الذي يتلقاه بالإيمان واليقين، وكلما كان القلب نديا بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة القرآن، وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف، واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف. وانتفع بصحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس. وإن الإنسان ليقرأ الآية أو السورة مرات كثيرة، وهو غافل أو عجول فلا تفضي له بشيء، وفجأة يشرق النور في قلبه، فتتفتح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببال. وتصنع في حياته صنع المعجزة في تحويله من منهج إلى منهج، ومن طريق إلى طريق. ... وكل النظم والشرائع والآداب التي يتضمنها هذا القرآن، إنما تقوم قبل كل شئ على الإيمان. فالذي لا يؤمن قلبه بالله، ولا يتلقى هذا القرآن على أنه وحي من عند الله

وعلى أن ما جاء فيه إنما هو المنهج الذي يريده الله. الذي لا يؤمن هذا الإيمان لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي ولا يستبشر بما فيه من بشارات. إن في القرآن كنوزا ضخمة من الهدى والمعرفة والحركة والتوجيه. والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز. ولن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان. والذين آمنوا حق الإيمان حققوا الخوارق بهذا القرآن. فأما حين أصبح القرآن كتابا يترنم المترنمون بآياته، فتصل إلى الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب، فإنه لم يصنع شيئا، ولم ينتفع به أحد .. لقد ظل كنزا بلا مفتاح). (والسورة تعرض صفة المؤمنين الذين يجدون القرآن هدى وبشرى ... إنهم هم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ... يقيمون الصلاة .. فيؤدونها حق أدائها، يقظة قلوبهم لموقفهم بين يدي الله، شاعرة أرواحهم بأنهم في حضرة ذي الجلال والإكرام، مرتفعة مشاعرهم إلى ذلك الأفق الوضيء، مشغولة خواطرهم بمناجاة الله ودعائه والتوجه إليه. ويؤتون الزكاة .. فيطهرون نفوسهم من رذيلة الشح؛ ويستعلون بأرواحهم على فتنة المال؛ ويصلون إخوانهم في الله ببعض ما رزقهم الله؛ ويقومون بحق الجماعة المسلمة التي هم فيها أعضاء. وهم بالآخرة هم يوقنون .. فإذا حساب الآخرة يشغل بالهم، ويصدهم عن جموح الشهوات، ويغمر أرواحهم بتقوى الله وخشيته والحياء من الوقوف بين يديه موقف العصاة. هؤلاء المؤمنون الذاكرون الله، القائمون بتكاليفه، المشفقون من حسابه وعقابه، الطامعون في رضائه وثوابه .. هؤلاء هم الذين تنفتح قلوبهم للقرآن، فإذا هو هدى وبشرى. وإذا هو نور في أرواحهم، ودفعة في دمائهم، وحركة في حياتهم. وإذا هو زادهم الذي به يبلغون؛ وريهم الذي به يستقون. وعند ذكر الآخرة يركز عليها ويؤكد في صورة التهديد والوعيد لمن لا يؤمنون بها، فيسدرون في غيهم، حتى يلاقوا مصيرهم الوخيم: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ

سُوءُ الْعَذابِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. والإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال في الحياة، والذي لا يعتقد بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة، أو يكبح فيها نزوة، وهو يظن أن الفرصة الوحيدة المتاحة له للمتاع هي فرصة الحياة على هذا الكوكب. وهي قصيرة مهما طالت، وما تكاد تتسع لشئ من مطالب النفوس وأمانيها التي لا تنال! ثم ما الذي يمسكه حين يملك إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته؛ وهو لا يحسب حساب وقفة بين يدي الله؛ ولا يتوقع ثوابا ولا عقابا يوم يقوم الأشهاد؟. ومن ثم يصبح كل تحقيق للشهوة واللذة مزينا للنفس التي لا تؤمن بالآخرة، تندفع إليه بلا معوق من تقوى أو حياء. والنفس مطبوعة على أن تحب ما يلذ لها، وأن تجده حسنا جميلا؛ ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني. فإذا هي تجد لذتها في أعماق أخرى وأشواق أخرى، تصغر إلى جوارها لذائذ البطون والأجسام؛ والله- سبحانه- هو الذي خلق النفس البشرية على هذا النحو؛ وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدى، مستعدة للعماء إن طمست منافذ الإدراك فيها. وسنته نافذة- وفق مشيئته في حالتي الاهتداء والعماء. ومن ثم يقول القرآن عن الذين لا يؤمنون بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ .. فهم لم يؤمنوا بالآخرة، فنفذت سنة الله في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم ... وهذا هو معنى التزيين في هذا المقام. فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء. أو فهم حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب. والعاقبة معروفة لمن يزين له الشر والسوء أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. سواء كان سوء العذاب لهم في الدنيا أو في الآخرة، فالخسارة المطلقة في الآخرة محققة جزاء وفاقا على الاندفاع في سوء الأعمال. وتنتهى مقدمة السورة بإثبات المصدر الإلهي الذي يتنزل منه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. ولفظ (تلقى) يلقي ظل الهدية المباشرة السنية من لدن حكيم عليم. يصنع كل شئ بحكمة، ويدبر كل أمر بعلم .. وتتجلى حكمته وعلمه في هذا القرآن. في منهجه،

كلمة في السياق

وتكاليفه، وتوحيهاته، وطريقته. وفي تنزيله في إبانة. وفي توالي أجزائه. وتناسق موضوعاته. ثم يأخذ في القصص. وهو معرض لحكمة الله وعلمه وتدبيره الخفي اللطيف). كلمة في السياق: أثبت الله عزّ وجل في هذه الآيات خاصتين من خواص كتابه وهما: الهداية والبشارة، ولكن بين أن هاتين الخاصيتين إنما ينالهما من اجتمع له إيمان، وإقامة صلاة، وإيتاء زكاة، وإيقان بالآخرة. أما من فقد هذه الصفات فإنه لا ينال هداية هذا القرآن، ولا بشارته. فلتتذكر الآن محور السورة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إننا نلاحظ الشبه بين قوله تعالى تِلْكَ آياتُ اللَّهِ في المحور وبين قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ فتلك آيات الله المذكورة هي آيات هذا القرآن الواضح البين، هذه الآيات من خصائصها الهداية والبشارة، ولكن لمن اتصف بمجموعة صفات، أما إذا أخل بصفة فإن هذه الآيات لا يكون له فيها هداية كاملة، ولا بشارة كاملة، فالصلة قائمة بين آية المحور ومقدمة السورة. فوائد: 1 - نلاحظ أن سورة الحجر كانت مقدمتها الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ هناك قدم لفظ الكتاب وهاهنا قدم لفظ القرآن، ويلاحظ أن كلمة القرآن في سورة الحجر جاءت بصيغة التنكير لا التعريف، بينما جاءت كلمة الكتاب هنا بصيغة التنكير لا التعريف. قال النسفي في ذلك: (وقيل إنما نكر الكتاب هنا وعرفه في سورة الحجر، وعرف القرآن هنا ونكره ثم لأن القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفان له، لأن يقرأ ويكتب فحيث جاء بلفظ التعريف فهو الوصف). 2 - يلاحظ أن كلمة (هم) تكررت مرتين في قوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ قال النسفي في تعليل ذلك: (وكرر فيها المبتدأ الذي هو (هم) حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيمان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق) أقول: وهؤلاء الذين كانوا كذلك هم وحدهم الذين تنالهم هداية القرآن وبشارته.

[سورة النمل (27): آية 4]

ولنعد عودة قصيرة إلى بعض الآيات: بعد أن بين الله عزّ وجل أهمية الإيمان بالآخرة، حتى إنه لا تكون صلاة وزكاة وإيمان بدونه، وحتى لا يكون اهتداء بالقرآن ولا استبشار بما فيه بدون ذلك، بعد هذا ذكر حال الذين لا يؤمنون بالآخرة فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أى يكذبون بها ويستبعدون وقوعها زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي حسنا لهم ما هم فيه فساروا وراء شهوات الدنيا على أنها هي الهدف وحدها، ورأوا ذلك حسنا فَهُمْ يَعْمَهُونَ أي فهم يترددون في ضلالتهم كما يكون حال الضال عن الطريق. قال ابن كثير: (أي حسنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون في ضلالهم وكأن هذا جزاء على ما كذبوا من الدار (الآخرة) أقول: ومن آثار التزيين ما نراه في عصرنا من ثناء الملحدين على أنفسهم، واحتقار غيرهم، بما يطلقونه على أنفسهم من ألقاب، وغيرهم رجعيون خونة، أعداء للتقدم إلى آخر ما يطلقونه على غيرهم من ألقاب أُوْلئِكَ أي الذين لا يؤمنون بالآخرة الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ في الدنيا والآخرة وهذا أكثر ما يكون وضوحا في المجتمعات التي تبنت الكفر باليوم الآخر، كالمجتمعات الشيوعية، فإنك لا تجد أبأس من الإنسان فيها، وهذا نوع من العذاب، وأنواع العذاب التي تصيب هؤلاء في الدنيا كثيرة. فالقلق عذاب، وانقباض القلب عذاب، وعقوبات الفطرة عذاب، وغير ذلك كثير: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر، فهم أشد الناس خسرانا وخاصة كفار هذه الأمة، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم، فخسروا ذلك، مع خسران النجاة وثواب الله. وبهذا انتهى عرض خصائص المهتدين المستبشرين بهذا القرآن، كما عرضت صفات الذين لا يؤمنون بالآخرة، ثم يعود السياق إلى الكلام عن القرآن: وَإِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي لتؤتاه وتلقنه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ قال ابن كثير: أي من عند حكيم عليم، أي حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليلها وحقيرها. فخبره هو الصدق المحض وحكمه هو العدل التام، قال النسفي في محل هذه الآية من السياق: (وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه). وأول ما يأتي بعد هذه الآية قصة موسى عليه السلام، وفيها نموذج على تلقي المرسلين

المجموعة الثانية من المقطع الأول وفيها قصة موسى عليه السلام

الوحي من الله عزّ وجل، وفيها نموذج على الآيات التي يعطيها الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي من الآيات التي يتلوها الله عزّ وجل على محمد عليه الصلاة والسلام ولذلك كله صلاته بمحور السورة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. المجموعة الثانية من المقطع الأول وفيها قصة موسى عليه السلام وتمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (14) وهذه هي: [سورة النمل (27): الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) ***

التفسير

التفسير: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي لزوجته ومن معه عند مسيره من مدين إلى مصر إِنِّي آنَسْتُ أي أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن حال الطريق لأنه كان ضائعا عنه أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ أي شعلة مضيئة قَبَسٍ أي نار مقبوسة لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون بالنار من البرد الذي أصابكم. كلمة في السياق: بعد قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ جاء مباشرة قوله تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً .. فما الصلة بين الآيتين؟ ذكر النسفي: أن إذ منصوبة بفعل تقديره: (اذكر) ثم قال ذاكرا الصلة بين الآيتين: (كأنه قال: على أثر خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى عليه السلام) أقول: بل في مجيء قصة موسى بعد تلك الآية زيادة على ما قال النسفي: أن في القصة نموذجا على تلقى رسول- هو موسى- عن الله عزّ وجل تلقيا تظهر فيه حكمة الله وعلمه، كما أن ذكر القصة في هذا السياق دليلا على أن هذا القرآن متلقى من الله عزّ وجل. ... فَلَمَّا جاءَها أي فلما جاء النار التي أبصرها. قال ابن كثير: (أي فلما أتاها ورأى منظرا هائلا عظيما، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء، لا تزداد النار إلا توقدا ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن نارا وإنما كانت نورا يتوهج). فوقف موسى متعجبا مما رأى ف نُودِيَ موسى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي حول مكانها أي موسى، وهذه البركة كانت لحدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا من تتمه النداء، فقد نزه الله ذاته عما لا يليق به من التشبيه وغيره يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال ابن كثير: أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شئ وقهره وغلبه، الحكيم في أفعاله وأقواله) قال النسفي: (وهو (أي هذا الكلام) تمهيد لما أراد أن يظهر على يده من المعجزات) وَأَلْقِ عَصاكَ قال النسفي: لتعلم معجزتك فتأنس بها. وقال ابن كثير: أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلا واضحا على أنه

[سورة النمل (27): آية 11]

الفعال المختار القادر على كل شئ فَلَمَّا رَآها أي رأى العصا تَهْتَزُّ أي تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ كأنها حية من نوع الجان. قال ابن كثير: والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة، وأكثره اضطرابا وَلَّى موسى مُدْبِراً أي منهزما خوفا من وثوب الحية عليه وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يلتفت من شدة خوفه فنودي يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي لا يخاف عندي المرسلون حال خطابي إياهم، أو لا يخاف لدي المرسلون من غيري. قال ابن كثير في الآية: أي لا تخف مما ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولا، وأجعلك نبيا وجيها إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أي لكن من ظلم من غيرهم لأن الأنبياء لا يظلمون ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي أتبع توبة بعد زلة فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فإني أقبل توبته، وأغفر زلته، وأرحمه فأحقق أمنيته. قال النسفي: وكأنه تعريض بما قال موسى حين قتل القبطي رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ قال ابن كثير: (وفيه بشارة عظيمة للبشر، وذلك أن من كان على عمل سيئ، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه) ويحتمل أن يكون المعنى: إلا من ظلم من المرسلين بأن فعل غير ما أذنت له مما يجوز على الأنبياء، وليس من باب المعاصي، ولكنه لعلو مقامهم يعتبر ظلما من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. فإذا وقع الرسول بشيء من ذلك فتاب فإن الله يتوب عليه ويغفر له رحمة به وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي في جيب قميصك وهو فتحة الثوب من العنق وأخرجها بعد إدخالها تَخْرُجْ بَيْضاءَ أي نيرة مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن الطاعة فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً أي بينه واضحة ظاهرة قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح ظاهر لمن تأمله وَجَحَدُوا بِها أي بألسنتهم وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي علموا في أنفسهم أنها حق؛ ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها ظُلْماً أي ظلما من أنفسهم، سجسة ملعونة، وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات من عند الله، ثم سماها سحرا بينا؟ وَعُلُوًّا أي وترفعا عن الإيمان بما جاء به موسى. قال النسفي: أي استكبارا عن اتباع الحق فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ قال النسفي: وهو الإغراق هنا والإحراق ثمة. وقال ابن كثير: (أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة، فحوى الخطاب يقول احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأخرى؛ فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من

فوائد

موسى، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به وأخذ المواثيق له؛ عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام). فوائد: 1 - فسر النسفي قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ بأن المراد من في النار الملائكة، وفسر وَمَنْ حَوْلَها بأن المراد به موسى، وهو المعنى الذي اعتمدناه في التفسير. إلا أن ابن كثير: فسر من حولها بالملائكة. وفسر مَنْ فِي النَّارِ بأن الله عزّ وجل أراد بذلك ذاته جل وعلا، وعلى هذا المعنى فلا يصح أن يفهم فاهم ما ينافي التنزيه، فالله عزّ وجل حجابه النور أو النار، وليس كمثله شئ، ومثل هذه المعاني الدقيقة لا يفهمها حق الفهم إلا الراسخون في العلم، السالكون إلى الله، العارفون به، جعلنا الله منهم. وبمناسبة هذه الآية نقل ابن كثير ما أخرجه ابن أبي حاتم .. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار، قبل الليل» زاد المسعودي «وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة. 2 - يلاحظ أنه في هذه السورة قال موسى سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ .. وتعبيره هنا جازم وفي سورة القصص قال لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها .. وفيه الترجي، وقد علل النسفي لذلك بقوله: (لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول سأفعل كذا، وسيكون كذا، مع تجويزه الخيبة، ومجيئه بسين التسويف عدة لأهله أنه يأتيهم به، وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة، وبأو لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ولم يدر أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين وهما عز الدنيا والآخرة واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين والقصة واحدة دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى، وجواز النكاح بغير لفظ التزوج). أي بما يفيده معناه وتجيزه الفتوى. كلمة في السياق: لقد مرت معنا هذه المجموعة التي ذكر الله فيها قصة موسى بهذا الاختصار المعجز،

المجموعة الثالثة من المقطع الأول وفيها قصة سليمان عليه السلام

ورأينا كيف ربط النسفي بين هذه المجموعة وبين الآية التي جاءت قبلها؛ إذ ذكر فيها أن هذه المجموعة نموذج على أن هذا القرآن أثر عن علم الله وحكمته، وهي كذلك، ومع أن المجموعة تؤدي دورها في سياق السورة، فإنها تؤدي دورها في تفصيل محورها: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد رأينا في المجموعة كيف يتلقى رسول من الرسل عن الله وكيف تنزل الآيات عليه، كما رأينا بعض آداب الرسل إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ولكل ذلك صلاته بآية المحور، فإن تكون هذه المجموعة في محلها بما يخدم سياق السورة، وبما يفصل محورها، فذلك لا يمكن أن يكون لولا أن هذا القرآن من عند الله الحكيم العليم، ثم إن المجموعة تخدم قضية إنزال الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم، وتوضح قضية الإرسال، وبعد هذه المجموعة تأتي قصة سليمان وداود وهما من المرسلين اللذين يضمهم مع محمد صلى الله عليه وسلم سلك الرسالة، ففي المجموعة آيات يتلوها الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن المرسلين: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وهذه هي المجموعة: المجموعة الثالثة من المقطع الأول وفيها قصة سليمان عليه السلام وتمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (44) وهذه هي: [سورة النمل (27): الآيات 15 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

التفسير

التفسير: وَلَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي علم الدين والحكم وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قابلا النعمة بشكرها. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ قال النسفي: (وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير، وفي الآية دليل على شرف العلم، وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباده، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوام بما بعثوا من أجله، وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه، وأن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم وما أحسن قول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر). وبمناسبة هذه الآية. قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم .. أنه: كتب عمر بن عبد العزيز: (إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل نعمه لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل: قال الله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام). كلمة في السياق: هذه الآية بينت أنه كما أوحي إلى موسى أوحى الله إلى داود وسليمان عليهما السلام وعلمهما، وأنهما قابلا ذلك بالحمد والشكر، وإذن فلا عجب أن ينزل الله الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم ويعلمه، وفي الآية درس للإنسان أن يقابل التعليم الإلهي بالشكر، ولنلاحظ أنه قد وردت قصة موسى بعد قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فجاءت قصة موسى كنموذج على آثار علم الله وحكمته. وها هي قصة سليمان تصدر بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً فكما أن معلم القرآن هو الله، فمعلم داود وسليمان هو الله، فقصة سليمان إذن نموذج على التعليم الرباني، فهي نموذج على آثار علم الله وحكمته، ومن

[سورة النمل (27): آية 16]

هذا كله ندرك محل هذه المجموعة في سياق السورة وسياق القرآن. ... وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي ورث منه النبوة والملك. قال ابن كثير: (أي في الملك والنبوة، وليس المراد وراثة المال، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود، فإنه قد كان لداود مائة امرأة، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة، فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة»). قال النسفي: (قالوا: أوتي النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه وإلا فالنبوة لا تورث). وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قال هذا تشهيرا لنعمة الله تعالى واعترافا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، قال النسفي: (والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وكان سليمان يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض) وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قال النسفي: المراد به كثرة ما أوتي كما تقول فلان يعلم كل شئ .. وليس التكبر من لوازم ذلك. وقال ابن كثير (أي مما يحتاج إليه الملك) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي الظاهر البين لله علينا قال النسفي: هذا قول وارد على سبيل الشكر كقوله عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي أقول هذا القول شكرا ولا أقوله فخرا. كلمة في السياق: قلنا إن آية المحور هي: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقد جاءت هذه الآية بعد قصة طالوت التي ختمت بقوله تعالى: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ* تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ .. فعند ما تأتي في هذه السورة قصة داود ووراثة سليمان له، فإن هذا يكون استمرارا لما قصه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من شأن داود قبل آية المحور، ففي هذه السورة آيات يتلوها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أنباء المرسلين ليعلمه من آدابهم، وليعطيه من دروسهم، ولذلك صلاته بآية المحور وسياقها، ومن مثل هذه الصلة التي رأيناها هنا ندرك بعض أسرار الوحدة القرآنية.

نقول

نقول: قال صاحب الظلال: (ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى كلها بنظام عجيب، يعجز البشر غالبا عن ابتداع مثله، على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال). ... (وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم- هي لغاتها ومنطقها- فيما بينها. والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها. وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات. ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شئ من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين. فأما ما وهبه الله لسليمان- عليه السلام- فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر. لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم، على طريق الظن والحدس، كما هو حال العلماء اليوم ... أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين- ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث- يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان- عليه السلام- في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة. وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شئ وأهون شئ على الله، أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات، هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد. وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع. وهو خالق هذه الأنواع!. وعلى أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان. أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنوده من الإنس سواء بسواء. والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير. يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من

فوائد

أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم. وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز .. حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام. وإنها خاضعة- كحلقة مفردة- للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به. وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم، هو نسخه من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهداهد. وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول. ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر .. وإن هذا- كما قلنا طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام للكون. ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عند ما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام الذي لا نعرف أطرافه، جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان). فوائد: 1 - بمناسبة قول الله تعالى على لسان سليمان: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ قال ابن كثير: (أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام، والتمكين العظيم، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا، وهذا شئ لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله، ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود- كما قد يتفوه به كثير من الناس- فهو قول بلا علم، ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة، إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم، ويعرف ما تقول، وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا، بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال، ولكن الله سبحانه كان قد

ولنعد إلى التفسير

أفهم سليمان ما يخاطب به الطيور في الهواء وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها). 2 - بمناسبة قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع» قال فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب، فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين يدخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت؟ فقال: الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب، فقال داود: أنت إذا والله ملك الموت مرحبا بأمر الله فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس، فقال سليمان عليه السلام للطير أظلي داود، فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا قال أبو هريرة: يا رسول الله كيف فعلت الطير؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية» قال أبو الفرج ابن الجوزي: المضرحية هي النسور الحمراء. ولنعد إلى التفسير: وَحُشِرَ أي وجمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ قال ابن كثير: يعنى ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها فَهُمْ يُوزَعُونَ قال ابن كثير: أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم. وقال النسفي في معني يوزعون: (يحبس أولهم على آخرهم. أي يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم التوالي ليكونوا مجتمعين وذلك للكثرة العظيمة، والوزع: المنع، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن).

فوائد

فوائد: 1 - من قصة سليمان عليه السلام نعرف كثيرا من خصائص الجن وعالمهم فهم عالم كالإنس، ونراهم في الآية السابقة منضبطين مع بقية جند سليمان. وسنرى فيما بعد أن عفريتا منهم قادر أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين خلال ساعات. وهذا يعني أنه قادر على الذهاب والإياب مع معالجة العرش وحمله خلال هذه الساعات، وهذا ينقض كلام المتأولة الذين لا يؤمنون بالغيب، فالجن عالم مغيب عنا لا نعرف عنه إلا ما أخبرنا عنه الوحي المعصوم، فالإنكار والتأويل في هذا المقام كفر وضلال. 2 - لم يذكر لنا في الآية سبب الجمع الذي من أجله حشر لسليمان جنده كله، هل كان ذلك في أول وراثته لملك أبيه، فكان ذلك نوعا من استعراض الملك الجديد لقواته، أو كان ذلك لمناسبة من المناسبات، أو كان ذلك لمجرد تعويد الجند على تنفيذ الأوامر والتدريب على التعبئة؟ والمهم أن الآية تعطينا درسا من دروس الحكم ولا شك أن قصة سليمان كلها دروس في الحكم الإسلامي، كما أن قصة طالوت في سورة البقرة درس من دروس السياسة لهذه الأمة. 3 - في قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ نص على الضبط العسكري ونص على وجود النظام في الجند، وفي ذكر كلمة جُنُودُهُ نص على فكرة الطاعة، وهذه المعاني هي أسس حياة الجندية السليمة، طاعة، وانضباط، ونظام دقيق، وفي عصرنا تقوم الجندية على التدريب الدقيق على النظام المنضم من أجل تعويد الجند على الطاعة والانضباط، وهذا كله يمكن أن تكون الآية أصلا فيه، وفي قوله تعالى: يُوزَعُونَ ما يشير إلى أن هناك من هو مكلف بتأمين الضبط، وهذا يشبه في عصرنا نظام شرطة الجيش، ونظام المراتب في الجيش (ضباط وضباط صف). ومن مثل هذا نفهم أن الله عزّ وجل يعطينا في قصة سليمان دروسا في أصول الحكم الإسلامي كما أنها مثال على أن الحكم الإسلامي يمكن أن يأخذ صورا متعددة، ومثال على أن المرسلين يمكن أن يكونوا ملوكا في منتهى العظمة، كما يمكن أن يكونوا غير ذلك، وإن في عرض هذه الأمور في هذا السياق لآيات تدل على أن هذا القرآن من عند الله، وبهذه المناسبة نقول: إن القصص القرآني يعطينا نماذج تسع الزمان والمكان، وأن الأمثال القرآنية تستوعب كل صور الحياة، ومن خلال القصة والمثل ترى الحياة كلها،

[سورة النمل (27): آية 18]

فلا تجد صورة أمامك إلا وتجد مرآة لها في هذا القرآن، وهذا مظهر آخر من مظاهر الإعجاز. ولنعد إلى التفسير: ... حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قال ابن كثير: أي حتى إذا مر سليمان بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ أي لا يكسرنكم أو لا يدهسنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي وهم لا يعلمون بمكانكم، أي لو شعروا لم يفعلوا، قالت ذلك على وجه العذر واصفة سليمان وجنوده بالعدل فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها متعجبا من حذرها، واهتدائها لمصالحها، ونصيحتها للنمل، وفرحا لظهور عدله حتى أحست به الحيوانات، وراعته في مخاطباتها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من النبوة والملك والعلم وَعَلى والِدَيَّ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً أي في بقية عمري عملا تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ أي لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله كما جاء في الحديث الصحيح فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي في زمرة أنبيائك المرسلين، أو مع عبادك الصالحين. أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك، وهكذا نجد سليمان يقابل كل مظهر من مظاهر الإنعام بالشكر. فوائد: 1 - قال ابن كثير: (ومن قال من المفسرين إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها). 2 - استطرادا بمناسبة ذكر النملة قال ابن كثير: (وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان؛ ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قرصت نبيا من الأنبياء نملة فأمر بقرية

النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة؟). 3 - إن من مظاهر كون هذا الدين حقا أنك تجد كل شئ فيه يعضد الشئ الآخر، ولا تجد شيئا ينقض شيئا، فمثلا: إنك تجد سليمان عليه السلام يقول: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فقرر بذلك أن دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله، وهو المعنى الذي أدب الرسول عليه الصلاة والسلام عليه هذه الأمة، وهكذا فإنك تجد نصوص هذا الدين تسير كلها باتجاه واحد، وهذا لا يمكن أن يكون لولا أن هذا الدين دين الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. 4 - إن توسع دائرة الاختصاص في عصرنا، والتتبع الدقيق من قبل المختصين لكل جانب من جوانب الكون أعطانا تصورا واسعا عن عالم الحيوان، وطرق تخاطبه ولغاته، والقوانين السائدة عند كل جنس من أجناسه، ومن ثم فإن يعرض علينا القرآن من خلال قصة سليمان ما يشير إلى مثل هذه المعاني لدليل على أن هذا القرآن فيه تبيان كل شئ، وعلى أن منزله هو الذي يعلم السر في السموات والأرض. وسنختار لك بعض النقول عن الطيور والنمل ترى فيها بعض مظاهر الإعجاز. قال الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه قصص الأنبياء: (والذين لهم مراقبة للحيوان والطير يجدون أصواتها تتكيف بكيفيات مختلفة باختلاف حاجاتها ومطالبها. فمواء الهرة المحبوسة غير موائها إذا طلبت السفاد والطعام أو الماء. فلكل صوت كيفيات ونبرات ليست في الصوت الآخر يفهمه عنها أبناء جنسها، وقد أخبرني صديقي الشيخ أحمد عمر السكندري: أن أطفالا ألقوا في بيته حدأة بعد أن عبثوا بها ونهكوا قوتها، ورضوا بعض عظامها، فألقاها أولاده فوق السطح، فكان يصدر عنها صوت خاص كلما رأت الحدأ، فكن يحمن عليها، وفي كل يوم يلقين إليها بعض الطعام من عظام بها بعض اللحم، وأرجل دجاج ونحوه مما يرزقهن الله. وكان أولاده يقدمون لها الماء، وبعض الأكل إلى أن أبلت وقويت وطارت. وعلى كل فإدراك كل صوت من الطير وما يقصد به لم يكن إلا هبة من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده وقد وهبها سليمان عليه السلام) ثم كتب تعليقا فقال: نشرت جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم الأحد 4 من

لغة الطير

فبراير سنة 1937 ما يلي: لغة الطير: كشف عالم ألماني- بعد ملاحظات دقيقة وصبر طويل- أثرا لم ينتبه إليه أحد قبله وهو أن الطيور لا تصدح فقط ولكنها تتكلم. ولها على مثال البشر لهجات خاصة. مثال ذلك: أن الشحرور النمساوي لا يفهم لهجة الشحرور البافاري، والشحرور الفرنساوي لا يفهم لهجة الشحرور الإنكليزي) اه. وفي كتاب (دنيا الحشرات) تأليف فرديناند لين ترجمة «أحمد عماد الدين أبو النصر» الذي صدر في سلسلة «كل شيء عن» في عددها السابع: هذا البحث عن النمل: تحت عنوان: النمل ذلك الشغال المدهش: (يقوم النحل والزنابير بأعمال مدهشة، ولكن النمل يظهر براعة وذكاء أعظم، ومن بين الحشرات جميعا يتشابه النمل معنا في العادات، فهو يبني المدن، ويشق الطرق، ويحفر الأنفاق، ويخزن الطعام في شئون خاصة به وبعض أنواعه تزرع الحدائق والنباتات أيضا، ومن النمل نوع يحتفظ بمواش خاصة به ويرعاها، ومن المؤسف حقا أن نقول إن النمل أيضا يعلن الحرب بين قبائله، ويأخذ المنتصر أسرى من النمل الضعيف، وبالاختصار فللنمل مدينة غريبة تخصه. يعيش النمل حياة أطول من النحل، فبينما تفني شغالة النحل المسكينة نفسها في عمل متواصل لمدة ستة أسابيع قد تعيش شغالة النمل مدة سبعة أعوام ويصل عمر ملكة النحل إلى أربعة أعوام أو خمسة، بينما تدوم ملكة النمل نحو ثمانية عشر عاما، ويتغذى النحل على العسل وخبز النحل، بينما يأكل النمل كل أنواع الطعام تقريبا. ويظهر النمل على صغر حجمه تمسكا عجيبا بالحياة، فقد عاشت نملة تحت الماء نحو ثلاثة أيام، وظلت غيرها مدة ثمانية أيام بدون هواء تماما، وثالثة بقيت حية مدة واحد وأربعين يوما بعد أن فصل رأسها عن جسدها. وهناك آلاف من أنواع النمل، منها ما يبلغ طوله بوصة تقريبا، ومنها ما لا يزيد حجمه على ذرة من تراب، ويختلف النمل في عاداته تماما كما يحدث عند الإنسان. وتعيش أغلب أنواع النمل تحت الأرض، ولكن النمل «النجار» يقيم مساكنه في الأشجار الميتة أو في أخشاب المنازل القديمة، ويستعمل «نمل الخشب» أوراق الصنوبر الإبرية في بناية مساكنه التي قد ترتفع بضع أقدام، ويبلغ عرضها عدة أقدام.

وعند ما يحين وقت التجمع تطير الذكور والإناث معا في سحابة كبيرة، وكلا الجنسين له أجنحة، وبعد ذلك يتفرق ويموت أغلبه، ولكن حيثما يحط منه ذكر وأنثى يبدءان في حفر بيت لهما في التربة، ولا يعيش الذكر طويلا بينما يكون أمام الأنثى شهور طويلة من العمل. وبما أن أجنحتها أصبحت عديمة الفائدة فهي تقطعها أو تقرضها بفكوكها، وتبدأ وضع البيض في جرة لها تحت الأرض، ومنه تخرج يرقات لا أرجل لها، وبما أنها لا تملك طعاما فإنها تغذيها من لعابها نفسه. وعند ما يشتد بالأم الجوع تأكل بعضا من بيضها ذاته. بالرغم من أن المعروف عنها أنها قد تعيش مدة عام تقريبا بدون أكل. وتغزل يرقات النمل شرانق صغيرة تتحول داخلها إلى عذارى، وأخيرا تقرض طريقها إلى الخارج، والنمل الجديد يكون كما يحدث في معظم أنواع النحل من صنف الشغالة، وهو يساعد أمه في حفر حجرات أكبر ويسعى إلى جمع الطعام، وقد تمر أعوام عديدة قبل أن يكتمل نمو المستعمرة وعندئذ تترك النملة الأم العمل وتستريح، فلقد أصبحت الآن ملكة حقيقية، وليس أمامها إلا وضع البيض والتمتع بالغذاء. وقد تنمو ملكة الأنواع الاستوائية حتى تبلغ حجما يساوى حجم الشغالة مائة مرة، ولكنها على عكس ملكة النحل- التي تغار من شقيقاتها وتلسعها حتى الموت، ترحب ملكة النمل بمجيء الملكات الجديدة كي تنمو المستعمرة وتكبر. ويملك النحل كيسا للعسل في بطنه يخزن فيه الرحيق، وعند النمل كيس مشابه يسمى «المعدة الاشتراكية» لأنه كثيرا ما يشاركها غيرها من النمل في محتويات هذا الكيس. وللنحل ثلاث طوائف فقط: الملكات والذكور والشغالة، ولكن النمل له عادة طائفة رابعة وهي العساكر، وهذا الطائفة تحرس العش، أو تخرج في غارات على قبائل النمل الأخرى، جسمها أكبر من جسم الشغالة، ورءوسها كبيرة ذات فكوك قوية كالمبرد، وبعضها له إبرة مثل النحل، ولكن معظم أنواعها يعض ويحتوي لعابها علي حامض الفورميك الذي يسبب الألم في لسعة النحلة، وفي الحقيقة سمي هذا الحامض عن النملة التي أطلق عليها الرومان اسم «فورميكا». وتقوم شغالة النحل بأعمال كثيرة، ولكن النمل قسم نفسه إلى طوائف مميزة، ولقد وصف العلماء أكثر من عشرين صنفا من الشغالة، وأغربها تلك الشغالة التي أصبحت بمثابة براميل حية لخزن الرحيق، وعصارة بعض الأشجار والنباتات، وهي تمتلئ بهذا السائل الحلو حتى تنتفخ معدتها كالبالون الصغير، وتتعلق في سقف العش عاما بعد عام

وتملؤها الشغالة الأخرى بالرحيق الذي يعودون لتذوقه بعد حين، وربما لا نجد مثل هذه التضحية بالنفس في أي مجتمع آخر. ويصنع النحل من الشمع دور حضانة لصغاره، أما النمل فكثيرا ما يحمل معه الشرانق التي تحوي صغاره حيثما تنقل، وتسمى هذه الشرانق خطأ بيض النمل، ولكنها في الحقيقة عذارى النمل وليست بيضه. وتقوم النملة الشغالة بتنظيف جسمها داخل العش كما تفعل القطة الصغيرة، وربما تفعل ذلك عشرين مرة في اليوم الواحد، وأحيانا تتكور النملة وتنام كما يفعل الكلب، وعند ما تستيقظ تتمطى وتفتح فمها كما لو كانت تتثاءب. وقد يسكن نوعان مختلفان من النمل أنحاء منفصلة في عش واحد، ويحتفظ النمل بحشرات صغيرة كثيرة استأنسها، ولقد وجد نحو ألفي نوع من هذه الحشرات المختلفة داخل مساكن النمل الذي نجح في استئناس العدد الكبير من الحيوانات المختلفة أكثر مما استأنسه الإنسان. ومع ذلك ليس كل هؤلاء السكان من المرغوب فيهم، فهناك حفار الغيط الصغير الذي يفضل مساكن النمل الآمنة التي شقي في حفرها النمل، وكذلك تغزو بعض الخنافس المتوحشة عشه. بيد أن للنمل أعداء أفظع، فأنواع كثيرة من الطيور تلتهمه، وكذلك «السحالي» والضفادع، ويلتقطه آكل النمل العملاق في جنوب أمريكا بالمئات بواسطة لسانه اللزج، وبعض القبائل من الأهالي تحب أكل النمل، ويعتبر نمل «قوارير العسل» من الحلوى النادرة عند هنود المكسيك، وحتى الأوربيون وجدوا أن طعم النمل المحمر يشبه طعم الجوز المحمص. وأغرب أعداء النمل جميعا حشرة عجيبة تشبه الرعاش، وهي غير ضارة مطلقا في طورها الكامل، ولكن في طورها اليرقي تكون مخلوقا متوحشا يسمى «أسد النمل» ويقل طولها حينئذ عن البوصة، وأرجلها الست ضعيفة لدرجة أنها تمشي بصعوبة، وإلى الخلف فقط، ولها ست عيون، وليس لها فم، ولكن فكوكها المتباعدة المزودة بأشواك حادة تجري داخلها قنوات تمتص بها غذاءها، وتحفر هذه الحشرة حفرة قمعية الشكل في الرمل، وتدفن نفسها في القاع تاركة فكوكها مكشوفة فقط، وعند مجيء نملة إلى حافة الحفرة تسقط وتنزلق على الرمل الناعم. وإذا ما حاولت الفرار تسرع «أسد النمل» وترميها بحباب الرمل، حتى تسقط إلى القاع، وعند ما تصبح في متناول الفكوك تمتص جسمها وتتركه جافا بعد فترة وجيزة، ويسميها

بعض أنواع النمل الغريبة

الأطفال في الريف. doodle bug ويعتبر النحل صديقا لنا، بينما ينافسنا النمل. وكثيرا ما يكون عدوا لنا، فهو حقا يقدم لنا بعض الخدمات، ففي بعض المناطق الأوربية يشجع النمل على حفر مساكن له حول أشجار الفاكهة حيث يهاجم الحشرات الضارة بها. ولكنه كثيرا ما يضايقنا فهو يفسد المروج وسفوح النجيل الخضراء، ويضر المحصولات المزروعة، ويختلط بطعامنا، وفي المناطق الاستوائية يأتي النمل أعمالا فظيعة، ففي وادي نهر الأمازون أصبحت الحياة غير محتملة من جرائه، فبعض أنواعه تقرض ثوبا من الملابس وتتركه خرقا بالية في ليلة واحدة، وينتشر على النباتات هناك نوع يسمى «النمل الناري» وهو مشبع بحامض الفورميك لدرجة أن مجرد الاحتكاك به كلمس النار، وهناك نملة أخرى كبيرة تقرب من البوصة تسمى «النملة الرهيبة» وقد تسبب عضتها الحمى، ولهذا فإن عدد سكان ذلك الوادي الخصيب- الذي تقارب مساحته مساحة الولايات المتحدة- أقل من سكان الصحراء الكبرى. ولا غرابة إذن أنهم يطلقون عليه اسم «مملكة النمل». بعض أنواع النمل الغريبة: بين الملايين من النمل الجماعي توجد بعض الأنواع يجدر بنا أن نذكرها وخاصة ما يسمى «نمل تكساس الزراعي». يقيم هذا النمل هضبة من التراب ارتفاعها عدة أقدام، ويحفر تحتها حجرات متشعبة، ويزيل ما حولها من مزروعات تاركا فقط نبات غذائه الأساسي لينمو حول العش وهو ما يسمى «رز النمل» ويعبد طرقا خارجة من الهضبة تشبه في ذلك عجلة العربة الخشبية، ولقد وجد ثمانية عشر نوعا من البذور المختلفة في صوامع النمل تحت الأرض. وتملك أفراد العساكر رءوسا وفكوكا ضخمة، وإذا تخيلنا نملة منها في حجم الإنسان لبلغ حجم رأسها جوال البطاطس، والمسافة بين فكوكها ست أقدام. وتقرض عساكر النمل البذور بفكوكها كي تمنعها من الإنبات، وكذلك تقوم بتكسير البذور اللازمة لطعام الشغالة ولهذا سميت «كسارة البندق الحية». وإذا ما ترطب الأرز المخزون حملته الشغالة لتجفيفه في الشمس، وإذا أنبتت البذور

حملت إلى خارج العش حتى تنمو لها جذور، وهذا سبب الاعتقاد السائد بأن هذه الأنواع تزرع المحاصيل حقيقة. وعلى أية حال هناك نمل يملك حقا الحدائق وهو نمل «السوبا» ويسمى أيضا «قاطع الأوراق» أو «حامل الشماسي»، وفي بعض أحراش أمريكا الاستوائية قد ترى قطارا من ورق الشجر المتحرك، كل قطعة فيه ما هي إلا جزء من ورقة خضراء تحملها نملة، وعند ما تخزن هذه القطع في حجرات تحت الأرض يسمدها النمل ببراز يرقات فراش معين، وهناك ينمو عليها نوع من الفطر يسمى «عيش الغراب» وهو يتغذى عليه. وعند ما تبدأ ملكة نمل من هذا النوع عشا جديدا تحمل معها شيئا من هذا الفطر داخل تجويف صغير بجسمها. ونحن نزرع «عيش الغراب» في الظل، ولكن النمل يقوم بهذا قبل أن نتعلم نحن السر في ذلك بمدة طويلة، وقام النمل بزراعة أنواع مختلفة من الفطر في أنفاق طويلة تحت سطح التربة، ولقد قاس العالم «بيتس» أحد هذه الأنفاق فوجد طوله نحو مائتين وعشر أقدام. وأحيانا يسبب نمل الورق هذا أضرارا جسيمة، لأنه قد يجرد الشجر من أوراقه عند ما يسعى للحصول على ما يزرعه في حدائقه، وهو أيضا محارب شجاع يدافع عن مساكنه ضد هجمات الأنواع الأخرى المتوحشة. ويحب النمل الندوة العسلية لدرجة أن «داروين» ذكر أنها غذاؤه المفضل، وهو يلحسها من على الأوراق وقلف الأشجار، ولكن هناك حشرات أخرى وخاصة «المن» تتخم نفسها بهذا السائل الحلو، ولهذا يستخدمها النمل في جمع هذا الرحيق فيجلب النمل بيض المن إلى عشه، وعند ما يفقس يحمله إلى الخارج ويضعه على النباتات التي تفرز الندوة العسلية. وعند حلول الليل يقوده ثانية إلى بيته تماما كما يفعل الفلاح عند ما يعود بأبقاره من المراعي كي يحلبها، وحينما تمسح النملة ظهر حشرة من المن تفرز هذا السائل الحلو، ولقد لوحظت حشرة منها وهي تعطي ثماني وأربعين نقطة من الرحيق خلال 24 ساعة، وربما كانت هذه هي صاحبة الجائزة الأولى بين «أبقار النمل» هذا إلى درجة أن النمل يبني حجرات خاصة لما يحتفظ به من حشرات المن تماما كما يبني الفلاح حظيرة لأبقاره فلا غرابة أنه يسمى «النمل الحالب». وبعض النمل يسئ إلى جيرانه من أنواع النمل الأخرى، وهو محارب مستميت يقرض أطراف أعدائه من قرون استشعارها وأرجلها حتى الرأس. وقيل إنه من عش واحد لهذا

النمل السارق خرجت ست وأربعون حملة من حملات الغزو خلال شهر واحد، وحينما يتقابل النمل مع عدو يماثله وحشية تقوم بينهما الحرب، ولقد استمرت إحدى هذه الحروب أكثر من ستة أسابيع بين جماعتين متنافستين من النمل. وكذلك يستعبد النمل أنواعا أخرى ضعيفة، فهو يسرق شرانقها، وعند ما تفقس تعمل الشغالة الجديدة في خدمة أسيادها. وتعتمد بعض هذه الأنواع المستعبدة على عبيدها كي تغذيها وتقوم على خدمتها. وأكثر أنواع النمل إرهابا هو النوع المسير للجيوش، وهو حقا من أكلة اللحوم، وكثيرا ما يشاهد في مناطق أمريكا الاستوائية، ولكنه يبدو أشد تخريبا في أفريقيا، وقد يبلغ طابور هذا النمل الغازي عدة بوصات في العرض وطوله ميل تقريبا، وفيه تحمل الشغالة شرانق الصغار، وتمشي العساكر في المقدمة، بينما يقوم أفراد أخرى بحماية جناحي الجيش، وتعين حراسا للمؤخرة، ولقد سجل بعض المراقبين لهذه الجيوش أن بها بعض الأفراد أكبر حجما تقوم بعمل الضباط، وإذا ما تحرك الطابور سار في خط مستقيم لا يعوقه شئ غير النار أو الماء، ويهرع الأهالي في تلك الأماكن في فزع عند ما تجوس جيوش النمل خلال أكواخهم، وتقضي على جميع ما بها من قمل وبراغيث وصراصير. ولقد رأى أحد العلماء الإنجليز طابورا من النمل يهاجم ثعبانا طوله عدة أقدام، وبعد دقائق قليلة كان النمل قد مزقه فعلا إلى قطع صغيرة. وحينما ظهر ما يعوق سير الطابور علم به أفراد النمل الذي يبعد عن هذا العائق بنحو مائة ياردة خلال عشر ثوان، أما كيف سرت الأنباء بهذه السرعة فالنمل وحده- بعد الله- الذي يعلم. وأحيانا يتجمع النمل المحارب في دوائر حول أفراد أكبر حجما يبدو أن لها أهمية خاصة، وأحيانا يتجمع على شكل كرة كبيرة حول جذور أحد الأشجار حيث يبدو كالنائم، ولكنه عند ما يزحف يقال عنه إنه أفظع جيش في العالم، ومن المؤكد أن جميع الحيوانات الأخرى تفر من أمامه وتخلي له الطريق. وعلى ذلك سواء كان النمل من النوع البناء، أو المقيم للحدائق، أو الحالب للحشرات، أو من النوع المحارب، فهو حقا صانع العجائب.) 5 - في قول النملة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بعد قولها لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ دليل على أن جند سليمان جميعا كانوا في الذروة من الالتزام السلوكي

[سورة النمل (27): آية 20]

المعروف، حتى عند الحيوان، وأنهم لا يتجاوزون إطار الحق والعدل والمباح إلى غيره. وهذا درس في السياسة مهم، فعلى رئيس الدولة أن يضبط جنده بضابط العدل. وهذا لا يتم إلا بفقه وتربية وإلزام وعقاب للمخالف. فليلاحظ هذا الدرس، وليضع الذين يكرمهم الله بالملك مثل هذا الدرس موضع التطبيق. ولنعد إلى التفسير: ... وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقد: طلب ما غاب عنك فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ والمعنى: أنه تعرف الطير فلم يجد الهدهد فقال ما لي لا أراه، على معنى أنه لا يراه، وهو حاضر لساتر ستره، أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول بل هو غائب، ومن ثم قال: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ قال ابن كثير أي: أخطأه بصري من الطير، أم غاب فلم يحضر؟ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً لم يحدد القرآن نوع العذاب الشديد، وللمفسرين كلام كثير في تحديده، ويبدو أنهم أخذوه استنتاجا أو تلقيا عن أهل الكتاب، وقد لخص النسفي هذه الأقوال بقوله: بنتف ريشه، وإلقائه في الشمس، أو بالتفريق بينه وبين إلفه، أو بإلزامه خدمة أقرانه، أو بالحبس مع أضداده، وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد، أو بإيداعه القفص، أو بطرحه بين يدي النمل ليأكله، وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ عقوبة له أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة له فيها عذر ظاهر على غيبته، ومعنى كلامه: ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب، ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما. ... فوائد: 1 - في قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ درس من دروس الحكم؛ إذ دل ذلك على أن سليمان كان يعرف الصغيرة والكبيرة من أمر جنده، وعلى أن أي خلل يخل به أحد من جنده كان يعرفه ويشعر به ويبحث عن سببه. 2 - وفي قول سليمان لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ

مُبِينٍ درس آخر من دروس الحكم، بل دروس، فالخلل لا بد أن يعالج بالعقوبة، ومن ثم قال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ولكن العذاب أو الذبح بعد إذ لم يكن عذر ومن ثم قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وإذن فقبل العقوبة لا بد من معرفة سبب الغياب، وهذا هو الدرس الثاني، والدرس الثالث: دقة كلام الحاكم وإحاطته واختصاره، وإظهار الغضب إذا وجد الخلل والتهديد بالعقوبة به بحيث يسمعها الجند. 3 - قدم ابن كثير للكلام عن الهدهد وتفقد سليمان له بما يلي: (قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندسا يدل سليمان عليه السلام على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض كما يرى الإنسان الشئ الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجان، فحفروا ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره، فنزل سليمان عليه السلام يوما بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج يقال له نافع بن الأزرق، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس فقال له: قف يا ابن عباس غلبت اليوم، قال ولم؟ قال أتخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابا فيجئ الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي، فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس لما أجبته، ثم قال له: ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر، فقال له نافع: والله لا أجادلك في شئ من القرآن أبدا). أقول: إن ذكر هذه الخاصية عند الهدهد شئ ليس فيه نص في كتابنا، ولا عن رسولنا عليه الصلاة والسلام، وإنما هو كلام كبار المفسرين، ولا نعرف من أين أخذوه، هل هو استنباط أو تلق عن أهل الكتاب، وعلى كل حال فليس من المستبعد أن يكون عند بعض المخلوقات مثل هذه الخواص، ففي عصرنا صار بإمكان بعض الاختصاصيين بعلم الجيولوجيا أن يعرفوا من خلال دراسة التربة احتمالات وجود الماء أو البترول في باطن الأرض، كما أنه قد وجدت أجهزة تستطيع أن تستكشف الكثير مما هو في باطن الأرض، فلا يبعد أن تكون عند بعض المخلوقات مثل هذه الخواص، ألا ترى أن خاصية الرادار موجودة عند الوطواط.

[سورة النمل (27): آية 22]

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي مكث الهدهد بعد تفقد سليمان إياه مكثا غير بعيد أي غير طويل. قال النسفي: (ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان). أقول: (وفي هذا درس في فن الحكم، وهو أن يكون للدولة هيبتها) فلما رجع الهدهد سأله سليمان عما لقي في غيبته فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ قال ابن كثير: أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك. وقال النسفي في تفسير قول الهدهد: علمت شيئا من جميع جهاته. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي بخبر صدق حق يقين. قال ابن كثير: وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن، ثم تابع الهدهد كلامه إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ قال النسفي: (هي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس) وقال ابن كثير بعد أن ذكر أقوالا كثيرة للمفسرين في بلقيس وشأنها: (وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ كانت من بيت مملكة، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثنى عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل، وكانت بأرض يقال لها مأرب، على ثلاثة أميال من صنعاء، وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن والله أعلم). وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ أي سرير عظيم كبير مزخرف. وللمفسرين والمؤرخين كلام كثير حول السرير ووصفه، لسنا بحاجة إليه في مثل هذا التفسير. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن طريق الحق أي عن سبيل التوحيد فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أي إلى الحق، دل ذلك على أن الهدهد كان مدركا لقضية معرفة الله، ووجوب السجود له، وحرمة السجود للشمس، إلهاما من الله له أو كأثر من وضوح الرؤية عند كل جند سليمان أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ التقدير فصدهم الشيطان لئلا يسجدوا لله وفي الآية قراءات أخرى وتأويلات أخرى سنراها في الفوائد الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ أي المخبوء فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فهو رب العرش الذي لا يوجد أعظم منه. قال ابن كثير عن العرش: ليس في المخلوقات أعظم منه: قال النسفي: وصف الهدهد عرش الله

فوائد

بالعظيم تعظيما له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك وبهذا انتهى كلام الهدهد لسليمان وقبل أن نرى جواب سليمان عليه السلام فلنذكر بعض الفوائد: فوائد: 1 - قلنا إن في قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا أكثر من قراءة وأكثر من تأويل. وقد لخص النسفي ذلك بقوله: أَلَّا يَسْجُدُوا بالتشديد أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع أن وأدغمت النون في اللام، ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعني: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا، وبالتخفيف يزيد وعلي إمامان من أئمة القراءات. وتقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فألا للتنبيه، ويا حرف نداء، ومناداه محذوف، فمن شدد لم يقف إلا على (العرش العظيم) ومن خفف وقف على: (فهم لا يهتدون) ثم ابتدأ (ألا يسجدوا) أو وقف على [ألا] ابتدأ [اسجدوا]. وسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا بخلاف ما يقوله الزجاج: إنه لا يجب السجود مع التشديد لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح للآتي بها، أو ذم لتاركها. وإحدى القراءتين أمر، والأخرى ذم للتارك. 2 - بمناسبة كلام الهدهد لسليمان. قال ابن كثير: ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير، وعبادة الله وحدة، والسجود له نهي عن قتله، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع من الدواب. النملة والنحلة والهدهد والصرد». وإسناده صحيح. والصرد: طير ضخم: الرأس أبيض البطن أصفر الظهر يصطاد صغار الطير. 3 - نلاحظ من فعل الهدهد وكلامه شدة إخلاصه لنظام الدولة، وشدة إخلاصه لسليمان، وحرصه على خدمة النظام، ومحاربته لأعدائه، وذلك أثر عن معرفة كل جندي من جند سليمان واجبه وقيامه به. وهكذا تكون الدولة النموذجية أن يقوم كل فرد فيها بخدمتها، بحيث يكون المردود العام هو حصيلة جميع مجهود الأمة. ...

[سورة النمل (27): آية 27]

قالَ أي سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أي في إخبارك هذا أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي في مقالتك، لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك، وفي ذلك درس جديد من دروس الحكم؛ أن يتثبت الحاكم من كل خبر يلقى إليه، سواء كان عن أوضاع خارجية أو داخلية. ثم قال سليمان للهدهد: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا دل على أن سليمان قد كتب كتابا سنعرف صيغته فيما بعد فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي ثم تنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك ليكون ما يقولونه منك مسموعا فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي فانظر ما الذي يردونه من الجواب، وفي ذلك درس آخر من دروس الحكم، وهو أن تكون التعليمات واضحة للمكلف بمهمة، وأن تكون تصرفات العدو الخارجي معروفة من قبل الحاكم المسلم دون أن يشعر العدو قالَتْ لقومها بعد إذ قام الهدهد بمهمته يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي حسن مضمونه وما فيه، أو مختوم، أو لأنه من عند ملك كريم، ثم بينت مضمون الكتاب، واسم مرسله فقالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أي لا تترفعوا علي ولا تتكبروا وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي مؤمنين أو منقادين. ومن معرفتنا لمضمون الكتاب ندرك أدبا من آداب الحكم وهو الاختصار في المراسلات الخارجية، مع الوضوح، ومن تلقي بلقيس الكتاب بمثل هذا الأدب، ندرك أننا أمام ملكة عاقلة، ومملكة عريقة، إذ لا يتأتى مثل هذا الأدب السياسي إلا باجتماع هذين، ومن فحوى رسالة سليمان عليه السلام ندرك أن الحاكم المسلم عليه أن يخضع من يستطيع إخضاعه لسلطان الله، كما ندرك من كلام الهدهد السابق، ومن تصرف سليمان، أن ملك سليمان ونفوذه امتد خارج حدود فلسطين امتدادا واسعا قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ الملأ: هم أشراف القوم وأولو الرأي فيهم أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أشيروا علي في الأمر الذي نزل بي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي ما كنت فاصلة أو مقررة حكما حَتَّى تَشْهَدُونِ أي حتى تحضروني، أو حتى تشيروا علي، أو حتى تشهدوا أنه صواب، أي لا أبت الأمر إلا بمحضركم، وهذا يدل على أنها جمعت أولي الرأي من قومها بعد وصول الرسالة، كما يدل على عراقة المملكة، إذ لها مجلس شوراها، ومن كلام بلقيس ندرك أنها تعتبر شوراهم ملزمة لها، وذلك دليل كذلك على تعقلها في الأمور قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أرادوا بالقوة قوة الأجساد والآلات، وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي موكول إليك، ونحن مطيعون لك فمرينا بأمرك، نطعك ولا

[سورة النمل (27): آية 34]

نخالفك، كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة، وأنت ذات الرأي والتدبير فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ أي فانظري ماذا ترين نتبع رأيك، وهذا يدل على أنهم كانوا واثقين من رأيها، كما يدل علي أن وضع المملكة كان وضعا مستقرا، فماذا كان جوابها ورأيها؟ قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أي عنوة وقهرا أَفْسَدُوها أي خربوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي أذلوا أعزتها، وأهانوا أشرافها، وقتلوا وأسروا وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ هل هذه الكلمة تصديق من الله لها فيكون هذا الكلام ليس لها؟ أو هو تتمة كلامها بمعنى: وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك ورأت؟ قولان للمفسرين. ولم يذكر ابن كثير إلا الأول، ورجح النسفي الثاني، ومن كلامها هذا يبدو أنها عازفة عن الحرب، ومخطئة لطريقه ثم قالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي بقبولها أم بردها. فوائد: 1 - من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». وهذا يفيد أن السياسة العليا للدولة إذا أصبحت بيد المرأة فإن قراراتها لا بد أن يكون فيها خلل تسري آثاره على الأمة، وما من مرة في تاريخ هذا العالم حكمت فيه امرأة، ولو كانت أدهى النساء وأحزمهن، إلا تبينت بعد فترة، بعض الآثار السيئة لحكمهن، حتى فيكتوريا ملكة بريطانيا، وحتى كاترين ملكة روسيا، وهذه غولدا مائير وهذه أنديرا غاندي، وهذه باندارانيكا، والثلاث الأخيرات حكمن، وكل منهن سقطت وسقط معها حزبها، وقد عادت أنديرا إلى الحكم، ولكن وضع الهند متفجر والمستقبل كاشف، وفي قصة بلقيس مشاهد: لا شك أن فكرة الهدية فكرة سياسية رائعة، إذ من خلالها تستطيع بلقيس أن تتعرف بواسطة رسلها على وضع سليمان وقوته. إذ بحجة الهدية يستطيعون أن يتجسسوا ويتحسسوا، كما أن للهدية العظيمة أثرا في تليين نفوس الملوك، فهي رشوة قد تفعل فعلها، ومن ثم قال قتادة رحمه الله: «ما كان أعقلها في إسلامها وشركها؛ علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس» ولكننا نلاحظ في الوقت نفسه أن قومها وقد أعلنوا استعدادهم للقتال، مع تفويض أمرهم إليها، لم تأمرهم بالإعداد، ولا بالاستعداد، بل ثبطت هممهم بقولها إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً ... ومن ثم فإنها لم تتخذ مجموعة

[سورة النمل (27): آية 36]

القرارات الضرورية للموقف، وقد علق الحسن البصري على تفويض قومها لها، وذم حلها فقال: «فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها». ونحن لا نقول هذا الكلام رغبة منا في أن يكون موقفها أحزم تجاه نبي فهذا كفر، وإنما لنثبت أن المرأة مهما كانت عاقلة فتركيبها النفسي لا يؤهلها لاتخاذ القرارات العليا في سياسة الدولة. 2 - بمناسبة الكلام عن رسالة سليمان إلى بلقيس قال ابن كثير: (وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يكتب أحدبسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام، وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا في تفسيره عن ابن بريدة عن أبيه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود، قلت يا نبي الله أي آية؟ قال: «سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد» قال فانتهى إلى الباب، فأخرج إحدى قدميه فقلت نسي ثم التفت إلي وقال: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا حديث غريب وإسناده ضعيف. وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب باسمك اللهم، حتى نزلت هذه الآية. فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. 3 - قال ابن عباس وغير واحد: إن بلقيس قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه وليس في سياق القصة ما يشير إلى هذا والله أعلم. ... فَلَمَّا جاءَ رسولها بمن معه سُلَيْمانَ دل ذلك على أنها نفذت اقتراحها وأرسلت قالَ سليمان منكرا عليهم أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي الذي أعطاني الله من النبوة والملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ قال ابن كثير: (أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف). وقال النسفي في الآية: (والمعني: أن ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر، والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه فكيف- يرضى مثلي بأن يمد بمال بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم، لأن ذلك مبلغ همتكم، وحالي

[سورة النمل (27): آية 37]

خلاف حالكم وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية). ارْجِعْ إِلَيْهِمْ أي ائت بلقيس وقومها والخطاب للرسول، أو للهدهد محملا كتابا آخر إليهم فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طاقة لهم بها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي من بلادهم سبإ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ أي مهانون مدحورون. قال النسفي: (الذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك. والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد) عندئذ قررت بلقيس الاستسلام. فوائد: 1 - يذكر المفسرون كلاما كثيرا حول الهدية ونوعها، واختبارات جعلتها فيها بلقيس، وقد ذكرها ابن كثير، ثم علق عليها بقوله: (وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. والظاهر أن سليمان عليه السلام لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ولا اعتنى به بل أعرض عنه). 2 - إن رفض سليمان الهدية سببه- والله أعلم- أنها رشوة، وأنه أراد إعلامهم أنه ليس طالب دنيا، وإنما هو طالب نصرة دين. 3 - نلاحظ أن سليمان قد ركز على نقطة الضعف التي أظهرتها بلقيس، وهي خوفها أن يجعل أعزة قومها أذلة. ومن ثم قال: وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ وكان في ذلك استسلامها، ومن ثم ندرك أهمية المعرفة الكاملة للخصم، وتأثير ذلك على إحراز النصر. ... من السياق ندرك أن بلقيس استسلمت وسارت لتقديم الولاء وإعلان الاستسلام وقبل وصولها قال سليمان: قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي مستسلمين. قال النسفي: (أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان، أو أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها، وهذا بعيد عند أهل التحقيق، أو أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارا لعقلها.

[سورة النمل (27): آية 39]

قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ قال مجاهد: أي مارد من الجن أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلس حكمك وقضائك وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على حمله والإتيان به لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أي لقوي على حمله، أمين على ما فيه. قال ابن كثير: (فقال سليمان عليه السلام: أريد أعجل من ذلك) من هذا يظهر أن سليمان أراد بإحضار هذا السرير، إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك، وما سخر له من الجنود، وهو شئ لم يعطه أحد قبله، ولا يكون لأحد من بعده، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه، مع أنها قد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أكثر المفسرين على أنه آصف بن برخيا. قال ابن عباس: وهو آصف كاتب سليمان، وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخاء، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم، وقال قتادة: وكان مؤمنا من الإنس واسمه آصف. والكتاب هو التوراة. ويبدو أنه كان يعرف الكثير من أسراره أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ أي ارفع بصرك، وانظر مدى بصرك مما تقدر عليه، فإنك لا يكل بصرك إلا والعرش حاضر عندك فَلَمَّا رَآهُ أي العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي ثابتا لديه غير مضطرب قالَ هذا أي حصول مرادي وهو حضور العرش في مدة ارتداد الطرف مِنْ فَضْلِ رَبِّي علي وإحسانه إلي بلا استحقاق مني، بل هو فضل خال من العوض صاف من الغرض لِيَبْلُوَنِي أي ليمتحنني أَأَشْكُرُ إنعامه أَمْ أَكْفُرُ فلا أشكر، ثم قرر وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه يحط به عنها عبء الواجب، ويصونها عن سمة الكفران، ويستجلب به المزيد وتربط به النعمة. فالشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة وَمَنْ كَفَرَ بترك الشكر على النعمة فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن الشكر كَرِيمٌ بالإنعام على من يكفر نعمه، وهكذا نلاحظ أن سليمان يجدد لله شكرا كلما أحدث الله له نعمة قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروا بعض صفاته نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي أتهتدي إلى معرفة عرشها، أو أتهتدي للجواب الصواب إذا سئلت عنه أم أنها لا تهتدي إلى ذلك، ويبدو أن سليمان عليه السلام أراد أن يختبر عقلها من ناحية، وأن يضعها في وضع نفسي يصل به إلى إسلامها فَلَمَّا جاءَتْ أي بلقيس قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قال النسفي: لم يقل هذا عرشك، ولكن أمثل هذا عرشك، لئلا يكون تلقينا قال ابن كثير: (فكان فيها ثبات وعقل ولها لب ودهاء وحزم، فلم

[سورة النمل (27): آية 44]

تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ف قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أي يشبهه ويقاربه وهذا غاية في الذكاء والحزم). وقال النسفي: (فأجابت أحسن جواب، فلم تقل هو هو، ولا ليس به، وذلك من رجاحة عقلها، حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين، أو لما شبهوا عليها بقولهم: أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها كأنه هو مع أنها علمت أنه عرشها). فقال سليمان تعليقا وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ القول الراجح: أن هذا كله كلام سليمان، ويحتمل أن يكون وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من كلام سليمان، وأن يكون ما بعده كلاما مستأنفا لله عزّ وجل. والمعنى: أنها أوتيت علما وذكاء، ولكن الله أعطانا قبلها علما مع كوننا مسلمين. ويبدو أن رؤية العرش لم تكن كافية لإسلامها لتأصل الكفر، وعبادة الشمس عندها، ومن ثم وضعها سليمان في وضع نفسي آخر: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ أي القصر أو صحن الدار فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً أي ماء عظيما وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها من أجل أن تخوض فيه قالَ لها إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي مملس مستو ومنه الأمرد مِنْ قَوارِيرَ من الزجاج عندئذ أسلمت فقالت: قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعبادة الشمس وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وبهذا تنتهي القصة بنهاية عرفنا فيها كيف أن سليمان يسخر كل شئ من أجل الإسلام. فوائد: 1 - في مقام الحديث عن بلقيس نجد بعض المفسرين ينقل ما هب ودب، مما لا يفهم من السورة، ومما ليس فيه نص عن رسولنا عليه الصلاة السلام. وقد نقل مثل هذه الأقوال ابن كثير ثم علق على ذلك بقوله: (والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم، كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة). أقول: ومن كلام ابن كثير نفهم قيمة ما يورده المفسرون في هذا المقام، من كون بلقيس بنت جنية، وكون سليمان أقام

الصرح ليرى سلامة ساقيها .. وأمثال هذا الكلام التافه الذي ننزه كتب الإسلام عنه، وبهذه المناسبة نذكر أن بعضهم يذكر أثرا حول صنع النورة، وأنها صنعت من أجل بلقيس وإزالة شعرها، ويذكر في هذا الأثر كلاما طويلا عن ابن عباس قال عنه أبو بكر ابن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث» قال ابن كثير رادا: بل هو منكر غريب جدا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس. 2 - بمناسبة قول الله سبحانه على لسان سليمان وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ قال النسفي: (وفي كلام بعضهم إن كفران النعمة بوار، وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار. واعلم أن سبوغ ستر الله تعالى متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقارا، أي لم تشكر لله نعمة) وبمناسبة هذه الآية قال ابن كثير: وفي صحيح مسلم «يقول الله تعالى: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». 3 - هل كان الصرح معجزة من المعجزات، أم هو أثر جهد في عالم الأسباب؟ وإذا كان- كما هو الواقع- عملا داخلا في عالم الأسباب فماذا يرمز؟ إن قصة بلقيس تدلنا على أنها كانت في أمة ذات مدنية عريقة، ومن ثم فقد أراها سليمان في الصرح أنها أمام مدنية أعرق وأعظم؛ فخضعت. قال ابن كثير: (وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان: ثم قال لها ادخلي الصرح، ليريها ملكا هو أعز من ملكها، وسلطانا هو أعظم من سلطانها، فلما رأته حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها، لا تشك أنه ماء تخوضه، فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله). وهذا الدرس العظيم الذي نأخذه من سليمان يفيد أن المدنية الإسلامية يجب أن تكون أرقى المدنيات، لأن في ذلك إخضاعا نفسيا لبقية المدنيات وأهلها ومن المعروف أن من أسباب الردة المعاصرة تفوق الكافرين على المسلمين مدنيا، مما أدى إلى وجود عقدة نقص عند المسلمين، ومما جعل الكافرين يستغلون ذلك ليهاجموا الإسلام وأهله،

كلمة في السياق

ويتفاخروا بالكفر وأنظمته. 4 - نلاحظ في كتب العهد القديم في سفر الملوك الأول، في الإصحاح التاسع، إشارة إلى بلقيس، ومجيئها إلى سليمان، واعترافها له بالحكمة، وإقرارها بصحة دينه، وتقديمها الهدايا الكثيرة له، وليس في ذلك شئ من التفصيلات المذكورة في القرآن، ورواية العهد القديم ظاهرة الابتسار، ومردودة السياق؛ إذ إنها تذكر أن سبب مجيء بلقيس هو مجرد الرغبة في أن تسمع حكمة سليمان. فأي كلام مثل هذا؟! أتأتي ملكة من اليمن إلي فلسطين دون مقدمات، لمجرد أنها سمعت بحكمة سليمان، فجاءت تختبره، إن التفصيل القرآني الذي يظهر فيه سمت الأنبياء، وتظهر فيه معجزاتهم، وتظهر فيه طريقتهم، إن هذا وحده آية من آيات الله على أن هذا القرآن من عند الله. كلمة في السياق: قلنا إن سورة النمل تتألف من مقطعين، وكل مقطع يتألف من مجموعات، وأن المجموعة الأولى من المقطع الأول هي مقدمة السورة، وهي تنتهي بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ثم تأتي بعد ذلك في المقطع الأول أربع مجموعات: مجموعة تتحدث عن موسى عليه السلام، ومجموعة تتحدث عن داود وسليمان عليهما السلام، ومجموعة تتحدث عن صالح عليه السلام، ومجموعة تتحدث عن لوط عليه السلام. وفي كل من المجموعات الأربع يوجد رسول تلقى عن الله، وفي كل مجموعة تجد مظاهر من حكمة الله وعلمه، وفي كل مجموعة تجد نموذجا لرسالة من رسالات الله وكلاما عن المرسلين، وفي كل مجموعة تجد آية من آيات الله وذلك كله يفصل قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ففي كل مجموعة تجد آيات من آيات الله يتلوها على محمد صلى الله عليه وسلم مؤكدة رسالته، وقد مرت معنا المقدمة ومجموعتان، والآن تأتي المجموعتان الأخيرتان من المقطع الأول فلنرهما: ***

المجموعة الرابعة من المقطع الأول وفيها قصة صالح عليه السلام

المجموعة الرابعة من المقطع الأول وفيها قصة صالح عليه السلام وتمتد من الآية (45) إلى نهاية الآية (53) وهذه هي: [سورة النمل (27): الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) التفسير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ في النسب صالِحاً كما أرسل داود وسليمان وموسى، وكما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم أَنِ أي بأن اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي فإذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون فيقول كل فريق

[سورة النمل (27): آية 46]

الحق معي قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي بالعذاب الذي توعدون إذا لم تتوبوا؟ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تطلبون المغفرة من ربكم بأن تتوبوا وتؤمنوا قبل نزول العذاب بكم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالإجابة. والمعنى: لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي قالوا تشاء منا بك وبمن معك من المؤمنين. أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا، وذلك لأنهم لشقائهم كان لا يصيب أحدا منهم سوء إلا قال: هذا من قبل صالح وأصحابه. قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي سببكم الذي- يجئ منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، أو عملكم مكتوب عند الله، فإنما نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة. قال النسفي: (وأصله أن المسافر إذا مر بطائر فيزجره فإن مر سانحا تيامن، وإذا مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة). والمعنى باختصار: أي الله يجازيكم على ذلك بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي تختبرون أو تعذبون بذنوبكم. قال ابن كثير: قال قتادة: تبتلون بالطاعة والمعصية. والظاهر أن المراد بقوله تُفْتَنُونَ أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي في مدينة ثمود وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ أي تسعة نفر، والرهط جمع لا واحد له، ولذا جاز تمييز التسعة به، فكأنه قال تسعة أنفس، والرهط في الأصل من الثلاثة إلى العشرة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ يعني أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يختلط بشيء من الصلاح. فإذا كان بعض المفسدين قد يبدر منه بعض الصلاح فهؤلاء لا صلاح عندهم. وعن الحسن في تفسيرها: أي يظلمون الناس ولا يمنعون الظالمين من الظلم. وعن ابن عطاء: يتبعون معايب الناس ولا يسترون عوراتهم. قال ابن كثير: وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم. قال العوفي عن ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم، وقد فعل ذلك. قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي تحالفوا وتعاهدوا وتبايعوا لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أي لنقتلنه بياتا أي ليلا، هو وأهله أي ولده وتبعه ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي ثم لنقولن لولي دمه أي لعشيرته إذا طالبت بدمه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي إهلاكهم أو مكان الإهلاك. أي لم نتعرض لأهله فكيف تعرضنا له؟ أو ما حضرنا موضع هلاكه فكيف نكون نحن الذين أهلكناه؟ وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي فيما ذكرنا وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر الله، مكرهم ما

[سورة النمل (27): آية 51]

أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله، ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أي فكان عاقبة مكرهم الدمار بالصيحة فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أي خالية ولا زالت كذلك بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أما الجاهلون فلا يعرفون ولا يتعظون وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بصالح وَكانُوا يَتَّقُونَ عصيان أوامر الله. نقل: بمناسبة قول قوم صالح لصالح قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ قال صاحب الظلال: (والتطير: التشاؤم. مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام، لأنها لا تخرج منه إلى نصاعة الإيمان. فقد كان الواحد منهم إذا هم بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا. فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر، وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر؟. وما تدري الطير الغيب، وما تنبئ حركاتها التلقائية عن شئ من المجهول. ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه. فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد، ولا تخضع لعقل، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين. وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه، لأنهم- بزعمهم- قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين- هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه .. نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد ... إلى آخر هذه الخرافات الساذجة. ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة. وهي جوعتها إلى الإيمان، وعدم استغنائها عنه، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان، وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام، لأنه أكبر من الطاقة البشرية، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان، زائد على مطالب خلافته في الأرض، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات).

فوائد

فوائد: 1 - يذكر بعض المفسرين أسماء التسعة الذين شاركوا في عقر الناقة. ويذكرون اسم الذي باشر ذلك منهم، فيسمونه قدار بن سالف وليس في ذكر ذلك كبير فائدة والله أعلم بمصدر ذلك. 2 - وصف الله عزّ وجل التسعة رهط بأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون وقد رأينا تفسير ذلك، إلا أن بعضهم ذكر نوعا من الإفساد استحقوا به ذلك الوصف قال ابن كثير: (روى عبد الرزاق عن عطاء- هو ابن أبي رباح- يقول: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قال: كانوا يقرضون الدراهم يعني: أنهم كانوا يأخذون منها وكأنهم كانوا يتعاملون بها عدا كما كان العرب يتعاملون. وروى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض. وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس.) 3 - بمناسبة قوله تعالى: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ قال ابن كثير: (أي تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح عليه السلام. فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم، قال مجاهد تقاسموا وتحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين، وقال قتادة: تواثقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم، قال العوفي عن ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة، قالوا حين عقروها لنبيتن صالحا وأهله فنقتله، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئا، وما لنا به من علم فدمرهم الله أجمعين. وقال محمد بن إسحاق: قال هؤلاء التسعة بعد ما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثم هموا به فقامت عشيرته دونه، ولبسوا السلاح، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أن قصة موسى انتهت بقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ونلاحظ أن قصة صالح كان في أواخرها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ لاحظ كيف أن الخطاب توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلتا المرتين، ولاحظ أنه قد جاء قبل قصة موسى الآية وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وهي خطاب مباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاحظ أن آية المحور كانت خطابا مباشرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فالسورة سائرة على سنن مطرد في تفصيل محورها مع تكامل سياقها، ونلاحظ أن قصة صالح كان أواخرها قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ مما يدل على أن السورة تذكر في كل قصة من القصص آية من آيات الله التي يتلوها الله على رسوله عليه الصلاة والسلام. ***

المجموعة الخامسة من المقطع الأول وفيها قصة لوط عليه السلام

المجموعة الخامسة من المقطع الأول وفيها قصة لوط عليه السلام وتمتد من الآية (54) إلى نهاية الآية (58) وهذه هي: [سورة النمل (27): الآيات 54 الى 58] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) التفسير: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ قال النسفي: أي واذكر وقت قول لوط أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي إتيان الذكور دون الإناث وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها، أو يرى ذلك بعضهم من بعض، لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم معالنين بها، لا يتستر بعضهم من بعض مجانة وانهماكا في المعصية، أو وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم، وما نزل بهم، أو وأنتم لكم بصر ونظر وعقل تستطيعون به إدراك فظاعتها وبشاعتها أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي للشهوة مِنْ دُونِ النِّساءِ أي أن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر، ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، ففعلكم مضادة لله في حكمه وحكمته بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا. أو المعنى: تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو أريد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، أو أريد جهلهم بحكمة الله في التحريم إذ لو استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، لفني البشر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ

[سورة النمل (27): آية 57]

إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي لوط ومتبعيه مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتنزهون عن القاذورات، فانظر ما أوقحهم، يعرفون أن ما عليه لوط وآله طهارة، ويعتبرونها ذنبا يستحق النفي فَأَنْجَيْناهُ أي قدرنا فخلصناه من العذاب الواقع بالقوم وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها أي قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ أي من الهالكين مع قومها. قال ابن كثير: (لأنها كانت ردءا لهم على دينهم، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا كرامة لها) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي الذين قامت عليهم الحجة، ووصل إليهم الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه، وهموا بإخراجه من بينهم. وبهذا انتهى المقطع الأول. كلمة في سياق المقطع الأول: جاء المقطع الأول مؤلفا من خمس مجموعات: مقدمة وأربع قصص مرتبطة بالمقدمة من حيث إنه يظهر في القصص آثار علم الله وحكمته في موضوع الإلقاء إلى الرسل، والأخذ بيدهم، وكل ذلك في صيغة دروس تلقى لمحمد عليه الصلاة والسلام، وكان في المقدمة بيان لصفات المستفيدين من هذا القرآن الذى هو آيات الله المتلوة والمنزلة والملقاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذ تحدث السياق في المقطع الأول عن رسل الله المصطفين في معرض إلقاء القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فإننا نلاحظ أن المقطع الثاني يبدأ بتوجيه أمر مباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. فالحمد لله على إلقائه القرآن وسلام على المرسلين الذين قص الله علينا في السورة نماذج عنهم. ثم تبدأ المجموعة الأولى من المقطع الثاني تعرفنا على الله منزل القرآن، والمصطفي من عباده من شاء، فلنر المقطع الثاني ثم نفسره متحدثين خلال ذلك عن السياق. ***

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (59) إلى نهاية الآية (93) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: [سورة النمل (27): الآيات 59 الى 93] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أن الآية الأولى في المقطع هي: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ... وأن الآية الأخيرة في المقطع والسورة هي: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ الآية الأولى مبدوءة ب (قل) والأخيرة

1 - المجموعة الأولى

ب (وقل) فكأنها معطوفة عليها، ومضمون القول في الأولى: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فالحمد جزء منه، ومضمون القول في الثانية: الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها .. فالحمد جزء منه. الأولى فيها ذكر المرسلين، والثانية فيها ذكر الآيات. وهذا يدلنا على ما يلي: 1 - على وحدة المقطع بدليل وحدة المبدأ والختام. 2 - وأن المقطع يبني على المقدمة والمقطع الأول في موضوع الآيات والمرسلين. 3 - وأن المقطع والسورة يفصلان المحور الذي ذكرناه تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. 4 - وأن المقطع الثاني يحدد ما ينبغي ذكره وتذكره، نتيجة لما ورد في المقطع الأول. فلنعرض المقطع الثاني على مجموعات، لنرى تتمة السورة، وصلة مقطعها الأول بالثاني والعكس، ومحل ذلك كله في السياق العام. 1 - المجموعة الأولى التفسير: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة إنعامه هذا القرآن، وعلى إفاضته على عباده النعم التي لا تعد ولا تحصى، وعلى ما أتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أي الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه الكرام. قال ابن كثير: (والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ذكره لهم ما فعله بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد، وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر أن يحمدوه على جميع أفعاله، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار) وقال النسفي: (أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بتحميده، ثم بالصلاة على المصطفين من عباده، توطئة لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته، وقدرته على كل شئ وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال بأن يتبرك بهما ويستظهر بمكانهما) .. كلمة في السياق: نلاحظ أن ابن كثير ذكر محل آية قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى بالنسبة لما قبلها، وأن النسفي ذكر محلها بالنسبة لما بعدها، وبالجمع بين

[سورة النمل (27): آية 60]

القولين ندرك أن الآية جسر بين ما قبلها وما بعدها، فما بعدها حديث عن الله واليوم الآخر، وما قبلها حديث عن الدعاة لله واليوم الآخر، وهم المرسلون ولنسر قليلا: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ قال ابن كثير (في هذا النص: استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى). وقال النسفي: (ولا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل شئ وإنما هو إلزام لهم، وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئا على شئ إلا لداع يدعوه إلى إيثاره، من زيادة خير، ومنفعة فقيل لهم مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير، ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطأ المفرط، والجهل المورط، وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم). قال ابن كثير: ثم شرع تعالى يبين أنه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي على هذه الحكمة والإحكام وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ أي السحاب السَّماءِ أي مطرا فَأَنْبَتْنا بِهِ بالماء حَدائِقَ أي بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات حسن لأن الناظر يبتهج به ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أراد أن تأتي إنبات الأصناف والألوان والطعوم والأشكال مع الحسن بماء واحد، وبمثل هذا الإتقان والإحكام محال من غيره أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أغيره يقرن به ويجعل شريكا!؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي يجعلون لله عدلا ونظيرا أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي لا تميد ولا تضطرب، إذ لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، وليس في الآية ما ينفي الدوران ولا الميدان الجزئي الذي يحدث لقطعة من الأرض حال الزلزال وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أي جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة، شقها في خلالها، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار، وبين ذلك، وسيرها شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، وسخر لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه وَجَعَلَ لَها أي للأرض رَواسِيَ أي جبالا تمنعها من الميدان والاضطراب وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب والمالح حاجِزاً أي مانعا يمنعهما من الاختلاط. قال ابن كثير: لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا. فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس.

[سورة النمل (27): آية 62]

والمقصود منها أن تكون عذبة زلالا يسقى الحيوان والنبات والثمار منها، والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحا أجاجا لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ التوحيد فلا يؤمنون أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ المضطر: الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجوء إلى الله، والتضرع إليه، أو المذنب إذا استغفر، أو المظلوم إذا دعا، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد، وهو منه على خطر وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي الضر أو الجور. قال ابن كثير: أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء فيها أي يخلف قرنا لقرن قبلهم خلفا لسلف. قال النسفي: وذلك توارثهم سكناها، والتصرف فيها، قرنا بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسلط أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون تذكرا قليلا. قال ابن كثير: أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية بالنجوم وبالعلامات الكثيرة في الليل والنهار وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه أعظم من أن يشرك به المشركون أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشؤه ثُمَّ يُعِيدُهُ قال النسفي: وإنما قيل لهم ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة لأنه أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ قال النسفي: المطر وَالْأَرْضِ قال النسفي النبات أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على إشراككم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم أن مع الله إلها آخر، وبهذا انتهت المجموعة الأولى. ... نقل: بمناسبة قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قال صاحب الظلال: (فالمضطر

في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد؛ وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى؛ وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى .. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق. والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين. والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل. حقائق خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الحدائق البهيجة، وجعل الأرض قرارا، والجبال رواسي، وإجراء الأنهار، والحاجز بين البحرين. فالتجاء المضطر إلى الله، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق. هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء. ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ .. فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا. ثم جعلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟ أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى. النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا؛ والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف المساعدة للحياة. ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه

كلمة في السياق

لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا. وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة؛ واستخلف جيلا بعد جيل؛ ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين؛ ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير، لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات، وتجدد أنماط الحياة، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور. فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الإمام! إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق. فمن الذي حقق وجودها وأنشأها؟ من؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ .. إنهم لينسون ويغفلون. وهذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس، مشهودة في واقع الحياة: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ! ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى. ولما غفل عن ربه، ولا أشرك به أحدا). كلمة في السياق: نلاحظ أنه قد ورد في الآية الأولى من هذه المجموعة قوله تعالى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ بعد قوله تعالى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ومن محض العقل، ومن السياق نعرف الجواب: أن الله خير، بدليل ما قبل الآية مما يفعل الله لرسله وأوليائه بينما لا تنفع الآلهة المزعومة أصحابها، وبدليل ما ذكر في بقية المجموعة من كون الله خالقا ومنعما ومجيبا وهاديا ومبدئا ومعيدا ورازقا، وغيره لا يخلق ولا ينعم ولا يجيب ولا يهدي ولا يبدئ ولا يعيد ولا يرزق. وهكذا نجد الآية الأولى في المجموعة جسرا بين ما قبلها وما بعدها، ويلاحظ أنه حيث ورد قوله تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يكون التقدير: أإله مع الله يعبد، أو أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا يدل على أن المجموعة كلها مسوقة لتوكيد التوحيد الذي دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما رأينا ذلك في المقطع الأول، وفي الآيات كذلك تعليل للأمر الذي ورد في أول المجموعة قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فالله الذي هذا فعله يستحق الحمد، ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالاته يستأهلون السلام ونلاحظ أن الآية الثانية في المجموعة ختمت بقوله: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ والثالثة بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ والرابعة بقوله: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ والخامسة بقوله: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا

المجموعة الثانية

يُشْرِكُونَ والسادسة بقوله: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فدل ذلك على أن أسباب الشرك تعود إلى مساواة الله بغيره. وإلى الجهل وعدم التذكر، وعدم معرفة عظمة الله، وإلى الجهل بالدليل، فإذا اتضحت هذه المعاني الكبرى في المجموعة. فقد آن لنا أن نقول: بدأت السورة بقوله تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وبعد آيات قررت أن مصدر هذا القرآن هو الله عزّ وجل وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وبعد أن ضرب الله عزّ وجل أمثلة على إلقائه الوحي، وإنعامه على الرسل، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمده، ثم أقام الدليل على عظمته وتوحيده واستحقاقه الحمد جل جلاله فعرفنا على ذاته العظيمة من خلال خلقه وعرفنا على حكمته وعلمه من خلال تعريفنا على أفعاله، وعرفنا على استحقاق رسله عليهم الصلاة والسلام للسلام، كيف لا وهم الذين بعثوا بالآيات والهداية، لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ولاحظ كيف تكمل مجموعات السورة ومقاطعها بعضها بعضا؛ فالمجموعة الأخيرة عرفتنا على الله منزل القرآن وناصر الرسل. والمجموعات الأربع التي سبقتها أرتنا نماذج على وحي الله ونصرة الرسل، وكل ذلك بعد المقدمة التي قررت أن هذا القرآن مصدره الله عزّ وجل، وأنه هو الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، والآن تأتي مجموعة جديدة لتخدم السياق الخاص للسورة، والسياق العام للقرآن بشكل معجز، ككل ما في هذا القرآن. إن المجموعة الجديدة تبدأ بالأمر قُلْ كما بدأت المجموعة الأولى، وهي تبني علي المجموعة الأولى وتناقش من لا يؤمنون بالآخرة، لأن عدم الإيقان بالآخرة علة لرفض القرآن، وتقيم الحجة على اليوم الآخر، وعلى كون هذا القرآن من عند الله، ومن خلال دراستها سنرى كيف أن مجموعات المقطع الثاني تخدم كل منها ما ورد في المقدمة بشكل من الأشكال، وكل ذلك يأتي بما يخدم محور السورة، وبما يحدد التكاليف المترتبة على ما تقرر في محور السورة، وكلها قضايا سنرى تفصيلاتها فيما يأتي. فلنر الآن المجموعة الثانية من المقطع الثاني. المجموعة الثانية قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ أي لا يعلم أحد الغيب إلا الله. والغيب هنا هو ما لم يقم عليه دليل، ولا اطلع عليه مخلوق، كما قال النسفي.

[سورة النمل (27): آية 66]

وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي وما يعلمون متى ينشرون. قال ابن كثير: أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة بَلِ ادَّارَكَ أي استحكم عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي في شأنها والمعني: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة قد حصلت لهم، ومكنوا من معرفته، وهم شاكون جاهلون. ومن ثم قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي شاكون في وجودها ووقوعها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي في عماية وجهل كبير في شأنها وأمرها. قال النسفي: (ووجه ملاءمة مضمون هذه الآية، وهو وصف المشركين بإنكارهم البعث، مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه، أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب، وكان هذا بيانا لعجزهم، ووصفا لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه، وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه، واستحكام العلم به). .. نقل: بمناسبة الكلام عن الآخرة في هذا السياق قال صاحب الظلال: (والإيمان بالبعث والحشر، وبالحساب والجزاء، عنصر أصيل في العقيدة، لا يستقيم منهجها في الحياة إلا به. فلا بد من عالم مرتقب، يكمل فيه الجزاء، ويتناسق فيه العمل والأجر، ويتعلق به القلب، وتحسب حسابه النفس، ويقيم الإنسان نشاطه في هذه الأرض على أساس ما ينتظره هناك. ولقد وقفت البشرية في أجيالها المختلفة ورسالاتها المتوالية موقفا عجيبا من قضية البعث والدار الآخرة، على بساطتها وضرورتها. فكان أعجب ما تدهش له أن ينبئها رسول أن هناك بعثا بعد الموت وحياة بعد الدثور. ولم تكن معجزة بدء الحياة الواقعة التي لا تنكر تلهم البشرية أن الحياة الأخرى أهون وأيسر. ومن ثم كانت تعرض عن نذير الآخرة، وتستمرئ الجحود والمعصية، وتستطرد في الكفر والتكذيب. والآخرة غيب. ولا يعلم الغيب إلا الله. وهم كانوا يطلبون تحديد موعدها أو يكذبوا بالنذر، ويحسبوها أساطير، سبق تكرارها ولن تحقق أبدا!

كلمة في السياق

فهنا يقرر أن الغيب من أمر الله، وأن علمهم عن الآخرة منته محدود). كلمة في السياق: كما كانت الآية الأولى في المجموعة الأولى جسرا للانتقال من الكلام عن المرسلين إلى الكلام عن الله عزّ وجل، فإن الآية الأولى في المجموعة الثانية كانت جسرا للكلام عن اليوم الآخر. فبعد أن عرفتنا المجموعة الأولى على الله، ذكرت الآية الأولى من المجموعة الثانية أنه وحده الذي يعلم الغيب، ودليل ذلك ما ورد في المجموعة الأولى، وعلم الله بكل شئ يقابله جهل الإنسان بأكبر الأشياء، وهو اليوم الآخر. ومن ثم يأتي الآن الكلام عن موقف الكافرين من اليوم الآخر والرد عليه. ... وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي من قبورنا أحياء لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا، ولا نرى له حقيقة ولا وقوعا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بإعادة الأبدان إلا خرافات الأولين وأكاذيبهم، أخذه قوم عمن قبلهم، وتلقاه بعض عن بعض، وليس له حقيقة، والجواب قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي آخر أمر الكافرين، أي المكذبين بالرسل، وبما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره، كيف حلت بهم نقمة الله وعذابه ونكاله، ونجى الله من بينهم رسله الكرام، ومن اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاء به الرسل وصحته، ومن ذلك اليوم الآخر، ففي الآية تدليل وتحذير. ثم قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليا ومطمئنا له، وفي هذه التسلية والتطمين تثبت له على الحق الذي يحمله وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ بسبب كفرهم باليوم الآخر، وما يلزم على ذلك من عذاب وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي ولا تكن في حرج صدر من مكرهم وكيدهم، فإن الله جاعل لك مخرجا، وهو سيرد مكرهم عليهم. كلمة في السياق: 1 - ورد في مقدمة السورة قوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ

[سورة النمل (27): آية 71]

وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ جاء ذلك في معرض الكلام عمن يهتدون بهذا القرآن، وعمن يستحقون البشارة به، فإن نجد مجموعة تتحدث عن اليوم الآخر وعن الكافرين به وترد عليهم فذلك يتفق مع سياق السورة وموضوعها الرئيسي، لاحظ الصلة بين قوله تعالى عن الذين لا يؤمنون بالآخرة في مقدمة السورة: فَهُمْ يَعْمَهُونَ وبين قوله تعالى في هذه المجموعة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ 2 - لقد جاء في الآيات الأربع الأخيرة رد على موقف للكافرين من اليوم الآخر والآن يأتي تساؤل للكافرين ورد عليه. ... وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد العذاب، أو وعد مجيء اليوم الآخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنه آت أي حددوا له وقتا قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أي قرب ودنا أو أزف لكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ دل على أن طلبهم تحديد الوعد استعجال منهم لمجيئه، فقيل لهم: عسى أن يكون ردفكم، أي لحقكم بعضه بما يسلطه الله عليهم في الدنيا. قال النسفي: وعسى، ولعل، وسوف، في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم، واستحقاقهم العذاب وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي أكثرهم لا يعرفون حق النعمة، ولا يشكرونه، فيكفرون ويستعجلون العذاب وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفي وَما يُعْلِنُونَ أي وما يظهرون من القول، فليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم، ولكن له وقت مقدر، أو أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعني وما من شئ يغيب ويخفى في الأرض أو في السماء إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي ظاهر بين لمن ينظر فيه من الملائكة، وهو اللوح المحفوظ. والمعنى: وما من شئ شديد الغيبوبة إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ. أقول: ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب المبين القرآن، الذي وصف بذلك في أول السورة، فيكون المعنى: أن هذا القرآن تحدث عن كل غيب في السماء والأرض، ويرجح هذا الاتجاه أن الآية بعده تتحدث عن القرآن إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي

[سورة النمل (27): آية 77]

إِسْرائِيلَ أي يبين لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وذلك دليل على أنه من عند الله وَإِنَّهُ أي وإن القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فهو هدى لقلوبهم وذواتهم، وهو رحمة لهم إن أقاموه في الدنيا والآخرة إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي يفصل بين من آمن بالقرآن، ومن كفر به بِحُكْمِهِ أي بقضائه العادل وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يرد قضاؤه الْعَلِيمُ بمن يقضي عليه، أو العزيز في انتقامه من المبطلين، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين. وبهذا انتهت المجموعة الثانية. نقل: بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قال صاحب الظلال: ولقد اختلف النصارى في المسيح- عليه السلام- وفي أمه مريم. قالت جماعة: إن المسيح إنسان محض، وقالت جماعة: إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله- بزعمهم- مركب من أقانيم ثلاثة، الأب والابن وروح القدس (والابن هو عيسى) فانحدر الله الذي هو الأب في صورة روح القدس، وتجسد في مريم إنسانا، وولد منها في صورة يسوع! وجماعة قالت: إن الابن ليس أزليا كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له! وجماعة أنكروا كون روح القدس أقنوما! وقرر مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 بأن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب. وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضا. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة، وظلتا مختلفتين .. فجاء القرآن الكريم يقول كلمة الفصل بين هؤلاء جميعا. وقال عن المسيح: إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه وإنه بشر .. إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ وكان هذا فصل الخطاب فيما كانوا فيه يختلفون. واختلفوا في مسألة صلبه مثل هذا الاختلاف. منهم من قال: إنه صلب حتى مات ودفن، ثم قام من قبره بعد ثلاثة أيام وارتفع إلى السماء. ومنهم من قال: إن يهوذا أحد حوارييه الذي خانه ودل عليه ألقي عليه شبه المسيح وصلب. ومنهم من قال: ألقي شبهه على الحواري سيمون وأخذ به .. وقص القرآن الكريم الخبر اليقين فقال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ

كلمة في السياق

شُبِّهَ لَهُمْ وقال: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ .. وكانت كلمة الفصل في ذلك الخلاف. ومن قبل حرف اليهود التوراة، وعدلوا تشريعاتها الإلهية؛ فجاء القرآن الكريم يثبت الأصل الذي أنزله الله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ .. وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم، مجردا من الأساطير الكثيرة التي اختلفت فيها رواياتهم، مطهرا من الأقذار التي ألصقتها هذه الروايات بالأنبياء، والتي لم يكد نبي من أنبياء بني إسرائيل يخرج منها نظيفا! .. إبراهيم- بزعمهم- قدم امرأته لأبي مالك ملك الفلسطينيين، وإلى فرعون ملك مصر باسم أنها أخته لعله ينال بسببها نعمة في أعينهما! ويعقوب الذي هو إسرائيل أخذ بركة جده إبراهيم من والده إسحاق بطريق السرقة والحيلة والكذب؛ وكانت بزعمهم هذه البركة لأخيه الأكبر عيصو.! ولوط- بزعمهم- أسكرته بنتاه كل منهما ليلة ليضطجع معها لتنجب منه كيلا يذهب مال أبيهما إذ لم يكن له وارث ذكر. وكان ما أرادتا! وداود رأى من سطوح قصره امرأة جميلة عرف أنها زوجة أحد جنده، فأرسل هذا الجندي إلى المهالك ليفوز- بزعمهم- بامرأته! وسليمان مال إلى عبادة (بعل) بزعمهم. مجاراة لإحدى نسائه التي كان يعشقها ولا يملك معارضتها! وقد جاء القرآن فطهر صفحات هؤلاء الرسل الكرام مما لوثتهم به الأساطير الإسرائيلية التي أضافوها إلى التوراة المنزلة، كما صحح تلك الأساطير عن عيسى ابن مريم- عليه السلام). كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أن هذه المجموعة بدأت بقوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وورد في أواخرها قوله تعالى: وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وفيها وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وفيها إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وذلك من مظاهر علمه بالغيب. وختمت بقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فالتدليل على علم الله من خلال المعاني المذكورة شئ

المجموعة الثالثة

رئيسي في السياق، وإن صلة ذلك بقوله تعالى في المقدمة وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ لواضحة. 2 - نلاحظ أنه قد ورد قوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في سياق الكلام عن اليوم الآخر. ومن المعروف كما تفيد نصوص العهد الجديد أن اليهود قد اختلفوا في شأن اليوم الآخر اختلافا كثيرا، ففي رسالة أعمال الرسل، الإصحاح الثالث والعشرون (لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح وأما الفريسيون فيقرون بذلك). إن مجيء الآية في سياق الحديث عن اليوم الآخر يشير إلى اختلاف اليهود في موضوع اليوم الآخر، وأن الحق والفصل فيه هو ما ذكره الله في القرآن، إن مثل وجود هذه الدقائق في هذا القرآن لمظهر من مظاهر الإعجاز فيه. 3 - يلاحظ أن السورة بدأت بالكلام عن القرآن ووصفته بأنه هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ونلاحظ أن المجموعة التي بين أيدينا اتجهت في أواخرها للكلام عن هذا القرآن ومما وصفته به وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فهي تؤكد ما ورد في المقدمة مما يدل على وحدة السياق في السورة. ونكتفي بهذه الملاحظات حول السياق لأن لنا عودة مفصلة على سياق السورة فيما بعد. ... المجموعة الثالثة بعد أن قرر الله في المجموعة الأولى أمر التوحيد. وقرر في المجموعة الثانية أمر اليوم الآخر، وبين لنا سفاهة المشركين والملحدين باليوم الآخر، يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أمره بالتوكل على الله، وقلة المبالاة بأعداء الدين، لإقامة وتبليغ رسالات الله، وعلل للأمر بالتوكل بأنه على الحق الأبلج، وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ قال النسفي: لما كانوا لا يعون ما يسمعون، ولا به ينتفعون شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، وبالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون، وبالعمي حيث يضلون الطريق، ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم،

كلمة في السياق

ويجعلهم هداة بصراء إلا الله تعالى، ثم أكد حال الصم بقوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي ما يجدي إسماعك إلا للذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي مستسلمون لله مخلصون له. ... كلمة في السياق: بدأت السورة بقوله تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ* هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ... فبينت المقدمة أن المتصفين بهذه الصفات هم المهتدون بالقرآن، وهذه المجموعة بينت أن الموتى والصم والعمي هم الذين لا يسمعون ولا يهتدون بهذا القرآن، وأن المؤمنين بالآيات المستسلمين لله هم الذين يسمعون ويهتدون. فالصلة بين المقدمة وهذه المجموعة واضحة، ولنا عودة على السياق، وإنما نسجل الآن جزئيات فيه. فلنسر في التفسير. ... المجموعة الرابعة بعد أن أقام السياق الحجة على اليوم الآخر، وأمر بالموقف المقابل للجحود، وبين أسباب الجحود، يعود السياق للحديث عن اليوم الآخر، مبتدئا بذكر شرط من أشراط الساعة، وعلامة من علاماتها. وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي إذا وقع ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، والمراد به مشارفة الساعة، وظهور أشراطها، حين لا تنفع التوبة أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ هذه الدابة يخرجها الله مقدمة للحدث الضخم، وهو قيام القيامة تُكَلِّمُهُمْ أي تحدثهم أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي إن هذا الحدث يكون بسبب عدم إيقان الناس بالقرآن، ثم إنه بعد أن ذكر الله عزّ وجل هذه العلامة من علامات الساعة، ذكر مشهدا من مشاهد يوم القيامة فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أي واذكر يوم نجمع من كل أمة من الأمم

[سورة النمل (27): آية 84]

زمرة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا المنزلة على أنبيائنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا، ثم يساقون إلى موضع الحساب حَتَّى إِذا جاؤُ أي حتى إذا حضروا موقف الحساب والسؤال قالَ لهم سبحانه وتعالى تهديدا أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي المنزلة على رسلي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أي أكذبتم بادئ الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حيث لم تتفكروا فيها، فإنكم لم تخلقوا عبثا وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ أي يغشاهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم، وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار وبعد أن أرانا الله عزّ وجل حالهم يوم القيامة فإنه يذكر حجة من حجج مجيء يوم القيامة أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ أي ليطمئنوا في ظلام الليل، فتسكن حركاتهم بسببه، وتهدأ أنفاسهم، ويستريحوا من نصب التعب في نهارهم وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي منيرا مشرقا فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش والمكاسب، والأسفار والتجارات، وغير ذلك من شئونهم التي يحتاجون إليها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون فيعتبرون. قال النسفي: (وفيه دليل على صحة البعث لأن معناه: ألم يعلموا أنا جعلنا الليل والنهار قواما لمعاشهم في الدنيا، ليعلموا أن ذلك لم يجعل عبثا، بل محنة وابتلاء، ولا بد عند ذلك من ثواب وعقاب فإذا لم يكونا في هذه الدار، فلا بد من دار أخرى للثواب والعقاب) وهكذا نقلنا السياق من جو اليوم الآخر إلى ذكر الدليل عليه. والآن يعود السياق لينقلنا إلى جو اليوم الآخر، ثم ينقلنا إلى ذكر دليل عليه: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي واذكر يوم ينفخ في الصور فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، وقيل الشهداء وقيل الحور، وخزنة النار، وحملة العرش وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ أي صاغرين. ومعنى الإتيان: حضورهم الموقف، ورجوعهم إلى أمره تعالى، وانقيادهم له، وبعد أن نقلنا السياق إلى أجواء اليوم الآخر، يعود للتدليل عليه بآية هي معجزة؛ إذ أنها تشير إلى دوران الأرض على رأي وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً أي واقفة ممسكة عن الحركة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وهي تمر مثل مر السحاب تراه واقفا وهو يتحرك صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي أحكم خلق كل شئ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ أي هو عليم بما يفعل عباده من خير

[سورة النمل (27): آية 89]

وشر، وسيجازيهم عليه أتم جزاء، في الآية تدليل على اليوم الآخر، فالله عزّ وجل الذي جعل الأرض ببالغ حكمته كذلك ما فعل هذا عبثا، وما فعل هذا إلا بكمال علم، ومن كان كذلك لا يعجزه أن يبعث وأن يجازي، ومن ثم ختمت الآية بقوله تعالى إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ إذ فيها تهديد بالمجازاة يوم القيامة، ومن ثم يعود السياق إلى تلخيص المجازاة يوم القيامة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي لا إله إلا الله فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي حاصل من جهتها وهو الجنة، أو الخيرية بكثرة المكافأة، إذ له عشر أمثال الحسنة وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة آمِنُونَ فلا يخافون وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقوا في النار، ويقال لهم تبكيتا عند الكب: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الشرك والمعاصي. وبهذا تنتهي المجموعة الرابعة. ... نقل: قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ: (وقد ورد ذكر خروج الدابة المذكورة هنا في أحاديث كثيرة، بعضها صحيح، وليس في هذا الصحيح وصف للدابة. إنما جاء وصفها في روايات لم تبلغ حد الصحة. لذلك نضرب صفحا عن أوصافها. وحسبنا أن نقف عند النص القرآني والحديث الصحيح الذي يفيد أن خروج الدابة من علامات الساعة، وأنه إذا انتهى الأجل الذي تنفع فيه التوبة؛ وحق القول على الباقين فلم تقبل منهم توبة بعد ذلك؛ وإنما يقضى عليهم بما هم عليه .. عندئذ يخرج الله لهم دابة تكلمهم. والدواب لا تتكلم، أو لا يفهم عنها الناس. ولكنهم اليوم يفهمون، ويعلمون أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة. وقد كانوا لا يؤمنون بآيات الله، ولا يصدقون باليوم الموعود. ومما يلاحظ أن المشاهد في سورة النمل مشاهد حوار وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه السلام. فجاء ذكر «الدابة» وتكليمها الناس متناسقا مع مشاهد. السورة وجوها، محققا لتناسق التصوير في القرآن، وتوحيد الجزئيات التي يتألف منها المشهد العام).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أن مقدمة السورة كان فيها: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وقد جاءت المجموعة الرابعة لتحدثنا عن بعض أشراط الساعة، وعن حال الكافرين بالساعة يوم تقوم، كما أن المجموعة أقامت الحجة على هؤلاء في ثنايا ذلك، وهكذا بينت السورة أن هذا القرآن آيات لله تتلى، وأنه ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما بينت من هم المستفيدون بهذا القرآن، وضربت أمثلة على رسالات سابقة لله، وأقامت الحجة على كل ما يخدم هذه المعاني، أو ما يقويها وكل ذلك سنراه بالتفصيل. والآن فلنلاحظ ما يلي: إن السياق الرئيسي للسورة هو مجموعة خطابات لرسول الله صلى الله عليه وسلم طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ... وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى .. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ .. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. وفي هذا السياق الرئيسي الذي ينسجم مع محور السورة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تأتي الآن خاتمة السورة، وهي تتوجه كلها بالخطاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم ولكنها تأتي وكأنها على لسانه لتشعرنا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قائم بذلك فعلا فلنرها: ...

المجموعة الخامسة وهي خاتمة السورة

المجموعة الخامسة وهي خاتمة السورة إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما آمنا يأمن فيها اللاجئ إليها ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها، والاعتناء بها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي فهو مع ربوبيته لهذه البلدة مالك الدنيا والآخرة وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي على الناس أبلغهم إياه فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتدى باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علي من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي ومن ضل ولم يتبعني فلا علي، وما أنا إلا رسول منذر وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحمده على ما خوله من نعمة النبوة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته في الآخرة فيستيقنون بها، وقيل المراد بآياته: انشقاق القمر والدخان وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا، ويمكن أن يكون المراد بإراءتهم آياته ما سيكشفه لهم من مضامين القرآن في الكون والآفاق، مما تلزمهم به الحجة، ثم ختم الله السورة بقوله: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي بل هو شهيد على كل شئ، فكل عمل يعملونه فإن الله عالم به، غير غافل عنه. فالغفلة والسهو لا يجوزان عليه جل جلاله. كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وفي مقابل هذه النعمة أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبادة والإنذار والشكر، والوعيد لأعداء الله، وهذا الذي نراه في الخاتمة، ومن هنا تظهر صلة الخاتمة بمحور السورة. ورأينا أنه في بداية السورة قد جاء: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ وفي مقابل هذه النعمة فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل أشياء كثيرة منها، ما ورد في خاتمة السورة، ومنها ما ورد قبل ذلك بشكل أوامر، وهذا مظهر من مظاهر ارتباط الخاتمة بسياق السورة ولا زال لنا كلام حول سياق السورة، سنراه في الكلمة الأخيرة عنها. وإذ لم ننقل شيئا من فوائد المقطع الثاني: فلننقل الفوائد:

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من بلهجيم قال: قلت يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: «أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك» قال: قلت أوصني قال: «لا تسبن أحدا، ولا تزهدن في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، واتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة». وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر، فذكر اسم الصحابي فقال .. عن جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة، وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت: أيكم محمد رسول الله؟ فأومأ بيده إلى نفسه، فقلت: يا رسول الله أنا من أهل البادية، وفي جفاؤهم، فأوصني قال: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه، فإنه يكون لك أجره وعليه وزره، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، ولا تسبن أحدا» قال: فما سببت بعده أحدا ولا شاة ولا بعيرا. وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا وعندهما طرف صالح منه، روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاوس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. وقال وهب بن منبه قرأت في الكتاب الأول إن الله تعالى يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه»). 2 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أنه يعلم- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وقال قتادة: إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها،

وجعلها رجوما للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. وإن أناسا جهلة بأمر الله، قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا. ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والقصير والطويل، والحسن والدميم. وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب، وقضى الله تعالى أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون. رواه ابن أبي حاتم عنه بحروفه وهو كلام جليل متين صحيح). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال ابن كثير: (هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس، وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض قيل من مكة، وقيل من غيرها- كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى- فتكلم الناس على ذلك، قال ابن عباس والحسن وقتادة، ويروى عن علي رضي الله عنه: تكلمهم كلاما أي تخاطبهم مخاطبة، وقال عطاء الخراساني: تكلمهم فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويروى هذا عن علي، واختاره ابن جرير، وفي هذا القول نظر لا يخفى والله أعلم. وقال ابن عباس في رواية: تجرحهم، وعنه رواية قال: كلا تفعل، يعني: هذا وهذا، وهذا قول حسن ولا منافاة، والله أعلم. وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث كثيرة، فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان: روى قال الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس مغربها، والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن، تسوق أو تحشر الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من طرق عن حذيفة مرفوعا، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه مسلم أيضا عن أبي الطفيل موقوفا ثم ذكر ابن كثير روايات أخرى لهذا الحديث، كما ذكر أحاديث أخرى في هذا الباب فليراجع.

4 - بمناسبة قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ قال ابن كثير: (روى الإمام مسلم ابن الحجاج، عن عروة بن مسعود الثقفي، سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقد جاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله- أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما- لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا- إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما، يخرب البيت، ويكون ويكون- ثم قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين- لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما- فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه، قال سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا- قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله- أو قال- ينزل الله مطرا كأنه الطل- أو قال الظل (شعبة الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، ثم يقال: أخرجوا بعث النار فيقال كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق» وقوله ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، الليت: هو صفحة العنق، أي أمال عنقه ليسمعه من السماء جيدا، فهذه نفخة الفزع، ثم بعد ذلك نفخة الصعق وهو الموت، ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين وهو النشور من القبور لجميع الخلائق.) 5 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها قال ابن كثير: (أي الذي إنما صارت حراما شرعا وقدرا بتحريمه لها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد

كلمة في سورة النمل

حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها» الحديث بتمامه. وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع، كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة) (عضد الشئ: أي قطعه بالمعضد وهو السكين الكبير) (اختلى العشب- جزّه) (الخلى: الواحدة خلاة، وجمعها أخلاء وهو العشب) 6 - في قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ... اتجاهان: اتجاه يقول: إن هذه الآية تتحدث عن شئ سيكون يوم القيامة، واتجاه يقول: إن الآية تتحدث عن ما هو كائن، وعلى هذا الرأى ففي الآية تصريح بدوران الأرض، ويشهد لهذا القول مجيء كلمة الإتقان في الآية صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ثم إن الجبال يوم القيامة تسير لتنسف وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً. 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا يغترن أحدكم بالله، فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرة». وروى أيضا عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم، وقد ذكر عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كان ينشد هذين البيتين إما له أو لغيره: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل … خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة … ولا أن ما يخفى عليه يغيب كلمة في سورة النمل: ذكرنا أن سورة النمل تتألف من مقطعين، كل منهما يرتبط بالآخر بأوثق رباط، وذكرنا أن محور سورة النمل هو قوله تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الآتية في حيز قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وعلى ضوء ذلك فلنلق نظرة شاملة:

تبدأ السورة بقوله تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ* هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ* أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ* وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ هذه المقدمة تحدد مسار السورة، مفصلة محورها في حيزه، إذ تأتي قصة موسى عليه السلام وفيها آية من آيات هذا القرآن التي تتحدث عن مظاهر حكمة الله وعلمه، ثم تأتي قصة داود وسليمان عليهما السلام وهي تعرض آية من آيات هذا القرآن. ثم تأتي قصة صالح عليه السلام وهي تعرض آية من آيات هذا القرآن، ثم تأتي قصة لوط عليه السلام وهي تعرض آية من آيات الله، ثم تأتي مجموعة تحدثنا عن الله عزّ وجل هي في بابها آية من آيات هذا القرآن، وهي تعرض علينا ما يدل على حكمة الله الذي أنزل هذا القرآن، ثم تأتي مجموعة تحدثنا عن علم الله، فتم بذلك الكلام عن العليم الحكيم، الذي أنزل هذا القرآن، ثم انتقل السياق إلى الكلام عن اليوم الآخر، الذي بدون اليقين به لا يهتدي أحد بهذا القرآن. ثم جاء حديث عن ما ينبغي أن يكون عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن، ثم جاء كلام عن حال الفارين من الهداية، وصممهم وعماهم، وعن حال الذين يهتدون بهذا القرآن، وكما أنه في المقدمة تكرر الكلام عن اليوم الآخر، فإن السياق يأتي هاهنا بكلام عن اليوم الآخر وأدلته، وحال الكافرين به يوم القيامة، ثم تنتهي السورة بعرض بعض ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه الآيات: العبادة، والإسلام، والإنذار بهذا القرآن، فتكون آخر الآيات أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكر والإنذار. ... وعلى هذا فالسورة عرضت لآيات من آيات الله التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وخصائص المهتدين بها، وأنواع العقوبات التي أعدها الله لمن لا تتوافر فيه هذه الخصائص، وما يلزم الذي أنزلت عليه الآيات. وفي آيات السورة كلام عن آداب من الإسلام، وكلام عن معان من الإسلام تعرض علينا من خلال الكلام عن المرسلين أو من خلال العرض المباشر، وأهم ذلك موضوع التوحيد واليوم الآخر. وقد عرضت السورة نماذج من عطاء الله للمرسلين، ونماذج من مهمات المرسلين، ونماذج من الآيات التي أنزلها الله على المرسلين، كما تحدثت السورة عن بعض خصائص هذا القرآن المعجز، كما ذكرت ما يعتبر مجرد ذكره معجزة، كالإشارة إلى اختلاف بني إسرائيل في

اليوم الآخر، وكالإشارة إلى دوران الأرض، وفي قصة سليمان ذكرت ما يدل على أن خوارق العادات قد يعطاها غير النبي، كما أعطتنا ما يدل على بعض خصائص الجن، وخصائص المخلوقات الأخرى غير الإنسان. ... والملاحظ بشكل عام أن مجموعات السورة كل منها ترتبط بمقدمة السورة برباط ما فالمقدمة تحدثت عن مجموعة معان مترابطة مع بعضها، ثم جاءت مجموعات السورة كل مجموعة تخدم شيئا في المقدمة، وترتبط بها بنوع رباط، وواضح في السورة أنها تنقسم إلى قسمين متكاملين: قسم القصص، وقسم المعاني المجردة. والربط بين القسمين واضح، والانتقال من القسم الأول إلى القسم الثاني كان من الروعة في المكان الأعلى. إن السورة نموذج على الكمال في وحدة السورة القرآنية، إذ تجدها مؤلفة من مجموعات واضحة متمايزة، بينها خيط ينتظمها، وفي كل منها آية من آيات الله عزّ وجل، تدل على أن هذا القرآن من عند الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ***

سورة القصص

سورة القصص وهي السورة الثامنة والعشرون بحسب الرسم القرآني وهي السورة التاسعة من المجموعة الثالثة من قسم المئين وآياتها ثمان وثمانون آية وهي مكية وهي السورة الثالثة من زمرة الطاسينات وهي آخر سورة في زمرتها وفي مجموعتها وفي قسمها، فبها ينتهي قسم المئين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة القصص

قال الألوسي في تقديمه لسورة القصص: (مكية كلها على ما روي عن الحسن. وعطاء وطاوس. وعكرمة، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ إلى قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه عليه الصلاة والسلام للهجرة، وقيل: نزلت بين مكة والجحفة، وقال المدائني في كتاب العدد عن يحيى بن سلام قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال: أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال: نعم قال إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ الآية وهي ثمان وثمانون آية بالاتفاق، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام. قال الجلال السيوطي: إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ إلى قول موسى عليه السلام فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. ثم حكى سبحانه في (طس) قول موسى عليه السلام لأهله إِنِّي آنَسْتُ ناراً إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار، وكان الأمران على سبيل الإشارة والإجمال، فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين، وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما، فبدأ عزّ وجل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون، وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح، وبسط القصة في تربيته، وما وقع فيها إلى كبره، إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي، إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل، إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين، إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام، تزوجه بابنته، إلى أن سار بأهله، وآنس من جانب الطور نارا، فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا، إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه جل جلاله، وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة، فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب، وبذلك عرف وجه الحكمة من تقديم (طس) على هذه، وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف، وكذا في النزول، فقد روي عن ابن عباس. وجابر بن زيد: أن الشعراء نزلت، ثم

وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة

طس ثم القصص، وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر، وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما هو أبسط وأكثر مما تقدم، وأيضا ذكر عزّ وجل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك، وقد يقال في وجه المناسبة أيضا: إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين من قوم صالح، وقوم لوط، وأجمل هنا في قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ الآيات، وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة، وحال من جاء بالسيئة، وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ فلم يذكر عزّ وجل من حال الأولين أمنهم من الفزع، ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار، إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل. وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة مكية، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان. نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، هي قوة الله؛ وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون، هي قيمة الإيمان. فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة، ولو ساندته جميع القوى؛ ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شئ أصلا. كلمة في سورة القصص ومحورها: قلنا: إن محور الطاسينات الثلاث هو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فلنلاحظ الآن بعض ما ورد في سورة القصص مما يؤيد ما قلناه. تبدأ السورة بقوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ التشابه بين بداية السورة وآية المحور: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يقابلها في السورة تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ يقابلها نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ فلنلاحظ التشابه الكامل بين

البداية وبين محور السورة. وفي الآية السابعة يرد قوله تعالى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ واضحة، وبعد أن تنتهي قصة موسى يأتي مباشرة قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لاحظ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وصلة ذلك بآية المحور نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ثم يسير السياق مناقشا الذين يكفرون بآيات الله وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مقيما الحجة تلو الحجة عليهم، وكل ذلك نوع تفصيل لمحور السورة. فإذا وصلنا إلى الآية (65) نجدها: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ وصلة ذلك مع قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لا تخفى. وتنتهي السورة بخطاب مباشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه آياته وجعله من المرسلين: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ* قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ* وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* ... تبدأ السورة بتفصيل آية المحور من خلال قصة موسى في طفولته، ثم في شبابه، ثم وهو في مدين، وهو موضوع لم يذكره القرآن إلا هنا، ثم تقص علينا قصة موسى في عودته وما جرى بينه وبين فرعون، وهو موضوع يستغرق قسما كبيرا من سفر الخروج فيما يسمونه التوراة الحالية. ثم تبرهن السورة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فتتكلم عن التوراة، وعن موسى، لتقيم من خلال ذلك بعض الحجج على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تقص علينا السورة قصة قارون كرجل بغى من قوم موسى أنفسهم، بعد أن رأينا قصة الباغين على قوم موسى من غير أنفسهم، فترينا في قصة قارون نهاية الباغين على الرسل من أقوامهم. ثم تأتي خاتمة السورة مربية موجهة لسيد المرسلين.

القسم الاول

وإذ كانت الطاسينات الثلاث تفصل آية واحدة كما رأينا، فإن فيما بينها كثيرا من التشابه، ولكن لكل منها سياقا خاصا يخدم محور السورة بشكل يختلف هدفه في السورة عن سورة أخرى. وهو موضوع سنراه بعد انتهاء الكلام عن سورة القصص تحت عنوان: (كلمة عن زمرة الطاسينات). ومن ثم فلن نتحدث هنا عن السياق الخاص لسورة القصص بالنسبة للسياقين الآخرين، ولكنا نحب أن نقرر هنا إن هذا الذي ذكرناه مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن، الذي لا تنتهي عجائبه ولا أسراره. ... تتألف السورة من قسمين: القسم الأول: وفيه قصة موسى، وهو يتألف من مقدمة، وخمسة مشاهد والقسم الثاني: ويتألف من خمس مجموعات، وسنعرض القسمين بشكل مجزأ. [القسم الاول] مقدمة السورة وهي مقدمة القسم الأول وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (6) وهذه هي مع البسملة؛ بسم الله الرحمن الرحيم [سورة القصص (28): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

التفسير

التفسير: طسم تِلْكَ أي هذه آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي المبين خيره وبركته، أو المبين للحلال والحرام، والوعد والوعيد، والإخلاص والتوحيد، أو الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور، وعلم ما قد كان وما هو كائن نَتْلُوا عَلَيْكَ أي نقرأ عليك. أي يقرؤه جبريل بأمرنا مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي نتلو عليك بعض خبرهما بِالْحَقِّ نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي لمن سبق في علمنا أنه مؤمن، لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم، ومن ثم فإنهم يأخذون العبرة، وفي ذلك إشارة إلى ضرورة أخذ دروس السورة. ... فائدة: في قوله تعالى: بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إشارة إلى أن هذا هو الحق الخالص الذي يؤمن به المؤمنون بالقرآن، وذلك لأن الكتب السماوية السابقة كلها قد حرفت، كما أثبتنا في أكثر من مكان، وهذا القرآن هو الذي وضع الأمر في نصابه فيما تحدث عنه، فالمؤمن بهذا القرآن يعلم أن ما قصة هو الحق، وأن ما خالفه هو الباطل حيثما وجد سواء وجد، في كتب العهد القديم أو الجديد. أو في غير ذلك. .. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي تكبر وتجبر وطغى وجاوز الحد في الظلم، واستكبر وافتخر بنفسه، ونسي العبودية فِي الْأَرْضِ أي أرض مملكته أي الأرض التي له سلطان عليها وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا من أجل أن يسهل عليه استعباد الجميع على قاعدة فرق تسد، أو فرقا يشايعونه على ما يريد، ويطيعونه ولا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه، أو فرقا مختلفة، يكرم طائفة ويهين أخرى. يكرم الأقباط، ويهين الإسرائيليين يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ هم بنو إسرائيل يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي يقتل الأطفال الذكور ويترك البنات أحياء للخدمة إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي إن القتل ظلما هو فعل المفسدين إذ لا طائل تحته.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ قال ابن كثير: (يعني بني إسرائيل، وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم هذا، ولقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد، يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدهم ليلا ونهارا في أشغاله، وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نساءهم إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه، أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه، وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية، وجرى له مع جبارها ما جرى، حين أخذ سارة ليتخذها جارية، فصانها الله منه ومنعها منه بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك ملك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب). أقول: لا ندري ما هو مصدر ابن كثير في روايته عن سبب حذر فرعون أو فعله، فقد يكون لتصرف فرعون أسباب غيرها. 2 - في سفر الخروج في الإصحاح الأول: (وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين إحداهما شفرة واسم الأخرى فوعة وقال: حينما تولدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي إن كان ابنا فاقتلاه وإن كان بنتا فتحيا) وفي نفس الإصحاح: (ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلا كل ابن يولد تطرحونه في النهر لكن كل بنت تستحيونها). إلا أن الإصحاح يعلل فعله بخوفه من الإسرائيليين أن يكثروا، وأن يشايعوا أعداءه في اللحظات الحاسمة أثناء حروبه مع أعدائه، ونحن لا نستطيع أن نعطي أسفار التوراة الحالية شيئا من الثقة، تصلح للاعتماد، لكثرة التناقضات فيها، كما دللنا على ذلك من قبل، وكما سنرى أثناء الكلام عن هذه السورة. ... وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ أي بني إسرائيل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي قادة يقتدى بهم في الخير، أو قادة إلى الخير وَنَجْعَلَهُمْ

[سورة القصص (28): آية 6]

الْوارِثِينَ أي يرثون غيرهم في الملك والسلطان وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نجعل لهم عليها سلطانا، بحيث ينفذ أمرهم فيها، وهل المراد في الأرض فلسطين وحدها أو الشام ومصر؟ من الملاحظ أن نفوذ بني إسرائيل وصل في زمن سليمان إلى كل هذه المناطق مع اليمن وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي ما كانوا يتوقونه منهم. والمعنى: يرون منهم ما حذروه من قهر بني إسرائيل لهم. هذه هي مقدمة القصة: ونلاحظ أن هذه المقدمة هي التي تستغرق الإصحاح الأول من سفر الخروج في التوراة المحرفة الحالية. والآن يأتي المشهد الأول في القصة: ***

المشهد الأول

المشهد الأول ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (13) وهذا هو: [سورة القصص (28): الآيات 7 الى 13] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) التفسير: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى قال النسفي: بالإلهام أو بالرؤيا أو بإخبار ملك كما كان لمريم وليس هذا وحي رسالة، ولا تكون الأنثى رسولا أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل كأن يسمع الجيران صوته فينموا عليه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي نيل

[سورة القصص (28): آية 8]

مصر وَلا تَخافِي عليه من الغرق والضياع وَلا تَحْزَنِي بفراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ بوجه لطيف وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال النسفي: (في هذه الآية أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان، والفرق بين الخوف والحزن: أن الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن: غم يلحقه لواقع، وهو فراقه والإخطار به، فنهيت عنهما، وبشرت برده إليها وجعله من المرسلين) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي أخذوه لِيَكُونَ لَهُمْ أي لنجعله لهم عَدُوًّا وَحَزَناً أي ليعاديهم ويحزنهم إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ أي كانوا مذنبين، فعاقبهم الله بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم، أو كانوا خاطئين في كل شئ فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قال ابن كثير: (يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله، خوفا من أن يكون من بني إسرائيل، فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه، وتذب دونه، وتحببه إلى فرعون) فقالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي به تطمئن أعيننا لا تَقْتُلُوهُ قال النسفي: خاطبته خطاب الملوك (أي بصيغة الجمع أو خاطبت القواد). ثم عللت لطلبها بقولها: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وقد نفعها الله بذلك، فكانت من أهل الإيمان أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي أو نتبناه وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة، أو وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم بالنسبة لتصورهم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه وَأَصْبَحَ فُؤادُ أي قلب أُمِّ مُوسى فارِغاً أي صفرا من العقل، لما دهمها من فرط الجزع، لما سمعت بوقوعه في يد فرعون أو أصبح قلبها فارغا من كل شئ من أمور الدنيا إلا من موسى إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي إنه كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها، لولا أن الله ثبتها وصبرها، ولذلك قال تعالى: لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها الربط على القلب: تقويته بإلهام الصبر لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدقين، دل ذلك على أن الجزع المخرج عن التكليف يتنافى مع كمال الإيمان، وأن الصبر في النوازل من الإيمان. قال النسفي: قال يوسف بن الحسين: أمرت أم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط على قلبها وَقالَتْ لِأُخْتِهِ وتسميها التوراة الحالية مريم كما ورد في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج قُصِّيهِ أي اتبعي أثره لتعلمي خبره فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ

[سورة القصص (28): آية 13]

قال النسفي: تحريم منع لا تحريم شرع. أي منعناه أن يرضع ثديا غير ثدي أمه، فكان لا يقبل ثدي مرضع مِنْ قَبْلُ أي من قبل قصها أثره، أو من قبل أن نرده على أمه أو أزلا. قال ابن كثير: أي تحريما قدريا، وذلك لكرامته عند الله، وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة بعد ما كانت خائفة، فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه فَقالَتْ أي أخته هَلْ أَدُلُّكُمْ أي أرشدكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ النصح: إخلاص العمل من شائبة الفساد فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بالمقام معه وَلا تَحْزَنَ أي بفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فيما وعدها من رده إليها. قال النسفي: أي وليثبت علمها مشاهدة كما علمت خبرا وعدها من رده إليها. قال النسفي: أي وليثبت علمها مشاهدة كما علمت خبرا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ أن وعد الله حق فيرتابون، أو لا يعلمون حكمة الله في أفعاله وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة. فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر. وبهذا انتهى المشهد الأول. فوائد: 1 - يتحدث الإصحاح الثاني من سفر الخروج في بدايته عن هذا المشهد، ولكنه يذكر بدلا من زوجة فرعون بنت فرعون. وهذا يدلنا على أن في هذا المقام كذبا، أو غلطا إلا إذا كان المراد أنها بنت فرعون سابق وعندئذ فلا ينبغي أن تكون زوجة لفرعون موسى. ومن المعلوم أن الفراعنة كانوا يتزوجون أخواتهم. فقد ذكر المؤرخون أن كليوباترا كانت حصيلة تزاوج أربعة عشر جيلا من الإخوة والأخوات. فإذا عرفنا هذا فلننقل النص بكامله: (وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي. فحبلت المرأة وولدت ابنا ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر، ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد أخذت له سفطا من البردي وطلته بالحمر والزفت. ووضعت الولد فيه. ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر. ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به. فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل وكانت جواريها ماشيات على جانب النهر فرأت السفط بين الحلفاء فأرسلت أمتها وأخذته ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبى يبكي فرقت له وقالت هذا من أولاد العبرانيين. فقالت

أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعوا لك امرأة مرضعة من العبرانيات لترضع لك الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي فذهبت الفتاة ودعت أم الولد فقالت لها ابنة فرعون اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي وأنا أعطي أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته ولما كبر الولد إلى ابنة فرعون فصار لها ابنا ودعت اسمه موسى وقالت إني أنتشلته من الماء). هذا كل ما ذكرته التوراة عن هذا الموضوع. ونلاحظ أن ما ذكره القرآن على اختصاره هو الذي يعطينا التصور الأكمل للموضوع بدقائقه كلها، ويعطينا تفسيرات شاملة، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله، وما خالفه فهو الباطل. 2 - نلاحظ أن الله عزّ وجل أكرم أم موسى بإرجاع ولدها إليها مع الرزق الحسن قال ابن كثير: (فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا في عز وجاه ورزق دار، ولهذا جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه والله أعلم، فسبحان من بيده الأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجا، وبعد كل ضيق مخرجا). قال النسفي: (وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار كل يوم- كما قال السدي- لأنه مال حربي، لا أنه أجرة على إرضاع ولدها). 3 - يسمي العلماء اللام في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً لام العاقبة. قال النسفي. أي ليصير الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا، كقولهم للموت: ما تلده الوالدة وهي لم تلد لأن يموت ولدها ولكن المصير إلى ذلك كذا قاله الزجاج وعن هذا قال المفسرون: إن هذه لام العاقبة والصيرورة. وقال صاحب الكشاف هي لام كي التي معناها التعليل، كقولك: جئتك لتكرمني ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز؛ لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء). وقال ابن كثير: (قال محمد بن إسحاق وغيره اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل، لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى اللام للتعليل، لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدوا لهم وحزنا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه).

4 - احتج عمر بن العزيز على القدرية، أي الذين يكذبون بالقدر بآية لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً على إثبات القدر، وعلى خطئهم في زعمهم الكافر. قال ابن كثير: (وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب كتابا إلى قوم من القدرية، في تكذيبهم بكتاب الله، وبأقداره النافذة في علمه السابق: وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن قال الله تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى وليا وناصرا والله تعالى يقول: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً). 5 - نلاحظ من سياق القصة أن الله عزّ وجل إذا أراد إنقاذ أمة هيأ لها المنقذ، ومن ثم فإن وجود الرسول، أو المجدد، أو الوارث، أو الخليفة، أو القائد، له دوره الكامل في نقل الأمة من حال إلى حال، كما نلاحظ أن الله عزّ وجل إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه، وأن كل معاندة مهما كان شأنها لا يمكن أن تخدم إلا مراد الله، ومن كلام ابن كثير في هذا المقام: (أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب، بل نفذ حكمه، وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتدلّله وتتفداه، وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلى هو القاهر الغالب العظيم، القوي العزيز، الشديد المحال، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن). 6 - في المشهد الأول من هذه السورة دروس كثيرة لهذه الأمة في التعريف على أهمية القيادة، وفي الاطمئنان إلى فعل الله بعباده المؤمنين، وفي التدليل على صحة الإلهام، وفي ضرورة التوكل مع الأخذ بالأسباب، وغير ذلك من الدروس فلننتقل إلى المشهد الثاني في القصة: ***

المشهد الثاني

المشهد الثاني ويمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (22) [سورة القصص (28): الآيات 14 الى 22] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)

التفسير

التفسير: وَلَمَّا بَلَغَ موسى أَشُدَّهُ أي نهاية القوة وتمام العقل وَاسْتَوى أي واعتدل وتم استحكامه آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة أو نبوة وَعِلْماً فقها أو علما بمصالح الدارين وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما فعلنا بموسى وأمه نفعل بالمؤمنين. قال الزجاج: جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان، لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي مدينة فرعون وعاصمته عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها هو بين العشاءين، أو وقت القائلة يعني انتصاف النهار فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل، إذ شيعة الرجل أتباعه وأنصاره وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي من مخالفيه من القبط فَاسْتَغاثَهُ أي فاستنصره الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى قال مجاهد: أي طعنه بجمع كفه (أي لكمه باصطلاح عصرنا)، قال النسفي: أو بأطراف أصابعه (على طريقة بعض ضربات لعبة الكاراتية) وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه فَقَضى عَلَيْهِ أي فقتله، أي كان فيها حتفه فمات قالَ موسى هذا أي القتل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من وسوسته أو طريقته قال النسفي: (وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان، وسماه ظلما لنفسه، واستغفر منه؛ لأنه كان مستأمنا فيهم، ولا يحل قتل الكافر الحربي المستأمن، أو لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل، وعن ابن جريح ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر). إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة قالَ موسى رَبِّ أي يا رب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بما فعلت فَاغْفِرْ لِي زلتي فَغَفَرَ لَهُ زلته إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ بإقالة الزلل الرَّحِيمُ بإزالة الخجل قالَ موسى رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً أي معينا لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين بك، أو المخالفين لأمرك من شيعته، وعد ربه ألا يعين كافرا، وألا يواليه وألا ينصره، وهل قوله بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ قسم أو استعطاف ودعاء؟ قولان فَأَصْبَحَ بعد قتله القبطي فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً على نفسه من قتله القبطي أن يؤخذ به يَتَرَقَّبُ أي يتوقع المكروه، وهو الاستقادة منه، أو ينتظر الأخبار، أو يترقب ما يقال فيه، أو يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر. قال النسفي: (وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله، بخلاف ما يقوله بعض

[سورة القصص (28): آية 19]

الناس إنه لا يسوغ الخوف من دون الله). أقول: لكن ينبغي أن يغالب الخوف بالتوكل على الله فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ أي على ذلك القبطي يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيثه. والمعنى: أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانيا من قبطي آخر قالَ لَهُ مُوسى أي قال موسى للإسرائيلي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي أي ضال عن الرشد، ظاهر الغواية، كثير الشر فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي قالَ الإسرائيلي ظانا أن موسى يريد أن يبطش به يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ يعني القبطي القتيل قال ابن كثير: وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى عليه السلام إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أي قتالا في الغضب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أي في كظمك الغيظ، وقتلك من يستحق القتل. قال النسفي: (وكان قتل القبطي بالأمس قد شاع، ولكن خفي قاتله، فلما أفشى الإسرائيلى على موسى عليه السلام علم القبطي الثاني أن قاتله أي القبطي الأول موسى فأخبر فرعون فهموا بقتله) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى أي يسرع في مشيه. قال ابن كثير: وصفه بالرجولية لأنه خالف الطريق، فسلك طريقا أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه، فسبق إلى موسى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك، أو يتشاورون فيك ليقتلوك فَاخْرُجْ من المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أي المخلصين لك النصيحة فَخَرَجَ موسى مِنْها من المدينة خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي يتلفت، أو يترقب التعرض له في الطريق، أو يترقب أن يلحقه من يقتله قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي من فرعون وملائه وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي نحوها، ومدين قرية شعيب ولم تكن في سلطان فرعون قالَ موسى عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسطه، ومعظم نهجه، أي الطريق الأقوم ففعل الله به ذلك، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هاديا مهديا وبهذا انتهى المشهد الثاني: فوائد: 1 - هذا المشهد تجده في الإصحاح الثاني من سفر الخروج، ولكن كالعادة قد اختلط فيه الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، لتقادم العهد على زمن النسخ- ولأسباب أخرى- فجاءنا الله عزّ وجل بهذا القرآن مصححا للأخطاء وهاديا للصواب.

فمثلا نلاحظ في النص التوراتي الغلط في كون المتخاصمين في المرة الثانية كانا عبرانيين. كما نلاحظ أن النص التوراتي الحالي أغفل كثيرا من الحيثيات التي هي ضرورية لمعرفة نفسية المرشح للنبوة قبلها، وهذا الكمال في النص القرآني دليل على أن هذا القرآن من عند الله، كما أن الغلط في النص التوراتي إنما هو أثر عن كون التوراة الحالية- كما أثبتنا في أكثر من مكان- قد داخلها التحريف والغلط، إما بسبب سوء النية، أو بسبب البعد الزماني الذي كان بين نزول التوراة وتسجيلها هذا الذي وصلنا. 2 - من الدروس التي نأخذها من هذا المشهد، دروس التوبة، والفتوة، والشجاعة، والدفاع عن الحقوق، ومقاومة العدوان، والبطش به، وحرص المؤمن، على المؤمن واللجوء إلى الله في كل أمر. 3 - قال الألوسي عند قوله تعالى: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم، أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له: إن أخي ليس له من أمور السلطان شئ، إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج، فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج، وإن أخذ به كان له فيه غنى، قال: لمن يكتب؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فلا يهتم أخوك بشيء، وليرم بقلمه، فإن الله تعالى سيأتيه برزق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال: قال رجل لعامر: يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج، آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي قال: فلعلك تكتب في دم يسفك قال: لا. قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في دار تهدم قال: لا. قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال: أبلغت إلي يا أبا عمرو، والله عزّ وجل لا أخط لهم بقلم أبدا، قال: والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدا. وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم. أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال: اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم، فقال: اعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقال له، بعض أصحابه: ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا، فقال: لا أحب أن أعين

المشهد الثالث

الظلمة في شئ من أمرهم، إذا صح حديث «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة، وأشباه الظلمة، وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة، أو برى لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد، فيرمى بهم في جهنم» فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه، وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطا سأله فقال: أنا ممن يخيط للظلمة، فهل أعد من أعوانهم؟ فقال: لا. أنت منهم، والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، ويا حسرتا على من باع دينه بدنياه، واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه. هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى*) اه. أقول: العبرة في الأعمال للفتوى من أهلها، والورع طيب. *** المشهد الثالث ويمتد من الآية (23) إلى نهاية الآية (28) وهذا هو: [سورة القصص (28): الآيات 23 الى 28] وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

التفسير

التفسير: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي ولما وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئر يرده رعاء الشاء وَجَدَ عَلَيْهِ أي جانب البئر أُمَّةً أي جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ أي مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم، أو في مكان أبعد من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تكفكفان غنمهما لكيلا ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا قالَ ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء قالَتا لا نَسْقِي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء وَأَبُونا شَيْخٌ لا يمكنه سقي الأغنام كَبِيرٌ أي في السن لا يقدر على رعي الغنم أي فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى فَسَقى لَهُما غنمهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ أي إلى ظل شجرة. قال النسفي: وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي إني فقير لأي شئ قليل أو كثير، غث أو سمين تبعثه إلي من خير، وكان قد بلغ به الجهد أشده لأنه لم يكن لديه شئ إذ خرج من مصر، فكان قوته في رحلته ما يجده. قال النسفي: ولما طال عليه البلاء أنس بالشكوى إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مستحيية. قال النسفي: (وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا، فأتته مستحيية، قد استترت بكم درعها، وما في (ما سقيت) مصدرية أي جزاء سقيك روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل قال لهما: ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فتبعها موسى عليه السلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق) قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده قالَ له لا تَخَفْ

[سورة القصص (28): آية 26]

نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا. قال النسفي: وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبدا أو أنثى، والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع، وأما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل إنه لا بأس به عند الحاجة، كما كان لموسى عليه السلام قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي اتخذه أجيرا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان: الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ قال النسفي: (قوله هاتَيْنِ يدل على أنه كان له غيرهما) أقول: التوراة الحالية تذكر أن له سبع بنات قال النسفي: وهذه مواعدة منه، ولم يكن ذلك عقد نكاح إذ لو كان عقد لقال قد أنكحتك عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي أي على أن تكون أجيرا لي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي ثماني سنين. قال النسفي- وهو حنفي: (والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع، لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة، بخلاف التزوج على الخدمة) أي على خدمة الزوجة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإن أكملت عمل عشر حجج فذلك تفضل منك ليس بواجب عليك، أو فإتمامه من عندك وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ولا أحتم عليك، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة، والمراد بذكره مشيئة الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيق الله فيه ومعونته، لأنه إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل ذلك قالَ موسى ذلِكَ إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب بَيْنِي وَبَيْنَكَ يعني ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعا، لا يخرج كلانا عنه، لا أنا فيما شرطت علي ولا أنت فيما شرطت على نفسك أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ العشر أو الثمان فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة عليه. قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان، فكذلك طلب الزيادة على الأقل وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شاهد ورقيب. وبهذا انتهى المشهد الثالث. نقل: قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ

فوائد

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ: (وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد- ولعله كان يشعر كما أسلفنا- أنها محددة، وهي التي وقع التجاوب والثقة بين قلبها وقلب الفتى. عرضها في غير تحرج ولا التواء. فهو يعرض نكاحا لا يخجل منه، يعرض بناء أسرة وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل. ولا ما يدعو إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد، والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة، تمنع الولد أو ولي الأمر من التقدم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته، وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم، أو لا يليق أن يجئ العرض من الجانب الذي فيه المرأة، ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أن الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدثون ويختلطون ويتكشفون بعضهم لبعض في غير ما خطبة ولا نية نكاح. فأما حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح، فيهبط الخجل المصطنع، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة. ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم أو من يرغب في تزويجهن منهم. كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل، لا تخدش معه كرامة ولا حياء .. عرض عمر- رضي الله عنه- ابنته حفصة على أبي بكر فسكت، وعلى عثمان فاعتذر، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا طيب خاطره عسى أن يجعل الله لها نصيبا فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها صلى الله عليه وسلم وعرضت امرأة نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلا لا يملك إلا سورتين من القرآن، يعلمها إياهما فكان هذا صداقها. وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير ما تلعثم ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء). فوائد: 1 - ذكر ابن كثير بسند صحيح إلى عمر بن الخطاب أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان قال: ما خطبكما؟

فحدثتاه فأتى الحجر فرفعه ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم. إسناده صحيح. 2 - ذكر ابن كثير بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ما قاله ابن جرير بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: أحثثت على جمل ليلتين حتى أصبحت مدين فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى فإذا هي شجرة خضراء ترف، فأهوى إليها جملي وكان جائعا فأخذها جملي فعالجها ساعة ثم لفظها، فدعوت الله لموسى عليه السلام ثم انصرفت، وفي رواية عن ابن مسعود أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها موسى- كما سيأتي إن شاء الله- والله أعلم. أقول: إن صحت هذه الرواية فإن أهل مدين يكونون قد بقوا يتوارثون قصة موسى والشجرة التي جلس عليها حتى صدر الإسلام. 3 - بمناسبة رعي الفتاتين للغنم قال النسفي: (وإنما رضي شعيب عليه السلام- أقول هذا على القول بأن شعيبا هو صاحب موسى في القصة والتحقيق أنه ليس كذلك- لابنتيه بسقي الماشية لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور، والدين لا يأباه، وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة). 4 - حقق ابن كثير في اسم الرجل الذي أوى إليه موسى فقال: (وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو؟ على أقوال: أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، هذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد. ورواه ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه موسى القصص قال لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «مرحبا بقوم شعيب وأختان موسى هديت» وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب: وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو- والله أعلم- احتراز من هذا الإشكال، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة

موسى لم يصح إسناده- كما سنذكره قريبا إن شاء الله- ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه يثرون والله أعلم. 5 - تتحدث التوراة الحالية عن هذا المشهد وتسمي الرجل رعوئيل، وتسميه يثرون وتصفه بكاهن مدين. وتذكر أن البنات اللواتي كن يسقين سبع، وهذا مما حرف وبدل. ولننقل النص بحروفه كما ورد في الإصحاح الثاني من سفر الخروج وكان لكاهن مديان سبع بنات، فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن فأتى الرعاة وطردوهن، فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن، فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن. قال: ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم؟ فقلن: رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة، وإنه استقى لنا أيضا وسقى الغنم، فقال لبناته: وأين هو؟ لماذا تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاما، فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل، فأعطى موسى صفورة ابنته، فولدت ابنا فدعا اسمه جرشوم؛ لأنه قال: كنت نزيلا في أرض غريبة) ونلاحظ أن النص التوراني المحرف ليس فيه كثير من التفصيلات التي ذكرها القرآن مع مخالفته للحق الذي أكرم الله عزّ وجل به هذه الأمة. 6 - بمناسبة قوله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قال ابن كثير: (كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: جاءت مستترة بكم درعها، وقال ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء، دلاجة، ولاجة، خراجة. هذا إسناد صحيح. قال الجوهري: السلفع من الرجال الجسور، ومن النساء الجارية السليطة، ومن النوق الشديدة). 7 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قال ابن كثير: (وروى سفيان الثوري عن عبد الله بن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه، وصاحبة موسى حين قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين). 8 - بمناسبة قوله تعالى حكاية عن صاحب موسى عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ قال ابن كثير: (وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال: بعتك أحد هذين العبدين بمائة فقال: اشتريت. أنه يصح والله أعلم .... وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، أنه يصح، ويختار المشتري بأيهما أخذ صح. وحملوا

الحديث المروي في سنن أبي داود: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» على هذا المذهب وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله والله أعلم. ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة بهذه الآية، واستأنسوا في ذلك بما رواه ابن ماجه في كتابه السنن حيث قال: باب استئجار الأجير على طعام بطنه ... عن عتبة بن المنذر السلمي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشرة سنين على عفة فرجه وطعام بطنه». قال ابن كثير: وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف ... ولكن قد روي من وجه آخر وفيه نظر .. ). 9 - روى البخاري .. عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. هكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد بن جبير، ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية والأول أشبه، والله أعلم. وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعا وروى ابن جرير .. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما». 10 - أخرج البزار بسنده إلى أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال أوفاهما وأبرهما» قال: «وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما» ثم قال البزار لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. 11 - تروي التوراة الحالية المحرفة في قصة يعقوب في سفر التكوين (أن يعقوب عند ما أراد فراق أبي زوجته، جعل له أبو زوجته كل شاة لها لون معين، وأن يعقوب جعل عصيا ملونة بذلك اللون عند سقي الغنم وأن الغنم ولدت كلها من اللون الذي ليعقوب) ينقل ابن كثير مثل هذه الحادثة على أنها حدثت لموسى، ويذكر بعضهم حديثا في الموضوع وبعد أن ذكر ابن كثير الحديث قال: مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري. وفي حفظه سوء وأخشى أن يكون رفعه خطأ. أقول: إن هذه الحادثة هي من روايات أهل الكتاب- والله أعلم- وحدث فيها خلط فإما أن هناك نسخا قديمة تذكر هذه الحادثة لموسى أو أن الذي رواها عنهم غلط.

المشهد الرابع

المشهد الرابع ويمتد من الآية (29) إلى نهاية الآية (35) وهذا هو: [سورة القصص (28): الآيات 29 الى 35] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) ***

نقل

نقل: عند قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ... قال صاحب الظلال: (نقف قليلا أمام تدبير الله لموسى- عليه السلام- في هذه السنوات العشر، وفي هذه الرحلة ذهابا وجيئة، في هذا الطريق .. لقد نقلت يد القدرة خطى موسى- عليه السلام- خطوة خطوة، منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه الحلقة، ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون، وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه، ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا، وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها، وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف .. هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقى والتجريب، قبل النداء وقبل التكليف .. تجربة الرعاية والحب والتدليل، وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار، وتجربة الخوف والمطاردة والفزع، وتجربة الغربة والوحدة والجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور، وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة .. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة. إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات؛ يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي. إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير. ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر- عدا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم- فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشا، وأثبتهم ملكا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض. وهو مرسل لاستنقاذ قوم من كئوس الذل حتى استمرءوا مذاقه فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن، ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم

كهؤلاء عمل شاق عسير. وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة، انحرفوا عنها، وفسدت صورتها في قلوبهم فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ولا هي باقية على عقيدتها القديمة. ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة. والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا، له حياة خاصة تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير. ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل. فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى عليه السلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة. إن لحياة القصور جوا خاصا، وتقاليد خاصة، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية، والرسالة معاناة الجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ. والمهذب والخشن، وفيهم الطيب والخبيث والشرير. وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع .. وفيهم وفيهم ... وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم، وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة، وطريقة حديثهم وحركتهم، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم .. وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين، ومشاعر الذين تربوا في القصور، ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخبر مستعدة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور! وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا .. وقلوب أهل القصور- مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة. لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة. فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى- عليه السلام- أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة، وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون

التفسير

راعي غنم يجد القوت والمأوى، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم، وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم. وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا ليمرن على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها .. فلما أن استكملت نفس موسى- عليه السلام- تجاربها، وأكملت مرانتها ودربتها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه ومجال رسالته وعمله، يتلقاها، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. والطريق الذي سيقود فيه خطى قومه بأمر ربه، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في ريادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير، حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير. وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى، في طريقه إلى هذا التكليف). *** التفسير: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي الأكمل منهما وَسارَ بِأَهْلِهِ أي بامرأته نحو مصر آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رأى نارا تضيء على بعد قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي حتى أذهب إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي عن الطريق لأنه قد ضل الطريق أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي قطعة منها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون بها من البرد فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ بتكليم الله تعالى فيها مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ أي ونودي أن ألق عصاك فألقاها فقلبها الله ثعبانا فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ أي حية في سعيها وهي ثعبان في جثتها

[سورة القصص (28): آية 32]

وَلَّى مُدْبِراً أي هرب منهزما وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يكن يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك فقال الله له يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ أي أمنت أن ينالك مكروه من الحية فرجع فوقف في مقامه الأول أَسْئَلَكَ أي أدخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي في جيب قميصك أي في فتحة العنق أي في عبك تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص قال ابن كثير: أي إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي من الخوف، والمعنى: واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من فرق أي لأجل الحية فَذانِكَ أي قلب العصا حية وخروج يده بيضاء بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ أي حجتان نيرتان، ودليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة الله، مخالفين لأمره ودينه قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً يعني ذلك القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي: إذا رأوني وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً قال ابن كثير: وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، فحصل فيه شدة في التعبير فَأَرْسِلْهُ أي هارون مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي أي عونا قال ابن كثير: أي وزيرا ومعينا ومقويا لأمري يصدقني فيما أقوله، وأخبر به عن الله عزّ وجل لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد. قال النسفي: ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال إن احتاج إليه ليثبت دعواه لا أن يقول له صدقت ألا ترى إلى قوله هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان، لا لقوله صدقت فسحبان وباقل فيه يستويان إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ هذا تعليل لسؤاله الله عزّ وجل أن يكرمه بأخيه قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي سنقوي أمرك ونعز جانبك بأخيك الذي سألت له أن يكون نبيا معك وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي حجة قاهرة، أو غلبة وتسلطا وهيبة في قلوب الأعداء فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا قال ابن كثير: أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ أي القاهرون فهذه بشارة بالنصر. وبهذا انتهى المشهد الرابع.

فوائد

فوائد: 1 - هذا المشهد تتحدث عنه التوراة الحالية المحرفة في سفر الخروج، في إصحاحاته الثاني والثالث والرابع، ويظهر أن أقلام النساخ الكاذبة التي تحدث عنها أرميا والتي كتبت هذه الأسفار بعد مئات السنين من حياة موسى كما برهنا على ذلك من قبل، يظهر أن هذه الأقلام لم يكن عندها تصور واضح عما حدث، ومن ثم نلاحظ في هذه الإصحاحات الخلط والخبط الكثيرين، ومما يدلك على فكرة الخلط فيها ما ذكره الإصحاح الرابع في أواخره (وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه فقالت إنك عريس دم لي فانفك عنه حينئذ قالت عريس دم من أجل الختان) أهذا كلام؟ ومن الخلط أن موسى عليه السلام نزل عليه الوحي وهو يرعى غنم يثرون على جبل حوريب، وبعد ذلك ذهب وأتى بزوجته عائدا إلى مصر، مع أن البعد بين حوريب ومدين كثير جدا أفمن المعقول أن يرعى إنسان غنمه على بعد مئات الأميال بعيدا عن أهله وزوجته، ومع كل الخلط الموجود في الإصحاحات فقد يكون مناسبا أن ننقل منها هذه الفقرة في الإصحاح الثالث: (وظهر له الرب بلهيب نار من وسط عليقة فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق فقال موسى أميل لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا تحترق العليقة، فلما رأى الرب أنه مال. لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى، فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تقترب إلى هاهنا، اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف فيه عليه أرض مقدسة، ثم قال أنا إله أبيك، إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب، فغطى موسى وجهه؛ لأنه خاف أن ينظر إلى الله، فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم، إني علمت أوجاعهم؛ فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قال ابن كثير: (قال مجاهد من الفزع، وقال قتادة: من الرعب، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية، والظاهر أن المراد أعم من هذا،

وهو أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شئ أن يضم إليه جناحه من الرهب وهو يده فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف، وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إن شاء الله تعالى وبه الثقة. روى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان موسى عليه السلام قد ملئ قلبه رعبا من فرعون فكان إذا رآه قال: اللهم إني أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره، فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام وجعله في قلب فرعون فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار). 3 - نقل النسفي عن رؤية موسى النار ما قاله جعفر: أبصر نارا دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب، فصار بذلك مكلما شريفا أعطي ما سأل وأمن مما خاف. ***

المشهد الخامس

المشهد الخامس ويمتد من الآية (36) إلى نهاية الآية (43) وهذا هو: [سورة القصص (28): الآيات 36 الى 43] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) التفسير: فَلَمَّا جاءَهُمْ أي جاء فرعون وملأه مُوسى بِآياتِنا بمعجزاتنا بَيِّناتٍ أي واضحات قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي سحر تعمله أنت ثم تفتريه على

[سورة القصص (28): آية 37]

الله؛ أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، وليس بمعجزة من عند الله، أي هو مفتعل مصنوع وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ يعنون عبادة الله وحده لا شريك له، يقولون ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى. فقال موسى عليه السلام مجيبا لهم وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يعني مني ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم ولهذا قال وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي من النصرة والظفر والتأييد إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي المشركون بالله عزّ وجل وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده أي ما لكم من إله غيري، أو هو على ظاهره وأن إلها غيره غير معلوم عنده فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي اطبخ لي الآجر واتخذه فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً أي قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي أصعد فأرى إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ أي وإني لأظن موسى كاذبا في دعواه أن له إلها وأنه أرسله إلينا رسولا. قال النسفي: (وقد تناقض المخذول فإنه قال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلها وأخبر أنه متيقن بكذبه وَاسْتَكْبَرَ أي وتعظم هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بالباطل، فالاستكبار بالحق لله تعالى، فهو المتكبر على الحقيقة، وذلك من كمال ذاته وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ أي اعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد وقد شبههم استقلالا لعددهم وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ بكفه فطرحهن في البحر فَانْظُرْ يا محمد وحذر قومك فإنك منصور عليهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ في الدنيا قبل الآخرة وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي: قادة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي: إلى عمل أهل النار وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ من العذاب فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي ألزمناهم طردا وإبعادا عن الرحمة، أو شرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله، فهم ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي المطرودين المبعدين أو الهالكين المشوهين وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أي قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي أنوارا فالبصيرة نور القلب الذي يبصر به الرشد والسعادة، كما أن البصر نور العين الذي يبصر به الأجساد، وقد جعل الله التوراة نورا للقلب لأنه

فائدة

بدونها أعمى لا يستبصر، ولا يعرف حقا من باطل وَهُدىً أي وإرشادا للناس لأنهم كانوا يخبطون في ضلال وَرَحْمَةً أي لمن اتبعها لأنهم إذا عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي لعلهم يتعظون. وبهذا انتهى المشهد الخامس والأخير من قصة موسى في هذه السورة. ... فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى يذكر ابن كثير الحديث الذي رواه البزار عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا من قبل موسى» ثم قرأ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وعلى فرض صحة الحديث فالمراد به عذاب الاستئصال لقوم بأسرهم، لا لجزء من قوم، كما حدث لقرية أيلة أو لأمثالها من القرى كالخسف بأغادير في عصرنا. كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ورأينا أن بداية السورة كانت قوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وإذن فقد قص الله علينا من آياته إذ قص علينا هذه المشاهد الخمسة من قصة موسى بما يخدم قضية الرسالة، ومن ثم فإننا نرى المجموعة اللاحقة من القسم الثاني تبني على ما قصه الله علينا فيما سبق من أجل إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يسير السياق على نفس السنن في المجموعة الثانية. ***

القسم الثاني

[القسم الثاني] المجموعتان الأولى والثانية من القسم الثاني وتمتدان من الآية (44) إلى نهاية الآية (51) وهذه هي: [سورة القصص (28): الآيات 44 الى 51] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) ***

التفسير

التفسير: وَما كُنْتَ يا محمد بِجانِبِ الجبل الْغَرْبِيِّ وهو المكان الواقع في شق الغرب وهو الذي وقع فيه ميقات موسى إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي كلمناه وكلفناه وأرسلناه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي من جملة الشاهدين للإيحاء إليه أي لم تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته وَلكِنَّا أَنْشَأْنا أي بعد موسى قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي طالت أعمارهم وفترت النبوة، وكادت الأخبار تخفى واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فأرسلناك يا محمد مجددا لتلك الأخبار، مبينا ما وقع فيه التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء. ومن ذلك قصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك. فالآيات مسوقة للتدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحكمتها، وأن الله أوحى إليه ذلك ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها، فنسي الناس حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين، ويستمر السياق على هذا النحو وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي وما كنت مقيما في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها وما قال لقومه وما ردوا عليه وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي ولكن نحن أوحينا إليك وأرسلناك إلى الناس رسولا، أي ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ما كنت مشاهدا لشئ من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد بإرسالك إليهم لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ قال النسفي: في زمان الفترة بينك وبين عيسى ... لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من عند الله. فوائد: 1 - في هذه الآيات يذكر الله عزّ وجل برهانا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وحكمتها، ومن ثم قدم ابن كثير لهذه الآيات بقوله: يقول تعالى منبها على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم، وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك كما أنه لما أخبره عن مريم وما

كلمة في السياق

كان من أمرها فقال تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ الآية أي وما كنت حاضرا لذلك، ولكن الله أوحاه إليك، وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه، وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ثم قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ الآية. وقال في آخر السورة ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ وقال بعد ذكر قصة يوسف ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ الآية، وقال في سورة طه كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ الآية، وقال هاهنا بعد ما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها، وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدهم، ونسوا حجج الله عليهم، وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين. 2 - في تفسير قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أكثر من اتجاه وقد ذكرنا في صلب التفسير ما هو الأولى، وهو الذي رجحه ابن كثير بعد أن نقل الأقوال الأخرى. وهذا كلامه كله: (روى أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه. عن أبي هريرة رضي الله عنه وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: نودوا أن يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني وأجبتكم قبل أن تدعوني» وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال مقاتل بن حيان وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت، وقال قتادة: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى، وهذا والله أعلم أشبه بقوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ثم أخبر هاهنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء كما قال تعالى وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى وقال تعالى: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وقال تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا: كلمة في السياق: نلاحظ أن قصة موسى ختمت بقوله تعالى:

ملاحظة

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لاحظ قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وختمت الآيات السابقة بقوله تعالى وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فالحكمة واحدة من بعثة موسى عليه السلام، وإنزال الكتاب عليه ومن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتاب عليه، وقد أقام الله عزّ وجل الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات السابقة، فكأن قصة موسى كانت المقدمة لهذه الآيات لإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن الذي يقص علينا أدق التفاصيل عن قصص الأنبياء السابقين ما كان ليكون كذلك لولا أنه من عند الله، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم لأن من سنته الإرسال وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ومن أجل أن ينذر به. وصلة ذلك بمحور السورة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ واضحة، وبهذه المناسبة نحب أن نسجل هذه الملاحظة حول السياق القرآني: ملاحظة: من خلال دراسة قصة موسى في سورة القصص، نلاحظ أن القرآن يقص علينا أدق التفاصيل عن بعض الأمور بما تكتمل به تصوراتنا في شأن النبوة ونفهم به معنى الرسالات، ونعرف به سنن الله عزّ وجل، ونجد أن كل شئ في هذا المقام يصب في المصب نفسه الذي تصب به كل آيات القرآن، فإن تجد مثل هذا التكامل، وأن تجد مثل هذا الجلال الذي تعرف به كمال الرسل عليهم الصلاة والسلام، دون إخلال، فذلك علامة من علامات كون هذا القرآن من عند الله، بينما لا تجد مثل هذا في الكتب السابقة التي داخلها التحريف والتبديل، ومن ثم تجد كثيرا من التفصيلات في القرآن مما يساعد على استكمال التصورات الصحيحة مما لا تجده في الكتب السابقة، إما بسبب من كمال القرآن، أو بسبب من عدم وصول هذه الكتب إلينا على الكمال والتمام، ولنعد إلى السياق فإن الله عزّ وجل يكمل الكلام عن الحكمة في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم والحجة فيها، وهو مراد رئيسي في السورة. وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والظلم، وقد استعملت كلمة الأيدي في هذا المقام بسبب أن أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، فنسبت كل الأعمال إليها وإن كانت من أعمال القلب تغليبا للأكثر على الأقل فَيَقُولُوا عند العذاب رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي وأرسلته إلينا لتقيم علينا

[سورة القصص (28): آية 48]

الحجة، فمن أجل ذلك أرسلنا؛ لينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم، فلا يحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير، ويدعوا أن لو كان رسول لاتبعوه فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هذا تتمة كلامهم أي لو أنهم عوقبوا ولم يرسل الله إليهم لادعوا أنهم لو جاءهم رسول لكانوا يتبعون آيات الله ويؤمنون إذن فهذا كان موقفهم لو عاقبهم الله ولم يرسل رسولا فماذا كان موقفهم إذ أرسل الرسول: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي القرآن أو الرسول المصدق بالكتاب المعجز قالُوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى قال ابن كثير: يعنون- والله أعلم- من الآيات الكثيرة: مثل العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص الزروع والثمار مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر، وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة والحجج القاهرة، التي أجراها الله تعالى علي يدي موسى عليه السلام حجة وبرهانا له على فرعون وملئه، وبني إسرائيل .. أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة من قبل القرآن قالُوا في موسى وهارون سِحْرانِ تَظاهَرا أي تعاونا. جعلوا موسى وهارون عين السحر فقالوا سحر يعين سحرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ أي بكل واحد منهما كافِرُونَ والمعنى: أن الكفر بالمرسلين ليس سببه قلة الآيات بل الكبر والعناد. وبهذا رد الله عزّ وجل الرد الأول عليهم، ثم يأتي الرد الثاني قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي أهدى من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ فإنني لا أستكبر عن اتباع الهدى من الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما تدفعون به الحق، وتعارضون به من الباطل، وتتظاهرون به أنكم مخلصون في الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، وقد جاء الجواب متضمنا مجموعة أمور: الأول: أن محمدا أوتي مثل ما أوتي موسى، وهو هذا القرآن، والثاني: أن الهدى الموجود في القرآن والتوراة هو وحده حجة، والثالث: أنهم ليسوا على هدى أصلا من الله عزّ وجل، حتى يستكبروا عن اتباع هدى القرآن، فالعلة فيهم وليس في ما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم قصور فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق. وقال النسفي. فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي بلا دليل ولا حجة. أي فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين يتبعون

[سورة القصص (28): آية 51]

أهواءهم وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال النسفي: يعني: أن القرآن أتاكم متتابعا متواصلا، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا ومواعظ وقال التوصيل: تكثير الوصل وتكريره لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي ليتذكروا فيتعظوا فيفلحوا. وبذلك انتهت المجموعة الثانية من القسم الثاني من السورة. كلمة في السياق: نلاحظ أن قصة موسى ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وأن المجموعة الأولى ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وأن المجموعة الثانية ختمت بقوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فكأنه في كل مرة قامت بها الحجة تختم بهذه الكلمة. وواضح أن السورة تقرر مرة بعد مرة أن محمدا رسول الله، وأن القرآن آيات الله التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واحدة من رسالات الله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وصلة ذلك بالمحور واضحة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وواضح أن صلة المجموعتين بقصة موسى قبلهما قائمة، فهما تبنيان على ما ذكر في قصة موسى من قبل. فوائد: 1 - ذكرت المجموعة الأخيرة حكمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعثة المرسلين بأنها إقامة الحجة على الخلق، كما ذكرت المجموعة الأولى حكمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بأنها التذكير بما نسيه الخلق نتيجة لتطاول الزمن، فالمجموعتان إذا تتحدثان عن حكمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من المجموعتين أقامت الحجة على الناس برسالته، وختمت المجموعة الثانية بذكر مظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن في قوله تعالى وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فالتوصيل كما فسره النسفي: تكثير الوصل وتكريره، فالله عزّ وجل قد وصل بعضه ببعض، القصة بالموعظة بالتشريع وكل ذلك يربطه رباط واحد في السورة الواحدة وفي القرآن كله، وقد كان ذلك مع التكرار، بأن عرض المعنى بشكل ثم بشكل آخر، وفي ذلك من الإعجاز ما لا يخفى، وكل ذلك تقوم به الحجة، وكل ذلك من أجل أن يتذكر الناس، وأن يتعظوا، وقد جاءت هذه الآية بعد أن أقام الله الحجة على المعاندين مرة بعد مرة في الآيات الأخيرة.

كلمة في السياق

2 - في قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أكثر من اتجاه، وقد ذكرها كلها ابن كثير، ونحن ننقلها لاستكمال الفائدة، بعد أن اعتمدنا في صلب التفسير ما رأينا قال ابن كثير: (وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال مجاهد: فصلنا لهم القول، وقال السدي بينا لهم القول، وقال قتادة: يقول تعالى أخبرهم كيف صنع بمن مضى وكيف هو صانع لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قال مجاهد وغيره وَصَّلْنا لَهُمُ يعني قريشا وهذا هو الظاهر، لكن قال حماد بن سلمة ... عن رفاعة ابن قرظه القرظي- وجعله ابن مندة- رفاعة بن شموال خال صفية بنت حيي، وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا، كذا ذكره ابن الأثير- قال: نزلت وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ في عشرة أنا أحدهم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه. كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة القصص هو: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقد قص الله علينا في هذه السورة من آياته، ثم أقام الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن هذا القرآن حق، وبعد ذلك تأتي، مجموعة تتحدث عن موقف أهل الكتاب المخلصين الصادقين من هذا القرآن، وأنهم يؤمنون به وفي ذلك حجة جديدة على أن هذا القرآن من عند الله، إذ يسلم له أهل الكتاب وفي الوقت نفسه فإن المجموعة تدعو أهل الكتاب للإيمان وهكذا تجد أن المجموعة تحقق أكثر من مقصد من خلال معانيها وسياقها. ***

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (52) إلى نهاية الآية (55) وهذه هي: [سورة القصص (28): الآيات 52 الى 55] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) التفسير: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي بالقرآن يُؤْمِنُونَ أي يصدقون وذلك لمعرفتهم أن هذا التوافق بين القرآن وبين الحق في الكتب السابقة لا يمكن أن يكون إلا من عند الله، ولرؤيتهم أن هذا القرآن يحتوي الخير الذي دعا إليه الرسل جميعا وزيادة وَإِذا يُتْلى القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بالقرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن مُسْلِمِينَ أي كائنين على دين الإسلام أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له، وفي قولهم إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا تعليل للإيمان به، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على الإيمان بالكتب السابقة، والإيمان بالقرآن، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب، أو لاستطاعتهم التخلص من أسر الاستمرار على القديم، وتجشم اتباع الحق، وما يقتضيه ذلك من قطع كل الوشائج السابقة، وربط الذات بالوشائج الجديدة وفي ذلك ما فيه مما يحتاج معه إلى الصبر

[سورة القصص (28): آية 55]

وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي ويدفعون بالطاعة المعصية، أو بالحلم الأذى أي لا يقابلون السيئ بمثله، ولكن يعفون ويصفحون وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله، يدخل في ذلك النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم، والزكاة المفروضة، والتطوعات المستحبة من صدقات النفل والقربات وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي الباطل أو الشتم من المشركين أَعْرَضُوا عَنْهُ وعن أهله فهم لا يخالطونهم ولا يعاشرونهم وَقالُوا للاغين لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي لكم منا أمان بألا نقابل لغوكم بمثله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي لا نريد مخالطتهم وصحبتهم أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. ... كلمة في السياق: دلت هذه الآيات على الأخلاق العليا التي ينبغي أن يتحقق بها من يدخل في هذا الدين من أهل الكتاب وهي أخلاق ينبغي أن يتحقق بها كل مؤمن، وكل ذلك في سياق التأكيد على أن هذا القرآن حق، وإذ قامت الحجة مرة ومرة ومرة ومرة على أن هذا القرآن حق، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأتي مجموعة تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وتقيم الحجة على ما يطرحه الكافرون من أفكار، وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الرابعة. فلننقل فوائد المجموعة الثالثة. فوائد: 1 - في سبب نزول المجموعة السابقة من الآيات يوجد أكثر من وجهة ذكرها ابن كثير وهذه هي: أ- قال سعيد بن جبير نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا، ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ* وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ

ب- وقال محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم، لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم- أو كما قالوا لهم- فقالوا لهم سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا. قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان، قال: ويقال- والله أعلم- أن فيهم نزلت هذه الآيات: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟: قال ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والآيات التي في سورة المائدة ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً إلى قوله فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. 3 - بمناسبة قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ قال ابن كثير (وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها». ...

المجموعة الرابعة

المجموعة الرابعة: وهي تتألف من جزءين وخاتمة الجزء الأول ويمتد من الآية (56) إلى نهاية الآية (75) وهذا هو: [سورة القصص (28): الآيات 56 الى 75] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

كلمة في السياق

كلمة في السياق: تبدأ هذه المجموعة بقوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وصلة ذلك بما قبلها واضحة، فبعد إذ تقرر أن محمدا رسول الله، وأن القرآن من عند الله، يأتي هذا التقرير، ليحدثنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه

[سورة القصص (28): آية 56]

لو أحب هداية إنسان فلا يترتب على ذلك هدايته إلا إذا شاء الله ذلك ثم إن صلة هذه الآية في المحور كذلك واضحة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فمع أنه من المرسلين فمهمته التبليغ أما الهداية فهي لله وحده: وبعد إذ يتقرر أمر الهداية كما رأينا، يعرض السياق أبرع حجج الكفر قديما وحديثا، في الصرف عن الإسلام ويناقشها ويردها مرة بعد مرة فلنر التفسير: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة فأنت لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه قومك أو غيرهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يخلق فعل الاهتداء في من يشاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، أو وهو أعلم بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات: ... فائدة: قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب. وقال ابن كثير في الآية (وفي الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة التامة. قال الزهري ... عن المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وأنزل في أبي طالب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أخرجاه من حديث الزهري، وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما

[سورة القصص (28): آية 57]

حضرت وفاة أبي طالب، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش، يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، لا أقولها إلا لأقر بها عينك نزل الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان ورواه الإمام أحمد .. عن أبي هريرة بنحوه، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى عليه ذلك وقال: أي ابن أخي ملة الأشياخ، وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب. وقال ابن أبي حاتم .. عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي قال: كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره ثم قال ممن الرجل قلت من تنوخ، قال: هل لك في دين أبيك إبراهيم: الحنيفية؟ قلت: إني رسول قوم، وعلى دينهم، حتى أرجع إليهم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. ... وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا يخبر تعالى في هذه الآية عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى، حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، وهي نفس الحجة التي يرددها اليوم ضعاف النفوس والمغرضون، فهم إذا ما أقمت عليهم الحجة بالإسلام قالوا: إذا أعلنا موقفنا من الإسلام كمؤمنين به تتكالب علينا دول العالم كلها، كأن دول العالم كلها ليست متكالبة علينا الآن، وقد رد عزّ وجل قولهم أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم معظم آمن منذ وضع، فكيف يكون هذا الحرم أمنا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون لهم أمنا وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي تجلب وتجمع إليه من كل الثمار، مما حوله من الطائف وغيره، ومن كل العالم الآن رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من

عنده ولما خافوا التخطف قال صاحب الظلال في هذه الآية والآيتين بعدها: وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا. (فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله، وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة، وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب. إنما هو .. حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة. إن هدى الله منهج حياة صحيحة حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد؛ صلاح القلب، وصلاح المجتمع، وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله. والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه. وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف. بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة. وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية؟. وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان. وقد رد الله عليهم في وقتها

فوائد

بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟ .. فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم نقاة؟! وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .. لا يعلمون أين يكون الأمن، وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله. فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا، وأن يأمنوا التخطف حقا، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ .. إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن؟ فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية .. لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها، وتروي قصة البطر بالنعمة، وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا، ولم يرثها بعدهم أحد وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل فيها رسولا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ .. ) فوائد: 1 - أخرج النسائي ... قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس ولم يسمعه منه أن الحارث بن عامر بن نوفل هو الذي قال: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا. 2 - نلاحظ أن ذكر شبهة المشركين هذه جاءت بعد قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ

[سورة القصص (28): آية 58]

أَحْبَبْتَ .. وكأن في ذلك إشارة إلى أن الهداية إذا أرادها الله لإنسان فحلت قلبه فإنه لا يصرفه عنها صارف، أما الذي لا يريد الله هدايته فإنه يتعلل بكل علة، ولو كانت غير معقولة ولا مقبولة. 3 - إن الشبهة التي عرضتها الآية السابقة هي حجة كافري اليوم في الانصراف عن الإسلام، ناسين أن الله عزّ وجل هو الذي بيده الأمور كلها، وأن الله عزّ وجل الذي بيده الأمور كلها. قد يعطي الأمن للكافرين فكيف لا يعطيه للمؤمنين، ثم أليست الدنيا دار ابتلاء، وعلينا أن نجاهد؟ ... وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي طغت وأشرت وكفرت نعم الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، والبطر: سوء احتمال الغنى، وهو ألا يحفظ حق الله فيه فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ أي منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود، وقوم شعيب وغيرهم لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من ساكنيها، فلا يملك التصرف فيها غيرنا أي رجعت خرابا ليس فيها أحد وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى كل وقت حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي أصلها ومعظمها أو عاصمتها رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي وحينا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ أي وما أهلكناهم إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم وهو إصرارهم على كفرهم وعنادهم، ومكابرتهم بعد الإعذار إليهم. كلمة في السياق: هاتان الآيتان حذرتا الكافرين وأنذرتاهم. وفي الوقت نفسه هما رد جديد على الذين يتركون الإسلام خوف التخطف، فالله عزّ وجل يذكرهم هنا بأنه قادر على إهلاكهم كما أهلك القرى المعرضة فليخافوا الله إذن عند ما يتركون الإسلام ولا يخافوا الناس إذا دخلوا في الإسلام. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي وأي شئ أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياما قلائل وهي مدة الحياة الدنيا وَما عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه خَيْرٌ في نفسه من ذلك وَأَبْقى لأنه دائم أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا يعقل

[سورة القصص (28): آية 61]

من يقدم الدنيا على الآخرة أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي الجنة فلا شئ أحسن منها لأنها دائمة ولذا سميت الجنة بالحسنى فَهُوَ لاقِيهِ أي رائيه ومدركه ومصيبه وهم المؤمنون المسلمون الصادقون كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي من الذين أحضروا النار وهم الكافرون المكذبون. كلمة في السياق: في هاتين الآيتين ترغيب للدخول في الإسلام، ولو لم يكن معه دنيا، وترهيب من الكفر ولو كان معه دنيا. وهو رد جديد على الذين يتركون الإسلام خوف التخطف فإن الإسلام إذا لم يكن معه دنيا أصلا فإنه خير من الكفر ولو رافقته الدنيا، لأن الآخرة خير من الدنيا، وإذ يقرر الله عزّ وجل ذلك تأتي ثلاث فقرات، علامة كل منها هي قوله تعالى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ* وكلها عرض لما يكون في الآخرة، بحيث يرى منها أن الأمر كل الأمر هناك. *** الفقرة الأولى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي واذكر يوم ينادي الله الكفار نداء توبيخ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ يقول هذا على سبيل التقريع والتهديد قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر ومعنى حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب عليهم مقتضاه وثبت وهو قوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي دعوناهم إلى الشرك وسولنا لهم الغي أَغْوَيْناهُمْ كَما أي مثلما أَغْوَيْنا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا فهؤلاء كذلك غووا: باختيارهم لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلا فلا فرق إذا بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، وهو كقوله وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ

[سورة القصص (28): آية 64]

الْحَقِّ إلى قوله وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومما اختاروه من الكفر ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ بل يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم وَقِيلَ للمشركين ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي ليخلصوكم من العذاب فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يجيبوهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أي فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدنيا. ... كلمة في السياق: لاحظ ما ختمت به الفقرة وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لندرك الصلة بين الفقرة وبين المجموعة من بدايتها إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ... فالفقرة تصور لنا كيف أن الكافرين يتمنون أن لو كانوا مسلمين يوم القيامة وفي ذلك رد جديد على من يتركون الإسلام خوف التخطف إذ إنهم يوم القيامة يتمنون أن لو كانوا مسلمين. ... الفقرة الثانية: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي واذكر يوم ينادي الله المشركين فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ قال ابن كثير: النداء الأول عن سؤال التوحيد وهذا فيه إثبات النبوات: ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم وكيف كان حالكم معهم؟. وهذا كما يسأل العبد في قبره: من نبيك وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأما الكافر فيقول ها، ها، لا أدري. ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا» وقال النسفي: (حكى أولا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم آلهتهم وعجزهم عن نصرتهم ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أي فعميت عليهم الحجج أي فخفيت عليهم الحجج أو الأخبار وقيل خفي عليهم الجواب فلم يدروا

[سورة القصص (28): آية 67]

بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن العذر والحجة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بربه وبما جاء من عنده وَعَمِلَ صالِحاً أي في الدنيا فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي يوم القيامة، وعسى من الله موجبة فإن هذا واقع بفضل الله ومنته. قال النسفي: وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام وترغيب للكافرين على الإيمان. ... كلمة في السياق: وهكذا ذكرت الفقرة الثانية بحال من يكفرون بالرسل يوم القيامة وحال المؤمنين وفي ذلك تذكير للمنصرفين عن الإيمان بالحجج الواهية كي يتوبوا ويؤمنوا ويعملوا صالحا. ثم تأتي بعد ذلك الفقرة الثالثة ولكن بدلا من أن تأتي علامة الفقرة وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ في بدايتها فإنها تأتي في نهايتها وهذه الفقرة تذكر بحكمة الله عزّ وجل ونعمته وفي ذلك دعوة إلى التسليم لله والدخول في دينه وترك التعلات الصارفة عن الإسلام، فمن عرف عظمة الله وحكمته سلم له ودخل في دينه وتوكل عليه ولم يخف أحدا. *** الفقرة الثالثة: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فهو المتفرد بالخلق وأنه ليس له منازع ولا معقب في ذلك وَيَخْتارُ أي ما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئا وله الخبرة عليهم، فهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه فكيف يرفضون دينه، وكيف يتركون دينه بتعلات كخوف التخطف وهو أنزله وأمر به وهو الأعلم والأحكم سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي الله برئ من إشراكهم وهو منزه عن أن يكون لأحد عليه اختيار وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُ

[سورة القصص (28): آية 70]

صُدُورُهُمْ أي ما تضمره وَما يُعْلِنُونَ أي وما يبدون والآية في هذا المقام تحذر من إضمار السوء بالإسلام وأهله أو إعلان السوء بالإسلام وأهله وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي هو المنفرد بالإلهية فلا معبود سواه كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أي في الدنيا وَالْآخِرَةِ لأنه المنعم وحده وَلَهُ الْحُكْمُ أي الحاكمية فهو المشرع وحده لأنه الخالق وحده وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي جميعكم يوم القيامة، فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال. ... كلمة في السياق: ذكرت هذه الآيات بانفراد الله الخالق وبكمال علمه وحكمته، وباستحقاقه الحمد وحده. وبكون الحاكمية له وحده. وفي هذا إقامة حجة جديدة على وجوب الدخول في الإسلام وترك التعلات المبعدة عن الدخول فيه. ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوجه بسؤالين فيهما تدليل على كمال حكمة الله وكمال إنعامه ورحمته وفي ذلك إقامة حجة جديدة. ... قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ أي أخبروني من يقدر على هذا، وإذ كان الله وحده فعل هذا، وكان في ذلك من المصالح ما لا يعلمه إلا الله، فاعرفوا لله الرحمة والحكمة وأسلموا ولا تفروا من الإسلام بتعلة من التعلات قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أي تستريحون عن حركاتكم وأشغالكم أَفَلا تُبْصِرُونَ فتعرفون فاعل ذلك وتعطون ما يجب له. قال النسفي: (ولم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قال بليل تسكنون فيه بل ذكر الضياء وهو ضوء الشمس، لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه، ووصف فوائده وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من

[سورة القصص (28): آية 73]

السكون ونحوه وَمِنْ رَحْمَتِهِ بكم جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي خلق هذا وهذا لِتَسْكُنُوا فِيهِ بالليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار بالأسفار والترحال وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله بأنواع العبادات في الليل والنهار، فمن فاته شئ بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل. .... كلمة في السياق: وهكذا أقام الله الحجة على توحيده وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال إنعامه، وأنه يجب له الحمد والشكر. وأن له الحكم وفي ذلك حجة جديدة على من لم يهتد، أو يضع التعلات للفرار من الإسلام، وها هي علامة الفقرة تأتي هنا في أواخرها وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي في دار الدنيا قال النسفي: كرر التوبيخ لاتخاذ الشركاء ليؤذن أن لا شئ أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شئ أدخل في مرضاته من توحيده وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي رسولا، يعني: نبيهم لأن الأنبياء للأمم شهداء عليهم يشهدون بما كانوا عليه فَقُلْنا للمشركين هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي على صحة ما ادعيتموه من أن الله شركاء فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ أي التوحيد لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم غيبة الشئ الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ألوهية غير الله والشفاعة لهم، أي ذهبوا ولم ينفعوهم. وبهذا انتهت الفقرات الثلاث وبها ينتهي الجزء الأول من المجموعة الرابعة ويأتي الجزء الثاني وفيه قصة قارون وتعقيب عليها. كلمة في السياق: رأينا أن السورة كلها تنقسم إلى قسمين: الأول: قصة موسى، ثم القسم الثاني وهو الذي نحن فيه وهو يبنى على القسم الأول، وفي القسم الثاني أقام الله الحجة على رسالة رسوله، وعلى أن هذا القرآن من عند الله، ثم بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يهدي من أحب، وإنما الهداية بيد الله لمن سلك أسبابها، ثم عرض الله عزّ وجل شبهة من شبه

الكافرين، في انصرافهم عن الإسلام، ورد عليها بشكل ثم بآخر، وفي هذا السياق تأتي قصة قارون لترينا عقوبة من عقوبات الله، تحل في إنسان هو من قوم رسول بسبب بغيه، وفي ذلك تحذير جديد لمن يبغي من هذه الأمة على هذه الأمة رافضا هدى الله، كافرا برسالة الرسول، إن الصلة بين قصة قارون وبين قوله تعالى وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا واضحة، إنها تحذير لكل فرد من هذه الأمة من أن يبغي على هذه الأمة: ***

الجزء الثاني من المجموعة الرابعة وفيه قصة قارون وتعقيب عليها

الجزء الثاني من المجموعة الرابعة وفيه قصة قارون وتعقيب عليها وتمتد من الآية (76) إلى نهاية الآية (84) وهذه هي: [سورة القصص (28): الآيات 76 الى 84] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)

التفسير

التفسير: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فهو إسرائيلي فَبَغى عَلَيْهِمْ أي ظلم وتكبر وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أي الأموال ما إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح وهو ما يفتح به لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي الأشداء، والعصبة الجماعة الكثيرة، أي إن مفاتيح مغاليق كنوزه لتثقل العصبة الأقوياء إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ أي لا تبطر بكثرة المال وقد علموا أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يتركها عن قريب فلا يفرح بها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي البطرين الأشرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الغنى والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تتصدق على الفقراء، وتصل الرحم، وتصرف إلى أبواب الخير، أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة، في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قال ابن كثير (أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن والمناكح فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه) وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك، أو وأحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بالإنعام وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والبغي، والصد عن سبيل الله، أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم، هذه سنته وهذا شأنه قالَ قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ أي المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي على استحقاق لما في

[سورة القصص (28): آية 79]

من العلم، الذي فضلت به على الناس، وهو علم جني المال وتثميره، أو المعنى: إنما أعطاني الله هذا المال لعلمه بأني أستحقه، ولمحبته لي فتقديره: إنما أعطيته لعلم الله في أني أهل له، قال الله عزّ وجل ردا عليه ما ادعاه من اعتناء الله به، فيما أعطاه من المال أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي من هو أقوى منه وأغنى، أي قد كان من هو أكثر من ذلك لا عن محبة منا لهم، وقد أهلكناهم بكفرهم، وعدم شكرهم وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أي لعلمه تعالى بهم، بل يدخلون النار بغير حساب ويقذفون بها بغير سؤال، أو يعرفون بسيماهم فلا يسألون، أو لا يسألون لتعلم ذنوبهم من جهتهم، بل يسألون سؤال توبيخ أو لا يسأل عن ذنوب الماضين المجرمون من هذه الأمة فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ الكاملة قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ممن لا فقه عندهم يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنوا ذلك على سبيل الرغبة في اليسار كعادة البشر. قالوا ذلك غبطة. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه، كهذه الآية والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه وهو كقوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ أي جد وبخت عَظِيمٍ أي وافر من الدنيا. فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع زجروهم وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا وبقاء العقبى قالوا لغابطي قارون وَيْلَكُمْ هذه كلمة تستعمل في الأصل للدعاء بالهلاك ثم استعملت في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرضى ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً قال ابن كثير: أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون. كما في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين. ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب، واقرءوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ قال السدي: ولا يلقى الجنة إلا الصابرون وكأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم، قال ابن جرير: ولا يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا الراغبون في الدار الآخرة وكأنه جعل ذلك مقطوعا من كلام أولئك وجعله من كلام الله عزّ وجل وإخباره بذلك. والصابرون هم الذين صبروا على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ عقوبة له على بغيه فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يمنعونه من عذاب الله وَما

[سورة القصص (28): آية 82]

كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي على موسى أو من الممتنعين من عذاب الله. قال ابن كثير: أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله ولا كان هو في نفسه منتصرا لنفسه فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره وَأَصْبَحَ أي وصار الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ أي قبل ذلك يقولون «وي» هي كلمة تنبه على الخطأ وتندم، يستعملها النادم بإظهار ندامته وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي يوسع ويضيق على حسب المشيئة لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وإن كانوا أغنياء تنبه القوم على خطئهم في تمنيهم مال قارون، وعلموا أن المال ليس بدال على رضا الله عن صاحبه فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، وبعد أن قص الله علينا قصة قارون أعطانا وعدا، وعلمنا على سنة من سننه فقال: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا أي بغيا وظلما وكبرا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً أي عملا بالمعاصي أو قتلا للنفس بغير حق أو صدا عن سبيل الله، ولم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الله بترك ما نهى، وفعل ما أمر مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي يوم القيامة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي ثواب الله خير من حسنة العبد فكيف والله يضاعفه أضعافا كثيرة. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مثل ما كانُوا يَعْمَلُونَ وذلك من كمال فضله ألا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء. وبهذا انتهت قصة قارون والتعليق عليها. ولم يبق عندنا من المجموعة الرابعة إلا آية واحدة هي خاتمة المجموعة. ***

خاتمة المجموعة الرابعة

خاتمة المجموعة الرابعة وهي آية واحدة هي الآية (85) وهذه هي: [سورة القصص (28): آية 85] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) التفسير إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي يوم القيامة، فيسألك عن ذلك، أو إلى مكة بعد إخراجك منها قُلْ للناس جميعا رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يعني محمدا وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي واضح وهم المشركون. قال ابن كثير: (أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين، ومن تبعهم على كفرهم، قل ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار، ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة) وبهذا ختمت المجموعة الرابعة: كلمة في السياق: لاحظ الصلة بين أول آية في المجموعة الرابعة وآخر آية: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لاحظ وجود كلمة الهداية في الآيتين. ولاحظ أن الآية الأخيرة تعزية على ما ورد في الأولى، وتذكير بالواجب الأول وهو التذكير، ومن هنا نعلم أن المجموعة الرابعة كل متكامل، ففيها تقرير أمر الهداية، والرد على دعوى صارفة عن الدخول في الإسلام وهي خوف التخطف التي عولجت بالرد المباشر، وبالترغيب والترهيب والتذكير بعذاب الآخرة، وعذاب الدنيا، والتي ختمت بذكر القاعدة أن الدار الآخرة لا تكون إلا للمتقين، وأن إرادة العلو والفساد في الأرض لا يكون معها نيل ثواب الله في الآخرة، وأن الحسنة

فوائد

تجزى بخير منها. فادخلوا في الإسلام وجاهدوا واعملوا ولا تتلكئوا فأجركم كائن، ثم جاءت الآية الأخيرة وعدا بالنصر، وتعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرا له بتحديد الموقف الفاصل، وقد بقيت معنا. مجموعة واحدة من السورة هي المجموعة الخامسة. فوائد: 1 - تحدث المفسرون عن قارون، وهو أنه قارون بن يصهب بن قاهث، وهو المذكور في التوراة المحرفة الحالية باسم قورح بن يصهار بن قهاث بن لاوي. والتوراة الحالية تذكر قورح هذا في الإصحاح السادس عشر، من سفر العدد، وفي هذا السفر تقول التوراة الحالية (وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال ..... وكل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا لعل الأرض تبتلعنا) إلا أن التوراة الحالية لا تذكر التفصيلات التي ذكرها النص القرآني لكنها ذكرت بغي قورح ومن معه وتمرده على موسى وهارون وقومهما، وليس لنا من التوراة الحالية ما نأخذه إلا ما وافق القرآن والسنة؛ فإنها كتبت بعد أزمان متطاولة فلم يبق فيها من الوحي الصادق إلا قليل. 2 - قال ابن كثير بمناسبة قول قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي (وقد روي عن بعضهم أنه أراد إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي أنه كان يعاني علم الكيمياء، وهذا القول ضعيف لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل، لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عزّ وجل قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة» وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله، في مجرد الصورة الظاهرة، أو الشكل، فكيف بمن يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى، هذا زور محال، وجهل وضلال، وإنما يقدرون على الصبغ في الصورة الظاهرة وهي كذب وزغل وتمويه وترويج أنه صحيح في نفس الأمر وليس كذلك قطعا لا محالة، ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاطاها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون وأن ما يجريه الله سبحانه من خرق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبا أو فضة أو نحو ذلك، فهذا أمر لا ينكره مسلم،

ولا يرده مؤمن، ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسموات واختياره وفعله، كما روى عن حيوة بن شريح المصري رحمه الله أنه سأله سائل فلم يكن عنده ما يعطيه، ورأى ضرورته فأخذ حصاة من الأرض، فأجالها في كفه، ثم ألقاها إلى ذلك السائل، فإذا هي ذهب أحمر، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا يطول ذكرها) أقول: ما قاله ابن كثير في شأن تحويل العناصر فيه نظر فقد أصبح بالإمكان في عصرنا تحويل العنصر إلى عنصر آخر وذلك جائز شرعا. 3 - بمناسبة قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيح عند البخاري من حديث الزهري عن سالم أن اباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يجر إزاره خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» ثم رواه من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة». تفرد به أحمد وإسناده حسن، وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي ... عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما فأمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» 4 - بمناسبة قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً قال ابن كثير: وروى ابن جرير عن علي قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره، فإن ذلك مذموم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل فهذا لا بأس به، فقد ثبت أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسنا ونعلي حسنة أفمن الكبر ذلك؟ فقال: «لا، إن الله جميل يحب الجمال» 5 - في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أكثر من اتجاه عند المفسرين وقد ذكرها ابن كثير وهذا كلامه (وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يقول: لرادك إلى الجنة، ثم

سائلك عن القرآن. قاله السدي وقال أبو سعيد مثلها، وقال الحاكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال إلى يوم القيامة. ورواه مالك عن الزهري. وقال الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إلى الموت، هذه طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي بعضها لرادك إلى معدنك من الجنة. وقال مجاهد يحييك يوم القيامة. وكذا روي عن عكرمة وعطاء وسعيد ابن جبير وأبي قزعة وأبي مالك وأبي صالح، وقال الحسن البصري، أي والله إن له لمعادا فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة، وقد روي عن ابن عباس غير ذلك. كما روى البخاري في التفسير من صحيحه عن ابن عباس لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال إلى مكة. وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به وكذا العوفي رواه عن ابن عباس لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وقال محمد ابن إسحاق عن مجاهد في قوله لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إلى مولدك بمكة. وقال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الجزار وسعيد بن جبير وعطية والضحاك نحو ذلك. وحدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله عليه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إلى مكة وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيا والله أعلم. وقد قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال: هذه مما كان ابن عباس يكتمها. وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القاري أنه قال في قوله لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال: إلى بيت المقدس، وهذا والله أعلم يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة، لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر، والله الموفق للصواب. ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم كما فسر ابن عباس سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة أنه أجل رسول الله نعي إليه. وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ بالموت، وتارة بيوم القيامة، الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن، ولأنه أكمل خلق الله وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الإطلاق)

المجموعة الخامسة من القسم الثاني

المجموعة الخامسة من القسم الثاني وتمتد من الآية (86) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (88) وهذه هي: [سورة القصص (28): الآيات 86 الى 88] وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) ملاحظة حول السياق: نلاحظ أن القسم الثاني من هذه السورة بدأ بقوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ... واستمر حتى وصل إلى ما نحن فيه. فلنلاحظ أن بداية هذه المجموعة- وهي خاتمة السورة- مبدوءة بقوله تعالى: وَما كُنْتَ. لقد بدأت المجموعة الأولى بالحديث عما تثبت به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالبناء على ما ورد في القسم الأول وتأتي هذه المجموعة في خاتمة القسم الثاني لتذكر محمدا صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه، وهي نعمة لم يكن يتوقعها ويرجوها، ثم تأمره بمجموعة أوامر ونواه هي الشكر المقابل لهذه النعمة. فالسياق كله يصب في طريق واحد فلنر تفسير المجموعة: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي وما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي سينزل عليك إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن رحمة من ربك أنزل إليك أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك فإذا منحك هذه النعمة العظيمة فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً أي معينا لِلْكافِرِينَ قال ابن كثير: ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أنه قد ورد في القسم الأول من السورة على لسان موسى قوله: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ وهاهنا يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وهذا يشير إلى أن من مقاصد السورة الرئيسية التربية على هذا المعنى، كما يشير إلى أن القسم الثاني يبنى على ما ورد في القسم الأول. وَلا يَصُدُّنَّكَ أي ولا يمنعنك هؤلاء عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي عن العمل بالقرآن وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى توحيده وعبادته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انتسابا أو مشاركة أو عملا أو اعتقادا. كلمة في السياق: بدأت السورة بقوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وفي هذه الآية ورد قوله تعالى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ فالصلة بين مقدمة السورة وخاتمتها لا تخفى، وكنا ذكرنا أن محور هذه السورة هو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وقد رأينا كيف أن قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ .. توجيه لصاحب الرسالة. وهاهنا نرى الخطاب لمن أنزلت عليه الآيات ألا يصده أحد عن هذه الآيات. فالصلة بين السورة ومحورها واضحة، كما أن السياق الخاص للسورة واضح الترابط. ثم تختم السورة بقوله تعالى: .. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا تليق العبادة إلا له، ولا تنبغي الإلهية الا لعظمته كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ قال ابن كثير: إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت ... لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء في خلقه والأمر والنهي والتشريع والملك والتصرف ولا معقب لحكمه وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

فوائد

فوائد: 1 - يفسر العلماء قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ بأن المراد بالوجه هنا الذات. ولبعضهم اتجاه آخر في تفسير الآية. وقد نقل ابن كثير هذه الاتجاهات فقال وقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ معبر بالوجه عن الذات وهكذا قوله هاهنا كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا إياه وقد ثبت في الصحيح من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل» وقال مجاهد والثوري في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له. قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه … رب العباد إليه الوجه والعمل وهذا القول لا ينافي القول الأول فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس، فإنه الأول والآخر، الذي هو قبل كل شئ وبعد كل شئ. 2 - وبمناسبة قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ذكر ابن كثير ما ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب (التفكر والاعتبار) بسنده إلى الوليد قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة، فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. 3 - ونختم الفوائد بتعليقات للنسفي حول معان في قصة قارون قال: قال سهل ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أقواله وأفعاله وفتح له سبيل رؤية منة الله تعالى عليه في جميع الأفعال والأقوال، والشقي من زين في عينه أفعاله وأقواله وأحواله، ولم يفتح له سبيل رؤية منة الله، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه يهلكه يوما كما خسف بقارون لما ادعى لنفسه فضلا.

كلمة في القسم الثاني من السورة

كلمة في القسم الثاني من السورة: رأينا أن القسم الأول تلا علينا آيات الله في قصة موسى وفرعون، وفي هذه التلاوة معجزة تدل على أن هذا القرآن من عند الله. ثم جاء القسم الثاني ليبني على ذلك أن هذا القرآن من عند الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام الحجة على ذلك مرة، بعد مرة فإذا استقر ذلك بين الله عزّ وجل لرسوله أن الهداية لا تكون إلا بأمر الله، وأنها جارية على سنن، وأن مجرد محبته عليه الصلاة والسلام لهداية إنسان ليست كافية لهدايته، ثم ناقش أحد الصوارف عن هذا الدين، وهو خوف التخطف، ورد عليه ثم حذر من البغي على رسوله وأمته. ثم بشر. ثم ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه بإنزاله عليه هذا القرآن وأمره- وهو أمر لكل أمته- بمجموعة أوامر هي الشكر على هذه النعمة. كلمة في سورة القصص: بدأت السورة بقوله تعالى: طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وبعد أن قص الله عزّ وجل علينا هذه الآيات بنى عليها ما تقوم به الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أن هذا القرآن من عند الله، وأن موقف أهل العلم التسليم لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بينت السورة أن الهداية بيد الله، وليست بيد أحد، وفي هذا السياق يأتي عرض الشبهة القطيعة المستمرة، وهي ترك الإسلام بحجة الأمن. وترد السورة على هذه الشبهة شيئا فشيئا وبطريقة بعد طريقة وترد في السياق إنذارات وتحذيرات من خلال عرض ما يكون في الآخرة، ومن خلال عرض أخذ قارون. ثم تأمر السورة في أواخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أوامر، يؤدي بها شكر نعمة الله عليه بإنزال هذا القرآن. ... وقد أوردت السورة خصيصة من خصائص هذا القرآن وكانت السورة نموذجا عليها، هذه الخصيصة هي قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فقد وصل الله عزّ وجل هذا القرآن بأن وصل المعنى بالمعنى. فتجد القصة بجانب التقرير، بجانب الموعظة، بجانب الإنكار يربطه رباط جامع هو سياق السورة الخاص ضمن محورها في السياق القرآني العام. وقد رأينا في هذه السورة نموذج ذلك. فمشاهد قصة موسى، ومجموعات القسم الثاني كل منها يعرض معنى، ويأتي ليعضد

كلمة في الطاسينات الثلاث ومجموعتها

الأول ويكمله وهكذا، وما يحتاج إلى تكرار كثير كرر. وما يحتاج إلى تكرار أقل كرر بقدر ذلك. ... إن سورة القصص آتية تفصل الآية الآتية في حيز الأمر ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ومن ثم تجد فيها ما يخدم هذا الموضوع، كتحطيم الأفكار التي تناهضه كقول الكافرين وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا كما أن السورة من خلال القصة والعرض في قسميها تعطينا الكثير من القيم الإسلامية، والآداب الإسلامية، والمواقف الإسلامية، والأحكام الإسلامية، ومن ذلك بعض القضايا التي تعتبر قضايا دستورية، كموضوع اللجوء السياسي في قصة موسى عليه السلام في ذهابه إلى مدين. ... والسورة في سياقها الرئيسي تبين لنا ظاهرة الرسالة وخصائصها، كما تذكر لنا أخلاق المرشحين لها قبلها، وقد جاء ذلك من خلال التعرض لأكبر رسالتين في التاريخ: رسالة موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. كلمة في الطاسينات الثلاث ومجموعتها: الطاسينات الثلاث هي آخر المجموعة الثالثة من القسم الثاني من أقسام القرآن، أي المجموعة المبدوءة ب (طه) ولئن كانت سورة (طه) تحدثت عن موسى، فإن الطاسينات الثلاث تحدثت عن موسى كذلك، وذلك لأن الموضوع الذي عالجته سورة طه قريب من الموضوع الذي عالجته الطاسينات الثلاث. إلا أن سورة طه عالجته كبداية، والطاسينات عالجته كنهاية. فسورة (طه) فصلت قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ والطاسينات فصلت قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ مما يشير إلى أن قضية الإيمان بالقرآن والرسول هي البداية والنهاية. لقد فصلت الطاسينات الثلاث آية واحدة هي: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ولكن كل من السور الثلاث فصل هذه الآية بجرس وأسلوب ومعان يكمل بعضها بعضا، ولكنها كلها تصب فيها، وتفصلها ضمن حيز ورود آية المحور في سورة البقرة، والملاحظ أن آية المحور لم تفصل قبل ذلك في القرآن، فجاء تفصيلها بهذا

كلمة في القسم الثاني من أقسام القرآن

الشكل المتكرر في مكان واحد، في نهاية المجموعة الثالثة من القسم الثاني، وفي نهاية القسم الثاني كله؛ لأنها تؤدي معنى هو مسك الختام في السياق الخاص والعام للقرآن، إذ تؤكد على كثرة المعجزات في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكد على صحة رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام. ... إن المجموعة الثالثة من القسم الثاني من أقسام القرآن وهي المبدوءة ب (طه) والمنتهية (بالطاسينات) هي خاتمة القسم الثاني قسم المئين. ومن ثم نلاحظ في هذه المجموعة تركيزها في بدايتها ونهايتها على قضية الإيمان وعرضها في الوسط لمواضيع تميزت بها عن المجموعتين السابقتين. ففي المجموعتين السابقتين لم ترد سورة مبدوءة ب (يا أيها ... ) كما كان في القسم الأول. ولكن في المجموعة الثالثة وجد ذلك، وفي المجموعتين السابقتين لم ترد سورة كاملة حول قضايا تشريعية كما وجد ذلك في القسم الأول، ولكن في المجموعة الثالثة وجدت سورة كسورة النور، وهكذا نجد أن المجموعة الثالثة دورها دور مكمل لموضوع القسم كله، بحيث يرى فيها تشابه قسم المئين مع قسم الطول، وقد استكمل هذا الشبه من خلال هذه المجموعة، فكأن المجموعتين السابقتين كانتا مقدمتين للمجموعة الثالثة، وجاءت المجموعة الثالثة لتبني عليهما. ... إن معرفة أسرار التربية القرآنية، وطرائق القرآن في التربية، لا يدرك أبعادها الإنسان إلا بقدر إدراكه لأسرار القرآن، وبقدر ما نبني هذه الأمة على ضوء المعرفة الصحيحية لكتاب الله نكون سائرين في طريق بناء الإنسان البناء الصحيح لأن الله عزّ وجل منزل القرآن هو الأعلم بالإنسان. كلمة في القسم الثاني من أقسام القرآن: رأينا أن القسم الثاني من أقسام القرآن يبدأ بسورة يونس وينتهي بسورة القصص، وهو القسم الذي أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم اسم المئين. هذا القسم فصل سورة البقرة تفصيلا بعد تفصيل، فصل سورة البقرة في مجموعته الأولى بما يصلح أن يكون مقدمة للمجموعة

الثانية. وفصل سورة البقرة في مجموعته الثانية بانيا على المجموعة الأولى، ومقدما للثالثة. وفصل سورة البقرة في مجموعته الثالثة، بما يكمل تفصيل المجموعتين السابقتين. ولقد فصلت كل مجموعة سورة البقرة نوع تفصيل بحيث لا يتعارض تفصيلان بل يتكاملان، وبهذا أكمل القسم الثاني من أقسام القرآن ما بناه القسم الأول. ... جاءت فاتحة القرآن تلخص معاني القرآن كله، ثم جاءت سورة البقرة فعرضت الإسلام كله عرضا محكما مجملا، كما قال عليه الصلاة والسلام عنها: «إن كادت لتستحصي الدين كله»، ثم جاءت السور السبع بعدها ففصلت الكثير مما أجمل فيها على ترتيب وروده فيها ثم جاء القسم الثاني: ففصل الكثير مما أجمل فيها: جاءت المجموعة الأولى من هذا القسم ففصلت بعض ما أجمل في سورة البقرة على ترتيب وروده فيها، ثم جاءت المجموعة الثانية ففصلت الكثير مما أجمل في سورة البقرة على ترتيب وروده فيها، ثم جاءت المجموعة الثالثة ففصلت كذلك الكثير مما أجمل فيها على ترتيب وروده، ولقد رأينا كثيرا من المعاني قد كررت مرة ومرة ومرة، مما يشير إلى أهميتها أو يشير إلى ضرورة عرضها مرات، بحسب احتياج النفس البشرية، وقد تحدثنا عن تفصيلات ذلك كله أثناء الكلام عن السور، وعن المجموعات وعن الأقسام بما يكفي ويغني عن أن نقول أكثر مما قلناه. فلننتقل إلى القسم الثالث من أقسام القرآن، وهو المسمى في الحديث النبوي بقسم المثاني.

قسم المثاني

القسم الثالث من أقسام القرآن قسم المثاني ويتضمّن سور العنكبوت، الرّوم، لقمان، السّجدة، الأحزاب، سبأ، فاطر، يس، الصّافات، ص، الزّمر، غافر، فصّلت، الشّورى، الزّخرف، الدّخان، الجاثية، الأحقاف، محمّد، الفتح

مقدمة حول أقسام القرآن الكريم وتحديد قسمي المثاني والمفصل وسبب تسمية قسم المثاني بهذا الاسم

[مقدمة حول أقسام القرآن الكريم وتحديد قسمي المثاني والمفصل وسبب تسمية قسم المثاني بهذا الاسم] قال ابن كثير: (قال أبو عبيد: حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن أحمد ابن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السبع الطول مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضّلت بالمفصّل». هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير فيه لين. وقد رواه أبو عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال، فذكره، والله أعلم. أقول: وقد وصف الغماري هذا الحديث بالحسن) أ. هـ. ومن خلال دراستنا للقرآن نجد فعلا أن للقرآن أقساما: فالقسم الأول الذي يشمل السبع الطوال، تجده يشكل نوعا من التكامل والتفصيل. والقسم الثاني المبدوء بسورة يونس، والمنتهي بسورة القصص، يشكّل نوعا من التكامل والتفصيل. إنك عند ما تبدأ تتلو سورة يونس تحسّ من خلال أوائل السورة أنك أمام قسم جديد، وعند ما تنتهي من سورة القصص تجد نفسك أنك أمام قسم جديد يبدأ ب (الم) .... إلا أنّ أيّ قسم لاحق لا يعني انفصالا عن قسم سابق بل كل قسم يفصّل معاني على حسب نظام معيّن، ونسق معيّن، هو النسق الذي خص الله عزّ وجل به سورة البقرة، مع تكامل الأقسام مع بعضها. وقد رأينا أن الحديث الشريف الذي مرّ معنا قد ذكر أربعة أقسام: قسم الطول، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصّل، وفي اجتهادنا أنّه بسورة القصص ينتهي القسم الثاني- قسم المئين الذي جاء بعد قسم الطول- وبقي عندنا قسم المثاني، وقسم المفصّل، وللعلماء خلاف حول المفصّل من أين يبدأ. قال صاحب نيل الأوطار: (قال في الضياء: هو من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم إلى آخر القرآن ... وذكر في القاموس أقوالا عشرة: من الحجرات إلى آخره ... أو من الجاثية، أو القتال، أو ق،

أو الصافات، أو الصف، أو تبارك، أو الفتح، أو الأعلى، أو الضحى، ونسب بعض هذه الأقوال إلى من قال بها قال: وسمّي مفصلا لكثرة الفصول بين سوره أو لقلة المنسوخ) وقال في مراقي الفلاح- أحد كتب الحنفية-: (والمفصّل هو السبع السابع، وقيل: أوله- عند الأكثرين- من سورة الحجرات، وقيل: من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم، أو من الفتح، أو من ق. فالطوال (أي طوال المفصّل) من مبدئه إلى البروج، وأوساطه منها إلى (لم يكن) وقصاره منها إلى آخره ... ). ومن الاختلاف الكثير في المفصّل نعلم أنّ المسألة اجتهادية، وأكثر الأقوال أن المفصّل من بعد الحجرات، وعلى هذا القول فإن (ق) تكون من المفصّل إلا أننا نستبعد ذلك؛ لأنّنا نرى أن (ق) جزء مما قبلها؛ فهي امتداد للحواميم؛ بدليل أن سورة الشورى مبدوءة ب حم عسق وسنبرهن على هذا الموضوع فيما بعد، ومن ثمّ فإنّنا نرى أن المفصّل هو من بعد (ق) فهو إذن من سورة (الذاريات) فهو يشمل أربعة أجزاء ونيّفا، وذلك يعدل السبع إلا قليلا من مجموع القرآن. .... ولا شك أنّ الأقوال القائلة بأن بداية المفصّل من (الضحى) أو من (الأعلى) ليست صحيحة، لأنّه من المتعارف عليه أن سورة الملك يطلق عليها اسم (تبارك المفصّل)، وقد ورد ذلك في بعض الأحاديث، وأن الأقوال القائلة بأنّ ابتداء المفصّل من (إنا فتحنا)، أو من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم مردودة؛ لأنّها قبل (ق) وهذا موضوع سنراه فيما بعد مع أدلته، وكذلك القول بأن بداية المفصّل من الجاثية مردود؛ لأن الجاثية من الحواميم، فهي جزء من مجموعة، بل هي آتية في وسط مجموعة وليست بداية لقسم. .... إنّ المفصّل في اجتهادنا يبدأ بسورة الذاريات، وسنبرهن على ذلك أكثر من مرّة، وعلى هذا فالقسم الثالث من أقسام القرآن- والمسمّى بالمثاني- يكون من سورة العنكبوت إلى نهاية سورة (ق). .... ومن تسمية القسم الثالث بالمثاني ندرك أن هناك معاني ستثنّى وتثنّى فيه. ومن ثمّ

فإننا سنلاحظ- كما لاحظنا في القسم الثاني- أنه مؤلف من مجموعات، كل مجموعة تؤدّي دورها فيه ضمن السياق القرآني العام. .... ونحب ابتداء أن نسجّل ملاحظات، ندرك من خلالها لم سمي هذا القسم بالمثاني، إنّك تجد في المجموعة الأولى من هذا القسم والتي هي- كما سنرى- تمتدّ من سورة العنكبوت حتى نهاية سورة (يس) أربع سور مبدوءة ب (الم)، بينما قسم الطول لم ترد فيه (الم) إلا مرّتين، مرة في سورة البقرة، ومرة في سورة آل عمران. وفي هذه المجموعة ترد سورتان مبدوءتان ب (الحمد لله) بينما لا نجد في قسم الطول إلا سورة واحدة هي الأنعام مبدوءة ب (الحمد لله)، ولا تجد في قسم المئين إلا سورة واحدة مبدوءة ب (الحمد لله) هي الكهف. ونجد في قسم المثاني سبع سور مبدوءة ب (حم)؛ مما يشير إلى وحدة الزمرة، ووحدة معانيها. من مثل هذه الملاحظات نعرف بعض السرّ في تسمية هذا القسم بالمثاني. .... لقد استأنسنا في تحديدنا لأقسام القرآن بنصوص وبعلامات ثمّ بالمعاني، فمثلا وجود (الم) في بداية سورة العنكبوت، وعدد آيات سورة القصص، كل ذلك كان عاملا من عوامل تحديد بداية قسم المثاني، ونهاية قسم المئين، والمعاني هي التي أكملت الدليل كما رأينا وكما سنرى. يتألف قسم المثاني من خمس مجموعات، كل مجموعة تفصّل في سورة البقرة نوع تفصيل، فهي تبدأ في تفصيل الآية الأولى منها ثمّ وثمّ، ثمّ تأتي المجموعة الثانية، فتبدأ التفصيل من البداية وهكذا، وذلك كذلك سبب من أسباب تسمية هذا القسم بالمثاني، وسنرى كيف أن المعاني هي التي ستحدّد لنا بدايات المجموعات ونهاياتها. ولنبدأ بعرض المجموعة الأولى من قسم المثاني.

المجموعة الأولى من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمى بقسم المثاني

المجموعة الأولى من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمّى بقسم المثاني وتشمل سور: العنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المثاني

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المثاني: تفصّل هذه المجموعة في سورة البقرة ككل مجموعة، فالسور الأربع الأول منها تفصّل في مقدمة سورة البقرة؛ فكما أنّ سورة آل عمران مبدوءة ب الم وفصّلت مقدمة سورة البقرة، فكذلك هذه السور الأربع كلها مبدوءة ب (الم)، فإنّها تفصّل مقدمة سورة البقرة، وامتداداتها في السورة، ثم تأتي سورة الأحزاب، فتفصّل الحيّز الذي فصّلته سورتا النساء، والمائدة بآن واحد، أي أنها تفصّل من سورة البقرة من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... (الآية: 21) إلى أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي: إلى نهاية الآية (27) فهي تفصّل ما فصّلته سورتا النساء والمائدة، ولكنّه تفصيل جديد وبشكل جديد سنراه. ثم تأتي سورتا سبأ وفاطر، فتفصلان ما فصلته سورة الأنعام، أي: تفصلان قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة: 28، 29). سورة سبأ تفصل بشكل رئيسي الآية الأولى، وسورة فاطر تفصل بشكل رئيسي الآية الثانية، وتتكاملان مع بعضهما في تفصيل الآيتين، ولكن بشكل جديد سنراه. ثم تأتي سورة (يس) لتفصّل آية في أعماق سورة البقرة، فتفصل ما فصلته (الطاسينات) وهو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (البقرة: 252) ولكنه تفصيل جديد وبشكل جديد سنراه. ومن التفصيل الذي سنراه في هذه المجموعة الأولى من قسم المثاني ندرك سرا من أسرار تسمية هذا القسم باسم المثاني. فما من سورة منه إلا وهي تثنّي تفصيل معنى من المعاني. فمقدمة سورة البقرة فصّلت من قبل، وهاهنا يثنى تفصيلها. وهكذا قل في آيات أخرى قد فصّلت من قبل، وسنرى أن مجموعات هذا القسم كثيرة، وكلها تثنى فيها بعض المعاني، وبعض التفصيل مرّة بعد مرّة. ...

وهذه المجموعة تتكامل مع بعضها بحيث تؤدّي معنى متكاملا، فهي مع أدائها دورا في التفصيل الكلي للقرآن فإنّ لها دورها المستقل الذي تؤدّيه بحكم أنّها مجموعة متكاملة. وهكذا كل مجموعة من مجموعات الأقسام. وهكذا كل قسم من الأقسام. فالمجموعة داخل القسم لها دورها المستقل، والقسم بالنسبة للقرآن له دوره المستقل، ولكن المجموعة تؤدّي دورها في تكامل القسم، والقسم يؤدّي دوره في تكامل القرآن، ومن خلال هذا يظهر تشابه القرآن مع هذا الكون في حيثية من الحيثيات (¬1). إنّ هذا القرآن يشبه هذا الكون فهذا أثر قدرة الله، وهذا أثر صفة الكلام لله، فكما أن في هذا الكون تكاملا وتناسقا فيهما تظهر وحدته، فكذلك هذا القرآن فيه تكامل وتناسق فيهما تظهر وحدته، وكما أنّ الوحدة الكونية لا تنفي وحدة المجموعات، ولا تنفي أن تؤدّي هذه المجموعات دورا مستقلا ضمن الوحدة الكلية، فكذلك الوحدة الكلية في القرآن لا تنفي وحدة الأقسام، ووحدة المجموعات التي تؤدّي دورا خاصا ضمن الوحدة الكلية. ... وقد شرحنا موضوع التناسق والتكامل في الكون في كتابنا (الله جل جلاله) تحت عنوان ظاهرة الوحدة. فكل جزء في الكون يكمّل الآخر، ثمّ مرجع الأشياء كلها إلى وحدة كلية، وضمن هذه الوحدة الكلية تجد آلافا من الوحدات تؤلف فيما بينها كلّا متكاملا، فكذلك هذا القرآن. وكما أنك تستطيع من خلال أجزاء هذا الكون أن توجد ملايين المركبات، أو تفرز الشئ الواحد وتضمّه إلى بعضه فيخرج معك آلاف الأشياء، فكذلك هذا القرآن، إذا ركبت بعض مواضيعه إلى بعضها تجد ملايين المواضيع، وإذا فرزت مواضيعه كلّا على انفراد تجد ملايين المواضيع وهكذا، فما أحمق الذين يقترحون أن يكون القرآن على غير ما هو عليه، أو يعترضون على ما هو عليه، وما أحمق اعتراضهم على أنه لم تكن المواضيع القرآنية الواحدة بجانب بعضها. إنّ استخراج المواضيع ذات الصبغة الواحدة قد ترك للجهد البشري على مدى العصور؛ لأن المواضيع التي ينبغي أن تدرج بجانب بعضها تختلف باختلاف العصور، واحتياجات البشر فيها لا تتناهى، فإذا كان ¬

_ (¬1) لكن الكون مخلوق، والقرآن كلام الله الأزلي.

القرآن يحوي كل المواضيع غير المتناهية التي تحتاجها البشرية، كما أن الكون يحوي كل الأشياء التي تحتاجها البشرية. وإذا كانت الوحدة فيه كالوحدة في هذا الكون، فذلك دليل أنه من عند الله، وهو موضوع سنكرر الكلام فيه شيئا فشيئا حتى نعرف أبعاده. .... في هذا الكون تجد مجموعات ضمن الوحدة الكلية، كالمجموعة الشمسية بالنسبة لمجرّاتها، وتجد أقساما تضم مجموعات كالمجرّة بالنسبة للكون، وتجد الكون بمجموع مجرّاته، والمجموعة الشمسية تتألف من أجزاء كل جزء يشكّل وحدة مستقلة ضمن وحدة أكبر منها، وفي الجزء تجد وحدات أصغر منها، لها دورها المستقل ضمن وحدة كلية، فكذلك هذا القرآن، الآية ضمن السورة، والسورة ضمن المجموعة، والمجموعة ضمن القسم، والقسم ضمن القرآن، لكلّ دوره المستقل، مع أدائه دوره في الوحدة الأكبر منه، وهكذا نجد هذه المجموعة التي بين أيدينا، فلكل سورة منها محلّها ضمن مجموعتها، ومجموعتها تؤدّي دورا مستقلا ضمن إطار وحدة القسم، والقسم كله يؤدّي دورا. .... تبدأ المجموعة بسور أربع تتحدث عن الإيمان وأثره العملي، وتبيّن أبعاده، وتأتي سورة الأحزاب لتأمر بمراعاة معان كثيرة هي بمثابة الطريق للوصول إلى المعاني المذكورة في السور الأربع، وما تحدّثت عنه السور الخمس يوصل إلى مقام الشكر، ومن ثمّ تأتي سورة سبأ، لتتحدث عن الشكر، وشروط حصوله. ثم تأتي سورة فاطر، لتبين نقطة البداية في طريق الشكر. ثم تأتي سورة يس، لتكمّل البناء ضمن الكلام عن مهمة الرسل الذين رسموا طريق الشكر. .... وقد كان علينا من قبل أن نتحدّث عن موضوع الدور المستقل للسورة ضمن المجموعة، والدور المستقل للمجموعة ضمن القسم، ولكنّا أخرنا الكلام عن ذلك حتى لا يتشعّب الحديث، ولعلّنا بمناسبة الكلام عن هذه المجموعة نوفّي هذا الموضوع حقّه، لأن هذه المجموعة تكاد تكون نموذجا واضحا على ذلك. ....

والملاحظ أنّ سورا أربعا في هذه المجموعة تبدأ ب (الم) وهذا يشير إلى أنّها تفصّل في مقدّمة سورة البقرة، وسنرى ذلك بشكل واضح، كما سنرى أنّ تفصيل كل من السور الأربع لهذه المقدّمة يكمّل تفصيل الأخرى، فسورة (العنكبوت) مثلا تفصّل في قضايا الإيمان بالغيب وبالكتاب، ومستلزمات ذلك بشكل أخصّ، بينما سورة (الروم) تفصّل في قضايا الإيمان باليوم الآخر بشكل أخصّ، وكلّ من السور الأربع تفصّل في جانب من مقدّمة سورة البقرة، وفي امتدادات ذلك في سورة البقرة نفسها، لذلك نلاحظ أن كلّا من السور الأربع قد فصّل في مقدمة سورة البقرة، وفي آيات منها قد جاءت بعد ذلك، وكل ذلك سنراه تفصيلا إن شاء الله.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت وهي السّورة التاسعة والعشرون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم المثاني وآياتها تسع وستون آية وهي مكيّة وهي السّورة الأولى من زمرة (الم) في قسم المثاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

نقول في سورة العنكبوت

نقول في سورة العنكبوت: قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة العنكبوت: (سورة العنكبوت مكية. وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية. وذلك لذكر (الجهاد) فيها وذكر (المنافقين) .. ولكننا نرجّح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد ابن أبي وقاص كما سيجئ. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك نرجّح مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير. لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس. والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام. إنها تبدأ بعد الحروف المقطّعة بالحديث عن الإيمان والفتنة، وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف. ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها؛ فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام، وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، استعراضا سريعا يصوّر ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال. ثم يعقّب على هذا القصص وما تكشّف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها، وقد أخذها الله جميعا: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا. ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسّم وهنها وتفاهتها: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.

وقال الألوسي في تقديمه لسورة العنكبوت

ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض؛ ثم يوحّد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد- صلّى الله عليه وسلم- فكلها من عند الله. وكلها دعوة واحدة إلى الله. ومن ثمّ يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له؛ وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. ويتناقضون في منطقهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ!. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ!. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين. وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة، غير خائفين من الموت، إذ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ. غير خائفين من فوات الرزق: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ. ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة، وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام، حول محورها الأول وموضوعها الأصيل). وقال الألوسي في تقديمه لسورة العنكبوت: (أخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي تعالى عنهما أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك، وروى القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة. وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة. وفي البحر عن الحبر، وقتادة أنها مدنية. وقال يحيى بن سلام: هي مكية إلا من أولها إلى قوله وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وذكر ذلك الجلال السيوطي في الإتقان ولم يعزه، وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال: قلت: ويضم إلى ذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك. وهي تسع وستون آية بالإجماع، كما قال الداني والطبرسي. وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ

كلمة في سورة العنكبوت ومحورها

أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان، بعذاب دون ما عذّب به فرعون بني إسرائيل بكثير، تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثّا على الصبر، ولذا قيل هنا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الإشارة إلى هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم أي في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ على بعض الأقوال، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ناسب تتاليهما). كلمة في سورة العنكبوت ومحورها: تبدأ السورة ب الم فهي كآل عمران تفصّل في مقدمة سورة البقرة، وتفصّل ما استكن في هذه المقدمة من معان. ففي مقدمة سورة البقرة حديث عن المتقين، وعن الكافرين، وعن المنافقين. وفي سورة العنكبوت حديث عن المؤمنين، والكافرين، والمنافقين. وفي مقدمة سورة البقرة كلام عن الإيمان بالغيب. وتبدأ سورة العنكبوت بالكلام عن الامتحان لتحقيق الإيمان وتتحدث السورة مرّة ومرّة ومرّة عن الإيمان: إن سورة البقرة مبدوءة بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ... ونلاحظ أنه قد جاء في سورة العنكبوت قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (الآية: 7). وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (الآية: 9). وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الآيتان: 58، 59) ونلاحظ أن آخر آية في السورة هي قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.

ومما مرّ نلاحظ أن الكلام عن الإيمان، وما لأهله، وعن الطريق لتحقيق الإيمان يأخذ حيّزا كبيرا في السورة. .... ونجد في السورة قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فالسورة إذن تتحدث عن مظهر من مظاهر النفاق وعلامة من علاماته، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة واضحة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ .... (الآية: 8) .... وفي السورة قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (الآيتان: 12، 13). وفي السورة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (الآية: 23). فمما تقدم ندرك أن السورة تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين من خلال التفاعل اليومي لعملية السير المستمرة لأهل الإيمان، وما يحدث خلال ذلك. فالسورة عرض حركي لقضية الإيمان والكفر والنفاق، وهي كذلك عرض لما استكن في مقدمة سورة البقرة. ومن ثمّ ندرك أن قضية التفصيل في السياق القرآني العام ليست عملية تكرار لمعان، بل عملية تفصيل، وليس تفصيلا بالمعنى البشري للتفصيل، بل هو تفصيل عجيب هو أثر علم الله المحيط. ....

إننا نجد في هذه الزمرة من سور هذه المجموعة تفصيلا لمقدمة سورة البقرة. ولكن كل سورة تفصّل شيئا في المقدمة نوع تفصيل، أو تفصّل أثرا عن معنى في المقدمة نوع تفصيل، أو تفصّل معنى مستكنا في المقدمة نوع تفصيل، ولكل سورة روحها الخاصة بها، وسياقها الخاص بها وأسلوبها. وفي ذلك آية على أن هذا القرآن جلّ أن يكون بشري المصدر. تتألف سورة العنكبوت من مقدّمة ومقطعين: تتحدّث المقدمة عن ابتلاء المؤمنين، وعقوبة الكافرين ثمّ تسير على وتيرة واحدة، متحدّثة عن أهل الإيمان وعن الكافرين إلى نهايتها ولذلك يتكرّر اسم الموصول فيها معطوفا بعضه على بعض: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (آية: 5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (آية: 6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ (آية: 7) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (آية: 9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي .. (آية: 23) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً .. (آية: 58) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (آية: 69) لاحظ أن الآية السادسة هي وَمَنْ جاهَدَ وأن آخر آية في السورة هي وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا، فالجهاد كلمة مشتركة بين الآيتين، فالسورة تكاد تكون مقطعا واحدا، ولكن آثرنا أن نعرضها على أنّها مقدّمة ومقطعان لسهولة العرض، خاصّة وأن المقطع الأول يغلب عليه التقرير، بينما يبدأ المقطع الثاني بأمر ونهي: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ، وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. .... يتألف المقطع الأول من مجموعتين، كل منهما مرتبطة بمقدمة السورة:

مقدمة السورة وتمتد حتى نهاية الآية (4) وهذه هي مع البسملة

المجموعة الأولى تعالج- من خلال عرض المعاني المجرّدة- قضية الابتلاء والتكليف. والمجموعة الثانية تضرب الأمثال، فتضرب أمثالا من التاريخ، ومثلا من عالم الواقع فيما يخدم المعاني التي جاءت في مقدّمة السورة، وفي المجموعة الأولى. ثمّ يأتي المقطع الثاني، وهو يتألف من مقدّمة، ومجموعتين، وخاتمة. وكل ذلك مرتبط ببعضه، وبمقدمة السورة، ومقطعها الأول: تبدأ مقدّمة المقطع الثاني فتأمر بتلاوة القرآن، وبإقام الصلاة، وبالذكر، وهذه الثلاث هي زاد الطريق في المحنة، ثمّ تأتي مجموعتان ترسمان الطريق لمعالجة مواقف كافرة، ثمّ تأتي الخاتمة، فتبيّن ظلم الكافرين، وتبيّن طريق الهداية للراغبين: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ* وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. فلنبدأ عرض السورة. مقدمة السورة وتمتد حتى نهاية الآية (4) وهذه هي مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 29/ 4 - 1 التفسير: الم أَحَسِبَ أي: أظن النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي: وهم لا يمتحنون بشدائد التكليف، من مفارقة الأوطان،

[سورة العنكبوت (29): آية 3]

ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم. والاستفهام في أول الآية للتوبيخ والإنكار، وهذا يفيد أنّ هذا الظن والحسبان في منتهى الخطأ. والمعنى الحرفي تقديره: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال ابن كثير: (ومعناه أنّ الله سبحانه وتعالى لا بدّ أن يبتلي عباده المؤمنين، بحسب ما عندهم من الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء»)، وَلَقَدْ فَتَنَّا أي اختبرنا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي بأنواع الفتن. فمنهم من يوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من يمشّط بأمشاط الحديد، ما يصرفه ذلك عن دينه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بالامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في دعوى الإيمان وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ في هذه الدعوى. قال النسفي: (ومعنى علمه تعالى وهو عالم بذلك فيما لم يزل أن يعلمه موجودا عند وجوده، كما علمه قبل وجوده أنّه يوجد) والمعنى: وليتميّز الصادق منهم من الكاذب. وقال ابن كثير: (والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة ... يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله إِلَّا لِنَعْلَمَ:* إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود). أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي الشرك والمعاصي أَنْ يَسْبِقُونا أي أن يفوتونا يعني: إن الجزاء يلحقهم لا محالة ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء الحكم حكمهم، وورود كلمة أَمْ التي تفيد الإضراب في الآية يفيد أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول، لأن صاحب الحسبان الأول يقدّر أنّه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظنّ أنه لا يجازى بمساويه، فالأول بالمؤمنين، والثاني في الكافرين. قال ابن كثير في الآية: (أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطمّ). وقال الألوسي: (وظاهر الآثار يدل على أن هذه الآية نزلت في شأن الكفرة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يريد سبحانه بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاصي بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وعقبة

فوائد

ابن أبي معيط، وحنظلة بن وائل، وأنظارهم من صناديد قريش، وفي البحر أن الآية- وإن نزلت على سبب- فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم). فوائد: 1 - [مقدمة السورة تبيان لمدى صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء] بمناسبة الآيات السابقة قال النّسفي: (قال ابن عطاء: يتبيّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرّخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الرخاء، وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين) 2 - [كلام الألوسي عند قوله تعالى أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا .. ] وعند قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال الألوسي: (والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا، واستبعاد له، وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف، كالمهاجرة، والمجاهدة، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وفنون المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المتزلزل فيه؛ فيعامل كلّ بما يقتضيه، ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم، فإن مجرد الإيمان- وإن كان عن خلوص- لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار. وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذّب: ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول، ويعوّض المؤمن بدلها ما يعوّض، بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت، والآية على ما أخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة، أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله تعالى فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (النحل: 11).

3 - كلام صاحب الظلال حول آيات مقدمة السورة

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه، ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف، وطعن في فرج أمه برمح، ففي ذلك نزلت أَحَسِبَ النَّاسُ الخ، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر، فجزع عليه أبواه وامرأته، وقال فيه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة»، وقيل: نزلت في عياش أخي أبي جهل، غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية، وقال الحسن: الناس هنا المنافقون). 3 - [كلام صاحب الظلال حول آيات مقدمة السورة] وفي آيات المقدّمة قال صاحب الظلال: (إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به- وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه- وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب. هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية، في ميزان الله سبحانه: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ. والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم. وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله. فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!. ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. إن الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص. وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى

الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء. وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة؛ وهي أمانة ثقيلة؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس؛ ومن ثمّ تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء. ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان. وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة. ولكنها ليست أعنف صور الفتنة. فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت أمر وأدهى. هناك فتنة الأهل والأحبّاء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعا. وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم؛ وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك. وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير. وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفّق لهم الجماهير، وتتحطّم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة. وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا. وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة؛ وهو وحده موحش غريب طريد. وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام. فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان. ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله!. وهنالك الفتنة الكبرى. أكبر من هذا كله وأعنف. فتنة النفس والشهوة. وجاذبية الأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان. وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبّطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصورات

أهل الزمان!. فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان. وما بالله- حاشا لله- أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمّل الأمانة. فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء. والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث؛ وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع. وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل. وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا، وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالا بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلّمون الراية في النهاية. مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار. وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. والذي يبذل من دمه وأعصابه، ومن راحته واطمئنانه، ومن رغائبه ولذاته. ثم يصبر على الأذى والحرمان؛ يشعر- ولا شك- بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام. فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفّل به وعد الله. وما يشك مؤمن في وعد الله. فإن أبطأ فلحكمة مقدّرة، فيها الخير للإيمان وأهله. وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله. وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء: جاء في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل،

كلمة في السياق: حول تصحيح مفهومين هامين في موضوع الابتلاء

يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» .. وأما الذين يفتنون المؤمنين، ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين. مهما انتفخ باطلهم وانتفش، وبدا عليه الانتصار والفلاح. وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ!. فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره، واختل تصوّره. فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين؛ هو الذي جعل أخذ المسيئين سنّة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد). كلمة في السياق: [حول تصحيح مفهومين هامين في موضوع الابتلاء] صحّحت الآيات السابقة تصوّرين هامّين. الأول: تصور من يظن أن الإيمان لا يرافقه امتحان. والثاني: تصور الكافر أنّه إذا لم يمتحن فإنه يفلت من عذاب الله عزّ وجل. فالآيات إذن تصحّح مفاهيم، وتقرر سننا لها علاقة بقضية الإيمان والكفر، وارتباط ذلك بمقدمة سورة البقرة واضح: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فالإيمان ليس مجرد دعوى، وكيلا يقول قائل: ما دام الإيمان كذلك فلنتخلّ عن الإيمان، فقد بيّن الله عزّ وجل أن تصور الكافر أنّه يفوت الله- خطأ أكبر. ولما كان تصحيح هذا التصور مهما جدا، فقد ورد هذا التصحيح في سورة البقرة في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إلا أن التصحيح الوارد في سورة البقرة ورد في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، لأنه هو الذي تترتب عليه المحن الحقيقية، وهو علامة الشكر الصادق على الإسلام، وهو الذي تكون عاقبته الظفر، أما هنا فقد ورد في سياق التفصيل المباشر لمقدمة سورة البقرة ليفيد أنّ دعوى الإيمان يترتب عليها الامتحان. وهاهنا نذكّر بشيء: قلنا: إنّ كلّ سورة في القرآن- ما عدا سورتي الفاتحة والبقرة- لها محور

في سورة البقرة، وأنّ السورة عند ما تفصّل في محورها فإنها تفصّل في هذا المحور وفي امتدادات معانيه الألصق به وقد رأينا أنّه في سورة البقرة جاءت المقدمة، وجاء بعدها الأمر بالتوحيد، ثم جاء بعد ذلك الأمر بتبشير الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثمّ جاء بعد آيات كثيرة قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ... ونلاحظ هنا أنّ سورة العنكبوت تفصّل في هذا وغيره، ضمن محورها الخاص. ولننتقل إلى المقطع الأول: يتألف المقطع الأوّل من مجموعتين: مجموعة تتحدّث عن المعاني المجردة، ومجموعة تضرب الأمثال، وسنعرض المجموعتين كلّا على حدة: ***

المقطع الأول وهو الآيات (5 - 44) ويتألف من مجموعتين

[المقطع الأوّل وهو الآيات (5 - 44) ويتألف من مجموعتين] المجموعة الأولى من المقطع الأول وتمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (13) وهذه هي: 29/ 5 - 13 التفسير: مَنْ كانَ يَرْجُوا أي: يأمل أو يخاف لِقاءَ اللَّهِ أي: ثوابه أو عقابه

[سورة العنكبوت (29): آية 6]

فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ المضروب للثواب والعقاب لَآتٍ لا محالة، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدّق رجاءه عزّ وجل ويحقّق أمله وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقوله عباده الْعَلِيمُ بما يفعلونه، فلا يفوته شئ ما وَمَنْ جاهَدَ نفسه بالصبر على طاعة الله، وجاهد الشيطان بدفع وساوسه، وجاهد الكفار لإعلاء كلمة الله فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأن منفعة ذلك ترجع إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وعن طاعتهم ومجاهدتهم، وإنّما أمر ونهى رحمة لعباده. ثم أخبر تعالى أنه- مع غناه عن الخلائق جميعهم ومع بره وإحسانه بهم- يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء، بأن يكفّر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، ويجزي على السيئة بمثلها، أو يعفو ويصفح وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام. نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ] عند قوله تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ قال صاحب الظلال رابطا بين ذكر الجهاد هنا، وذكر الابتلاء في مقدّمة السورة: (فلا يقفنّ أحد في وسط الطريق، وقد أمضى في الجهاد شوطا يطلب من الله ثمن جهاده ويمنّ عليه وعلى دعوته، ويستبطئ المكافأة على ما ناله فإن الله لا يناله من جهاده شئ. وليس في حاجة إلى جهد بشر: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده، وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه). كلمة في السياق: [حول صلة مقدمة السورة بالمجموعة الأولى من المقطع الأول] دلتنا المقدمة على أن الإيمان يرافقه امتحان. وأن علامة الصدق في الإيمان النجاح في الامتحان. ودلنا قوله تعالى في المجموعة مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ على أن هدف المؤمن هو ثواب الله في اليوم الآخر، فمن كان له هدف في الإيمان غير ذاك فإنه ليس من أهل حقيقة الإيمان، كما دلت آية وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ

[سورة العنكبوت (29): آية 8]

لِنَفْسِهِ على أنّ الإيمان لا بدّ أن يرافقه جهاد، وأن مصلحة الجهاد لا تعود إلا على صاحبها. أما الله عزّ وجل فغني عن العالمين. وبهذا قررت السورة أن الإيمان يلازمه الصبر على الامتحان، ويلازمه رجاء الله واليوم الآخر، ويلازمه الجهاد. فمن فاته الصبر، أو رجاء الله واليوم الآخر، أو الجهاد بمعناه الواسع العريض، فإنه ليس من أهل الصدق في الإيمان. وبعد إذ تقرر هذا كله، أعلمنا الله ما أعده لمن اجتمع له الإيمان والعمل الصالح. وصلة هذه المعاني بمقدمة سورة البقرة واضحة، وخاصة بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فعلامة الصدق بالإيمان بالغيب النجاح في الامتحان، وأن لا يريد الإنسان بعمله إلا وجه الله، وأن يجاهد نفسه وشيطانه وأعداء الله عزّ وجل، فالإيمان بالغيب لا بد أن يأخذ مداه العملي في مثل هذا، ثم الإيمان بالغيب لا بد أن يرافقه عمل صالح فذلك علامة على استقراره في القلب، وبتقرير ما أعد الله لمن آمن وعمل صالحا، جاء أوان أن يعرض الله عزّ وجل علينا أمره في شأن الوالدين، فمن أعظم أبواب الامتحان الوالدان، ومن أعظم الأعمال الصالحة برهما. .... وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً لأنهما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان. فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق، والوصية في الآية تفيد الأمر، أي وأمرنا الإنسان. وقوله حُسْناً أي فعلا ذا حسن، أو فعلا هو الحسن بعينه؛ لفرط جماله وكماله وَإِنْ جاهَداكَ أيها الإنسان لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا علم لك بإلهيته، أي وإن جاهداك لتشرك بالله شيئا لا يصح أن يكون إلها وكل ما سوى الله كذلك فَلا تُطِعْهُما أي في ذلك؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجع من آمن ومن أشرك، فأجازيكم حق جزائكم فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال النسفي: (وفي ذكر المرجع وعيد وتحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الدين) وإذن فمع الوصية بالرأفة والرحمة، والإحسان إلى الوالدين، في مقابلة إحسانهما المتقدم بيّن الله عزّ وجل أنّه إن حرصا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك وإياهما، فلا تطعهما في ذلك؛ فإنّ مرجعكم أيها الناس إليّ يوم القيامة، فيجزيك الله أيها المؤمن بإحسانك إليهما، وصبرك على دينك، ويحشرك مع الصالحين، لا في زمرة والديك، وإن كنت

[سورة العنكبوت (29): آية 9]

أقرب الناس إليهما في الدنيا، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب حبا دينيا. ومن ثمّ أتبع هذه الآية قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في جملتهم. فوائد: 1 - [كلام الألوسي وابن كثير بمناسبة آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً] عند قوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً قال الألوسي: (والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه رضي الله عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح، وأن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد- صلّى الله تعالى عليه وسلم-، وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد، وبقيت ثلاثة أيام كذلك، فجاء سعد إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فشكا إليه، فنزلت هذه الآية، والتي في لقمان، والتي في الأحقاف، فأمره رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يداريها ويترضّاها بالإحسان. وروى أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة، فخرج أبو جهل ابن هشام، والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة، فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام، وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك، وهي أشد حبا لك منا، فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب، فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك، ولك عليّ أن أقسّم مالي بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهم ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلّت فاحملني معك، قال: نعم. فنزل ليوطئ لنفسه له، فأخذاه فشدّاه وثاقا وجلده كل واحد مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه، فقالت لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزلت). وقال ابن كثير عند الآية نفسها: (وروى الترمذي عند تفسير هذه الآية ... عن سماك بن حرب قال: سمعت

2 - كلام النسفي بمناسبة قوله تعالى لندخلنهم في الصالحين

مصعب بن سعد يحدّث عن أبيه سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات، فذكر قصته وقال: قالت أم سعد أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً* وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما). 2 - [كلام النسفي بمناسبة قوله تعالى لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ] بمناسبة قوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ قال النسفي: (والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام قال سليمان عليه السلام: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ. [النمل: 19] وقال يوسف عليه السلام: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101]، أي: في مدخل الصالحين وهو الجنة). كلمة في السياق: [حول أصعب الامتحانات التي يمر بها المؤمن المجاهد وكيفية التصرف فيها وصلة ذلك بالمحور] من أصعب الامتحانات التي يمرّ بها المؤمن المجاهد موقف والديه منه، ومن أصعب الأمور أن يتصرّف التصرف المناسب في مثل هذا الموطن، ومن ثمّ ألزم الله المؤمن هنا بشيئين: الإحسان، وعدم الطاعة في المعصية وهما أمران لا يستطيعهما معا إلا موفّق، ومن ثمّ ذكر الله عزّ وجل في هذا السياق ما أعده لمن آمن وعمل صالحا، وعلى هذا فإن السياق- حتى الآن- يعرض علينا علامات الصدق في الإيمان، وهي الصبر على الامتحان، ورجاء ثواب الله، والجهاد، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، مع الرفض لكل أمر فيه معصية لله، وإذا كان هذا الشأن مع الوالدين، فمن باب أولى أن يكون الأمر كذلك مع غيرهما. إن السورة حتى الآن إذن تعرض علينا في سياقها الرئيسي علامات الصدق في الإيمان بالغيب التي هي الصفة الأولى من صفات المتقين، كما عرضت في مقدّمة سورة البقرة وقد آن الأوان لنتحدّث شيئا ما عن مقدمة سورة البقرة: عرضت مقدمة سورة البقرة صفات المتقين. ثم تحدثت عن الكافرين. ثم عرضت صفات المنافقين، وعند ما تكلّمت عن صفات المتقين بدأت بصفة الإيمان الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. وعند ما تحدّثت عن المنافقين بدأت بكذبهم في دعوى الإيمان:

[سورة العنكبوت (29): آية 10]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وكما رأينا فإن سورة العنكبوت بدأت في الكلام عن علامة الصدق في الإيمان والكذب به فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ وسار السياق ليحدّثنا عن علامات الصدق في الإيمان، مع التبشير لأهل ذلك، وها نحن بعد ذلك قد وصلنا إلى أن يعطينا السياق علامة الإيمان الكاذب، وهو السقوط في الامتحان، وكما بدأ الحديث في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين، بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ ... فههنا يبدأ كذلك بقوله: وَمِنَ النَّاسِ ... .... وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قال النسفي: (أي إذا مسّه أذى من الكفار جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله تعالى). وقال ابن كثير: (إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم، فارتدوا عن الإسلام). وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي وإذا نصر الله المؤمنين ومكّنهم وغنّمهم اعترضوهم، وقالوا: إنّا كنّا معكم، أي متابعين لكم في دينكم، ثابتين عليه بثباتكم، فأعطونا نصيبنا من الغنم أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أو ليس الله بأعلم بما في قلوبهم، وما تكنّه ضمائرهم، وإن أظهروا الموافقة؟ أي هو أعلم بما في صدور العالمين، من العالمين بما في صدورهم، ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق، وما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ثم وعد المؤمنين، وأوعد المنافقين بقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ. قال ابن كثير: (أي وليختبر الله الناس بالضراء والسراء؛ ليتميّز هؤلاء من هؤلاء، من يطيع الله في الضراء والسّراء، ومن يطيعه في حظ نفسه). وقال صاحب الظلال بمناسبة هاتين الآيتين اللتين تتحدّثان عن نموذج من الناس يراه الإنسان كثيرا: (ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل، هينة المئونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ فاستقبلها في جزع،

واختلّت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة؛ وتصوّر أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله؛ وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شئ، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه. هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ! إنا كنا معكم ... وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجئ الرخاء تنبعث الدعوى العريضة. وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ! أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ. أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموّهون؟ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ. وليكشفنهم فيعرفون؛ فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون. ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ. فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات- وللطاقة البشرية حدود- ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وبين عذاب الله العظيم؛ فلا يختلط في حسّهم أبدا عالم الفناء الصغير، وعالم الخلود الكبير، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة، وجهد الاحتمال ... إن الله في حسّ المؤمن لا يقوم له شئ، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله ... وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: بهاتين الآيتين أعطانا الله عزّ وجل الميزان الذي يعرف به الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، ترك الإسلام خوف الإيذاء، أو عند الإيذاء، وليس المراد بذلك الترك الاضطراري مع بقاء الصدر منشرحا بالإسلام، وهكذا نجد السياق حتى الآن قد فصّل لنا من مقدمة سورة البقرة موضوع علامة الصدق بالإيمان بالغيب، والكذب فيه. والآن يصل السياق إلى الحديث عن المحاولات التي يحاولها الكافرون لصرف أهل الإيمان. .... وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتّبعوا طريقنا الذي نحن عليه وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي وعلينا وفي رقابنا آثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك، كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي، قال الله تكذيبا لهم وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي فيما قالوه إنهم يحملون عن أولئك خطاياهم، فإنّه لا يحمل أحد وزر أحد وَلَيَحْمِلُنَّ أي هؤلاء الدعاة إلى الكفر أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي أوزار أنفسهم، وأوزارا أخر، بسبب ما أضلّوا من الناس، من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقون من الأكاذيب والأباطيل. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ... قال ابن كثير: (وفي الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتّبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا». وفي الصحيح: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أوّل من سنّ القتل». وقوله تعالى: وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يكذبون ويختلقون من البهتان، وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فروى عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلّغ ما أرسل به ثم قال: «إياكم والظلم، فإنّ الله يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم، ثم ينادي مناد فيقول:

2 - كلام الألوسي بمناسبة آية وقال الذين كفروا للذين آمنوا ..

أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال، فيشخص الناس إليها أبصارهم، حتى يقوم بين يدي الرحمن عزّ وجل، ثم يأمر المنادي فينادي: من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلمّ، فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن، فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟ فيقول: خذوا لهم من حسناته، فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة وقد بقي من أصحاب الظلامات. فيقول: اقضوا عن عبدي فيقولون: لم يبق له حسنة، فيقول: خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه ثمّ فزّع النبي صلّى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ». وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم فطرح عليه» وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى عن كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعيه، فلا ألفينك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما أتاك الله منك»). 2 - [كلام الألوسي بمناسبة آية وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا .. ] وقال الألوسي عند قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ: (والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش، قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم شئ فعلينا. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن الحنفية قال: كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يسلمون يقولون: إنه يحرّم الخمر، ويحرّم الزنا، ويحرّم ما كانت تصنع العرب، فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم. فنزلت هذه الآية، وقيل: قائل ذلك أبو سفيان بن حرب. وأمية بن خلف قالا لعمر رضي الله تعالى عنه: إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عنك. وقيل: قائله الوليد بن المغيرة، ونسبة ما صدر عن الواحد للجمع شائعة، وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك).

كلمة في السياق: وفيها عرض سريع لمضمون الآيات السابقة من السورة وصلتها بالمحور

كلمة في السياق: [وفيها عرض سريع لمضمون الآيات السابقة من السورة وصلتها بالمحور] دلتنا الآيات السابقة من سورة العنكبوت على أن الكافرين لا يتركون سبيلا لصرف أهل الإيمان عن دينهم إلا فعلوه، من دعوة باللسان، إلى الإيذاء بكل أنواع الإيذاء، وأن المؤمن الصادق هو الذي يستمر على الإسلام والإيمان، متجاوزا أمثال هذه الفتن والمحن كلها، وأن المنافق يسقط لأوّل صدمة أو محنة. ولذلك كله صلة بمقدمة سورة البقرة التي حدثتنا عن الإيمان والكفر والنفاق فههنا نجد أن هذه الآيات تحدّثنا عن الإيمان والنفاق والكفر، عن الكفر وجهده ضد الإيمان. وعن الإيمان الصادق وآثاره العملية، وعن الإيمان الكاذب وعلاماته. وفي سياق ذلك عرفنا حكمة الامتحان والفتنة، وهي أن يتميّز المؤمن الصادق من الكاذب، وصلة هذه المعاني بمقدمة سورة البقرة مما لا يخفى. والآن وبعد أن تقررت المعاني السابقة، يأتي دور التمثيل، فيستغرق هو والتعليق عليه بقية المقطع الأول من السورة. ***

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (44) وهذه هي

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتدّ من الآية (14) إلى نهاية الآية (44) وهذه هي: 29/ 14 - 44

29/ 25 - 35

التفسير

29/ 36 - 44 التفسير: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً قال ابن كثير: وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ الطوفان: هو ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل، أو ظلال ليل، أو نحوهما، والمراد به هنا السيل وَهُمْ ظالِمُونَ أنفسهم بالكفر فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي الذين آمنوا بنوح وَجَعَلْناها أي السفينة، أو الحادثة، أو القصّة آيَةً أي عبرة وعظة

فوائد

لِلْعالَمِينَ يتّعظون بها. فوائد: 1 - [كلام الألوسي وصاحب الظلال وابن كثير عند آية فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا .. ] قال الألوسي في الفاء في قوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً: (والفاء للتعقيب، فالمتبادر أنّه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدّة المذكورة، وقد جاء مصرّحا به في بعض الآثار ... ) ثمّ بعد كلام قال الألوسي: (وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ما ذكر الله عزّ وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم؛ وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا. أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس ابن مالك قال: «جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنيهة، ثم خرج من الباب الآخر»، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد، وكونه متعينا نصا دون تجوز، فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه، ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة، لأنها أول ما تقرع السمع، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة، وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة، والنكتة في اختيار السنة أولا: أنها تطلق على الشدة، والجدب، بخلاف العام، فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى من قومه). وقال صاحب الظلال: (والراجح أن فترة رسالته عليه السلام التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاما. وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة، وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة. وهو عمر طويل مديد، يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد. ولكننا نتلقّاه من أصدق مصدر في هذا الوجود- وهذا وحده برهان صدقه- فإذا أردنا له تفسيرا فإننا نستطيع أن نقول: إن عدد البشرية يومذاك كان قليلا ومحدودا، فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد

2 - كلام المؤلف حول ما جاء في التوراة الحالية المحرفة عن فترة رسالة نوح عليه السلام

طول العمر، لعمارة الأرض وامتداد الحياة. حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار. وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء. فكلما قلّ العدد وقلّ النسل طالت الأعمار، كما في النسور، وبعض الزواحف كالسلحفاة. حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام. بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين. والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله: بغاث الطير أكثرها فراخا … وأم الصقر مقلاة نزور ومن ثمّ يطول عمر الصقر. وتقل أعمار بغاث الطير. ولله الحكمة البالغة. وكل شئ عنده بمقدار). قال ابن كثير: (قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه؟ قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاما. قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا: 2 - [كلام المؤلف حول ما جاء في التوراة الحالية المحرفة عن فترة رسالة نوح عليه السلام] تذكر التوراة الحالية المحرفة في الإصحاح التاسع: (وعاش نوح بعد الطوفان ثلاث مائة وخمسين سنة، فكانت كل أيام نوح تسع مائة وخمسين سنة ومات). وهذه الرواية أخذ بها قتادة، وقد رأينا أنّها إحدى روايات نقلها الألوسي، قال ابن كثير: وقال قتادة: يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاما، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم ثلاث مائة، ولبث بعد الطوفان ثلاث مائة سنة وخمسين عاما. قال ابن كثير: وهذا قول غريب). أقول: ظاهر السياق أنه لبث فيهم يدعوهم إلى الله قبل الطوفان (950) عاما ولا تصلح روايات التوراة الحالية للاعتماد حتى نصرف النّص عن ظاهره من أجلها، فمن قرأ سفر التكوين الذي فيه هذه الرواية رأى فيه من الطامّات والسخافات والبلايا ما لا يهضمه عقل ولا نقل، كما ذكرنا ذلك في أكثر من مكان من هذا التفسير خاصّة وهذا المكتوب لم يكتب إلا بعد مئات السنين كما أثبتنا ذلك في هذا التفسير فأنّى يطمئن إلى ما فيه. 3 - [نقل عن العقاد حول حفريات ما بين النهرين وصلتها بقصة الطوفان] كنا ذكرنا في مقدمة هذا التفسير كيف أنّ حفريات ما بين النّهرين ذكرت أن سلالات ملكية حكمت آلاف السنين ومن خلال هذه الروايات يفهم أن بعض ملوك تلك المرحلة كانوا يعمّرون وسطيا أكثر من ألف عام، وذكرنا هناك النقول،

4 - نقل عن العقاد حول قصة الطوفان كما روتها ألواح عثر عليها في بلاد الرافدين

وذكرنا اسم صاحبها، وهاهنا ننقل ما ذكره العقاد في كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء) قال: (وفي متحف أشمول بإنجلترا أسماء الأسر التي حكمت بابل من بعد الطوفان إلى أيام سراجون، وقد جاء في الألواح التي حفظت أسماءها أن الأسرة الأولى تولى منها الملك ثلاثة وعشرون ملكا، وكانت مدّة حكمهم جميعا أربعة وعشرين ألف سنة وخمسمائة وعشر سنوات) [ص 170] ثم يذكر العقاد بعد ذلك كلاما عن أحد ملوك تلك المنطقة واسمه (دنقي) أو (شلقي) وكيف أنّه فرض على النّاس عبادته وقال: (ولم يكن دنقي بالوحيد الذي فرض عبادته على البلاد كلها، بل كان هذا شأن جميع الملوك التي أخضعوها لسلطان واحد) أقول: ودنقي هذا كانت عاصمته (أور) بلد الخليل عليه السلام كما يذكر العقاد، ويبدو أنّ واحدا من حكامها الذين ادّعوا الربوبية هو نمروذ إبراهيم. 4 - [نقل عن العقاد حول قصة الطوفان كما روتها ألواح عثر عليها في بلاد الرافدين] وقد تحدّث العقاد عن قصة الطوفان كما روتها ألواح عثر عليها في بلاد الرافدين فقال: (والباقي من ألواح هذه القصة في المتحف البريطاني يحكيها على هذا المثال: (ابن بيتا واصنع سفينة تحفظ النبات والحيوان، واخزن البذور واخزن معها بذور الحياة من كل نوع تحمله السفينة، وليكن طولها ستمائة قدم في ستين عرضا ... وتدخل السفينة وتحكم إغلاقها، وتضع في وسطها الحبوب والمتاع والأزواد والخدم والجند، وتضع فيها كذلك أجناس الوحش لتحفظ ذريتها .. ). ( ... وقال الله ليلا! إني سأرسل السماء مدرارا، فادخل إلى جوف السفينة واغلق عليك بابها، وتغطى وجه الأرض، وهلك كل ما عليه من الأحياء، وفار الماء حتى بلغ السماء، ولم ينتظر أخ أخاه، ولم يعرف جار جاره. ستة أيام وست ليال، والريح تعصف والأنواء تطغى، ثم كان اليوم السابع فانقطع المطر، وسكنت العاصفة التي ماجت كموج الزلزال. سكنت العاصفة وانحسر البحر وانتهى الطوفان، وعجّ البحر بعد ذلك عجيجه، واستحال الناس طينا وطفت أجسادهم على وجه الماء) (ثم استوت السفينة على جبل نيزار .. وأرسلت أنا الحمامة فذهبت وعادت ولم تجد من مقر تهبط عليه، فأرسلت عصفور السمانة فعاد وما هبط على مكان، وأرسلت الغراب فراح ينهش الجثث الطافية ولم يرجع، ثم أطلقت الحيوانات في الجهات الأربع، وبنيت على رأس الجبل مذبحا فقربت لديه قربانا وفرقته في آنية سبعة، وفرشت

5 - كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وجعلناها آية للعالمين وتعليق المؤلف على ذلك

حوله الريحان، وشمت الأرباب رائحة جيدة فاجتمعت على القربان، ونظرت أعاظم الأرباب من بعيد، وارتفعت أقواس السحاب تحييها عند اقترابها). وقد علم المنقّبون أن هذه القصة منسوخة من مصدر قديم أقدم منها، فهذه الألواح لا يقل تاريخها عن ألفين وخمسمائة سنة، والمصدر الذي نقلت منه يرجع إلى أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد. وعلم المنقّبون في جميع آثار الأرض التي كشفت في العالم القديم أو العالم الجديد أن قصة الطوفان عامة لا تنفرد بها الآثار البابلية، ولا يقل تاريخها في القدم عن تاريخها). ا. هـ كلام العقاد. أقول: لاحظ كلمة العقاد حول إجماع روايات العالم القديم، حول حادثة الطوفان، ولاحظ أن هذه الرواية قد داخلها التحريف لوجود الشرك فيها، وكما ترى فهي منقولة عن ألواح أقدم منها بمئات السنين، ثمّ إن حادثة الطوفان على حسب روايات أحافير وادي الرافدين تدل على أنّها كانت قبل ذلك بآلاف كثيرة من السنين، ولقد جاءنا الله عزّ وجل في أمرها بالحق الصراح، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ وتعليق المؤلف على ذلك] في قوله تعالى: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ قال ابن كثير: (أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان). أقول: إن كثيرا من المؤشرات في عصرنا تدل على أنّ السفينة نفسها باقية حتى الآن في منطقة على جبال أرارات، وقد استطاعت الأقمار الصناعية أن تصوّر المكان. ومن قبل ذلك استطاع بعض سكان أرمينيا أن يصل إلى السفينة، إلا أنّ الاتحاد السوفياتي يرغب أن يسدل على هذا الموضوع، ستارا من الصمت، لأن في وجود السفينة آية يستدل بها أهل الإيمان، وهو ضد الإيمان وأهله، وما ذكرته عن تصوير الأقمار الصناعية. والكلام الذي نقل عن بعض سكان أرمينيا سمعته مرة في السجن من إذاعة إسرائيل، ولم يتح لي أن أسجل تاريخ السماع.

كلمة في السياق: حول صلة قصة نوح عليه السلام ببداية السورة وما بعدها

كلمة في السياق: [حول صلة قصة نوح عليه السلام ببداية السورة وما بعدها] نلاحظ أن بداية السورة تحدثت عن الامتحان، ثم سار السياق فأشعرنا أنّ النصر في النهاية لأهل الإيمان. وجاءت بعد ذلك قصة نوح عليه السلام لترينا مقدار صبر الأنبياء، وقوة استمرارهم مع شدة الظروف، وكيف أن العاقبة تكون لهم، ومن ثمّ ذكرت الآيتان اللتان مرّتا بقاء نوح يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، مع شدّة المقاومة والاستهزاء والامتحان والفتنة، هذا الزمن الطويل، ومع ذلك كان الصبر، وكان مع الصبر النصر، فهذا أول نموذج على صبر أهل الإيمان على الامتحان، ولهذا لم يرد تحديد للمدة التي قضاها نوح عليه السلام إلا في هذه السورة. وفي قوله تعالى: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً نكتة عبّر عنها النسفي فقال: (ولم يقل تسعمائة وخمسين سنة؛ لأنّه لو قيل ذلك لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل هنا، فكأنه قيل تسعمائة وخمسين سنة كاملة، وافية العدد، إلّا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا، وأملأ بالفائدة، ولأن القصة سيقت لما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته، وما كابده من طول المصابرة تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام، فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض). ولنعد إلى التفسير. فبعد التمثيل بقصة نوح عليه السلام يضرب الله المثل بإبراهيم: ... وَإِبْراهِيمَ أي واذكر إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أي أخلصوا له العبادة والخوف ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة، واندفع عنكم الشرّ في الدنيا والآخرة. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أي أصناما وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي وتصنعون كذبا. واختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره؛ فاطلبوا الرزق منه عزّ وجل وحده وَاعْبُدُوهُ وحده وَاشْكُرُوا لَهُ على ما أنعم به عليكم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ كقوم نوح وإدريس وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي وإن تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم؛ فإنّ الرسل قبلي قد كذّبتهم أممهم

كلمة في السياق

وما ضرّوهم، وإنّما ضرّوا أنفسهم حيث حلّ بهم العذاب بسبب تكذيبهم، وأمّا الرّسول فقد تم أمره حيث بلّغ البلاغ المبين، الذي زال معه الشك، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته. أي وإن كنت مكذّبا فيما بينكم، فلي في سائر الأنبياء أسوة، حيث كذّبوا، وعلى الرسول أن يبلّغ، وما عليه أن يصدّق أو يكذّب. كلمة في السياق: يلاحظ أنّه قد جاء في وسط قصة إبراهيم عليه السلام الآية السابقة، وست آيات بعدها. ثم يأتي قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ ... فهل هذه الآيات السبع من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه؟ وهذا الذي رجّحه ابن كثير فقال: (والظاهر من السياق أنّ كلّ هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام، يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ لكن ابن جرير يرى أن هذه الآيات السبع اعتراضية). وذكر النسفي الاحتمالين. وحاول الربط بين الآيات وما قبلها في حالة كونها اعتراضية، دون أن يرجّح أحد الاحتمالين على الآخر. قال: (فإن قلت فالجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه، فلا نقول: مكة وزيد قائم خير بلاد الله، قلت: نعم وبيانه أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له بأن أباه إبراهيم عليه السلام كان مبتلى بنحو ما ابتلي به من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله: وإن تكذبوا على معنى: إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلم فقد كذب إبراهيم قومه، وكل أمة نبيها، لأن قوله فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ لا بد من تناوله لأمة إبراهيم، وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الآيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله، وهدم الشرك وتوهين قواعده، وصفة قدرة الله تعالى وسلطانه ووضوح حجّته وبرهانه). أقول: إن الذي أرجحه أن الآية الأولى من هذه الآيات السبع هي من تتمة قول إبراهيم عليه السلام وهي: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والآيات الست بعدها اعتراضية هي من باب الإنكار عليهم وعلى أمثالهم، وإقامة حجّة عليهم وعلى أمثالهم. فهي تعليق من الله عزّ وجل على ما ذكر من قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام، تؤدّي غرضا في السياق القريب فلنلاحظ ما يلي: قبل قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام ورد قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا

[سورة العنكبوت (29): آية 19]

لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ وجاءت بعد ذلك قصة نوح وقصة إبراهيم عليهما السلام وقلنا: إن القصص في هذا السياق تأتي للتمثيل لكل المعاني السابقة من امتحان لأهل الإيمان، إلى كون العاقبة لهم، إلى غير ذلك، وهي في الوقت نفسه مرتبطة ارتباطا مباشرا بما قبلها من قول الكافرين للذين آمنوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ .... ففي ذكر عاقبة قوم نوح، وفي دعوة إبراهيم عليه السلام التي لا هوادة فيها، استمرار للرد على قول الكافرين. ومجئ الآيات الست الآن في وسط قصة إبراهيم يشير إلى أن المعاني المذكورة فيها معان ذكرها إبراهيم، أو هي معان تصلح للتعليق على قصة إبراهيم لارتباطها بما قبلها مباشرة. فلنر الآيات: .... أَوَلَمْ يَرَوْا أي قد رأوا ذلك وعلموه كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فيستدلوا بذلك على صحة ما دعاهم إليه الرسل من أمر المعاد إِنَّ ذلِكَ أي الإعادة عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي سهل قُلْ يا محمد- وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره-: وأوحينا إليه أن قل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على كثرتهم واختلاف أحوالهم، وفي ذلك أمر بتعلّم علم المستحاثات وإيجاد متاحفه، كما سنرى في الفوائد. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ قال النسفي: (وهذا دليل على أنهما نشأتان، وأن لكل واحدة منهما إنشاء أي ابتداء واختراع وإخراج من العدم إلى الوجود، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك، والقياس أن يقال: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة. لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الابتداء وجب أن لا يعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ). إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بالخذلان وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ بالهداية أو يعذب من يشاء بالحرص ويرحم من يشاء بالقناعة، أو أن تعذيبه ورحمته بسوء الخلق وحسنه، أو بالإعراض عن الله، وبالإقبال عليه، أو بمتابعة البدع، وبملازمة السّنة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي تردّون وترجعون يوم القيامة وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم. أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه

[سورة العنكبوت (29): آية 23]

فِي الْأَرْضِ الفسيحة وَلا فِي السَّماءِ التي هي أفسح منها وأبسط وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم وَلا نَصِيرٍ أي ولا ناصر يمنعكم من عذابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله على وحدانيته، وكتبه، ومعجزاته وَلِقائِهِ أي باليوم الآخر أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي من جنتي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن كثير: أي موجع شديد في الدنيا والآخرة. كلمة في السياق: لفتت هذه الآيات النظر إلى رؤية البداية والنهاية، فمن رأى البداية والنهاية عبد الله وشكره، ولم يطلب الرزق إلا منه. وهي الدعوة التي ركّز عليها إبراهيم عليه السلام. كما لفتت الآيات النظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية في الرحمة والعذاب. وهذا يقتضي عبادة وشكرا، وطلبا منه وحده. كما لفتت الآيات النظر إلى عدم فوات الإنسان الله في السماء والأرض. وفي ذلك دفع للعبادة والشكر، وطلب الرزق من الله وحده. وختمت الآيات بإيئاس الكافرين من رحمة الله، واستحقاقهم العذاب، وفي ذلك دفع نحو العبادة والشكر، فارتباط الآيات فيما مضى من قصة إبراهيم عليه السلام واضح، كما أن في الآيات ردا على الكافرين في قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ... فلو أن الكافرين رأوا البداية والنهاية، وعرفوا طلاقة المشيئة الإلهية في الرحمة والعذاب، وعرفوا عدم فواتهم لله، وعرفوا أن رحمته لا ينالها كافر، وأن العذاب آت، لو عرفوا هذا، ما تجرّءوا على الكفر والتكفير. ثم يعود السياق إلى قصة إبراهيم عليه السلام: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الإيمان إِلَّا أَنْ قالُوا أي قال بعضهم لبعض اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فاتفقوا على تحريقه بعد أن قامت عليهم الحجة، ولزمهم البرهان فعدلوا، شأن الطغاة إلى استعمال عزّ السلطان ضد الإيمان فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ حين قذفوه فيها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في فعلهم وفعل الله لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أما الكافرون فإنهم لا ينتفعون بآية أبدا. ... كلمة في السياق: فيما قصّه الله عزّ وجل علينا من قصة إبراهيم عليه السلام نموذج للمحنة والفتنة التي يختبر الله بها عباده، ونموذج على نصرة الله لعباده المؤمنين، ونموذج لثبات المؤمنين

[سورة العنكبوت (29): آية 25]

الصادقين، وانسجام ذلك مع السياق الخاص للسورة واضح، ومحل ذلك في تفصيل قضية الإيمان والكفر- التي هي محور السورة- واضح كذلك، ومن ثمّ ختمت آخر آية مرّت معنا بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ولنعد إلى التفسير: ... وَقالَ إبراهيم لقومه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتتوادّوا بينكم، وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب تحابّهم ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ينعكس الحال فتصبح هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا، ولذلك قال: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي تتجاحدون ما كان بينكم وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي مأوى العابد والمعبود، والتابع والمتبوع وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونكم أو ينقذونكم من عذاب الله. كلمة في السياق: 1 - [موقف إبراهيم عليه السلام من قضية الدعوة واحد قبل المحنة وبعدها] قال إبراهيم عليه السلام قبل المحنة لقومه: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. وقال عليه السلام بعد المحنة: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ .... فالدّعوة واحدة، والموقف واحد، قبل المحنة وبعدها، وفي ذلك درس للمؤمنين فالمؤمن لا تتغيّر حاله قبل المحنة وبعدها، على خلاف الكاذب المنافق الذي يترك دين الله لأدنى فتنة يتعرّض لها. وصلة هذا الموضوع بسياق السورة واضحة: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ.

2 - صلة قصة نوح بقصة إبراهيم عليهما السلام، وصلتهما بما جاء قبلهما من آيات

2 - [صلة قصة نوح بقصة إبراهيم عليهما السلام، وصلتهما بما جاء قبلهما من آيات] جاء قبل قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ .... وفي قصة إبراهيم: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ. والصلة بين الآيتين قائمة مما يؤكد ما ذكرناه، من أنّ هذه القصص تأتي كنماذج على معان جاءت من قبل. وقبل أن نستمر في عرض القصص نحب أن نذكر بعض الفوائد حول ما مرّ: فوائد: 1 - [حديث بمناسبة آية يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وتعليق المؤلف على ذلك] بمناسبة قوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه أهل السنن: «إن الله لو عذب أهل سماواته، وأهل أرضه لعذّبهم وهو غير ظالم لهم». أقول: وهذا الحديث دليل لعلماء التوحيد في تقسيمهم الواجب، والجائز، والمستحيل في حق الله، إلى عقلي، وشرعي. فقد يكون الشيء جائزا عقلا على الله، ولكنه واجب شرعي. فجائز عقلا تعذيب المطيع، ولكن لورود الشرع أن الله لا يعذّب من أطاعه أصبح تعذيب المطيع مستحيل الوقوع بإخبار الشارع جلّ وعلا. 2 - [كلام المؤلف وصاحب الظلال بمناسبة آية قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ] في قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ معجزة من معجزات القرآن، ودليل على أنّ هذا القرآن يسع الزمان والمكان، وذلك أن الأمر بالسير في الأرض والنظر في كيفية بدء الخلق فيه إشارة إلى ضرورة دراسة علم المستحاثات. (أي علم دراسة الحياة في طبقات الأرض)؛ لمعرفة نشوئها وتطورها وهو علم حديث النّشأة في تاريخ العالم، والأمر القرآني في مداه الواسع يشمل البحث عن أول نوع من أنواع الحياة ظهرت على الأرض، وتحقيق الأمر يقتضي إيجاد متاحف للمستحاثات، حتى يراها من يسير في الأرض بقصد الاعتبار، إن وجود مثل هذه النّصوص في القرآن الكريم لدليل واضح على أنّ القرآن من عند الله. قال صاحب الظلال في قوله تعالى:

3 - إحدى المعجزات القرآنية العظمى بمناسبة آية وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ. (إنّ التعبير هنا بلفظ الماضي كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق. يثير في النفس خاطرا معينا .. ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليقة فيها. كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة؛ كيف نشأت! وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ - وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟. ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حي؟ - ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى، والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة .. ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر. ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهّلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا؛ فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به- لو كان ذلك هو المقصود- فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسّر لهم تصور النشأة الآخرة. ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان. ويكون السير في الأرض- كما أسلفنا- لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبّر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. وهناك احتمال أهمّ يتمشى مع طبيعة هذا القرآن؛ وهو أنه يوجّه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا، ومستوياتهم جميعا، وملابسات حياتهم جميعا، ووسائلهم جميعا. ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته. ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا. ومن ثمّ لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين. هذا أقرب وأولى إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ... ). 3 - [إحدى المعجزات القرآنية العظمى بمناسبة آية وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ] في قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ معجزة قرآنية عظمى، فذكر السماء في الآية هو أثر العلم بأنّ الإنسان سيصعد إلى السماء، ومن ثمّ يخاطبه الله أنك لن تعجزني في أرضي ولا في سمائي، ودليل الإعجاز القطعي أن كلمة (في السماء) لم ترد في سورة الشورى في قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ إن ذكر (في السماء) في هذه السورة لمعجزة من معجزات هذا القرآن تدلّ على أنّ الله المحيط علما بكل شئ

4 - كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فأنجاه الله من النار

هو الذي أنزله. 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ] بمناسبة قوله تعالى: فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ قال ابن كثير: (وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة، وحوّطوا حولها، ثم أضرموا فيها النار، فارتفع لها لهب إلى عنان السماء، ولم توقد نار قط أعظم منها، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتّفوه، وألقوه في كفة المنجنيق، ثم قذفوه فيها، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وخرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما، ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما. فإنه بذل نفسه للرحمن، وجسده للنيران، وسخا بولده للقربان، وجعل ماله للضيفان، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان). 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة قول الله للكافرين وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ] بمناسبة قوله تعالى: وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ قال ابن كثير: (وهذا حال الكافرين، وأما المؤمنون فبخلاف ذلك. روى ابن أبي حاتم عن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب قالت: قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «أخبرك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، فمن يدري أين الطرفين؟ قالت: قلت: الله ورسوله أعلم- ثم ينادي مناد من تحت العرش يا أهل التوحيد فيشرئبّون- قال أبو عاصم: يرفعون رءوسهم- ثم ينادي يا أهل التوحيد، ثم ينادي الثالثة: يا أهل التوحيد إن الله قد عفا عنكم- قال- فيقول الناس قد تعلق بعضهم ببعض في الظلمات الدنيا- يعني المظالم- ثم ينادي يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض وعلى الله الثواب»). .... ولنعد إلى التفسير: فَآمَنَ لَهُ أي لإبراهيم لُوطٌ قال ابن كثير: (يقال: إنه ابن أخي إبراهيم، يقولون: هو لوط بن هاران بن آزر وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فهاجر كما قال النسفي من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران، ثم منها إلى فلسطين وهي من برية الشام، ومن ثمّ قالوا: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه في هجرته لوط وسارة، وقد تزوّجها إبراهيم. وعلى هذا فمعنى إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة إليه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولدا

كلمة في السياق

وَيَعْقُوبَ ولد ولد. قال النسفي: ولم يذكر إسماعيل لشهرته. قال ابن كثير: لمّا فارق قومه أقرّ الله عينه بوجود ولد صالح نبي، وولد له ولد صالح نبي في حياة جدّه. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أي في ذرية إبراهيم النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي جنس الكتاب يعني: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. قال ابن كثير: (هذه خلعة سنية عظيمة، مع اتخاذ الله إياه خليلا وجعله للناس إماما، أن جعل في ذريته النبوة والكتاب فلم يوجد بني بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهو من سلالته. فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم حتى كان آخرهم عيسى بن مريم، فقام في ملئهم مبشرا بالنّبي العربي القرشي الهاشمي، خاتم الرسل على الإطلاق، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء، من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه صلّى الله عليه وسلم. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا من ثناء حسن، وصلاة عليه إلى آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، وغير ذلك. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي من أهل الجنة. قال ابن كثير: (أي جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة، فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهني، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الحسنة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن وكل أحد يحبه ويتولاه ... مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه). كلمة في السياق: إن في قصة إبراهيم عليه السلام نموذجا على امتحان الله عباده المؤمنين، وعلى تكفيره لسيئاتهم، وإثابته إياهم، وإدخالهم في الصالحين، وعلى نصرته لهم في الدنيا والآخرة. وهي المعاني التي تعرضت لها السورة في جولتها الأولى، وكانت قصة إبراهيم عليه السلام نموذجا لبعض مضامين معانيها، وهذا من مظاهر صلة قصة إبراهيم بالسياق الخاص للسورة، وفي قصة إبراهيم نموذج على الإيمان الصادق بالغيب، وهذا مظهر من مظاهر صلة القصة بمحور السّورة من سورة البقرة، ولا ننسى أنّ من امتدادات مقدّمة سورة البقرة في السورة قصّة إبراهيم عليه السلام هناك، وهاهنا تأتي قصة إبراهيم كذلك، وفيها تفصيلات جديدة.

الفوائد

الفوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ] بمناسبة قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ قال ابن كثير: (لكن يقال: كيف الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الوارد في الصحيح: «أن إبراهيم حين مرّ على ذلك الجبار فسأل إبراهيم عن سارة ما هي منه فقال أختي، ثم جاء إليها فقال لها: إني قد قلت له إنك أختي، فلا تكذبيني فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في الدين» وكأن المراد من هذا- والله أعلم- أنه ليس على الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك، فإن لوطا عليه السلام آمن به من قومه وهاجر معه إلى بلاد الشام، ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وأقام بها، وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى على لسان إبراهيم وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي] وبمناسبة قوله تعالى: وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي قال ابن كثير: (قال قتادة: هاجرا من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى الشام، وقال: وذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم أرضهم وتقذرهم روح الله عزّ وجل، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، وتبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا وتأكل ما سقط منهم»). ثمّ قال ابن كثير: (وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص عن شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي، فجئته إذ جاء رجل، فانتبذ الناس، وعليه خميصة وإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فلما رآه نوف أمسك عن الحديث فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها فتلفظهم أرضهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، فتبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلّف منهم»، قال: وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قطع، كلما خرج منهم قرن قطع- حتى عدها زيادة على عشرة مرات- كلما خرج

منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم». ورواه الإمام أحمد عن أبي داود وعبد الصمد كلاهما عن هشام الدستوائي عن قتادة به، وقد رواه أبو داود في سننه فقال في كتاب الجهاد (باب ما جاء في سكنى الشام): عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير». وروى الإمام أحمد عن شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لقد رأيتنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق به من أخيه المسلم، ثم لقد رأيتنا بآخرة الآن والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لئن اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه، وتتوبوا إلى الله تعالى»، وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، وتلفظهم أرضهم وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تقيل حيث يقيلون، وتبيت حيث يبيتون، وما سقط منهم فلها»، ولقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمتي يسيئون الأعمال، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم- قال يزيد لا أعلمه إلا قال- يحقر أحدكم علمه مع علمهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قتله الله» فردد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع، وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم، حتى لا يبقى إلا شرار أهلها، تلفظهم الأرضون، وتقذرهم روح الرحمن؛ وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، لها ما سقط منهم» غريب من حديث نافع. والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ. ولنعد إلى التفسير. ...

[سورة العنكبوت (29): آية 28]

وَلُوطاً أي واذكر لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة البالغة في القبح وهي: اللواطة ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ هذه جملة مقرّرة لفحاشة تلك الفعلة، كأن قائلا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدا قبلهم لم يقدم عليها أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي بالقتل وأخذ المال، كما هو عمل قطاع الطريق وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ أي مجلسكم. ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله الْمُنْكَرَ أي تفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسكم التي تجتمعون فيها، لا ينكر بعضكم على بعض شيئا. واختلفت أقوال المفسرين في هذا المنكر الذي يفعلونه في ناديهم. قال النسفي في تفسيره: (أي المضارطة، والمجامعة، والسباب، والفحش في المزاح، والخذف بالحصى، ومضغ العلك، والفرقعة ... ). فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما تعدنا من نزول العذاب. وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم. ولهذا استنصر عليهم نبي الله ف: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي بالبشارة لإبراهيم بالولد والنّافلة يعني: إسحاق ويعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية سدوم إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ هذا يفيد أن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مصرّون، وظلمهم كفرهم، وأنواع معاصيهم قالَ إبراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً أي أتهلكونهم وفيهم من هو برئ من الظلم وهو لوط قالُوا أي الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم وأفعالهم، ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شبّان حسان وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي ساءه مجيئهم. والتركيب يفيد أنه بمجرد أن أحسّ بمجيئهم فاجأته المساءة، من غير ريث؛ خيفة عليهم من قومه أن يتناولوهم بالفجور وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه، أي طاقته. والمعنى: أنّه اغتمّ بأمرهم، فهو إن أضافهم خاف عليهم من قومه، وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ أي وننجي أهلك إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الهالكين إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله

[سورة العنكبوت (29): آية 35]

وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من القرية آيَةً بَيِّنَةً أي واضحة. قال ابن كثير: (وذلك أنّ جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم، وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود، مسوّمة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد، وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنة، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد) لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فمن عقل عرف الآية واتّعظ بها. فائدة: [كلام الألوسي بمناسبة قوله تعالى عن قوم لوط وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ] قال الألوسي عند قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ: (أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، والطبراني، والبيهقي في الشعب، وغيرهم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال: «كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم» وعن مجاهد، ومنصور، والقاسم بن محمد، وقتادة، وابن زيد: هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا. وعن مجاهد أيضا: هو لعب الحمام، وتطريف الأصابع بالحناء، والصفير، والخذف، ونبذ الحياء في جميع أمورهم. وعن ابن عباس: هو تضارطهم وتصافعهم فيها، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الإزار، والسباب، والفحش في المزاح. ولم يأت في قصة لوط عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى، كما جاء في قصة إبراهيم، وكذا في قصة شعيب الآتية؛ لأن لوطا كان من قوم إبراهيم، وفي زمانه، وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده، واشتهر أمره عند الخلق، فذكر لوط عليه السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها، وأما إبراهيم وشعيب عليهما السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عزّ وجل ويدعو إليه سبحانه، فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر). كلمة في السياق: [حول صلة قصة لوط عليه السلام بالسياق الخاص للسورة وبالمحور] لقد رأينا أن مقدمة السورة تحدثت عن سنة الله في امتحان أهل الإيمان، ثم تحدّثت عن كون الكافرين لا يفلتون من عذاب الله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ثم سار السياق حتى وصل إلى قصة لوط عليه السلام

[سورة العنكبوت (29): آية 36]

التي فيها نموذج للمؤمن الصادق، الذي يحمل دعوة الله في كل الظروف. ونموذج على كون الكافرين لا يفلتون، ونموذج على نوع من نصر الله للمؤمنين، والآن تأتي قصة شعيب عليه السلام لنرى فيها نموذجا لما يدعو إليه الرسل، ونموذج على كون الكافرين لا يفلتون من عذاب الله: .... وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي وافعلوا ما ترجون به الثواب في العاقبة أو خافوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي قاصدين الفساد فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي بلدهم وأرضهم جاثِمِينَ أي ميّتين، أو باركين على الركب، ميتين. قال ابن كثير متحدثا عن شعيب عليه السلام: (نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد: وهو السعي فيها والبغي على أهلها؛ وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، وهذا مع كفرهم بالله ورسوله، فأهلكهم الله عزّ وجل برجفة عظيمة، زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرهم. وعذاب يوم الظلّة الذي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم، وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء). وبعد قصة شعيب يحدّثنا الله عزّ وجل عمّا فعل بعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان. وفي ذلك مثل على أنّ الكافرين لا يفوتون الله عزّ وجل. وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا عادا وثمود وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ إهلاكهم مِنْ جهة مَساكِنِهِمْ إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي الطريق المستقيم الذي أمروا بسلوكه وهو الإيمان بالله ورسله، والاستسلام لله في حكمه وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء متمكّنين من النظر، وتمييز الحق من الباطل، ولكنّهم لم يفعلوا، أو كانوا مستبصرين بالمعنى الذي يطلقه الكفرة على أنفسهم بأنّهم مستنيرون، إلا أن استبصارهم لم يكن إلّا في أمر ظواهر الدنيا فقط وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ أي وأهلكنا هؤلاء وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات والدلائل الواضحات فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ

كلمة في السياق

أي وما كانوا فائتين، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه. كلمة في السياق: في قوله تعالى وَما كانُوا سابِقِينَ دليل لما ذكرناه من أن السياق يعرض علينا الآن نموذجا ومثلا على كون الكافرين لا يفوتون الله عزّ وجل، وهو المعنى الذي ورد في مقدمة السورة أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ لاحظ أَنْ يَسْبِقُونا في المقدمة وَما كانُوا سابِقِينَ في آخر آية مرّت معنا. ... فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فيه دليل على أن الله عزّ وجل لا يأخذ إلا بذنب فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً هي الريح العاصف التي فيها حصباء، وهي لقوم لوط وعاد وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ فأخمدت منهم الأصوات والحركات، وهم مدين وثمود وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وهامان وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ليعاقبهم بغير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والطغيان. .... كلمة في السياق: نلاحظ أنّ مقدمة السورة تحدّثت عن سنة الله في امتحان المؤمنين، وعن كون الكافرين لا يسبقون الله، بل سيلحقهم عذابه، ثمّ تحدّثت المجموعة الأولى عن خصائص الإيمان الصادق ودواعيه، وعن علامات الإيمان الكاذب وما يدلّ عليه، كما حدثتنا عن محاولة الكافرين أن يصرفوا المؤمنين عن الإيمان. ثم جاء دور ضرب المثل، فانصبّت الأمثال على توضيح نقطتين رئيسيتين: ثبات المؤمنين وصبرهم على الامتحان، ولحاق عقوبات الله بالكافرين، وكلّ ذلك شديد التلاحم مع بعضه، وبعد ضرب الأمثال بوقائع من تاريخ الإنسان، يأتي الآن مثل، ثمّ تأتي بعده تقريرات: وللمثل علاقة بكون الكافرين لا يفوتون الله عزّ وجل ولا يعجزونه. ...

[سورة العنكبوت (29): آية 41]

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي آلهة يعني مثل من أشرك بالله الأوثان في الضعف وسوء الاختيار كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً أي كمثل العنكبوت فيما تتّخذه لنفسها من بيت، فإنّ ذلك بيت لا يدفع عنها الحرّ والبرد، ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فلا بيت أوهن من بيتها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أنّ هذا مثلهم، وأنّ أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. وقيل مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتا، بالإضافة إلى رجل يبني بيتا بآجرّ وجص، أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت. كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة غير الله. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ أي الذي يعبدونه مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا شريك له الْحَكِيمُ في ترك المعاجلة بالعقوبة، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جمادا لا علم له، ولا قدرة، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء، الحكيم الذي يفعل بحكمة وتدبير. قال ابن كثير في الآيتين: (هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم، ورزقهم، ويتمسّكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يجدي عنه شيئا. فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء، وهذا بخلاف المؤمن المسلم قلبه لله وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع، فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نبيّنها للناس وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أي يفهمها ويتدبّرها إلا الراسخون في العلم المتضلّعون منه، قال النسفي في قوله تعالى وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ: (به وبأسمائه وصفاته، أي لا يعقل صحتها وحسنها، ولا يفهم فائدتها إلا هم؛ لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة، حتى تبرزها وتصورها للأفهام كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد، وعن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» ودلت الآية على فضل العلم على العقل)، خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي محقا، يعني لم يخلقهما باطلا بل لحكمة. يعني لا على وجه العبث واللعب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية، وخصّ المؤمنين بالذّكر لانتفاعهم وحدهم بالآيات.

نقل

نقل: قال صاحب الظلال في الآيات الأخيرة ومحلها في السياق: (والآن. وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون ... والآن. وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء .. الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال .. إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله. وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية. فهي وما تحتمي به سواء: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ .. إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود. الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين. ولا يعرفون إلى أين يتوجهون. ماذا يأخذون وماذا يدعون؟ وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها! وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة. ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب؛ ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلّطوا على الرقاب كما يحسبون! وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب! وتخدعهم هذه القوى الظاهرة. تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح،

وكما يتهافت الفراش على النار! وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخّرها كما تريد، حيثما تريد. وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول .. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت ... حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن. وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين. هذه الحقيقة الضخمة هي التي عنى القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها؛ وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكّت بها المعاقل والحصون. لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تعد كلمة تقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل. بل بديهة مستقرة في النفس، لا يجول غيرها في حس ولا خيال. قوة الله وحدها هي القوة. وولاية الله وحدها هي الولاية. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل؛ مهما علا واستطال، ومهما تجبّر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل. إنها العنكبوت: وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرّضون للفتنة والأذى. وللإغراء والإغواء. لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة. هذه تضربهم وتحاول أن تسحقهم. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم .. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ. إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء.

كلمة في السياق

وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق .. عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت! وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو وحده العزيز القادر القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادة للسخرية والتهكّم. وقالوا: إن رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت. ولم يهز مشاعرهم هذا التصوير العجيب لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. *** ثم يربط تلك الحقيقة الضخمة التي قدمها بالحق الكبير في تصميم هذا الكون كله على طريقة القرآن في ربط كل حقيقة بذلك الحق الكبير: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. وهكذا تجئ هذه الآية عقب قصص الأنبياء، وعقب المثل المصور لحقيقة القوى في الوجود، متناسقة معها مرتبطة بها، بتلك الصلة الملحوظة. صلة الحقائق المتناثرة كلها بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض؛ والذي قامت به السماوات والأرض، في ذلك النظام الدقيق الذي لا يتخلّف ولا يبطئ ولا يختلف ولا يصدم بعضه بعضا، لأنه حق متناسق لا عوج فيه! إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. الذين تتفتّح قلوبهم لآيات الله الكونية المبثوثة في تضاعيف هذا الكون وحناياه) .. كلمة في السياق: إن المثل المضروب في الآيات الأخيرة يبيّن أنّ أحدا لا يحمي الكافرين من الله، وبالتالي فإنّهم لا يفوتونه، وبهذا يكون السياق قد اكتمل في تبيان قضية الصدق في الإيمان، وقضية أن الكافرين لا يفوتون الله. وختمت الآيات- كما رأينا- بقوله تعالى: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ .. وهذا الختام يضئ على المقطع كله، ففيه تعليل لسبب الامتحان، وتعليل لتعذيب الكافرين، فالله عزّ وجل لم يخلق السموات والأرض عبثا.

فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون

وبعد ذلك يأتي المقطع الثاني ويبدأ بالأمر بتلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، وإدامة الذكر وهي زاد المؤمن في العبور إلى الله. ... فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد ... عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: عقلت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ألف مثل، وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه. حيث يقول الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). أقول: إن فيما ذكره عمرو بن العاص لدرسا بليغا إذ دلّ على أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يكثر من ضرب الأمثال إلى حد كبير لتقريب المعاني إلى الأذهان وتعميقها في القلوب، وهو درس يجب أن يعرفه الدعاة إلى الله. كلمة في المقطع الأول من السورة: قلنا: إنّ سورة العنكبوت تفصّل في مقدمة سورة البقرة. ومقدمة سورة البقرة- كما نعرف- وصفت المتقين والكافرين والمنافقين، لاحظ الآن ما يلي: بدأت سورة البقرة بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وقد بدأت سورة العنكبوت بعرض علامة الإيمان الصادق، ثمّ تحدّثت عن علامة الإيمان الكاذب، وعن موقف الكافرين من أهل الإيمان، ومثّلت لأمّهات المعاني، وكل ذلك قد رأيناه، وارتباطه بما ذكرناه من أوائل سورة البقرة واضح، وبعد قوله تعالى في سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ جاء قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ونلاحظ الآن أن بداية المقطع الثاني هي اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ وبعد الكلام عن إقام الصلاة في مقدمة سورة البقرة جاء قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ولا نجد حديثا عنها في سورة العنكبوت، ولكن يوجد في السورة كلام عن العمل الصالح، وبعد الكلام عن الإنفاق في مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. ونجد في المقطع الثاني من سورة العنكبوت قوله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ... ثم يأتي في خاتمة وصف المتقين من مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ونجد في سورة العنكبوت قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. ومن هذا العرض المبدئي السريع نعلم كيف أن سورة العنكبوت تفصّل في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل. وسنرى ذلك. وإنما استعجلنا في عرض هذه المعاني ليكون الدارس على بينة في معرفة الخط العام للسورة. والسورة بمجموعها تتألف من مقدمة، ومقطعين. وقد مرّ معنا مقدّمة السورة، والمقطع الأول منها، ولم يبق معنا إلا المقطع الثاني، وهذا أوان عرضه: ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (45) إلى نهاية الآية (69) أي إلى نهاية السورة. وهذا هو

المقطع الثاني ويمتدّ من الآية (45) إلى نهاية الآية (69) أي إلى نهاية السورة. وهذا هو: 29/ 69 - 45

29/ 54 - 68

بين يدي المقطع الثاني

29/ 69 بين يدي المقطع الثاني: يتألف المقطع الثاني من مقدّمة، ومجموعتين، وخاتمة: المقدمة وهي آية واحدة، وفيها أمران: أمر بالتلاوة، وأمر بالصلاة. وفيها حض على ذكر الله، وهذه الثلاث هي زاد الطريق في المحنة. المجموعة الأولى وتبدأ بقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وتنتهي بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. والمجموعة الثانية وتبدأ بقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ .... وتنتهي بقوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ. لاحظ التشابه بين خاتمتي المجموعتين: إن المجموعتين تبيّنان لنا كيف نعالج مواقف الكافرين، وكيف نردّ عليها ثمّ تأتي خاتمة المقطع، وفيها تبيان لظلم الكافرين، وتبيان لطريق الهداية. التفسير: مقدّمة المقطع الثاني اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ تقرّبا إلى الله تعالى بقراءة كلامه، ولتقف على ما أمر به ونهى عنه. ويدخل في الأمر- والله أعلم- تلاوته للبلاغ وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي دم على إقامتها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي الفعلة القبيحة كالزنا مثلا وَالْمُنْكَرِ هو ما ينكره الشرع والعقل. قال ابن كثير: (يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين: على ترك الفواحش، والمنكرات، أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، للعلماء في هذا المقام كلام كثير وظاهر النص أن الذكر الدائم لله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من مجرد ذكر الله في الصلاة

كلمة في السياق: حول صلة مقدمة المقطع بالسياق العام للسورة

وحدها وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة، فيثيبكم أحسن الثواب، قال الألوسي في تفسير قوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ بعد أن ذكر اتجاهات للعلماء في الآية: (وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه. أخرج أحمد في الزهد. وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى، ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع، لأن الله تعالى يقول في كتابه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير عن أبي الدرداء قال: (ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأحبها إلى مليككم، وأسماها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم؟ قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكر الله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ). وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن؟ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ لا شئ أفضل من ذكر الله. ونسب في البحر إلى أبي الدرداء، وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت. ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما. وجاء عن ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه. أخرج سعيد بن منصور. وابن أبي شيبة. وابن المنذر. والحاكم في الكنى. والبيهقي في شعب الإيمان عن عنترة قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر، وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها، وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره، وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهّل الله تعالى له طريقا إلى الجنة). كلمة في السياق: [حول صلة مقدمة المقطع بالسياق العام للسورة] بعد أن بيّن الله عزّ وجلّ أنّه لا بدّ من فتنة وامتحان؛ ليتميّز الصادق من الكاذب. جاء هذا الأمر الذي يأمر بتلاوة القرآن والصلاة والذكر، وكأنه يدلنا على الزاد في المحنة أو على طريقة تلقيها للنجاح في تجاوزها: تلاوة القرآن فإنها الزاد المذكّر، وإقامة الصلاة والمحافظة عليها فإنّها نعم المعين، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] وذكر الله الدائم فإنّه نعم الأنيس فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

المجموعة الأولى من المقطع الثاني

[البقرة: 152] وكلّ من دخل في نوع من أنواع المحن عرف أهمّية هذه الثلاثة في تجاوز المحنة، ولقد رأينا بعض إخوتنا يمرون على محنة فيخرجون منها أصلب عودا، لأخذهم هذا الزاد، في الوقت الذي كان يجنّ، أو يتحطم، أو يكفر آخرون، لقلة الزاد، إذا أدركنا أنّ هذه الثلاث هي زاد المسلم في المحنة، عرفنا محلّ هذه الآية في السياق الخاص للسورة. وأمّا محل الآية في السياق العام فإنّ السّورة- كما قلنا- تفصّل في مقدمة سورة البقرة: فصّلت في المرحلة الأولى في موضوع الإيمان بالغيب، ثم فصّلت هاهنا في موضوع إقامة الصلاة، وحكمتها، وسنرى أنّها ستفصّل في جزء آخر من المقدمة. ولنستمر في التفسير. المجموعة الأولى من المقطع الثاني وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة التي هي أحسن للثواب، وهي مقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النّصح، ولم ينفع فيهم الرفق، فاستعملوا معهم الغلظة. والآية تدلّ على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين. وعلى جواز تعلّم العلم الذي به نستطيع أن نقيم به الحجة وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ في هذا تعليم لنا لنوع الكلام الذي ينبغي أن نقوله أثناء عملية الجدال بالتي هي أحسن. أن نعلن لهم إيماننا بالوحي الذي أنزله الله، ومن ذلك إيماننا بالتوراة والإنجيل والزبور، وإيماننا بالله ربنا وربهم. وأن نعلن مع ذلك إسلامنا لله وحده. كلمة في السياق: 1 - قلنا: إنّ سورة العنكبوت تفصّل في مقدّمة سورة البقرة وامتدادات معانيها الأكثر لصوقا بها، ولنتذكر الآن أنّه قد جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (البقرة: 4) ثم جاء قوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ (البقرة: 136) إلى قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ثم جاء أيضا فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ... (البقرة: 150) تذكّر هذا كله ثمّ تأمل

نقول: عن صاحب الظلال والألوسي حول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن

الآية التي مرّت معنا آنفا: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ إنك إذا تأملت هذه الآية وتأملت ما ذكرناه من سورة البقر فإنّك تجد واضحا ما ذكرناه من أنّ سورة العنكبوت تفصّل في مقدمة سورة البقرة، وفي امتدادات معانيها الأشدّ لصوقا بها. 2 - لقد جاء النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن في سياق هذه السورة التي تتحدث- في سياقها الرئيسي- عن الامتحان، وذلك يفيد أنّ علينا ألّا نتخلى عن آدابنا في كل الظروف، ومن ذلك طريقة خطابنا لأهل الكتاب في المحنة وفيما قبلها وفيما بعدها. .... نقول: [عن صاحب الظلال والألوسي حول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن] عند قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ... قال صاحب الظلال: (إن دعوة الله التي حملها نوح- عليه السلام- والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد- صلّى الله عليه وسلم- لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو ردّ البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلهم أمة واحدة، تعبد إلها واحدا. وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله. وصنف المشاقّين لله وهم حزب الشيطان، بغضّ النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون. هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن، أو تبادل، أو تجارة. ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان. ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان.

ومن ثمّ يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجئ الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر .. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة. فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عند ما قامت له دولة في المدينة. وإن بعضهم ليفتري على رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين. فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه. فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله. وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات.). وقال الألوسي في الآية نفسها: (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى، وقيل: من نصارى نجران إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، والسورة بالأناة كما قال سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.* إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراط في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الذين ظلموا هم الذين أثبتوا الولد والشريك، أو قالوا يد الله تعالى مغلولة، أو الله سبحانه فقير، أو آذوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهذه الغلظة التي تفهم الآية الإذن بها لا تصل إلى القتال لأولئك الظالمين من أهل الكتاب على أي وجه من الوجوه المذكورة كان ظلمهم؛ لأن ظاهر كون السورة مكية أن هذه الآية مكية، والقتال في المشهور لم يشرع بمكة، وليست الغلظة محصورة فيه كما لا يخفى، وقيل المعنى: ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه، وتعقب بأن السورة مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة، وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد، وأيضا

[سورة العنكبوت (29): آية 47]

لا قرينة على التخصيص). ولنعد إلى التفسير: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا إليك الكتاب أي أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية، أو كما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب. قال ابن جرير: يقول الله تعالى: كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل، كذلك أنزلنا إليك الكتاب. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي الذين أخذوا الكتاب السابق فتلوه حق تلاوته يؤمنون بهذا القرآن. وينطبق هذا على عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي وأمثالهما، وَمِنْ هؤُلاءِ يعني العرب مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها، وزوال الشبهة عنها إِلَّا الْكافِرُونَ أي إلا المتوغّلون في الكفر، المصمّمون عليه وَما كُنْتَ تَتْلُوا أي تقرأ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي ما كنت قرأت كتابا من الكتب ولا كنت كاتبا إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كان شئ من ذلك، أي من التلاوة والخط لارتاب المبطلون من أهل الكتاب، وقالوا: الذي نجد نعته في كتبنا أمّي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به، أو لارتاب الكافرون وقالوا: لعلّه تعلّمه أو كتبه بيده، وقد سمّاهم مبطلين لإنكارهم نبوّته. قال ابن كثير في الآية: (أي لو كنت تحسنها «أي الكتابة والقراءة» لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول: إنّما تعلّم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنّه أمّي لا يحسن الكتابة) بَلْ هُوَ أي القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ أي واضحات الدلالة على الحق أمرا ونهيا وخبرا فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي في صدور العلماء به وحفّاظه، وهما من خصائص القرآن، كون آياته بيّنات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الواضحة إِلَّا الظَّالِمُونَ أي المتوغّلون في الظلم. قال ابن كثير: أي ما يكذّب بها، ويبخس حقّها، ويردّها إلا الظالمون، أي المعتدون المكابرون، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه وَقالُوا أي الكافرون لَوْلا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي مثل النّاقة والعصا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزل أيتها شاء، ولست أملك شيئا منها وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي كلّفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس لي أن أقول أنزل عليّ آية كذا، دون آية كذا، مع علمي أنّ المراد

[سورة العنكبوت (29): آية 51]

من الآيات ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ثمّ قال تعالى مبينا كثرة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث طلبوا آيات تدلّهم على صدق محمّد صلّى الله عليه وسلم فيما جاءهم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة عشر سور من مثله، بل عن معارضة سورة منه. فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ آية مغنية عن سائر الآيات، إن كانوا طالبين للحق، غير متعنّتين أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ أي هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة، لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها، أو تكون في مكان دون مكان. قال ابن كثير: (أي أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي إِنَّ فِي ذلِكَ أي في هذه الآية المستمرّة لكل مكان وزمان، إلى آخر الدهر لَرَحْمَةً أي لنعمة عظيمة، وأي رحمة أعظم من الرحمة ببيان الحق وإزاحة الباطل وَذِكْرى أي وتذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دون المتعنتين، وإنّما كان القرآن مذكّرا، لما فيه من ذكر حلول النّقمات، ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين، ولما فيه من ذكر الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر، وغير ذلك). قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي شاهدا يصدق ما أدّعيه من الرسالة وذلك بإنزاله هذا القرآن عليّ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو مطّلع على أمري وأمركم، وعالم بحقّي وحقكم، وعالم بما تفيضون فيه من التكذيب، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني، وإنّما أنا صادق فيما أخبرتكم به، ولهذا أيّدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وهو ما يعبدون من دون الله وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وآياته أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فهم الخاسرون يوم القيامة. وسيجزيهم على ما فعلوا، ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتّباعهم الباطل، ذلك أنّهم كذبوا برسل الله، مع قيام الأدلّة على صدقهم، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - قلنا إن سورة العنكبوت تفصّل في مقدّمة سورة البقرة وامتدادات معانيها لاحظ ما يلي: جاء في مقدّمة سورة البقرة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (البقرة: 4) ومن امتدادات هذا المعنى في سورة البقرة قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (البقرة: 121) لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى هاهنا وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ولاحظ قوله تعالى هنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ كلمة (الخاسرون) هنا ولاحظها في آية سورة البقرة. 2 - في سورة البقرة ورد وصف المتقين وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (البقرة: 4) وهاهنا يأتي البرهان والدّليل على أنّ هذا القرآن من عند الله، وأنه يستحيل أن يكون من عند محمّد صلّى الله عليه وسلم وأنّ هذا القرآن آية كافية للدلالة على صحة رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلم. 3 - في سياق النهي عن جدال أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن دلّنا الله عزّ وجل على ما نقيم به الحجة على أهل الكتاب وغيرهم في هذه الآيات. 4 - تأتي هذه الآيات لتقيم الحجّة فتثبّت قلوب أهل الإيمان في سياق السورة التي تتحدث عن الامتحان، فالإيمان عند المحنة قد يتزلزل، فجاءت مؤكداته ودلائله لتثبّت. 5 - وكما أنّ مقدمة سورة البقرة حدّثتنا عن المؤمنين والكافرين، فكذلك هذه السورة تحدّثنا عن الكافرين، وتقيم الحجة عليهم، هذا مع أنّ أصنافا من الكافرين لم يعد الإنذار يؤثّر فيهم، كما قالت مقدّمة سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (البقرة: 6) فهم يفرون من الحجج، ومن مظاهر فرارهم من الحجج ما سنراه في الآيات اللاحقة. فلنعد إلى التفسير. ...

المجموعة الثانية من المقطع الثاني

المجموعة الثانية من المقطع الثاني وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أي الكافرون بِالْعَذابِ أن يحل بهم وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى هو يوم القيامة أو وقت فنائهم بآجالهم لَجاءَهُمُ الْعَذابُ أي عاجلا. والمعنى: ولولا أجل قد سمّاه الله، وبيّنه في اللوح لعذابهم، والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمّى، لجاءهم العذاب عاجلا وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب في الأجل المسمى بَغْتَةً أي فجاءة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجيئه يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فالنار تغشاهم وتغطّيهم، وتحيط بهم من كل جهاتهم، وهذا أبلغ في العذاب الحسي وَيَقُولُ الله عزّ وجل تهديدا وتقريعا وتوبيخا، ليجتمع لهم العذاب الحسي والمعنوي ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء أعمالكم. كلمة في السياق: 1 - لاحظ صلة هذه الآيات بمقدّمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إنّ الآيات هنا ترينا كيف يفر الكافرون من الحجج إلى طلب العذاب، كما أنّها تبيّن لنا ماهيّة العذاب العظيم الذي سيحيق بأهل النّار وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. 2 - بعد أن بيّن الله في المجموعة الأولى من المقطع الثاني خسار أهل الباطل، بيّن في هذه الآيات الثلاث ماهيّة خسارهم وبيّن جهلهم إذ يستعجلون العذاب وهو آت وما أشدّه. فالصلة بين الآيات الثلاث الأخيرة، وما جاء قبلها مباشرة واضحة. فلنر صلتها بسياق السورة. بدأت السورة بقوله تعالى: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ

[سورة العنكبوت (29): آية 56]

يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ. إن مقدّمة السورة عرضت علينا ظنا خاطئا يمكن أن يقع فيه بعض المؤمنين. وعرضت علينا ظنا خاطئا يقع فيه الكافرون، وسارت السورة كما رأينا حتى وصلت إلى الآيات الثلاث، لتعرض علينا كيف أنّ الكافرين يستعجلون بالعذاب الذي وعدوا به، وكيف أنّ هذا العذاب آت لا محالة. وفي ذلك درس لأهل الإيمان أن يتحمّلوا لأداء المحنة، لأنّها مهما كانت قاسية فعذاب الله في الآخرة أشدّ، وهكذا نجد أنّ هذه الآيات تؤدّي أكثر من دور في محلّها. وإذ وصل السياق إلى ما وصل إليه، فإن آيات تأتي الآن تخاطب المؤمنين خطابا مباشرا، فيه إشارة إلى الهجرة، ومحلّ ذلك في سياق السورة التي تتحدث عن الامتحان لا يخفى؛ فالهجرة قد تكون فرض المحنة، أو أثرا عنها، وهي في نفسها نوع امتحان، إذا اضطر إليها المؤمنون. فلنر الآيات: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. قال ابن كثير: (هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحّدوا الله، ويعبدوه كما أمرهم). وقال النسفي: (يعني أن المؤمن إذا لم يتسهّل له العبادة في بلد هو فيه، ولم يتمشّ له أمر دينه، فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنّه فيه أسلم قلبا، وأصحّ دينا، وأكثر عبادة ... ) فالمعنى: إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فأخلصوها في غيرها. وإن لم تستطيعوا العبادة في أرض، فهاجروا إلى أخرى كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق، وهذا تشجيع للنفس على الهجرة، لأنّ النّفس إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارقة وطنها ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بعد الموت للثواب والعقاب. قال ابن كثير في الآية: (أي أينما كنتم يدرككم الموت؛ فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإنّ الموت لا بدّ منه، ولا محيد عنه، ثمّ إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتمّ الثواب، ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي منازل عالية في الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن، يصرّفونها ويجرونها حيث شاءوا، كما قال ابن كثير خالِدِينَ فِيها أي ماكثين فيها

[سورة العنكبوت (29): آية 59]

أبدا نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي نعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين الَّذِينَ صَبَرُوا على مفارقة الأوطان، وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أحوالهم كلها، في دينهم ودنياهم، ولم يتوكّلوا في جميع ذلك إلا على الله. كلمة في السياق: 1 - إنّ الكلام عن الهجرة في سياق هذه السورة التي تبدأ بالكلام عن الامتحان لتحقيق الإيمان واضح المدلول. فالمحنة المستمرة قد يحتاج أصحابها إلى الهجرة، وقد تكون مصلحة الدّعوة نفسها في الهجرة، ومن ثمّ فقد تحدث الله عنها هنا، وفتح الباب إليها، وشجّع عليها بما أعدّ لأهلها. 2 - نلاحظ أنّ قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ قد جاء في سياق التشجيع على الهجرة، غير أنّ الآيتين قد بدئتا بالواو التي تشير إلى العطف. وعلى هذا فإنّها معطوفة على أمثالها في سياق السورة. 3 - بدأت السورة بقوله تعالى: الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (الآيات: 1 - 4) ثم جاء قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (الآيات: 5 - 7) ثم بعد آية ورد قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (الآية: 9). ثمّ جاء قوله تعالى (في الآية: 58): وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. فهذا يشير إلى أن الآية الأخيرة معطوفة على ما قبلها، فهي وما قبلها ممّا عطفت

[سورة العنكبوت (29): آية 60]

عليه تحدّد خصائص أهل الإيمان الصادق، وتبشرهم وتبين لهم طريق النجاح في الامتحان. ويؤكّد هذا المعنى أنّ آخر آية في السورة هي: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ لاحظ صلتها بالآية الخامسة وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ فالآية الأخيرة تحدّد طريق الهداية، وهي معطوفة على مثيلاتها في السورة، وهي ومثيلاتها تدل على الطريق. ولنعد الآن إلى التفسير: بعد أن تحدّثت السورة عن الهجرة، وشجّعت عليها ذكرت الصبر والتوكل، فهما زادا المهاجر الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. فالهجرة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى توكل، ولمّا كان أهم ما يفكّر فيه المهاجر هو الرزق، فقد جاء الكلام عن الرزق في هذا السياق: ... وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ أي وكم من دابة، والدابة: كل نفس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله، أو لا تدّخره، وإنما تصبح فيرزقها الله اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أي لا يرزق تلك الدوابّ الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنّه لو لم يقدّر كم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده ومنها قولهم نخشى الفقر والعيلة الْعَلِيمُ بما في ضمائركم وحركاتكم وسكناتكم. قال النسفي في سبب نزول الآية: (لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أسلم من مكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فنزلت) وكلام النسفي هذا يدل على ما ذهبنا إليه من أن ارتباط هذه الآيات بالذي قبلها من حيث صلة موضوع الرزق بموضوع الهجرة. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على ما هي عليه وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ومن سخّر الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فكيف يصرفون عن توحيد الله مع إقرارهم بهذا كله. والآية هذه- مع أنها تقيم الحجة على الكافرين الذين يضطهدون المسلمين حتى يضطروهم إلى الهجرة- فهي درس للمسلمين في قضية الرزق والتوكل على الله. فالله الذي خلق

[سورة العنكبوت (29): آية 62]

السموات والأرض، وسخّر الشمس والقمر، لا يعجزه أن يرزقكم أيها المهاجرون في سبيل الله؛ فتوكلوا عليه. والدليل على أن الآية فيها هذا المعنى ذكر الرزق في الآية اللاحقة اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يبسط لمن يشاء، ويضيّق على من يشاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم. فإذا كان موضوع القبض والبسط بيد الله فعليه فليتوكّل عباده، وليطيعوا أمره وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي هم مقرون بذلك قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا له على نعمه، وعلى إنزاله الماء لإحياء الأرض، أو قل الحمد لله على أن رزقك أن تقرّ بنحو ما أقروا به، ثم نفعك ذلك في توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، ولم يكن إقرارا عاطلا عن العمل كإقرار المشركين بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يتدبرون بما فيهم من العقول فيما يريهم الله من الآيات، ويقيم عليهم من الدلالات وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ اللهو: ما يتلذّذ به الإنسان فيلهيه ساعة، ثمّ ينقضي. وفي النّص إخبار من الله عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الدائمة الدوام الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولكن الكافر لا علم عنده إلا بظواهر الدنيا. كلمة في السياق: إن الآيات الأخيرة تؤدّي أكثر من غرض في سياقها. فهي تخدم قضية الهجرة في الكلام عن كون الله وحده هو الرزاق؛ فليطمئن المهاجر، وهي تخدم قضية الهجرة في كونها تلفت النظر إلى حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة، وهذا محلّها في السياق القريب، وأمّا محلّ الآيات في سياق السّورة: فمن حيث إنّ السورة تتحدّث عن كون الكافرين يفتنون المؤمنين ويؤذونهم فيسقط في الامتحان الكاذبون والمنافقون، لأسباب شتى، من جملتها الرزق، ومن جملتها العذاب، فالآيات هذه بينت أن الرزق بيد الله، وأن الدنيا كلها بجنب الآخرة لا تساوي شيئا. فلا تكن الدنيا أو الرزق عاملا من عوامل الفتنة. ولنعد إلى التفسير: .... فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ أي مع أنّهم على ما وصفوا به من الشرك والعناد،

[سورة العنكبوت (29): آية 66]

فإذا ركبوا في السفينة دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون معه إلها آخر فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ وأمنوا إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلى الشرك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا أي لكي يكفروا، ولكي يتمتعوا. والمعنى: يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النّجاة، قاصدين التمتّع بها، والتلذّذ لا غير، على خلاف عادة المؤمنين المخلصين؛ فإنّهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التلذّذ والتّمتع فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء تدبيرهم عند تدميرهم. كلمة في السياق: في هذه الآية إقامة حجة على المشركين من خلال موقف من مواقفهم وهم في ساعة اضطرار، كما أنّ في الآية تبكيتا لهم على تناقضهم، فالآية تضيف حجة جديدة إلى حجج التوحيد، لتصبّ في النّهاية في معنى سنراه: ... أَوَلَمْ يَرَوْا أي المشركون أَنَّا جَعَلْنا مكة حَرَماً أي ممنوعا مصونا آمِناً أي يأمن داخله وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أي يستلبون قتلا وسبيا أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي أفبالشيطان والأصنام يؤمنون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ أي وبرسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به يكفرون!. كلمة في السياق: بدأ المقطع الثاني بقوله تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ* وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. ثم جاءت مجموعة أولى بدئت بقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ .... وختمت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

خاتمة المقطع الثاني

ثم جاءت مجموعة ثانية بدئت بقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ .... وختمت بقوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ. لاحظ التشابه بين الخاتمتين: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ. فالسياق كله يقوّي موضوع الإيمان ويقيم الحجج على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعلى صحة نسبة هذا القرآن إلى الله تعالى، وعلى التوحيد. فإذ كان محور السورة يدور حول قضية الإيمان، فإن المقطع الثاني في مجموعتيه يقيم البرهان على ذلك، وحتى لا يغيب عن أحد ارتباط الإيمان الصادق بآثاره التي تحدث عنها المقطع الأول، فإنه في ثنايا المقطع الثاني وجد كلام مرتبط بآثار الإيمان الواردة في المقطع الأول، وهو ما رأيناه من كلام عن الهجرة والصبر والتوكل .. ، وهكذا نجد أنّ الوشائج التي تربط بين الآيات، والمجموعات، ومقطعي السورة، ومقدّمتها، كثيرة. وقد بقيت عندنا آيتان من السورة هما خاتمة المقطع الثاني فلنر الآية الأولى منهما: .... خاتمة المقطع الثاني وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله؛ فقال إن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شئ، ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله، ومن جعل لله شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ أي بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم والكتاب لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ هذا تقرير لمكوثهم في النار، يعني ألا يثوون فيها وقد افتروا مثل هذا التكذيب على الله، وكذّبوا بالحق مثل هذا التكذيب. أو المعنى: ألم يصح عندهم أنّ في جهنم مثوى للكافرين حين اجترءوا مثل هذه الجراءة. كلمة في السياق: وهكذا حكم الله على أهل الباطل بأنهم أظلم الخلق، وأنّ جهنم مثوى لهم. والآية

[سورة العنكبوت (29): آية 69]

- كما ترى- تصل بسبب إلى قوله تعالى في المحور وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (البقرة: 4) إذ إنّها تبيّن أنّه لا يوجد أظلم ممّن لم يؤمن بالحق الذي أنزله الله على محمّد عليه الصلاة والسلام، كما أنّ قوله تعالى قبل ذلك: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. يصل بسبب إلى قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (البقرة: 4) وقد بقيت معنا آية في السورة تربط مقدمة السورة بنهايتها، وتفصّل في المحور وهذه هي: .... وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا، وقد أطلق المجاهدة ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي لنبصّرنّهم طرقنا في الدنيا والآخرة، أو لنزيدنّهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصرة والمعونة في الدنيا، وبالثواب والمغفرة في العقبى. كلمة في السياق: 1 - بدأت مقدمة السورة بتصحيح تصورين: تصور المؤمنين في ظنهم أنّهم لا يبتلون، وتصور الكافرين في ظنهم أنهم لا يعاقبون. ثم جاء قوله تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. ثم سار السياق حتى ختمت السورة بهذه الآية التي ترينا الجزاء العاجل لمن جاهد في الله، وهكذا نجد أن أوائل السورة مرتبط بآخرها وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. آية قالت للمؤمن: إنّ منفعة جهادك عائدة عليك، والآية الأخيرة تقول له: إذا جاهدت فإني سأمنحك وأعطيك وأنصرك، وهكذا بيّنت السورة أن الجهاد خلق المسلم، وأن الامتحان مرتبط بالإيمان، وأن الصبر هو علامة صدق المؤمن، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل».

فوائد

2 - رأينا أنّ سورة العنكبوت فصّلت في مقدمة سورة البقرة: ففصّلت في موضوع الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإيمان بما أنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا كله قد رأيناه. والآن لنلاحظ ملاحظة أخيرة: لقد ختم الكلام عن المتقين في أوائل سورة البقرة بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 5) ونلاحظ أنّ آخر آية في سورة العنكبوت كانت وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا لاحظ كلمة الهداية المشتركة بين آخر آية في سورة العنكبوت وآخر آية في الآيات التي وصفت المتقين في سورة البقرة. إنّ آخر آية في سورة العنكبوت دلّتنا على أنّ الهداية تحتاج إلى مجاهدة. ومن هنا ندرك أنّ تفصيل سورة العنكبوت لمقدمة سورة البقرة تفصيل ذو طعم خاص، فإذا كانت الآيات هناك قد وصفت المتقين، فهذه السورة تضع قواعد وموازين وعلامات، وتبيّن حكما ومواصفات وضروريات للتحقق بالصفات. ولا يفوتنا هنا أن نؤكد على التسلسل في السّورة في موضوع تفصيل آيات المحور، فالمقطع الأول فصّل في موضوع آثار الإيمان بالغيب، والمقطع الثاني فصّل في موضوع الصلاة والإيمان بالكتاب كله، وفي الطريق إلى الهداية، ولننقل الآن بعض الفوائد حول المقطع الثاني: فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ] بمناسبة قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قال ابن كثير: (وقد جاء في الحديث من رواية عمران بن الحصين قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن قول الله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له». وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا». وروى ابن جرير ... عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قال: فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا. فهذا موقوف. روى ابن جرير ... عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة» وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر. قال ابن جرير: وقال سفيان قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ قال: فقال سفيان: أي والله تأمره وتنهاه).

2 - كلام ابن كثير والنسفي حول قوله تعالى ولذكر الله أكبر وتعليق المؤلف على ذلك

2 - [كلام ابن كثير والنسفي حول قوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وتعليق المؤلف على ذلك] وبمناسبة قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن كثير: (وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يقول: ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه. وكذا روى غير واحد عن ابن عباس وبه قال مجاهد وغيره: وروى ابن أبي حاتم عن رجل عن ابن عباس وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: ذكر الله عند طعامك وعند منامك، قلت: فإن صاحبا لي في المنزل يقول غير الذي تقول، قال: وأي شئ يقول؟ قلت: قال: يقول الله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه، قال: صدق. وروى أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: لها وجهان. قال: ذكر الله عند ما حزب. قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه. وروى ابن جرير ... عن عبد الله بن ربيعة قال: قال لي ابن عباس هل تدري ما قوله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ؟ قال: قلت نعم. قال: فما هو؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال: لقد قلت قولا عجيبا، وما هو كذلك، ولكنّه إنّما يقول ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إيّاه. وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس، وروي أيضا عن ابن مسعود، وأبي الدرداء، وسلمان الفارسي وغيرهم واختاره ابن جرير). وقال النسفي: (أي والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وإنما قال ولذكر الله؛ ليستقل بالتعليل كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته، وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له الآن؛ لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم لا يبقى، وقال سلمان: ذكر الله أكبر من كل شئ وأفضل، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير من إعطاء الذهب والفضة، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ذكر الله». وسئل: أي الأعمال أفضل قال: «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» أو ذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم، أو ذكر الله أكبر من أن تلقى معه معصية، أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من غيره). أقول: وإنني أميل إلى الظاهر في فهم الآية أن ذكر الله الدائم أثره في النهي

3 - زاد المؤمن المجاهد هو تلاوة القرآن، والصلاة، والذكر

عن الفحشاء والمنكر أكبر من كل شئ، والصلاة ذكر، وهي أعظم الذكر، فهي وحدها تستقل بالنهي عن الفحشاء والمنكر، والذكر معها يؤدّي إلى نتيجة أكبر، ولا يعني هذا أن الذكر بدون صلاة يؤدي دوره كاملا، لأن الله لا يقبل نافلة ما لم تؤدّ الفريضة. 3 - [زاد المؤمن المجاهد هو تلاوة القرآن، والصلاة، والذكر] قال تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ إن هذه الآية في سياقها تفيد أن زاد المؤمن المجاهد تلاوة القرآن والصلاة والذكر، وأن زاد المؤمن في حياته تلاوة القرآن والصلاة والذكر، وأن هذه الثلاث زاده في محنته، ومن ثمّ فعلى المريّين أن يعوّدوا المسلم من لحظة الابتداء على تلاوة القرآن والصلاة والذكر، فلا يمر يوم بدون تلاوة قرآن، ولا يمر يوم إلا وقد أخذ القلب حظه من الصلاة، فرائضها، ونوافلها، ولا يمر يوم إلا وقد أقام المسلم فيه أوراده المأثورة، من استغفار، وصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتهليل، وغير ذلك. وهو موضوع يعرف المسلم تفصيلاته من كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) وفي رسالة (المأثورات) للأستاذ البنا ما يشفي. 4 - [كلام ابن كثير حول مجادلة أهل الكتاب وكيفيته وتعليق المؤلف على ذلك] عند قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. قال ابن كثير: (قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين؛ فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الآية. [النحل: 125] وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44]. وهذا القول اختاره ابن جرير وحكاه عن ابن زيد وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح المحجّة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم. قال الله عزّ وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25]. قال جابر: أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف. قال مجاهد إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ: يعني أهل

الحرب، ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقا، ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلا، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا، معلّقا على شرط، وهو أن يكون منزلا لا مبدّلا ولا مؤوّلا. روى البخاري رحمه الله ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون». وهذا الحديث تفرّد به البخاري. روى الإمام أحمد ... عن أبي نملة الأنصاري أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الله أعلم» قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذّبوهم، وإن كان باطلا لم تصدّقوهم». (قال ابن كثير): وأبو نملة هذا هو عمارة، وقيل عمار، وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه. ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان، لأنه قد دخله تحريف، وتبديل، وتغيير، وتأويل، وما أقل الصدق فيه، ثم ما أقل فائدة كثير منه، لو كان صحيحا. روى ابن جرير ... عن ابن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ؛ فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلّوا، إما أن تكذّبوا بحقّ، أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية (أي بقية) تدعوه إلى دينه كتالية المال، وروى البخاري ... عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحدث، تقرءونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدّلوا وغيّروا، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم. وروى البخاري وأبو اليمان ... عن حميد بن عبد الرحمن أنّه سمع معاوية يحدّث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. قال ابن كثير: (معناه أن يقع منه الكذب لغة من غير قصد، لأنّه يحدّث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة، لأنهم لم يكن في ملتهم

5 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ..

حفّاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة، ومع ذلك، وقرب العهد، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل، ومن منحه الله تعالى علما بذلك كل بحسبه. ولله الحمد والمنّة). أقول: بعد إذ فهمنا نقول ابن كثير فإنني أرجّح أنّ الآية غير منسوخة لأن الجدال بيننا وبين أهل الكتاب لا تنقطع صوره إلى نزول عيسى بن مريم، فقد يصادف المسلم ذميا يحاوره، وقد يسافر المسلم إلى ديار الكفر فيحاورونه، ففي الآية توجيه دائم للمسلم في كل العصور وتعريف له على أدب الجدال مع أهل الكتاب. 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ قال ابن كثير: (ومن زعم من متأخري الفقهاء- كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه- أنّه عليه الصلاة والسلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتدّ النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرءوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا، وخطبوا به في محافلهم. وإنما أراد الرجل- أعني الباجي- فيما يظهر عنه أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إخبارا عن الدجال: «مكتوب بين عينيه كافر»، وفي رواية: «ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن» وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلّى الله عليه وسلم حتى تعلّم الكتابة فضعيف لا أصل له). 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ] بمناسبة قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قال ابن كثير: (أي هذا القرآن آيات بيّنة واضحة في الدلالة على الحقّ، أمرا ونهيا وخبرا، يحفظه العلماء، يسّره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» وفي حديث عياض بن حمّاد في صحيح مسلم: يقول الله تعالى: «إنّي مبتليك ومبتل بك، ومنزّل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظانا» أي لو غسل الماء المحلّ المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحلّ، لأنّه قد جاء في الحديث الآخر: «لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار» ولأنه محفوظ في الصدور، ميسّر على الألسنة، مهيمن على القلوب، معجز لفظا

7 - كلام ابن كثير والألوسي بمناسبة آية أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب ..

ومعنى، ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة: (أناجيلهم في صدورهم). واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا، ولا تخطّه بيمينك، آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب، ونقله عن قتادة وابن جرير وحكى الأول عن الحسن البصري فقط. (قال ابن كثير) وهو الذي رواه العوفي عن ابن عباس وقاله الضحاك وهو الأظهر والله أعلم). 7 - [كلام ابن كثير والألوسي بمناسبة آية أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». وعند الآية نفسها قال الألوسي: (وأخرج عبد الرزاق. والبيهقي أيضا عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه، فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب، قال: نعم فاشترى أديما فهيأه، ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، فجعل يقرؤه عليه، وجعل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتلوّن، فضرب رجل من الأنصار الكتاب وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب، فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك: «إنما بعثت فاتحا وخاتما، وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصارا، فلا يهلكنكم المتهوكون» أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة، وقيل: المتحيرون، إلى ذلك من الأخبار، وحقق بعضهم أن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين، وذلك مما لا شبهة فيه فيه في صدر الإسلام، وعليه تحمل الأخبار، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر). 8 - [تفسير غريب لآية وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ورد ابن كثير على ذلك] بمناسبة قوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يذكر ابن كثير: أن بعض المفسرين يذكرون أن البحر هو جهنم، أي ستكون مكانه جهنم؛ ويستشهد على هذا بحديث يردّه ابن كثير ويردّ معه هذا التفسير يقول: هذا تفسير غريب وحديث غريب جدا. 9 - [الأمر بالهجرة من البلد التي لا يقدر المؤمن فيها على إقامة الدين بمناسبة الآية (56)] بمناسبة قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ

10 - حديث بمناسبة قوله تعالى لنبوئنهم من الجنة غرفا

فَاعْبُدُونِ قال ابن كثير: (هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحّدوا الله ويعبدوه كما أمرهم. ولهذا قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. روى الإمام أحمد ... عن أبي يحيى مولى الزبير ابن العوام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله. فحيثما أصبت خيرا فأقم». ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة؛ ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى، فآواهم وأيّدهم بنصره، وجعلهم سيوما ببلاده، ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة). 10 - [حديث بمناسبة قوله تعالى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً] بمناسبة قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حدّثه: «أنّ في الجنّة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. أعدّها الله تعالى، لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام»). 11 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ قال ابن كثير: (وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر: كقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «سافروا تصحوا وترزقوا» روى البيهقي ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سافروا تصحوا وتغنموا» قال: ورويناه عن ابن عباس. وقال الإمام أحمد ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سافروا تربحوا، وصوموا تصحوا، واغزوا تغنموا» وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا، وعن معاذ بن جبل موقوفا، وفي لفظ: «سافروا مع ذوي الجد والميسرة». قال: ورويناه عن ابن عباس). 12 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قال ابن كثير: (وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عكرمة بن أبي جهل، أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة ذهب فارّا منها. فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء؛ فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو. فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البرّ أيضا غيره، اللهم لك عليّ عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعنّ يدي في يد محمد

13 - كلام ابن كثير والنسفي والمؤلف حول آية والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا

فلأجدنّه رءوفا رحيما، فكان كذلك). 13 - [كلام ابن كثير والنسفي والمؤلف حول آية وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا] عند قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال ابن كثير: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعني الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي لنبصّرنّهم سبلنا، أي طرقنا في الدنيا والآخرة. روى ابن أبي حاتم ... عن عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكاء في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قال: الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم الله لما لا يعلمون، قال أحمد بن أبي الحواري فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حتى وافق ما في قلبه). وقال النسفي: (وعن الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا، فقد قيل: من عمل بما علم وفق لما لا يعلم. وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم إنما هو لتقصيرنا فيما نعلم. وعن فضيل: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به. وعن سهل: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وعن ابن عطاء: جاهدوا في رضانا لنهدينهم الوصول إلى محل الرضوان، وعن ابن عباس: جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا، وعن الجنيد: جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا، والأنس بنا، أو جاهدوا في طلبنا تحرّيا لرضانا لنهدينهم سبل الوصول إلينا). أقول: إن من فهم هذه الآية في محلها وسياقها، وعرف معناها، وعمل بمقتضاها، حصّل خيرا كثيرا. وتأمّل فيما يأتي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: «والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله» وجهاد النفس: حملها على أمر الله في كل شئ. ومن ذلك جهاد الشيطان، وجهاد العدو. والآية تبيّن أن من جاهد في ذات الله هداه الله إلى سبله الموصّلة إليه. ليكن هذا منك على ذكر، وامض معي. قال تعالى في سورة القتال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (الآية: 17) إن هذه الآية تبيّن أنّ التقوى منحة من الله ومكافأة منه للعبد على اهتدائه. اجمع بين هذه الآية والآية السابقة تكون النتيجة: التقوى تأتي بعد الهداية، والهداية تأتي كأثر

14 - كلام المؤلف حول الصلة بين آية المجاهدة وبين موضوعات سورة العنكبوت الأخرى

عن المجاهدة، فالطريق إذن مجاهدة، يكافئ الله عليها بهداية. وهداية يكافئ الله عليها بتقوى، فنقطة البداية إذن مجاهدة النفس، ولا شك أنّ ممّا يعين على مجاهدة النفس تلاوة القرآن، والصلاة، والذكر. قال عليه الصلاة والسلام لمن سأله مرافقته في الجنة: «أعني على نفسك بكثرة السجود» وكثرة السجود تعني كثرة الصلاة، وكثرة الصلاة تعني كثرة الذكر، وقراءة القرآن. تأمّل معي الآن مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ألست تجد في هذه الآيات وصفا للتقوى وأهلها وأركانها؟ فإذا كان الأمر كذلك، وكان الطريق إلى التقوى هو مجاهدة النفس كما رأينا، فإنّ ذلك وحده كاف للتدليل على مجموعة أمور: 1 - على صلة سورة العنكبوت بالآيات الأولى من سورة البقرة. 2 - وعلى أنّ سورة العنكبوت تعتبر درسا في موضوع التحقق بالتقوى. ولعلّك بذلك تدرك مظهرا من مظاهر الكمال في هذا القرآن وسرا من أسرار الإعجاز. وبمناسبة الكلام عن آية المجاهدة نقول: إن ختم الآية بقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ يفيد أنه بقدر ما يكون الإحسان يكون التوفيق والفتح والهداية. 14 - [كلام المؤلف حول الصلة بين آية المجاهدة وبين موضوعات سورة العنكبوت الأخرى] سورة العنكبوت مكية، والجهاد المفروض في مكة هو جهاد النفس وجهاد الكافرين باللسان، ثم فرض الله الجهاد باليد في المدينة، والملاحظ أن كلمة الجهاد التي وردت مرّتين في سورة العنكبوت لم تقيّد بنوع من أنواع الجهاد. ممّا يشير إلى أنّ كلّ ما يدخله الله تحت كلمة الجهاد يدخل في ذلك، ولكن تبقى مجاهدة النفس هي المراد الأول في الآية، ولا شك أن الجهاد باليد هو نوع من مجاهدة النفس إذ إنّ حمل النفس على الموت في سبيل الله من أعظم أنواع المجاهدة، ومن هذا ندرك أنّ المؤمن لا يصدق في إيمانه إلا بجهاد: للنفس وللشيطان ولأعداء الله، وهذا الذي يدل عليه الحديث الصحيح: «ما من نبي بعثه الله في أمّة قبلي إلا كان له من أمّته حواريون

كلمة أخيرة في سورة العنكبوت

وأصحاب يأخذون بسنّته، ويقتدون بأمره، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» أخرجه مسلم عن ابن مسعود. كلمة أخيرة في سورة العنكبوت: رأينا من خلال عرضنا للسورة أن السورة تفصّل قوله تعالى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 1 - 4) وكان تفصيلها أن فصّلت في لوازم الإيمان بالغيب فذكرت: الامتحان، ورجاء لقاء الله، والجهاد، والعمل الصالح، وبر الوالدين، والصبر على الأذى، وعدم الخضوع لتأثيرات الكافرين. وفصّلت في لوازم الإيمان بالكتب السماوية كلها فذكرت: عدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن. وفصّلت في الطريق لتحقيق الإيمان الصادق، وتحقيق التقوى: فذكرت تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، والذكر، والعمل الصالح، والصبر، والتوكل، والمجاهدة، والإحسان. وفصّلت في إقامة الحجّة على أنّ هذا القرآن من عند الله. وفصّلت في تبيان نعم الله، وما تقتضيه في موازين الإيمان، ورسمت الطريق لتحقيق الإيمان ابتداء بالجهاد، وتوسطا بالصبر، وانتهاء بالهجرة والصبر والتوكل. ... وكما فصّلت في صفات المتقين فصّلت في ما يقابل ذلك من الكفر، والنفاق، وهي المواضيع التي تحدّثت عنها مقدمة سورة البقرة. فعرفنا علامة النفاق، وعرفنا بعض لوازم الكفر وآثاره.

وعرفنا بعض ما أعدّ الله للمؤمنين، وبعض ما أعدّ للكافرين. وعرفنا الفارق الكبير بين ما يركن إليه أهل الإيمان، وبين ما يركن إليه أهل الكفر: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. ... هذه المعاني وغيرها موجودة في سورة العنكبوت، وهي نوع تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وسورة العنكبوت هي واحدة من أربع سور في هذه المجموعة كلها مبدوء ب الم وهذه السور الأربع كلّها تفصّل في مقدمة سورة البقرة، وكل منها يفصّل في هذه المقدمة تفصيلا يكمّل تفصيل الآخر؛ فسورة العنكبوت فصّلت في موضوع لوازم الإيمان بالغيب، والكتاب، بشكل أخصّ. وسنرى أنّ سورة الروم تفصّل في موضوع الإيمان باليوم الآخر بشكل أخص. وهكذا كل سورة من هذه السور الأربع. وقد رأينا من قبل أن سورتا طه والأنبياء فصّلتا مقدمة سورة البقرة. ومن قبل رأينا سورة يونس فصّلت في مقدمة سورة البقرة. ومن قبلها رأينا سورة آل عمران فصّلت في مقدمة سورة البقرة، وكل منها فصّل في هذه المقدمة تفصيلا يكمّل تفصيل الآخر. إن هذا الترابط والتناسق والتكامل والصلة والوحدة في هذا القرآن لكاف في أن يعرف الإنسان استحالة كون هذا الكتاب من عند بشر. فكيف إذا كان هذا واحدا من آلاف من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن؟ نسأل الله ألا يضلّنا، ونسأله أن يفتح علينا في فهم كتابه، وأن يتوفانا على الإيمان، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار، ويغفر ويستر. ... إن سورة العنكبوت عالجت أهم قضيتين يخطئ الناس فيهما: القضية الأولى: أن الإيمان لا يرافقه امتحان وهو فهم خاطئ لا زلنا نراه عند بني الإنسان، إذ يظنّون أن الدخول في الإسلام لا يرافقه خوف ولا أذى، ولا تقتير

رزق، ولا غير ذلك من معاني الابتلاء. بل إنّ بعض الناس يعتبرون وجود مثل هذه الأشياء علامة على الخطأ في السير، فما أكثر جهلهم؟ لقد بيّنت السورة خطأ هذا التصور وعالجته. القضية الثانية: ظن الكافر أنّه يفوت الله، فلا يناله عقابه في دنيا، أو في أخرى ومعالجة هذه القضية لها صلة بمعالجة القضية الأولى لأنّه قد يقول قائل: ما دمت إذا دخلت في الإسلام فسأمتحن، وسأعذّب، وسأوذى، وسيسلّط الله عليّ، فلأبق على الكفر، ومن ثمّ بيّن الله عزّ وجل أن ابتلاء الله للمؤمنين في الدنيا أهون بكثير من عقاب الله عزّ وجل للكافرين في الدنيا والآخرة. لقد عالجت السورة هاتين القضيتين في سياقها الخاص معالجة كاملة إن في العرض أو في ذكر الأمثلة، أو في الدلالة على الطريق والعمل. ولقد غفل الناس في عصرنا عن كثير من مضامين هذه السورة. فبدلا من أن يعتبروا الامتحان ظاهرة عاديّة أصبحوا يعتبرون الامتحان علامة خطأ على السير، وصاروا ينافقون فرارا من الامتحان مقلّدين إخوانهم المنافقين الأوّلين، بل إنّ بعض أولئك نافقوا عند الإيذاء، وبعض هؤلاء ينافق قبل وجود الإيذاء، ثمّ إنّ هناك غفلة عند الكثيرين عن التحقّق في المعاني التي تعرّضت لها السورة، والتي هي زاد الطريق من المجاهدة، وبر الوالدين في غير معصية، والهجرة، والصبر، والتوكل، والجمع بين تلاوة القرآن والذكر، وإقام الصلاة، والحذر من الدعوات الكافرة وأهلها. .... ونحب هنا أن نؤكّد على ناحية ذكرناها أثناء التفسير وهي أنّ على المربي أن يبدأ بالعلم، وأن يركّز في الابتداء على التلاوة، والصلاة، والذكر، والتركيز على التلاوة يقتضي تعليم علم التجويد، والتركيز على الصلاة يقتضي تعليم فقهها، والتركيز على الذكر يقتضي دراسة الأذكار المسنونة. كما يقتضي إيجاد الأجواء المناسبة، والبيئة المناسبة التي تجعل مريد وجه الله عزّ وجل ينصهر في هذه الأشياء الثلاثة، إنّنا إذا صهرنا المسلم في لحظة إقباله بهذه المعاني الثلاثة نكون قد وضعناه في طريق الجنة بإذن الله. .... إنّ قضية الإيمان هي أغلى القضايا وأعظمها، وسورة العنكبوت فصّلت في هذه

القضية في سياقها الرئيسي، وركزتها لتكون مدخلا إلى السورة التي تأتي بعدها، ولتكون أساسا لها، ومن ثمّ فإنك تلاحظ أن سورة العنكبوت تحدّثت في بدايتها عن الامتحان والإيذاء. وقالت: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهذه سورة الروم تقول في بدايتها يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وفي أواخرها وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ومن هذه الملاحظة نعرف كيف تكمّل السور الأربع المبدوءة ب (الم) في هذه المجموعة بعضها، وكيف أنها كلها تصبّ في مصبّ واحد، وتفصّل مقاما واحدا هو مقدّمة سورة البقرة. ***

سورة الروم

سورة الرّوم وهي السّورة الثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثانية من المجموعة الأولى من قسم المثاني، وآياتها ستّون آية وهي مكيّة وهي السّورة الثانية من زمرة (الم) في قسم المثاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي رحمه الله في تقديمه لسورة الروم

قال الألوسي رحمه الله في تقديمه لسورة الروم: (مكية، كما روي عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، بل قال ابن عطية، وغيره: لا خلاف في مكيتها، ولم يستثنوا منها شيئا، وقال الحسن: هي مكية إلا قوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ الآية، وهو خلاف مذهب الجمهور، والتفسير المرضي كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. وآيها ستون، وعند بعض تسع وخمسون. ووجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي أنها ختمت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر، وفرح المؤمنين بذلك، وأن الدولة لأهل الجهاد فيه، ولا يضرهم ما وقع لهم من قبل ذلك من هزيمة، هذا مع تواخيها لما قبلها في الافتتاح ب (الم) ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في الله عزّ وجل، وبذلك تضعف المناسبة، ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم لم يزالوا مجاهدين في الله تعالى ولأجله ولوجهه عزّ وجل، ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول، وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال. فتأمل). وقال صاحب الظلال في تقديمه للسورة: (نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معيّنة. ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب. وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين .. ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب، دينهم النصرانية، وكان الفرس غير موحّدين، ديانتهم المجوسية، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان. ومن ثمّ نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشّر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون، الذين يودّون انتصار ملّة الإيمان من كل دين. ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد، ولا في حدود ذلك الحادث. إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت، وليصلهم بالكون كله، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق

كلمة في سورة الروم ومحورها

الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما، وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها. ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود. ثم يطوف بهم في مشاهد الكون، وفي أغوار النفس، وفي أحوال البشر، وفي عجائب الفطر .. فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطّلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها، وتوسع آمادها وأهدافها، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة. عزلة المكان والزمان والحادث. إلى فسحة الكون كله: ماضيه وحاضره ومستقبله، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه. ومن ثمّ يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير. ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون، وتحكم فطرة البشر، ودقة السنن التي تصرّف حياة الناس وأحداث الحياة، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة، وعدالة الموازين التي تقدّر بها أعمال الخلق، ويقوّم بها نشاطهم في هذه الأرض، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة. وفي ظل ذلك التصوّر المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها- حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها- ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها، إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى، وفطرة النفس البشرية وأطوارها، وماضي هذه البشرية ومستقبلها. لا على هذه الأرض وحدها، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط. وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد؛ ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم؛ ويتطلع إلى السماء والآخرة؛ ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر. ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل؛ ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله، فيؤدّي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام). كلمة في سورة الروم ومحورها: قلنا إن محور السور الأربع: (العنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة)

هو مقدمة سورة البقرة، وقلنا: إنّ كلّا من هذه السور تفصّل في المقدمة تفصيلا، يكمّل بعضه بعضا. وقلنا: إنّ سورة العنكبوت فصّلت في موضوع الإيمان بالغيب وآثاره، وموضوع الإيمان بالكتاب، ولم تتوسّع في موضوع الإيمان باليوم الآخر، وهاهنا نلاحظ أنّ السياق الرئيسي لسورة الروم يكاد يكون منصبّا على موضوع اليوم الآخر. فالآية (7) تقول: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ والآية (12) تقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ والآية (14) تقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. والآية (55) تقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. وتتحدث السورة عن الله عزّ وجل بما يذكّر بالآخرة: فالآية (11) تقول: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. والآية (27) تقول: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. والآية (40) تقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. والآية (50) تقول: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ولاحظ الآن هذه الملاحظة: وهي أن الآيات التي وصفت المتقين من سورة البقرة قالت في جملة ما قالت: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. وهذه آخر آية في سورة الروم تقول: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. لاحظ كلمة (يوقنون) في المكانين. .... فالسورة تكمّل سورة العنكبوت وتفصّل بشكل أخص من مقدمة سورة البقرة ما لم تتوسع فيه سورة العنكبوت في تفصيلها لهذه المقدمة. ....

ومن الملاحظ أن هناك شبها بين آخر آية في سورة يونس التي فصّلت كذلك في مقدمة سورة البقرة وبين آخر آية في سورة الروم. فآخر آية في سورة يونس هي: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. وآخر آية في سورة الروم: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. وهذا يؤكّد أن طريقتنا في فهم الوحدة القرآنية والسياق القرآني صحيحة. فليس في كلامنا في هذا الشأن افتئاتا على القرآن بغير علم بل هو شئ تقودنا إليه المعاني. ... قلنا أثناء الكلام عن سورة العنكبوت: إن سورة العنكبوت فصّلت بشكل أخص قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ .... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وهاهنا نقول: إنّ سورة الروم تفصّل بشكل أخص قوله تعالى من مقدّمة سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. لاحظ أنّ في الآية الأخيرة من مقدمة سورة البقرة وعدا هو: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ولاحظ أنّ آخر آية في سورة الروم فيها ذكر للوعد: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. ... إنّ من عجائب القرآن ما ورد في بداية سورة الروم، فإنّ فيها وعدا أن ينصر الله الروم على الفرس وهو وعد قد تحقق بعد نزول السورة بفترة، وقد دلّل الله عزّ وجل

على وقوع وعده هذا بوقوع وعده في اليوم الآخر. ثم سار السياق للتدليل على اليوم الآخر، ومن ثمّ نجد في بداية السورة: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ. وتختم السورة بقوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ. ومن عرف هذه النقطة فقد أدرك السياق الرئيسي لسورة الروم. ... ولا نريد أن نستبق الكلام عن تفصيلات السياق، وإنّما نتكلم هنا ضمن الحدود التي نعرف بها السورة ومحورها بشكل مجمل. وقد اتضح مما ذكرناه الموضوع الرئيسي لسورة الروم، واتضح لنا محورها. وسنرى التفصيلات أثناء شرحها. ولنتذكر قبل أن ننتقل إلى عرض سورة الروم: الآيات الأولى من سورة البقرة التي هي محور هذه السور الأربع: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ... تتألف سورة الروم من مقدمة وأربعة مقاطع، والمقاطع الأربعة كل منها مبدوء بلفظ الجلالة (الله) والمقدمة تتألف من مجموعتين.

مقدمة السورة وهي الآيات (1 - 10) وتتألف من مجموعتين

مقدمة السورة [وهي الآيات (1 - 10)] وتتألف من مجموعتين: المجموعة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (7) وهذه هي: 30/ 1 - 7 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ التفسير: الم غُلِبَتِ الرُّومُ غلبتها فارس فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي في أقرب أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم: وهي أطراف الشام، أو في أدنى أرض الروم إلى عدوّهم وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع: ما بين الثلاث إلى العشر لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل كل شئ. ومن بعد كل شئ، أو المراد من قبل الغلب ومن بعده، يعني: إن كونهم مغلوبين أولا، وغالبين آخرا، ليس إلا بأمر الله وقضائه وَيَوْمَئِذٍ أي ويوم تغلب الروم فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ كأن في هذا النص بشارة خاصة للمسلمين أنهم وقتذاك يكونون منصورين على عدوهم. أو المراد بنصر الله، نصره من له كتاب على من لا كتاب له. أو المراد فرح المؤمنين بظهور صدقهم فيما أخبروا به عن الله عزّ وجل يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ

[سورة الروم (30): آية 6]

أي الغالب على أعدائه الرَّحِيمُ العاطف على أوليائه وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنّا سننصر الروم على الفرس وعد من الله حق، وخبر صدق لا يخلف، ولا بد من كونه ووقوعه؛ لأن الله عزّ وجل قد جرت سنته أن يجعل الأيام دولا وأن يجعل العاقبة لأهل الحق أو لمن هم أقرب إلى الحق وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صدق وعد الله يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالظاهر من الحياة الدنيا. وهذا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا. فظاهرها ما يعرفه الجهّال من زخارفها وقوانينها وأسبابها، وباطنها أنّها مجاز إلى الآخرة يتزوّد فيها بالطاعة والعمل الصالح، وأنّها تدل على الله وأسمائه وصفاته. قال النسفي: (وتنكير الظاهر يفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهرها. وقال: وفيه بيان أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز عن تحصيل الدنيا) وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ فيه بيان أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها. نقول: [1، 2 - كلام الألوسي وصاحب الظلال بمناسبة الآيات الثلاث الأولى من السورة] 1 - بمناسبة قوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ قال الألوسي: (وفي البحر: كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم ابن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ إلى سِنِينَ افتتاح المسلمين بيت المقدس، معيّنا زمانه ويومه، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عيّنه للفتح، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى. انتهى). أقول: يظهر أنّ الشيخ المذكور استخرج ذلك من خلال حساب الجمل ولكن ليس لذلك ما يستأنس له إلّا الرواية المذكورة في أوائل سورة الشورى، وهي رواية غريبة، على أنّ في هذا القرآن من العجائب الكثير. 2 - قال صاحب الظلال في قوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى

الْأَرْضِ ... : (بدأت السورة بالأحرف المقطعة: (ألف. لام. ميم) التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن- ومنه هذه السورة- مصوغ من مثل هذه الأحرف، التي يعرفها العرب؛ وهو مع هذا معجز لهم، لا يملكون صياغة مثله، والأحرف بين أيديهم، ومنها لغتهم. ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين. وقد روى ابن جرير- بإسناده- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كانت فارس ظاهرة على الروم. وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وهم أقرب إلى دينهم. فلما نزلت: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ. قالوا: يا أبا بكر. إن صاحبك يقول: إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين. قال: صدق. قالوا: هل لك أن نقامرك؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين. فمضت السبع ولم يكن شئ. ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين؛ فذكر ذلك للنبي- صلّى الله عليه وسلم- فقال: «ما بضع سنين عندكم؟» قالوا: دون العشر. قال: «اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل». قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس. ففرح المؤمنون بذلك. وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير. وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية. وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان. ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال. والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسّون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم، وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثّر في قضية الكفر والإيمان. وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا، ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ حوالي أربعة عشر

3 - وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: لله الأمر من قبل ومن بعد إلى ينصر من يشاء

قرنا. ومن ثمّ ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان. وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة وحقيقة القضية؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستّر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوّعت العلل والأسباب. والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة أبي بكر- رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه؛ فما يزيد على أن يقول: صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده: فِي بِضْعِ سِنِينَ .. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله، وحقّ وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل. والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرّفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة، التي ليس لأحد عليها من سلطان). 3 - وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ إلى يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ: (فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسّر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرّف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلّف؛ وأن تكون هناك

4 - وبمناسبة قوله تعالى وهم عن الآخرة هم غافلون قال صاحب الظلال

نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثّرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة. والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل يصلّي قائلا: (توكلت على الله) فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكّل». فالتوكّل في العقيدة الإسلامية مقيّد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله). 4 - وبمناسبة قوله تعالى وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ قال صاحب الظلال: (والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل؛ وتؤرجح في أكفّهم ميزان القيم؛ فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا؛ ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغيّر نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود. والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة. ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة! ومن ثمّ لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة؛ ولا يتّفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشئون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال .. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا؛ وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء .. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه؛ ويرفعها فيه إلى المكان

كلمة في السياق: في صلة المجموعة الأولى من المقدمة بالمجموعة الثانية منها وبالسورة

الكريم اللائق بالإنسان. الخليفة في الأرض. المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله). أي روح خلقها الله ونسبها لذاته تشريفا. كلمة في السياق: [في صلة المجموعة الأولى من المقدمة بالمجموعة الثانية منها وبالسورة] هذه الآيات مدخل إلى السورة. فمن خلال رؤية صدق الله عزّ وجل في تحقق موعوده الذي ذكرته هذه الآيات وهو انتصار الروم على الفرس. يذكّر الله عزّ وجل الخلق بأن وعده كله لا بد أن يتحقق، ومن ذلك وعده بقيام الساعة. فذكر الله عزّ وجل موضوع الروم- وهو معجزة- مدخل للكلام عن وعده الكبير بإقامة اليوم الآخر، ومدخل للكلام عن اليوم الآخر. ومن ثمّ نلاحظ أن السياق يبدأ بعد ذلك بإثارة تفكير الإنسان للوصول إلى الإيقان بالآخرة كما سنرى في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ... وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الثانية من مقدمة السورة فلنذكر بعض الفوائد المتعلّقة بما مرّ. فوائد: 1 - [من الروايات التي ذكرها ابن كثير حول موضوع إنزال الآيات الأولى من سورة الروم] ذكر ابن كثير روايات كثيرة حول موضوع إنزال الآيات الأولى من سورة الروم، وفيها رهان أبي بكر والمشركين، ونحن نجتزئ من مجموع كلامه مقدّمة كلامه والرواية الأولى من رواياته، قال: (نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام، وما والاها من بلاد الجزيرة، وأقاصي بلاد الروم، فاضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتى. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ قال: غلبت وغلبت، وقال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لانهم أصحاب أوثان. وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، فذكر ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر أبو بكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ألا جعلتها إلى دون- أراه قال- لعشر» قال سعيد بن جبير: البضع: ما دون العشر، ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ

2 - كلام ابن كثير حول وقت نصرة الروم على فارس والخلاف فيه وتعليق المؤلف عليه

وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إلى قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وقد علّق النسفي على مقدمة سورة الروم وموضوع رهان أبي بكر بقوله: (وهذه آية بينة على صحة نبوّته صلّى الله عليه وسلم وأنّ القرآن من عند الله، لأنّها إنباء عن علم الغيب، وكان ذلك قبل تحريم القمار، هذا عن قتادة. ومن مذهب أبي حنيفة ومحمّد: أنّ العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار، وقد احتجّا على صحة ذلك بهذه القصة). 2 - [كلام ابن كثير حول وقت نصرة الروم على فارس والخلاف فيه وتعليق المؤلف عليه] قال ابن كثير: (وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم، وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، ففرحوا به، وأنزل الله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وقال الآخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية). أقول: وعلى القول بأن انتصار الروم على فارس كان سنة بدر ففي الآيات ثلاثة إنباءات عن الغيب: أن الروم سيغلبون، وأن ذلك كائن خلال بضع سنين، وأنّ عام نصرهم سيكون نصرا للمسلمين أيضا. وكل ذلك على خلاف ما يتوقعه المتوقعون ساعة نزول النّص، فهذه من أعظم معجزات القرآن التي تدل على أنه من عند الله. 3 - [الإخبار الغيبي عن حال الكافرين في كل زمان أنهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا فقط] في قوله تعالى عن الكافرين: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا نوع من الإخبار عن الواقع الذي يزداد وضوحه على مدى المستقبل، فهو نوع من الإخبار بالغيب. وها أنت ترى في عصرنا كيف أن الكافرين عرفوا من ظواهر الحياة الدنيا ومظاهرها الكثير، ولكنهم في أمور الغيب والآخرة، والدين والسلوك متناقضون جاهلون جاهليون. وبمناسبة هذه الآية قال ابن كثير: (قال الحسن البصري: والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنّه يقلّب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهّال).

المجموعة الثانية من المقدمة وتمتد من الآية (8) إلى نهاية الآية (10) وهذه هي

المجموعة الثانية من المقدمة وتمتد من الآية (8) إلى نهاية الآية (10) وهذه هي: 30/ 8 - 10 كلمة في السياق: هذه المجموعة تكاد تكون تعليقا على الآية الأخيرة في المجموعة الأولى من المقدمة؛ فالآية الأخيرة قالت عن الكفار يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ثمّ قامت هذه الآيات لتهيّج على التفكير ولتبعث على النّظر. التفسير: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أو لم يثبتوا التّفكر في أنفسهم، أو: أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فيتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا، من غرائب الحكمة الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بدّ لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها، جار على الحكمة في التدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي أفلم

[سورة الروم (30): آية 9]

يتفكروا فيعلموا هذين الشيئين: أنّ الله خلق السموات والأرض وما بينهما، مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمّى لا بدّ لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب والثواب والعقاب، والمعنى: أن من تفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما، لا بد أن يصل إلى هاتين النتيجتين: أن السموات والأرض مخلوقة لحكمة، وأن لهما أجلا فلا يمكن أن يبقى نظام هذا الكون على ما هو عليه إلى ما لا نهاية وذلك لا يختلف عليه اثنان من علماء الكون الآن. فمن نظر نظرة صحيحة في الكون لا بدّ أن يصل إلى هذه النّتيجة: أنّه مصنوع بالحق، وأنّ له أجلا، وهذا وهذا يقتضيان وجود اليوم الآخر. ومن ثمّ ختم الله عزّ وجل الآية بقوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي بالبعث والجزاء لَكافِرُونَ أي لجاحدون. وبعد أن أقام الحجة على مجئ اليوم الآخر وعظ الكافرين بقوله: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ قال ابن كثير: أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين. وقال النسفي: هو تقرير لسيرهم في البلاد ... فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كيف دمّروا واستؤصلوا كعاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً بأجسامهم وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي وحرثوها وَعَمَرُوها أي وعمرها هؤلاء المدمّرون أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي أكثر مما عمرها هؤلاء المكذبون وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فلم يؤمنوا فأهلكوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فما كان تدميره إياهم ظلما لهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي إنهم عوقبوا في الدنيا ثم كانت عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي النار التي أعدت للكافرين أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ أي ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها. فوائد: 1 - [معنى كلمة (السوأى) في آية ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى .. ] السوأى: هي تأنيث الأسوأ وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن. 2 - [من مظاهر الإعجاز القرآني في آية كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ .. ] في قوله تعالى عن الماضين: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن، إذ تجد النص يسع الزمان والمكان، فعند ما ننظر إلى أن التفاضل بين قوة قريش وإثارتها الأرض

3 - بعض المظاهر الدالة على إحاطة علم الله وإلهية المصدر القرآني

وعمارتها، وبين ثمود وعاد، فإن التفاضل قائم، وهذا أضيق ما يفهم به النص، وفي عصرنا حيث عرفنا من آثار الأقدمين الكثير، نجد أن النص ينطبق على الحياة البشرية كلها، فمن رأى سدّ الصين والأهرامات، وآثار النوبة، وبقايا آثار الرومان، وشبكة المياه الجوفية في بلاد الشام، وعرف أن هناك مناطق- هي الآن قاحلة- كانت من أخصب بقاع الدنيا، عرف أن إثارة الماضين للأرض، وعمارتهم لها، كانت أكثر، وهذا شئ وموضوع التقدّم الصناعي شئ آخر ... 3 - [بعض المظاهر الدالة على إحاطة علم الله وإلهية المصدر القرآني] إنّ من مظاهر الإعجاز في القرآن أنك لا تجد فيه أثرا للضعف البشري، وأنّك تحس أنّ صاحب هذا الكلام محيط علما بكلّ شئ، وأنّ كثيرا من الأمور ما كانت لتكون فيه لولا أنّه من عند الله، فلو أنّ هذا القرآن من عند محمّد صلّى الله عليه وسلم- كما يزعم الكافرون- لما وجد فيه مثل هذا الإخبار عن مستقبل الصراع بين فارس والرّوم، إنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلم- وهو أعقل خلق الله- ما كان ليعرض نفسه ودعوته لامتحان لولا أنّ الأمر ربانيّ المصدر، والذين يشتغلون في قضايا البيان يعرفون الحدود التي يمكن أن تنطلق فيها آفاق الإنسان، فكتاب يتحدّث عن البحث عن نشأة الحياة: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ويتحدث عن القدماء بحق وصدق كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ويتحدّث عن الكليّات، كما يتحدّث عن الجزئيات، لا يمكن أن يكون أثرا عن الجزيرة العربية أبدا، في أيّ منطق عاقل. ادرس الإنتاج البشري المعاصر فكم من إنسان ينطلق في عصرنا للحديث عن الكليات الكبرى؟ وإذا وجدت بعض من يتكلم، فما هي حدود كلامه، وفي أي جانب؟ أما القرآن الكريم فالأمر فيه مختلف تماما وهذه كذلك بعض مظاهر الإعجاز. ... كلمة في السياق: [حول صلة المجموعتين الأولى بالثانية] 1 - استدلت المجموعة الأولى من مقدمة سورة الروم بوقوع موعود الله في شأن الروم على وقوع موعوده في شأن الساعة؛ فقدمت السورة بذلك الدليل الأول على اليوم الآخر. إنّ اليوم الآخر قد وعد الله عزّ وجل به، وكل وعد لله لا بدّ من أن

يتحقق، وفي قصة الروم نموذج، ومع قوّة هذا الدليل فإن موقف أكثر الخلق من اليوم الآخر الكفر والغفلة. ومن ثمّ أقام الله عزّ وجل الحجة عليهم مرة ثانية، ووعظهم في المجموعة الثانية. 2 - في المجموعة الأولى من المقدمة ذكر أن أكثر الناس لا يعرفون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. وفي المجموعة الثانية ذكر مظهرا من مظاهر المعرفة الظاهرة الكثيرة للحياة الدنيا عند الماضين، وكيف أنهم عوقبوا ودمّروا وكان مصيرهم النار، وفي ذلك موعظة وإقامة حجة. وهكذا أقام الله الحجة بعد الحجة على مجئ اليوم الآخر في المقدمة، وها نحن بعد المقدمة أمام ظاهرة تتكرّر: إنّك تجد آيات في السورة مبدوءة باسم الجلالة (الله). اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [آية: 11]. ثم تجد الآية (40) تقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. ثم تجد الآية (48) تقول: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ .... ثم تجد الآية (54) تقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. وفي كل مرة تجد آية مبدوءة باسم الجلالة (الله) تجد حجة جديدة في موضوع اليوم الآخر، فكأن السورة بعد المقدمة مؤلفة من مقاطع: علامة المقطع ابتداؤه بكلمة (الله)، وهذا يفيد أن موضوع اليوم الآخر مرتبط بموضوع الإيمان بالله ومعرفته، فهما موضوعان لا ينفصلان كما أثبتنا ذلك في كتابنا (الإسلام) من سلسلة الأصول الثلاثة في فصله الأخير. فإذا اتضح هذا نقول: إن السورة تتألف من مقدمة وأربعة مقاطع. المقدمة هي ما رأيناه والمقاطع الأربعة كل منها مبدوء بلفظ الجلالة (الله) وموضوعها الرئيسي هو اليوم الآخر. فلنر المقطع الأوّل من السّورة.

المقطع الأول ويمتد من الآية (11) إلى نهاية الآية (39) وهذا هو

المقطع الأول ويمتد من الآية (11) إلى نهاية الآية (39) وهذا هو: المجموعة الأولى 30/ 39 - 11 المجموعة الثانية 30/ 20 - 22

30/ 23 - 27 المجموعة الثالثة 30/ 28 - 32

تفسير المجموعة الأولى

المجموعة الرابعة 30/ 33 - 39 تفسير المجموعة الأولى اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يحييهم بعد الموت. أي كما هو قادر على بداءة الخلق فهو قادر على إعادته ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله. كلمة في السياق: بهذه الآية أقام الله الحجة على مجئ اليوم الآخر، فما دام الله عزّ وجل هو الذي بدأ الخلق- وهذه مسلّمة تقوم عليها الأدلة كلها كما برهنّا على ذلك في كتابنا (الله

[سورة الروم (30): آية 12]

جل جلاله) في ظاهرة الحدوث- فهو عزّ وجل قادر على إعادته. ومن ثمّ فهو قادر على إعادة البشر، ومن ثمّ فهم راجعون إليه، فإذا استقر ذلك، وقامت الحجة يحدثنا الله عزّ وجل الآن عن مآل الكافرين المجرمين، ثم عن مآلهم ومآل المؤمنين: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ أي ييئس ويتحيّر، ويفتضح ويكتئب الْمُجْرِمُونَ أي المشركون وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أي من الذين عبدوهم من دون الله شُفَعاءُ أي ما شفعت فيهم هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، وكفروا بهم وخذلوهم أحوج ما كانوا إليهم وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ أي يكفرون بآلهتهم ويجحدونها يوم القيامة، أو وكانوا في الدنيا كافرين بسبب هذه الآلهة المزعومة وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي يتفرق الناس إلى مسلمين وكافرين. قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها، يعني: إنّه إذا رفع هذا إلى عليين، وخفض هذا إلى أسفل سافلين فتلك الفرقة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أي في جنة يُحْبَرُونَ أي يسرون. قال مجاهد وقتادة أي: ينعمون. وقال يحيى بن أبي كثير: يعني سماع الغناء. قال ابن كثير: والحبرة أعمّ من هذا كله وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بالبعث فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي مقيمون لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم، ثم لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه بذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد فَسُبْحانَ اللَّهِ المراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله عن السوء، والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعم الله الظاهرة. أو المراد بالتسبيح الإشارة إلى الصلوات في هذه الأوقات فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ دخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ أي في صلاة الفجر وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حقا له على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه وَعَشِيًّا أي صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ أي صلاة الظهر يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي يخرج النطفة من الغذاء الذي أصله تراب وهواء، أو يخرج المؤمن من الكافر وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالخلايا الميتة من الجسد الحي أو الكافر من المؤمن وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أي يبسها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم، والمعنى: إن الإبداء والإعادة يتساويان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت من الحي وعكسه.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بدأ المقطع بقوله تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وانتهت المجموعة الأولى منه وهي ما مر بقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ بدأت المجموعة بالتدليل على اليوم الآخر. وانتهت بالتدليل على اليوم الآخر. وذكرت في الوسط حال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة. وذكّرت باستحقاق الله عزّ وجل التسبيح والتقديس والحمد. فدلت بذلك على طريق النجاة. والتذكير بتقديس الله في هذا السياق فيه إشارة إلى أن في إقامة اليوم الآخر نعمة عظيمة جليلة خطيرة إذ وجود اليوم الآخر مظهر من مظاهر عدل الله وحكمته. وأثر عن كرمه وانتقامه، فاقتضى ذلك من المكلّف تسبيحا وحمدا. 2 - إنّ سورة الروم وإن كانت تفصّل بشكل رئيسي في قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إلا أنّها مع ذلك تفصّل في المقدمة كلها، فالكلام عن الله عزّ وجل له صلة بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ والكلام عن الصلوات الخمس في قوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ... له صلة بقوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ... فما أعظم هذا القرآن الذي وصفه الله عزّ وجل بقوله: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 51]. 3 - لمّا كان الإيمان باليوم الآخر فرع الإيمان بالله، ولمّا كان التدليل على وجود الله وصفاته وأسمائه هو الأساس في التدليل على اليوم الآخر، فإن المجموعة الثانية في هذا المقطع، تأتي لتعرض علينا بعض آيات الله الدالّة عليه لتبني عليها ما يعمّق الإيمان باليوم الآخر. وقبل أن نرى المجموعة الثانية من المقطع الأول فلننقل بين يدي ذلك هذا النقل: نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة الآية (19) ومدى ترابطها بالآيات اللاحقة] قال صاحب الظلال بين يدي الآية التي مرّت معنا والآيات التي ستمر في المجموعة الثانية ما يلي: (إنها جولة ضخمة هائلة، لطيفة عميقة، بعيدة الآماد والأغوار. جولة تطوّف بالقلب البشري في الأمسيات والأصباح، والسماوات والأرض، والعشي والأظهار،

تفسير المجموعة الثانية

وتفتح هذا القلب لتدبّر الحياة والموت والعمليات الدائبة في النشوء والدثور. وترتد به إلى نشأة الإنسان الأولى، وإلى ما ركب في فطرته من ميول ونوازع، وقوى وطاقات، وما يقوم بين زوجيه من علائق وروابط، وفق تلك الميول والنوازع وهذه القوى والطاقات. وتوجهه إلى آيات الله في خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان وفقا لاختلاف البيئة والمكان. وإلى تدبّر ما يعتري الكائن البشري من نوم ويقظة وراحة وكد. وإلى ما يعتري الكون من ظواهر البرق والمطر، وما تثيره في نفوس البشر من خوف وطمع، وفي بنية الأرض من حياة وازدهار. وتمضي هذه الجولة العجيبة في النهاية بالقلب البشري إلى قيام السماوات والأرض في هذا كله بأمر الله؛ وإلى توجه من في السماوات والأرض كلهم لله. وتنتهي بالحقيقة التي تتجلى حينئذ واضحة هينة يسيرة: إن الله هو يبدئ ويعيد. والإعادة أهون عليه. وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم). وهذا أوان عرض المجموعة الثانية من المقطع الأول. *** تفسير المجموعة الثانية وَمِنْ آياتِهِ الدالة على عظمته وكمال قدرته أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أنه خلق أباكم آدم من تراب، وخلقكم من تراب إذ خلقكم من غذاء، وخلق الغذاء من تراب ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي تتصرّفون فيما فيه معاشكم وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والنّساء بعدها كذلك خلقن من أصلاب الرجال، أو من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر، وذلك لما بين الجنس الواحد من الإلف والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً قال النسفي: التوادّ والتراحم بسبب الزواج، وعن الحسن: المودة كناية عن الجماع والرحمة كناية عن الولد وقيل: المودة للشابّة والرحمة للعجوز. وقيل: المودة والرحمة من الله. والفرك من الشيطان: أي بغض المرأة زوجها، وبغض الزوج المرأة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون بتفكّرهم أن قوام الدنيا بوجود التناسل، والتناسل يحتاج إلى عواطف وأنّ وجود هذا وتدبيره لا يمكن أن يكون إلا بالله وَمِنْ آياتِهِ الدالة على قدرته العظيمة خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي

[سورة الروم (30): آية 23]

اللغات، أو أجناس النطق وأشكاله وَأَلْوانِكُمْ كالسواد والبياض وغيرهما، فلاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو تشاكلت واتفقت لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطّلت المصالح، وفي ذلك آية بيّنة حيث ولدوا من أب واحد وهم مع الكثرة التي لا يعلمها إلا الله متفاوتون إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ فالعالمون يعلمون أنّ في ذلك دلالات كثيرة على الله عزّ وجل وَمِنْ آياتِهِ الدالّة على عظمته مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبّر بآذان واعية. فهؤلاء يرون في وجود الليل والنهار آيات كثيرة تدل على الله وَمِنْ آياتِهِ الدالة عليه يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً أي خائفين وطامعين وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب ماءً أي مطرا فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي الذين يستعملون عقولهم فلا يعطّلونها، فمن تفكر بعقله في موضوع البرق وإنزال المطر، رأى في ذلك آيات كثيرة تدلّه على الله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي بإقامته وتدبيره وحكمته ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ للبعث دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي من قبوركم. والمعنى: ومن آياته قيام السموات والأرض واستمساكها بغير عمد، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور اخرجوا. والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقّف، وإنّما جرى العطف على قيام السموات والأرض بكلمة (ثمّ) بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتدار الله على مثله بأن يأمر أهل القبور بالقيام فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي منقادون أو مقرون بالعبودية وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي البعث أيسر عليه عندكم، لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء، فلم أنكرتم الإعادة وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي وله الوصف الأعلى الذي ليس لغيره، وقد عرف به ووصف فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على ألسنة الخلائق، وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شئ من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القاهر لكل مقدور الْحَكِيمُ الذي يجري كل فعل على مقتضى حكمته وعلمه. نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ .. آية (22)] عند قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال صاحب الظلال: (وآية خلق السماوات والأرض كثيرا ما يشار إليها في القرآن، وكثيرا ما نمرّ

2 - كلام صاحب الظلال بمناسبة آية وله من في السماوات والأرض .. آية (26)

عليها سراعا دون أن نتوقف أمامها طويلا .. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق. إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق؛ الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات. تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات؛ وما بينها من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب؛ وتجعل كل شئ في أمرها بمقدار. ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها؛ والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها .. فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان؛ وما عرف عنه إلا أقل من القليل. ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل! هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمرّ عليها سراعا. بينما نتحدّث طويلا. وطويلا جدا. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان؛ ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة، لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبّر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء من العلماء). 2 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. آية (26)] عند قوله تعالى وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ قال صاحب الظلال: (ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين ولا عابدين. ولكن هذا التقرير إنّما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة، ولو كانوا عصاة كافرين. إنّما تعصي عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالنّاموس، مأخوذون بالسنة، يتصرّف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت).

3 - اتجاهات العلماء في تفسير كلمة أهون في الآية (27) وقول الألوسي كنموذج على ذلك

3 - [اتجاهات العلماء في تفسير كلمة أَهْوَنُ في الآية (27) وقول الألوسي كنموذج على ذلك] للعلماء في أفعل التفضيل في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أكثر من اتجاه فبعضهم يرى أنّ (أهون) هنا بمعنى (هيّن) وإذن فليست (أهون) هنا آتية للتفضيل، ومن العلماء من قال بأنّها للتفضيل، والذين ذهبوا بأنّها للتفضيل فسّروا الآية التّفسير المناسب لذلك وهذا نموذج لتفسيرهم: قال الألوسي: (و «أهون» للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شئ من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عزّ وجل سواء، فكأنه قيل: وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم). كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الثانية بالأولى وبالمحور] وهكذا دلّلت الآيات على وجود الله من خلال عرضها آياته التي تدل عليه، وعلى كمال قدرته، ثم قررت مرة ثالثة في هذا المقطع سهولة إعادة الخلق عليه. فعرّفتنا الآيات على الله وأقامت الحجة على مجئ اليوم الآخر. ولقد رأينا من خلال السياق أن موضوع اليوم الآخر مرتبط بموضوع معرفة الله عزّ وجل، وعلى هذا فلا يكون الخلل في التصورات عن اليوم الآخر إلا بسبب الخلل في معرفة الله عزّ وجل، وأعظم خلل في معرفة الله هو الشرك، لذلك كان هو العامل الأكبر في اختلال تصورات الإنسان عن اليوم الآخر. إنّ الملحد الذي أشرك بالله الطبيعة إذ خلع عليها صفات الله، يكفر باليوم الآخر. والمشرك الذي آمن بإله مزعوم يأخذ عن سدنته وكهنته تسري إليه بسبب ذلك المغالطات عن اليوم الآخر. ومن ثمّ تأتي الآن مجموعتان كل مجموعة تقيم الحجة على الشرك وأهله. والملاحظ أنّ في كلّ من المجموعتين إقامة حجة وأوامر، فكلّ من المجموعتين منته بأوامر منبثقة عن التوحيد ومن هنا نفهم أن طاعة الأمر في الإسلام أثر عن الإيمان، فالتوحيد يستتبع إيمانا بالله واليوم الآخر، والإيمان بالله واليوم الآخر يستتبع طاعة والتزاما، والملاحظ أنّ الأوامر في المجموعة القادمة تنصبّ على جوانب في الإيمان والصلاة. وأن الأوامر في المجموعة التالية تنصب على الإنفاق، وكل ذلك في سياق السورة التي تعمّق موضوع الإيمان باليوم الآخر، فسياق السورة يربط بين الإيمان باليوم الآخر، والصلاة والإنفاق،

تفسير المجموعة الثالثة

وكل ذلك منسجم مع موضوع الآيات الأولى من سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. فلنر المجموعتين الثالثة والرابعة من المقطع الأول. *** تفسير المجموعة الثالثة ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي تشهدونه وتفهمونه من أقرب شئ منكم وهي أنفسكم هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكا له في ماله، فهو وهو فيه سواء أي متساوون تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي تخافون معاشر السادة عبيدكم فيها، فلا تمضون فيها حكما دون إذنهم خوفا من لائمة تلحقكم من جهتهم، كخيفتكم أنفسكم. أي كما يخاف بعض الأحرار بعضا فيما هو مشترك بينهم، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لرب الأرباب، ومالك الأحرار والعبيد، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء. قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك. كذلك الله لا شريك له. والمعنى: إن أحدكم يأنف من ذلك، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟. قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له كما كانوا يقولون: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ... ) فنبه الله بهذا المثل على براءته تعالى، ونزاهته عن الشريك كَذلِكَ أي مثل هذا التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبيّنها لأنّ التمثيل يكشف المعاني ويوضّحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يتدبرون الأمثال. ثم قال تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بما أشركوا أَهْواءَهُمْ أي في عبادتهم الأنداد بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جاهلين فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي من أضله الله، أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ من العذاب. أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير، لأنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

نقل

نقل: قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ، تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: (ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه: جنا أو ملائكة أو أصناما أو أشجارا. وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شئ مما تحت أيديهم من مال. ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شئ من الاعتبار. فيبدو أمرهم عجبا. يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده. ويأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم. ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله. وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير. وهو يفصّل لهم هذا المثل خطوة خطوة ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ليس بعيدا عنكم، ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ؟. وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شئ من الرزق فضلا عن أن يساووهم فيه تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ. أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار، وتخشون أن يجوروا عليكم، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم، لأنهم أكفاء لكم وأنداد؟ هل يقع شئ من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص؟ وإذا لم يكن شئ من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟ وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). كلمة في السياق: رأينا أن السياق قد سار حتى استقر على إقامة الحجة على الشرك بعد أن عرّف على الله، وأقام الأدلة على أن اليوم الآخر حق، وإذا استقر هذا كله يأتي الآن التوجيه بوجوب إقامة الوجه لدين الله وحده. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق، أي فقوّم وجهك له، وعدّله غير ملتفت عنه يمينا ولا شمالا. قال النسفي: وهو تمثيل

[سورة الروم (30): آية 31]

لإقباله على الدين، واستقامته عليه، واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم بالشئ عقد عليه طرفه وسدّد إليه نظره، وقوّم له وجهه فِطْرَتَ اللَّهِ أي خلقة الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي خلقهم عليها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغيّر. والمعنى: إن إقامة الوجه للدين حنيفا، هذا هو الذي ينسجم مع الفطرة التي فطر النّاس عليها، وأنّه لا أحد يستطيع أن يبدّل خلق الله، فالفطرة البشرية منسجمة أبدا مع إقامة الدين لله حنيفا ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي المستقيم. أي التمسّك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم، أو الدين المستقيم هو الدين المتجاوب مع الفطرة البشرية المنسجم معها. وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله خلق عباده قابلين للتوحيد والإسلام، غير نائين عنه، ولا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، مساوقا للنظر الصحيح، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقيقة ذلك فأكثر الخلق جاهلون أن الفطرة البشرية لا تنسجم إلا مع إقامة الوجه للدين حنيفا. ثم أتمّ الله عزّ وجل الأمر والتوجيه بقوله: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه والمعنى: الزموا فطرة الله منيبين إليه أو فأقيموا وجوهكم للدين حنيفين منيبين إليه، لأنّ الأمر له عليه الصلاة والسلام أمر لأمّته، والأمر بالإنابة إليه في هذا السياق يوحي أن الإنابة إلى الله هي الخلق الدائم المنسجم مع الفطرة وَاتَّقُوهُ أي خافوه وراقبوه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أدوها في أوقاتها، محافظين على فرائضها وسننها وآدابها وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي ممّن يشرك به غيره في العبادة، بل كونوا من الموحّدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلّها، أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرّقوا دينهم أي بدّلوه وغيّروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال ابن كثير: وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم أي تركوه وراء ظهورهم، وهؤلاء كاليهود، والنصارى، والمجوس، وعبدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة، مما عدا أهل الإسلام كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي كل حزب منهم فرح بمذهبه مسرور يجد باطله حقا. وقد دلّت الآية على أن الشرك رأس العلل: منه يحدث تفريق الدين والتفرق، ومنه تنشأ العصبية للباطل. كلمة في السياق: الإيمان بالكتاب والإيمان باليوم الآخر، يدخلان في الإيمان بالغيب، بل رأس الإيمان

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الأول

بالغيب الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد سار سياق سورة الروم معمّقا الإيمان بالله واليوم الآخر، حتى وصل إلى الأمر بإقامة الوجه للدين حنيفا، ثم أمر بالصلاة، وها هي مجموعة أخرى تأتي، وفيها أمر بالإنفاق، ولذلك صلته بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ولكن هذا التفصيل جاء في سياق السّورة الخاص الذي ينصبّ التفصيل فيه انصبابا أوليا على الإيمان باليوم الآخر. *** تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الأول وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدّة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي يعودون إلى ذروة التوحيد: وهو الدّعاء مع الإنابة ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً أي خلاصا من الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ في العبادة لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النّعم فَتَمَتَّعُوا بكفركم وهو أمر وعيد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم، وبهذا أقام الله الحجة على المشركين من مواقفهم المتناقضة. فتارة موحدون، وتارة مشركون، يشركون في الرّخاء، ويوحّدون في الشدة، إن توحيدهم في الشدة دليل على أنهم مفتقرون إلى الله وحده، وذلك من أعظم الأدلة على وجود الفطرة البشرية، وعلى أنّها موحّدة في الأصل. وبعد أن هددهم على شركهم تابع السياق إقامة الحجة عليهم أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أي حجة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ قال ابن كثير: وهذا استفهام إنكار، أي لم يكن لهم شئ من ذلك، فكيف يشركون، ولا سلطان لهم من الله على الشرك وهم مفتقرون إلى الله وحده، ولا يدعون غيره في الأزمات، وبعد أن أقام السياق الحجة على فساد الشرك وإبطاله، تابع السياق الحديث عن طبيعة الإنسان التي لا يلائمها إلا التوحيد. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من مطر أو سعة أو صحة أو غير ذلك فَرِحُوا بِها أي بطروا بسببها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب شؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ من الرحمة. وهكذا نجد الطبيعة البشرية في حال نأيها عن الله مريضة في النّعمة والنّقمة. ومن ثمّ قال الله عزّ وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي ويضيّق. قال النسفي: أنكر عليهم بأنهم قد علموا بأنه القابض الباسط، فما لهم

كلمة في السياق

يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين عن المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته. أقول: أو فما لهم لا يتوبون ويرجعون إلى الله، ويثقون بالله في الشدة، ويشكرونه في الرخاء، والله هو القابض الباسط إِنَّ فِي ذلِكَ في البسط والقبض لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وهكذا أقامت الآيات الحجة على الشرك من خلال توحيد الإنسان لله في الشدة. ومن خلال عدم إعطاء الله سلطانا لأحد في الشرك، ومن خلال طبيعة الإنسان التي لا يواتيها إلا التوحيد، ومن خلال ظاهرتي القبض والبسط في الرزق. كلمة في السياق: من إقامة الحجة على المشركين بالتوحيد يصل السياق في الآيات الآتية إلى الأمر بالإنفاق. وقد كان الجسر الذي عبر عليه السياق من التوحيد إلى الإنفاق هو آية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فما دام الله هو الباسط القابض؛ فأنفقوا في سبيله، وما دام الله هو المنعم؛ فأنفقوا في سبيله. ... فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي اعط قريبك حقه من البرّ والصّلة وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أي اعطهما نصيبهما من الصدقة، وابن السبيل هو المسافر المحتاج إلى نفقته وما يحتاج إليه في سفره ذلِكَ إيتاء هؤلاء حقوقهم خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يقصدون بمعروفهم إياه وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الدنيا والآخرة. كلمة في السياق: جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم جاء قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ثم جاء قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وقد رأينا أن سياق سورة الروم فصّل في قضية الإيمان بالله واليوم الآخر. ثم أمر بالصلاة. ثم فصّل في التوحيد. ثم أمر بالإنفاق بعد أن علل للأمر به وختم الآية بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فهذه هي نفس الخاتمة التي ختمت بها الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة. ثم تأتي الآن آية أخيرة في المجموعة الأخيرة، وفي المقطع

[سورة الروم (30): آية 39]

كله تبيّن وضع الطرفين المتقابلين: الربا والإنفاق عند الله فالربا هو مظهر الشح والبخل والجشع، والإنفاق هو مظهر زكاة النفس وطهارتها وكرمها. ... وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي وما أعطيتم أكلة الربا من ربا ليربوا في أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه، أو ما أعطيتم من مال بالربا ليزداد في أموال الناس، فإنه لا يزداد عند الله بل الله يمحقه، ولنا عودة على الآية في الفوائد. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي تريدون بها وجهه خالصا لا تطلبون بها مكافأة ولا رياء ولا سمعة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي هم ذوو الإضعاف من الحسنات. أي فأهلها هم الذين يضاعف لهم الثواب يعطون بالحسنة عشر أمثالها إلى ما شاء الله، وبهذا انتهى المقطع الأول في السورة. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله «الذي وفّى؟» لأنه كان يقول كلّما أصبح وكلّما أمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون». وروى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون، الآية بكمالها، أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته»). 2 - [حديث حول خلق آدم عليه السلام بمناسبة آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والسهل والحزن، وبين ذلك»). 3 - [حديث بمناسبة قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ

4 - حديث عن القنوت بمناسبة آية وله من في السماوات والأرض ..

مِنْ فَضْلِهِ. قال ابن كثير: روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم أنم عيني، وأهدئ ليلي» فقلتها فذهب عني. 4 - [حديث عن القنوت بمناسبة آية وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ قال ابن كثير: وفي حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا: «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة». 5 - [كلام النسفي حول تفسيره كلمة أَهْوَنُ في آية وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ .. ] في قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ من آية وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قال النسفي: (وقال أبو عبيدة والزجاج وغيرهما: (الأهون بمعنى الهين فيوصف به الله عزّ وجل، وكان ذلك على الله يسيرا، كما قالوا الله أكبر أي كبير، والإعادة في نفسها عظيمة، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء، أو هو أهون على الخلق من الإنشاء، لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، إلى تكميل خلقهم). 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى .. ] وعند قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقال قتادة: مثله: أنه لا إله إلا هو، ولا رب غيره، وقال مثل هذا ابن جرير. فهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد غلب كل شئ، وقهر كل شئ بقدرته وسلطانه، الحكيم في أقواله وأفعاله، شرعا وقدرا، وعن مالك في تفسيره المروي عنه عن محمد بن المنكدر في قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال: «لا إله إلا الله». 7 - [كلام ابن كثير والمؤلف بمناسبة آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ] وقال ابن كثير في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ كقوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج: 65]. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال: والذي تقوم السماء والأرض بأمره، أي: هي قائمة ثابتة بأمره لها، وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدّلت الأرض غير الأرض والسموات، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى، ودعائه إياهم.

8 - كلام ابن كثير بمناسبة آية فأقم وجهك للدين حنيفا .. وتعليق المؤلف على ذلك

أقول: مراده بكلمة (ثابتة) أي وجودها ثابت وليس مراده عدم الحركة. 8 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً .. وتعليق المؤلف على ذلك] بمناسبة قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال ابن كثير: يقول تعالى: فسدّد وجهك، واستمر على الدين الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي هداك الله لها، وكمّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنّه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره كما تقدم عند قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى (الأعراف: 172) وفي الحديث: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم». وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية. وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ قال بعضهم معناه: لا تبدّلوا خلق الله؛ فتغيّروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فيكون خبرا بمعنى الطلب كقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] وهو معنى حسن صحيح، وقال آخرون هو خبر على بابه ومعناه: أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلّة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، في قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لدين الله، وقال البخاري قوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لدين الله، خلق الأوّلين: دين الأولين، الدّين والفطرة: الإسلام. وبسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء». ثم يقول: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ورواه مسلم. روى الإمام أحمد ... عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وغزوت معه فأصبت ظفرا، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذريّة». فقال رجل: يا رسول الله أما هم أبناء المشركين؟ فقال: «لا إنما خياركم أبناء المشركين» ثم قال: «لا تقتلوا ذرية لا تقتلوا ذرية». وقال: «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها». ورواه النسائي. روى الإمام أحمد ... عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة

9 - كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى ولا تكونوا من المشركين

حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبّر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا». روى الإمام أحمد ... عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم». وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس قال: أتى عليّ زمان وأنا أقول أولاد المسلمين مع المسلمين، وأولاد المشركين مع المشركين، حتى حدّثني فلان عن فلان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». قال: فلقيت الرجل فأخبرني فأمسكت عن قولي، ومنهم عياض بن حمار المجاشعي. روى الإمام أحمد ... عن عياض ابن حمار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: «إنّ ربّي عزّ وجلّ أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، ممّا علمني في يومي هذا: كل مال نحلته عبادي حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا، ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقطان، ثم إن الله أمرني أن أحرّق قريشا، فقلت: يا رب، إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفّف ذو عيال- قال- وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا، لا يبتغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخيل والكذّاب، والشنظير: الفحاش». أقول: ينبغي أن يلاحظ القارئ بدقة قوله عليه الصلاة والسلام: «وقاتل بمن أطاعك من عصاك» فإنها كلمة دلالتها كبيرة، فليتق الله مسلم أن يكون ذا ورع كاذب، أو أن يكون خارجيا، يكفّر حيث لا كفر، ويقتل حيث لا يحل. 9 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ] بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال ابن كثير: روى ابن جرير ... عن يزيد بن أبي مريم قال: مرّ عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهي الفطرة

10 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وإذا أذقنا الناس رحمة ..

فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها والصلاة وهي الملّة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. وهكذا لخّص معاذ قوام الإسلام بأنه الإخلاص. والصلاة. والطاعة. وهي كلمة جامعة فبدون إخلاص لا قبول، وبدون صلاة فلا إيمان، وبدون طاعة فلا جماعة، وبدون جماعة فلا عصمة «وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». 10 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. قال ابن كثير: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفّقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر. وقال ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] أي يفرح في نفسه، ويفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية. قال الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي صبروا في الضراء، وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح: «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له». 11 - [وجه آخر من تفسير آية وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً .. ] ذكرنا عند قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وجهين ممّا تحتمله الآية. وذكر ابن كثير: وجها آخر لم يذكره غيره. وهذا كلامه: قال: أي من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم، فهذا لا ثواب له عند الله- بهذا فسره ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والشعبي- وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة. قاله الضحاك، واستدل بقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 60] أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه؛ وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها. ثم تلا هذه الآية وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وإنما الثواب عند الله في الزكاة. ولهذا قال تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء، كما جاء في الصحيح: «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيّب إلا أخذها الرحمن بيمينه، فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه

- أو فصيله- حتى تصير التمرة أعظم من أحد». ... والآن فلننتقل إلى المقطع الثاني في السورة. وكما بدأ المقطع الأول بقوله تعالى: اللَّهُ فإن المقطع الثاني يبدأ كذلك. وكما بدأ المقطع الأول بالكلام عن قدرة الله على الخلق والإعادة فكذلك المقطع الثاني، مع زيادة معان تربط بداية المقطع بما قبلها، فلنذكر المقطع الثاني ثم نتحدث عنه. ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (40) إلى نهاية الآية (47) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتد من الآية (40) إلى نهاية الآية (47) وهذا هو: 30/ 47 - 40 التفسير: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي هو المختص بالخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والخلق والرزق والإماتة كلها مشاهدة للإنسان، وكلها مما يدرك الإنسان قدرة الله فيه. وهذا يدل الإنسان على قدرة الله على الإحياء الثاني

كلمة في السياق

يوم القيامة هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أي من معبوديكم الذي زعمتم أنهم شركاء لله مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ أي من الخلق والرزق والإماتة والإحياء مِنْ شَيْءٍ من تلك الأفعال، فلم يجيبوا عجزا، فقال تعالى استبعادا سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. قال ابن كثير: (أي تعالى، وتقدّس، وتنزّه وتعاظم، وجلّ وعزّ عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو، أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد). كلمة في السياق: هذه الآية قد لخّصت المعاني الرئيسية في السورة، من تقرير أن الله هو المبدئ والمعيد، وأنّ الخلق راجعون إليه، وأنّه هو الرزاق، وأن المشركين لا حجة لهم، وأنّ الشركاء لله منفيّون، وأنّه منزّه عن أقوال المشركين فيما ذهبوا إليه من الشّرك، وهي معان تؤكّد ما تمّ تفصيله من قبل. والآن تأتي آية تبيّن الآثار الفظيعة للشرك على الحياة البشرية، ثم تأتي آية تأمر بالاعتبار بحال المشركين السابقين، ثم تأتي آية تؤكّد الأمر بإقامة الوجه لدين الله؛ استعدادا لليوم الآخر، ثم بيّن الله حكمة اليوم الآخر، ثم تأتي آيتان يختم بهما المقطع وسنرى محلّهما من السياق. فلنر تتمة المقطع. ... ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال مجاهد: فساد البر: قتل ابن آدم، وفساد البحر: أخذ السفينة غصبا. وروى مالك عن زيد بن أسلم: أن المراد بالفساد هاهنا الشرك. قال ابن كثير: وفيه نظر. أقول: إن الفساد أثر الشرك، وهذا الذي يدلّنا عليه السياق بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب معاصيهم وشركهم لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عمّا هم عليه من المعاصي. وهكذا فهمنا من الآية أن كل فساد يقع في الأرض سببه الانحراف عن أمر الله، وسببه الشرك والكفر، وأن الفساد عذاب جعله الله ليدرك الإنسان خطأه في السير والشرك، ومن عرف عالمنا ومآسيه أدرك حاجة الإنسان إلى الإسلام. قال النسفي: (ثمّ أكّد الله عزّ وجلّ تسبيب المعاصي لغضب الله ونكاله بقوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أمرهم بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله الأمم، وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم، وبذلك استقر أن الشرك والمعاصي يترتب

[سورة الروم (30): آية 43]

عنهما فساد عريض في الحياة البشرية، وأن في ذلك عذابا للإنسان، وأن الشرك والمعاصي بهما يستحقّ الإنسان عذاب الله، ثمّ يأتي الآن أمر هو بمثابة التأكيد للأمر الذي ورد في المقطع السابق فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أي البليغ الاستقامة، الذي لا يتأتّى فيه عوج مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد، أو لا يرده هو بعد أن يجئ به، أي لا مرد له من جهته يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتصدّعون أي يتفرقون مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فعليه وبال كفره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يسوون لأنفسهم ما يسوّيه الذي يمهّد لنفسه فراشه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغّص عليه مرقده من نتوء وغيره. والمعنى أنّه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم. ثم علل الله عزّ وجل لما مرّ بقوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ أي من عطائه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ومع هذا فهو العادل الذي لا يجوز. دلّ ذلك على أن حكمة وجود يوم القيامة هو مجازاة المؤمنين العاملين في الدرجة الأولى. اللهم اجعلنا منهم. كلمة في السياق: 1 - لاحظنا أنه في المقطع السابق أقيمت الحجة على الشرك، ثم صدرت أوامر، وهاهنا أقيمت الحجة على الشرك، وذكرت آثاره السيئة في الحياة البشرية عامة، وعلى أهله خاصة، ثمّ صدرت أوامر، والملاحظ أن أمرا متشابها قد ورد في المقطعين وهو: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً إلا أن ورود الأمر في كل مرة كان في سياق. ففي المرة الأولى صدر الأمر بإقامة الوجه للدين لأن هذا هو الوضع الذي ينسجم مع الفطرة البشرية، وفي المرة الثانية صدر الأمر بإقامة الوجه للدين استعدادا لليوم الآخر. فالتوحيد يقتضي إقامة الوجه لدين الله، واليوم الآخر يقتضي إقامة الوجه لدين الله. 2 - نلاحظ أن المقطع الأول بدئ بمعان قريبة من معاني المقطع الثاني، مع زيادة في بداية المقطع الثاني لها علاقة بالرزق، وهي الصلة المباشرة التي تصل بداية المقطع الثاني بنهاية المقطع الأول. كانت بداية المقطع الأول: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وكانت بداية المقطع الثاني: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ... وما قبل بداية المقطع الثاني كانت الآيات التي تتحدث عن الرزق والإنفاق:

[سورة الروم (30): آية 46]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إلى قوله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبى .... 3 - نلاحظ أن الكلام عن التفريق الذي يحدث يوم القيامة بين الكافرين والمؤمنين قد تكرر في المقطعين، مع زيادة في المقطع الثاني. هذه الزيادة تفيد أنّ حكمة مجئ اليوم الآخر هي أن يجزي المؤمنين على إيمانهم وعملهم الصالح. وقد بقيت آيتان لكل منهما محله في السياق القريب. فلنر كلّا من الآيتين: ... وَمِنْ آياتِهِ التي تدلّ على وجوده، وكمال قدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أي يرسلها للبشارة بالغيث وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ولإذاقتكم الرحمة، وهي نزول المطر، وحصول الخصب الذي يتبعه، والروح الذي يرافق هبوب الريح وزكاء الأرض وغير ذلك وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر عند هبوبها بِأَمْرِهِ أي بتدبيره أو بتكوينه وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي بتجارة البحر والسير من إقليم لإقليم وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله فيها. ... كلمة في السياق: يلاحظ أن المقطع الأول ذكر مجموعة من الآيات كلها مبدوء بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ ... وهاهنا وجدت آية واحدة مبدوءة بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ ... فكلّ من المقطعين يدلّل على الله في سياقه. والآن فلنتساءل ما محلّ هذه الآية في السياق القريب؟ إن التدليل على وجود الله عزّ وجل، وعلى كمال قدرته، في سياق الكلام عن الله واليوم الآخر، سنّة مطردة في هذا القرآن، ولكن هذه الآية جاءت هنا بعد الأمر فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ... مما يشير إلى أنّ الآية تحقّق أكثر من غرض فكما أنها دلّلت على الله لتأكيد مجئ اليوم الآخر، فقد جاءت في سياقها لتشير إلى أنّ إقامة الوجه لدين الله يقتضيه الشكر لله على نعمه، التي منها ما تحدثت عنه الآية،

[سورة الروم (30): آية 47]

ولذلك فقد ختمت الآية بقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وهكذا نفهم من مجموع السورة: أن التوحيد يقتضي إقامة الوجه لدين الله، وأن اليوم الآخر يقتضي إقامة الوجه لدين الله، وأن الشكر لله يقتضي إقامة الوجه لدين الله. وبهذا عرفنا محل الآية في السياق القريب للسورة، ومحلها في سياق السورة العام. فلنر الآية الأخيرة في المقطع الثاني. ... وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحات، والدلائل المبصرات، فآمن قوم بهم، وكفر قوم فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي كفروا. وانتقام الله منهم كان بالإهلاك في الدنيا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ أي هو حق أوجبه الله على نفسه؛ تكرّما وتفضّلا. ومن السياق نفهم أن نصرة الله لرسله قد تكون في الانتقام من أعدائهم بإهلاكهم. ... كلمة في السياق: رأينا في مقدمة سورة الروم قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. والآن يأتي قوله تعالى: وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. فالكلام عن النصر جزء من سياق السورة التي تحدّثت عنها مقدمتها. ولكن ما محل الآية الأخيرة في السياق القريب؟ إن الآية آتية في سياق الأمر فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وهذا يفيد أن إقامة الوجه لدين الله هي الخير، وفيها النصر، لا كما يتوهمه بعض الناس، أن إقامة الوجه لدين الله تعني الخسارة، كما أنها تشير إلى أن ما ورد قبلها من آيات هي من نوع البيّنات، فهي تهديد للكافرين بعد أن وعظوا بقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ. فوائد: 1 - [حديث بمناسبة آية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ... قال ابن كثير: روى الإمام أحمد ... عن حبّة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يصلح

2 - اتجاهان في تفسير آية ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس

شيئا فأعناه فقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رءوسكما؛ فإنّ الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة، ثم يرزقه الله عزّ وجل». 2 - [اتجاهان في تفسير آية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] في قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ اتجاهان: الأول: أنّ المراد بالفساد هنا هو ما يترتب على المعاصي والشرك من آثار سيئة ثمرتها العذاب والحياة النكد. والثاني: أن المراد به نقص البركات في البر والبحر. وقد رجّحنا الأول أثناء التفسير. وقد قال ابن كثير في الآية: أي بأن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي. وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: «لحدّ يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا»، والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس، أو أكثرهم، أو كثير منهم عن تعاطى المحرمات، وإذا تركت المعاصي كان سببا في حصول البركات من السماء والأرض. ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت، من قتل الخنزير، وكسر الصليب، ووضع الجزية: وهو تركها؛ فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فإذا أهلك الله في زمانه الدّجال وأتباعه، ويأجوج ومأجوج، قيل للأرض أخرجي بركتك، فيأكل من الرمانة الفئام من الناس، ويستظلون بقحفها، ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس، وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير. ولهذا ثبت في الصحيحين «أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب». 3 - [حديث بمناسبة آية وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] بمناسبة قوله تعالى: وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن كثير: وروى ابن أبي حاتم ... عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم، يردّ عن عرض أخيه، إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة». 4 - [بعض مظاهر نصرة الله للمؤمنين] رأينا في بداية السورة مظهرا من مظاهر نصر الله وهو الغلبة العسكرية، ومن سياق قوله تعالى: وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ نفهم أن من مظاهر نصر الله الانتقام المباشر من الكافرين. ومن الحديث الذي ذكرناه في الفائدة السابقة نفهم

كلمة في المقطع الثاني وصلته بالمحور

أنّ نصرة الله للمؤمنين كائنة لا محالة، وعلى هذا فنصرة الله للمؤمنين كائنة. ولكن صورها كثيرة. فقد ينصرهم بتعذيب خصومهم، وقد ينصرهم بتسليطهم على عدوّهم. كلمة في المقطع الثاني [وصلته بالمحور]: إن المقطع الثاني أضاف تفصيلا جديدا لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. إن في تعريفنا على الله، أو في التدليل عليه، أو في وجوب إقامة الدين لوجه الله، أو في آثار الإيمان، أو فيما أعد الله للمؤمنين الصالحين. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. وكل ذلك ضمن سياق السورة الخاص. والآن يأتي مقطع جديد قصير مبدوء بكلمة اللَّهُ كبداية المقطعين السابقين وعلى نفس النّسق. ***

المقطع الثالث ويمتد من الآية (48) إلى نهاية الآية (53) وهذا هو

المقطع الثالث ويمتدّ من الآية (48) إلى نهاية الآية (53) وهذا هو: 30/ 53 - 48 التفسير: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً عن البحر وغيره فَيَبْسُطُهُ أي السحاب فِي السَّماءِ أي في سمت السماء وشقّها أي في الجوّ كَيْفَ يَشاءُ أي على الوضع الذي يريده وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا. أي يجعله منبسطا يأخذ وجه السماء مرة، ويجعله قطعا متفرّقة غير منبسطة مرة فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من ثناياه فَإِذا أَصابَ بِهِ أي بالمطر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن أصاب بلادهم وأراضيهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون أي لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم، ووصوله إليهم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي المطر مِنْ قَبْلِهِ كرّر للتأكيد. ومعنى التوكيد فيها الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول، فاستحكم يأسهم، فكان

[سورة الروم (30): آية 50]

الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك لَمُبْلِسِينَ أي آيسين فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي المطر كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات وأنواع الثمار بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ أي الله لَمُحْيِ الْمَوْتى يعني أن ذلك القادر الذي يحيي الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم. فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي وهو على كل شئ من المقدورات قادر، والبعث من جملة المقدورات بدليل الإنشاء وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ أي فرأوا أثر رحمة الله، لأن رحمة الله هي الغيث، وأثرها النبات مُصْفَرًّا أي فرأوا النبات مصفرّا بعد اخضراره، أو فرأوا السّحاب مصفرا، لأنّ السّحاب الأصفر لا يمطر لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد اصفراره يَكْفُرُونَ أي يجحدون ما نقدم إليهم من النعم. قال النسفي: (ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمته، وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، استبشروا، فإذا أرسل ريحا فضرب زروعهم بالصفار ضجوا، وكفروا بنعمة الله فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ففرحوا، وأن يصبروا على بلائه فكفروا). فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي موتى القلوب. فكأن هؤلاء في حكم الموتى، فلا تطمع أن يقبلوا منك وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي النداء إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إذا ذهبوا معرضين. قال النسفي: (فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلا أو مدبرا فما فائدة هذا التخصيص؟ قلت: هو إذا كان مقبلا يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولّى لا يسمع ولا يفهم بالإشارة) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ أي عمى القلوب عَنْ ضَلالَتِهِمْ التي هم عليها إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي القرآن فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي خاضعون منقادون مستجيبون مطيعون، فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتّبعونه. وهذا حال المؤمنين. والأول مثل الكافرين. كلمة في المقطع الثالث والسياق: [حول صلة المقاطع الثلاثة الأولى ببعضها وصلة المقطع الثالث بالمقطعين الثاني والرابع] 1 - نلاحظ أنّ الآية الأولى في المقطع الذي مرّ معنا متصلة المعنى بالآية التي قبل الأخيرة من المقطع السابق عليه. فالآية قبل الأخيرة من ذلك المقطع هي: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ

بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. ثم تأتي آية: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. ثم جاء قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ... إن الصلة بين هذه الآية وتلك واضحة. فالمعنى واحد، ولكن سيق المعنى هناك للتدليل على وجود الله، وسيق هنا للتذكير باليوم الآخر، ولكن لم وجدت الآية الوسطى بينهما؟ إنّ الآيتين تضيئان على الآية التي جاءت بينهما. فنفهم من ذلك أنّه كما أن المطر تسبقه رياح مبشرات- وقد يأتي بعد احتباس- فكذلك نصر الله يأتي بعد ترقب واحتباس. وإذ أخذ الله على اليائسين من رحمته يأسهم في موضوع المطر، فقد أعطى الله درسا للمؤمنين بألا ييأسوا من النّصر دون أن يخاطبهم بذلك مباشرة. وعلى هذا فما ذكره الله عزّ وجل في سورة البقرة حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة: 214) صراحة قد ذكّر الله به المؤمنين هنا بشكل ضمني. ومما مر نعلم أن بين بداية المقطع الثالث ونهاية المقطع الثاني صلة واضحة. 2 - كما أقام الله الحجج في المقطع الأول والثاني على مجئ اليوم الآخر. فقد أقام في المقطع الثالث الحجّة على ذلك، ثمّ إنّه بعد أن أقام الحجة على ذلك في الآيات الثلاث الأول انتقل السياق ليحدّثنا عن الطبيعة الكافرة الجحود التي لا ينفعها حجّة، ولا تنفع معها آية. وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بالموت والصّمم والعمى؛ تعزية لرسوله صلّى الله عليه وسلم وتسلية له، كما بيّن من هم الذين يستفيدون من الآيات، وهم المؤمنون بآيات الله. وهذا يذكّرنا بقوله تعالى في الآيات الأولى من سورة البقرة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (البقرة: 4). إذ تبيّن الآية الأخيرة علامة الإيمان بالآيات وهي الإسلام إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ. 3 - رأينا أن السورة في سياقها الرئيسي تتحدّث عن اليوم الآخر مباشرة أو من خلال الحديث عن الله، والإيمان بالله واليوم الآخر من أهمّ أركان الإيمان بالغيب. وقد حدّثنا المقطع الثالث عن الله، وعن اليوم الآخر، وعن الكفر والإيمان،

فوائد

وحدد طبيعة الكفر من موت وعمى وصمم وهذا يعني أن المؤمنين هم الأحياء السامعون المبصرون. ولم يبق عندنا في السورة إلا مقطع واحد هو المقطع الرابع والأخير وهو خاتمة السورة وقبل أن نذكره فلنذكر بعض فوائد المقطع الثالث. فوائد: 1 - [المعجزة القرآنية بمناسبة آية اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً .. ] إن في قوله تعالى عن الرياح اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً لمعجزة من معجزات القرآن. فلو أن إنسانا استطاع أن يرى الرياح وهي تثير ذرات البخار، ولو استطاع أن يرى ذرات البخار أول أخذ الرياح لها، لما رأى أشبه منها بذرات الغبار وهي تثيرها الرياح، فاستعمال لفظ (تثير) في هذا المقام معجزة لمن تأمّل. 2 - [أنواع الرياح والرياح التي أهلكت عادا وتعليق المؤلف على كلام ابن كثير في ذلك] بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات، والمبشّرات، والمرسلات، والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم، والصرصر- وهما في البر- والعاصف، والقاصف- وهما في البحر- فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة، وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحا للسحاب، يلقّحه بحمله الماء كما يلقّح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حرّكه بحركة العذاب، فجعله عقيما، وأودعه عذابا أليما، وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصرا، وعاتيا، ومفسدا لما يمرّ عليه، والرياح مختلفة في مهابّها: صبا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف؛ فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجففه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشدّه وتصلّبه، وأخرى توهنه وتضعفه). أقول: في هذا المقام يذكر ابن كثير حديثا حول الرياح التي أهلكت عادا، وأنها من الأرض الثانية. وقال عنه: هذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وإنما أشرنا إلى ذلك ليعلم أنّه باطل المعنى، منكر السند غريبه. 3 - [تحقيق ابن كثير حول الآية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى .. والمقصود بالموتى] عند قوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ... ذكر ابن كثير تحقيقا وسبب التحقيق أنّ الآية أرادت أنهم موتى القلوب، ولا ينفي هذا أن الموتى يسمعون من عالم الأحياء لكنّه وجد من فهم هذا النص على ظاهره فاقتضى ذلك تحقيق

ابن كثير. قال ابن كثير: (وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله: ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون». وتأوّلته عائشة على أنه قال: «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق». وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعا وتوبيخا ونقمة، والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام». وثبت عنه صلّى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا. وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي ويستبشر. فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده إلا استأنس به، ورد عليه، حتى يقوم». وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام؛ وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلّم محال. وقد علّم النبي صلّى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، فهذا السلام والخطاب والنداء، لموجود يسمع، ويخاطب، ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلّم الرد والله أعلم). ولننتقل إلى المقطع الرابع والأخير. ***

المقطع الرابع ويمتد من الآية (54) إلى نهاية الآية (60) أي إلى نهاية السورة. وهذا هو

المقطع الرابع ويمتدّ من الآية (54) إلى نهاية الآية (60) أي إلى نهاية السورة. وهذا هو: 30/ 60 - 54 التفسير: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من النطف حتى حال الشباب ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً يعني حال الشباب، وبلوغ الأشدّ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يعني حال الشيخوخة والهرم يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعف وقوّة، وشباب وشيبة وَهُوَ الْعَلِيمُ بأحوالهم الْقَدِيرُ على تغييرهم. قال النسفي: (وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع العليم القدير) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة، سمّيت بذلك لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنّها تقع بغتة يُقْسِمُ أي يحلف الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون ما لَبِثُوا أي في القبور، أو في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ استقلّوا مدّة لبثهم في القبور أو في الدنيا؛

[سورة الروم (30): آية 56]

لهول يوم القيامة، وطول مقامهم في شدائدها، أو ينسون أو يكذبون، وهو الذي يدلّ عليه السّياق. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم). كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي يصرفون، أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ قال النسفي: هم الأنبياء والملائكة والمؤمنون لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علم الله المثبت في اللوح، أو في حكم الله وقضائه إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ لا كما زعمتم من لبثكم القصير، ردّوا عليهم ما قالوه وحلفوا عليه، وأطلعوهم على الحقيقة. قال ابن كثير: (أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة، كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا). ثمّ وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وتقدير الكلام: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي أنكرتموه وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ في الدنيا لا تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه فَيَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي كفروا مَعْذِرَتُهُمْ أي اعتذارهم عمّا فعلوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يقال لهم: ارضوا ربكم بتوبة، من قولك استعتبني فلان فأعتبته، أي استرضاني فأرضيته. كلمة في السياق: 1 - إن الصلة بين الآيات التي مرّت معنا واضحة، فقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ... يشير إلى الزمن الطويل المتراخي الذي يقضيه الإنسان على الأرض، بما يكفيه للاعتبار ومع ذلك، فإنّه يوم القيامة يقسم أنه لم يعش إلا ساعة، وهذه الساعة- في زعمه- لم تكن كافية لتقوم عليه الحجّة. وقد كذب. 2 - في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ دليل على وجود الله من خلال انتقال الإنسان من حال إلى حال، كما يراه في نفسه، فهذا لا يمكن أن يكون لولا أن الله العليم القدير هو الذي يفعل ذلك، إنّ هذا تقتضيه بداهة

[سورة الروم (30): آية 58]

الفطرة التي تحسّ بقانون السببية في أعماقها. كما أن في الآية تذكيرا بعلم الله وقدرته، فعلم الله المحيط بالأشياء لا تغيب عنه ذرات الإنسان وقدرة الله الكاملة لا يعجزها أن تعيد هذا الإنسان. ومن ثمّ فبعد هذه الآية مباشرة جاء الكلام عن اليوم الآخر. فالمقطع إذن كبقية المقاطع؛ من حيث إنه حديث عن الله واليوم الآخر بل إنك لتجد تشابها كاملا بين بداية المقطع هنا وبداية المقطع الأول، لاحظ أنّه قد جاء في بداية المقطع الأول: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ... ولاحظ هنا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ .... 3 - إن الصلة بين الآيات التي مرّت معنا من المقطع الرابع، وبين ما قبلها مباشرة واضحة. فبعد أن حدثنا الله عزّ وجل عن صمم الكافرين وعماهم، وموت قلوبهم، وعظ الإنسان هذه الموعظة البليغة. فذكّره بعجزه أولا، وعجزه آخرا. وذكّره بتنقيله له من حال إلى حال. وذكّره بما سيقوله يوم القيامة، وكل ذلك ليتعظ هذا الإنسان ويتذكّر. ولذلك نجد الآية التي تأتي بعد هذا مباشرة هي قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فلنمض في التفسير: ... وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي قد بيّنا لهم الحقّ ووضّحناه لهم، وضربنا لهم من الأمثال ليستبينوا الحق ويتّبعوه وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي لو رأوا أي آية كانت- سواء كانت باقتراحهم أو غيره- لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل. قال النسفي في الآية: (أي ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم، وما يقولون، وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: جئتنا بزور وباطل). كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي مثل ذلك الطبع: وهو الختم يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال، حتى إنّهم ليسمّون الأشياء بأضدادها فيسمّون المحقّ مبطلا، والظالم عادلا، والعادل ظالما،

كلمة في السياق

فهم أعرق خلق الله في الجهالة والباطل. ... كلمة في السياق: 1 - إنّ مجئ قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بعد ما ذكر من قول الكافرين يوم القيامة فيه إشارة إلى أنّ الحجة في الدنيا قد قامت عليهم بهذا القرآن، فتراخي العمر، ومرورهم بكل طور، كان كافيا للتدبر والاعتبار، ونزول القرآن كان كافيا للإيمان، ولكن العلة فيهم. 2 - نلاحظ أن المقطع الثالث انتهى بالكلام عن موت قلوب الكافرين وعماهم وصممهم كما رأينا فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ* وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ وفي هذا المقطع تأكيد لهذا الصمم، والعمى كذلك وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ مع بيان أن هذا الختم على قلوبهم إنما كان بسبب ظلمهم ومواقفهم من أهل الإيمان، وبعد أن تبيّنت مواقف الكافرين، وثبت فسادها، وقامت عليهم الحجة، تأتي الآية الأخيرة في السورة وهي مبدوءة بقوله تعالى: فَاصْبِرْ فلنر الآية: .. فَاصْبِرْ أي على مخالفتهم وعنادهم وأذاهم وعداوتهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك على أعدائك، وإظهار دين الإسلام على كل دين، وجعله العاقبة لك، ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة حَقٌّ لا بد من إنجازه والوفاء به. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ أي لا يحملنك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفة واستعجال النصر، أو لا يحملنّك على الخفّة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون؛ فإنهم ضلّال شاكّون لا يستبعد منهم ذلك قال ابن كثير: (أي بل اثبت على ما بعثك الله به؛ فإنّه الحقّ الذي لا مرية فيه، ولا تعدل عنه، وليس فيما سواه هدى يتبع، بل الحق كله منحصر فيه).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - إن الأمر فَاصْبِرْ واضح الصلة بما قبله مباشرة، حيث جاء بعد ذكر موقف الكافرين من الآيات والقرآن، وهذا يقتضي صبرا، كما أنه واضح الصلة بكل السّورة؛ إذ السورة في كل مقام من مقاماتها تستدعي الصبر، من انتظار غلبة الروم، إلى انتظار نصر الله، إلى الصبر في إقامة الوجه لدين الله، إلى غير ذلك. 2 - إن قوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واضح الصلة بما قبله مباشرة؛ إذ ما قبله حديث عما يكون للكافرين يوم القيامة، وهو وعد للرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين. كما أنه واضح الصلة بالسورة كلها، ففي السورة قوله تعالى: وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وهو وعد. وفي السورة قوله تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ .... 3 - وقوله تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ واضح الصلة بما قبله مباشرة؛ إذ ما قبله كلام عن الذين لا يوقنون. كما أنه واضح الصلة في السورة كلها؛ إذ السورة كلها تتحدث عن الإيمان باليوم الآخر، واليقين فيه. وهكذا نجد أن الآية التي ختمت بها السورة تصل بداية السورة بوسطها بنهايتها. كما أنها شديدة الصلة بما قبلها مباشرة. كلمة في المقطع الأخير: نلاحظ أن المقطع الأخير كان جاريا على نسق المقاطع الثلاثة السابقة إن في بدايته، أو في مضمونه، مع اشتماله على خاتمة تضئ على ما قبلها من السورة كلها، وهو على صلة بمحور السورة؛ إذ هو نوع تفصيل لقضايا من الإيمان بالغيب. فقد ورد فيه كلام عن الله، وعن اليوم الآخر، وعن القرآن، وعن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وعن الملائكة، وعن القدر، وكل ذلك قد جاء ضمن نسق السياق الخاص للسورة. فلنذكر الآن بعض الفوائد التي لها علاقة بالمقطع. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير عند الآية (54) وقراءة ضُعف بالضم ودرس لمن يخلط بين القراءات] بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد

2 - العلم والإيمان مقترنان بدليل آية وقال الذين أوتوا العلم والإيمان

عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً ثم قال: قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما قرأت عليّ، فأخذ عليّ كما أخذت عليك، ورواه أبو داود والترمذي وحسّنه من حديث فضيل به، ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر عن عطية عن أبي سعيد بنحوه). هذه الرواية تفيد أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان إذا أقرأ أحدا حرفا من أحرف القرآن السبعة كان يتشدّد فيه. وإذا كانت القراءات السبع الآن هي بقية الأحرف السبعة فينبغي لقارئ القرآن أن يقرأ على قراءة من القراءات، لا أن يخلط بينها، وليس حراما، ولكنه مخالفة للسنة، إلا في مقام تعليم أو لغرض صحيح. 2 - [العلم والإيمان مقترنان بدليل آية وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ] من قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ نفهم أنه لا بد من علم، ولا بد من إيمان. فعلم بلا إيمان لا قيمة له بل هو الكفر، وإيمان بلا علم تعريض النفس للضلالة. ومن ثم فعلى المربّين أن يلاحظوا ذلك، فيسيروا بالطالب في هذا وهذا، وللأسف فقد مرّت فترات انفصل فيها السير العلمي عن السير الإيماني، فصرت تجد الشيخ الذي يسلك بالمريد طريق الإيمان دون أن يقدم له علما، أو الشيخ الذي يعلّم دون أن يربي الإيمان. وصارت المسألة وكأنها صراع بين صوفية وفقهاء، ولا كمال إلا في تصوّف صحيح محرر، وفقه مدلّل، يقيّد ذلك كله التزام كامل بنصوص الكتاب والسنة. 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... يذكر ابن كثير هذه القصة قال: (قال سعيد عن قتادة: نادى رجل من الخوارج عليا رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: 65] فأنصت له عليّ حتى فهم ما قاله، فأجابه وهو في الصلاة: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ). 4 - [كلام ابن كثير حول ما روي في فضل سورة الروم واستحباب قراءتها في الفجر] بمناسبة الكلام عن سورة الروم قال ابن كثير: (ما روي في فضل هذه السورة الشريفة واستحباب قراءتها في الفجر) روى الإمام أحمد ... عن شيبان أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم

كلمة أخيرة في سورة الروم

أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم، فلما انصرف قال: «إنّه يلبّس علينا القرآن، فإنّ أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد منكم الصلاة معنا فليحسن الوضوء». وهذا إسناد حسن ومتن حسن، وفيه سرّ عجيب. ونبأ غريب، وهو أنه صلّى الله عليه وسلم تأثّر بنقصان وضوء من ائتم به. فدلّ ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام). كلمة أخيرة في سورة الروم: إن سورة الروم، هي وسورة العنكبوت، وسورة لقمان، وسورة الم السجدة، كلها تفصّل في مقدمة سورة البقرة. وقد رأينا كيف فصّلت سورة العنكبوت لهذه المقدمة، وعرضنا سورة الروم، ورأينا كذلك كيف فصّلت في هذه المقدمة. ... وقد رأينا أنّ سورة الروم تتألف من مقدمة، وأنّ المقدمة والمقاطع الأربعة فصّلت في موضوع الإيمان بالله واليوم الآخر، وما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر، وفصّلت في مواضيع أخرى من مقدمة سورة البقرة. ... إلّا أنّ الذي أخذ الحيّز الرئيسي من السورة هو موضوع اليوم الآخر؛ إذ هو الذي انصبّ عليه السّياق الرئيسي من السورة، بل لاحظنا أنّه لارتباط موضوع الإيمان باليوم الآخر، بموضوع الإيمان بالله، جاء الكلام عن اليوم الآخر في سياق الكلام عن الله عزّ وجل. ... جاء في مقدّمة سورة البقرة قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وقد ختمت سورة الرّوم بقوله تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ فكأنها تفصّل بشكل رئيسي ذلك الجزء من المقدمة، ولكن لما كان الإيمان باليوم الآخر يقتضي الإيمان بالله، ويقتضي إقامة الوجه لدين الله، ويقتضي إقامة الصلاة، ويقتضي الإنفاق، ويقتضي الإيمان بالكتاب؛ فمن ثمّ عالجت السورة هذه المعاني في سياقها. فكما ارتبط موضوع الإيمان باليوم الآخر بما قبله في مقدمة سورة البقرة، فقد ارتبط كذلك الكلام عن هذه

القضايا في سورة الروم. ومن ثمّ قلنا إن السورة تفصيل للآيات الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 1 - 5). ... إن المعاني التي تعرّضت لها مقدمة سورة البقرة معان متداخلة مع بعضها، متواصلة فيما بينها، مترابطة في مواضيعها. ومن ثم تجد هذه السور الأربع كل سورة تفصّل من هذه المقدمة موضوعا رئيسيا، ولكنّها تتحدّث عنه رابطة إيّاه بغيره من معاني المقدّمة، ومن ثمّ تلاحظ أن كل سورة من السورة الأربع التي تؤلّف زمرة (الم) في هذا القسم تفصّل موضوعا من مواضيع المقدمة بشكل رئيسي، وتتعرض لصلة هذا الموضوع بغيره من مواضيع المقدمة بشكل ما، بحيث تغطي السور الأربع المقدمة بشكل متكامل. ... فصّلت سورة العنكبوت في موضوع أثر الإيمان بالغيب وبالكتاب بشكل رئيسي، وفصّلت سورة الروم في موضوع الإيمان باليوم الآخر بشكل رئيسي، وسنرى أن سورة لقمان ستفصّل من المقدمة موضوعا بشكل رئيسي، وسنرى أن سورة السجدة تفصّل من المقدمة موضوعا بشكل رئيسي، وكلها تضع الأساس والهدف الذي تأتي سورة الأحزاب لتفصّل في طريق السير لتحقيقه، فكما أن مقدمة سورة البقرة عرضت الأساس والهدف، وجاءت الآيات بعدها: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... لتفصّل في طريق السير لتحقيقه فكذلك هذه السور وسورة الأحزاب. ... إن مقدمة سورة البقرة عرضت لما ينبغي التحلي به، والتخلي عنه، وبعد المقدمة جاء الأمر الذي يبيّن طريق التخلي والتحلي. والسور الأربع من هذه المجموعة عرضت لما ينبغي التحلي به والتخلي عنه. وستأتي سورة الأحزاب لتدلّ على الطريق الذي ينبغي سلوكه للتحقّق والتخلّق.

سورة لقمان

سورة لقمان وهي السّورة الحادية والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثالثة من المجموعة الأولى من قسم المثاني وآياتها أربع وثلاثون آية وهي مكيّة وهي السّورة الثالثة من زمرة (الم) في قسم المثاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة لقمان

قال الألوسي في تقديمه لسورة لقمان: (أخرج ابن الضريس. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنزلت سورة لقمان بمكة، ولا استثناء في هذه الرواية. وفي رواية النحاس في تاريخه عن استثناء ثلاث آيات منها وهي وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلى تمام الثلاث فإنها نزلت بالمدينة، وذلك أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أعنيتنا أم قومك؟ قال: «كلّا عنيت» فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة، وفيها بيان كل شئ فقال عليه الصلاة والسلام: «ذلك في علم الله تعالى قليل» فأنزل الآيات. ونقل الداني عن عطاء، وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آيتين هما وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين، وقيل: هي مكية إلا آية وهي قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ فإن إيجابهما بالمدينة، وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء، كما في صحيح البخاري وغيره، فما ذكر من أن إيجابهما بالمدينة غير مسلّم، ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا، فلا يتم التقريب فيها، نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة، فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة، لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها، ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة، وقيل: إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة، وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة؛ وعليه فلا تقريب فيهما. وآيها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني، وأربع وثلاثون في عدد الباقين. وسبب نزولها على ما في البحر: أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه، وعن بر والديه فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (الروم: 58) وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة، وأنه كان في آخر ما قبلها وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ (الروم: 58) وفيها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً وقال الجلال السيوطي: ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح ب (الم) أن قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ متعلق بقوله تعالى فيما قبل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ

وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة لقمان

لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ (الروم: 56) الآية. فهذا عين إيقانهم بالآخرة، وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر، وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق. وذكر في السابقة فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وقد فسر بالسماع وذكر هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي. اه. وسيأتي- إن شاء الله تعالى- الكلام في ذلك، وأقول في الاتصال أيضا: إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (الروم: 27) وهنا قوله سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا عز قائلا: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وذكر سبحانه هناك قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (الروم: 33)، وقال عزّ وجل هنا: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك. وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم، وغلبتهم المبنيتين على المحاربة، بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرجا بذلك عن مقتضى الحكمة، فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة، وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك- على كثير من الأقوال- حكيم زاهد في الدنيا، غير مكترث بها، ولا ملتفت إليها، أوصى ابنه بما يأبى المحاربة، ويقتضي الصبر والمسالمة، وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى.). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة لقمان: (جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل؛ والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول .. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح .. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض؛ وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم؛ وتنحرف بها

كلمة في سورة لقمان ومحورها

عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجئ هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه؛ ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه؛ ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيما مع العقيدة، مستقيما مع الفطرة، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير .. ). كلمة في سورة لقمان ومحورها: إن سورة لقمان تفصّل- كزمرتها- في مقدمة سورة البقرة، حتى إن مقدمتها لتكاد تكون نفس الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة، مع تركيز خاص حول الاهتداء بكتاب الله، ومن ثمّ تحدّثنا عن الموقف المقابل والأسباب النفسية لذلك، وإذ تصف الآية الأولى هذا القرآن بالحكمة، وإذ كان في ذلك دعوة لاتّباع كتاب الله، فإنّ الكلام عن حكمة الله، وعن إيتاء الله الحكمة لخلقه، يأخذ حيّزا من السّورة، وكأنه يشير إلى أن مقتضى اتّصاف الله بالحكمة أن يكون كتابه حكيما، وإذ كان كتابه حكيما فإن ذلك يقتضي من الإنسان اتّباعه. ... وفي وسط السورة يأتي الكلام عن لقمان، وإيتائه الحكمة، ويعرض الله لنا نماذج من وصاياه الحكيمة، التي تنسجم مع موضوع السورة، ليحدثنا الله بعد ذلك عن نعمه التي تقتضي شكرا، والشكر لا يكون إلا باتّباع كتاب الله، وهكذا من خلال الكلام عن الحكمة والنّعمة، تعمّق السورة موضوع اتّباع الكتاب والشروط اللازمة لهذا الاتّباع، وقصة لقمان في الوسط تأتي لتضئ على ما قبلها وما بعدها، وتأتي لتكون نموذجا لما قبلها وما بعدها. ومن ثم فدورها كبير في السورة، ومع تعميق اتّباع الكتاب من خلال الحكمة والنعمة تختتم السورة بالكلام عن علم الله المحيط، وذلك من خلال ذكر مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وفي هذا كذلك دعوة لاتّباع كتاب الله، فإذا كان الله تعالى وحده هو الذي يعلم الغيب فهذا يعني أنّه لا أحكم منه ولا أعلم، ومن ثمّ فلا أحكم من كتابه. ... إن مقدمة سورة البقرة تتألف من عشرين آية قسم منها في المتقين، وقسم منها في الكافرين، وقسم منها في المنافقين. وكل صفة للمتقين يقابلها صفة للكافرين

أو صفة للمنافقين. ونلاحظ في هذه السور الأربع أنّها تعمّق في سياقها الرئيسي موضوعا من موضوعات الآيات الواردة في المتقين، وتتحدث خلال ذلك عما يقابل ذلك. ومن ثمّ فإن السور الأربع- وإن كانت في سياقها الرئيسي- تفصّل في الآيات الأولى لمقدمة سورة البقرة، فإنّها تفصّل- في الحقيقة- في مقدمة سورة البقرة كلها. ومن ثمّ نجد في سورة العنكبوت كلاما عن الكافرين والمنافقين، ونجد في سورة الروم كلاما عن الكافرين، ونجد في سورتي لقمان والسجدة كلاما عن الكافرين. فالتفصيل في النهاية لمقدمة سورة البقرة كلها، أي للعشرين آية الأولى من سورة البقرة. ... إنّك لتجد في سورة لقمان نموذجا كاملا على هذا الذي ذكرناه، وهو أنّ التفصيل للآيات الأولى من المقدمة تفصيل للمقدمة كلها. إذ تجد في سورة لقمان- كما في سورة البقرة- آيات في المتقين، يعقبها كلام مبدوء بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ ... * وهي نفس الكلمة التي ذكرت في بداية الكلام عن المنافقين في مقدمة سورة البقرة، فكأن الكلام عن المنافقين دمج في الكلام عن الكافرين في سورة لقمان؛ لأنّ: الكفر والنفاق شئ واحد في النهاية. ... وكما رأينا أنّه من خلال الكلام عن الله عزّ وجل قرّرت سورة الروم في سياقها موضوع اليوم الآخر، وبقية المواضيع. فإنّ سورة لقمان كذلك تقرّر مواضيعها من خلال الكلام عن الله عزّ وجل. فنقطة البداية الصحيحة إذن دائما هي المعرفة الصحيحة لله، وقبل هذه المعرفة الصحيحة فكل شئ يبقى في غير محله. وكل تصوّر يكون فيه قصور. ... كنّا ذكرنا من قبل أنّ أي سورة عند ما تفصّل في محور من سورة البقرة فإنّها تفصّل في هذا المحور، وفي امتدادات معانيه في سورة البقرة، ولقد جاء في سورة البقرة قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً (الآية: 269) وإيتاء الله الحكمة مرتبط بإيتائه الكتاب، ومرتبط بتوفيق الله للإنسان وسورة لقمان تفصّل في هذا وهذا، فقد وصف الله كتابه بالحكمة، وأعطانا نموذجا على إيتائه الحكمة لعبد من عباده وَلَقَدْ

آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ففي السورة نموذج للحكمة في الكتاب، ونموذج للحكمة عند الحكيم، وفي السّورة تعريف لنا على ماهيّة الحكمة، وفي السّورة بيان لما ينبغي أن يقابل الإنسان به نعمة الحكمة من شكر. وسنرى أثناء عرضنا للسورة مزيد بيان. ... تتألف سورة لقمان من ثلاثة مقاطع فلنبدأ عرض المقطع الأول منها.

المقطع الأول من سورة لقمان ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذا هو مع البسملة

المقطع الأول من سورة لقمان ويمتدّ من الآية (1) إلى نهاية الآية (11) وهذا هو مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 31/ 11 - 1 التفسير: الم تِلْكَ آياتُ أي هذه آيات الْكِتابِ أي القرآن الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة، وكيف لا يكون حكيما وهو كتاب الله الحكيم. فهو حكيم

[سورة لقمان (31): آية 3]

في أحكامه، وحكيم في معالجاته، وحكيم في ترتيب آياته، وحكيم في ترتيب سوره، وحكيم في ألفاظه، وحكيم في طريقة مخاطباته، وحكيم فيما تحتمله آياته من وجوه، وحكيم في مرونة ألفاظه حتى تسع الزمان والمكان، وحكيم في كونه يضع كل شئ في محله، ويجعل أهله يضعون الأشياء في مواضعها هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ فهو هاد، وهو الرحمة، ولكن لمن اتصف بصفة الإحسان، فهؤلاء يهديهم في كل شئ، فينالون رحمة الله في الدنيا والآخرة، فيخرجون من كل ظلمة وعذاب، ولا عذاب كالحيرة والشكّ، ثم وصف الله المحسنين بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ دلّ هذا على أنّه لا إحسان إلا بإقامة صلاة، وإيتاء زكاة، وإيقان بالآخرة. فإذا وجدت هذه وجد الإحسان، ووجد الاهتداء بالقرآن، فنال أصحاب ذلك رحمة الله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على بصيرة وبيّنة ومنهج واضح جليّ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في الدنيا والآخرة. كلمة في السياق: [وفي طريقة القرآن في العرض] قلنا إنّ محور سورة لقمان هو الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 1 - 5). لاحظ الصلة الكاملة بين مقدمة سورة لقمان ومقدمة سورة البقرة ثم لاحظ أنّ الفوارق تخدم قضية التفصيل فلنلاحظ: جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يقابل هذا في سورة لقمان الم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ لقد جاء وصف القرآن في سورة لقمان بأنّه حكيم، وكونه حكيما فهذا يفيد أنّه من عند الله بلا ريب. ونلاحظ أنه في سورة البقرة ورد قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ بينما في سورة لقمان قال: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ فالقرآن للمتقين هدى. ولكنه للمحسنين هدى ورحمة. وعلى هذا فمن لم يتحقق بمقام الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» لا يأخذ حظّه الكامل من رحمة الله بهذا القرآن. ونلاحظ أن: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

[سورة لقمان (31): آية 6]

بِالْغَيْبِ لم تتعرّض لها سورة لقمان؛ لأن قضية الإيمان تحدّثت عنها سورة العنكبوت، ومن قبل سورة آل عمران، ولأن إقامة الصلاة والإنفاق هما الرمز العملي على الإيمان بالغيب فكان الكلام عنهما كلاما عنه. ونلاحظ التشابه بين قوله تعالى في سورة البقرة وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وبين قوله تعالى في سورة لقمان الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ مع فارق هو أنه في سورة البقرة ذكر الإنفاق بشكل عام، وهاهنا ذكر إيتاء الزكاة، مما يدل على أن إيتاء الزكاة ركن الإنفاق. ثم نلاحظ أنه في سورة البقرة قد ورد: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إلا أنه في سورة لقمان لم يذكر هذا؛ لأن هذا الموضوع تحدثت عنه سورة العنكبوت، وسورة آل عمران. ثم نلاحظ التشابه الكامل بين قوله تعالى في سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله تعالى في خاتمة الآيات التي مرّت معنا من سورة لقمان وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إذ وردت الألفاظ نفسها. ... ولنمض في التفسير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي يشتري كلّ كلام يصدّ عن آيات الله واتّباع سبيله، والاشتراء: إمّا من الشّراء، وإمّا من الاستبدال والاختيار لِيُضِلَّ. أي ليصدّ النّاس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الدخول في الإسلام، واستماع القرآن بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جهلا منه بما عليه من الوزر بذلك وَيَتَّخِذَها هُزُواً أي ويتخذ سبيل الله هزوا، يستهزئ بها أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي مذل. فكما استهانوا بآيات الله وسبيله، فإنهم يهانون يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر وَإِذا تُتْلى أي تقرأ عَلَيْهِ أي على هذا المشتري لهو الحديث آياتُنا أي القرآن وَلَّى مُسْتَكْبِراً أي أعرض عن تدبّرها متكبّرا، رافعا نفسه عن الإصغاء إلى القرآن. قال ابن كثير: (إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولّى عنها، وأعرض وأدبر، وتصامم- وما به من صمم- كأنّه ما سمعها؛ لأنّه يتأذّى بسماعها؛ إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي ثقلا.

كلمة في السياق

أي فالسماع وعدمه في حقّه سواء فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يوم القيامة، فكما تألّم بسماع كتاب الله وآياته. فإنّه سيناله العذاب الأليم يوم القيامة. كلمة في السياق: بعد الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 6، 7). والصلة واضحة بين هاتين الآيتين وبين قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ* وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وفي آيات سورة لقمان زيادة تفصيل حول الطبيعة الكافرة، والسلوك الكافر، والتصرّف الكافر. إنّ الصلة واضحة بين سورة لقمان ومحورها، هذا مع أنّ لسورة لقمان سياقها الخاص؛ لقد بدأت سورة لقمان بوصف القرآن بأنه حكيم، ثم تحدّثت عمن يهتدي به، ثم تحدّثت عن موقف الكافرين من هذا القرآن. وتحدّثت عمّا أعدّ الله للمؤمنين وما أعد للكافرين، وكان حديثها عمّا أعدّ الله للمؤمنين بقولها وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والآن يأتي السياق ليفصّل هذا الفلاح. فلنمض في التفسير. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اجتمع لهم الإيمان والعمل الصالح من صلاة وإنفاق لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي الجنات التي يتنعّمون فيها بأنواع الملاذّ والمسارّ من المآكل، والمشارب، والملابس، والمساكن، والمراكب، والنّساء، والنّضرة، والسّماع الذي لم يخطر ببال أحد خالِدِينَ فِيها أي وهم في ذلك مقيمون دائما، لا يظعنون ولا يبغون عنها حولا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله، والله لا يخلف الميعاد؛ لأنه الكريم المنّان، الفعّال لما يشاء، القادر على كل شئ وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي قهر كل شئ ودان له كل شئ الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بعد إنذار الكافرين جاءت هاتان الآيتان لتبشّر المؤمنين وتلك سنّة من سنن هذا القرآن. 2 - من الملاحظ أن المنحى الرئيسي للسورة هو الكلام عن حكمة هذا القرآن. وقد استقرت الآيتان على الحكمة إذ ختمت بقوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ومن ثمّ نجد الآن الآيات اللاحقة تتحدث عما يبرهن على حكمة الله الذي أنزل هذا القرآن وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ... فالآيتان كانتا جسرا للعودة إلى الكلام عن الحكمة الموجودة بهذا القرآن من خلال الكلام عن حكمة الله منزّل هذا القرآن. ولنعد إلى التفسير: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال الحسن وقتادة: ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية. وعلى هذا القول فالله عزّ وجل يلفت النظر إلى إمساك السموات بقدرته. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: لها عمد لا ترونها، وعلى هذا القول فالإشارة إلى العمد غير المرئية إشارة إلى قانون الجاذبية. وعلى هذا القول أيضا فالله عزّ وجل يلفت النظر إلى إمساك السموات بقدرته؛ وذلك من مظاهر عزّته وحكمته وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثابتات أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كيلا تضطرب الأرض بكم، وهذا شئ أعطاه العلم في عصرنا معناه الواسع؛ إذ تبيّن للعلماء أنّه لولا الجبال لكانت القشرة الأرضية معرّضة للتّشققات الكثيرة، والزلازل الكثيرة، وبالتالي تتعذّر الحياة وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ قال ابن كثير: (أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها) وفي هذا والذي قبله مظاهر تدل على حكمة الله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف كَرِيمٍ أي حسن المنظر. وفي ذلك مظهر من مظاهر حكمته هذا إشارة إلى ما ذكره في الآية السابقة من مخلوقاته عزّ وجل خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد. قال النسفي: (بكّتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة ممّا خلقه الله، فأروني ما خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة) بَلِ الظَّالِمُونَ يعني المشركين بالله، العابدين معه غيره فِي ضَلالٍ أي جهل وعمى مُبِينٍ أي واضح ظاهر

كلمة في السياق

لا خفاء به. كلمة في السياق: جاءت هذه الآيات في سياق الكلام عن الحكمة، فقد جاءت بين قوله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وبين ما سيأتي من قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ومن ثمّ فهي تتحدّث عن مظاهر من حكمة الله الذي أنزل هذا القرآن، فهي تدلّل على أنّ هذا القرآن حكيم من خلال التدليل على حكمة الله منزل هذا الكتاب. وهي تؤدّي دورا آخر، فهي من خلال الكلام عن الله عزّ وجل ومظاهر قدرته وإنعامه وإحكامه تدلّل على أنه وحده واجب العبادة، وأمّا غيره فلا يستحقها، وفي ذلك تأكيد لضرورة اتباع كتابه بالتحقق بشروط الاتّباع، من إحسان، وصلاة، وزكاة، ويقين باليوم الآخر، فذلك هو الاقتضاء الفطري لمعرفة الله عزّ وجلّ، وبهذا انتهى المقطع الأول ليأتي المقطع الثاني وفيه قصة لقمان عليه السلام. فوائد: [كلام ابن كثير وصاحب الظلال والمؤلف حول آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ .. ] للمفسرين كلام كثير في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فما هو لهو الحديث؟ وما هو شراؤه؟ وما صلة ذلك في الإضلال عن سبيل الله؟ لننقل لك من كلام المفسّرين ما يتضح لك به هذا النّص. 1 - قال ابن كثير: (لما ذكر تعالى حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ الآية. [الزمر: 23] عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، بالألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: هو والله الغناء. روى ابن جرير عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله ابن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فقال عبد الله بن مسعود: الغناء والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. وعن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: وَمِنَ النَّاسِ

مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: الغناء، وكذا قال ابن عباس، وجابر، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، وعمرو بن شعيب، وعلي بن بذيمة. وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في الغناء والمزامير، وقال قتادة: قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكن شراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع. وقال الضحاك في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: يعني الشرك، وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختار ابن جرير أنه كل كلام يصدّ عن آيات الله، واتباع سبيله، وقوله تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله. وقوله تعالى: وَيَتَّخِذَها هُزُواً قال مجاهد: ويتخذ سبيل الله هزوا، يستهزئ بها، وقال قتادة: يعني ويتخذ آيات الله هزوا وقول مجاهد أولى). ... 2 - وقال صاحب الظلال: (ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان. وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معيّن في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصوّر فريقا من الناس واضح السمات، قائما في كل حين. وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ .. يشتريه بماله ويشتريه بوقته،

ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة؛ وهو سيئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس. ومن ثمّ يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ .. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم). أقول: وعلى كل حال فقد فهمنا أن للهو الحديث صلة في الإضلال عن سبيل الله سواء كان لهو الحديث غناء أو سمرا بباطل، أو سمرا بكفر، وسواء تمثّل ذلك بقصيدة، أو ديوان شعر، أو قصة، أو غير ذلك، ولا شك أن الذي يبذل جهدا أو مالا لإشاعة ذلك بقصد الإضلال أو الصدّ عن سبيل الله فإنه ممن يضل عن سبيل الله. ***

المقطع الثاني وهو قصة لقمان ويمتد من الآية (12) إلى نهاية الآية (19) وهذا هو

المقطع الثاني وهو قصة لقمان ويمتدّ من الآية (12) إلى نهاية الآية (19) وهذا هو: 31/ 19 - 12 بين يدي قصة لقمان عليه السلام: جاءت قصة لقمان عليه السلام بعد ما تقرّر أن القرآن حكيم من عند حكيم،

التفسير

ومن ثمّ تأتي القصة لتعرّفنا على أدب تلقي الحكمة من الله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وجاءت لترينا نماذج من حكمة الحكماء كنموذج على انطباق حكمة الحكماء مع ما أمر به القرآن، وكنموذج على الحكمة في هذا القرآن أصلا. وتأتي القصة لترينا أدب الحكماء في نشر الحكمة وتعميمها. وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن يجب أن يوصى به، وأن ينشر ويبلّغ. ومن ثمّ فإنّ قصّة لقمان عليه السلام التي تشكل المقطع الثاني في سورة لقمان تأتي لتخدم سياق السورة الخاص والعام من جوانب متعدّدة فلنرها: التفسير: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ وهي الإصابة في القول والعمل كما قال النسفي. وقال ابن كثير: أي الفهم والعلم والتدبير أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أمرناه أن يشكر الله عزّ وجلّ على ما آتاه الله ومنحه، ووهبه من الفضل الذي خصّصه به عمّن سواه من أبناء جنسه، وأهل زمانه وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه إليه وَمَنْ كَفَرَ أي النعمة فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ أي غير محتاج إلى الشكر حَمِيدٌ أي حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد. قال ابن كثير: (أي غني عن العباد لا يتضرّر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا؛ فإنه الغني عما سواه، فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إيّاه). كلمة في السياق: في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ إشارة إلى أنه ليس بدعا أن ينزل الله هذا القرآن الحكيم، فإن من سنّته أن يختار من يشاء فيعطيه الحكمة. وفي ذلك إشارة إلى أن من أخذ القرآن الحكيم فإنه يؤتى الحكمة كما أوتي لقمان عليه السلام. وفي قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ تصريح بأن إيتاء الله الحكمة يقتضي شكرا، وهذا يفيد أن علينا أن نقابل نعمة الله علينا بهذا القرآن الحكيم بأن نشكر الله، وأن شكر ذلك عائد نفعه إلينا، أما الله عزّ وجل فغني عن العالمين. وبعد الآية الأولى من قصة لقمان عليه السلام يعرض الله علينا وصية لقمان لابنه. وهذا يفيد أن من الشكر لنعمة إيتاء الحكمة أن يوصي الإنسان بها أولاده ويربيهم عليها. وفي ذلك درس لنا، أن علينا أن نربي أولادنا على أخذ هذا القرآن والعمل به، فذلك من جملة الشكر على النعمة،

[سورة لقمان (31): آية 13]

وإذ كان الولد هو أحب الخلق إلى الوالد فإن يوصي لقمان ابنه بما سيأتي فإن هذا يفيد أن هذه الوصايا هي ذروة الحكمة؛ إذ لا يوصي أب ابنه إلا بأغلى ما عنده: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ أي واذكر إذ قال لقمان لابنه وَهُوَ يَعِظُهُ أي في حالة وعظه له يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ قال ابن كثير: أي هو أعظم أنواع الظلم. وقال النسفي: لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه، ومن لا نعمة له أصلا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي حملته وهي تهن وهنا على وهن، أي تضعف ضعفا فوق ضعف، أي يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأن الحمل كلما ازداد أو عظم ازدادت ثقلا وضعفا وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي فطامه عن الرضاع لتمام عامين أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ هذا تفسير للوصية، أي وصيناه بشكرنا وبشكر والديه، وفصل بين الوصية ومضمونها بالتذكير بما تكابده الأم وتعانيه من المشاقّ في حمله وفصاله هذه المدّة الطويلة؛ تذكيرا بحقّها العظيم مفردا إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي مصيرك إليّ، وحياتك عليّ، فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء وَإِنْ جاهَداكَ أي إن حرصا عليك كلّ الحرص عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ما ليس له صفة الألوهية، أي وإن حرصا على أن تتابعهما على دينهما الباطل فَلا تُطِعْهُما أي فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا محسنا إليهما، ومن ثمّ قال: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً قال النسفي: (أي صحابا معروفا حسنا، بخلق جميل، وحلم واحتمال، وبر وصلة) وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ قال ابن كثير: يعني المؤمنين. وقال النسفي: (أي واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا). وقال ابن عطاء: صاحب من ترى عليه أنوار خدمتي ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجعك ومرجعهما فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما. كلمة في السياق: يلاحظ أن هاتين الآيتين جاءتا في ثنايا وصايا لقمان عليه السلام ككلام مستأنف لله عزّ وجل فما حكمة ذلك؟ قال النسفي: (وقد اعترض بهاتين الآيتين على سبيل الاستطراد تأكيدا لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك يعني: إنا وصيناه بوالديه، وأمرناه ألا يطيعهما

[سورة لقمان (31): آية 16]

في الشرك- وإن جهدا كل الجهد- لقبحه). أقول: وذكر هذه الوصية في هذا المقام إشارة إلى أن كمال الحكمة يقتضي أن تذكر الوصية بالوالدين مباشرة بعد النّهي عن الشرك. ومن ثمّ فكثيرا ما يقرن الله تعالى بين الإخلاص في العبادة والوصية بالوالدين، ولا يبعد أن يكون لقمان عليه السلام أوصى ابنه هذه الوصية من خلال نقل كلام الله عزّ وجل الموحى به على لسان الرسل السابقين، وقد عرضها على ابنه هذا العرض على لسان الوحي عن الله؛ لما في ذلك من مصلحة إذ هو الوالد فكان ذلك أبعد عن الشبهة وذلك من مظاهر حكمته وكمال أدبه والله أعلم. يا بُنَيَّ إِنَّها إن القصة أو الشأن أو المظلمة أو الخطيئة إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي إن كانت مثلا في الصغر كحبّة خردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه، كجوف صخرة في سماوات، أو في أرض، يحضرها الله يوم القيامة؛ فيحاسب بها عاملها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكنه كل خفي، أو لطيف باستخراجها، خبير بمستقرها. قال ابن كثير: (أي لطيف العلم؛ فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت. خبير بدبيب النمل في الليل البهيم). وفي هذه الوصية تربية على المراقبة التي هي أحد مقامي الإحسان. يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ أي بحدودها وفروضها وأوقاتها وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال ابن كثير: (أي بحسب طاقتك وجهدك) وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ أي من الأذى إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، أو على ما أصابك من المحن فإنّها تورث المنح، علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر إِنَّ ذلِكَ أي الصبر على أذى الناس، أو الذي وصيتك به مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي مما عزمه الله من الأمور، أي قطعه قطع إيجاب وإلزام، أي أمر به أمرا حتما. قال النسفي: وأصله من معزومات الأمور أي: مقطوعاتها ومفروضاتها. وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأمورا بها في سائر الأمم. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تتكبّر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. قال النسفي: والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعا، ولا تولّهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المتكبّرون وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء متكبّرا جبّارا عنيدا، لا تفعل ذلك يبغضك الله ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ

[سورة لقمان (31): آية 19]

لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متكبر معجب في نفسه فَخُورٍ أي على غيره بتعداد مناقبه تطاولا وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ القصد: التوسط بين الغلوّ والتقصير. أي: اعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين، لا تدبّ دبيب المتماوتين، ولا تثب وثوب الشّطار. قال ابن كثير: (أي امش مقتصدا مشيا ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلا وسطا بين بين) وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص منه، أي اخفض صوتك. قال ابن كثير: أي لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه. ولهذا قال تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أوحشها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لأن أوله زفير، وآخره شهيق كصوت أهل النار، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تنبيه على أن رفع الصوت في غاية الكراهة. قال ابن كثير في الآية: (قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير. أي غاية من رفع صوته أنه يشبّه بالحمير في علوّه ورفعه، ومع هذا فهو بغيض إلى الله تعالى. وهذا التشبيه بالحمير يقتضي تحريمه وذمّه غاية الذم؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس منّا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود في قيئه»). نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ .. ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ: (وما يبلغ تعبير مجرد عن دقّة علم الله وشموله، وعن قدرة الله سبحانه، وعن دقّة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء، العميقة الإيقاع ... حبة من خردل صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. أَوْ فِي السَّماواتِ في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. أَوْ فِي الْأَرْضِ ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ... فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تفلتها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف. ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة؛ ويتملّى علم الله الذي يتابعها. حتى يخشع القلب وينيب، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد الله إقرارها في القلب. بهذا

2 - كلام صاحب الظلال بمناسبة آية ولا تصعر خدك للناس ..

الأسلوب العجيب). 2 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ .. ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: (والصعر: داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها. والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر. حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار! والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلّة مبالاة بالناس. وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق. وهي تعبير عن شعور مريض بالذات، يتنفّس في مشية الخيلاء! إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق. والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوّته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيئ الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق!). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة وصايا لقمان عليه السلام لابنه وفصول في الخمول والتواضع، وفي الشهرة، وفي حسن الخلق، وفي ذم الكبر، وفي الاختيال] بمناسبة وصايا لقمان عليه السلام لابنه عقد ابن كثير ثلاثة فصول وبابا في الخمول والتواضع، وفي الشهرة وفي حسن الخلق، وفي ذمّ الكبر، وفي الاختيال وهذه هي: (فصل في الخمول والتواضع) وذلك متعلق بوصية لقمان عليه السلام لابنه وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابا مفردا، ونحن نذكر منه مقاصده قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، عن حفص بن عبد الله بن أنس، عن جده أنس

ابن مالك قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ربّ أشعث ذي طمرين يصفح (¬1) عن أبواب الناس إذا أقسم على الله لأبرّه» ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت وعلي بن زيد عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم فذكره وزاد «منهم البراء بن مالك» وروى أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طوبى للأتقياء الأثرياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة»، وروى أبو بكر بن سهل التميمي عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: سمعته يقول: «إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء، الذين إذا غابوا لم يفقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة». وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «ربّ ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، لو قال: اللهم إني أسالك الجنة لأعطاه الله الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا»، وروى أيضا عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من أمتي لو أتى باب أحدكم يسأله دينارا أو درهما أو فلسا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها ولم يمنعها إياه لهوانه عليه؛ ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» وهذا مرسل من هذا الوجه، وروى أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تتجلجل في صدره، لو قسّم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم». قال وأنشدني عمر ابن أبي شيبة عن ابن عائشة قال: قال عبد الله بن المبارك: ألا ربّ ذي طمرين في منزل غدا … زرابيّه مبثوثة ونمارقه قد اطردت أنواره حول قصره … وأشرق والتفت عليه حدائقه وروى أيضا عن أبي أمامة مرفوعا: «قال الله: من أغبط أوليائي عندي مؤمن ¬

_ (¬1) الطمر: الثوب البالي، ويصفح: يحال ويجنّب أن يقرب هذه الأبواب.

خفيف الحاذ (¬1)، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأعطاه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك» قال ثم نقد (¬2) رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده وقال: «عجّلت منيته، وقلّ تراثه وقلّت بواكيه». وعن عبد الله بن عمرو قال: أحب عباد الله إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرّارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم. وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أنعم عليك، ألم أعطك، ألم أسترك؟ ألم ... ألم ... ألم أجمل ذكرك، ثم قال الفضيل: إن استطعت أن لا تعرف فافعل، وما عليك أن لا يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محبوبا عند الله. وكان ابن محيريز يقول: اللهم إني أسألك ذكرا خاملا، وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني في نفسي من أوضع خلقك، وعند الناس من أوسط خلقك. [باب ما جاء في الشهرة] عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «حسب امرئ من الشر- إلا من عصم الله- أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم». وروي مثله عن إسحاق بن البهلول عن جابر بن عبد الله مرفوعا مثله، وروي عن الحسن مرسلا نحوه فقيل للحسن: فإنه يشار إليك بالأصابع، فقال: إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة، وفي دنياه بالفسق. وعن عليّ رضي الله عنه قال: لا تبدأ لأن تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر وتعلم، واكتم واصمت تسلم، تسر الأبرار، وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة، وقال أيوب: ما صدق الله عبد إلا سرّه أن لا يشعر بمكانه، وقال محمد بن العلاء: من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس، وقال سماك بن سلمة: إيّاك وكثرة الأخلّاء، وقال أبان بن عثمان: إن أحببت أن يسلم إليك دينك فأقل من المعارف. كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم. وقال: حدثنا عليّ بن الجعد أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال: رأى طلحة قوما يمشون معه فقال: ذباب طمع وفراش النار. وقال ابن إدريس عن هارون بن أبي عنترة عن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال: إنها مذلة للتابع، وفتنة للمتبوع، ¬

_ (¬1) خفيف الحاذ: قليل المال، خفيف الظهر من العيال. (¬2) نقد: أي نقر.

وقال ابن عون عن الحسن: خرج ابن مسعود فاتبعه أناس فقال: والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وقال حماد بن زيد: كنّا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم ردوا ردا شديدا، فكان ذلك نعمة. وقال عبد الرزاق عن معمر: كان أيوب يطيل قميصه فقيل له في ذلك فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص، واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فلبسهما أياما، ثم خلعهما وقال: لم أر الناس يلبسونهما، وقال إبراهيم النخعي: لا تلبس من الثياب ما يشهر في ألفتها ولا ما يزدريك السفهاء. وقال الثوري: كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم، والثياب الرديئة: التي يحتقر فيها ويستذل دينه. وحدثنا خالد بن خداش حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال: كنا عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية، فقال: إياكم وهذا الحمار النهاق. وقال الحسن رحمه الله: إن قوما جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم، فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرق (¬1) بمطرقه ما لهم تفاقدوا، وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب، البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية. (فصل في حسن الخلق) قال أبو التياح رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا. وعن عطاء عن ابن عمر قيل: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقا». وعن أنس مرفوعا: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الآخرة، وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد». وعن سيار بن هارون عن حميد عن أنس مرفوعا: «ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة». وعن عائشة مرفوعا: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار». وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تقوى الله وحسن الخلق» وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: «الأجوفان: الفم والفرج». وقال أسامة بن شريك: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءته الأعراب من كل مكان فقالوا: يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: «حسن الخلق». ¬

_ (¬1) المطرق: ثوب من خز مربّع.

وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال: ما من شئ أثقل في الميزان من خلق حسن، وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به، وعن مسروق عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «إن من خياركم أحسنكم خلقا». حدثنا عبد الله ابن أبي الدنيا عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه الأجر ويروح». عن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعا: «إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني منزلا في الجنة مساويكم أخلاقا؛ الثرثارون المتشدقون المتفيهقون». وعن جابر مرفوعا: «ألا أخبركم بأكملكم إيمانا؟ أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يؤلفون ويألفون». وعن بكر بن أبي الفرات قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما حسّن الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار». وعن عبد الله ابن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعا: «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق». وقال ميمون بن مهران: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق» وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. وعن عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق؛ إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيئ ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل». وقال عبد الله ابن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوعا: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق». وقال محمد بن سيرين: حسن الخلق عون على الدين. [فصل في ذم الكبر] قال علقمة عن ابن مسعود رفعه: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان». وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر أكبّه الله على وجهه في النار». وعن إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعا: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب». وعن أنس قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر نفسه يقول: خرج من مجرى البول مرتين. وقال الشعبي: من قتل اثنين فهو جبار ثم تلا: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ [القصص: 19]، وقال الحسن: عجبا

كلمة في السياق: حول صلة قصة لقمان بموضوع السورة الرئيسي وبالمحور

لابن آدم يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين ثم يتكبّر يعارض جبار السموات. وعن علي ابن الحسن عن الضحاك بن سفيان فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم. وقال الحسن عن يحيى عن أبي قال: إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا، وإن فرّخه (¬1) وملّحه. وقال محمد بن الحسين بن علي رضي الله عنه: ما دخل قلب رجل شئ من الكبر إلا نقص من عقله بقدر ذلك. وقال يونس بن عبيد: ليس مع السجود كبر، ولا مع التوحيد نفاق، ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته وذلك قبل أن يستخلف فطعن طاوس في جنبه بأصبعه، وقال: ليس هذا شأن من في بطنه خرء، فقال له كالمعتذر إليه: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها. قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلموا هذه المشية. [فصل في الاختيال] عن ابن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعا: «من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» ورواه عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان عن زيد ابن أسلم عن ابن عمر مرفوعا مثله. وحدثنا محمد بن بكار حدثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ إزاره، وبينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». كلمة في السياق: [حول صلة قصة لقمان بموضوع السورة الرئيسي وبالمحور] 1 - تأتي قصة لقمان عليه السلام في سياق الكلام عن القرآن الحكيم الذي هو هدى ورحمة للمحسنين، فتقص علينا نموذجا من وصايا الحكماء، وفي قصّ هذا النموذج في هذا السياق برهان على أن هذا القرآن حكيم؛ إذ يختار لنا الحكمة، وبرهان على أن هذا القرآن حكيم، إذ أوامره ونواهيه وأخباره كلها هي التي يوصي بها كل حكيم. وإذا تأملنا في الوصايا التي أوصى بها لقمان عليه السلام ابنه فإنها- زيادة على كونها نموذجا على الحكمة- أوامر ونواه تعلّم الإحسان، وإدخال الوصية بالوالدين، والأمر باتّباع سبيل المؤمنين بين هذه الأوامر والنواهي يؤكد هذا المعنى. فالآيات تعلّمنا أن ¬

_ (¬1) فرّخه وملحه: أي توبله، والمعنى: إن تكلف الإنسان في صنعة الطعام فإنه عائد إلى حالة تعافها النفس.

فوائد

للإحسان دخلا في العبادة، وفي العشرة مع الوالدين، وفي التعامل مع أهل الإيمان، وفي المراقبة، وفي الصلاة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الصبر والتواضع، وفي ترك تصعير الخد، وترك المشي المرح، وأنّ من الإحسان القصد في المشي، وغض الصوت في الكلام، وكلها آداب، وهي مظاهر من الإحسان والهداية، وهذا مظهر جديد من مظاهر صلة قصة لقمان عليه السلام بالسياق. وهناك مظهر آخر. لقد وجّهنا الله تعالى من خلال قصة لقمان عليه السلام هذه التوجيهات التي جاءت في معرض وصية الوالد للولد. وهذا مظهر من مظاهر حكمة هذا القرآن؛ إذ يوجّه عن طريق الوصف، والقصة، وبشكل مباشر، وبشكل غير مباشر، وبالأمر أحيانا، وبالعرض أحيانا، وبالإخبار أحيانا. فالقصة إذن برهان جديد على حكمة هذا القرآن. 2 - جاء في سورة البقرة قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وقد عرض الله عزّ وجل علينا في قصة لقمان نموذجا لإنسان آتاه الله الحكمة وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ فمن عرف هذه المعاني التي جاءت هنا، وتحقّق بها، وألزم نفسه النّصح بها لأولاده وللعامّة فإنّه حكيم، وإذن فقد أعطانا الله عزّ وجلّ بهذه الآيات ميزانا نزن به حكمة الحكماء، ونتعرّف بذلك على من وفّقه الله تعالى فآتاه الحكمة. فوائد: 1 - [هل كان لقمان نبيا أم عبدا صالحا من غير نبوة؟] بمناسبة ذكر لقمان عليه السلام في السورة قال ابن كثير: (اختلف السلف في لقمان عليه السلام هل كان نبيا، أم عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين الأكثرون على الثاني، وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجّارا. وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيرا أفطس الأنف من النّوبة، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، ذو مشافر، أعطاه الله الحكمة، ومنعه النّبوة، وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا

ذا مشافر، وروى ابن جرير ... عن خالد الرجعي قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة فذبحها. قال: أخرج لنا أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله. ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، فقال: أخرج لنا أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب. فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما، فقال لقمان: إنه ليس من شئ أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وقال شعبة عن الحاكم عن مجاهد: كان لقمان عبدا صالحا ولم يكن نبيا، وقال الأعمش: قال مجاهد: كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين، وقال حكّام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن مجاهد: كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا، غليظ الشفتين، مصفّح القدمين، قاضيا على بني إسرائيل، وذكر غيره أنه كان قاضيا على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام. وروى ابن جرير ... عن عمرو بن قيس قال: كان لقمان عبدا أسود غليظ الشفتين، مصفّح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم. وروى فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني، وقال ابن أبي حاتم ... عن جابر قال: إنّ الله رفع لقمان الحكيم بحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك، فقال له: ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وتركي ما لا يعنيني. فهذه الآثار منها ما هو مصرّح فيه بنفي كونه نبيا، ومنها ما هو مشعر بذلك، لأن كونه عبدا قد مسّه الرق ينافي كونه نبيا. لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها. ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة- إن صح السند إليه- فإنّه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة قال: كان لقمان نبيا وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي وهو ضعيف والله أعلم. وقال عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة قال: وقف رجل على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان أنت عبد بني الحسحاس؟ قال: نعم. قال: أنت راعي الغنم؟ قال: نعم. قال: أنت الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. قال لقمان: غضّي بصري، وكفّي لساني، وعفّة طعمتي، وحفظي فرجي، وقولي بصدقي، ووفائي

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم

بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيّرني إلى ما ترى. وروى ابن أبي حاتم ... عن أبي الدرداء أنه قال يوما وذكر لقمان الحكيم فقال: ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال، ولكنه كان رجلا صمصامة (¬1) سكّيتا طويل التفكير عميق النظر لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخّع ولا يبول ولا يتغوّط ولا يغتسل ولا يعبث ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيده إياها أحد. وكان قد تزوج وولد له أولاد، فماتوا فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي. وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه ابن أبي حاتم ... عن قتادة قال: خيّر الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النّبوة قال: فأتاه جبريل وهو نائم فذرّ عليه الحكمة- أو رشّ عليه الحكمة- وقال: فأصبح ينطق بها، وقال سعيد: فسمعت عن قتادة يقول: قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيّرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه، ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكنه خيّرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحبّ إليّ، فهذا من رواية سعيد بن بشير وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه فالله أعلم). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] بمناسبة قوله تعالى: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ قال ابن كثير: (روى البخارى ... عن عبد الله قال: لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه ليس بذاك ألا تسمع لقول لقمان: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ] بمناسبة قوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ قال ابن كثير: (كما قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه قال في الآية الأخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقّتها في سهرها ليلا ونهارا، ليذكر الولد بإحسانه المتقدم إليه كما قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما ¬

_ (¬1) صيغة مبالغة من شدة تصممه وعزمه.

4 - كلام النسفي بمناسبة آية أن اشكر لي ولوالديك ..

كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء: 24]). 4 - [كلام النسفي بمناسبة آية أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ قال النسفي: (وقد نبّه الله تعالى على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادة الله والشكر له؛ حيث فسّر إيتاء الحكمة بالحث على الشكر وقيل لا يكون الرجل حكيما حتى يكون حكيما في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته، وقال السري السقطي: الشكر أن لا تعصي الله بنعمه، وقال الجنيد: أن لا ترى معه شريكا في نعمه. وقيل هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل: أن شكر القلب المعرفة، وشكر اللسان الحمد، وشكر الأركان الطاعة، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل). 5 - [حديث بمناسبة قوله تعالى إِلَيَّ الْمَصِيرُ] بمناسبة قوله تعالى: إِلَيَّ الْمَصِيرُ روى ابن أبي حاتم ... عن سعيد ابن وهب قال: قدم علينا معاذ بن جبل وكان بعثه النبي صلّى الله عليه وسلم فقام وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إني رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليكم، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرا، وإنّ المصير إلى الله، وإلى الجنّة أو إلى النّار، وإقامة فلا ظعن، وخلود فلا موت». 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال ابن كثير: (روى الطبراني ... عن سعد بن مالك قال: أنزلت فيّ هذه الآية وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الآية. قال: كنت رجلا برّا بأمّي، فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت! لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي فيقال: يا قاتل أمّه، فقلت: لا تفعلي يا أمّه؛ فإني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوما وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما آخر وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمّه تعلمين- والله- لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشئ، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي. فأكلت). 7 - [كلام ابن كثير حول آية إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ .. وتعليق المؤلف] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ قال ابن كثير: (وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: فَتَكُنْ

8 - رواية للطبراني بمناسبة آية إن الله لا يحب كل مختال فخور

فِي صَخْرَةٍ أنها صخرة تحت الأرضين السبع. وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة إن صح ذلك، ويروى هذا عن عطية العوفي، وأبي مالك، والثوري، والمنهال بن عمرو وغيرهم. وهذا- والله أعلم- كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدّق ولا تكذّب. والظاهر- والله أعلم- أن المراد هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة فإنّ الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما روى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صمّاء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للنّاس كائنا ما كان»). أقول: إنّ مثل هذه الأقوال التي نقلها ابن كثير، والتي نراها كثيرا عند المفسرين ينبغي ألّا نتردّد في شأنها فهي تمثّل ثقافة أصحابها، وثقافة العصر التي قيلت فيه، ومن ثمّ فلا يصح أن نربط بين الخطأ فيها وبين كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وهما الحق الذي لا يخالطه باطل أو خطأ. 8 - [رواية للطبراني بمناسبة آية إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ روى الحافظ أبو القاسم الطبراني ... عن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشدّد فيه فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها، ويعجبني شراك نعلي، وعلاقة سوطي فقال: «ليس ذلك الكبر، إنما الكبر أن تسفّه الحق وتغمط الناس». 9 - [حديث بمناسبة آية إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال ابن كثير: (وروى النسائي ... عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوّذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانا»). 10 - [تعليق ابن كثير على قصة لقمان عليه السلام] علّق ابن كثير على قصة لقمان بقوله: فهذه وصايا نافعة جدا، وهي من قصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم وقد روي عنه من المواعظ أشياء كثيرة فلنذكر منها أنموذجا ودستورا إلى ذلك. روى الإمام أحمد ... عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ لقمان الحكيم كان يقول: إنّ الله إذا استودع شيئا حفظه». وروى ابن أبي حاتم ... عن القاسم ابن مخيمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: يا بني إيّاك

المقطع الثالث ويمتد من الآية (20) إلى الآية (34) وهو نهاية السورة وهذا هو

والتقنّع فإنّه مخوفة بالليل مذمّة بالنّهار». وروى أيضا عن الترمذي بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وروى أيضا عن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام يعني السلام، ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحوّل عنهم إلى غيرهم. وقال أيضا ... عن حفص بن عمر قال: وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة، حتى نفد الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطّر، قال فتفطّر ابنه. وروى أبو القاسم الطبراني ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن». وقال الطبراني: أراد الحبش. *** المقطع الثالث ويمتد من الآية (20) إلى الآية (34) وهو نهاية السورة وهذا هو: 31/ 34 - 20

31/ 23 - 34

ملاحظة في السياق: حول تقسيم المقطع الثالث إلى ثلاث مجموعات وخاتمة

ملاحظة في السياق: [حول تقسيم المقطع الثالث إلى ثلاث مجموعات وخاتمة] نلاحظ أن المقطع الأخير يتألف من ثلاث مجموعات وخاتمة. المجموعات الثلاث تبدأ بداية متشابهة. المجموعة الأولى تبدأ ب أَلَمْ تَرَوْا .... المجموعة الثانية والثالثة تبدءان ب أَلَمْ تَرَ .... الخاتمة مبدوءة ب يا أَيُّهَا النَّاسُ .... فلنر التفسير. تفسير المجموعة الأولى أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من شموس وأقمار ونجوم وغير ذلك. وَما فِي الْأَرْضِ من بحار وأنهار ومعادن ودوابّ وغير ذلك. وَأَسْبَغَ أي وأتمّ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً بالمشاهدة وَباطِنَةً مما لا يعلم إلا بدليل. وقيل الظاهرة: كالبصر والسّمع واللسان وسائر الجوارح، والباطنة: كالقلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك. وقيل: تخفيف الشرائع وتضعيف الذرائع والخلق والخلق، ونيل العطايا وصرف البلايا، وقبول الخلق ورضا الرب. وقيل: الظاهرة ما سوّى من خلقك، والباطنة ما ستر من عيوبك. وقال ابن كثير: (وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرّسل، وإنزال الكتب، وإزالة الشّبه والعلل، ثمّ مع هذا ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله أي في توحيده وإرساله الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم ولا مستند من حجّة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح). ولهذا قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ كسبي وَلا هُدىً فطري وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي مبين مضئ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لهؤلاء المجادلين في توحيد الله اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي القرآن والوحي قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي لم يكن لهم حجّة إلا اتّباع الآباء الأقدمين أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار، أي أيتبعونهم حتى في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب

[سورة لقمان (31): آية 22]

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي ومن يخلص وجهه لله بانقياده لأمره، واتباعه لشرعه، وهو محسن في عمله باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي تمسّك وتعلّق بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى قال ابن كثير: (أي فقد أخذ موثقا من الله متينا أنّه لا يعذّبه). والعروة: هي ما يعلّق به الشئ، والوثقى: تأنيث الأوثق. وفسر بعضهم الآية بأنّه من يفوّض أمره لله، ويتوكّل عليه، وهو محسن بعمله فإنه مستمسك بالعروة الوثقى. قال النسفي: (مثّل حال المتوكّل بحال من أراد أن يتدلّى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه) وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي هي صائرة إليه فيجازي عليها وَمَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه لله فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يهمنّك كفر من كفر إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي فنعاقبهم على أعمالهم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي إن الله يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا في الدنيا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي نلجئهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أي شديد فظيع صعب شاقّ على النفوس، شبّه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم إياه، باضطرار المضطر إلى الشئ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ هذا إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السموات والأرض هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر وألا يعبد معه غيره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم وإذا نبّهوا عليه لم ينتبهوا لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فالكل خلقه وملكه إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الغني عن حمد الحامدين، الحميد المستحق للحمد وإن لم يحمده أحد لَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام، وبذلك المداد كلمات الله لما نفدت كلماته، ونفدت الأقلام والمداد إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شئ حَكِيمٌ في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شئونه ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة. أي سواء في قدرته القليل والكثير، فلا يشغله شأن عن شأن إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم بَصِيرٌ بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة. فكذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة.

نقل: عن صاحب الظلال بمناسبة آية ألم تروا أن الله سخر لكم ..

نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة آية أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ .. ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً: (التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون يقطع بأنّ هذا التناسق لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة؛ وأنه لا مفر من التسليم بالإرادة الواحدة المدبّرة، التي تنسّق بين تركيب هذا الكون الهائل وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير الضئيل .. الأرض .. ! إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون. والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض، وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حيّة وغير حيّة، لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئا إلى جوارها. ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه، وتكريمه له على كثير من خلقه .. هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب. وأن يهيئ الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه، ومن ذخائره وخيراته. وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض. فوجود الإنسان ابتداء نعمة من الله وفضل؛ وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل؛ وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل؛ ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل؛ وكل نفس يتنفسه، وكل خفقة يخفقها قلبه، وكل منظر تلتقطه عينه، وكل صوت تلتقطه أذنه، وكل خاطر يهجس في ضميره، وكل فكرة يتدبرها عقله ... إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله. وقد سخّر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدى النجوم، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه. وسخّر له ما في الأرض. وهذا أظهر وأيسر ملاحظة وتدبرا. فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض، ومكّنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز. ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر. ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره؛ ومنه ما لم يعرفه أصلا من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري. وإنه لمغمور في كل لحظة

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة الأولى من المقطع بسياق السورة وبالمحور

من لحظات الليل والنهار بنعم الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها، ولا يحصي أنماطها .. ومع هذا كله فإن فريقا من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم). كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الأولى من المقطع بسياق السورة وبالمحور] 1 - إن المقطعين الأوّلين في السورة قررا حكمة هذا القرآن، وقررا ضرورة الإحسان، وكل ذلك في سياق ضرورة الاهتداء بكتاب الله، ثمّ جاءت هذه المجموعة لتبيّن كذلك ضرورة الاهتداء بكتاب الله من خلال لفت نظر الناس إلى نعم الله التي تقتضي شكرا. ففي الآية الأولى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً تقرّر وجوب الشكر، ثم جاءت الآية الثانية وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ ... لتدلّ على طريق الشكر ثمّ جاءت الآية الثالثة لتبين صورة الشكر وحقيقته وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ .... ثمّ جاءت الآية السادسة فألزمت بضرورة الشكر وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ .... ثمّ جاءت الآية الثامنة فتحدثت عن كلمات الله، وختمت الآية بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفي ذلك تأكيد لحكمة الله وإحاطة علمه وهذا يؤكد موضوع حكمة القرآن وضرورة اتباعه. وختمت المجموعة بقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ... وذلك تذكير بضرورة الاتباع لوجود الحساب، وبضرورة الشكر لوجود الحساب، وتأكيد لسعة علم الله تعالى وإحاطة قدرته، وكل ذلك يوجب الإحسان، والشكر لله، والاتباع لكتابه، واعتقاد حكمته. وهكذا نجد أن السورة قررت حكمة القرآن وضرورة اتباعه ومواصفات المتبعين، وكل ذلك ضمن سياق يخدم محور السورة. الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ....

تفسير المجموعتين الثانية والثالثة

2 - لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى في أوائل السّورة: الم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ وبين قوله تعالى في هذه المجموعة: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لتتأكد أن موضوع اتّباع الكتاب أساس في السّياق، ولننتقل إلى المجموعتين الثانية والثالثة. تفسير المجموعتين الثانية والثالثة أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل هذا في هذا، وهذا في هذا، على نظام هو غاية في الدّقة وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى يوم القيامة وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يخفى عليه الظاهر والخفي ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ أي ذلك الوصف الذي وصف به عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون. فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت الإلهية، وأن من دونه باطل الإلهية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الشأن الْكَبِيرُ السلطان. قال ابن كثير: (أي العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي هو أكبر من كل شئ فكل خاضع بالنسبة إليه). أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ أي السفينة تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي بإحسانه ورحمته. أو بالريح لأن الريح من نعم الله لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي ليريكم من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على بلائه شَكُورٍ لنعمائه وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ أي غطّاهم موج كَالظُّلَلِ أي كالجبال والغمام، والظلة: كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرها دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي موحّدين له الطاعة فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أي باق على الإيمان والإخلاص الذي كان منه ولم يعد إلى الكفر، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر يعني: أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط فالمقتصد على هذا هو المتوسّط في العمل، أو صاحب العمل القليل النادر. قال ابن كثير: (ويحتمل أن يكون مرادا هنا ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر، ثم بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام والدءوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا والحالة هذه، والله أعلم) وَما يَجْحَدُ

كلمة في السياق: حول صلة المجموعتين الثانية والثالثة ببعضهما البعض وبالمحور

بِآياتِنا أي بحقّيتها أي بالقرآن إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ أي غدّار، والختر: أقبح الغدر كَفُورٍ أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعتين الثانية والثالثة ببعضهما البعض وبالمحور] 1 - جاءت المجموعة الثانية بعد قوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ومن ثمّ فقد ذكر فيها دليلان على قدرة الله المطلقة، إن إيلاج الليل بالنهار، وتسخير الشمس والقمر، لدليلان على قدرة الله المطلقة. كما أن في ذلك دليلا على أنّ الله هو الحق بقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ. وهكذا نجد أن السّياق في السورة متعانق. 2 - والمجموعتان لفتتا النظر إلى نعم الله التي تقتضي شكرا مظهره الإيمان بكتاب الله واتباعه، ومن ثمّ ختمت الآيات بقوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ فالمجموعتان تجريان على نسق السورة في ضرورة اتباع كتاب الله بعد أن أثبت الله حكمة هذا القرآن. وهكذا نجد أنّ السورة: قرّرت حكمة هذا القرآن، وقرّرت أنّ المحسنين يهتدون به ويرحمون ثمّ وصفت المحسنين، ثم أثبتت أن هذا القرآن حكيم من خلال الكلام عن أفعال الله عزّ وجل، ومن خلال قصة لقمان، ثم سارت الآيات لتحدثنا عن نعم الله التي تقتضي إحسانا، وتقتضي شكرا أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. فإذا استقرت هذه المعاني فإنّه تأتي بعد ذلك آيتان هما خاتمة السورة تدعوان إلى الله وخشيته، وعدم الاغترار بالدنيا والشيطان، وتقرّران أنّ الله يعلم مفاتح الغيب. وبذلك تكون السورة قد فصّلت الكثير في الآيات الأولى سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ... فلنر الخاتمة.

تفسير خاتمة المقطع الثالث والسورة

تفسير خاتمة المقطع الثالث والسورة يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بالخوف منه؛ وذلك باتّباع كتابه، وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة وَاخْشَوْا يَوْماً هو يوم القيامة لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يجزي فيه، أي لا يقضي عنه شيئا وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً أي وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعد الله بالبعث والحساب والجزاء حقّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي لا تلهينّكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة فلا تلهينّكم بزينتها ولذاتها؛ فإنّ نعمتها دانية ولذاتها فانية وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان ثم ذكر تعالى أنّه وحده هو الذي يعلم مفاتح الغيب ليدلّل بذلك على أنّ وعده حق، وأن ما يغر عن وعده كاذب إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي وقت قيامها وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ في إبّانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي الفوائد كلام عن هذه الآية وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ علما كاملا أذكر أم أنثى، تامّ أم ناقص، وغير ذلك وَما تَدْرِي نَفْسٌ برة أو فاجرة ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرا، وعازمة على شر فعملت خيرا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي أين تموت فربّما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بالغيوب خَبِيرٌ بما كان ويكون. وهكذا انتهى المقطع الثالث، وانتهت بنهايته السورة وقد رأينا أنّ السورة تألفت من ثلاثة مقاطع، كل مقطع أدّى دوره في خدمة سياق السورة ضمن محورها. [نقل: عن صاحب الظلال بمناسبة خاتمة السورة] قال صاحب الظلال: (وهكذا تنتهى السورة، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد. ويئوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة، الشاملة الشاسعة، وئيد الخطى لكثرة ما طوّف، ولجسامة ما يحمل، ولطول ما تدبّر وما تفكّر، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات! وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية. فتبارك الله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين .. ).

فوائد

فوائد: 1 - [كل شئ في الأرض والسماوات مسخر للإنسان بدليل آية أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ .. (20)] قال الله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذا يفيد أنّ كل شئ في السموات والأرض مسخّر للإنسان، فالسّماوات مسخّرة للإنسان إذ يمتّع بها ناظريه، ويتعرف بها على الله عزّ وجل، ويروي من خلال التعرّف عليها ظمأه إلى المعرفة، ثمّ إنّ نظام الكون مرتبط بعضه ببعض بقوانين الجاذبية، وذلك من مظاهر تسخير السموات، وبدون الشمس والقمر تتعذّر الحياة، وذلك من مظاهر التسخير، ومن النجوم تصل إلى الأرض إشعاعات، وبالنجوم يهتدي الإنسان، وكل ذلك نوع تسخير، وفي عصرنا وصل الإنسان إلى القمر، وما ندري ماذا سيكون في المستقبل، فهل سيصل الإنسان إلى كواكب أخرى؟ وما ندري كم سيكون في ذلك من فوائد، وفي ذلك كله نوع تسخير، أما تسخير كل ما في الأرض للإنسان من بحار وتراب، وظاهر وباطن، فهو واضح بأدنى تأمّل. 2 - [إحدى معجزات القرآن في طريقة التصوير] ذكرنا في كتابنا (الرسول) في باب المعجزة القرآنية: أن من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن أنّك تجد فيه صورا لا يمكن أن تكون وليدة البيئة العربية، أو وليدة الفكر الإنساني، وضربنا على ذلك أمثلة منها قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فليراجع البحث هناك. 3 - [حول ما أثير من تساؤلات عند الآية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .. وتعليق المؤلف] يثير بعض الناس أسئلة كثيرة حول آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وسبب الأسئلة أنّ الأحاديث النّبوية تذكر أنّ هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله، فهم يرون أنّ نزول الغيث قد يعرفه الإنسان قبيل نزوله، وأن هناك إمكانيات لمعرفة ما في الأرحام في بعض شهور الحمل، وبسبب من مثل ذلك يتساءلون. أقول: إنّ توقّع نزول المطر من خلال الأعراض الجوّية لا يعتبر علما بالغيب، وقد كان العربي منذ القديم يستطيع من خلال حاسّة الشم، أو من خلال الفراسة في الغيوم أن يعرف قضية نزول المطر، وهذا كله من باب العلم بالأسباب، ولا يدخل في الآية. قال النسفي: (وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا، على أنّه مجرد الظن والظنّ غير العلم)، وعلى هذا فكون الإنسان قد عرف شيئا ممّا له علاقة بعالم الأسباب

4 - كلام ابن كثير حول ما سمي بمفاتيح الغيب الخمسة

في شأن المطر فإنه لا يكون عارفا بكل ما له علاقة بالمطر ونزوله في كل وقت وكل حال، أمّا الله عزّ وجلّ فمن الأزل يعلم كم وفي ومتى في كل عام، فالجانب الذي لا يتوصّل إليه الإنسان من خلال عالم الأسباب من هذه الظاهرة هو الجانب الغيبي، مع ملاحظة أنّ ما يصل إليه الإنسان هو أشبه بالظن، وأما إنزال المطر بواسطة إطلاق نوع من القنابل إلى الجو فهذا لا ينفي أن الله هو منزل المطر؛ لأن الأسباب كلها إنما هي بقدرة الله وإرادته وعلمه. وأما إمكانية أن يعرف الإنسان شيئا عن الجنين فهذا ليس غريبا، ولكن هذه المعرفة محدودة ضمن عالم الأسباب الذي لا يعتبر من عالم الغيب، فهذا الملك يعرف عن الجنين قبل ولادته، فمثل هذا لا ينقض العلم المطلق لله في هذا الشأن، فالله عزّ وجلّ يعلم عن الجنين قبل خلقه، ويعلم ذرات البويضات، وتشكلها، وماذا سيكون منها، ثم ما بعد ذلك وما قبله مما لا يعرف الإنسان منه شيئا، فمعرفة البشر الجزئية لا تنفي أن الله وحده هو الذي يعلم، كما أن معرفة الملك بالجنين وهو في بطن أمه لا تنفي أن الله وحده هو الذي يعلم كل شئ عن الجنين. قال ابن كثير: (وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمه الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى، أو شقيا أو سعيدا، علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه). 4 - [كلام ابن كثير حول ما سمي بمفاتيح الغيب الخمسة] قال ابن كثير في آية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... قد وردت السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب. روى الإمام أحمد ... عن أبي بريدة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «خمس لا يعلمهنّ إلا الله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجوه. وروى الإمام أحمد ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. انفرد بإخراجه البخاري فرواه في كتاب الاستسقاء في صحيحه، ورواه في التفسير من وجه آخر ... عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي

5 - حديث بمناسبة آية وما تدري نفس بأي أرض تموت

صلّى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس». ثم قرأ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ انفرد به أيضا. ورواه الإمام أحمد ... عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أوتيت مفاتيح كل شئ إلا الخمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن سلمة قال: قال عبد الله بن مسعود: أوتي نبيكم صلّى الله عليه وسلم مفاتيح كل شئ غير خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. وروى البخاري عند تفسير هذه الآية ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس، إذ أتاه رجل يمشي فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر» قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال يا رسول الله: ما الإحسان؟ قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» قال يا رسول الله: متى الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربّتها فذاك من أشراطها. وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهنّ إلا الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ الآية»، ثم انصرف الرجل فقال: «ردّوه عليّ» فأخذوا ليردّوه فلم يروا شيئا فقال: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم». ورواه البخاري أيضا في كتاب الإيمان ومسلم من طرق) ثمّ ذكر ابن كثير روايات أخرى تؤكد الموضوع نفسه. 5 - [حديث بمناسبة آية وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] وبمناسبة قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ قال ابن كثير: (وقد جاء في الحديث: «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» ثمّ ذكر روايات كثيرة لهذا الحديث. 6 - [من تحقيقات الألوسي بمناسبة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .. ] من تحقيقات الألوسي في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... هذه الفقرة: وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق،

خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول، كلّيا وجزئيا فلا ينافيه اطلاع الله تعالى بعض خواصّه على بعض المغيبات، حتى من هذه الخمس، لأنها جزئيات معدودة، وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة. انتهى. ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على استئثار الله تعالى بعلم ذلك، وبين ما يدل على خلافه كبعض إخباراته عليه الصلاة والسلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل، يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء، والمواهب اللّدنية، مما ذكر فيه معجزاته صلّى الله عليه وسلم، وإخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات، وذكر القسطلاني أنه عزّ وجل إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به، ومن شاء سبحانه من خلقه عزّ وجل، وكذا إذا أراد تبارك وتعالى خلق شخص في رحم، يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جل وعلا، كما يدل عليه ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وكّل بالرحم ملكا يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه، فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عزّ وجل» وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي استأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل، فما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم، بل هو كذلك في الواقع بلا شبهة، وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني، قال: على القاري في شرح الشفا: الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا، وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا، ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل علم النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث، وذكورة الحمل، أو أنوثته، أو نحو ذلك، ولا أرى كفر من يدّعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي، وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال: من ادّعى علم شئ من الخمس غير مسنده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه، وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، وعليه فقول القسطلاني: من ادعى علم شئ منها فقد كفر بالقرآن العظيم، ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه). أقول: كلّ ما أطلع الله عليه عباده بشكل مباشر، أو عن طريق قوانين هذا الكون وأسبابه- إذا كان قطعيا- فإنّه لا يكون ممّا استأثر بعلمه، وإذا كان ظنيا فإن ذلك

كلمة أخيرة في سورة لقمان

لا يعتبر علما، وكلّ ما أطلع الله عليه عباده لا يخرج عن كونه أجزاء بالنسبة للعلم الشامل، فالمتهوّكون في الآية مخطئون. كلمة أخيرة في سورة لقمان: رأينا أنّ سورة لقمان تألّفت من ثلاثة مقاطع واضحة المعالم قد تكاملت فيها المعاني، وممّا جاء في السورة: أن هذا القرآن حكيم؛ لأنه من عند الله الحكيم الذي من سنّته أن ينزل الحكمة على من يشاء من عباده، وأنّ هذا القرآن فيه الهدى والرحمة، وأن النّاس قسمان: مهتد وهم المحسنون، وضال وهم الجاحدون. وأن المحسنين هم الذين قابلوا نعم الله بما تستحقه فشكروها. وأن الآخرين هم الذين قابلوا نعم الله بالجحود فكفروها. وبعد أن استقرت هذه المعاني أمرت السورة النّاس جميعا أن يتقوا الله، ولا تقوى إلا بإيمان، وصلاة، وزكاة، واتّباع كتاب كما ذكرت ذلك مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة: 1 - 3). ... وجاءت قصة لقمان في وسط السّورة لتبيّن الجوانب العملية للشكر على إيتاء الحكمة، فكان ما قبلها مقدمة لها، وكان ما بعدها حثّا على تطبيق ما ورد فيها من معان لا يستقيم شكر الإنسان إلا بها. ... وقد فصّلت السورة في الآيات الأولى من سورة البقرة: فنال قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ حظا من التفصيل يظهر في تبيان أن المتقين هم المحسنون، وفي تبيان كون القرآن حكيما، وهذا ينفي أن يكون فيه ريب، وفي كون المستمسكين به مستمسكين بالعروة الوثقى. ونال قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ حظا من التفصيل وخاصة عند ما

ذكرت السورة مفاتح الغيب وأنها عند الله. ونال قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ حظا من التفصيل إذ فهم أنّ الزكاة هي المقصودة بالإنفاق، وأن الصلاة قد أوصى بها كل حكيم. ونال قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ حظا من التدليل والتفصيل في مثل قوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ... وفي مثل قوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. وهكذا نجد أنّ للسورة سياقها الخاص بها، كما أنّها مرتبطة بالسياق القرآني العام، وهكذا نجد التكامل في هذا القرآن، ونجد الوحدة. ... وفي السور الأربع المبدوءة ب (الم) من هذه المجموعة نجد التكامل واضحا، بحيث إنّ كل سورة فصّلت ضمن سياقها الخاص بها ما أكملت به عمل أخواتها، ويكفي كتدليل على هذا التكامل أن تتأمّل ما سأذكره لك الآن. أول البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وأول سورة لقمان: الم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. وأول سورة السجدة: الم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. لاحظ أنّ كلمة هُدىً الواردة في آية البقرة وردت في سورة لقمان ولم ترد في سورة السجدة، وأنّ كلمة لا رَيْبَ فِيهِ الواردة في آية البقرة وردت في أول السجدة ولم ترد في أول لقمان، وإذن فسورة السجدة تكمّل التفصيل للآية الأولى من البقرة: هذه تفصّل بشكل أخص في موضوع الاهتداء، وهذه تفصّل بشكل أخص في موضوع الريب، ومن مثل هذا ندرك صحة اتجاهنا في فهم الوحدة القرآنية، وفي فهم السياق الخاص لكل سورة، وفي فهم التكامل بين السور، والحمد لله رب العالمين.

سورة السجدة

سورة السّجدة وهي السّورة الثانية والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الرابعة من المجموعة الأولى من قسم المثاني وآياتها ثلاثون آية وهي مكيّة وهي السّورة الرابعة من زمرة (الم) في قسم المثاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

1 - قال الألوسي في تقديمه لسورة (الم السجدة)

1 - قال الألوسي في تقديمه لسورة (الم السّجدة): (وتسمى المضاجع أيضا كما في الإتقان، وفي مجمع البيان أنها كما تسمى سورة السجدة تسمى سجدة لقمان لئلا تلتبس بحم السجدة. وأطلق القول بمكّيتها، وأخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وجاء في رواية أخرى عن الحبر استثناء، وأخرج النحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ... إلى تمام الآيات الثلاث، وروي مثله عن مجاهد، والكلبي؛ واستثنى بعضهم أيضا آيتين أخريين وهما قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ... الخ، واستدل عليه ببعض الروايات في سبب النزول وستطّلع على ذلك إن شاء الله تعالى، واستبعد استثناؤهما لشدة ارتباطهما بما قبلهما. وهي تسع وعشرون آية في البصري وثلاثون في الباقية. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كلّ على دلائل الألوهية، وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول، ثم ذكر جل وعلا المعاد وهو الأصل الثاني، وختم جل شأنه به السورة، ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة، وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها: إنها شرح لمفاتح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل، فقوله تعالى: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ شرح قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ولذلك عقّب بقوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ شرح قوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وقوله تبارك وتعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ الآيات شرح قوله جل جلاله: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وقوله عزّ وجل: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها شرح قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وقوله جل وعلا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ إلى قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ شرح قوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ اه، ولا يخلو عن نظر. وجاء في فضلها أخبار كثيرة، أخرج أبو عبيد. وابن الضريس من مرسل المسيب بن رافع أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «تجئ الم تنزيل- وفي رواية- الم السجدة يوم القيامة لها جناحان تظل صاحبها وتقول: لا سبيل عليه لا سبيل عليه».

2 - وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة السجدة

وأخرج الدارمي. والترمذي. وابن مردويه عن طاوس قال: الم السجدة، وتبارك الذي بيده الملك تفضلان على كل سورة في القرآن بستين حسنة، وفي رواية عن ابن عمر تفضلان ستين درجة على غيرهما من سور القرآن. وأخرج أبو عبيد في فضائله. وأحمد. وعبد بن حميد. والدارمي. والترمذي. والنسائي. والحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر قال: «كان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك». وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من قرأ تبارك الذي بيده الملك، والم تنزيل السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر». وروى نحوه هو والثعلبي والواحدي من حديث أبي بن كعب، والثعلبي دونهم من حديث ابن عباس، وتعقب ذلك الشيخ ولي الدين قائلا: لم أقف عليه وهذه الروايات كلها موضوعة، لكن رأيت في الدر المنثور أن الخرائطي أخرج في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال: ما على الأرض رجل يقرأ الم تنزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر، قال حاتم: فذكرت ذلك لعطاء فقال: صدق طاوس، والله ما تركتهن منذ سمعت بهن إلا أن أكون مريضا، ولم أقف على ما قيل في هذا الخبر صحة وضعفا ووضعا، وفيه أخبار كثيرة في فضلها غير هذا، والله أعلم بحالها وكان عليه الصلاة والسّلام يقرؤها و (هل آتى) في صلاة فجر الجمعة وهو مشعر بفضلها، والحديث في ذلك صحيح لا مقال فيه ... ). 2 - وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة السجدة: (ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلّعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها؛ وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كل قارئ لهذا القرآن. وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحرّكه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة، وإلى الخوف والخشية مرة، وإلى التطلّع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالإطماع، وتارة بالإقناع .. ثم تدعه في النهاية.

كلمة في سورة السجدة ومحورها

تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور). كلمة في سورة السجدة ومحورها: تبدأ السورة بقوله تعالى: الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ والصلة واضحة بين هذه الآية وبين أول آية في سورة البقرة: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ثم تأتي الآية اللاحقة في سورة السجدة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. فهي تمضي على نفس النّسق تلاحق الريب والشك، ثمّ تبين حكمة إنزال القرآن، ثم تمضي السورة تحدثنا عن الله بما يزيدنا معرفة به، وفي ذلك تدليل على أنّه لا بدّ من وحي؛ ومن ثمّ فلا يستغرب أن ينزل الله هذا القرآن، ثم تحدّثنا السّورة عن سبب من أسباب كفر الكافرين بهذا القرآن وتردّه. ثم تحدّثنا عن علامة الإيمان الجازم بهذا القرآن، ثمّ تقارن بين المؤمنين والكافرين، وما أعد لهؤلاء وهؤلاء، ثم تبيّن أنّه لا أحد أظلم ممن ذكّر بآيات الله ثم أعرض عنها، ثم تذكر معاني أخرى. وهكذا تسير السورة في سياقها الرئيسي مفصّلة في موضوع أن هذا القرآن من عند الله بعرض كلّ ما يزيل الريب في ذلك. ... ومن تأمّل موضوع السورة الرئيسي أدرك أنّ سور هذه الزمرة تكمّل بعضها، فلكلّ منها موضوعه الرئيسي من مجموعة المواضيع التي تحدثت عنها مقدمة سورة البقرة، وقد عرض كل موضوع، ومحلّه من بقية المواضيع، بشكل لا ينتهي منه العجب. فسورة العنكبوت تحدّثت عن آثار الإيمان بشكل رئيسي. وسورة الروم تحدّثت عن موضوع اليوم الآخر بشكل رئيسي. وسورة لقمان تحدّثت عن الاهتداء بالقرآن بشكل رئيسي.

وتأتي سورة السجدة لتتحدث عن انتفاء الريب عن هذا القرآن بشكل رئيسي ولكن كل موضوع رئيسي عرض بكل ما يلزمه، وبكل ما يتّصل به، وكل ذلك بهذا الشكل العجيب الذي تجد الحرف والكلمة والآية والمجموعة والمقطع وكل شئ في محلّه، وذلك مظهر من مظاهر الإعجاز. ... لقد رأينا أن القرآن يتألف من أقسام. وبعض الأقسام يتألف من مجموعات. وبعض الأقسام تجد فيها زمرا. فمثلا تجد زمرة (الر). وتجد زمرة (طس). وتجد في القسم الذي نحن فيه زمرة (الم) ثم زمرة (حم) وهكذا. ... تجد القسم يكمل بعضه. وتجد مجموعات القسم تكمّل بعضها. وتجد الزمرة فيما بين ذلك كله نمط واحد. ... تجد لكل سورة سياقها الخاص، وروحها الخاصة، وتجد لكل زمرة روحها الخاصة، وتجد للمجموعة روحها الخاصة، وتجد للقسم روحه الخاصة، ثمّ إنك تجد للسورة في زمرتها روحها الخاصة، وروحها التي هي قاسم مشترك مع مجموعتها، وتجد للزمرة روحها الخاصة وروحها التي هي قاسم مشترك مع قسمها، وتجد لكل قسم روحه الخاصة به وروحه التي هي قاسم مشترك مع القرآن كله فسبحان الله منزّل هذا القرآن. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52].

مقدمة سورة السجدة وتتألف من ثلاث آيات وهذه هي مع البسملة

تتألف سورة السجدة من مقدمة وثلاث مجموعات وها نحن نبدأ بعرض المقدّمة. مقدمة سورة السجدة وتتألف من ثلاث آيات وهذه هي مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 32/ 3 - 1 التفسير: الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه معجز للبشر ومثله أبعد شئ من الريب أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلم، معناه: بل يقولون افتراه وفي ذلك إنكار لقولهم وتعجيب منهم لظهور إعجازه في عجز بلغائهم عن مثل سورة منه بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لا كما ادّعوا تعنّتا وجهلا أنّ محمّدا افتراه، ثمّ بيّن الله الحكمة في إنزاله فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً أي العرب بخاصّة ابتداء ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لعلهم يتّبعون الحق. نقل: قال صاحب الظلال مفسّرا هذه الآيات: («ألف. لام. ميم» .. هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار. كما يدرك أن

في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصرا مستكنا، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفا أن هذا قرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس. والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وأن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور .. ألف. لام. ميم .. تَنْزِيلُ الْكِتابِ- لا رَيْبَ فِيهِ- مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ... قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين .. ويعجّل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدأ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطّعة يضع المرتابين الشاكّين وجها لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه، أمام التجربة الواقعة، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع. إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلّما تفتّح القلب، وصغا الحس، وارتفع الإدراك، وارتقت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحا كلما اتسعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابا مباشرا. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب، والعقل المثقّف، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتّسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة، ما دامت الفطرة مستقيمة

لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن [غير بشري] على وجه اليقين، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ!. ولقد قالوها فيما زعموه متعنّتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلا: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ؟ .. هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال؛ فتاريخ محمد- صلّى الله عليه وسلم- فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة؛ وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلا، ولا تدع مجالا للريب والتشكك: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. الحق .. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه، واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها. الحق .. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة؛ وكأنما هو الصورة اللّفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود. الحق .. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلّية، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير. الحق .. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت. لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم. الحق .. الذي لا يتفرّق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملا؛ ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها، وكل نزعاتها وكل حاجاتها، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة، تدرك النفوس وتفسد القلوب. الحق .. الذي لا يظلم أحدا في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة، فيكفها عن الوجود والنشاط، ما دامت

كلمة في السياق

متّفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود. بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... فما هو من عندك، إنما هو من عند ربك، وهو رب العالمين كما قال في الآية السابقة؛ إنما هذه الإضافة هنا للتكريم. تكريم الرسول الذي يتّهمونه بالافتراء ... ردا على الاتهام الأثيم. وتقريرا للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي. وأمانة النقل والتبليغ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. والعرب الذين أرسل إليهم محمد- صلّى الله عليه وسلم- لم يرسل إليهم أحد قبله؛ ولا يعرف التاريخ رسولا بين إسماعيل- عليه السلام- جد العرب الأول وبين محمد- صلّى الله عليه وسلم- وقد نزّل الله عليه هذا الكتاب الحق، لينذرهم به لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب). كلمة في السياق: جاءت مقدمة السورة فقررت نفي الشك عن القرآن، وقررت أنه من عند الله، ونفت أن يكون من عند محمد صلّى الله عليه وسلم وبيّنت الحكمة في الإنزال وهو الإنذار لأمّة لم يرسل لها من قبل، مع أنّ سنّة الله ألا يبقي أمّة بلا نذير، وإذ تقرّرت هذه المعاني تأتي الآن المجموعة الأولى في السورة لتدلّل بطريقة أخرى على ما مرّ. ***

المجموعة الأولى وتمتد من الآية (4) حتى نهاية الآية (9) وهذه هي

المجموعة الأولى وتمتد من الآية (4) حتى نهاية الآية (9) وهذه هي: 32/ 9 - 4 التفسير: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فليس من خالق غيره ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء ليس كمثله شئ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا أي ناصرا ينصركم، ولا شفيعا يشفع لكم؛ إذ هو المالك لأزمّة الأمور. الخالق لكل شئ. القادر على كل شئ. فلا وليّ لخلقه سواه، ولا شفيع إلا من بعد إذنه أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي أفلا تتّعظون بمواعظ الله. قال ابن كثير: (يعني أيها العابدون غيره، المتوكّلون على من عداه تعالى وتقدّس وتنزّه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل لا إله إلا هو ولا رب سواه) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي أمر ملكوته مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى الأرضين ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي ذلك الأمر كله أي يصير إليه ليحكم فيه

[سورة السجده (32): آية 6]

فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي من أيام الدنيا. قال ابن كثير: (وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام وصعوده في مسيرة خمسمائة عام، ولكنّه يقطعها في طرفة عين) ذلِكَ أي المدبّر لهذه الأمور الموصوف بما مر عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم ما غاب عن العباد وما شاهدوه الْعَزِيزُ أي الغالب أمره الذي قد عزّ كلّ شئ فقهره وغلبه ودانت له المخلوقات الرَّحِيمُ أي البالغ لطفه وتيسيره. قال ابن كثير: (فهو عزيز في رحمته، رحيم في عزته وهذا هو الكمال، العزّة مع الرحمة والرحمة مع العزّة، فهو رحيم بلا ذل) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أحسن خلق كل شئ لأن كل شئ مرتّب على ما اقتضته الحكمة وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعني خلق أبا البشر آدم من طين ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة مِنْ ماءٍ أي منّي مَهِينٍ أي ضعيف حقير ممتهن ثُمَّ سَوَّاهُ أي قوّمه وصنعه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي وأدخل فيه من روحه كأنه قال: ونفخ فيه من الشئ الذي اختص هو به وبعلمه وهو الروح: فإضافة الروح إلى الله لتبيان اختصاصها به لا أن لله روحا هذه جزء منها تعالى الله عزّ وجل عن ذلك وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي العقول لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ بهذه القوى التي رزقكموها الله عزّ وجل. فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عزّ وجل. نقول: 1 - [كلام الألوسي بمناسبة آية فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] عند قوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال الألوسي: (وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر، فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام، وثخن السماء كذلك، كما جاء في الأخبار الصحيحة، والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه، فكأنه قيل: يريد تعالى الأمر متقنا مراعى فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدّون).

2 - كلام صاحب الظلال بمناسبة آية الذي أحسن كل شيء خلقه

أقول: إنّ مثل هذه الاتجاهات هي التي دعتني إلى القول بأن السموات السبع غيبية لأنه على تقديرات العلوم المعاصرة فالأبعاد الكونية هائلة، والسموات السبع ليست على مثل هذه الأبعاد فيما يراه الإنسان من خلال بعض النصوص، ومن خلال كلام الإسلاميين، فتعيّن عندي أن السموات السبع موجودة كما أخبرنا عنها ولكنها مغيّبة عنا. 2 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ: ( .. واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل. الحق المتمثل في أشكال الأشياء، ووظائفها. وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة. وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها. وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد. سبحانه! هذه صنعته في كل شئ. هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق. هذا كل شئ خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان؛ فلا تجاوز ولا قصور، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص، ولا إفراط ولا تفريط، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة. كل شئ مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص. ولا يتقدّم عن موعده ولا يتأخر. ولا يتجاوز مداه ولا يقصر .. كل شئ من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام. ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام. كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان .. وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث. وكلها من خلق الله. مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله. كل شئ، وكل خلق، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهّله لدوره تمام التأهيل. هذه الخلية الواحدة المجهّزة بشتى الوظائف. هذه الدودة السابحة المجهّزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون. هذه السمكة. هذا الطائر. هذه الزاحفة. هذا الحيوان. ثم هذا الإنسان .. وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت. وهذه الأفلاك والعوالم؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسّقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام .. كل شئ. كل شئ. حيثما امتد البصر متقن الصنع. بديع التكوين. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.

3 - كلام صاحب الظلال بمناسبة آية وبدأ خلق الإنسان من طين

والعين المفتوحة والحسّ المتوفز والقلب البصير، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده. والتأمل في خلق الله حيثما اتّجه النظر أو القلب أو الذهن، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال، ومن إيقاعات التناسق والكمال، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق؛ وتسكبها في القلب البشري؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن، يتملّى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب. ويتّصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي. ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة، ومن ملالة الألفة. وإلا حين يتسمّع لإيقاعات الكون من حوله، ويتطلّع إلى إيحاءاته. وإلا حين يبصر بنور الله فتتكشّف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة. وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسّه على شئ من بدائعه؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله. إن هذا الوجود جميل. وإن جماله لا ينفد. وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود. قدر ما يريد. وفق ما يريده له مبدع الوجود. وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود. فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شئ يصل إلى حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو، وفي كل خلق .. انظر .. هذه النحلة. هذه الزهرة. هذه النجمة. هذا الليل. هذا الصبح. هذه الظلال. هذه السحب. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور! إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملّاها، ونستمتع بها؛ وهو يقول: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .. فيوقظ القلب لتتّبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير .. ). 3 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ] وعند قوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ قال صاحب الظلال:

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة الأولى بالمقدمة وبالمحور

(غير أنه يحسن- بهذه المناسبة- تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة: بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متّصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان .. أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة- التي لم يكن دارون قد عرفها- تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه؛ وتحتّم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطوّر إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون. والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع- حسب نظريات الوراثة- هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام!). كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الأولى بالمقدمة وبالمحور] لقد حدّثتنا الآيات عن الله عزّ وجل أنه الخالق، وأنّه المدبّر، وأنه عالم الغيب والشهادة، وأنه الذي أحسن خلق كل شئ، وأنه خالق الإنسان، والجاعل له السمع والأبصار والأفئدة. وهذا كله يقتضي أن يدبر الله أمر عباده، وأن يرسل لهم رسولا، وأن ينزل عليهم وحيا، ومن ثمّ كان هذا القرآن. وحدثتنا الآيات عن التذكر والشكر أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ والتذكّر والشكر يحتاجان إلى مذكّر ودليل على الشكر، ومن ثمّ كان هذا القرآن. فالمجموعة بكل ما فيها- وما فيها أكثر مما ذكرناه- تؤكّد ما مر في المقدمة بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. إنها تذكر وتقرّر أنّ شأن الله عظيم، وأنّ من شأنه تعالى أن يرسل رسولا، وأن ينزل كتابا. فإذا تذكّر الإنسان هذا، ورأى خصائص هذا القرآن، عرف أنّ هذا القرآن من عند الله لا شك في ذلك ولا ريب. وإذ قرر الله في نهاية الآيات السابقة قلة شكر

الإنسان: ... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ في سياق الحديث عن ذاته جل وعلا، تأتي الآن آيات تحدّثنا عن مظهر من مظاهر انعدام الشكر وهو الكفر باليوم الآخر، الذي هو أثر عن الكفر بآيات الله. ومن ثمّ تأتي بعدها آيات تذكر علامة الإيمان بآيات الله فنعرف بذلك حال من يشك ويرتاب، وحال من لا يشك ولا يرتاب. ثم تأتي آيات تقارن بين هؤلاء وهؤلاء، وتذكر مآل هؤلاء وهؤلاء، وبذلك تدعو من خلال السياق إلى الإيمان وترك الريب، وهذا هو مضمون المجموعة الثانية في هذه السورة. ***

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (10) إلى نهاية الآية (22) وهذه هي

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (10) إلى نهاية الآية (22) وهذه هي: 32/ 22 - 10

التفسير

32/ 22 التفسير: وَقالُوا أي: الكافرون مستبعدين المعاد أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي تمزّقت أجسادنا، وتفرّقت في أجزاء الأرض، وذهبت أي: صرنا ترابا وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميّز منه كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك، وهذا إنّما هو بعيد بالنسبة إلى قدرهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم، الذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ولهذا قال تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ أي جاحدون. قال النسفي: (لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو أنّهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده) قُلْ مبيّنا لهم حقيقة ما أمامهم يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي وكّل بقبض أرواحكم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء. وهذا معنى لقاء الله، والتوفي: استيفاء النفس وهي الروح وَلَوْ تَرى يا محمد أو أيها الإنسان إِذِ الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ من الذّلّ والحياء والنّدم والخجل عِنْدَ رَبِّهِمْ أي عند حساب ربهم يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا أي صدق وعدك ووعيدك وَسَمِعْنا أي منك تصديق رسلك، أو كنّا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا، أو نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً أي نؤمن ونطيع إِنَّا مُوقِنُونَ بالبعث والحساب الآن، وقد كذبوا، فلو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. وقد علم الله ذلك منهم وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها في الدنيا أي لو شئنا أعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا، لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره وَلكِنْ حَقَّ أي وجب الْقَوْلُ مِنِّي بما علمت أنّه يكون منهم ما يستوجبون به جهنّم، وهو ما علم منهم أنّهم يختارون الردّ والتكذيب لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي من الصنفين، قرارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها. قال النسفي: (وفي تخصيص الإنس والجن إشارة إلى أنّه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ

[سورة السجده (32): آية 15]

هذا أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به، واستبعادكم وقوعه، وتناسيكم له، إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم في العذاب كالمنسي. قال ابن كثير: (أي سنعاملكم معاملة النّاسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا ولا يضل عنه شئ، بل من باب المقابلة) وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الدائم الذي لا انقطاع له بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي، أي بسبب كفركم وتكذيبكم. وبعد أن بيّن الله عزّ وجل حال الكافرين ومآلهم يذكر الآن علامة الإيمان بالقرآن مما يشير إلى أن من ذكر سابقا ليسوا مؤمنين بالقرآن. فالسياق إذن سائر على نسق واحد هو تبيان قضية نفي الريب في القرآن وتعميق الإيمان. إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا أي يصدّق بها ولا يرتاب الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا بها خَرُّوا سُجَّداً أي سجدوا لله تواضعا وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام. قال ابن كثير: أي استمعوا لها وأطاعوها قولا وفعلا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ونزّهوا الله عما لا يليق به وأثنوا عليه حامدين له وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والسجود واتّباع آيات الله والانقياد لها فهم لا يستكبرون كما يفعل الجهلة من الكفرة الفجرة، قال الألوسي: قال أبو حبان: (هذه السجدة من عزائم سجود القرآن) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع وتتنحّى عن الفرش ومضاجع النوم. قال ابن كثير: يعني بذلك قيام الليل، وترك النوم، والاضطجاع على الفرش الوطيئة. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أي داعين ربهم عابدين له خَوْفاً وَطَمَعاً أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة الله تعالى، فيجمعون بين القربات اللازمة والمندوبة فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي لا يعلم أحد ما أعدّ لهؤلاء من الكرامة ممّا تقرّ به أعينهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي جوزوا جزاء بذلك بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة. وبعد أن ذكر الله عزّ وجل علامة الإيمان بالقرآن، قارن بين المؤمنين والكافرين، وحال كلّ، ومآل كلّ، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً أي كافرا لا يَسْتَوُونَ أي من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان. قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنّه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته، متّبعا لرسله

[سورة السجده (32): آية 19]

بمن كان فاسقا أي خارجا عن طاعة ربه، مكذبا رسل الله إليه. ثمّ فصّل الله تعالى في حكمهم أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية نُزُلًا أي ضيافة وكرامة وعطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم الصالحة وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي ملجؤهم ومنزلهم النار كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ أي يقول لهم خزنة النار ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ دل هذا على أن المراد بالفاسق في السياق الكافر وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي في الدنيا من قلق واضطراب وحيرة ومحنة وعذاب أنواعه شتى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي دون عذاب الآخرة. أي نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعلهم يتوبون عن الكفر وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي لا أظلم ممن ذكّره الله بآياته، وبيّنها له ووضّحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها، وتناساها كأنه لا يعرفها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ أي سأنتقم من من فعل ذلك أشدّ الانتقام. وفي ختام المجموعة بهذه الآية دليل على أن سياق السورة الرئيسي منصبّ على موضوع الإيمان بالقرآن، ويؤكد هذا المعني أن المجموعة الثالثة والأخيرة تبتدئ بذكر إيتاء الله الكتاب لموسى، وإذ تكلمنا عن سياق المجموعة الثانية أثناء التفسير وقبله. فلنذكر المجموعة الثالثة مباشرة. ... ***

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (23) إلى نهاية الآية (30) أي إلى آخر السورة وهذه هي

المجموعة الثالثة وتمتدّ من الآية (23) إلى نهاية الآية (30) أي إلى آخر السورة وهذه هي: 32/ 30 - 23 التفسير: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة، فليس القرآن بدعا من الكتب فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْ لِقائِهِ أي من لقاء موسى الكتاب أو من لقاء موسى ليلة المعراج، أو يوم القيامة، أو لقاء موسى ربه في الآخرة، والأول أليق بسياق السورة التي تنفي أن يكون هذا القرآن فيه ريب، فكذلك كتاب موسى عليه السلام لا ريب في تلقي موسى له من رب العالمين وَجَعَلْناهُ أي وجعلنا الكتاب المنزل على موسى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ قوم موسى كما أن هذا القرآن أنزل ليكون نذيرا للعرب قوم محمد أولا وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يهدون الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه بأمر

[سورة السجده (32): آية 25]

الله لَمَّا صَبَرُوا حين صبروا وَكانُوا بِآياتِنا أي التوراة يُوقِنُونَ أي يعلمون علما لا يخالجه شك. قال ابن كثير: (قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين). وقد دلّت الآية على أنّ الإيمان بآيات الله ينبغي أن يرافقه صبر إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي هو يقضي بين الأنبياء وأممهم، أو بين المؤمنين والفاسقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيظهر المحق من المبطل. ومن ذكر هذه الآية تعرف لماذا يحتاج اليقين إلى مرافقة الصبر، وما ذلك إلا لأن اليقين يستوجب محاربة أعداء الله، وإقامة الحجة عليهم، وذلك يستدعي الأذى، وفكان لا بد من الصبر الذي باجتماعه مع اليقين تكون الإمامة والقدوة، وإذ اتضح من السياق أنّ الفاسقين هم خصماء أئمة الدين أهل الصبر واليقين فإن السياق يتجه لإقامة الحجة عليهم: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ كعاد وثمود وقوم لوط يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرّون على ديارهم وبلادهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي لعلامات واضحات هاديات أَفَلا يَسْمَعُونَ المواعظ فيتعظوا، دلّت الآية على أنّ مجرّد الاعتبار بما جرى للسابقين كاف للهداية لمن كان له سمع أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ أي نجري المطر والأنهار إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي الأرض التي جرز نباتها أي قطع؛ إمّا لعدم الماء، أو لأنّه رعي فَنُخْرِجُ بِهِ أي بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي من الزرع أَنْعامُهُمْ من عصفه وَأَنْفُسُهُمْ من حبّه أَفَلا يُبْصِرُونَ بأعينهم فيستدلوا على الله عزّ وجلّ وعلى إحيائه الموتى فيؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، لكنّهم لصممهم وعماهم لا يؤمنون، ويسألون متعنّتين وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي النصر أو الفصل بالحكومة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّه كائن، يقولون هذا استعجالا واستبعادا وتكذيبا وعنادا قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لمّا كان غرضهم من السؤال عن وقت الفتح الاستعجال على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزءوا، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلا ينفعكم الإيمان، أو استنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا. ثم تختم السورة بآية تحدّد كيف ينبغي أن يكون موقف أهل الإيمان من أهل الكفر:

كلمة في السياق: حول صلة السورة بمحورها من سورة البقرة

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي فتول عن هؤلاء الكافرين وبلّغ ما أنزل إليك من ربك وَانْتَظِرْ النصرة وهلاكهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليكم وهلاككم وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك، وسيجدون غبّ ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك. وبهذا انتهت السورة. كلمة في السياق: [حول صلة السورة بمحورها من سورة البقرة] لاحظنا بشكل عام صلة السّورة بقوله تعالى من مقدّمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. ومن المناسب أن نتذكّر أن مقدّمة سورة البقرة وصفت الكافرين بأنّهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى هنا: أَفَلا يَسْمَعُونَ أَفَلا يُبْصِرُونَ. ولنا عودة على السياق فلننقل الآن ما يتيسر نقله من الفوائد: فوائد: 1 - [مناقشة لقضية هامة جدا مأخوذة من آية اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ .. ] هناك قضية مهمّة جدا تذكر بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إذ إن أهل الكتاب يفصّلون في أمر هذه الستة أيام. أن يوم الأحد كان كذا، ويوم الاثنين كان كذا. ويقولون- تعالى الله عن قولهم- إن الله استراح يوم السبت. وهذا القول وحده دليل على فساد ما قبله. وقد سرى بعض تفصيلهم إلى المسلمين، ونقله بعضهم على أنه حديث صحيح. والأمر ليس كذلك. وقد ذكر هذا الموضوع ابن كثير في سورة البقرة، ونبهنا عليه هناك، وأعاده هنا فلننبه إلى ذلك. قال ابن كثير: (وقد أورد النسائي هاهنا حديثا عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال: «إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش في اليوم السابع، فخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر، وخلقه من أديم الأرض أحمرها وأسودها، وطيبها وخبيثها؛ من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث» هكذا أورد هذا الحديث إسنادا ومتنا، وقد

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية قل يتوفاكم ملك الموت ..

أخرج مسلم والنسائي أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق، وقد علّله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال: وقال بعضهم أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصحّ، وكذا علّله غير واحد من الحفّاظ والله أعلم. 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ قال ابن كثير: (الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معيّن من الملائكة كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة إبراهيم عليه السلام، وقد سمّي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور، قاله قتادة وغير واحد، وله أعوان. وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت، قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت مثل الطست، يتناول منها متى يشاء. ورواه زهير بن محمد عن النبي صلّى الله عليه وسلم بنحوه مرسلا. وقاله ابن عباس رضي الله عنهما، وروى ابن أبي حاتم ... عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا ملك الموت أرفق بصاحبي فإنه مؤمن» فقال ملك الموت: يا محمد طب نفسا وقرّ عينا فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم أن ما في الأرض بيت مدر ولا شعر، في بر وبحر إلا وأنا أتصفّحهم في كل يوم خمس مرات، حتى أني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها. قال جعفر: بلغني أنّه إنّما يتصفّحهم عند مواقيت الصلاة، فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك، ودفع عنه الشيطان، ولقّنه الملك لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحال العظيمة). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ... قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد ... عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى صلاته؛ رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه؛ رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، فيقول الله عزّ وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي، حتى أهريق دمه». وهكذا رواه أبو داود في الجهاد عن موسى ابن إسماعيل عن حماد بن سلمة بنحوه. وروى الإمام أحمد ... عن معاذ بن جبل قال:

كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: «لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ثم قال: ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصّوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثم قرأ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟» فقلت: بلى يا رسول الله. فقال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال: «كفّ عليك هذا» فقلت: يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟ فقال: «ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم من طرق عن معمّر به، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه ابن جريج من حديث شعبة بن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدّث عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تكفّر الخطيئة، وقيام العبد في جوف الليل» وتلا هذه الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. ورواه أيضا من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلّى الله عليه وسلم بنحوه. ومن حديث الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت والحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعا بنحوه، ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر عن معاذ أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: «قيام العبد من الليل». وروي ابن أبي حاتم ... عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: «إن شئت نبّأتك بأبواب الخير: الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية. ثم روى ... عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع- الآية- فيقومون وهم قليل». وروى البزار ... عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال

4 - كلام ابن كثير والمؤلف بمناسبة آية ولنذيقنهم من العذاب الأدنى ..

بلال لمّا نزلت هذه الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ثم قال: لا نعلم روى زيد بن أسلم عن بلال سواه وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق. 4 - [كلام ابن كثير والمؤلف بمناسبة آية وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قال ابن كثير: (قال ابن عباس يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها وما يحلّ بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه، وروى مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري وخصيف، وقال ابن عباس في رواية عنه: يعني به إقامة الحدود عليهم. وقال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر. وروى النسائي عن عبد الله في: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قال: سنون إصابتهم. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد ... عن أبي بن كعب في هذه الآية وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قال: القمر والدّخان قد مضيا والبطشة واللزام، ورواه مسلم من حديث شعبة به موقوفا نحوه. وعند البخاري عن ابن مسعود نحوه، وقال عبد الله بن مسعود نحوه أيضا في رواية عنه: العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر، وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم. قال السدي وغيره: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير، فأصيبوا أو هزموا، ومنهم من جمع له الأمران). أقول: ما ذكر نموذج على ما يفعله الله عزّ وجل بمن يعرض عن كتابه من عذاب أدنى. 5 - [حديث بمناسبة آية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ قال ابن كثير: (روى ابن جرير ... عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: عقد لواء في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم ينصره فقد أجرم، يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، وهذا حديث غريب جدا). 6 - [أقوال حول قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ .. ] رأينا أن هناك أكثر من قول في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ

7 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ..

فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ولم يذكر ابن كثير إلا قولين: أحدهما أن المراد لقاء موسى ربه. والثاني: أن المراد لقاء رسولنا عليه الصلاة والسلام لموسى. قال ابن كثير: قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء. ثم روى عن أبي العالية الرياحي قال: حدثني ابن عمّ نبيكم- يعني ابن عباس- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكا خازن النار والدّجال» في آيات أراهنّ الله إياه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به. 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ قال ابن كثير: أي لما كانوا صابرين على أوامر الله، وترك زواجره، وتصديق رسله، واتباعهم فيما جاءوهم به، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ثمّ لمّا بدّلوا، وحرّفوا، وأوّلوا سلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية، يحرّفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحا، ولا اعتقادا صحيحا، ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ قال قتادة وسفيان: لما صبروا عن الدنيا، وكذلك قال الحسن بن صالح: قال سفيان: هكذا كان هؤلاء ولا ينبغي للرجل أن يكون إماما يقتدى به حتى يتجافى عن الدنيا، قال وكيع: قال سفيان: لا بد للدين من العلم، كما لا بد للجسد من الخبز. وقال ابن بنت الشافعي: قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي: سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألم تسمع قوله: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا قال لما أخذوا برأس الأمر صاروا رءوسا. قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؛ ولهذا قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ الآية [الجاثية: 16، 17]. كما قال هنا: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي من الاعتقادات والأعمال. 8 - [المقصود بالأرض في آية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ يمثل كثير من المفسرين لهذه الأرض بأرض مصر، وطبعا ليس المراد بها أرض مصر فقط.

9 - قولان في تفسير الفتح في آية ويقولون متى هذا الفتح ..

قال ابن كثير: (بل هي بعض المقصود وإن مثّل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها، ولكنها مرادة قطعا من هذه الآية؛ فإنّها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرا لتهدّمت أبنيتها، فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمّله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، وفيه طين أحمر فيغشى أرض مصر، وهي أرض سبخة مرملة، محتاجة إلى ذلك الماء، وذلك الطين أيضا، لينبت الزرع فيه، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبدا. وقال ابن لهيعة عن قيس ابن حجاج عمن حدثه قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص- وكان أميرا بها حين دخل بؤونة من أشهر العجم- فقالوا: يا أيها الأمير إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلّا بها. قال وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت اثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحليّ والثّياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النّيل. فقال لهم عمرو: إنّ هذا لا يكون في الإسلام؛ إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى همّوا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر إنّك قد أصبت بالذي فعلت، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النّيل، فلمّا قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر. أما بعد: فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك. قال فألقى البطاقة في النيل، فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة، وقد قطع الله تلك السّنّة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائى الطبري في كتاب السنة له. ولهذا قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا الآية. [عبس: 25، 26]). 9 - [قولان في تفسير الفتح في آية وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ .. ] في تفسير الفتح في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قولان. القول الأول: أن المراد به النصر في الدنيا. والقول الثاني: أن المراد به اليوم الآخر، وابن كثير جعل المراد كلا من الاثنين. قال ابن كثير: (أي متى تنصر علينا يا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتا تدال علينا وينتقم لك منا فمتى يكون هذا؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين). قال الله تعالى: قُلْ يَوْمَ

10 - كلام ابن كثير حول فضل سورة السجدة

الْفَتْحِ أي إذا حلّ بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والآخرة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. كما قال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83]. ومن زعم أن المراد من هذا فتح مكة فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش؛ فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء وقد كانوا قريبا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً الآية [الشعراء: 118]. وكقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ الآية [سبأ: 26]. وقال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم: 15] وقال تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 89]. وقال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19]. 10 - [كلام ابن كثير حول فضل سورة السجدة] وفي سورة السجدة قال ابن كثير: روى البخاري ... عن أبي هريرة قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ. ورواه مسلم أيضا من حديث سفيان الثوري به. وروى الإمام أحمد ... عن جابر قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تفرّد به أحمد. كلمة أخيرة في سورة السجدة وزمرتها: لاحظنا أن السياق الخاص لسورة السجدة صبّ في موضوع رئيسي هو موضوع الإيمان الجازم بهذا القرآن؛ إلا أننا قلنا من قبل إن كل سورة من هذه السور الأربع المبدوءة ب (الم) صبّ سياقها في موضوع رئيسي من مواضيع الآيات الأولى من سورة البقرة، ولكنه تحدّث عنه مرتبطا ببقية المواضيع، وهذا الذي نلاحظه في سورة السجدة. فقد كان لقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* حظّه من التفصيل كما رأينا. وكان لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ

يُنْفِقُونَ حظّه من التفصيل كذلك. تذكّر قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ* تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وكان لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ حظّه من التفصيل كذلك، تذكّر قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ .... وكان لقوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ حظه من التفصيل كذلك تذكّر قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ... وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ ... فاليوم الآخر أخذ حيّزا كبيرا من السورة. وقد تعرّضت السورة لموضوع الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. ففصّلت في كل موضوع نوع تفصيل اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ... ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ ... ، لِتُنْذِرَ قَوْماً ... ، وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ... ، وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها .... ... وكنّا ذكرنا أنّ مقدّمة سورة البقرة تحدّثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، وأنّ السور الأربع إذ تفصّل في صفات المتقين، فإنّها تفصّل كذلك فيما قابل ذلك من صفات الكافرين. ومن ثم نجد في سورة السجدة كلاما كثيرا عن الكافرين: عن ادعائهم أن القرآن مفترى، وعن كفرهم باليوم الآخر، وعن فسوقهم، وعن العذاب العظيم المعدّ لهم، وعن غير ذلك مما يذكّرنا بقوله تعالى في أول سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (البقرة: 6، 7). خذ مثلا قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَفَلا يُبْصِرُونَ.

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ. وبهذا نعرف كيف أن سورة السجدة فصّلت في مقدمة سورة البقرة كلها، وبهذا نعرف كذلك أن هذه الزمرة المؤلفة من السور الأربع قد فصّلت في مقدمة سورة البقرة كلها، كل منها قد فصّلت وكمّلت غيرها؛ بحيث اتضح كثير من مضامين هذه المقدمة. ... وكما جاء بعد مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 21) لتدل على طريق التحقق بالمعاني التي تضمنتها المقدمة، فإنّه بعد السور الأربع تأتي سورة الأحزاب مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً لتدل على الطريق العملي للتحقق، لاحظ أن في الآية الأولى من سورة الأحزاب قوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ والكفر والنفاق هما أحد المواضيع الثلاثة التي تحدثت عنها مقدمة سورة البقرة، وتحدثت عنها السور الأربع، إلا أنّ النّفاق لم يتحدث عنه إلا في سورة العنكبوت؛ لأنّ النّفاق هو الكفر القلبي، مع التظاهر بغيره، فمرجعه إلى الكفر. وقد آن الأوان لنسجّل ملاحظة: رأينا أن سورة البقرة سارت ضمن سياق محدّد: تحدّثت عن المتقين والكافرين والمنافقين. دعت الناس جميعا لسلوك الطريق المؤدي إلى التقوى. بيّنت الأخلاق التي تحول دون التقوى. أنكرت على من يكفر، ذكرت ظاهرة العناية. وهكذا ... وكل موضوع من مواضيعها مرتبط بما قبله وما بعده. ثم جاء بعد سورة البقرة تتمّة القسم الأول من أقسام القرآن- وهو قسم الطوال- ففصّل على نفس النسق. فصّلت سورة آل عمران في المقدمة.

جاءت سورة النساء لتدل على الطريق. جاءت سورة المائدة لتبعد عن الخطأ. جاءت سورة الأنعام لتنفي الكفر، وتقيم الحجة بظاهرة العناية. وهكذا على نفس الوتيرة الموجودة في سورة البقرة، وهكذا قل في كل قسم من أقسام القرآن. ومن ثمّ تجد في هذا القسم زمرة الم تقابل مقدمة سورة البقرة. وسورة الأحزاب تقابل: يا أَيُّهَا النَّاسُ .... كما سنرى. فزمرة الم هنا تذكر الصفات والخصائص، وتأتي سورة الأحزاب لتدلّ على طريق التحقق بالصفات والخصائص، ولكن بما يكمّل ما قبله. فمثلا مقدمة سورة البقرة فصّلتها من قبل سورة آل عمران، وسورة يونس، وسورة الحجر، وسورة طه، وسورة الأنبياء. ثم سور زمرة (الم) من هذا القسم. فالزمرة هذه إذن مسبوقة بتفصيل، ومن ثمّ فإنها تفصّل بمعان جديدة زائدة. وكذلك فإنّ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فصّلتها سورة النساء، وسورة هود، وسورة الحج. والآن تأتي سورة الأحزاب. فسورة الأحزاب مسبوقة بما فصّل محورها. ومن ثمّ فهي تفصّل بمعان جديدة مكمّلة أخواتها، ولكنّها بالنسبة لما قبلها مباشرة تدلّ على طريق التحقّق فيه، وبتوضيح أكثر نقول: إنّك إذا أردت أن تعرف معاني مقدمة سورة البقرة فعليك أن ترى كل سورة فصّلتها، وإذا أردت أن تعرف معاني: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .... فعليك أن تعرف معاني كل سورة فصّلتها، ولكن إذا أردت أن تعرف الطريق إلى التحقق بمعان وردت في سورة- أو سور- تقابل المقدمة فعليك أن ترى السورة التي جاءت تقابل يا أَيُّهَا النَّاسُ ... مباشرة بعدها. فكلّما سرت في القرآن رأيت جديدا منبثقا عن أصل، ومرتبطا بأصل، وعلى ضوء ذلك نقبل على سورة الأحزاب. ***

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب وهي السّورة الثالثة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الخامسة من المجموعة الأولى من قسم المثاني وآياتها ثلاث وسبعون آية وهي مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

قال الألوسي في تقديمه لسورة الأحزاب

قال الألوسي في تقديمه لسورة الأحزاب: (أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نزلت سورة الأحزاب بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي: بالإجماع، وقال الداني: هذا متفق عليه) ... (ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك، فإن تلك ختمت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحي إليه، والتوكل عليه عزّ وجل). ... كلمة في سورة الأحزاب ومحورها: أول ملاحظة نلاحظها في سورة الأحزاب أن النداءين يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* يتناوبان في السورة تناوبا مطردا، إلا في آخر السورة إذ تتكرر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* مرّتين: مرة لتأخذ نوبتها وراء نداء يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* ومرّة لتقابل بداية السورة؛ إذا تبدأ السورة ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لاحظ تناوب النداءين: 1 - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الآية: 1]. 1 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الآية: 9]. 2 - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الآية: 28]. 2 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الآيتان: 41، 42]. 3 - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الآيتان: 45، 46]. 3 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ

أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الآية: 49]. 4 - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الآية: 50]. 4 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الآية: 53]. 5 - يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الآية: 59]. 5 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الآية: 69]. 6 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً [الآية: 70]. ... وتلاحظ في السورة ملامح من سورة النساء، وملامح من سورة المائدة؛ تبدأ سورة النساء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... وتبدأ سورة الأحزاب ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وكما تتحدث سورة النساء في مقطعها الأول عن قضايا لها علاقة في الأسرة فكذلك المقطع الأول من سورة الأحزاب. وتلاحظ في سورة المائدة قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة: 11]. وتلاحظ أنّ المقطع الثاني من سورة الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. فالمقطع الأول من الأحزاب عليه ملامح سورة النساء، والمقطع الثاني عليه ملامح سورة المائدة. وهكذا بالتناوب، وهو موضوع سنرى تفصيلاته أثناء العرض. ومن ثمّ فابتداء نقول: إنّ سورة الأحزاب تفصّل من البقرة ما فصّلت فيه سورتا النّساء والمائدة بآن واحد. فهي تفصّل في محوري سورتي النساء والمائدة، وتفصّل معاني موجودة في سورتي النساء والمائدة، وهو موضوع سنرى تفصيلاته إن شاء الله. لقد رأينا أن سورة النساء فصّلت في قوله تعالى من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 21). وأن سورة المائدة فصّلت في قوله تعالى من البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (البقرة: 27). وما بين الآيتين من سورة البقرة ناله حظ من التفصيل في سورتي النساء والمائدة، وإذ كانت سورة الأحزاب تفصّل في محوري سورتي النساء والمائدة فإن كل ما بين المحورين كذلك يناله حظ من التفصيل؛ فسورة الأحزاب تفصّل في الآيات المذكورة وما استكن فيها مما فصلته سور أخرى، وهو لون من ألوان التفصيل في القرآن الذي وصفه الله تعالى بقوله: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ وإن هذه الألوان من التفصيل لتدلّنا على أن هذا القرآن من عند الله. فالحمد لله على نعمة الإيمان والقرآن. ... ومهما تكلّمنا في هذه المقدمة فلن يغنينا عن التفصيل عند مناسبته، وقد يكون من المناسب أن نذكر هاهنا الآيات التي تشكل محور سورة الأحزاب في سورة البقرة:

المقطع الأول من سورة الأحزاب ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (8) وهذا هو مع البسملة

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 21). وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (البقرة: 24). إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (البقرة: 26، 27). وسنعرض سورة الأحزاب على أن كل ما صدّر بكلمة (يا أيها) يشكّل مقطعا من مقاطعها ما عدا النداءين الأخيرين فإنّهما كالمقطع الواحد، ومن ثمّ فإن السورة تتألف من عشرة مقاطع. ... وإذا كانت سورتا النساء والمائدة تكمّلان بعضهما فإنّ سورة الأحزاب ترينا هذا التكامل وتؤكّده، وترينا كيف أنّ سورة المائدة تكمّل ما بدأته سورة النساء، وهكذا سنجد السورة يتناوب فيها الكلام؛ فهذا مقطع يحقّق هدفا من أهداف سورة النساء، وهذا مقطع يحقق هدفا من أهداف سورة المائدة. المقطع الأول من سورة الأحزاب ويمتدّ من الآية (1) إلى نهاية الآية (8) وهذا هو مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 33/ 8 - 1

التفسير

33/ 8 - 1 التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قال النسفي: أي يا أيها المخبر عنا، المأمون على أسرارنا، المبلّغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل يا محمد كما قال يا آدم، يا موسى؛ تشريفا له وتنويها بفضله وتصريحه باسمه في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ونحوه لتعليم الناس بأنّه رسول الله اتَّقِ اللَّهَ أي اثبت على تقوى الله، ودم عليه، وازدد منه؛ فهو باب

[سورة الأحزاب (33): آية 2]

لا يدرك مداه. قال ابن كثير: (قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ قال ابن كثير: أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً أي فهو أحقّ أن تتّبع أوامره وتطيعه فإنّه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي من قرآن وسنة إِنَّ اللَّهَ الذي أوحى إليك كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي لا تخفى عليه خافية من أعمالكم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في جميع أمورك وأحوالك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي واكتف بالله وكيلا أي حافظا موكولا إليه كل أمر، أو المعنى: وكفى به وكيلا لمن توكّل عليه وأناب إليه. كلمة في السياق: إن مجموع الأوامر التي صدرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولأمته من خلال شخصه الكريم في هذه الآيات هي التقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، واتّباع الوحي، والتوكل، والصلة بين هذه الأوامر واضحة. فالتقوى لا تكون مع طاعة الكافرين والمنافقين. إذ الكافرون والمنافقون يرغبون أن يحرفوا المؤمنين. والتقوى واتباع الوحي متلازمان كما ورد في أول آية من سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والتقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين واتّباع الوحي كلها تحتاج إلى توكل على الله، وتفويض أمر له ومعرفة له. ومن ثمّ جاء الأمر بالتوكل، وجاء قوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وإِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وإذ استقرّت هذه المعاني يبدأ السياق بهدم قاعدة التبنّي المتعارف عليها عند العرب، والتي كانت عميقة عندهم، والتي سيترتب على هدمها قيل وقال، فناسب ذلك أن يسبق الكلام عنها هذه المقدّمة، وتلك إحدى حكم وجود هذه المقدّمة، هذا وإن لهذه المقدّمة صلة بمحور سورة الأحزاب من سورة البقرة، فقد رأينا أنّه قد جاء في مقدمة سورة البقرة ذكر المتقين والكافرين والمنافقين. ثم جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لتكونوا من الفئة الأولى. وهاهنا يأتي الأمر بالتقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، ويأتي الأمر باتّباع الكتاب، وبالتوكّل، وكل ذلك يخدم قضية التفصيل في موضوع التقوى والطريق إليها، وإذا كانت السور الأربع السابقة على سورة الأحزاب قد فصّلت في

[سورة الأحزاب (33): آية 4]

المقدمة، فذكرت التقوى والكفر والنفاق، فإن مقدمة سورة الأحزاب تحدّد الطريق العملي للسلوك: 1 - تقوى الله. 2 - عدم الطاعة للكافرين والمنافقين. 3 - اتّباع الكتاب والسنة. 4 - التوكّل على الله. ولنعد إلى التفسير: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ هذه توطئة للمقصود؛ فكما لا يكون للشّخص الواحد قلبان في جوفه، وكما لا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله: أنت عليّ كظهر أمّي أمّا له. كذلك لا يصير الدعيّ ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أي الذين تدعونهم أولادكم وما هم بأولادكم حقيقة أَبْناءَكُمْ قال النسفي: (أي ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل، والمعنى: أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين- لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر فعلا من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدّي إلى اتصاف الجملة بكونه (أي صاحب القلبين) مريدا كارها عالما موقنا شاكا في حالة واحدة- لم يحكم أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له، لأن الأم مخدومة والمرأة خادمة، وبينهما منافاة، وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له؛ لأن البنوّة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشئ الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل). ومن كلام النسفي نفهم أنّ المراد بالقلب في الآية القلب الذي هو محلّ العلم، والظن، والشك، واليقين، فالمنفي هو القلب الذي هذا شأنه، فهذا لا يتعدّد عند الإنسان قطعا بنصّ الآية، أما القلب الحسيّ فالمشاهد أنّه لا يتعدّد كذلك، وفي قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال صاحب الظلال: (إنه قلب واحد، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه. ولا بد له من تصوّر كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه. ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوّم به الأحداث والأشياء. وإلا تمزّق وتفرّق ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.

ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث؛ ويستمد فنونه وتصوّراته من معين رابع .. فهذا الخليط لا يكوّن إنسانا له قلب. إنما يكوّن مزقا وأشلاء ليس لها قوام! وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا. لا يملك أن يقول كلمة، أو يتحرك حركة، أو ينوي نية، أو يتصوّر تصوّرا، غير محكوم في هذا كله بعقيدته- إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه- لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، يخضع لناموس واحد، ويستمد من تصور واحد، ويزن بميزان واحد. لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله: فعلت كذا بصفتي الشخصية. وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات. أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام! إنه شخص واحد له قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة. وله تصوّر واحد للحياة، وميزان واحد للقيم. وتصوّره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه، في كل حالة من حالاته على السواء. وبهذا القلب الواحد يعيش فردا، ويعيش في الأسرة، ويعيش في الجماعة، ويعيش في الدولة. ويعيش في العالم. يعيش سرا وعلانية. ويعيش عاملا وصاحب عمل. ويعيش حاكما ومحكوما. ويعيش في السراء والضراء .. فلا تتبدّل موازينه، ولا تتبدّل قيمه، ولا تتبدل تصوراته. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. ومن ثمّ فهو منهج واحد، وطريق واحد، ووحي واحد، واتجاه واحد. وهو استسلام لله وحده. فالقلب الواحد لا يعبد إلهين. ولا يخدم سيّدين، ولا ينهج نهجين، ولا يتجه اتجاهين. وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزّق ويتفرّق ويتحوّل إلى أشلاء وركام!). ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ أي إن قولكم للزوجة هي أم، وللدعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم، لا حقيقة له؛ إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم وَاللَّهُ

[سورة الأحزاب (33): آية 5]

يَقُولُ الْحَقَّ أي يقول ما هو حق ظاهره وباطنه وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق ثم بيّن ما هو الحق في هذه المسألة، فبيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل فقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ أي أعدل عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم في الدين فقولوا: هذا أخي وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه. قال ابن كثير: (أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، أي عوضا عمّا فاتهم من النسب) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النّهي، ولكن الإثم عليكم فيما تعمّدتموه بعد النهي، أو لا جناح عليكم إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإنّ الله قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه، وإنما الإثم على من تعمّد الباطل وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لا يؤاخذكم بالخطإ ويقبل توبة المتعمّد، وبمناسبة هذا الحكم يقرر الله عزّ وجل أحكاما أخرى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي أحق بهم من أنفسهم في كل شئ وحكمه أنفذ عليهم من حكم أنفسهم؛ فعليهم أن يبذلوها دونه ودون ما أوحي إليه، ويجعلوها فداءه، فإذا أمر أمرا أو نهى عن نهي فعليهم أن يسارعوا إلى الطاعة، أو هو أولى بهم بمعنى: أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام والإعظام. قال ابن كثير: (ولكن لا تجوز الخلوة بهنّ ولا ينتشر التحريم إلى بناتهنّ وأخواتهنّ بالإجماع). وقال النسفي: وأزواجه أمهاتهم في تحريم نكاحهن، ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدّ التحريم إلى بناتهن وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما فرض الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار. قال ابن كثير: (وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم). وقال النسفي: (وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين، وبالهجرة لا بالقرابة، ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة). والمعنى: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا

كلمة في السياق

من الأجانب، أو أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين من الأنصار بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً قال ابن كثير: (أي ذهب الميراث وبقي النّصر والبرّ والصّلة والإحسان والوصية). قال النسفي في هذا النص: (والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين وقال في الآية: أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشيء، فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث) كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي التوارث بالأرحام كان مسطورا في اللوح. قال ابن كثير: (أي هذا الحكم- وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض- حكم من الله مقدر، مكتوب في الكتاب الأوّل، الذي لا يبدّل ولا يغيّر، قاله مجاهد وغير واحد وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري الشرعي. والله أعلم). ... كلمة في السياق: بدأت السورة بخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم آمرة إياه بالتقوى، واتباع وحي الله والتوكل عليه، وناهية له عن طاعة الكافرين والمنافقين. ثمّ ذكر الله عزّ وجل حكما أبطل فيه عادة التبني، وعوّض عن ذلك بتعميق معاني الإخاء الديني، والبنوّة الدينية، ثمّ بيّن أن التوارث يكون بالقرابة الحقيقية لا بغيرها، حتى ولو كانت إخوة دين، ليبين أن نفي عادة التبني إنما كان من أجل أحكام أصيلة في شرع الله، فالتبني يتعارض مع موضوع الإرث بالقرابة، ويتعارض مع موضوع المحرميّة بالقرابة، وغير ذلك من أحكام الإسلام الدائمة، وإذ تقررت هذه الأحكام يعود السياق إلى مخاطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما بدأت السورة: ... وَإِذْ أي واذكر حين أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ جميعا مِيثاقَهُمْ في إقامة دين الله تعالى، وإبلاغ رسالته، واتباع شرعه، والنأي عن المخالفين، والتوكّل على الله وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ نصّ على هؤلاء الخمسة لأنهم أولو العزم، من باب عطف الخاص على العام. قال النسفي: (وقدم رسول الله

[سورة الأحزاب (33): آية 8]

صلّى الله عليه وسلم على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء، لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلما كان محمد صلّى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قدّم عليهم، ولولا ذلك لقدّم من قدّمه زمانه). وقال ابن كثير: (فبدأ في هذه الآية بالخاتم؛ لشرفه صلوات الله وسلامه عليه، ثم رتّبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم) وَأَخَذْنا مِنْهُمْ أي من الأنبياء مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا قويا شديدا. ثم بيّن تعالى حكمة العهد والميثاق الغليظ فقال: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي وإنما فعلنا ذلك ليسأل الله الأنبياء عما قالوه لقومهم، وبلّغوهم إياه، لتقوم عليهم الحجة، ولا يبقى للخلق عذر، أو ليسأل الله المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم، وذلك يكون إذا بذل الرسل طاقتهم في الدعوة، فلا يبقى لأحد حجة، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم أممهم بعد أن أدّوا رسالات الله وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ من أمم الرسل عَذاباً أَلِيماً أي موجعا. والمعنى: أنّ الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وتعذيب الكافرين. كلمة في السياق: 1 - جاء الأمر بتهديم عادة التبني والتعليل لذلك بين خطابين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، خطاب في ابتداء السورة يأمر بالتقوى، واتّباع الوحي، والتوكل، وخطاب في نهاية المقطع يذكّر بعهد الله وميثاقه على الرسل ليبلغوا، وكل ذلك يشير إلى أنّ إلغاء التبني هو حكم الله الجازم، الذي ينبغي تبليغه، والالتزام به، ووضع هذا الحكم بين هذين الخطابين يشير إلى أن هذا الموضوع من المواضيع التي تحتاج إلى معالجة محكمة؛ لأنّ تعلّق الناس بها شديد. 2 - إن المقطع الذي مرّ معنا يفصّل في قوله تعالى من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ومن ثمّ فإن من العبادة الموصّلة للتقوى الالتزام بما مرّ في المقطع من معان؛ فليتفطّن إلى ذلك، إنّ الله هو الذي خلق الإنسان، وجعله أبا وابنا، وعلى الإنسان أن يتّقي الله وأن يطيع، وأن يتوكل على خالقه. 3 - قلنا إن سورة الأحزاب تأتي مقاطعها على تناوب، فمقطع يفصّل على طريقة سورة النساء، ومقطع يفصّل على طريقة سورة المائدة، والملاحظ أن المقطع

فوائد

الأول من سورة الأحزاب يشبه المقطع الأول من سورة النساء في أكثر من مقام: فمثلا قال تعالى في سورة النساء: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ... (الآية: 2). فالمقطع الأول من سورة النساء فيه تفصيل لأحكام الأسرة، ومن ذلك الإرث، والمقطع الأول من سورة الأحزاب يتحدّث عن أحكام في الأسرة، والإرث، والمقطع الأول من سورة النساء ينتهي بقوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (الآية: 18) إذ يأتي بعده مباشرة نداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً (الآية: 19). والمقطع الأول من سورة الأحزاب ينتهي بقوله تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً ثم يأتي بعده مباشرة نداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا .... وقبل أن ننتقل إلى المقطع الثاني في سورة الأحزاب فلنذكر بعض الفوائد: ... فوائد: 1 - [سبب نزول قوله تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ ... الآية. قال ابن كثير: (فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلّى الله عليه وسلم، كان النبي صلّى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوّة، فكان يقال له: زيد بن محمد، فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق، وهذه النّسبة بقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ كما قال تعالى في أثناء السورة ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. وقال هاهنا ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يعني: تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا؛ فإنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان). وقال ابن كثير: (وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش، كان يقال له ذو القلبين، وأنه كان يزعم أن له قلبين، كل منهما بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليه. وهكذا روى العوفي عن ابن عباس، وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة، واختاره ابن جرير. وروى الإمام أحمد ... عن قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس أرأيت قول الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية ادعوهم لآبائهم هو أقسط ..

مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ما معنى ذلك؟ قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما يصلي، فخطر خطرة؛ فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قلبا معكم وقلبا معهم، فأنزل الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وهكذا رواه الترمذي وقال: وهذا حديث حسن، وكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال: بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، ضرب له مثل. يقول ليس ابن رجل آخر ابنك. وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهذا يوافق ما قدّمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ قال ابن كثير: (هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادّعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري رحمه الله ... عن عبد الله بن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم، وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يا رسول الله إنا كنا ندعوا سالما ابنا. وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عليّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه» الحديث. ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدّعي، وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قال ابن كثير: (فإن الله تعالى وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه، كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى آمرا عباده أن يقولوا رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [سورة البقرة: 286] وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجل: قد فعلت». وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر». وفي الحديث الآخر: «إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، والأمر الذي يكرهون عليه»، وقال تبارك وتعالى هاهنا: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ

4 - كلام النسفي حول موضوع التبني إن وجد اليوم

بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي وإنما الإثم على من تعمّد الباطل، كما قال عزّ وجل: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ* الآية. وفي الحديث المتقدم: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلّا كفر» وفي القرآن المنسوخ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. وروى الإمام أحمد ... عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: قد كنا نقرأ (ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه السلام فإنما أنا عبد الله فقولوا عبده ورسوله» وربما قال معمر: «كما أطرت النصارى ابن مريم» رواه في الحديث الآخر: «ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم»). 4 - [كلام النسفي حول موضوع التبني إن وجد اليوم] قال النسفي: (وإذا وجد التبني (أي الآن) فإن كان المتبنى مجهول النسب، وأصغر سنا منه، ثبت نسبه منه، وعتق إن كان عبدا له، وإن كان أكبر سنا منه لم يثبت النسب، وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وعتق إن كان عبدا). 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... قال ابن كثير: (قد علم الله شفقة رسوله صلّى الله عليه وسلم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدّما على اختيارهم لأنفسهم، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] وفي الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله والله لأنت أحبّ إليّ من كل شئ إلا من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يا عمر حتى أكون أحبّ إليك من نفسك». فقال يا رسول الله والله لأنت أحبّ إليّ من كل شئ حتى من نفسي فقال صلّى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» ولهذا قال تعالى في هذه الآية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وروى البخاري عند هذه الآية الكريمة ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم:

6 - كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم ..

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» تفرد به البخاري ورواه أيضا في (الاستقراض) وابن جرير وابن أبي حاتم. ورواه أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنحوه. وروى الإمام أحمد ... عن الزهري في قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ فأيما رجل مات وترك دينا فإليّ، ومن ترك مالا فهو لورثته» ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه). 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ... قال ابن كثير: (أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمّى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم، وهل يقال لمعاوية رضي الله عنه وأمثاله خال المؤمنين؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم، ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك، وهل يقال له صلّى الله عليه وسلم أبو المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليبا؟ فيه قولان، صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يقال ذلك، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقد روي عن أبي بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرءا: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم). وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه، حكاه البغوي وغيره، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد؛ أعلّمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه» وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرّوث والرّمّة. وأخرجه النسائي وابن ماجه، والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ). 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ قال ابن كثير: (أي في حكم الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف

8 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ..

والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه؛ للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكذا قال سعيد بن جبير وغير واحد من السّلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام فقال رضي الله عنه: أنزل الله عزّ وجل فينا خاصّة معشر قريش والأنصار وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم ووارثناهم، فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد. وآخى عمر رضي الله عنه فلانا، وآخى عثمان رضي الله عنه رجلا من بني زريق بن سعد الزرقي، ويقول بعض الناس غيره، قال الزبير رضي الله عنه: وواخيت أنا كعب بن مالك، فجئته فابتعلته، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، فو الله يا بنيّ لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش- والأنصار خاصة- فرجعنا إلى مواريثنا). 8 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ... قال ابن كثير: (فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، ثم رتّبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الآية: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كنت أوّل النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم». سعيد بن بشير- أحد رجال السند- فيه ضعف، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به مرسلا وهو أشبه، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا والله أعلم. وروى أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وخيرهم محمد صلّى الله عليه وسلم. موقوف وحمزة- أحد رجال السند- فيه ضعف. وقد قيل إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذرّ من صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: ورفع أباهم آدم فنظر إليهم يعني ذريته، وإن فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: ربّ لو سوّيت بين عبادك فقال: إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النّور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، وهو الذي يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وهذا قول مجاهد أيضا، وقال ابن عباس: الميثاق الغليظ: العهد). ولننتقل إلى المقطع الثاني في السورة.

المقطع الثاني ويمتد من الآية (9) إلى نهاية الآية (27) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتدّ من الآية (9) إلى نهاية الآية (27) وهذا هو: 33/ 27 - 9

ملاحظات في السياق: حول صلة المقطع الأول بالثاني وصلتهما بسورتي النساء والمائدة وبالمحور

33/ 19 - 27 ملاحظات في السياق: [حول صلة المقطع الأول بالثاني وصلتهما بسورتي النساء والمائدة وبالمحور] 1 - قلنا إنّ سورة الأحزاب تفصّل حيث فصّلت سورة النساء وسورة المائدة،

وإن مقطعا من مقاطعها يفصّل في مقام تفصيل سورة النساء، ومقطعا يفصّل في مقام تفصيل سورة المائدة. ورأينا صلة المقطع الأول بتفصيل سورة النساء، ونلاحظ أن المقطع الثاني بدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. ثم يسير المقطع في تفصيل هذا الموضوع، والآية الأولى في هذا المقطع تذكّرنا بقوله تعالى في سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (الآية: 11). 2 - لاحظنا أن سورة المائدة فصّلت في قوله تعالى من سورة البقرة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ومن ثمّ فقد بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (المائدة: 1) ونلاحظ أنه قبل هذا المقطع الذي يفصّل في سورة المائدة جاء قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ... مما يذكّرنا كذلك بموضوع سورة المائدة فهذه الآية جسر اتصال بين المقطع الأول والمقطع الثاني، وجسر اتصال بين محور سورة النساء ومحور سورة المائدة. 3 - في سورة المائدة نقرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... (المائدة: 11) ويصعب على القارئ العادي أن يعرف صلة هذه الآية بموضوع نقض العهد، والوفاء الذي هو محور سورة المائدة، ولكنّه عند ما يقرأ المقطع الثاني في سورة الأحزاب ويرى أن هذا المقطع يحدّثنا عن الوفاء بالعقود في سياق حادثة الأحزاب: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ... فعندئذ يدرك الصلة بشكل أوضح بين موضوع العقود وموضوع تذكر نعمة الله، إذ همّ قوم أن يبسطوا أيديهم فكفّ الأيدي عنهم. 4 - إن ما ذكرناه من وجود سمت سورتي النساء والمائدة على التناوب في سورة

التفسير

الأحزاب لا يعني أنّه ليس لسورة الأحزاب سياقها الخاص بها. فلسورة الأحزاب سياقها الخاص، وروحها الخاصة مع دلالتها على طريق التقوى، وهو موضوع سورة النساء، ومع إبعادها عن طريق الضلال وهو موضوع سورة المائدة. 5 - وهذه كلمة سريعة حول الصلة بين المقطع الأول والثاني من سورة الأحزاب: إن المقطع الأول أمر بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين، وأمر باتباع الكتاب، وأمر بالتوكل على الله، وأمر بهدم قاعدة التبنّي، وذكّر بميثاق الله مع الرسل، ثمّ جاء المقطع الثاني وهو يبيّن فضل الله على المؤمنين في ساعات المحنة، وفي ذلك نوع تذكير أن على المؤمنين أن يطيعوا ويطمئنوا، فالله معهم إن كانوا صادقين. ثم إن المقطع الأول انتهى بقوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ويأتي المقطع الثاني ليبيّن علامة الصدق: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ والصلات بين المقطعين أوسع من ذلك، وستراها إن شاء الله تعالى. وبعد هذه الملاحظات فلنبدأ التفسير: ... التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، على الصحيح المشهور إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ أي الأحزاب وهم: قريش، وغطفان، وقريظة، والنضير فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً أي الملائكة لَمْ تَرَوْها بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية، فأمطرتهم وأسفّت التّراب في وجوههم، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وماجت الخيل بعضها في بعض، وألقت الملائكة في قلوبهم الرعب والخوف، فكان أن هربوا وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي وكان بعملكم أيها المؤمنون من التحصّن بالخندق، والثبات على معاونة النبي صلّى الله عليه وسلم بصيرا. ثمّ فصّل الله الحادثة فقال: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي من قبل المشرق، وكان الآتون من هذه الجهة بني غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وكان الآتون من قبل المغرب قريش،

[سورة الأحزاب (33): آية 11]

أو الآتون من فوق: الأحزاب قريش وغطفان، والمراد بمن أسفل منهم بنو قريظة وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة، أو عدلت عن كل شئ فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدّة الرّوع وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ الحنجرة: هي منتهى الحلقوم، وهذا مثل لاضطراب القلوب من شدة الخوف والفزع وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ظن المؤمنون أن الله يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وظن المنافقون أن المسلمين سيستأصلون هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي امتحنوا بالصبر على الإيمان وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي وحرّكوا بالخوف تحريكا بليغا. ثم بيّن الله أقوال الكافرين المعبّرة عن ظنونهم وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الخالصو النفاق وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق، ولكن لم يستوعب قلوبهم كلها ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً أي وعدا يغرّ. قال معتب بن قشير أخو بني عمرو ابن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ أي يا أهل المدينة لا مُقامَ لَكُمْ أي لا قرار لكم هاهنا، ولا مكان تقومون فيه أو تقيمون فَارْجِعُوا أي عن الإيمان إلى الكفر، أو من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا نخاف عليها السّرّاق، وذكر ابن إسحاق: أن القائل لذلك هو أوس بن قيظى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذات عورة، والعورة: الخلل أي ليس دونها ما يحجبها عن العدو فهم يخشون عليها منهم وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ كما يزعمون إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي هربا من الزحف اعتذروا بأنّ بيوتهم عرضة للعدو والسارق، لأنها غير محصنة، فاستأذنوه ليحصنونها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك؛ وإنما يريدون الفرار من القتال وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ أي ولو دخل الأعداء عليهم المدينة مِنْ أَقْطارِها أي جوانبها. أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزّبة التي يفرون خوفا منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلها، وانثالت على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الْفِتْنَةَ أي الردّة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين لَآتَوْها أي لأعطوها وَما تَلَبَّثُوا بِها بإجابتها إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف، والمعنى: أنّهم لا يتعلّلون بإعوار بيوتهم إلا ليفروا عن نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن مصافّة الأحزاب الذين ملئوهم هولا ورعبا؛ بدليل أن هؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم

[سورة الأحزاب (33): آية 15]

وعرض عليهم الكفر، وقيل لهم كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه، وما تعلّلوا بشيء، وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام، وحبّهم الكفر وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الخوف لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ منهزمين وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي مطلوبا مقتضى حتى يوفى به. قال ابن كثير: (ثم أخبرهم أن فرارهم لا يؤخر آجالهم، ولا يطوّل أعمارهم، بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرّة) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قال النسفي: (أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر وفررتم لم تمتّعوا في الدنيا إلا قليلا، وهو مدّة أعماركم، وذلك قليل) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ أي يمنعكم مِنَ اللَّهِ أي مما أراد الله إنزاله بكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً في أنفسكم من قتل أو غيره أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي إطالة عمر في عافية وسلامة، أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة، أو من أن يعذبكم إن أراد تعذيبكم وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ناصرا، أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي من يعوّق عن نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي يمنع وهم المنافقون وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ في الظاهر من المسلمين، أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم هَلُمَّ إِلَيْنا أي إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وهم مع ذلك لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي الحرب إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إتيانا قليلا. أي يحضرون ساعة رياء، ويقفون قليلا مقدار ما يرى شهودهم، ثم ينصرفون أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالمودة والشفقة والنفقة لمصلحة القتال فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من قبل العدو رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في تلك الحالة تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ يمينا وشمالا كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت؛ حذرا وخوفا كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي من شدة خوفه وجزعه. وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي فإذا زال ذلك الخوف وأمنوا خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم في الكلام؛ منتقدين معترضين مجرّحين مطالبين راغبين طامعين أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي على المال والغنيمة، قائلين في خطابهم: وفّروا قسمتنا فإنّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم، فهم في الحرب أجبن شئ، وفي السلم أطمع شئ. قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا في الحقيقة بل بالألسنة فَأَحْبَطَ اللَّهُ

[سورة الأحزاب (33): آية 20]

أَعْمالَهُمْ أي فأبطل بإضمارهم الكفر ما أظهروه من الأعمال وَكانَ ذلِكَ أي إحباط أعمالهم عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي هيّنا سهلا عنده يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي لجبنهم يظنّون أنّ الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا، مع أنهم قد انصرفوا، فهم يحسبون أنهم منهم قريب، وأن لهم عودة. قال ابن كثير: (وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف) وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرّة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ البادون: جمع البادي وهم المقيمون في البادية، أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب؛ ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي يسألون كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم، وعما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ وكان قتال ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وسمعة. أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم، وضعف يقينهم لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة حسنة في أقواله وأفعاله وأحواله صلّى الله عليه وسلم لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي لمن كان يخاف الله، ويخاف اليوم الآخر، أي يأمل ثواب الله، ونعيم اليوم الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في كل حال في الخوف والرّجاء، والشدّة والرّخاء، في الليل والنهار. ثمّ أخبر تعالى عن عباده المؤمنين المصدّقين بموعود الله لهم بأن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان، الذي يعقبه النصر القريب. قال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وهذا تتمة قول المؤمنين لما جاء الأحزاب واضطرب المسلمون ورعبوا، علم الصادقون أن هذا كله موعود الله، وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم، إذ وجد هذا الزلزال الشديد وَما زادَهُمْ ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم إِلَّا إِيماناً بالله وبمواعيده وَتَسْلِيماً لقضائه وقدره، ولمّا ذكر الله عزّ وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه من أنّهم لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي فيما عاهدوه عليه فَمِنْهُمْ

[سورة الأحزاب (33): آية 24]

مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي أجله، أي مات شهيدا كحمزة ومصعب وأنس بن النضر رضي الله عنهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة وَما بَدَّلُوا العهد تَبْدِيلًا ولا غيروه لا المستشهد، ولا من ينتظر الشهادة، وفيه تعريض لمن بدّلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مرّ في قوله تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي بوفائهم بالعهد وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بقبول التوبة رَحِيماً يعفو الحوبة. قال ابن كثير: (أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال؛ ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشئ قبل كونه، ولكن لا يعذّب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه منهم) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي الأحزاب بِغَيْظِهِمْ أي مغيظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي لم ينالوا ظفرا، أي لم يظفروا بالمسلمين، وسمّاه خيرا بزعمهم وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي بالريح والملائكة وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً أي قادرا غالبا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي من بني قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم جمع: صيصية وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ المراد بالأموال المواشي والنّقود والأمتعة وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها دخل في ذلك كل أرض تفتح للإسلام إلى يوم القيامة، فهي بشارة وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي قادرا. وبهذا انتهى المقطع الثاني. كلمة في السياق: رأينا في هذا المقطع مظهرا من مظاهر الوفاء بالعهد، ومظهرا من مظاهر نقضه، ورأينا في المقطع مظهرا من مظاهر النفاق، ومظهرا من مظاهر الإيمان، ورأينا في المقطع الطريق العملي للتحقق بكمال الإيمان، بذكر طريق القدوة برسول الله صلّى الله عليه وسلم. ورأينا في المقطع صورة عملية للامتحان الشديد الذي يعقبه نصر. ورأينا في المقطع صورة عملية للتوكل الصحيح، ولذلك كله محله في السياق العام والخاص للسورة؛ ففي سياق السورة الخاص نجد تعليلا للأوامر الأولى في السورة إذ أمرت بالتقوى، وترك طاعة

فوائد

الكافرين والمنافقين، وأمرت باتباع كتاب الله، وأمرت بالتوكل. وفي سياق السورة العام نجد أن المقطع قد أعطانا النموذج العملي لموضوع الابتلاء الذي مر معنا في سورة العنكبوت، ونموذجا على مواقف المنافقين التي مرّت معنا في تلك السورة، وأعطانا نموذجا عمليا لنصر الله المؤمنين الذي مرّ معنا في سورة الروم، وفي السياق القرآني العام نجد تفصيلا لمحور السورة من سورة البقرة، إذ دلّنا المقطع على طريق التحرر من أخلاق النفاق، وعرّفنا على علامات الوفاء بالعهد، وهو محور سورة المائدة من سورة البقرة. فوائد: 1 - [الثبات على الحق والصدق مع الله يؤديان إلى النصر مهما كانت قوة الأعداء] نلاحظ أن القرآن الكريم سجّل لنا معركة بدر، ومعركة أحد، وإجلاء بني النضير، ومعركة الأحزاب، وصلح الحديبية، وغزوة حنين، وغزوة تبوك، وفي كل معركة عبرة رئيسية لهذه الأمة؛ إذ حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم هي النموذج الكامل لكل صور الحياة التي تلابس سير الأمة الإسلامية؛ فغزوة بدر عبرتها الرئيسية أن لله نصرا خاصا ينزله على عباده المؤمنين، إذا تحققوا بشروطه، ولو كانت الموازين العادية للنصر ليست متوفرة لهم. وعبرة أحد الرئيسية أن أي إخلال بطاعة القيادة يترتب عليه خلل. وعبرة الأحزاب الرئيسية أنه متى تألّب أعداء الله على المسلمين فإنه سيبعث لهم فرجا من حيث لا يحتسبون، إذا ثبتوا وصدقوا. وعبرة حنين الرئيسية أن أي خلل نفسي تخرج به النفس الإسلامية عن ربانيتها، واعتمادها على الله وحده يؤدّي إلى الهزيمة. وعبرة غزوة تبوك أن المسلم عليه في كل حال أن يشارك في الجهاد مهما كان الوضع قاسيا. وعبرة صلح الحديبية أن يرى المسلم في قرار قيادته الإسلامية الحكمة، ويسلّم له ولو كان غير مرتاح له. وفي المقطع الذي مرّ معنا والذي سجّل قصة الأحزاب درس من أعظم دروس الحرب والسلام لهذه الأمة، فهو درس يرتقي به المسلم إلى الذروة العليا من التقوى إذا تحقق به، ويتخلّص به من رواسب الكفر والنفاق، إذا استوعبه والتزمه. 2 - [ميزان صدق الصادقين، والطريق لتحقق الكمال الأعلى للنفوس] من دروس المقطع أنه أعطانا ميزانا لصدق الصادقين، ودلّنا على الطريق إلى التحقق بالكمال الأعلى. أما الميزان فهو قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا فهذه علامة الصادق إما شهيد وإما أنّه ينتظر الشهادة.

3 - صورة من صور النفاق ساعة المحنة

وأما الطريق فهو قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً فالطريق للتأسي الكامل برسول الله صلّى الله عليه وسلم في أقواله، وأفعاله، وأحواله، هو الرجاء والذكر الكثير. وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) بيان ذلك. 3 - [صورة من صور النفاق ساعة المحنة] ومن دروس المقطع أنه أعطانا صورة من صور النفاق في ساعات المحنة: شك في موعود الله، تيئيس للمسلمين، استعداد للكفر، نقض للعهد، تخذيل عن القتال، بخل عن الإنفاق، جبن في مواطن القتال، نقد جارح، وألسنة حداد على المؤمنين، طمع في الغنائم، رغبة بالنفس عن المشاركة في الحرب الفعلية، قتال قليل. وفي المقابل أعطانا صورة عن الإيمان في ساعات المحنة: تأس برسول الله صلّى الله عليه وسلم، إيمان وتسليم، وفاء بالعهود. 4 - [تصحيح فهم خاطئ بمناسبة آية قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ .. ] من مواطن الخطأ في الفهم ما فهمه بعضهم من قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا إذ فهم بعضهم أن من فرّ من الموت أو القتل يزيد عمره، وهو فهم مخالف للنصوص والإجماع، ولم يقل به إلا المعتزلة؛ إذ النصوص كثيرة في أن الإنسان لا يموت ولا يقتل إلا بأجله. قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] وقال: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] وقال: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمران: 154] وقال: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ... [آل عمران: 156]. 5 - [الخيانة الداخلية ساعة المعركة جزاؤها الإعدام] من دروس المقطع: أن الخيانة الداخلية في ساعة المعركة جزاؤها الإعدام كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة كما سنرى. 6 - [كلام ابن كثير حول بعض صور من غزوة الخندق] يذكر ابن كثير صورا من السيرة عن غزوة الخندق يحتاجها شرح الآيات وهي نقول لا تغني عن قراءة السيرة في هذا الموضوع. قال ابن كثير: (وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرا من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، منهم سلام بن أبي

الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش، وألّبوا على حرب النبي صلّى الله عليه وسلم، ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة، مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم التراب وحفر، وكان في حفره ذلك آيات ودلائل واضحات، وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة، قريبا من أحد، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة، كما قال تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، وهم نحو من ثلاثة آلاف- وقيل سبعمائة- فأسندوا ظهورهم إلى سلع، ووجوههم إلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة- وهم طائفة من اليهود- لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل، فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالئوا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعظم الخطب، واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال الله تبارك وتعالى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ومكثوا محاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه قريبا من شهر، إلا أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، إلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري- وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية- ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق، وخلصوا إلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه، فيقال إنه لم يبرز إليه أحد، فأمر عليا رضي الله عنه فخرج إليه، فتجاولا ساعة، فقتله علي رضي الله عنه، فكان علامة على النصر. ثم أرسل الله عزّ وجل على الأحزاب ريحا شديدة الهبوب، قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شئ، ولا توقد لهم نار، ولا يقر لهم قرار، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال الله عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً قال مجاهد وهي الصبا، ويؤيده الحديث الآخر «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» وقال ابن جرير: عن عكرمة قال: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول

الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل، قال فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. ورواه ابن أبي حاتم ... عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره، وروى ابن جرير أيضا عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أرسلني خالي عثمان ابن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد، وريح إلى المدينة فقال ائتنا بطعام ولحاف، قال: فاستأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأذن لي، وقال: «من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا» قال: فذهبت والريح تسفي كل شئ، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: فما يلوي أحد منهم عنقه، قال: وكان معي ترس لي فكانت الريح تضربه عليّ، وكان فيه حديد، قال: فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفّي فأنفذها إلى الأرض. وقوله: وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إليّ فيجتمعون إليه، فيقول النجاء النجاء، لما ألقى الله عزّ وجل في قلوبهم من الرعب، وروى محمد بن إسحاق عن محمد ابن كعب القرظي قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال وكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد كنا نجهد، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. قال: قال حذيفة رضي الله عنه: يا ابن أخي والله رأيتنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هويا من الليل، ثم التفت فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ - يشترط له النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرجع- أدخله الله الجنة» قال: فما قام رجل، ثم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ - يشترط له رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرجعة- أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا» قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله عزّ وجل تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قرارا ولا نارا، ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر كل امرئ من جليسه. قال حذيفة رضي الله

عنه: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء؛ فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إليّ أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم؛ قال حذيفة رضي الله عنه: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح عليّ طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلّم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم. وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه فقال له رجل: لو أدركت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت. فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقرّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة» فلم يجبه منا أحد ثم الثانية، ثم الثالثة مثله، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «يا حذيفة قم فائتنا بخبر من القوم» فلم أجد بدّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: «ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ» قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: «لا تذعرهم عليّ» ولو رميته لأصبته، قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام فأتيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ثم أصابني البرد حين فرغت، وقررت فأخبرت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وألبسني من فضل هناة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا نومان». ورواه يونس ابن بكير عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: إن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه: نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ إنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة رضي الله عنه: ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه، والله لا تدري يا ابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون! لقد رأيتنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، ثم ذكر نحو ما تقدم مطولا. وروى بلال بن

يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحوه ذلك أيضا وقد أخرجه الحاكم والبيهقي في الدلائل عن عبد العزيز بن أخي حذيفة قال: ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال جلساؤه: أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودا وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في صوت ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلّى الله عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له؛ ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا رجلا، حتى أتى عليّ وما عليّ جنّة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال فأتاني صلّى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي فقال: «من هذا؟» فقلت حذيفة قال: «حذيفة» فتقاصرت الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقمت فقال: «إنه كائن في القوم خبر فائتني بخبر القوم» قال: وأنا من أشد الناس فزعا، وأشدهم قرّا، قال: فخرجت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته» قال: فو الله ما خلق الله تعالى فزعا ولا قرّا في جوفي إلا خرج من جوفي؛ فما أجد فيه شيئا، قال: فلما وليت قال صلّى الله عليه وسلم: «يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني» قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته، ويقول الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني، قال فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم. وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو الله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فلما انتصفت في الطريق- أو نحوا من ذلك- إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين فقال: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فو الله ما عدا أن رجعت راجعني القرّ وجعلت أقرقف فأومأ إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي،

7 - سبب نزول قوله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ..

فدنوت منه فأسبل عليّ شملة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يرتحلون وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. وأخرج أبو داود في سننه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، من حديث عكرمة بن عمار به، وقوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ أي الأحزاب وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي من شدة الخوف والفزع وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا قال ابن جرير: ظن بعض من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك، وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا وظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط، وقال الحسن في قوله عزّ وجل: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدا صلّى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شئ نقول فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم، قولوا اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»، قال: فضرب وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الريح، وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي عامر العقدي. 7 - [سبب نزول قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا .. ] في سبب نزول قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال ابن كثير: قال أنس: عمي أنس ابن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليرين الله عزّ وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو: أين؟ واها لريح الجنة إني أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية مِنَ

8 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وكفى الله المؤمنين القتال

الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه رضي الله عنهم. ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه، وروى ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه قال: إن عمّه- يعني أنس بن النضر- رضي الله عنه غاب عن قتال بدر، فقال: غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم المشركين لئن أشهدني الله عزّ وجل قتالا للمشركين ليرين الله تعالى ما أصنع، قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء- يعني المشركين- ثم تقدم فلقيه سعد يعني ابن معاذ رضي الله عنه دون أحد فقال: أنا معك، قال سعد رضي الله عنه: فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فلما قتل: فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم، وكانوا يقولون فيه وفي أصحابه نزلت فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وأخرجه الترمذي في التفسير والنسائي، وقال الترمذي حسن. وقد رواه البخاري في المغازي وابن جرير عن أنس رضي الله عنه به ولم يذكر نزول الآية، وروى ابن أبي حاتم عن طلحة رضي الله عنه قال: لما أن رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ الآية كلها، فقام إليه رجل من المسلمين فقال يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت وعليّ ثوبان أخضران حضرميان فقال: «أيها السائل هذا منهم»). 8 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ] بمناسبة قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ قال ابن كثير: (ولهذا كان رسول الله يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده فلا شئ بعده» أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم». وفي قوله عزّ وجل: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم. قال محمد

9 - كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وأنزل الذين ظاهروهم .. الآيتان (26، 27)

ابن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنا: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة. وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح. كما روى الإمام أحمد ... عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» وهكذا رواه البخاري في صحيحه). 9 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ .. الآيتان (26، 27)] بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. قال ابن كثير: (قد تقدم أن بني قريظة لمّا قدمت جنود الأحزاب، ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم من العهد وكان ذلك بسفارة حيي ابن أخطب النضري- لعنه الله- دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه؛ فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك يا حيي إنك مشئوم فدعنا منك، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شئ أن يدخل معهم في الحصن فيكون له أسوتهم، فلما نقضت قريظة، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ساءه، وشقّ عليه وعلى المسلمين جدا، فلما أيّده الله تعالى ونصره، وكبت الأعداء، وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيّدا منصورا، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدّى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق، على بغلة عليها قطيفة من ديباج فقال: أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم» قال: لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، وفي رواية فقال له: عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح؟ قال: «نعم» قال: لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء قال صلّى الله عليه وسلم: «أين؟» قال: بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلّى الله عليه وسلم:

«لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا لم يرد منا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون لا نصليها إلا في بني قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين، وتبعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم نازلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاء في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبيّ بن سلول في مواليه بني قينقاع حين استطلقهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبيّ في أولئك، ولم يعلموا أن سعدا رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أكحله وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستجاب الله تعالى دعاءه وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون: يا سعد إنهم مواليك؛ فأحسن فيهم ويرقّقونه عليهم ويعطّفونه وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيّدكم» فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت». فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم». قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: «نعم». قال: وعلى من هاهنا- وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالا وإكراما وإعظاما- فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم». فقال رضي الله عنه: حكمي أني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة». وفي رواية: «لقد حكمت بحكم الله». ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدّت في

الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى من لم ينبت منهم من النساء وأموالهم، وهذا كله مقرر مفصّل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة التي أفردناها موجزا وبسيطا ولله الحمد والمنة. ولهذا قال تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فعليهم لعنة الله، وقوله تعالى: مِنْ صَياصِيهِمْ يعني حصونهم. كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف، ومنه سمي صياصي البقر وهي قرونها لأنها أعلى شئ فيها وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وهو الخوف لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وليس من يعلم كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين، وراموا قتلهم ليعزوهم في الدنيا فانعكس عليهم الحال، وانقلب إليهم القتال، انشمر المشركون، ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العزّ ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة، ولهذا قال تعالى: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء. وروى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكّوا فيّ فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد، فنظروني فلم يجدوني أنبت، فخلى عني وألحقني بالسبي، وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه النسائي وقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ أي جعلها لكم من قتلكم لهم وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قيل خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد ابن أسلم، وقيل فارس والروم، وقال ابن جرير: يجوز أن يكون الجميع مرادا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً روى الإمام أحمد عن علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة، قالت: فجلست إلى الأرض فمرّ سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد، قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوّف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم فمرّ وهو يرتجز ويقول:

لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل … ما أحسن الموت إذا حان الأجل قالت فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيها عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم رجل عليه تسبغة له- تعني المغفر-، فقال عمر رضي الله عنه: ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمّنك أن يكون بلاء أو يكون تخوّر، قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ فدخلت فيها، فرفع الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى قالت: ورمى سعدا رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له، وقال له خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله، فقطعه، فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، قالت وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت: فرقأ كلمه، وبعث الله تعالى الريح على المشركين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة ابن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصّنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد، قالت: فجاءه جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، قالت: فلبس رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمرّ على بني تميم وهم جيران المسجد فقال: «من مرّ بكم» قالوا مرّ بنا دحية الكلبي، وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام، فأتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصارهم، واشتد البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «انزلوا على حكم سعد بن معاذ» فنزلوا وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه، وحفّ به قومه، فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل الكتاب ومن قد علمت، قالت: فلا يرجع إليهم شيئا، لا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله. قال: «أنزلوه»

10 - تحقيق ابن كثير حول أسماء المدينة بمناسبة آية وإذ قالت طائفة منهم ..

فأنزلوه، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «احكم فيهم» قال سعد رضي الله عنه: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسّم أموالهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله» ثم دعا سعد رضي الله عنه: فقال اللهم إن كنت أبقيت على نبيّك من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، قال فانفجر كلمه، وكان قد برئ منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما قالت: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي وكانوا كما قال الله تعالى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ قال علقمة: فقلت: أي أمه فكيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته صلّى الله عليه وسلم، وقد أخرج البخاري ومسلم ... عن عائشة رضي الله عنها نحوا من هذا ولكنه أخصر منه وفيه دعا سعد رضي الله عنه). 10 - [تحقيق ابن كثير حول أسماء المدينة بمناسبة آية وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ قال ابن كثير: (يعني المدينة كما جاء في الصحيح: «أريت في المنام دار هجرتكم أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنّها هجر فإذا هي يثرب» وفي لفظ المدينة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد ... عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سمّى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى إنما هي طابة هي طابة» تفرّد به الإمام أحمد، وفي إسناده ضعف. والله أعلم. ويقال إنما كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلائيل بن عوض بن عملاق ابن لاذ بن إرم بن سام بن نوح. قاله السهيلي، قال: وروي عن بعضهم أنه قال: إن لها في التوراة أحد عشر اسما: المدينة، وطابة، وطيبة، والمسكينة، والجابرة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، والمجبورة، والعذراء، والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال: إنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة: يا طيبة، ويا طابة، ويا مسكينة لا تقلّي الكنوز أرفع أحاجرك على أحاجر القرى). 11 - [من تعليقات صاحب الظلال حول المقطع الثاني] من تعليقات صاحب الظلال على المقطع الذي مرّ معنا ما يلي: (إن النص القرآني يغفل أسماء الأشخاص، وأعيان الذوات، ليصوّر نماذج البشر وأنماط الطباع. ويغفل تفصيلات الحوادث وجزئيات الوقائع، ليصوّر القيم الثابتة

والسنن الباقية. هذه التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات، ومن ثمّ تبقى قاعدة ومثلا لكل جيل وكل قبيلة. ويحفل بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره اللطيف، ويقف عند كل مرحلة في المعركة للتوجيه والتعقيب والربط بالأصل الكبير. ومع أنه كان يقصّ القصة على الذين عاشوها، وشهدوا أحداثها، فإنه كان يزيدهم بها خبرا، ويكشف لهم من جوانبها ما لم يدركوه وهم أصحابها وأبطالها! ويلقي الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبآت الضمائر؛ ويكشف للنور الأسرار والنوايا والخوالج المستكنة في أعماق الصدور. ذلك إلى جمال التصوير، وقوّته، وحرارته، مع ... التصوير ... للجبن والخوف والنفاق والتواء الطباع! ومع الجلال الرائع والتصوير الموحي للإيمان والشجاعة والصبر والثقة في نفوس المؤمنين. إن النّص القرآني معدّ للعمل- لا في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث وشاهدوه فحسب. ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك، وفي كل تاريخ. معدّ للعمل في النفس البشرية إطلاقا كلما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوعة. بنفس القوّة التي عمل بها في الجماعة الأولى. ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي واجهتها أول مرة. هنا تتفتّح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتّح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة. وهنا تتحوّل تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات. وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها. تنتفض خلائق حيّة، موحية، دافعة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية، في عالم الواقع وعالم الضمير. إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة ... وكفى ... إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة؛ وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب! وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات؛ ثم يقف الموقف، أو يواجه

الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط، ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفئ بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق. وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث). ***

المقطع الثالث ويمتد من الآية (28) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو

المقطع الثالث ويمتدّ من الآية (28) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو: 33/ 40 - 28

كلمة في السياق: حول صلة مقاطع السورة بسورتي النساء والمائدة، وإضافة جديدة لموضوع الوحدة القرآنية

33/ 35 - 40 كلمة في السياق: [حول صلة مقاطع السورة بسورتي النساء والمائدة، وإضافة جديدة لموضوع الوحدة القرآنية] 1 - رأينا أن للمقطع الأول في سورة الأحزاب صلة بالمقطع الأول من سورة النساء: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... النّساء. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ... الأحزاب. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... النساء. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ ... الأحزاب.

وقد ختم المقطع الأول في سورة النساء بقوله تعالى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. وختم المقطع الأول في سورة الأحزاب بقوله تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً. 2 - ورأينا أنّ للمقطع الثاني في سورة الأحزاب صلة بالمقطع الأول من سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ... مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الأحزاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ المائدة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ الأحزاب. ... فالصلة قائمة بين المقطع الأول من سورة النساء، والمقطع الأول من سورة الأحزاب، وبين المقطع الثاني من سورة الأحزاب، والمقطع الأول من سورة المائدة، وكنّا قلنا من قبل: إن مقاطع سورة الأحزاب تتناوب؛ فمقطع له صلة بسورة النساء، ومقطع له صلة بسورة المائدة، وعلى هذا فالمقطع الثالث في سورة الأحزاب له صلة بسورة النساء: ... يبدأ المقطع الثاني في سورة النساء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وها هو المقطع الثالث من سورة الأحزاب يقول: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ

وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ... ... وفي المقطع الثاني من سورة النساء: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. وفي المقطع الثالث من سورة الأحزاب: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ .... فالصلة قائمة بين المقطع الثالث من سورة الأحزاب والمقطع الثاني من سورة النساء. 3 - وبمناسبة الكلام عن صلات مقاطع سورة الأحزاب بسورتي النساء والمائدة نحب أن نذكر جزءا آخر من نظريتنا في فهم الوحدة القرآنية، لقد ذكرنا من قبل أنّ لكل سورة بعد سورة البقرة محورها من سورة البقرة وأن هذه السور تفصّل في المحور وارتباطاته وامتداداته، وهاهنا نضيف: أنّه عند ما تفصّل سورة سابقة بمحور، فإنّ السورة اللاحقة إذا فصّلت في المحور نفسه فإن تفصيلها ينصب على المحور وعلى السور التي فصّلت المحور من قبل؛ فتجد شبكة العلاقات بين المحور وامتداداته وارتباطاته، والسور التي فصّلته على أشدها. 4 - قلنا إن مقاطع سورة الأحزاب تفصّل بالتناوب في محوري سورة النساء وسورة المائدة، وهذا المقطع له صلة بمحور سورة النّساء، ونلاحظ أن لهذا المقطع صلة بقضايا النّساء وهو موضوع من أهم المواضيع التي تظهر فيها الطاعة الحقيقية لله عزّ وجل. فإذا كان محور سورة النساء من سورة البقرة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فهذا المقطع يعطينا صورة كاملة عن التقوى وأهلها وصفاتهم من خلال الخطاب للقدوة العليا للبشر رسول

التفسير

الله صلّى الله عليه وسلم ولأهل بيته. 5 - من خلال ما ذكرناه هاهنا وما ذكرناه من قبل ندرك أنّه مع كثرة صلات السور ببعضها فإنّ ذلك لا يؤثّر على وحدة السورة، سواء في ذلك تكامل معانيها، أو وحدة سياقها، أو وحدة جرسها، أو وحدة روحانيتها، لاحظ ما يلي: أ- بدأت سورة الأحزاب بأوامر منها الأمر بالتوكّل، وجاء المقطع الثاني يعمّق موضوع التوكّل، وختم المقطع الثاني بذكر توريث الله المؤمنين الأرض، ولذلك صلاته ببعضه، ومن ذكر إرث الأرض ينتقل السياق ليربي أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا. ب- بدأت السورة بالنّهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وجاء المقطع الثاني ليبيّن لنا بعض أخلاقيات المنافقين، وجاء المقطع الثالث ليذكر تفصيلا أخلاقيات أهل الإيمان. ج- جاء في المقطع الأول إلغاء قاعدة التبنّي، وسيأتي في المقطع الثالث ما ينهي قاعدة التبني من أساسها. التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي السعادة وكثرة الأموال فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطكن متعة الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ أي وأطلقكن سَراحاً جَمِيلًا لا ضرار فيه وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً وقد اخترن- رضوان الله عنهن- الله ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. كلمة في السياق: إن هذا الخطاب في سياق السورة المبدوءة ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ... يدل على أن هذا التخيير من التقوى المأمور بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ إذ إنّ إرادة الحياة الدنيا خلق من أخلاق الكافرين، وهي أخلاق لا ينبغي أن تصيب بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن هنا نعرف كيف أن سورة الأحزاب كسورة النساء تبني قضية التقوى، ولنعد

[سورة الأحزاب (33): آية 30]

إلى التفسير. ... فبعد الخطاب المباشر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يتّجه الخطاب لأزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليدلهنّ على المقام الأعلى لتقوى النساء يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ أي بسيّئة بليغة في القبح مُبَيِّنَةٍ أي ظاهر فحشها، قال ابن كثير: (قال ابن عباس رضي الله عنه وهي النشوز وسوء الخلق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع) وإنما قال ابن كثير ذلك ليبيّن عصمة أزواج الأنبياء من الزنا يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ في الدنيا والآخرة. قال النسفي: (ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلّى الله عليه وسلم، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر). وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي وكان تضعيف العذاب لهنّ سهلا هيّنا عليه وَمَنْ يَقْنُتْ أي ومن يطع مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مثلي ثواب غيرها؛ لأنها قدوة، فلها أجر العمل، وأجر الإمامة وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً أي جليل القدر وهو الجنة يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء إذا تقصّيت أمّة النساء جماعة جماعة لم توجد فيهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أي إن أردتن التقوى، أو إن كنتن متقيات فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال. قال النسفي: (أي إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب فلا تجئن بقولكن خاضعا أي لينا خنثا مثل كلام المريبات) فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي ريبة وفجور وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً قال النسفي: حسنا مع كونه خشنا، وقال ابن كثير: قال ابن زيد: قولا حسنا جميلا معروفا في الخير، ومعنى هذا: أنّه لا ينبغي أن تخاطب المرأة الأجانب بكلام فيه ترخيم، فلا تخاطب الأجانب كما تخاطب زوجها وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي القديمة، أي ولا تبرجن تبرجا مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، أو ما بين آدم ونوح عليهما السلام، والجاهلية

[سورة الأحزاب (33): آية 34]

الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلم، أو الجاهلية الأولى الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام. وقال مجاهد في التبرج: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال. فذلك تبرج الجاهلية. وفسّر قتادة تبرج الجاهلية الأولى بأن نساءها كن يخرجن لهن مشية وتكسّر وتغنج. وفسّر مقاتل بن حيان التّبرج فقال: والتبرّج أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها، وقرطها، وعنقها، ويبدو ذلك كله منها ... وقد فعل نساء الجاهلية المعاصرة ما هو أبشع وأسفه وأخسّ، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خصّ الصلاة والزكاة بالأمر، ثم عمّ بجميع الطاعات؛ تفصيلا لهما لأنّ من واظب عليهما جرّتاه إلى ما وراءهما إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إرادة تشريع لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أي يا أهل البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أي من نجاسة الآثام، بيّن أنّه إنما نهاهنّ وأمرهن ووعظهنّ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى، واستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر، لأنّ عرض المقترف للمقبّحات يتلوّث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض منهنّ نقي كالثوب الطاهر. وفي الآية دليل على أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته. وفي الفوائد كلام عن مثل هذا. وفي الآية تنفير لأولي الألباب عن المناهي، وترغيب لهم في الأوامر وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن وَالْحِكْمَةِ أي السنة. إذ كن يسمعن كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع القرآن إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً عالما بغوامض الأشياء خَبِيراً أي عالما بحقائقها، أي هو عالم بأفعالكن وأقوالكن؛ فاحذرن مخالفة أمره ونهيه، ومعصية رسوله. ... كلمة في السياق: وهكذا نلاحظ أن الأوامر قد صدرت لزوجات الرسول صلّى الله عليه وسلم وهن القدوة العليا للمسلمات: 1 - بإرادة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم والدار الآخرة. 2 - بالتنزّه عن الفواحش كلها. 3 - بعدم الخضوع بالقول واللين فيه، هذا مع الكلم الطيب.

[سورة الأحزاب (33): آية 35]

4 - القرار في البيوت، إلا لحاجة مشروعة، وعدم التبرج. 5 - إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. 6 - الطاعة لله والرسول. 7 - ذكر الكتاب والسنة. وإذا استقرت هذه المعاني تأتي الآن آية تتحدّث عن الصفات العليا للرجل والمرأة؛ الصفات التي يستحق بها أهلها مغفرة الله وجنّته، وهكذا يصل السياق إلى أن يرفع الرجل والمرأة إلى ذرى التقوى، بالدلالة على الطريق، وبتقرير تفصيلات ذلك. ... إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ قال النسفي: (المسلم هو الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يعاند، أو المفوّض أمره إلى الله تعالى، المتوكل عليه) فمن أسلم وجهه إلى الله، وانقاد له، ولم يعاند حكما من أحكامه، وفوّض أمره إلى الله، وتوكّل عليه فذلك المسلم وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المؤمن هو المصدّق بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلم والمصدّق لله ورسوله في كل شئ. وقد دلّت الآية على أنّ الإيمان غير الإسلام، وهو أخصّ منه، ولنا في الفوائد عودة على هذا وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ القنوت: هو الطاعة في سكون، وعلى هذا فالقانتون هم القائمون في الطاعة، قال ابن كثير: (فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إليها وهي الإيمان، ثم القنوت ناشئ عنهما) وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ قال النسفي: في النّيات والأقوال والأعمال. وخصها ابن كثير في هذا المقام في الأقوال فقال: هذا في الأقوال فإن الصدق خصلة محمودة، ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرّب عليه كذبة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات، وعن السيئات، وعلى الامتحانات، قال ابن كثير: (هذه سجية الأثبات وهي الصبر على المصائب، والعلم بأنّ المقدّر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى: أي أصعبه في أول وهلة، ثم ما بعده أسهل منه، وهو صدق السجيّة وثباتها) وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أي المتواضعين لله بالقلوب والجوارح، أو الخائفين. قال ابن كثير: (الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع، والحامل

كلمة في السياق

عليه الخوف من الله تعالى، ومراقبته) وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ فرضا ونفلا وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ قال ابن كثير: (في الحديث الذي رواه ابن ماجه: «والصوم زكاة البدن» أي يزكّيه ويطهّره وينقّيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا .. ) ويدخل في الصوم هنا صوم الفريضة والنافلة، ومن ثمّ قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة ناسب أن يذكر بعده وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يحلّ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ قال النسفي: (بالتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، وقراءة القرآن، والاشتغال بالعلم من الذكر) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي هيّأ مَغْفِرَةً منه لذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً وهو الجنة. والمعنى: أن الجامعين والجامعات لهذه الطّاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما على طاعاتهم. ... كلمة في السياق: بعد أن أمر الله تعالى نساء رسوله عليه الصلاة والسلام وهن القدوة العليا للمسلمات بما أمر ذكر في الآية الأخيرة الخصائص العليا لكل مسلم ومسلمة، وما أعدّه الله لمن اجتمعت له هذه الخصائص، ولما كان أول هذه الخصائص الإسلام تأتي بعد ذلك آية تبيّن مظهرا من مظاهر هذا الإسلام. ... وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي وما صح لرجل مؤمن، ولا امرأة مؤمنة إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً من الأمور أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل من واجبهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، واختيارهم تلوا لاختياره. قال ابن كثير: (فهذه الآية عامّة في جميع الأمور؛ وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول ... ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) قال النسفي: (فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسوق).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بمناسبة الآية السابقة يورد ابن كثير قوله تعالى في سورة النساء: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً لأن المقام واحد، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن هذا المقطع عليه طابع سورة النساء؛ فهو يفصّل في مقامها ومحورها. 2 - بعد ما مرّ من سياق المقطع، واستقر عليه السياق من وجوب التسليم لله والرسول صلّى الله عليه وسلم يقصّ علينا الله عزّ وجل قصة تزويجه زينب بنت جحش من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بعد تطليق زيد لها. ومجئ هذه القصة في هذا السياق تعليم لنا أن الاستسلام لله هو الحكمة الخالصة، لأن الله يعلم وغيره لا يعلم، وأن الاستسلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الحكمة الخالصة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكلّف ومبلّغ عن الله. وفي هذا السياق يذكر الله بعض خصائص الرسل عليهم السلام، وبعض خصائص رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، وكل ذلك لتعميق معنى الاستسلام لله ورسوله، ومن ثمّ ندرك جهل وسفه المبشّرين النصارى والمستشرقين إذ جعلوا من الآيات التالية محل طعن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا من عمى القلب؛ لأن الفهم الصحيح لها يعمّق معنى الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم، والاستسلام له كما سنرى. 3 - من خلال أسباب النزول نرى أن الآية السابقة مقدمة للآيات الآتية، لأنها كلها في موضوع واحد هو موضوع زيد وزينب عليهما الرضوان. ولما كانت أسباب النزول ضرورية لفهم الآيات فإننا سنذكرها هنا كفائدة مستقلة سابقة على أخواتها في نهاية المقطع كمقدمة لتفسير الآيات الآتية. .. فوائد: 1 - [سبب نزول قوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ قال ابن كثير: (قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وإذ تقول للذي أنعم الله عليه .. آية (37)

رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بلى فانكحيه» قالت: يا رسول الله أؤامر نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم» قالت: إذا لا أعصي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي. وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا- وكانت امرأة فيها حدّة- فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية كلها. وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل ابن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه فامتنعت، ثم أجابت). وذكر ابن كثير بعد ذلك قولا آخر سنذكره فيما بعد. 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ .. آية (37)] وبمناسبة قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ... قال ابن كثير: (وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد زوّجه بابنة عمّته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير، وستين درهما، وخمارا، وملحفة، ودرعا، وخمسين مدا من طعام، وعشرة أمداد من تمر قاله مقاتل بن حيان، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول له: «أمسك عليك زوجك واتق الله» قال الله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحا؛ لعدم صحتها فلا نوردها، وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثا من رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضا. وقد روى البخاري أيضا بعضه مختصرا عن أنس بن مالك قال: إن هذه الآية وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ نزلت في شأن زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. وروى ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن الحسن في قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ فذكرت له، فقال: لا ولكن الله تعالى أعلم نبيّه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه

[سورة الأحزاب (33): آية 37]

ليشكوها إليه قال: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» فقال (أي الله تعالى) قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك) اه. ... من هذين النقلين نعرف أنّ بعض الكلام الذي يقال في هذا المقام كلام ساقط لا أصل له، من مثل أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحب زينب، فأعلمت زينب زوجها، فطلّقها من أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. إن مثل هذا الكلام يشبه ما يرويه اليهود عليهم لعنة الله عن رسلهم وحاشاهم. وبهذه المناسبة أقول: إنه حيث توجد روايتان فإن المبشّرين والمستشرقين وأذنابهم يختارون الرواية المظلمة مضمونا، ولو كانت باطلة سندا، ويتركون الرواية ذات المضمون المنير وإن كانت صحيحة سندا، وللأسف فقد استطاعوا أن يضللوا بعض الناس من خلال سيطرتهم على مناهج التدريس، وعلى الإعلام، ليس فقط في قضايا العصر النبوي بل في قضايا التاريخ الإسلامي كله. وبعد هذه المقدمة فلنفسّر الآيات. ... وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو أجلّ النعم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق والتبنّي، ثمّ بالتولّي بأن كنت مولاه، فهو متقلّب في نعمة الله ونعمة رسوله صلّى الله عليه وسلم وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي زينب بنت جحش وَاتَّقِ اللَّهَ فلا تطلّقها، وهو نهي تنزيه؛ إذ الأولى ألا يطلق، قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما شكا زيد من كبرها وترفّعها وإيذائها له بذلك وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي تخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد، وهو الذي أبداه الله تعالى وأعلمه لرسوله صلّى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه كما رأينا وَتَخْشَى النَّاسَ أي وتخشى قالة الناس إنه نكح امرأة متبناه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فلا تبال إذا أطعت أمر الله بشيء فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجة وأربا، أي فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وتقاصرت عنها همته وطلّقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها قال ابن كثير: (أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عزّ وجل،

[سورة الأحزاب (33): آية 38]

بمعنى: أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي، ولا عقد، ولا مهر، ولا شهود من البشر). وسنرى ذلك في الفوائد. ثم بيّن الله عزّ وجل حكمة ذلك لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي إذا أدركوا منهنّ حاجة، وبلوغ مراد وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه مكوّنا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب. قال ابن كثير: (أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدّره الله تعالى وحتّمه، وهو كائن لا محالة، وكانت زينب في علم الله ستصير من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي فيما أحل له وأمر له وهو نكاح زينب امرأة زيد، أو قدّر له من عدد النساء. قال ابن كثير: (أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيّه زيد بن حارثة رضي الله عنه) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي في الأنبياء الذين مضوا من قبل. قال ابن كثير: (أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا ردّ على من توهّم من المنافقين نقصا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيّه الذي كان قد تبنّاه) وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي قضاء مقضيا، وحكما مبتوتا. قال ابن كثير: (أي وكان أمره الذي يقدّره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ إلى خلقه ويؤدونها بأمانة وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي يخافونه ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي وكفى بالله ناصرا ومعينا، أو كافيا للمخاوف، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أي لم يكن أبا رجل منكم حقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ. وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم يعني: لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممّن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلم كأنه بعض أمته، وفهم من الآية أن زيدا لما كان واحدا من رجالهم الذين ليسوا بأولاده حقيقة فحكمه حكمهم في كونه داخلا في أبوة الرسول صلّى الله عليه وسلم العامّة للمؤمنين، فيما يرجع إلى وجوب التوقير، والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وقد أخبر بما أخبر عنه هنا علما منه أن محمدا صلّى الله عليه وسلم لن يكون له ولد يبلغ مبالغ الرجال،

كلمة في السياق

ومن ثمّ فالطاهر، والطيّب، والقاسم، وإبراهيم، توفّوا صبيانا، وليس بعده نبي. ... كلمة في السياق: جاءت قصة زينب رضي الله عنها في سياق المقطع الثالث فأدّت مجموعة معان في محلها: 1 - أرتنا أن زواج الرسول صلّى الله عليه وسلم مسألة يتدخل فيها الله عزّ وجل تدخلا مباشرا، ومن ثمّ فإنّ هذا درس لنساء الرسول صلّى الله عليه وسلم في معرفة ذلك، ودرس للمؤمنين فيعطوا هذا الموضوع حقه من الفهم والعلم والاحترام والتوقير، وهذا أول مظاهر ارتباط الآيات الأخيرة بمقطعها. 2 - أرتنا الآيات حكمة زواج الرسول صلّى الله عليه وسلم بزينب؛ وفي ذلك درس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تزوج فإنّه يفعل ذلك لحكمة، وهذا يقتضي من أزواجه أدبا، ومن المؤمنين معرفة وأدبا وتسليما. 3 - تعطينا هذه الآيات نموذجا من نماذج التربية الربانية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في سياق السّورة المبدوءة بالأمر بالتقوى، والاتباع، ورفض طاعة الكافرين والمنافقين، والتوكل؛ فترينا موضوعا تطبيقيا لكيفية أن أمر الله فيه المصلحة الخالصة الكاملة؛ ومن ثم فلا ينبغي لأحد أن يتلكّأ عنه مهما كانت الضغوط الاجتماعية الكافرة والمنافقة عنيفة. 4 - كما تعطينا الآيات دروسا في الإيمان والإسلام، والمواصفات العليا للمسلم الكامل الذي مرت مواصفاته في آية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ كما تعطينا درسا عمليا في مواقف المسلمين الكاملين في التسليم في كل حال، والطاعة في كل حال، والصبر على كل حال. وعلى هذا فالمقطع يتكامل في بدايته ونهايته ووسطه، إذ ارتقى بالمسلم والمسلمة إلى الكمال من خلال الأوامر والتقرير والعرض. وسنذكر في الفوائد تعليقات لها علاقة في السياق تأتي في محلها. فلننقل بعض فوائد المقطع: ...

فوائد

فوائد: 1 - [روايات في سبب نزول آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها وفي ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلم في التخيير نذكر هذه الروايات: (روى البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم أخبرته، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخيّر أزواجه، قالت: فبدأ بي رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: «إن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ» إلى تمام الآيتين فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وكذا رواه معلقا عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها فذكره وزاد قالت ثم فعل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مثل ما فعلت). (وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم يعدّها علينا شيئا. أخرجاه من حديث الأعمش، وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فدخلا والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو صلّى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لأكلّمنّ النبي صلّى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا، فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: «هن حولي يسألنني النفقة» فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان تسألان النبي صلّى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فنهاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال: وأنزل الله عزّ وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال: «إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» قالت: وما هو؟ قال فتلا عليها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لم يبعثني معنّفا، ولكن بعثني معلّما ميسرا،

2 - كلام ابن كثير والمؤلف وصاحب الظلال حول قوله تعالى وقرن في بيوتكن ..

لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا خبّرتها» انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري فرواه هو والنسائي من حديث زكريا بن إسحاق المكي به). قال ابن كثير: (قال عكرمة وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، رضي الله عنهن، وكانت تحته صلّى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين). 2 - [كلام ابن كثير والمؤلف وصاحب الظلال حول قوله تعالى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قال ابن كثير: (أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن وهنّ تفلات- وفي رواية- وبيوتهن خير لهن». وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال: جئن النساء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قعدت- أو كلمة نحوها- منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى». ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت إلا روح ابن المسيب وهو رجل من أهل البصرة مشهور. وروى البزار أيضا عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها». ورواه الترمذي. وروى البزار بإسناده المتقدم وأبو داود أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها». وهذا إسناد جيد). أقول: ومن الحوائج الشرعية زيارة أبيها وأمها، ومن الحوائج الشرعية خروجها لطلب العلم المفروض فرض عين أو فرض كفاية بشرطه، ومن الحوائج الشرعية خروجها لسؤال عالم لم يستطع زوجها أن يكفيها مئونة سؤاله، ومن الحوائج الشرعية قيامها بخدمة نفسها إذا لم تجد من يكفيها ... قال صاحب الظلال في قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ: (من وقر، يقر. أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت

فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر. وما عداه استثناء طارئ لا يثقلن فيه ولا يستقررن. إنما الحاجة تقضى. وبقدرها. والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة. «ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيأ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه .. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال. وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوّع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال. فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكّع في النوادي والمجتمعات ... فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان! ولقد كان النساء على عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا. ولكنه كان زمان فيه عفة، وفيه تقوى. وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شئ. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله- صلّى الله عليه وسلم! في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: «كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن

3 - تحقيق المؤلف حول كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته بمناسبة الآية (33)

من الغلس. وفي الصحيحين أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل! فماذا أحدث النساء في حياة عائشة- رضي الله عنها-؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!). 3 - [تحقيق المؤلف حول كون أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته بمناسبة الآية (33)] رأينا في تفسير قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أنّ هذه الآية تدل على أن أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته، وكونها في أزواجه عليه الصلاة والسلام لا يعني أن آل البيت هنا لا يراد بها إلا أزواجه عليه الصلاة والسلام. فكلمة آل البيت كلمة أعمّ، وسياق ورودها هو الذي يحدّد ما يدخل فيها. وفي هذه الآية قال ابن كثير: (وقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... نص في دخول أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. نزلت في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، وهكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال: نزلت في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنّها نزلت في شأن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعمّ من ذلك). ثمّ ذكر ابن كثير أحاديث كثيرة تدلّ على ذلك، وختم كلامه بذكر رواية تخصّص غير نسائه صلّى الله عليه وسلم بلقب أهل البيت وعلّق على ذلك قال: (روى مسلم في صحيحه عن يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمرو بن مسلمة إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال له حصين لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلّفوا فيه، ثم قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولها كتاب الله تعالى، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به- فحث على كتاب الله عزّ وجل ورغّب فيه- ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» ثلاثا. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عنهم، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال: نعم. ثم رواه عن محمد بن الريان عن حسان بن إبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه فذكر الحديث بنحو ما تقدم وفيه: فقلت له: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى، والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنّه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح جمعا بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعا أيضا بين القرآن والأحاديث المتقدمة- إن صحت-؛ فإن في بعض أسانيدها نظرا والله أعلم، ثم الذي لا شك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة. قاله قتادة وغير واحد: واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكرا سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلّى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية، وإذا

4 - كلام النسفي حول حكم التخيير في الطلاق

كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث «وأهل بيتي أحق». 4 - [كلام النسفي حول حكم التخيير في الطلاق] وما حكم التخيير في الطلاق، أي لو قال قائل لزوجته: اختاري نفسك. قال النسفي: (وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت: اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء وعن علي رضي الله عنه إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة) على خلاف في ذلك بين العلماء .. [5، 6 - سبب نزول آية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ .. وكلام ابن كثير حولها] 5 - في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ روى الإمام أحمد عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر، قالت: وأنا أسرّح شعري، فلففت شعري ثم خرجت إلى حجرتي- حجرة بيتي- فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر «يا أيها الناس إن الله تعالى يقول إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» إلى آخر الآية وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به. وروى النسائي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا نبي الله ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرن؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وقد رواه ابن جرير عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أيذكر الرجال في كل شئ ولا نذكر؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. 6 - عند قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال ابن كثير: (فقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ دليل على أن الإيمان خير، والإسلام هو أخص منه لقوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وفي الصحيحين: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري). 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ] عند قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ قال ابن كثير:

8 - سبب نزول آية وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ..

(روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش ... عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم بمثله. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» قال: قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه». وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فأتى على جمدان فقال: «هذا جمدان سيروا فقد سبق المفردون» قالوا وما المفردون؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلّقين» قالوا: والمقصرين. قال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلّقين» قالوا: والمقصرين. قال: «والمقصرين» تفرّد به من هذا الوجه ورواه مسلم دون آخره. وقال الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عزّ وجل» وقال معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال صلّى الله عليه وسلم: «ذكر الله عزّ وجل» وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن رجلا سأله فقال: أي المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «أكثرهم لله تعالى ذكرا» قال: فأي الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «أكثرهم لله عزّ وجل ذكرا» ثم ذكر الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة، وكل ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أكثرهم لله ذكرا» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أجل»). 8 - [سبب نزول آية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ .. ] رأينا أن سبب نزول قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ هو قصة زينب وزيد رضي الله عنهما كما ذكرناها، إلا أن بعضهم يذكر سببا آخر. وقد ذكر ابن كثير الرواية الأخرى، وعلّق عليها، وذكر بمناسبة الآية بعض القصص قال:

(وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، وكانت أول من هاجر من النساء- يعني بعد صلح الحديبية- فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه يعني والله أعلم بعد فراقه زينب، فسخطت هي وأخوها، وقال: إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فزوجنا عبده، قال: فنزل القرآن وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً إلى آخر الآية قال: وجاء أمر أجمع من هذا النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ قال: فذاك خاص وهذا أجمع. وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال: حتى أستأمر أمّها فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فنعم إذا» قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها فقالت: لاها الله إذن ما وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا جليبيبا وقد منعناها من فلان وفلان، قال:- والجارية في سترها تسمع- قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، قال: فكأنها جلت عن أبويها وقالا: صدقت فذهب أبوها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه قال صلّى الله عليه وسلم: «فإني قد رضيته»، قال: فزوجها، ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بنت بالمدينة. ... قال ثابت رضي الله عنه: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحدث إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة ثابتا: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: قال: «اللهم صبّ عليها صبّا، ولا تجعل عيشها كدّا»، وكذا كان فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها. هكذا أورده الإمام أحمد بطوله، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب: أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره؟ نزلت هذه الآية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وقال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا

9 - كلام ابن كثير عن زيد - رضي الله عنه -

قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول. كما قال تبارك وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به». ولهذا شدّد في خلاف ذلك فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً كقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. 9 - [كلام ابن كثير عن زيد- رضي الله عنه-] وبمناسبة الكلام عن زيد في الآيات قال ابن كثير عنه: (وكان سيدا كبير الشأن، جليل القدر، حبيبا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يقال له الحبّ، ويقال لابنه أسامة الحبّ ابن الحبّ. قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية إلا أمّره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه، رواه الإمام أحمد. وروى البزار عن أسامة بن زيد قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقالا: يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان. فقال صلّى الله عليه وسلم: أتدري ما حاجتهما؟ قلت: لا يا رسول. قال صلّى الله عليه وسلم: «لكني أدري». قال: فأذن لهما. قالا: يا رسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إليك؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «أحب أهلي إليّ فاطمة بنت محمد» قالا: يا رسول الله ما نسألك عن فاطمة، قال صلّى الله عليه وسلم: «فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه». 10 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها قال ابن كثير: (أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عزّ وجل. بمعنى: أنه أوحى أن يدخل عليها بلا ولي، ولا عقد، ولا مهر، ولا شهود من البشر. روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: «اذهب فاذكرها علي» فانطلق حتى أتاها وهي تخمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن انظر إليها وأقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا

11 - كلام ابن كثير حول آية لكي لا يكون على المؤمنين حرج .. وتعليق المؤلف

بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عزّ وجل، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم واتّبعته، فجعل صلّى الله عليه وسلم يتتبّع حجر نسائه يسلّم عليهن، ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر. فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية كلها. ورواه مسلم والنسائي. وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فتقول: زوّجكنّ أهاليكن، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات. وقدمنا في سورة النساء عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما فقالت زينب رضي الله عنها: أنا التي نزل تزويجي من السماء. وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء. فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وروى ابن جرير عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلّى الله عليه وسلم: إني لأدلي عليك بثلاث: ما من نسائك امرأة تدلي بهن: إن جدي وجدك واحد، وإني أنكحنيك الله عزّ وجل من السماء، وإن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام). 11 - [كلام ابن كثير حول آية لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ .. وتعليق المؤلف] بمناسبة قوله تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً قال ابن كثير: (أي إنما أبحنا لك تزويجها، وفعلنا ذلك؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنّى زيد بن حارثة رضي الله عنه فكان يقال زيد بن محمد. فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إلى قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه. ولهذا قال تعالى في آية التحريم: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء: 23] ليحترز من الابن الدّعي فإنّ ذلك كان كثيرا فيهم). أقول: لاحظنا من هذه الفائدة ومما سبقها أن هناك ثلاث قضايا في هذه السورة مترابطة فيما بينها: قضية تحريم التبني الوارد في أول السورة، وموضوع نكاح الرسول

12 - كلام ابن كثير بمناسبة آية الذين يبلغون رسالات الله .. وتعليق المؤلف على ذلك

صلّى الله عليه وسلم زينب الذي هو هدم لقاعدة التبني، وموضوع عدم دخول بيت الرسول صلّى الله عليه وسلم والجلوس فيه إلا بشروط. ونلاحظ أن المعاني الثلاثة جاءت متفرقة مع أن القصة واحدة والقضية واحدة. وذلك يدلنا على أن كل معنى في القرآن إنما يوضع في محله، ليؤدّي دوره الخاص والعام، في سياق السورة الخاص والعام. فالوحدة القرآنية شئ أعمّ من وحدة الموضوع الواحد، إنّ الوحدة القرآنية لتشبه الوحدة الموجودة في هذا الكون، فلم يخلق الله الحديد وحده، ولا النحاس وحده، ولكنه خلق هذا الكون كما نراه، وجعل فيه من التناسق والتكامل ما لا ينقضي منه العجب، وكما أن الكون كتاب الله المفتوح، فالقرآن كتاب الله المقروء. وقد جعل الله في هذا القرآن من التكامل والتناسق ما لا يحاط به. 12 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ .. وتعليق المؤلف على ذلك] بمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ. قال ابن كثير: (وسيد الناس في هذا المقام، بل في كل مقام محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنه قام بأداء الرسالة، وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع فإنه قد كان النبي قبله إنما يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو صلّى الله عليه وسلم فإنه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ثم ورث مقام البلاغ عنه أمّته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم؛ بلّغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم. ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا. فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفّقون. فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم. روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول الله ما يمنعك أن تقول منه؟ فيقول: رب خشيت الناس فيقول: فأنا أحق أن يخشى». ورواه ابن ماجه. أقول: وقد دلت الآية على أن أحدا لا يستطيع أن يقوم بأعباء البلاغ كاملة إلا من خلا قلبه من خشية البشر. 13 - [تحقيق حول موضوع ختم النبوة والرسالة بسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بمناسبة الآية (40)] بمناسبة قوله تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أقول: إن موضوع ختم النبوة والرسالة بسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم موضوع معلوم من الدين

بالضرورة، فهو مجمع عليه، ومنكره كافر، وقد دأب الزنادقة والملاحدة خلال العصور على محاولة التشكيك فيه؛ لفتح الطريق أمام نبوات كاذبة، رأينا نموذجا عنها في دعوة الكذاب الأشر غلام أحمد القادياني. وقد ذكر ابن كثير عند هذه الآية أحاديث تؤكد موضوع ختم النبوة. قال: (فهذه الآية نص في أنه لا نبيّ بعده صلّى الله عليه وسلم فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخصّ من مقام النبوة، فإنّ كلّ رسول نبيّ، ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تمّ موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة». ورواه الترمذي وقال حسن صحيح. (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي». قال فشق ذلك على الناس. فقال: «ولكن المبشّرات» قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: «رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة» وهكذا رواه الترمذي وقال صحيح غريب. (حديث آخر) روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بني دارا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام». ورواه البخاري ومسلم والترمذي وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه. (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى دارا فأتمها، إلا لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة». انفرد به مسلم. (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا نبوة بعدي إلا المبشرات» قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: «الرؤيا الحسنة- أو قال- الصالحة».

(حديث آخر) روى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأكملها وأحسنها وأجملها، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بنيانك- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم-: فكنت أنا اللبنة». أخرجاه من حديث عبد الرزاق. (حديث آخر) روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» ورواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح. (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها، إلا موضع لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة». ورواه مسلم. (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته». (حديث آخر) قال الزهري: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» أخرجاه في الصحيحين. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما كالمودّع فقال: «أنا محمد النبي الأمي- ثلاثا- ولا نبي بعدي؛ أوتيت فواتح الكلم، وجوامعه، وخواتمه، وعلمت كم خزنة النار، وحملة العرش؛ وتجوّز بي، وعوفيت، وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم؛ فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى، أحلوا حلاله وحرموا حرامه». تفرد به الإمام أحمد. والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلّى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له. وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أنّ كلّ من ادّعى هذا المقام بعده فهو كذّاب أفّاك دجّال ضالّ مضلّ، ولو تحرق وشعبذ وأتى

بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب، كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة، والأقوال الباردة، ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان، لعنهما الله، وكذلك كل مدّع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال، فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها، وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، إلا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الآية [الشعراء: 221، 222]، وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم في غاية البر، والصدق، والرشد، والاستقامة، والعدل فيما يقولونه، ويأمرون به، وينهون عنه، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات، والأدلة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا، ما دامت الأرض والسموات). قال ابن كثير: روى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لو كتم محمد صلّى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ». أقول: إن كلام عائشة رضي الله عنها فيه إشارة إلى علامة من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام، وهي ما نراه في هذا القرآن من عتاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أحيانا بمثل هذا الأسلوب الفوقي المتعالي، مما يدلك- وحده- على أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل، وأن محمدا عبده ورسوله. ولننتقل إلى المقطع الرابع. ***

المقطع الرابع ويمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (44) وهذا هو

المقطع الرابع ويمتدّ من الآية (41) إلى نهاية الآية (44) وهذا هو: 33/ 44 - 41 كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الرابع بسورة المائدة وبالمحور] 1 - لقد رأينا أنّ مقاطع سورة الأحزاب يتناوب فيها الخطابان: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* ورأينا أن المقطع الذي يبدأ ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* هو أشبه بسورة النساء، والمقطع الذي يبدأ ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* أشبه بسورة المائدة. 2 - لاحظ الصلة بين قوله تعالى هاهنا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وبين قوله تعالى في المقطع الثاني من سورة المائدة: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. 3 - سترى صلة هذا المقطع بمحور سورة المائدة من سورة البقرة بعد الحديث عن تفسيره. التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً أي أول النهار وَأَصِيلًا أي آخره، أمر أولا بالذكر الكثير بشكل مطلق بالليل والنهار، وفي البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وخصّ البكور والأصائل بالتسبيح؛ لأن ملائكة الليل وملائكة النهار

[سورة الأحزاب (33): آية 43]

يجتمعون فيهما، والتسبيح من جملة الذكر، وخصّه الله بالذكر إبانة لفضله، لأن معناه تنزيه ذات الله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات، ويدخل في الذكر الصلوات، وقراءة القرآن، ومجالس العلم، والتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والدعاء، والطاعات عامّة، والعبادات، وهناك حدّ أدنى من الذكر هو الفرائض، والحد الأعلى منه لا حدّ له، ولا بدّ لمريد الله تعالى من إقامة الفرائض، وأن يخصص لنفسه حدا من الأوراد والطاعات يداوم عليه. تلك كانت سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته، كما سنرى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي هو الذي يرحمكم، ويرأف بكم وَمَلائِكَتُهُ يدعون لكم لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات المعصية، إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الكفر، إلى نور الإسلام، ومن ظلمات الشك والحيرة، إلى نور اليقين والطمأنينة، ومن ظلمات الحس، إلى نور الغيب، ومن ظلمات النفس، إلى نورانية القلب، ومن ظلمات الضلال، إلى نور الهداية وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، أما الكافرون فإنه يعاملهم بعدله في الآخرة. وفي ختم الآية بهذا دليل على أن المراد بالصلاة في هذه الآية الرحمة، فالله رحيم بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال ابن كثير: (أمّا في الدنيا فإنّه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصّرهم الطريق الذي ضلّ عنه وحاد عنه من سواهم، من الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأتباعهم من الطغام، وأمّا رحمته بهم في الآخرة فأمّنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنّجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته تعالى لهم، ورأفته بهم) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يرونه يوم القيامة سَلامٌ أي يقول لهم تبارك وتعالى: السلام عليكم وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ، والمناظر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ... كلمة في السياق: قلنا: إن مقاطع سورة الأحزاب تفصّل بالتناوب في سورة النساء، وفي سورة المائدة، وهذا المقطع يفصّل في سورة المائدة، فلنتذكر محور سورة المائدة الذي جاء فيه قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ

فوائد

يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .... لقد بيّن هذا المقطع أن سبب الهداية هو: صلاة الله وملائكته على المؤمنين هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ... ومجئ هذا النص في سياق الأمر اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ... يشير إلى أن الذكر الكثير هو الطريق لصلاة الله علينا. فالمقطع إذن فصّل في الطريق العملي الذي ينبغي أن يسلكه راغب الهداية؛ لينأى عن الضلال، هذا ما له علاقة بصلة هذا المقطع بالسياق القرآني العام. وأمّا صلته بما قبله فمن حيث إن المقطع السابق ذكر علامات الإيمان، ومما ذكره. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ... فناسب أن يؤمر المؤمنون أمرا خاصا بالذكر الكثير؛ ليبين لهم محلّه وأهميته في دين الله، وليبين لهم الطريق للتحقق، فقد جاء من قبل قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ... فالذكر الكثير طريق الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو إحدى صفات المسلمين، فأفرد بمقطع خاص به بعد أن مهّدت السورة لذلك. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً .. ] بمناسبة قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الحمصي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: دعاء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا أدعه: «اللهم اجعلني أعظّم شكرك، وأتّبع نصيحتك، وأكثر ذكرك، وأحفظ وصيتك». ورواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكر مثله وقال: غريب وهكذا رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن بشر قال: جاء أعرابيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «من طال عمره وحسن عمله» وقال الآخر: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبّث به قال صلّى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى. وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي حديث حسن غريب. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون». وروى الطبراني

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية هو الذي يصلي عليكم وملائكته .. وتعليق المؤلف على ذلك

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اذكروا الله ذكرا كثيرا حتى يقول المنافقون إنكم تراءون». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة». وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر؛ فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على تركه فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ .. وتعليق المؤلف على ذلك] بمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ... قال ابن كثير: (هذا تهييج إلى الذّكر، أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم كقوله عزّ وجل: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة: 151، 152] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه». والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة حكاه البخاري عن أبي العالية ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه، وقال غيره: الصلاة من الله عزّ وجل الرحمة. وقد يقال: لا منافاة بين القولين والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار كقوله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ الآيات. [غافر: 7 - 9]). أقول: في كتاب (جند الله ثقافة وأخلاقا) ذكرت أن الطريق إلى الهداية هو صلاة الله علينا، وصلاة الله علينا لها أسبابها فعلينا أن نتعرض لهذه الأسباب، وقد ذكرت من أسبابها الواردة في الكتاب والسنة: الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والصبر، والاسترجاع، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وغير ذلك. وذكرنا هناك أدلة كل

3 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وكان بالمؤمنين رحيما

ما ذكرناه فليراجع. 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً] بمناسبة قوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم وصبي في الطريق، فلما رأت أمّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، وسعت فأخذته فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار قال: فخفضهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: «لا والله لا يلقي حبيبه في النار» إسناده على شرط الصحيحين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته فقال صلّى الله عليه وسلم: «أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟» قالوا: لا. قال صلّى الله عليه وسلم: «فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها»). ... ولننتقل إلى المقطع الخامس. ***

المقطع الخامس ويمتد من الآية (45) إلى نهاية الآية (48) وهذا هو

المقطع الخامس ويمتدّ من الآية (45) إلى نهاية الآية (48) وهذا هو: 33/ 48 - 45 كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الخامس بسورة النساء وبسياق السورة وبالمحور] 1 - هذا المقطع مبدوء ب (يا أيها النبي) فهو ألصق بسورة النساء ومحورها من سورة البقرة وسنرى ذلك تفصيلا. 2 - لاحظ الصلة بين قوله تعالى هاهنا: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وبين قوله تعالى في أول السورة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ... وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. 3 - بعد أمر المؤمنين بالذكر، وبعد وعد الله إياهم فقد جاء الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنه بشير ونذير، وشاهد وسراج منير، فالمقطعان يكمّل أحدهما الآخر، ففي الأول تبشير، وفي الثاني كلام عن البشير النذير. ... التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على من بعثت إليهم على تكذيبهم وتصديقهم أي فقولك مقبول عند الله لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. وقال ابن كثير في تفسير الشاهد هنا: (أي لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة) وَمُبَشِّراً أي بشيرا للمؤمنين

[سورة الأحزاب (33): آية 46]

بجزيل الثواب وَنَذِيراً أي للكافرين من وبيل العقاب وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ أي داعيا الخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك، لا متكلفا فيه من عند نفسك، أو داعيا إلى الله بتيسيره وَسِراجاً مُنِيراً قال ابن كثير: (أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند). قال النسفي في الآيتين: (أو شاهدا بوحدانيتنا ومبشّرا برحمتنا، ونذيرا بنقمتنا، وداعيا إلى عبادتنا، وسراجا وحجة ظاهرة لحضرتنا) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي ثوابا عظيما وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي لا تطعهم ولا تسمع منهم في الذي يقولونه وَدَعْ أَذاهُمْ أي اجعل إيذاءهم إيّاك في جانب ولا تبال بهم، ولا تخف من إيذائهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي فإنه يكفيكهم وكفى به مفوّضا إليه. قال النسفي تعليقا على الآيات: (وقيل إن الله تعالى وصفه بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاب مناسب له؛ قابل الشاهد بقوله: وبشّر المؤمنين، لأنه يكون شاهدا على أمته، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير، والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة، والنذير بدع أذاهم؛ لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله: وتوكل على الله؛ فإن من توكّل على الله يسّر عليه كل عسير، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا، لأن من أناره الله برهانا على جميع خلقه كان جديرا بأن يكتفي به عن جميع خلقه). كلمة في السياق: قلنا إنّ هذا المقطع يفصّل في محور سورة النساء، لاحظ الآن ما يلي: بعد قوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... ثم يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... وهاهنا نجد أنّ الله عزّ وجل وصف رسوله صلّى الله عليه وسلم بالبشير والنذير، وأمره بالتبشير وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ... فالمقطع بعد أن يقرّر صفات رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمر بالتبشير، وكل ذلك يتعلق بمحور سورة النساء من سورة البقرة حيث ينتهي ذاك المحور بقوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ....

فوائد

فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ .. ] قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وقد كان أمر عليا ومعاذا رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال: «انطلقا فبشّرا ولا تنفّرا، ويسّرا ولا تعسّرا، إنه قد أنزل علي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً». ورواه الطبراني بإسناده مثله، وقال في آخره: «فإنه قد أنزل عليّ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على أمتك، ومبشرا بالجنة، ونذيرا من النار، وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه، وسراجا منيرا بالقرآن»). 2 - [مهمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما حددتها الآيات] حددت الآيات مهمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهي الشهادة والتبشير والإنذار، والدعوة إلى الله والإضاءة، وينبغي لورّاث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكون لهم حظ من ذلك كله. 3 - [هل الدعوة إلى الله تحتاج إلى إذن خاص؟ بمناسبة آية وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ] يستدل بعضهم بقوله تعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ على أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى إذن خاص. وأقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أذن إذنا عاما لكل مسلم، بل أمر كل مسلم أن يدعو إلى الله ضمن إمكانياته. قال عليه الصلاة والسلام: «بلّغوا عني ولو آية ... » أما الإجازة من الشيوخ بالعلم والتربية، فهذا أدب متوارث في هذه الأمة، فإن كان المراد بالإذن الخاص هذا فهو صحيح. ولننتقل إلى المقطع السادس وهو آية واحدة. ***

المقطع السادس وهو الآية (49) وهذه هي

المقطع السادس وهو الآية (49) وهذه هي: 33/ 49 التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ أي تزوجتم الْمُؤْمِناتِ أي عقدتم عليهن ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تدخلوا بهن والخلوة الصحيحة كالمس فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تستوفون عددها. قال النسفي: (فيه دليل على أن العدّة تجب على النساء للرجال) فَمَتِّعُوهُنَّ إما بدفع نصف المهر إن كان المهر مسمى بالعقد، أو بدفع المتعة الخاصة بكسائها وإهدائها شيئا، والمتعة الخاصة تجب للتي طلقها قبل الدخول بها ولم يسم لها مهرا دون غيرها وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا بأن لا تمسكوهن ضرارا، وبأن تخرجوهن من منازلكم إن كن فيها إذ لا عدّة لكم عليهن. كلمة في السياق: [حول صلة المقطع السادس بسورة المائدة وبالسياق القرآني العام وبالمحور] تأتي هذه الآية بعد المقطع الخامس كمقطع مستقل، فهي نموذج على إضاءة هذا الإسلام للإنسان طريقه في كل شئ وَسِراجاً مُنِيراً. وتأتي كنموذج على حكم من أحكام الإسلام الذي يدعو إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فصلتها بما قبلها لا تخفى. وأمّا محلّها في السّياق القرآني العام فهي آتية على حسب الترتيب الذي ذكرناه، مفصّلة في محور سورة المائدة، المبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فهي تفصّل في قضية مرتبطة بعقد الزواج الذي سمّاه الله ميثاقا غليظا، ومن ثمّ فالإخلال بمثل هذا يدخل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ... وهو محور سورة المائدة.

فوائد: يبحث العلماء عند هذه الآية مباحث كثيرة ولنذكر نموذجين

فوائد: يبحث العلماء عند هذه الآية مباحث كثيرة ولنذكر نموذجين: قال النسفي عند هذه الآية: (والنكاح هو الوطء في الأصل، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له؛ من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثما لأنها سببه، وكقول الراجز أسنمة الآبال في سحابه، سمى الماء بأسنمة الآبال لأنه سبب سمن الآبال وارتفاع أسنمتها، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي، والإتيان. وفي تخصيص المؤمنات مع أن الكتابيات تساوي المؤمنات في هذا الحكم إشارة إلى أن الأولى بالمؤمن أن ينكح مؤمنة). وقال ابن كثير: (هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة، منها إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، وقد اختلفوا في النكاح هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن إنما هو في العقد، والوطء بعده إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده، لقوله تبارك وتعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: الْمُؤْمِناتِ خرج مخرج الغالب؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق، وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدّمه نكاح؛ لأن الله تعالى قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فعقّب النّكاح بالطلاق، فدلّ على أنّه لا يصح، ولا يقع قبله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فعندهما متى تزوجها طلقت منه، واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك: لا تطلق حتى يعيّن المرأة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، قال: ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا

نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الآية، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قال الله عزّ وجل: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح وهكذا روى ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فلا طلاق قبل النكاح، وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي هذا حديث حسن، وهو أحسن شئ روي في هذا الباب، وهكذا روى ابن ماجه عن عليّ والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طلاق قبل النكاح»، وقوله عزّ وجل: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها هذا أمر مجمع عليه بين العلماء: أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدّة عليها، فتذهب فتتزوج من فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا، وقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها. قال الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ وقال عزّ وجل: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوّج أميمة بنت شراحيل فلما أن دخلت عليه صلّى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنما كرهت ذلك؛ فأمر أبا أسيد أن يجهّزها ويكسوها ثوبين رازقيين. قال علي بن أبي طلحة رضي الله عنهما: إن كان سمى لها صداقا فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقا أمتعها على قدر عسره ويسره وهو السراح الجميل). ولننتقل إلى المقطع السابع. ***

المقطع السابع ويمتد من الآية (50) إلى نهاية الآية (52) وهذا هو

المقطع السابع ويمتدّ من الآية (50) إلى نهاية الآية (52) وهذا هو: 33/ 52 - 50 ملاحظات في السياق: [حول صلة المقطع السابع بسورة النساء وبالمحور] قلنا إن سورة الأحزاب تتناوب فيها المقاطع فمقطع فيه نفس سورة النساء، ومقطع فيه نفس سورة المائدة، وعلى حسب ما ذكرنا فالمقطع الذي بين أيدينا فيه نفس سورة النساء، لأنّه مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لاحظ ما يلي: 1 - إن أول آية في سورة النساء تنتهي بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ

التفسير

الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً. ونلاحظ هنا أن آخر آية في المقطع تنتهي بقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً. 2 - جاء في سورة النساء قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ في حق المؤمنين وهاهنا جاء خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ .... 3 - جاء في حق المسلمين عامة قوله تعالى في سورة النساء: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ... وهاهنا جاء خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ .... 4 - كثيرون من الناس يتصوّرون أن الزّواج يتنافى مع العبادة بل يزعم بعضهم أن الزواج يتنافى مع مقام رجل الدّين وقد جاء هذا المقطع بهدم هذه المزاعم في سورة تهدّم الكثير من عادات الجاهلية وأفكارها، ومن هذه الحيثية فالمقطع مرتبط بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وهو محور سورة النساء من سورة البقرة. التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وإيتاء المهر إعطاؤه عاجلا أو فرضه وتسميته في العقد وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي وأباح لك التسري بالمملوكات، سواء في ذلك ما أخذ من المغانم، أو ما ملكه بطريق أخرى، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما. قال ابن كثير: (وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام، وكانتا من السراري رضي الله عنهما) وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فهم بعضهم أنّه لا يحل له من بنات عمّه وعماته وأخواله وخالاته إلا من هاجرن إلى المدينة وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ أي وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها، ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي إن أراد النبي صلّى الله عليه وسلم استنكاحها كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن هبتها نفسها هبة، والهبة تقتضي قبولا من المهدى له، خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ

[سورة الأحزاب (33): آية 51]

الْمُؤْمِنِينَ فالزواج بلا مهر خاص به عليه الصلاة والسلام، ولذلك فإن المهر واجب على غيره وإن لم يسمّه أو نفاه، قال ابن كثير في الآية: (أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك) قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم، أو ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق. قال ابن كثير: (أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر، وما شاءوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم وهم الأمة، وقد رخّصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئا منه) وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء وغيره من وجوه الملك، أي قد علمنا ما فرضناه عليهم في أزواجهم وإمائهم، وخصّصناك بأحكام خاصة دون المؤمنين لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ضيق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً بالتوسعة على عباده. دلّت الآية على أن الحكمة في التوسعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمر الزواج هي نفي الحرج عنه بحكم أن مسئولياته واسعة، وعلاقاته الاجتماعية متشابكة، ومهمته صعبة، وليس غيره مثله في هذا كله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من الواهبات وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي تضم أي وتمسك إليك من تشاء، من شئت قبلتها، ومن شئت رددتها وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي ومن رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك، إن شئت عدت فيها فآويتها فلا إثم عليك في ذلك. قال ابن كثير: (وقال آخرون: بل المراد بقوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية. أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتترك من شئت ... ومع هذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم، إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه صلّى الله عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية ... ). واختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده أنه مخيّر فيهنّ إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم. قال ابن كثير: (وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي وفيه جمع بين الأحاديث) ذلِكَ أَدْنى أي أقرب أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى قرّة أعينهنّ، وقلة حزنهنّ ورضاهنّ جميعا، لأنهنّ إذا علمن أنّ هذا التفويض من عند الله اطمأنّت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون. قال ابن كثير: (أي إذا علمن أنّ الله تعالى قد وضع عنك الحرج في القسم فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أيّ ذلك فعلت ثم مع هذا أن تقسم لهن

[سورة الأحزاب (33): آية 52]

اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك فيهن وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه). قال النسفي: فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبّر الله من ذلك وفوّض إلى مشيئة رسوله وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال النسفي: من بعد التسع؛ لأن التسع نصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمته وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ أي بالطلاق مِنْ أَزْواجٍ أي ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهن أو بعضهن كرامة لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي فلا يحللن لك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثنى مما حرم عليه الإماء وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي حافظا. وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وذهبت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن حكم هذه الآية قد نسخ، وأبيح لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء، إلا أنه لم يفعل. وقد قال ابن كثير في مقدمة كلامه عن هذه الآية: (ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيّرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية، فلما اخترن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن، وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن، ولو أعجبه حسنهن، إلا الإماء والسراري، فلا حرج عليه فيهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج؛ لتكون المنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهن). كلمة في السياق: سجّلت هذه الآيات أحكاما في موضوع زواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم مبينة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن يفعل إلا ما أحلّه الله له، فالإنكار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا الأمر إنكار على الله عزّ وجل، ومن ثمّ ورد في الآية الثانية قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وفي ذلك تحذير أيما تحذير.

فوائد

فالآيات هذه تبيّن لنا أحكاما من أحكام الله عزّ وجل ينبغي الإيمان بها والتسليم لها، فإذا تذكّرنا أن محور هذه الآيات هو محور سورة النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أدركنا أن زواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو من العبادة، ومن التقوى، وفي عصرنا حيث ركّز أعداء الله كثيرا على موضوع زواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكثر من واحدة، نعرف حكمة البيان في هذه الآيات، وصلة ذلك بمحور السّورة، وقد بيّنا في كتابنا (الرسول صلّى الله عليه وسلم) حكمة تعدد زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم فليراجع. يبقى أن نعرف صلة هذه الآيات بسياق السورة الخاص: جاءت قبل هذا المقطع آية تتحدّث عن بعض أحكام النكاح في الإسلام، ثمّ جاء هذا المقطع وفيه أحكام خاصة في شأن زواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فالصلة قائمة بين المقطع وما سبقه بشكل مباشر. وإذا تذكّرنا بداية السورة الآمرة بالتقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، والآمرة باتباع الوحي وبالتوكّل، فإننا نجد المقطع بمجموعه مرتبطا بهذه المقدمة، ألا نرى أن الكافرين والمنافقين يطعنون بهذا الجانب من حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن مجموع الأحكام الواردة في الآيات من الوحي الواجب الاتباع، الموجب للتوكل، الذي يشكل جزءا من التقوى. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أم هانئ قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قلت: فلم أكن أحل له لم أكن ممّن هاجرن معه كنت من الطلقاء). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ] بمناسبة قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد الساعدي قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله

صلّى الله عليه وسلم: «هل عندك من شئ تصدقها إياه؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا» فقال: لا أجد شيئا، فقال: «التمس ولو خاتما من حديد» فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شئ؟» قال: نعم سورة كذا وسورة كذا- لسور يسميها- فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن» أخرجاه من حديث مالك. وروى الإمام أحمد عن ثابت قال: كنت مع أنس جالسا وعنده ابنة له فقال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك فيّ حاجة؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها، فقال: هي خير منك رغبت في النبي صلّى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها. انفرد بإخراجه البخاري. وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها، فقال: «قد قبلتها» فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئا قط فقال: «لا حاجة لي في ابنتك» لم يخرجوه. وروى ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم. وروى ابن وهب عن هشام ابن عروة عن أبيه أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه: كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة، فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم، أو هي امرأة أخرى. وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب وعمرو بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة، ستا من قريش: خديجة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وثلاثا من بني عامر بن صعصعة، وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين، وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات، وهي التي اختارت الدنيا. وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيّتين صفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ قال: هي ميمونة بنت الحارث. فيه انقطاع هذا مرسل. والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، وقد ماتت عند النبي صلّى الله عليه وسلم في حياته. والله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي

3 - ما قدم به ابن كثير للآية الأولى من المقطع السابع

صلّى الله عليه وسلم كثير كما روى البخاري عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها، فلما أنزل الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس ابن بكير أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحا له، ومخصوصا به، لأنه مردود إلى مشيئته كما قال الله تعالى: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي إن اختار ذلك). بمناسبة قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن كثير: (قال عكرمة: أي لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل حتى يعطيها شيئا، وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما، أي أنها إذا فوّضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها، كما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق لما فوّضت فحكم لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصداق مثلها، لما توفي عنها زوجها، والموت والدخول سواء في تقرير المهر، وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلّى الله عليه وسلم، فأمّا هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شئ، ولو دخل بها، لأن له أن يتزوج بغير صداق، ولا ولي، ولا شهود، كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها ولهذا قال قتادة في قوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يقول: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم). 3 - [ما قدم به ابن كثير للآية الأولى من المقطع السابع] قدّم ابن كثير للآية الأولى من المقطع بقوله: (يقول تعالى مخاطبا نبيه صلّى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن، وهي الأجور هاهنا كما قاله مجاهد وغير واحد، وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية، ونشّا: وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شمّاس وتزوّجها- رضي الله عنهن أجمعين). 4 - [كلام النسفي حول الاتجاهات في تفسير آية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ .. ] رأينا أثناء التفسير أن هناك اتجاهين رئيسين في تفسير قوله تعالى: تُرْجِي

5 - كلام ابن كثير بمناسبة آية والله يعلم ما في قلوبكم

مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وهناك اتجاهات أخرى في الآية، وقد لخّص النّسفي كل الاتجاهات في الآية مفسّرا قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقال: (بمعنى تترك مضاجعة من تشاء منهن، وتضاجع من تشاء، أو تطلّق من تشاء، وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت، أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوّج من شئت، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض لأنه إما أن يطلّق وإما أن يمسك، فإذا أمسك ضاجع، أو ترك، وقسم، أو لم يقسم، وإذا طلّق وعزل، فإما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها. وروي أنه أرجى منهن جويرية، وسودة، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وكانت ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، أرجى خمسا، وآوى أربعا، وروي أنه كان يسوّي مع ما أطلق له، وخيّر فيه، إلا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة، وقالت لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك). 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ] بمناسبة قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: (أي من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه كما روى الإمام أحمد ... عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». رواه أهل السنن الأربعة وزاد أبو داود بعد قوله: «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب. وإسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات). 6 - [هل آية لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ .. منسوخة أم لا؟ والتدليل على ذلك] رأينا في تفسير قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ... أن الاتجاه الرئيسي في الآية أنها منسوخة، إلا أن هناك اتجاها في الفهم يوجه الآية بما يجمع بين الآيات بلا نسخ. وقد ذكر ابن كثير أدلة القائلين بالنسخ ثم ذكر الأقوال الأخرى. قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له النّساء، ورواه أيضا من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة، ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما. وروى ابن أبي حاتم عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم. وذلك قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الآية فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة، كآيتي عدة الوفاة في سورة البقرة، الأولى ناسخة

للتي بعدها والله أعلم، وقال آخرون: بل معنى الآية لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك، من نسائك اللاتي آتيت أجورهن، وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء، فلا يحل لك، وهذا مروي عن أبيّ بن كعب ومجاهد في رواية عنه وعكرمة والضحاك في رواية وأبي رزين في رواية عنه وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية والسدي وغيرهم. روى ابن جرير عن رجل من الأنصار قال: قلت لأبيّ بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قلت: قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنما أحل الله له ضربا من النساء فقال: تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ثم قيل له: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ورواه عبد الله بن أحمد، وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهي رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أصناف من النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، بقوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ فأحل الله فتياتكم المؤمنات، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الآية. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء. وقال مجاهد لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ما سمّى لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة. وقال أبو صالح لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية، ويتزوج بعد من نساء تهامة، وما شاء من بنات العم والعمة، والخال والخالة، إن شاء ثلاثمائة، وقال عكرمة لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي التي سمّى الله. واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية عامّة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي اللواتي في عصمته وكن تسعا، وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف، فإن كثيرا منهم روي عنه هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم. ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلّق حفصة، ثم راجعها، وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة، ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ الآية، وهذا الذي قاله من أن هذا كان

7 - اتجاه آخر في تفسير آية ولا أن تبدل بهن من أزواج

قبل نزول الآية صحيح، ولكن لا يحتاج إلى ذلك، فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته، وأنه لا يستبدل بهن غيرهن، ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال فالله أعلم، فأما قضية سودة ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وهي سبب نزول قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً الآية. وأما قضية حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق ... عن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلّق حفصة ثم راجعها، وهذا إسناد قوي. وروى الحافظ أبو يعلى عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ لعلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلقك، إنه كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي. والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا. ورجاله على شرط الصحيحين. 7 - [اتجاه آخر في تفسير آية وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ] رأينا أن في قوله تعالى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ نهيا عن الطلاق، وعن الاستبدال بالزوجة المطلقة زوجة أخرى، وهناك اتجاه ذكره ابن كثير بقوله: (وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا مناسبا ذكره هاهنا عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك أبادلك بامرأتي، أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلّى الله عليه وسلم وعنده عائشة فدخل بغير إذن فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأين الاستئذان؟» فقال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أم المؤمنين، قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ قال: «يا عيينة إن الله قد حرم ذلك» فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال: «هذا أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيّد قومه». ثم قال البزار: إسحاق بن عبد الله ليّن الحديث جدا، وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه وبيّنا العلة فيه). ولننتقل إلى المقطع الثامن. ***

المقطع الثامن ويمتد من الآية (53) إلى نهاية الآية (58) وهذا هو

المقطع الثامن ويمتدّ من الآية (53) إلى نهاية الآية (58) وهذا هو: 33/ 58 - 53 التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إلا مأذونا

[سورة الأحزاب (33): آية 54]

لكم، أو إلا وقت أن يؤذن لكم إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي نضجه، قال قتادة ومجاهد وغيرهما: أي غير متحيّنين نضجه واستواءه. أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإنّ هذا مما يكرهه الله ويذمّه، وهذا دليل على تحريم التطفل وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي فتفرقوا. في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا أو غيره»، وفي الصحيح: «لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلى كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل، وانتشروا في الأرض» وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ نهوا عن أن يطيلوا الجلوس، يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من أجل إخراجكم وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحييّ منكم، ولهذا نهاكم عن ذلك، وزجركم عنه، يعني: أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه، قال النسفي: (هذا أدب أدّب الله به الثقلاء) وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي إذا سألتم نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم لدلالة بيوت النبي لأن فيها نساءه مَتاعاً أي عارية أو حاجة فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ. قال ابن كثير: (أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب) ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من خواطر الشيطان، وعوارض الفتن وَما كانَ لَكُمْ أي وما صح لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً أي وما صح لكم إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا نكاح أزواجه من بعد موته إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي ذنبا عظيما. قال ابن كثير: (هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية). ثم قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم أو من نكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ في أنفسكم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعاقبكم به، ثمّ بيّن الله عزّ وجل الدائرة التي لا يجب الاحتجاب منها فقال: لا جُناحَ أي لا إثم عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ أي نساء المؤمنات وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال ابن كثير: (يعني به أرقاءهن من الذكور والإناث، كما تقدّم التنبيه عليه، وإيراد الحديث فيه، قال سعيد بن المسيب: إنما يعني به الإماء فقط، رواه ابن أبي حاتم).

[سورة الأحزاب (33): آية 56]

أقول: وهذا الأخير هو مذهب الحنفية، ومعنى الآية: أنّه لا إثم عليهن في ألا يحتجبن من هؤلاء. قال النسفي: (ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقال: وعبيدهن عند الجمهور كالأجانب). ثم قال تعالى: وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به من الاحتجاب والاستتار واحتطن فيه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي عالما. قال ابن عطاء: الشهيد: الذي يعلم خطرات القلوب، كما يعلم حركات الجوارح. وقال ابن كثير في الآية: (أي واخشينه في الخلوة والعلانية، فإنه شهيد على كل شئ، لا تخفى عليه خافية؛ فراقبن الرقيب) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: يصلون يبرّكون. وقال الترمذي: وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، قال ابن كثير: (والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملإ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقرّبين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا). أقول: ومجئ هذه الآية في هذا السياق إشارة إلى وجوب التقيد بالآداب والأحكام السابقة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا كان الله وملائكته يصلون على الرسول صلّى الله عليه وسلم فإن على المؤمنين أن يفعلوا ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي اجمعوا بين الصلاة عليه والتسليم: اللهم صلى على سيدنا محمد وآله وسلم، وقال النسفي: (أو انقادوا لأمره وحكمه انقيادا) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي الذين يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذكر اسم الله للتشريف، أو عبّر بإيذاء الله ورسوله عن فعل ما لا يرضى به ورسوله، كالكفر وإنكار النبوة لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي طردهم من رحمته في الدارين وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً مُهِيناً أي مذلا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي ينسبون إليهم ما هم براء منه، لم يعملوه، ولم يفعلوه، وأطلق التحريم في إيذاء الله ورسوله، وقيده هنا بغير ما اكتسبوا، لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون حقا أبدا، وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه حق كالحدّ والتعزير، ومنه باطل فَقَدِ احْتَمَلُوا أي تحمّلوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا.

كلمة في السياق: حول صلة المقطع الثامن بسورة المائدة وبالمحور وبالمقطع السابع

كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الثامن بسورة المائدة وبالمحور وبالمقطع السابع] 1 - كنّا ذكرنا أن المقطع المبدوء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من سورة الأحزاب يكون ألصق بسورة المائدة ومحورها، ولعلّ هذا المقطع يؤكّد هذا الذي ذكرناه بشكل أوضح، وذلك أن محور سورة المائدة هو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ الصلة بين قوله تعالى في آيتي المحور إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما ... وبين قوله تعالى في هذا المقطع وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ولاحظ الصلة بين معاني المقطع، وبين قوله تعالى في المحور وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فالتثقيل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإيذاؤه، وإيذاء المؤمنين، كل ذلك من قطع ما أمر الله به أن يوصل. 2 - لاحظ الصلة بين هذا المقطع والذي قبله، فالمقطع السابع كان حديثا عن أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا المقطع في مسراه الرئيسي كان حديثا عن آداب المؤمنين مع بيوته، وأزواجه عليه الصلاة والسّلام. فوائد: 1 - [سبب نزول آية الحجاب وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ .. ] في سبب نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... قال ابن كثير: (هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عزّ وجل في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو حجبتهن؛ فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك. وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر، وهي قضية رابعة. وقد روى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله

يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؛ فأنزل الله آية الحجاب، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش التي تولّى الله تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط: أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم. روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلمّا رأى ذلك قام، فلما قام من قام قعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقوا فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا الآية. وقد رواه أيضا في موضع آخر ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه بنحوه. ثم روى عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه قال: «ارفعوا طعامكم» وبقي ثلاثة رهط يتحدّثون في البيت، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» قالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر القوم، فخرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب. انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة، سوى النسائي في اليوم والليلة، وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس. وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيسا، ثم جعلته في تور فقالت: اذهب بهذا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام، وأخبره أن هذا منا له قليل. قال

أنس: والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت: يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام، وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال: «ضعه» فوضعته في ناحية البيت ثم قال: «اذهب فادع فلانا وفلانا» فسمى رجالا كثيرا وقال: «ومن لقيت من المسلمين» فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: جئ به، فجئت به إليه، فوضع يده عليه ودعا وقال: «ما شاء الله- ثم قال- ليتحلّق عشرة عشرة، وليسمّوا، وليأكل كلّ إنسان مما يليه» فجعلوا يسمّون ويأكلون، حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور فنظرت فيه، فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت. قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله، وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا، كان ذلك عليهم عزيزا، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت، وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيته يسيرا، وأنزل الله عليه القرآن، فخرج وهو يتلو هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية. قال أنس: فقرأهن عليّ قبل الناس، فأنا أحدث الناس بهن عهدا» ... وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي ... ، وروى الإمام أحمد عن أنس لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد: «اذهب فاذكرها عليّ» قال: فانطلق زيد حتى أتاها- قال: وهي تخمّر عجينها- فلما رأيتها عظمت في صدري. وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً وزاد في آخره: ووعظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ الآية. وروى ابن جرير عن عائشة قالت: إن أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع- وهو صعيد أفيح- وكان عمر يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حجّب نساءك، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل الله الحجاب. هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد

2 - سبب نزول آية وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ...

نزول الحجاب كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشّى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإنّ العرق في يده ما وضعه فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» لفظ البخاري. فقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية، وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة، فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء» الحديث. 2 - [سبب نزول آية وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ... ] في سبب نزول قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ قال: نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلم بعده. قال رجل لسفيان: أهي عائشة؟ قال: قد ذكروا ذلك. وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده، لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين- كما تقدم- واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلّقها في حياته، هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله مِنْ بَعْدِهِ أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فما نعلم في حلها لغيره- والحالة هذه- نزاعا والله أعلم، وروى ابن جرير عن عامر أن نبي الله صلّى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة ابنة الأشعث- يعني ابن قيس- فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه، إنها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يحجبها، وقد برّأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها، فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه، وسكن. وقد عظّم الله تبارك وتعالى ذلك، وشدد فيه وتوعّد عليه بقوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً).

3 - حول عدم ذكر العم والخال في آية الحجاب في سورة النور أو في سورة الأحزاب

3 - [حول عدم ذكر العم والخال في آية الحجاب في سورة النور أو في سورة الأحزاب] يلاحظ أنه في آية الحجاب في سورة النور، وفي آية الحجاب في سورة الأحزاب لم يذكر اسم العم والخال من جملة المحارم. وذكرنا هناك إنهما لم يذكرا لأنّ حكمهما حكم الأب، وهو تعليل النسفي، وهناك تعليل آخر ذكره ابن كثير وهو يقتضي الاحتياط في الظهور أمام العم والخال. قال ابن كثير: (وقد سأل بعض السلف فقال: لم لم يذكر العم والخال في هاتين الآيتين؟ فأجاب عكرمة والشعبي بأنهما لم يذكرا لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما، روى ابن جرير ... عن الشعبي وعكرمة في قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ الآية. قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قال: لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمّها). 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً تكلم ابن كثير كلاما طويلا قال: وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه، وكيفية الصلاة عليه ونحن نذكر منها إن شاء الله ما تيسّر، ثمّ ذكر ابن كثير روايات كثيرة، وذكر خلالها أقوال العلماء في كثير من أحكام الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وختم نقوله بذكر مسألة، وفصل، وفرع، المسألة في استحباب كتابة الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم أثناء الكتابة إذا ذكر اسمه صلّى الله عليه وسلم، والفصل في الصلاة على غير الأنبياء وأنها جائزة تبعا للصلاة عليه، وأما استقلالا فقد ذكر النووي أنها مكروهة تنزيها، والفرع في استحباب الجمع بين الصلاة والتسليم عليه، ونحن ذاكرون لك من هذا مختارات، وفيما بين يدي ذلك أقول: لقد ندبنا إلى الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشكل مطلق، ويتأكّد النّدب إذا ذكر عليه الصلاة والسّلام، واعتبرها بعضهم من الواجبات، ويتأكد النّدب في ابتداء الدّعاء، وأواسطه، وخواتيمه، ويتأكّد النّدب في أن يصلي الإنسان عليه في المجلس الواحد ولو مرّة، ويتأكّد الندب في الصلاة على خلاف في ذلك في القعود الأول، وبعضهم اعتبر الصلاة عليه في القعود الثاني من الفرائض، ويستحب الجمع بين الصلاة والتسليم عليه، ونحن مقيّدون في الصلاة بالصلوات الإبراهيمية، وهي أفضل الصيغ في الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم، أمّا خارج الصلاة، فالصيغ الواردة كثيرة، ومن قال: اللهم صل على محمد وعلى آله وسلّم فقد أجر، وحقّق الأمر، ومن المستحبات أن يجمع الإنسان الصلاة على الآل مع الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم. ...

(روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم؛ وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وقال الترمذي حسن صحيح. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلى عليّ صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى عليّ، فليقلل عبد من ذلك أو ليكثر» ورواه ابن ماجه. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة يوم القيامة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم» تفرّد به الترمذي من هذا الوجه، ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا مثله ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه فقالوا: يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك، فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك عزّ وجل يقول إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا؟ قال: بلى» ورواه النسائي. وروى الترمذي عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه» قال أبيّ: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئت» قلت: الربع؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قلت: فالنصف؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قلت: فالثلثين؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك» قلت: أجعل لك صلاتي كلها قال: «إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك» ثم قال هذا حديث حسن. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» تفرّد بروايته الترمذي رحمه الله ثم قال

5 - حول آية إن الذين يؤذون الله ورسوله ..

هذا حديث حسن غريب. وتستحب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه للحديث الذي رواه الإمام أحمد عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك». وتستحب الصلاة عليه بعد سماع الأذان والدعاء، وتستحب الصلاة عليه في يوم الجمعة). 5 - [حول آية إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .. ] عند قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً قال ابن كثير: (قال عكرمة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نزلت في المصوّرين. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله عزّ وجل: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر وأنا الدهر أقلّب ليله ونهاره». ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون يا خيبة الدهر فعل بنا كذا وكذا، فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر، ويسبّونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله عزّ وجل، فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء رحمهم الله، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلم في تزويجه صفية بنت حيي ابن أخطب. والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله. كما روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن المغفّل المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه»). 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً قال ابن كثير: (وهذا هو البهت الكبير، أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقيص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله عزّ وجل

قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبّونهم وينتقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكسو القلوب، يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين، وروى أبو داود عن أبي هريرة أنه قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهّته». وهكذا رواه الترمذي ثم قال حسن صحيح، وقد روى ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «أي الربا أربى عند الله؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم». ثم قرأ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). ... ولننتقل إلى المقطع التاسع. ***

المقطع التاسع ويمتد من الآية (59) إلى نهاية الآية (68) وهذا هو

المقطع التاسع ويمتدّ من الآية (59) إلى نهاية الآية (68) وهذا هو: 33/ 59 - 68 كلمة في السياق: [حول صلة المقطع التاسع بسورة النساء وبالمقطع الثامن وبالمحور] 1 - هذا المقطع مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ فهو ألصق بسورة النساء ومحورها لاحظ ما يلي: جاء في سورة النساء قوله تعالى عن المنافقين: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وهاهنا جاء قوله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا

التفسير

تَقْتِيلًا. وفي محور سورة النساء جاء قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وهاهنا جاء قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً .... 2 - جاء في المقطع الثامن إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ... وجاء هاهنا ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وجاء هاهنا عقوبة المرجفين: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ فالصلة بين المقطع والذي قبله واضحة. التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قال ابن كثير: (يقول تعالى آمرا رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات، خاصة أزواجه وبناته لشرفهن، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، وسمات الإماء). وقد اختلفت عبارات المفسرين في تفسير الجلباب فقيل: الملحفة، وقيل: هو الرداء فوق الخمار، وقيل هو ما يستر الكل. ولنا عودة على هذا في الفوائد. قال النسفي في الآية: (أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنّع حتى تتميّز من الأمة، أو المراد أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، وألّا تكون المرأة متبذّلة في درع وخمار كالأمة، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها). أقول: وعلى هذا القول فإن الأمر في الآية يفيد أنّ على المرأة المؤمنة أن تلبس جلبابا فوق ثيابها التي تلبسها في بيتها عادة، وأن تدني هذا الجلباب بحيث يستر. قال عكرمة: تغطّي نحرها بجلبابها تدنيه عليها، وفوق ذلك يكون الخمار، وبعضهم يرى أن الجلباب ينبغي أن يستر الخمار كذلك، وأن يدنى على الوجه، وهو موضوع سنرى تفصيلاته في الفوائد. ثم بيّن الله عزّ وجل حكمة هذا الأمر ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي أولى وأجدر بأن يعرفن أنهنّ حرائر، ومسلمات؛ فلا يتعرّض لهنّ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال النسفي: أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر

[سورة الأحزاب (33): آية 61]

وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي فجور. قال عكرمة وغيره: هم الزناة هاهنا، ولعلهم أخذوه من قوله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ. وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ أي مروّجو الإشاعات الكاذبة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنأمرنك بقتالهم، أو لنسلطنك عليهم، وذكر هذا الموضوع هنا فيه نوع إشارة إلى ما سبقه من إيذاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهؤلاء يستحقون ما ذكرته هذه الآية ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي في المدينة إِلَّا قَلِيلًا زمانا مَلْعُونِينَ أي مطرودين مبعدين أَيْنَما ثُقِفُوا أي وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا قال النسفي: التشديد يدل على التكثير، وهذه أوسع آية في التعزير. والمعنى لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسوؤهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى ألا يساكنوك فيها إلا زمانا قليلا ريثما يرتحلون، وحتى بعد هذا كله فإنهم ملعونون مستحقون للقتل حيث كانوا سُنَّةَ اللَّهِ أي سنّ الله في أمثالهم أن يقتّلوا أينما وجدوا فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلُ. قال ابن كثير: أي هذه سنته في المنافقين إذا تمرّدوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عمّا هم فيه أن أهل الإيمان يسلّطون عليهم ويقهرونهم وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي لا يبدل الله سنته بل يجريها مجرى واحدا في الأمم. كلمة في السياق: إن محور هذا المقطع هو محور سورة النساء الذي بدايته يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لتكونوا من فئة المتقين فتخرجوا عن فئة الكافرين والمنافقين، وقد جاء في هذا المقطع أمر من الأوامر التي تقتضيها التقوى، وهو الستر، وجاء كلام عن المنافقين وتهديد لهم، والآن يأتي كلام عن الكافرين، وتهديد لهم، وتذكير بأن سبب كفرهم طاعة سادتهم وكبرائهم، وذلك كله مرتبط بموضوع العبادة والتقوى، فمن عبادة الله أن تطيعه وألا تطيع من يعصيه. ... لاحظ صلة المقطع ببداية سورة الأحزاب وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فالكافرون والمنافقون يستحقون القتل، فكيف يطاعون؟ وفيما يأتي من المقطع بيان

[سورة الأحزاب (33): آية 63]

لعاقبة طاعة الكافرين وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. ... إن ارتباط المقطع بمحور السورة واضح، وارتباطه بما قبله واضح وارتباطه بسياق السورة واضح. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ سؤال استعجال، أو سؤال امتحان قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ قد استأثر به فلا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرّب وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي تكون شيئا قريبا، وفي هذا بيان أنّ الساعة قريبة الوقوع، وفي ذلك تهديد للمستعجلين، وإسكات للممتحنين إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أي أبعدهم من رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً أي نارا شديدة في الدار الآخرة خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها، ولا زوال لهم عنها قال النسفي: (هذا يردّ مذهب الجهمية لأنهم يزعمون أنّ الجنّة والنّار تفنيان) لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي ليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي تصرف في الجهات كما ترى الشئ يدور في القدر إذا غلت، وخصت الوجوه بالذكر لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فنتخلص من هذا العذاب، تمنّوا حين لا ينفعهم التمني وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا أي رؤساءنا وَكُبَراءَنا أي ذوي الأنساب منا، أو علماءنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل، واعتقدنا أن عندهم شيئا، وأنهم على شئ، فإذا هم ليسوا على شئ رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ عذاب الضلال والإضلال أي بكفرهم وإغوائهم إيّانا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي العنهم أشدّ اللّعن وأعظمه. كلمة في السياق: في هذا المقطع أمر للمؤمنات في وجوب الستر، والستر في المجتمع الإسلامي ضروري لإقامة التقوى عند الذكور والإناث، وفي المقطع تهديد للكافرين والمنافقين الذين لا همّ لهم إلا نشر الفاحشة والفجور والإشاعات، ولذلك صلاته ببعضه وبالمحور، وأما صلته بما قبله فواضحة. فما قبله كان كلاما عن حجاب أمهات المؤمنين

فوائد

وجاء هنا الأمر بالحجاب للجميع. وكنّا ذكرنا من قبل جوانب أخرى من الترابط. فوائد: 1 - [حول الجلباب ومقصوده بمناسبة آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ قال ابن كثير: (والجلباب هو الرداء فوق الخمار. قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد، اليوم، قال الجوهري الجلباب: الملحفة. قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها: تمشي النسور إليه وهي لاهية … مشي العذارى عليهن الجلابيب قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عزّ وجل يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فغطّى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى. وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها. وروى ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. وقد قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة، وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى: وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر). 2 - [حول القراءتين لكلمة كَبِيراً في قوله تعالى وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً] بمناسبة قوله تعالى: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ذكر ابن كثير أن هناك قراءتين في قوله تعالى: كَبِيراً الأولى «كبيرا» والثانية «كثيرا». قال ابن كثير: هما قريبا المعنى كما في حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني فإنك أنت الغفور الرحيم».

3 - كيفية التعامل مع المنافقين بمناسبة قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون ..

أخرجاه في الصحيحين. يروى كثيرا وكبيرا وكلاهما بمعنى صحيح، واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، كما أن القارئ مخيّر بين القراءتين أيتهما قرأ حسن وليس له الجمع بينهما والله أعلم. وروى أبو القاسم الطبراني عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في تسمية من شهد مع عليّ رضي الله عنه: الحجاج بن عمرو بن غزية وهو الذي كان يقول عند اللقاء: يا معشر الأنصار أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً). أقول: دلّ قول ابن كثير على أنه ليس للقارئ أن يخلط بين قراءتين بآن واحد لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يقرئ كل قراءة على حدة. 3 - [كيفية التعامل مع المنافقين بمناسبة قوله تعالى لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ .. ] أعطانا قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا* سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أعطتنا هذه الآيات مدى واسعا في موضوع تعزير هذه الأنواع من الناس، ومن ثمّ فإننا نحب أن نسجّل الملاحظات التالية: أ- إن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يلجأ إلى قتل المنافقين مع استحقاقهم ذلك، حتى لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه. ب- إن الرسول صلّى الله عليه وسلم بسياسته للمنافقين، وبحسن معاملته لهم، وتوجيهه، استطاع أن ينقذ الكثيرين منهم من النفاق، ويكفى أن نعرف أنه يوم أحد انفصل عن الجيش الإسلامي مع رأس النفاق عبد الله بن أبي أكثر من ثلاثمائة، بينما أخبرنا حذيفة أن الذين كتب عليهم النفاق وليس لهم عنه منكص آحاد. وقد مرّ ذكر ذلك في سورة التوبة. ج- من الملاحظتين السابقتين ندرك أن استعمال القتل في حق المنافقين، ومن عطف عليهم في الآيات، إنما هو حيث تكون ضرورة، ومن باب «آخر الدواء الكي» على أن هناك حالات يتهدّد فيها أمن الأمة الإسلامية، أو الدولة الإسلامية بالخطر، ففي مثل هذه الحالات يجب أن يكون الحزم هو المقدّم.

د- وهناك حالات فقدان الحكم الإسلامي، فهل السياسة العملية الحكيمة للدعوة الإسلامية- وهي في سيرها إلى إنهاء النظام الكافر، أو المرتد، أو الباغي، أو الفاسق- أن تلجأ إلى قتل أمثال هؤلاء الناس، أو أن تؤجل؟ هذا موضوع متروك لقرار القيادة الراشدة. وبمناسبة ما ذكرناه قد يقول قائل هذه الآيات خاصة برسول الله صلّى الله عليه وسلم وله وحده حق الأخذ بها. أقول: إن قوله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أخرج المسألة عن كونها خصوصية من خصوصيات رسول الله صلّى الله عليه وسلم صحيح إن النفاق غيب، ولكن مواصفات المنافقين معروفة لنا. ***

المقطع العاشر ويمتد من الآية (69) إلى نهاية الآية (73) أي إلى نهاية السورة وهذا هو

المقطع العاشر ويمتدّ من الآية (69) إلى نهاية الآية (73) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: 33/ 73 - 69 كلمة في السياق: [حول التسلسل بين موضوعات المقاطع في السورة وصلة المقطع العاشر ببداية السورة وبالمحور وترابط آيات المقطع] 1 - في المقطع الثامن جاء قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ... وفي المقطع التاسع جاء قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ. وهاهنا يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... فالسياق واحد. 2 - بدأت السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ... وهاهنا جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً .... 3 - في هذا المقطع نهي عن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمر بالتقوى، والقول السّديد، ووصف للإنسان بالظلم والجهل، ولذلك صلته بمحور السورة من سورة

التفسير

البقرة في شقيه محور سورة النساء، ومحور سورة المائدة. 4 - مجئ الأمر بالتقوى، والقول السديد بعد النّهي عن إيذاء الرّسول صلّى الله عليه وسلم يوحي بأننا مطالبون بشيئين: ترك الكلام المؤذي وقول الكلام السّديد، ولذلك صلته ببعضه بعضا. 5 - ذكر التكليف وثقله في هذا المقطع له صلة بمحور السورة من سورة البقرة من حيث إننا هناك كلّفنا وهاهنا ذكر ثقل التكليف وحكمته. التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى بوصفه ما ليس فيه، وبذكره بما يؤذيه فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي من مضمون القول ومؤداه، وهو الأمر المعيب وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي ذا جاه ومنزلة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي اخشوه وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي صدقا وصوابا، أو قاصدا إلى الحق، لأن السداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل قال ابن كثير: (مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي يوفّقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها) ومن ثمّ قال يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي يقبل طاعتكم، أو يوفقكم لصالح العمل وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يمحها، دل ذلك على أن حفظ اللّسان، وسداد القول، مع تقوى الله، رأس كل خير. قال النسفي: والمعنى: (راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة، من تقبّل حسناتكم، والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً في الدنيا والآخرة. ... وفي الصلة بين النهي عن الإيذاء، وبين الأمر بالتقوى، والقول السّديد، يقول النسفي: (وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها؛ بنيت تلك على النهي عمّا يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد

[سورة الأحزاب (33): آية 72]

البليغ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه). ... إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أي الطاعة. أي الفرائض. أي التكليف عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم، وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرهوا ذلك، وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله، أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ومعنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله، وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، فهو ظلوم لنفسه؛ إذ يخالف، غرّ بأمر الله؛ إذ يعصي جهلا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الذين ظلموا وجهلوا فخانوا الأمانة وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ لوفائهم وأدائهم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للتائبين رَحِيماً بعباده المؤمنين. دلّت الآية على أن الحكمة من التكليف تعذيب العاصي وإثابة الطائع. كلمة في السياق: في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) تحدثنا عن التقوى، وقلنا إن الإسلام نظام شامل كامل يسع شئون الحياة كلها، وله في كل قضية حكم، ومجموع هذه الأحكام هي الإسلام، وما يطالب به كل إنسان من هذا الإسلام الواسع هو التقوى. فالتقوى: هي التكليف الذي كلف الله به كل إنسان على حدة، ومن ثمّ فالتقوى هي التكليف، والتكليف الذي كلّف به كل إنسان على حدة هو أمانته التي حمّلها. قال ابن كثير بعد أن ذكر الأقوال الكثيرة في تعريف الأمانة: (وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل هي متّفقة، وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر، والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب. فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله وبالله المستعان). وهذه الأمانة مظهرها طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، فإذا اتضح هذا عرفنا محل الآيات الأخيرة في السياق

فوائد

الخاص والعام. فبعد أن قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً بيّن أهمية هذه الطاعة التي هي الأمانة، التي هي التكليف، وبيّن خطورتها، وبعد أن أمر بالتقوى بيّن هاهنا أهمية التقوى، وسمّاها الأمانة، ومن هذا كله نعلم صلة المقطع كله بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فوائد: [1، 2 - كلام ابن كثير حول الآية (69) وتعليق هام للمؤلف] 1 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً قال ابن كثير: (روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلا حييّا وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرا جدا. وقد رواه في أحاديث الأنبياء بهذا السند بعينه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام كان رجلا حييّا ستّيرا، لا يرى من جلده شئ؛ استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستّر هذا التّستّر إلا من عيب في جلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله عزّ وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام، فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله عزّ وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا- قال- فذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» وهذا سياق حسن مطول، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم. 2 - وبمناسبة هذه الآية قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم قسما، فقال رجل من الأنصار إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، قال: فقلت: يا عدو الله، أما لأخبرنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما قلت، فذكرت ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلم فاحمرّ وجهه، ثم قال: «رحمة الله على موسى فقد

3 - كلام ابن كثير بمناسبة آية يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا

أوذي بأكثر من هذا فصبر». أخرجاه في الصحيحين. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مال فقسمه، قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله، ولا الدار الآخرة، قال فثبتّ حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنك قلت لنا: لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا، وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا فاحمرّ وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشق عليه، ثم قال: «دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر»). وبمناسبة هذه الآية أقول: إنه لا أضر على العمل الإسلامي من إيذاء القيادة الإسلامية، لأن أي عمل عام يكتب له نجاح في العادة بقدر توفر الثقة في قياداته، وفي العادة فإن الثقة لا تنتقل إلى الأمّة إلا من خلال الصف الإسلامي، فبقدر ما تحسن القيادات العمل، وبقدر ما تتوفر الثقة بالقيادات، فإن الأهداف تكون قابلة للتحقيق، ومن ثمّ فإن تحطيم القيادات الإسلامية كارثة محققة، إلا إذا كانت هذه القيادات غير رشيدة أو غير صالحة. وعلى هذا فإن المسلم يجب أن يحتاط في كل كلمة تمس الثقة بين قيادة المسلمين وقاعدتهم، وعليه أن يعطي هذا الموضوع أهمية أكبر من أهمية موضوع الغيبة العادية. إن الغيبة العادية لها إثمها الكبير عند الله، حتى إنه «لا يدخل الجنة قتات»، فكيف إذا كان في هذه الغيبة تدمير لكيان العمل الإسلامي. وقد لاحظ علماء التربية هذا المعنى، فاعتبروا السم القاتل للقلب هو اعتراض المريد على الشيخ، وحذروا من مجالسة المعترضين والمنكرين على أولياء الله إلا بحق الشرع القطعي، وعندئذ فحق الشرع هو المقدّم، ولكن بالطريق الذي حدده الشارع. إن عملية البناء عملية صعبة، وعملية التهديم سهلة، وإن أخطر ما تصادفه الجماعات أن يتوجه أفرادها إلى التهديم، فهذا أسهل شئ وأبشعه. 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً] بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الظهر، فلما انصرف، أومأ إلينا بيده، فجلسنا فقال: «إن الله تعالى

4 - كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة ..

أمرني أن آمركم أن تتقوا الله، وتقولوا قولا سديدا، ثم أتى النساء فقال: إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله، وتقلن قولا سديدا»). 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ... قال ابن كثير: (روى ابن جرير ... عن ابن عباس أنه قال هذه الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها قال عرضت على آدم فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، قال: قبلت، فما كان إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة، وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريبا من هذا وفيه نظر، وانقطاع بين الضحاك وبين ابن عباس، والله أعلم. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض، وقال آخرون هي الطاعة، وقال أعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها، وقال قتادة الأمانة الدين والفرائض والحدود، وقال بعضهم الغسل من الجنابة، وروى مالك عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة. وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متّفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله، وظلمه، إلا من وفق الله وبالله المستعان. وروى ابن جرير أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها- أو قال- يكفّر كل شئ إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أدّ أمانتك فيقول: أنّى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: أدّ أمانتك فيقول: أنّى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال أدّ أمانتك، فيقول: أنّى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمه الهاوية، فيذهب به إلى الهاوية فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هنالك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه، فهوي في أثرها أبد الآبدين» قال: والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال: صدق، وقال شريك: وحدثنا عياش

5 - حول ما ورد في عدد آيات سورة الأحزاب وما نسخ منها

العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم بنحوه ولم يذكر الأمانة في الصلاة، وفي كل شئ، إسناده جيد ولم يخرجوه. ومما يتعلّق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: «ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك، تراه منتبرا، وليس فيه شئ- قال ثم أخذ حصي فدحرجه على رجله قال- فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدّي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله، وما في قلبه حبة خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلما ليردنه على دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا» وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وروى الإمام أحمد أيضا ... عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة» هكذا رواه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله تعالى عنهما، وقد روى الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ... عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة» فزاد في الإسناد ابن حجيرة وجعله في مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة. قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: عن خناس بن سحيم- أو قال جبلة بن سحيم- قال: أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي: لا والأمانة، فجعل زياد يبكي ويبكي، فظننت أني أتيت أمرا عظيما فقلت له: أكان يكره هذا؟ قال: نعم كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «من حلف بالأمانة فليس منا». تفرّد به أبو داود رحمه الله). 5 - [حول ما ورد في عدد آيات سورة الأحزاب وما نسخ منها] ذكر ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدّها؟ قال: قلت: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قط؟!

كلمة أخيرة في سورة الأحزاب

لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم». ورواه النسائي من وجه آخر. وهذا إسناد حسن وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه، وحكمه أيضا، والله أعلم. أقول: إن حكم الرجم لم ينسخ وأقول: إن مثل هذا النوع من النسخ يشير إلى أن هناك حاجات محلية مؤقتة للمجتمع الإسلامي كان ينزل فيها قرآن حتى إذا أدى دوره نسخ). كلمة أخيرة في سورة الأحزاب: 1 - إن سورة الأحزاب فصّلت في الطريق العملي للتقوى، وحرّرت مما يتناقض معها، ومن ثمّ فإنّ على الدارس أن يخرج منها وهو أكثر فهما للتقوى وأكثر التزاما. 2 - لاحظنا من قبل أن سورة المائدة فصّلت في محورها، وفي حيّز محور سورة النساء، ومن ثمّ جاءت سورة الأحزاب تفصّل في محوري سورتي النساء والمائدة، لأن كلّا من السورتين تكمّل الأخرى. 3 - وردت في سورة الأحزاب توجيهات مباشرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعلى ورّاث النبوة أن يلاحظوا هذه التوجيهات، إلا ما هو خاص بشخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووردت توجيهات للمؤمنين في التأدّب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعلى المؤمنين أن يلاحظوها مع ورّاث النبوة، ما لم يكن شئ خاص برسول الله صلّى الله عليه وسلم. 4 - إن علينا أن نتذكّر بمناسبة هذه السورة المعنى العميق والعظيم والعجيب للوحدة القرآنية في إطار السورة الواحدة، أو في إطار القرآن كله. إنّ وحدة الموضوع عملية سهلة، ولكن أن توجد مثل هذه الوحدة في القرآن فذلك الذي يجل عن الإمكان البشري، إن الله عزّ وجل قد جعل في هذا الكون وحدة عجيبة، وترك للجهد البشري أن يضم أجزاء إلى بعضها؛ ليشكّل أنواعا من الوحدات بحسب احتياجاته، إلى ما لا يتناهى، وهكذا القرآن، إنك لتجد فيما بين آياته أنواعا من الوحدة، وفيما بين سوره أنواعا من الوحدة، وكل ذلك عجيب ومعجز، وترك للجهد البشري أن يضم أجزاء إلى بعضها بما يناسب احتياجات إنسان، أو احتياجات جيل، بما لا يتناهى، وهذا محل جهد العلماء، إن في السلوك، أو في الأخلاق، أو في العبادات، أو في المعاملات، أو في العقائد، أو في أصول الاستنباط،

أو غير ذلك. إن الإدراك الصحيح لهذا الموضوع يجعل الإنسان على مدارج الفهم الصحيح عن الله عزّ وجل في آياته في الكون، وفي الإنسان وفي القرآن. 5 - من دروس سورة الأحزاب أنها تعرّفنا كيف يتعامل المسلم مع الأحداث اليومية، وكيف يتعامل مع المحن على أي مستوى، وكيف ينبغي أن يكون حاله القلبي، وسلوكه اليومي. وسورة الأحزاب تحدّد أطر الحياة في المجتمع الإسلامي، وتحدّد الأخلاقيات العليا للمرأة، وهي مجموعة قضايا ينبغي أن نعيها حق الوعي في عصرنا. إن هناك إطارا للسلوك الأعلى للمرأة، وهناك إطار هو الحد الأدنى لسلوكيات المرأة، والمسلم والمسلمة اللذان تضطرهما بعض الظروف لقبول الحد الأدنى عليهما أن ينظرا باحترام إلى من يسير في إطار السلوك الأعلى. 6 - إن سورة الأحزاب تذكّرنا بأن على الإنسان أن يحاسب نفسه، وأن يبقى على ذكر، وعلى وجل من كل إحساس غريب، وتصوّر غريب، ومن كل فكر دخيل على القلب، والنفس، والشعور واللاشعور، إنها تذكّرنا بأن نكون مسلمين، مستسلمين لله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، مؤمنين في كل حال، ملتزمين على كل مستوى. والحمد لله رب العالمين. ***

سورة سبأ

سورة سبأ وهي السّورة الرابعة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة السادسة من المجموعة الأولى من قسم المثاني وآياتها أربع وخمسون آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة سبأ ومحورها

كلمة في سورة سبأ ومحورها: بعد سورة المائدة تأتي سورة الأنعام في القسم الأول من أقسام القرآن، وهي مبدوءة بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهاهنا بعد سورة الأحزاب- التي فصلت في محور سورتي النساء والمائدة- تأتي سورتان مبدوءتان بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ* هما سورتا سبأ وفاطر، ومن ثمّ فالسورتان تفصّلان في محور سورة الأنعام الذي هو: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إلا أننا نلاحظ بشكل واضح أن هاتين الآيتين اللتين شكلتا محور سورة الأنعام، هما الآن يشكّلان محورين لسورتي: سبأ وفاطر، فالآية الأولى تشكّل محور سورة سبأ، والثانية تشكّل محور سورة فاطر، يظهر هذا بأدنى تأمّل: فالملاحظ أن سورة سبأ تبدأ بمقدمة، ثم يأتي قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ .... وهو موضوع له علاقة بقوله تعالى من سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وسورة فاطر تبدأ بمقدمة ثم يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. وهو موضوع له علاقة بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ومن ثمّ قلنا: إن كلّا من السورتين تفصل آية من الآيتين فصّلت فيهما سورة الأنعام المبدوءة بنفس بداية السورتين، ومن ارتباط الآيتين ببعضهما في المعنى، ومن تفصيلهما من قبل سورة الأنعام، ومن البداية المشتركة بين سورة الأنعام وسورتي سبأ وفاطر نتوقع أن هنا تداخلا في التفصيل؛ لأن سورة فاطر تفصّل في حيّز محور

نقول

سورة سبأ، والسورتان تفصلان في محوري سورتي المائدة والنساء. تبدأ سورة سبأ بمقدمة، ثمّ تجد فيها لازمة تتكرّر ثلاث مرّات هي قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... * مما يشير إلى أن السير الرئيسي للسورة هو إقامة الحجة على الكافرين فيما يقولون، كما أنّ محور السورة كان فيه إقامة حجة على الكافرين: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومن ثمّ فإننا نستطيع أن نقول من البداية: إن السورة تتألف من مقدمة وثلاثة مقاطع: المقدمة وتمتدّ إلى نهاية الآية الثانية. المقطع الأول ويبدأ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي .... المقطع الثاني ويبدأ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ويمتد إلى نهاية الآية (30). المقطع الثالث ويبدأ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ... ويمتد حتى نهاية السورة. ... نقول: قال الألوسي رحمه الله في تقديمه لسورة سبأ: (مكية كما روي عن ابن عباس، وقتادة، وفي التحرير هي مكية بإجماعهم، وقال ابن عطية: مكية إلا قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وروى الترمذي عن فروة بن مسيكة المرادي قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي؟ الحديث، وفيه وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ؟ الحديث. قال ابن الحصار: هذا يدل على أن القصة مدنية، لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع، ويحتمل أن يكون قوله وأنزل حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته، فلا يأبى كونها مكية. وآياتها خمس وخمسون في الشامي، وأربع وخمسون في الباقين، وما قيل خمس وأربعون سهو من قلم الناسخ. ووجه اتصالها بما قبلها أن الصفات التي أجريت على الله تعالى في مفتتحها مما يناسب الحكم التي في مختتم ما قيل من قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ الخ.

وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة سبأ

وأيضا قد أشير فيما تقدم إلى سؤال الكفار عن الساعة على جهة الاستهزاء، وهاهنا قد حكي عنهم إنكارها صريحا، والطعن بمن يقول بالمعاد على أتمّ وجه، وذكر مما يتعلق بذلك ما لم يذكر هناك. وفي البحر أن سبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ: كأن محمدا يتوعّدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويتخوّفنا بالبعث، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا، ولا نبعث، فقال الله تعالى: قل يا محمد بلى وربي لتبعثن، قاله مقاتل، وباقي السورة تهديد لهم وتخويف، ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. انتهى). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة سبأ: (القضايا التي تعالجها السور المكيّة في صور شتى، تعرض في كل سورة في مجال كوني، مصحوبة بمؤثرات منوعة، جديدة على القلب في كل مرّة. ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال، ممثلا في رقعة السماوات والأرض الفسيحة، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب. وفي ساحة الحشر الهائلة. وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة. وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة. وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود). ... وبعد، فلنبدأ عرض السورة.

المقدمة وتشمل الآية الأولى والثانية وهذه هي البسملة

المقدمة وتشمل الآية الأولى والثانية وهذه هي البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 34/ 2 - 1 التفسير: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أنّ له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة؛ لأنّه المنعم المتفضّل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك) وقال النسفي: (وإنّما يحمد أهل الجنة سرورا بالنعيم، وتلذذا بما نالوا من الأجر العظيم) وقال: (غير أن الحمد هنا «أي في الدنيا» واجب لأن الدنيا دار تكليف وثمّ «أي في الآخرة» لا، لعدم التكليف) وَهُوَ الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شئ، وقال مالك عن الزهري: خبير بخلقه، حكيم بأمره يَعْلَمُ ما يَلِجُ أي ما يدخل فِي الْأَرْضِ من حب مبذور، وقطر نازل في أعماق الأرض وأجزائها، وما يدفن فيها من أموات، ودفائن وغير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها من نبات ومعادن ومياه جوفية وغير ذلك وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر ورزق وبركات، وأوامر ونواه وقدر وَما يَعْرُجُ فِيها أي وما يصعد إليها من الملائكة والدعوات، والأعمال الصالحة وغير ذلك وَهُوَ الرَّحِيمُ بإنزال ما يحتاجون إليه الْغَفُورُ لما يجترئون عليه، وقال ابن كثير: (الرحيم بعباده؛ فلا يعاجل عصيانهم بالعقوبة، الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكّلين).

نقل: عن صاحب الظلال حول آية يعلم ما يلج في الأرض ..

نقل: [عن صاحب الظلال حول آية يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ .. ] قال صاحب الظلال رحمه الله عند قوله تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، وَما يَعْرُجُ فِيها: (ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة، فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء، والحركات، والأحجام، والأشكال، والصور، والمعاني، والهيئات، لا يصمد لها الخيال! ولو أن أهل الأرض جميعا وقفوا حياتهم كلها يتتبّعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين! فكم من شئ في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شئ في هذه اللحظة يخرج منها؟ وكم من شئ في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شئ في هذه اللحظة يعرج فيها؟ كم من شئ يلج في الأرض؟ كم من حبة تختبئ، أو تخبأ في جنبات الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض وعين الله عليه ساهرة لا تنام؟ وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟ وكم من نبع يفور؟ وكم من بركان يتفجّر؟ وكم من غاز يتصاعد؟ وكم من مستور ينكشف؟ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى، ومما يعلمه البشر ومما يجهلونه وهو كثير؟ وكم مما ينزل من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق، وكم من شعاع منير؟ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد. وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر .. وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله. وكم مما يعرج فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟ وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه.

كلمة في السياق: حول صلة مقدمة السورة بسورة الأنعام وبالمحور

وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفّاة. وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله؟ وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟ ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه؟! كم في لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العدّ والإحصاء؟ وعلم الله الشامل يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان .. وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله، وهو مع هذا يستر ويغفر .. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ. وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر). كلمة في السياق: [حول صلة مقدمة السورة بسورة الأنعام وبالمحور] أخبرنا الله عزّ وجلّ في مقدّمة السورة عن استحقاقه للحمد؛ لأنه المالك، والعليم، والحكيم، والخبير، والرّحيم، والغفور، فموضوع وجوده عزّ وجلّ بديهية، وموضوع حمده وشكره بديهية، وهذه المقدمة التي تأتي بين يدي مناقشة أقوال الكافرين تشعر أنّ كفر الكافرين، وعدم شكر الجاحدين في غير محله، هذا بالنّسبة لمحلّ المقدّمة في سياق السورة. أمّا محلّ هذه المقدّمة بالنسبة للسّياق العام، فإنّ السورة تفصّل في محور سورة الأنعام كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التي تفيد: أنّ الكفر مستنكر، ومتعجب منه، وتأتي مقدّمة السورة هنا لتبين بأن الله عزّ وجل يستحق الحمد بدل الكفر. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو يستحق الحمد على ذلك كله؛ لنعمه وكماله، فكيف يكفره الكافرون، ولا يشكره الجاحدون! فمقدّمة السّورة تبيّن ما يستحقه الله عزّ وجل لكماله وإنعامه، فالصلة بين محور السورة والمقدمة واضحة، والصلة بين مقدّمة السورة ومقاطعها كذلك واضحة، فلننتقل إلى المقطع الأول.

المقطع الأول ويمتد من الآية (3) إلى نهاية الآية (6) وهذا هو

المقطع الأول ويمتدّ من الآية (3) إلى نهاية الآية (6) وهذا هو: 34/ 6 - 3 التفسير: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ هذا منهم نفي للبعث، وإنكار لمجئ الساعة قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي ليس الأمر إلا إتيانها، أكّد مجيئها بحرف الجواب (بلى) وبالقسم بالله، وباللام، وبنون التوكيد، وهذا غاية التوكيد؛ للتدليل على صحّة المجئ، وفيه بيان أنّ إنكارهم بلغ الغاية، حتى احتاج الجواب إلى هذه المؤكّدات عالِمِ الْغَيْبِ أتبع التوكيد القسمي بهذا الوصف؛ لأنّ عظمة المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه، وهو إتيان الساعة، وبشدّة ثباته واستقامته، لأنّه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، ولمّا كانت قيامة الساعة من مشاهير الغيوب، وأدخلها في الخفية، كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق لا يَعْزُبُ عَنْهُ أي لا يغيب عنه مِثْقالُ ذَرَّةٍ أي قدر ذرة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ من مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ من مثقال ذرة إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إلا وهو مذكور في اللوح المحفوظ، فالجميع مندرج تحت علمه، ومسجّل،

[سورة سبإ (34): آية 4]

فلا يخفى عليه شئ، فالعظام وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت فهو عالم أين ذهبت، وأين تفرّقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة، فإنه بكل شئ عليم، وهكذا عرفنا من خلال ما وصف الله عزّ وجل ذاته في الآية دليل على قيام الساعة، ثم بين تعالى حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما قصدوا فيه من مدارج الإيمان وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لما صبروا عليه من مناهج الإحسان وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي سعوا في ردّ القرآن مسابقين ظانّين أنّهم يفوتوننا، قال ابن كثير في تفسير الآية: أي سعوا في الصدّ عن سبيل الله، وتكذيب رسله أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي لهم عذاب مؤلم، ذكرت هاتان الآيتان تعليلا لإتيان الساعة، فالحكمة في ذلك أن ينعّم السعداء من المؤمنين، ويعذّب الأشقياء من الكافرين وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ أي الصدق وَيَهْدِي هذا الكتاب إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وهو دين الله قال ابن كثير: (هذه حكمة أخرى «أي من حكم إتيان الساعة» معطوفة على التي قبلها، وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة، ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذ عين اليقين ... ) فمن حكم إتيان اليوم الآخر أن يرى أهل العلم أن القرآن حق، وأنه هاد إلى صراط الله العزيز، أي المنيع الجناب الذي لا يغالب، ولا يمانع، بل قد قهر كل شئ وغلبه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، فهو المحمود في ذلك كله جلّ وعلا، وهناك اتجاه يقول: إنّ الآية الأخيرة مستأنفة، وليست معطوفة على ما قبلها، فهي تقرّر أن أهل العلم يعلمون أن القرآن حق، ويهدي إلى صراط الله، وعلى هذا فالآية تقرر أن هذا القرآن حق، يعرف ذلك العالمون، وإذ كان الأمر كذلك، وإذ كان القرآن الذي هو حق يقرّر مجئ الساعة، فذلك دليل على أنّ الساعة آتية. نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ: (وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود؛ واختاره للبشر لينسّق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه. وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها،

كلمة في السياق: حول صلة المقطع الأول بمقدمة السورة وبالمحور

ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه. يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه؛ ومكان هذا الإنسان منه، ودوره فيه؛ وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله- وهو معها- في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه؛ وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى بارئ الوجود. ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير، وإقامته على أسس سليمة، متّفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية؛ بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصّه وقوانينه، والاستعانة بها، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق. ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعدّ الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية. ويعدّ الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق- أفرادا وجماعات- مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون! ويعدّ هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه .. كل ذلك في بساطة ويسر ولين. ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء، وسائر الخلائق؛ فلا يشذّ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته. وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير. إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط. الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط، العارف بطبيعة هذا وذاك. وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق. فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق!؟). كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الأول بمقدمة السورة وبالمحور] في مقدمة السورة قرر الله عزّ وجل أن له الحمد في الآخرة كما رأينا، وهذا إثبات لليوم الآخر، ثم جاء المقطع الأول يذكر كفر الكافرين بالآخرة، ويردّ عليهم، ويذكر حكمة مجئ اليوم الآخر، ففيما بين المقدمة والمقطع الأول صلة ظاهرة، وأما صلة المقطع بمحور السورة فذلك أنّ محور السورة هو كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً

فائدة: حول الآيات الثلاث في القرآن كله التي يقسم الله سبحانه بربوبيته على وقوع المعاد

فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فقد قرر الله عزّ وجل أن البشر راجعون إليه، وقد جاء الرجوع إليه في المحور بصيغة التقرير في سياق الإنكار والتعجيب ممّن يكفر بالله، وجاء هذا المقطع ليقرر أن الكافرين لا يؤمنون بالرجوع إليه، ويردّ عليهم، ومن المقطع ومحور السورة نفهم أنّ الكفر باليوم الآخر فرع الكفر بالله عزّ وجل. ... فائدة: [حول الآيات الثلاث في القرآن كله التي يقسم الله سبحانه بربوبيته على وقوع المعاد] بمناسبة قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ .... قال ابن كثير: (هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهنّ مما أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لمّا أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، والثانية هذه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ، والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. ولننتقل إلى المقطع الثاني. ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (30) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتدّ من الآية (7) إلى نهاية الآية (30) وهذا هو: المجموعة الأولى 34/ 30 - 7 المجموعة الثانية 34/ 10 - 13

34/ 14 المجموعة الثالثة 34/ 15 - 21 المجموعة الرابعة

ملاحظة في السياق: حول وحدة موضوعات المقطع بدليل وحدة بدايته ونهايته

34/ 22 - 28 المجموعة الخامسة 34/ 29 - 30 ملاحظة في السياق: [حول وحدة موضوعات المقطع بدليل وحدة بدايته ونهايته] يلاحظ أن المقطع تكلّم في بدايته بشكل صريح عن اليوم الآخر: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... وأن المقطع في نهايته تكلم عن اليوم الآخر بشكل صريح: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .... وجاءت في الوسط ثلاث مجموعات: مجموعة تكلّمت عن داود وسليمان عليهما

تفسير المجموعة الأولى

السلام، ومجموعة تكلّمت عن سبأ، ومجموعة صدرت فيها أوامر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول فيها كلاما، ومن ثمّ ففقراتها مبدوءة ب (قل ... ) وسنرى محلّ كلّ في السياق الخاص والعام، وإنّما سجّلنا هذه الملاحظة لنؤكّد على وحدة المقطع، بدليل وحدة بدايته ونهايته، ممّا يشير إلى أنّ ما سيق في الوسط يخدم ما جاء في أوله وآخره، وسنعرضه على أنّه خمس مجموعات: مقدّمة، وخاتمة، وثلاث مجموعات في الوسط. تفسير المجموعة الأولى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم، وإنما نكّروه مع أنه كان مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم؛ تجاهلا به، وبأمره يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرّقتم كل تفريق، أي تفرّقت أجسادكم في الأرض، وذهبت فيها كل مذهب، أي يحدّثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تكونوا رفاتا وترابا، قد تمزّقت أجسادكم إِنَّكُمْ أي بعد هذه الحال لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك، قال ابن كثير: (هذا إخبار من الله عزّ وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة، واستهزائهم بالرسول صلّى الله عليه وسلم في إخباره بذلك ... وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره عن قسمين: إما أن يكون قد تعمّد الافتراء على الله تعالى أنّه قد أوحى إليه ذلك أو أنّه لم يتعمّد لكن لبّس عليه كما يلبّس على المعتوه المجنون ... ) ومن ثمّ قال تعالى حكاية عن قولهم في رسوله: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من ذلك أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟! قال تعالى نافيا هذا وهذا: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ أي في الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ من الحق في الدنيا، أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه بل محمد صلّى الله عليه وسلم هو الصادق البارّ الرّائد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء السائرون في طريق العذاب، والضالّون الضلال البعيد؛ لبعدهم عن الجادّة. قال النسفي في الآية: (قال سبحانه وتعالى: ليس محمد صلّى الله عليه وسلم من الافتراء والجنون في شئ، وهو مبرّأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق، وهم غافلون عن ذلك، وذلك أجنّ الجنون، جعل وقوعهم في العذاب رسيلا لوقوعهم في الضلال، كأنهما كائنان في وقت واحد، لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كأنّهما

[سورة سبإ (34): آية 9]

مقترنان) ثم أتمّ الله عزّ وجل الجواب بلفت نظرهم إلى مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض، وإلى قدرته تعالى على تعذيبهم في الدنيا، وفي ذلك إقامة حجة عليهم، وإنذار لهم فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلو أنهم رأوا لأيقنوا بقدرة الله التي لا يعجزها شئ، وبالتالي لأيقنوا باليوم الآخر، ولكن أعمتهم الألفة، فلم يعودوا يشاهدون عظمة الخلق والخالق إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي قطعا، ومن المعلوم أن النيازك التي تصطدم بالجو يوميا لو أنها تصل إلى الأرض بأن كان حجمها أكبر مما هي عليه فإن حياة الإنسان على الأرض تكون مهددة يوميا. وقد وصلت بعض النيازك إلى الأرض فأحدثت فيها حفرا كبيرة، قال ابن كثير: (أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك الخسف، أو الإسقاط؛ بظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي لدلالة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي فظن لبيب، رجّاع إلى الله، مطيع له قال النسفي: (إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، على أنه قادر على كل شئ، من البعث، ومن عقاب من يكفر به) وقال ابن كثير في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ: ( ... على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد، ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتّساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها، إنه لقادر على إعادة الأجسام، ونشر الرميم من العظام ... ) وقد دلت الآية على أن من اتصف بصفة الإنابة إلى الله بالتوبة الدائمة، هو الذي يرى في السموات والأرض آية على قدرة الله على الخلق، والبعث، وآية على قدرته على التعذيب والانتقام. ... كلمة في السياق: [حول موضوع المجموعة وصلتها بالمقطع الأول وبمقدمة السورة وبالمحور] 1 - أقامت هذه المجموعة الحجّة على منكري البعث من خلال لفت النّظر إلى قدرة الله على العذاب في الدنيا، بإنزال الكسف من السماء، وبالخسف في الأرض، فالقادر على ذلك، قادر على التعذيب في اليوم الآخر، وقادر بالتالي على إيجاد اليوم الآخر، ولقد جاء الكلام عن اليوم الآخر في مقدّمة السّورة، وفي المقطع الأول، وفي هذه المجموعة، فالسّياق واحد في السّورة، وصلة ذلك بمحور السّورة من سورة البقرة واضحة، ففي المحور جاء قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

2 - إنّ محور سورة سبأ هو قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. إن صيغة الاستفهام في هذه الآية تفيد الإنكار والتعجيب، فالكفر مستنكر، والكفر عجيب، وإذا كان الكفر بالله مستنكرا، فالأصل إذن هو الإيمان، وإذا كان الكفر بالله عجيبا، فالأصل إذا هو الشكر، فإذا أدركنا هذه المعاني عرفنا سرّ مجئ قصة داود وسليمان المؤمنين الشاكرين في هذا السياق، وأدركنا سرّ مجئ قوله تعالى هاهنا: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. إنّ قصة داود وسليمان عليهما السلام في هذا السياق ترينا الموقف السّليم للإنسان السّليم: إنّه الشّكر وليس الكفر، وصلة ذلك بسياق السورة وبمحورها واضحة. فلنر المجموعة الثانية من المقطع الثاني. ***

تفسير المجموعة الثانية

تفسير المجموعة الثانية وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا ثم بيّن ما هو هذا الفضل يا جِبالُ أي قلنا يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ أي رجّعي معه التسبيح قال النسفي: ومعنى تسبيح الجبال أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحا، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح معجزة لداود عليه السلام وَالطَّيْرَ أي قلنا للطير أوّبي معه كذلك وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي وجعلناه له ليّنا كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار، ولا ضرب بمطرقة أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي أمرناه أن اعمل دروعا سابغات، أي واسعة تامّة وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السّرد نسج الدروع ومعنى: وقدّر في السرد: أي لا تجعل المسامير دقاقا فتفلق، ولا غلاظا فتفصم الحلق، واجعله بقدر وَاعْمَلُوا أي يا آل داود، ويا داود صالِحاً أي عملا خالصا يصلح للقبول، أي في الذي أعطاهم الله من النعم إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى عليّ من ذلك شئ، وسأجازيكم عليه وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخّرنا لسليمان الريح غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك، وهل هذا التسخير بأن تطيعه في الإمطار وتسيير السفن، أو تسخيرها بأن تحمله من مكان إلى مكان؟ ليس هنالك نصّ قاطع في هذا إلا أن عامة المفسّرين يذكرون الثاني فقط. قال ابن كثير: (لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام، من تسخير الريح له، تحمل بساطه، غدوها شهر ورواحها شهر) وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي عين النحاس وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي وسخّرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن ربه، أي بقدره وتسخيره لهم وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ أي ومن يعدل من الشياطين عَنْ أَمْرِنا الذي أمرنا به، من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي الحريق يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي مساجد، أو مساكن حسنة وَتَماثِيلَ أي وصورا مجسّدة كالسّباع والطيور وغير ذلك، قال النسفي: (وكان التصوير مباحا حينئذ) وَجِفانٍ جمع جفنة كَالْجَوابِ جمع جابية: وهي الحياض الكبار وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحوّل عن أماكنها لعظمها اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أي وقلنا لهم اعملوا شكرا على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أي المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقادا واعترافا وكدحا، وهذا

[سورة سبإ (34): آية 14]

إخبار عن الواقع فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ أي على سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ أي ما دلّ الجن وآل داود عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه فَلَمَّا خَرَّ أي سقط سليمان عليه السلام تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي علمت الجن أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كما كانوا يتوهّمون، ويوهمون الناس ما لَبِثُوا بعد موت سليمان عليه السلام فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي في العذاب المذلّ، وليس عن رسولنا عليه الصلاة والسلام أو في كتاب الله ما يبيّن لنا كيف تمّ الحادث، وما مقدار الزمن الكائن بين الوفاة والاكتشاف عقب السقوط، وإنما هي روايات مرجعها علماء أهل الكتاب، وليس في ذكرها عبرة ولا عظة، وإنّما العبرة والعظة موجودتان فيما ذكر الله عزّ وجل. ... نقول: [عن صاحب الظلال حول قصة سليمان عليه السلام في السورة] قال صاحب الظلال: (وتسخير الريح لسليمان تتكاثر حوله الروايات، وتبدو ظلال الإسرائيليات واضحة في تلك الروايات- وإن تكن كتب اليهود الأصلية لم تذكر شيئا عنها- والتحرّج من الخوض في تلك الروايات أولى. والاكتفاء بالنص القرآني أسلم. مع الوقوف به عند ظاهر اللفظ لا نتعدّاه. ومنه يستفاد أن الله سخر الريح لسليمان، وجعل غدوها أي توجهها غادية إلى بقعة معينة (ذكر في سورة الأنبياء أنها الأرض المقدسة) يستغرق شهرا، ورواحها أي انعكاس اتجاهها في الرواح يستغرق شهرا كذلك. وفق مصلحة تحصل من غدوّها ورواحها، يدركها سليمان- عليه السلام- ويحققها بأمر الله ... ولا نملك أن نزيد هذا إيضاحا حتى لا ندخل في أساطير لا ضابط لها ولا تحقيق. وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ .. والقطر: النحاس. وسياق الآيات يشير إلى أن هذا كان معجزة خارقة كإلانة الحديد لداود. وقد يكون ذلك بأن فجّر الله له عينا بركانية من النحاس المذاب من الأرض. أو بأن ألهمه الله إذابة النحاس حتى يسيل ويصبح قابلا للصبّ والطرق. وهو فضل من الله كبير. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...

كلمة في السياق: حول المجموعة وصلتها بما قبلها وبالمحور وعلة ورود قصة داود وسليمان مع قصة سبأ هنا

وكذلك سخّر له طائفة من الجن يعملون بأمره بإذن ربه. والجن: كل مستور لا يراه البشر. وهناك خلق سماهم الله الجن ولا نعرف نحن من أمرهم شيئا إلا ما ذكره الله عنهم، وهو يذكر هنا أن الله سخّر طائفة منهم لنبيه سليمان- عليه السلام- فمن عصى منهم ناله عذاب الله). وقال رحمه الله عند قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ* فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ: (وقد روي أنه كان متّكئا على عصاه حين وافاه أجله؛ والجن تروح وتجئ مسخّرة فيما كلفها إياه من عمل شاق شديد؛ فلم تدرك أنه مات، حتى جاءت دابة الأرض. قيل إنها الأرضة، التي تتغذى بالأخشاب، وهي تلتهم أسقف المنازل وأبوابها وقوائمها بشراهة فظيعة، في الأماكن التي تعيش فيها. وفي صعيد مصر قرى تقيم منازلها دون أن تضع فيها قطعة خشب واحدة خوفا من هذه الحشرة التي لا تبقي على المادة الخشبية ولا تذر. فلمّا نخرت عصا سليمان لم تحمله فخرّ على الأرض. وحينئذ فقط علمت الجن موته. وعندئذ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ .. فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس. هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله. وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد!). كلمة في السياق: [حول المجموعة وصلتها بما قبلها وبالمحور وعلة ورود قصة داود وسليمان مع قصة سبأ هنا] 1 - نلاحظ أن هذه المجموعة ختمت بقوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ* فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ فلنتذكر صلة هذا بمقدمة السورة، قرّر الله عزّ وجل في الآية الأولى من السورة استحقاقه للحمد الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ... وفي الآية الثانية قرّر الله عزّ وجل اختصاصه بالعلم يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها ... وقد جاءت قصة سليمان وداود عليهما السلام لتقرر استحقاقه للشكر، وختمت قصة داود وسليمان بما ينفي أن يكون غيره عالما بالغيب حتى ولو كانوا الجن الذين بلغ

من قوّتهم أن صنعوا لسليمان هذه الأشياء الضخمة التي تحدّثت عنها الآيات. 2 - ختمت الآية السابقة على قصة داود وسليمان عليهما السلام بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ فالعبودية لله والإنابة له صفتان بهما تعرف آيات الله في الكون، وإذ يقصّ الله علينا قصة داود عليه السلام التي فيها وَاعْمَلُوا صالِحاً وقصة سليمان عليه السلام التي فيها اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ... فإن ذلك يشير إلى أن المقام الأعلى للإنسان هو العمل الصالح، وهو الشكر، وأن ما يعطيه الله للإنسان ينبغي أن يقابل بالعمل الصالح وبالشكر. فالمجموعة تعلّمنا أنّ أدب أكرم الخلق مع الله العبودية؛ فلا يستنكفنّ أحد منها؛ فإنها باب الآيات الدالة على الله وعلى اليوم الآخر. 3 - يلاحظ أن المقطع الأول ختم بقوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وأن المقطع الثاني بدأ بذكر سخرية الكافرين برسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى اليوم الآخر هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وتأتي هذه المجموعة بعد ذلك لترينا نماذج من عطاء الله عزّ وجل لرسله عليهم الصلاة والسلام، وهو عطاء عجيب عظيم معجز، من تأويب للجبال والطير، وإلانة للحديد، وتسخير للريح والجن، فإذا ما أكرم الله عزّ وجل محمدا صلّى الله عليه وسلم بهذا القرآن المعجز، فليس ذلك ببدع من الأمر، فعطاء الله عزّ وجل ليس له حدود، فكيف يسخرون من محمد عليه الصلاة والسلام. مما مرّ ندرك صلة المجموعة بما قبلها سواء في ذلك المجموعة السابقة عليها، أو المقطع الأول، أو المقدمة. 4 - لاحظ مجئ كلمة الإنابة في آخر المجموعة الأولى، وأوّل هذه المجموعة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ثم جاء بعدها مباشرة وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ فكلمة: أوّبي معه تفيد أن داود عليه السلام كان يئوب إلى الله، وعلى هذا فبعد أن قال الله عزّ وجل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أعطانا نموذجا على العبد المنيب في داود وابنه سليمان عليهما السلام، وأعطانا نماذج على ما يكرم الله عزّ وجل به عباده الأوّابين إذا أنابوا إليه، من عطاء ليس له حدود،

فائدتان: حول الآيتين يا جبال أوبي معه، اعملوا آل داود شكرا

فالمجموعة إذن ترفع هممنا لنكون أوّابين من أجل أن نرى آيات الله، لنؤمن بالله واليوم الآخر حقّ الإيمان، وهذا مظهر آخر من مظاهر ارتباط المجموعة بما قبلها. 5 - وإذا اتضح كل ما مرّ، وعرفنا صلة المجموعة بما قبلها، يبقى أن نتذكر صلة هذه المجموعة بمحور السورة من سورة البقرة: إن الصلة واضحة، فالمحور ينكر على من يكفر بالله فلا يشكره، والمجموعة تقدّم النموذج على الشكر، وعدم الكفران، لاحظ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ إلى قوله تعالى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. فمحور السورة ذكّرنا بنعم الله العامة، وقصة داود وسليمان عليهما السلام تذكرنا بنعم الله الخاصة، وهذا كله يقتضي شكرا، فإذا كان المحور ينكر على الكافرين، فالمجموعة تقدّم لنا نموذجا للشاكرين، ونموذجا لعطاء الله لهم. 6 - وإذا كانت قصة داود وسليمان عليهما السلام نموذجا على الشكر، ففي المجموعة اللاحقة تأتي قصة سبأ كنموذج على الكفر بالله، الذي هو سبب الكفر بالآخرة، وهو موضوع سنراه، فلنر الآن بعض الفوائد. فائدتان: [حول الآيتين يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً] 1 - بمناسبة قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ قال ابن كثير: (وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود»، وقال أبو عثمان النهدي ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه). 2 - بمناسبة قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً قال ابن كثير: (فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية كما قال الشاعر: أفادتكم النّعماء مني ثلاثة … يدي ولساني والضمير المحجبا

قال أبو عبد الرحمن السلمي: الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله عزّ وجل شكر، وأفضل الشكر: الحمد. رواه ابن جرير. وروى هو وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح). ***

تفسير المجموعة الثالثة

تفسير المجموعة الثالثة لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ أي في موضع سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها باليمن آيَةٌ أي علامة دالّة على قدرة الله وإحسانه، ووجوب شكره هذه الآية جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أي جماعتان من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم، وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامّها كأنها جنّة واحدة، كما تكون بساتين البلاد العامرة كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ هكذا قال أنبياء الله المبعوثون إليهم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم، وطلب شكركم رب غفور لمن شكره فَأَعْرَضُوا عن دعوة أنبيائهم، وعن شكر ربهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي المطر الشديد، أو سيل الوادي المسمّى بالعرم، الذي بنوا في نهايته سدّهم وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ المذكورتين جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ أي ثمر خَمْطٍ أي بشع وَأَثْلٍ الأثل: شجر يشبه الطرفاء، والأثل لا ثمر له وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ السّدر: شجر النبق، قال الحسن: قلّل السدر لأنّه أكرم ما بدّلوا، لأنه يكون في الجنان، قال ابن كثير: (فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة، والأنهار الجارية تبدّلت إلى شجر الأراك، والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير، والثمر القليل، وذلك بسبب كفرهم، وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق، وعدولهم عنه إلى الباطل ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرهم وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي وهل نجازي مثل هذا الجزاء إلا من كفر النّعمة، ولم يشكرها، أو كفر بالله وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي الشام قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم، حتى تخفى عليهم وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي وجعلنا هذه القرى على مقدار معلوم يقيل المسافر في قرية، ويروح في أخرى إلى أن يبلغ الشام سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا. قال النسفي: أي سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو سيروا فيها آمنين لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا، وإن تطاولت مدة سفركم، وامتدت أياما وليالي فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قالوا: يا ليتها كانت بعيدة فنسير على

[سورة سبإ (34): آية 20]

نجائبنا، ونربح في التجارات، ونفاخر في الدواب والأسباب، بطروا النعمة، وملوا العافية، فطلبوا الكدّ والتعب وَظَلَمُوا بما قالوا أَنْفُسَهُمْ بكفرهم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي يتحدّث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي وفرّقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا يقولون ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبأ، كما سترى في الفوائد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي وعلى البلاء شَكُورٍ للنّعم، قال النسفي: أو لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان: نصفه شكر، ونصفه صبر وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي حقق عليهم ظنه، أو وجده صادقا فَاتَّبَعُوهُ أي أهل سبأ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قلّل المؤمنين لقلّتهم بالإضافة إلى الكفار وَما كانَ لَهُ أي لإبليس عَلَيْهِمْ أي على الذين صار ظنّه فيهم صدقا مِنْ سُلْطانٍ أي من حجّة قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شئ وما كان إلا غرورا وأماني، دعاهم إليها فأجابوه إِلَّا لِنَعْلَمَ موجودا ما علمناه معدوما والتغيّر على المعلوم لا على العلم مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ قال ابن كثير: (أي إنّما سلّطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وقيامها، والحساب فيها والجزاء؛ فيحسن عبادة ربّه عزّ وجل في الدنيا، ممّن هو منها في شك وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي محافظ عليه، فليحذر العاصي وليشكر المؤمن. كلمة في السياق: [حول موضوع المجموعة وصلتها بما قبلها وبما بعدها وبالمحور] 1 - نلاحظ أن المجموعة الأولى من هذا المقطع انتهت بقوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ونلاحظ أن المجموعة التي مرت معنا تبدأ بقوله تعالى لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ مما يشير إلى ارتباط المجموعة الثالثة بمقدمة المقطع، ونلاحظ أنه بعد ما قصّ الله علينا عقوبة سبأ قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ فإذا تذكّرنا أن قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ جاء في معرض ذكر قدرة الله على العقوبة، ندرك الصلة بين مقدّمة المقطع مع المجموعة، ونلاحظ أن المجموعة انتهت بقوله تعالى وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ مما يدل على أن موضوع اليوم الآخر الذي بدأ به المقطع هو الهدف من سوق القصة؛ فكفر النعمة سببه الشّك في الآخرة.

2 - إن هناك ارتباطا بين رؤية الآية، والشكر لله، والإنابة إليه، وهناك ارتباط بين الشكر لله وبين الإيمان باليوم الآخر، وهذا من أوائل المعاني التي تقدمها لنا المجموعة الثالثة، فالمقطع بدأ بذكر قول للكافرين يفيد استبعادهم لليوم الآخر، ثمّ ردّ عليه، ثمّ جاءت قصة داود نموذجا على الشكر، ثم جاءت قصة سبأ نموذجا على الكفر، فالمجموعة الثانية ذكرت نموذجا لمن يرى الآيات التي تدل على الله، وعلى اليوم الآخر، والمجموعة الثالثة ذكرت نموذجا لمن يعمى عن رؤية الآيات التي تدل على الله، وعلى اليوم الآخر، ومن ثم ذكرت المجموعة الثانية ما يستحقه من يرى، وذكرت المجموعة الثالثة ما يستحقه من لا يرى. 3 - في المجموعتين الثانية والثالثة ذكر ضمنا دليل جديد من أدلّة اليوم الآخر، فالله عزّ وجل مستحق للشكر، والقيام بالشكر مرتبط بوجود يوم آخر، وإيمان به، والله عزّ وجل المحيط علما بكل شئ، والعليم بالإنسان قضى أن يكون يوم آخر؛ لأنّه بدون ذلك لا يقوم الإنسان بحق الله. 4 - فلتتأمل الآن صلة مجموعة سبأ بمحور السورة من سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. إنّ المجموعة تعطينا نموذجا على الكفر الواضح الفاقع مع وجود كل ما ينافيه، وتعطينا التعليل لهذا الكفر وهو الشك باليوم الآخر. فالصلة قائمة بين المجموعة وما قبلها، وبين المجموعة ومحور السورة من سورة البقرة. 5 - الملاحظ أن ما بعد مجموعة سبأ تأتي مجموعة يتوجه فيها الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ... قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ ... فلم انتقل السياق من الكلام عن سبأ إلى هذا الخطاب المباشر؟ إن الجواب يكمن في بداية المقطع، لقد بدأ المقطع بذكر سخرية الكافرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى الإيمان باليوم الآخر وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وقد ردّ الله عليهم، ولفت نظرهم، وأقام الحجة، وذكر ما يعطي الشاكرين بذكر قصة داود وسليمان، وذكر ما يعاقب به الكافرين في قصة سبأ؛ ليردّهم عن الكفر إلى الشكر، ثم بعد ذلك يأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يردّ

فوائد

عليهم، وهكذا تأتي المجموعة الرابعة في المقطع استمرارا للمقطع، ومتصلة به، وقبل أن نعرضها فلنذكر بعض الفوائد: فوائد: [1، 2 - تقديم ابن كثير لقصة سبأ وتحقيق حول اسم (سبأ) أهو رجل أم امرأة أم أرض؟] 1 - قدم ابن كثير لقصة سبأ بقوله: (كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم، واتّساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل، تأمرهم أن يأكلوا من رزقه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عمّا أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرّق في البلاد أيدي سبأ شذر مذر). 2 - روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو، أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «بل هو رجل ولد له عشرة فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة، ما اليمانيون فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان»، وروى الإمام أحمد أيضا وعبد بن حميد عن فروة ابن مسيك رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم فقاتل بمقبل قومك مدبرهم» فلمّا ولّيت دعاني فقال: «لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام» فقلت: يا رسول الله أرأيت سبأ أواد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «بل رجل من العرب ولد له عشرة، فتيامن ستة، وتشاءم أربعة، تيامن الأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار الذين يقال لهم بجيلة وخثعم، وتشاءم لخم، وجذام، وعاملة، وغسان». وقد قال ابن كثير في قوله عليه الصلاة والسلام: «فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة»: (أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم، منهم من أقام ببلادهم، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها) ثم قال ابن كثير: (وكان من أمر السّد أنّه كان الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء، وحكم على حافات ذينك الجبلين، فغرسوا الأشجار، واستغلوا الثمار، في غاية ما يكون من الكثرة والحسن، كما ذكر غير واحد من السلف- منهم قتادة- أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل

(3، 5 - حول عدد الأنبياء المرسلين لسبأ، وإرسال العرم على قومه، وأثر حول عقاب الله لهم

- أو زنبيل- وهو الذي تختزن فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السّد بمأرب، بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسد مأرب). [(3، 5 - حول عدد الأنبياء المرسلين لسبأ، وإرسال العرم على قومه، وأثر حول عقاب الله لهم] 3 - قال ابن كثير: (وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: بعث الله تعالى إليهم «أي إلى سبأ» ثلاثة عشر نبيا. وقال السدي: أرسل الله عزّ وجل إليهم اثني عشر ألف نبي والله أعلم). أقول: نحن نؤمن بكل نبي دون أن نتقيّد بعدد فيما لم يرد فيه نص قطعي. 4 - قال ابن كثير: (وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك أن الله عزّ وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السّد دابّة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته ... ). 5 - بمناسبة ما عاقب الله عزّ وجل به سبأ ذكر ابن كثير: ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده عن ابن خيرة- وكان من أصحاب علي رضي الله عنه- قال: جزاء المعصية: الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسّر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يصادف لذّة حلالا إلا جاءه من ينغّصه إياها). 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن؛ إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شئ حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته». وقد رواه النسائي في اليوم والليلة، من حديث أبي إسحاق السبيعي به، وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له؛ وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». قال عبد: حدثنا يونس عن سفيان عن قتادة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ قال: كان مطرف يقول: نعم العبد الصبّار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ] عند قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قال ابن كثير: (قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبليس حين امتنع

من السجود لآدم عليه الصلاة والسلام ثم قال: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62] وقال: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف: 17] والآيات في هذا كثيرة، وقال الحسن البصري لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة، ومعه حواء، هبط إبليس فرحا بما أصاب منهما، وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف، وكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله عزّ وجل وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعده وأمنّيه وأخدعه، فقال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلا أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له». رواه ابن أبي حاتم). ***

تفسير المجموعة الرابعة

تفسير المجموعة الرابعة قُلِ للكافرين ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الآلهة التي عبدت من دونه، والمعنى: ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة، وسمّيتموهم باسمه، والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه، وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته، ثم أجاب عنهم بقوله لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر، أو نفع أو ضر فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق، ولا في الملك وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي وما له تعالى من آلهتهم من معين يعينه على تدبير خلقه، يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى! ثم قال تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الله، يعني: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، هذا إخبار منه تعالى عن عظمته وجلاله، وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شئ إلا بعد إذنه له في الشفاعة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة، في إطلاق الإذن قالُوا أي سأل بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ أي قال القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ذو العلو والكبرياء، ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، أو يشفع إلا لمن ارتضى، فإذا كان هذا شأن الله عزّ وجل في العظمة، وذاك شأن آلهتهم في العجز، فكيف يعبدون غير الله، ويتركون عبادة الله، وكيف يكفرون بالله؟. قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بما ينزل من المطر، وينبت من الزرع، أمره بأن يقرّرهم بقوله مَنْ يَرْزُقُكُمْ ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم قُلِ اللَّهُ وذلك للإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلّموا به؛ لأنّهم إن تفوّهوا بأنّ الله رازقهم، لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام، الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم، لم يتقاصر عنه وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ومعناه: وإنّ أحد الفريقين من الموحّدين، ومن المشركين، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال، وفي مجيئه بعد ما تقدم، دلالة غير خفيّة على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن

[سورة سبإ (34): آية 25]

التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض، قال ابن كثير: (أي واحد من الفريقين مبطل والآخر محقّ؟ لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى، أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك) ثم أمره أن يقول: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا إن كان ما نحن فيه إجرام وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ إن كان لكم أعمال تسألون عنها، وهو نوع من الخطاب غاية في هضم النفس، والتأدب مع المخاطبين، مع المفاصلة الكاملة ومن ثمّ قال ابن كثير: (معناه التبري منهم أي لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله تعالى، وإلى توحيده، وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منّا ونحن منكم وإن كذّبتم فنحن برءاء منكم، وأنتم برءاء منا) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا أي يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي يحكم بيننا بالعدل بلا جور ولا ميل وَهُوَ الْفَتَّاحُ أي الحاكم الْعَلِيمُ أي العالم بالعمل والحكم قال ابن كثير: أي الحاكم العادل، العالم بحقائق الأمور قُلْ يا محمد لهؤلاء الكافرين أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ أي بالله شُرَكاءَ في العبادة كَلَّا أي ارتدعوا عن هذا القول، وتنبهوا عن ضلالكم بَلْ هُوَ اللَّهُ لا غيره الْعَزِيزُ أي الغالب، فلا يشاركه أحد الْحَكِيمُ في تدبيره وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي لجميع الخلائق من المكلفين بَشِيراً وَنَذِيراً أي تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيحملهم جهلهم على مخالفتك. .. نقول: قال صاحب الظلال في حديثه عن هذه المجموعة: (إنها جولة قصيرة حول قضية الشرك والتوحيد. ولكنها جولة تطوّف بالقلب البشري في مجال الوجود كله، ظاهره وخافيه، حاضره وغيبه، سمائه وأرضه، دنياه وآخرته، وتقف به مواقف مرهوبة ترجف فيها الأوصال؛ ويغشاها الذهول من الجلال. كما تقف به أمام رزقه وكسبه، وحسابه وجزائه. وفي زحمة التجمع والاختلاط. وفي موقف الفصل والعزل والتميز والانفراد .. كل أولئك في إيقاعات قوية، وفواصل متلاحقة، وضربات كأنها المطارق: قُلِ .. قُلْ .. قُلْ .. كل

كلمة في السياق: حول موضوع المجموعة وصلتها بالمحور وصلة آياتها ببعضها البعض

قولة منها تدمغ بالحجة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان). وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قُلِ: اللَّهُ. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: (والرزق مسألة واقعة في حياتهم. ورزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور .. ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون، ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشّف آنا بعد آن .. ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز .. وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشّف غيره على مدار الزمان .. ). كلمة في السياق: [حول موضوع المجموعة وصلتها بالمحور وصلة آياتها ببعضها البعض] 1 - هذه الأوامر المتعاقبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قررت أن الله وحده يستحق العبادة لعظمته، وأنه يستحق العبادة لإنعامه، وقررت المفاصلة بين المؤمنين والكافرين، وقررت أن الله عزّ وجل سيحكم بين الطرفين، وأن غيره ليس له معه شركة، ثم ختمت المجموعة بتبيان عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، وفي هذا إقامة حجة على وجوب شكر الله عزّ وجل، والحذر من كفره، كما أن فيه حجة جديدة على ضرورة اليوم الآخر؛ فالحكم بين المؤمنين والكافرين، ونصرة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وتصديقهم، كل ذلك يقتضي مجئ اليوم الآخر، ونلاحظ أنّ الآية اللاحقة هي وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مما يشير إلى أن السياق سائر في موضوع اليوم الآخر. 2 - وإذن فقد أكّدت هذه المجموعة معاني عظمة الله، واستحقاقه العبادة والشكر، كما أكّدت موضوع مجئ اليوم الآخر، كما حددت الآية الأخيرة منها مهمّة الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنها الإنذار والتبشير بهذا اليوم. 3 - لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ... وبين قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ... قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ ... قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ... ثم وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً هناك هجوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهاهنا ردّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم وإقامة حجة.

4 - ثم لاحظ الصلة بين محور السورة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وبين ما جاء من آيات في هذه المجموعة: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ... قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ .... ... فالصلة بين مجموعات المقطع على أشدها، والصلة بين مجموعات المقطع ومحور السورة قائمة، ولم يبق عندنا من المقطع إلا خاتمته وهي المجموعة الخامسة، وهي آيتان. ***

تفسير المجموعة الخامسة

تفسير المجموعة الخامسة وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي يوم القيامة الذي تحدّثت عنه بداية المقطع، والذي أشير إليه بقوله تعالى قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ ... ، والذي هو مظهر البشارة والنذارة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولونه من مجئ اليوم الآخر؟ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ قال ابن كثير: (أي لكم ميعاد مؤجّل، معدود محرّر، لا يزاد ولا ينقص، فإذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يقدّم) وقال النسفي: (أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال، ولا التقدم إليه بالاستعجال، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم: أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنّتا، لا استرشادا، فجاء الجواب على طريق التهديد، مطابقا للسؤال، على سبيل الإنكار والتعنيف، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه) وبهذا انتهى المقطع. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة بمقطعها وبالمحور] بعد أن قامت الحجة على الكافرين بأن يوم القيامة آت، وبعد أن اتضحت حكمته، وبعد أن عرف محلّه، كان آخر ما عرضه علينا المقطع هو سؤال الكافرين عن ميعاده، فكأنهم بعد ما قامت عليهم الحجة أرادوا أن يطلقوا سهما أخيرا، فجاءهم الجواب الحاسم الذي هم عنه غافلون، هذا بالنسبة لصلة الآيتين الأخيرتين بسياق المقطع، أما صلتهما بمحور السورة: فذلك أن الله عزّ وجل قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ... ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فهم هنا يسألون عن ميعاد هذا الرجوع، ويأتيهم الجواب على ذلك، فالصلة كاملة وواضحة بين المجموعة الأخيرة ومحورها. ولنذكر بعض الفوائد المتعلّقة بالمجموعتين: الرابعة، والخامسة. ... فوائد: 1 - [كلام ابن كثير حول موضوع الشفاعة بمناسبة آية وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قال ابن كثير: (ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله تعالى- أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم، أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال: «فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني،

2 - مناقشة حول تفسير قوله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم

ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع». 2 - [مناقشة حول تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ] رأينا ماذا يعني قوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ... في محله بالنسبة لأهل الآخرة، لكنّ هذا المقام مقام دائم لأهل الملكوت الأعلى، وقد وردت الأحاديث في ذلك، إلّا أنّ بعضهم ظنّ أنّ هذه الأحاديث مفسّرة للآية في سياقها ومحلّها، وليس كذلك، ولكنّ مقام النّاس يوم القيامة يشبه حال الملائكة الدائم في تلقيهم عن الله عزّ وجل، ومن ثمّ جاءت الأحاديث تعبّر بقوله تعالى حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ عن تلقي الملائكة الدائم، فظنّ من ظنّ أنّها تفسير للآية في سياقها، والذي يبدو لي أن الأمر ليس كذلك، ولننقل ثلاثة أحاديث ذكرها ابن كثير في هذا المقام، مع ملاحظة أن ابن كثير يرى هذا الرأى الذي لم نره: روى البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه عن سفيان عن عمرو قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء». حديث آخر: روى الإمام أحمد ... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه- قال عبد الرزاق: من الأنصار- فرمي بنجم فاستنار، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟» قالوا: كنا نقول يولد عظيم، أو يموت عظيم- قلت للزهري أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم ولقد غلّظت حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم- قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبّح حملة العرش، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا، ثم

3 - فضل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء بعالمية الدعوة

يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع؛ فيرمون، فما جاء به على وجهه فهو حق، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون». حديث آخر: روى ابن أبي حاتم ... عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلّم بالوحي، فإذا تكلّم أخذت السموات منه رجفة- أو قال رعدة- شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا، وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلّمه الله من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة، كلما مرّ بسماء سماء يسأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض». 3 - [فضل النبي صلّى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء بعالمية الدعوة] بمناسبة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فضّل محمدا صلّى الله عليه وسلم على أهل السماء، وعلى الأنبياء، قالوا: يا ابن عباس فيم فضّله الله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه: إن الله تعالى قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] وقال للنبي صلّى الله عليه وسلم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا؛ فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بعثت إلى الأسود والأحمر» قال مجاهد يعني: الجن والإنس، وقال غيره يعني: العرب والعجم والكل صحيح). ولننتقل إلى المقطع الثالث.

المقطع الثالث ويمتد من الآية (31) إلى نهاية الآية (54) أي إلى نهاية السورة وهذا هو

المقطع الثالث ويمتدّ من الآية (31) إلى نهاية الآية (54) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: المجموعة الأولى 34/ 54 - 31 المجموعة الثانية 34/ 34 - 37

34/ 38 - 39 المجموعة الثالثة 34/ 40 - 42 المجموعة الرابعة 34/ 43 - 45

كلمة في السياق: صلة المقاطع الثلاثة ببعضها البعض وموضوعها الرئيسي

المجموعة الخامسة 34/ 46 - 54 كلمة في السياق: [صلة المقاطع الثلاثة ببعضها البعض وموضوعها الرئيسي] رأينا أنّ السورة تتألف من مقدمة، وثلاثة مقاطع، وأن كل مقطع من المقاطع الثلاثة مبدوء بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا.* بدأ المقطع الأول بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ... فإنكار الكافرين هاهنا منصبّ على اليوم الآخر. وبدأ المقطع الثاني بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ والإنكار هاهنا منصب على اليوم الآخر، مع الاستهزاء بشخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثالث

وبدأ المقطع الثالث بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فالإنكار فيه منصب على القرآن والوحي، وفيما بين إنكار الآخرة، وإنكار الوحي، وإنكار الرّسالة، تداخل وتلازم، ومن ثمّ فإقامة الحجة في كل واحد منها إقامة حجة على الكلّ، ولذلك نرى أن في كل مقطع من المقاطع الثلاثة كلاما عن هذه الثلاثة، ولكن يبقى لكل مقطع سياقه الرئيسي مع ذلك، فلنر تفسير المقطع الثالث. تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثالث وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ممّا نزل قبل القرآن من كتب الله، وقد يكون المراد بالذي بين يديه ما سيأتي من أمر الآخرة، من قيامة وجنة ونار، ولم يذكر ابن كثير غير المعنى الثاني، وذكر الألوسي الوجهين، قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم، وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أخبر به من أمر المعاد) وعلى هذا فالمقطع الثالث أخبر عن إنكارهم اليوم الآخر من خلال إنكارهم للقرآن. قال النسفي في الآية: (والمعنى: إنهم جحدوا أن يكون القرآن من عند الله، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة) ولما كانت الحجج في المقطعين السابقين كافية، فإنّ نوعا آخر من الردّ يأتي هاهنا، ويبدأ الردّ بعرض مشهد من مشاهد يوم القيامة، يذكر فيه موقفهم الذليل يوم القيامة، إذ يتخاصمون ويتجادلون، قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: محبوسون يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ في الجدال، أي: يرد بعضهم على بعض القول في الجدال. قال النسفي: (أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أو للمخاطب: ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة، ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب) يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا منهم وهم قادتهم وسادتهم لَوْلا أَنْتُمْ أي: تصدوننا عن سبيل الله، وتدعوننا إلى الكفر لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بالله ورسله وما جاءوا به قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من القادة والسادة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: للأتباع أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ أنكروا أن يكونوا هم الصادّين لهم عن الإيمان، وأثبتوا أنّهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه، وأنّهم أتوا من قبل اختيارهم. قال ابن كثير: (أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من

[سورة سبإ (34): آية 33]

أنّا دعوناكم فاتّبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الادلّة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك). بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي: بل كنتم كافرين باختياركم، وإيثاركم الضلال على الهدى، لا بقولنا وتسويلنا وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتغروننا وتمنوننا وتخبروننا أنا على هدى، وأنا على شئ، فإذا جميع ذلك باطل وكذب، أو بل مكركم في الليل والنهار هو الذي صدّنا عن سبيل الله، أو بل الليل والنهار مكرا بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي: نظراء وآلهة، وتقيموا لنا شبها وأشياء من المحال تضلوننا بها، والمعنى: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من جهة مكركم لنا دائما ليلا ونهارا، وحملكم إيانا على الشرك، واتخاذ الأنداد وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي الجحيم، فالجميع من السادة والأتباع كلّ ندم على ما سلف، يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم، ويندم المستضعفون على ضلالهم واتّباعهم المضلين، وكلمة أَسَرُّوا من كلمات الأضداد، فهي تفيد الإضمار والإظهار، والسياق هو الذي يحدّد المعنى، وهاهنا تحتمل المعنيين، والراجح الإضمار، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال ابن كثير: (وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم) هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنما نجازيهم بأعمالهم كل بحسبه، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم. ... عرضت هذه المجموعة حال المنكرين سادة وأتباعا يوم القيامة، مبيّنة أنّهم سيندمون على مواقفهم، وسيتعاتبون، وقد دلّتنا الآيات على أنّ قادة الكفر ورؤساءه يمكرون ليلا ونهارا لصدّ الناس عن سبيل الله. ... فائدة: [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا] بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن جهنم لمّا سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها، ثم لفحتهم لفحة فلم يبق لحم إلا سقط

على العرقوب» وروى أيضا عن الحسن بن يحيى الخشني قال: ما في جهنم دار ولا مغار، ولا غل ولا قيد ولا سلسلة، إلا اسم صاحبه عليها مكتوب قال: فحدثته أبا سليمان- يعني الداراني رحمة الله عليه- فبكى، ثم قال: ويحك فكيف به لو جمع هذا كله عليه، فجعل القيد في رجليه، والغل في يديه، والسلسلة في عنقه، ثم أدخل النار، وأدخل المغار؟ اللهم سلّم). ***

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثالث وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ أي من نبي إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي متنعموها ورؤساؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ هذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم وبيان لواقع وهو أنه لم يرسل قط إلى أهل قرية رسول إلا قالوا له مثل ما قال كافرو هذه الأمة لرسولها، وقد دلّت هذه الآية على أن المترفين هم الذين يحملون كبر الصدّ عن سبيل الله، كما دلّت على أن ردّ دعوة الرسل، ورفض الإيمان باليوم الآخر، سببه الترف والبطر، وليس سببه شبهة أو حجة، فبدلا من أن تكون النعمة عند هؤلاء سبب شكر، كانت سببا للكفر، وقد عرّف ابن كثير المترفين بقوله: هم أولو النّعمة والحشمة، والثروة والرئاسة. وقال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم، ورءوسهم في الشر. ثم قال تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً أي من المؤمنين وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم، نظرا إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، قال ابن كثير: (افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم، واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك). وقد أبطل الله ظنهم بأن بيّن أنّ الرزق فضل من الله، يقسمه كيف يشاء، فربّما وسّع على العاصي استدراجا، وضيّق على المطيع امتحانا، وابتلاء، وربما وسّع على المطيع استخراجا لشكره، وضيّق على العاصي استرجاعا له عما هو فيه، وربّما وسّع عليهما أو ضيق عليهما لحكمة، فلا يقاس عليه أمر الثواب في الآخرة، وذلك قوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسّعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي ويضيق، قال ابن كثير: (أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب، فيفقر من يشاء، ويغني من يشاء، وله الحكمة التامّة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة) وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيظنون التقتير علامة سخط، ويظنون البسط علامة محبة، وليس الأمر كذلك، ومن ثمّ قال تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي قربة قال ابن كثير: (أي ليست هذه دليلا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم) إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أي إنّما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح. قال النسفي: (يعني أن الأموال لا تقرّب أحدا إلا المؤمن الصالح، الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرّب أحدا إلّا من علّمهم الخير، وفقّههم في الدين،

[سورة سبإ (34): آية 38]

ورشّحهم للصلاح والطاعة) فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا أي بأعمالهم، ومعنى جزاء الضعف: أن تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف. قال ابن كثير: أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يحذر منه وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي في إبطالها، فهم يسعون في الصدّ عن سبيل الله، واتباع رسله، وعن التصديق بآياته مُعاجِزِينَ أي مسابقين لنا، ظانّين أن يسبقونا فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي جميعهم مجزيّون بأعمالهم فيها بحسبهم، ثم كرر تعالى موضوع بسطه الرزق، وتقديره بمشيئته؛ ليؤكّد الرد، ويقطع دابر الشبهة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ بحسب ما له في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيرا، ويضيّق على هذا، ويقتّر على هذا رزقه جدا، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها غيره وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي فهو يعوّضه قال ابن كثير: أي مهما أنفقتم من شئ فيما أمركم به، وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي المطعمين لأنّ كلّ ما رزق غيره من سلطان أو سيّد أو غيرهما فهو من رزق الله، أجراه على أيدي هؤلاء، وهو خالق الرزق، وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق، وفي هذا دعوة للمؤمنين أن يتّكلوا في أمر الرزق عليه، وأن ينفقوا، كما أنّ في النص نفيا لشبهة الكافرين في أن التوسعة والتضييق علامتا الرضا والسّخط. كلمة في السياق: [حول مضمون المجموعة وصلتها بالمحور] عرّفتنا هذه المجموعة أن الكفر بالقرآن واليوم الآخر من أسبابه الترف، وأن من الأسباب التي تجعل الكافرين يرفضون الإيمان بالقرآن واليوم الآخر والرسل والوحي ربطهم بين ما هم فيه من نعم، وبين كرامتهم على الله، وهي فكرة خاطئة؛ فموضوع التقتير والتوسعة في الرزق مرتبط بسنن الله في أمر الدنيا، وهكذا نلاحظ أنّ السّورة تلاحق قضية الكفر باليوم الآخر مرّة بعد مرّة، وقد أفهمنا السياق في المجموعتين السابقتين أن النعمة في حق أناس هي التي سبّبت كفرهم بدلا من أن تكون سببا لشكرهم، ولنتذكر الآن صلة هذا كله بقوله تعالى من سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالكفر مستنكر وعجيب، مع نعمة الخلق والحياة، والتوسعة على الإنسان في الحياة.

فوائد

فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الساحل، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؛ فكتب إليه: أنه لم يتبعه أحد من قريش، إنّما اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال: فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه- قال وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب- قال: فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إلام تدعو؟ قال: «أدعو إلى كذا كذا» قال أشهد أنّك رسول الله، قال صلّى الله عليه وسلم: «وما علمك بذلك؟» قال: إنّه لم يبعث نبي إلا اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال فنزلت هذه الآية وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ الآية، قال فأرسل إليه النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجل قد أنزل تصديق ما قلت» وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل، قال فيها: وسألتك أضعفاء الناس اتّبعه أم أشرافهم؟ فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل). 2 - [حديث بمناسبة آية وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»). 3 - [حديث بمناسبة آية وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ] بمناسبة قوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لغرفا، ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها» فقال أعرابي: لمن هي؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لمن طيّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام»). 4 - [حديث بمناسبة ذكر التقتير والتوسعة في المجموعة الثانية] بمناسبة ذكر التقتير والتوسعة ذكر ابن كثير: الحديث الذي رواه الإمام مسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه». 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ] بمناسبة قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ قال ابن كثير: (كما ثبت في الحديث «يقول الله تعالى أنفق أنفق عليك» وفي الحديث أن ملكين

يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكا تلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «انفق بلالا، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» وروى ابن أبي حاتم ... عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعضّ الموسر على ما في يده؛ حذار الإنفاق» ثم تلا هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي ... عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض، يعضّ الموسر على ما في يده حذار الإنفاق» قال الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وفي الحديث «شرار الناس يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطرين حرام، ألا إنّ بيع المضطرين حرام؛ المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله، إن كان عندك معروف فعد به على أخيك وإلا فلا تزده هلاكا إلى هلاكه» قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه ضعف ... وقال مجاهد: لا يتأوّلنّ أحدكم هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه فإن الرزق مقسوم).

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثالث وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً المترفين والأتباع، والمتبوعين والمستضعفين والمستكبرين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم، هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار قالُوا أي الملائكة سُبْحانَكَ أي تنزيها لك أن يعبد معك غيرك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء، والمعنى: أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، برهنوا بإثبات موالاة الله، ومعاداة الكفار على براءتهم من الرضا بعبادة الكافرين لهم، لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ قال ابن كثير: يعنون الشياطين، لأنهم هم الذين زيّنوا لهم عبادة الأوثان، وأضلّوهم أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الإنس أو الكفار بِهِمْ أي بالجن مُؤْمِنُونَ أي يصدّقونهم فيما يوسوسون به فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يقع لكم نفع ممّن كنتم ترجون نفعه اليوم، من الأنداد والأوثان، التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم، فاليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا، لأن الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقب هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا، التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلّى بينهم، يتضارّون ويتنافعون، والمراد أنّه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع العبادة في غير موضعها ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدنيا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. كلمة في السياق: [من أسباب الكفر بالقرآن واليوم الآخر عبادة غير الله وطاعة الشياطين] لاحظ قوله تعالى في أول المقطع وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقوله تعالى في آخر آية من هذه المجموعة وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ ... فالكلام كله في الظالمين الذين يرفضون الإيمان بالقرآن، واليوم الآخر، وقد بينت هذه المجموعة أنّ مظهر ظلمهم هو عبادة غير الله، وأن علّة ذلك طاعتهم وساوس الشياطين، وهكذا عرفنا من خلال السياق: أنّ من أسباب الكفر بالقرآن واليوم الآخر طاعة الكافرين، والترف، وعبادة غير الله، وطاعة الشياطين. ***

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثالث حدثنا الله عز وجل في بداية المقطع عن قول الكافرين وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وفي هذه المجموعة يحدّثنا الله عز وجل عن أقوال للكافرين يقولونها إذا تليت عليهم آيات الكتاب وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي إذا قرئت عليهم آيات القرآن بَيِّناتٍ أي واضحات الإعجاز، واضحات المعاني قالُوا أي الكافرون ما هذا أي محمد صلّى الله عليه وسلم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ قال ابن كثير: (يعنون أن دين آبائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول- عندهم- باطل) وَقالُوا ما هذا أي القرآن إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أي كذب مختلق على الله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن، أو لأمر النبوة كله لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر واضح، بتّوه على أنّه سحر، ثم بتّوه على أنّه بيّن ظاهر، وانتقالهم من قول إلى قول بمثل هذه السّرعة دليل على شدة إنكارهم، وعظيم غضبهم، والملاحظ أنهم في أقوالهم كلّها كانوا سابّين، منكرين، ولم يقدّموا حجة ولا دليلا على هذا الإنكار، سوى الرفض المجرّد، وهو عادة الكافرين قديما وحديثا، وقد ردّ الله عز وجل عليهم أقوالهم بقوله وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي ما أعطيناهم كتبا يدرسونها، فيها برهان على صحة ما هم فيه وآباؤهم وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ إلى أهل مكة، الذين هم نموذج على أصحاب هذا الكلام قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، فعلام يصرّون على الشرك، ومتابعة الآباء، ورفض الحق؟ ثمّ توعّدهم على تكذيبهم بأنه أهلك من كان أشد منهم قوة وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار، وقوة الأجرام، وكثرة الأموال والأولاد فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله، قال ابن كثير: أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري. ....

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة بما قبلها ومضمونها وصلتها بالمحور، ومدى تشابه المجموعة الخامسة من المقطع الثاني بالمجموعة الخامسة من المقطع الثالث

كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة بما قبلها ومضمونها وصلتها بالمحور، ومدى تشابه المجموعة الخامسة من المقطع الثاني بالمجموعة الخامسة من المقطع الثالث] 1 - ذكرنا من قبل أن بين الإيمان بالقرآن واليوم الآخر والرسول صلّى الله عليه وسلم تلازما، وأن الكفر بواحد من هذه الثلاثة كفر بالجميع، وأن الكفر بأي من هذه هو فرع الكفر بالله، وإدراكنا لهذا المعنى إدراك لصلة هذا المقطع بمحور السّورة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. 2 - بدأ المقطع الثالث بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ والملاحظ أن المجموعة التي مرّت معنا تحدّثت عما يقوله الكافرون في الرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا .... فالصلة واضحة بين المجموعة وبين سياق مقطعها. 3 - وهكذا نجد أن مجموعات المقطع تعالج مواقف الكافرين، كما تعالج جذور هذه المواقف. 4 - والآن تأتي المجموعة الخامسة، وهي المجموعة الأخيرة في المقطع الثالث، وهي تشبه المجموعة الأخيرة في المقطع الثاني، فكما أن المقطع الثاني انتهى بمجموعة أوامر موجّهة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بصيغة (قل)، فكذلك المجموعة الأخيرة من المقطع الثالث. وإذ كانت هذه المجموعة هي خاتمة السّورة، فإن ما فيها هو القول الأخير في كل القضايا التي تعرّضت لها السّورة. فلنر المجموعة الخامسة: ***

تفسير المجموعة الخامسة من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الخامسة من المقطع الثالث قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي آمركم بواحدة، أي بخصلة واحدة، وقد فسّرها الله عزّ وجل بقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أي إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلّصتم، وهي أن تقوموا لوجه الله خالصا، لا لحمية ولا عصبية، بل لطلب الحق اثنين اثنين، وفردا فردا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلم، وما جاء به، والمراد بالقيام في الآية: القصد إلى الشئ، دون النهوض والانتصاب، والحكمة في تفرّقهم مثنى وفرادى أنّ الاجتماع مما يشوّش الخواطر، ويعمي البصائر، ويمنع من الرؤية، ويقل الإنصاف فيه، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصّب، ولا يسمع فيه إلا نصرة المذهب، أما الاثنان فيتفكران، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف، حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق، وكذلك الفرد يتفكّر في نفسه بعدل ونصفة، ويعرض فكره على عقله، وهذه الآية أصل في موضوع الدعوة إلى الله؛ إذ تبين أهمية الدّعوة الفردية ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي ليس بمحمد صلّى الله عليه وسلم جنون، والمعنى: ثم تتفكروا فتعلموا أنه ليس بمحمد صلّى الله عليه وسلم من جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ وهو عذاب الآخرة. نقل: [عن صاحب الظلال] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ: (إنها دعوة إلى القيام لله. بعيدا عن الهوى. بعيدا عن المصلحة. بعيدا عن ملابسات الأرض. بعيدا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله. بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة. والمؤثرات الشائعة في الجماعة. دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة؛ ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها. دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيدا عن الضجيج والخلط واللبس؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.

كلمة في السياق: حول صلة المقطع الثاني بالمقطع الثالث، وقضية الأجرة على الدعوة إلى الله

وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه. وهي «واحدة» .. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله .. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة .. التجرد .. الخلوص .. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ. مَثْنى وَفُرادى .. مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء .. وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ .. فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئا يدعو إلى التظنن بعقله ورشده .. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ .. ). كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الثاني بالمقطع الثالث، وقضية الأجرة على الدعوة إلى الله] رأينا في المقطع الثاني قوله تعالى: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ في معرض الرد على من قالوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ورأينا في المقطع الثالث قولهم ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ ... وهذا يفيد أنّ إنكار الآخرة، وإنكار القرآن، مرتبطان بموضوع الثقة بشخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمن وثق آمن، ومن لم يثق كفر؛ ومن ثمّ جاءت هذه الآية آمرة بالتفكر الفردي، أو الثنائي في دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وفي شخصه، فإن الإنسان المنصف لا بد واصل- من خلال التفكّر- إلى الإيمان، ولما كان موضوع الأجر- أيّا كان نوعه- قد يشكّل عقبة في موضوع الاستجابة إلى الله، جاء الأمر الثاني في المجموعة مذكّرا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم لا يطلب أي نوع من أنواع الأجر على دعوته من الخلق. ... قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي ما سألتكم من أجر على إنذاري

[سورة سبإ (34): آية 48]

وتبليغي الرسالة فهو لكم، أي ليس لي فيه شئ، أي لا أريد منكم جعلا ولا عطاء على أداء رسالة الله عزّ وجل إليكم، ونصحي إياكم، وأمركم بعبادة الله إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلّا منه، ولما كان سبب الكفر الرئيسي هو الجهل بالله، والجهل بأنّ من شأن الله أن ينزل وحيا، قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ القذف هو الإلقاء بدفع، ومعنى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ: أي يلقيه وينزله على أنبيائه، أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه عَلَّامُ الْغُيُوبِ فهو وحده القادر على أن يبيّن الحق في كل شئ ويوضّحه، وإذا كان هذا شأن الله فلا عجب أن ينزل القرآن قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والقرآن وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي، فعدمهما عبارة عن الهلاك، قال ابن كثير: أي جاء الحق من الله، والشرع العظيم، وذهب الباطل وزهق واضمحل، وهذا رد على ما قالوه في أوّل المقطع لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وإذ كان الإنسان بدون وحي الله لا بد ضال مهما كان من صفاء الفطرة، فإن الله عزّ وجل أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي إن ضللت فمنّي وعليّ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي فبتسديده بالوحي إليّ أهتدي. قال النسفي: (وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم إذا دخل تحته- مع جلالة محلّه وسداد طريقته- كان غيره أولى به) وهذا يفيد أن الإنسان بدون الوحي ضال مهما كان، فهذا محمد صلّى الله عليه وسلم أصفى الخلق فطرة، وأعظم الناس عقلا، أمره الله عزّ وجل أن يقول ذلك؛ فهذا دليل على أنّه لا بدّ من الوحي، فكفر الكافرين بالقرآن خبال، وهو فرع الكفر بالله، إذ لو عرفوا الله حق معرفته لأيقنوا بأنه سيوحي وسيهدي إِنَّهُ سَمِيعٌ لأقوال عباده، أو سميع لما أقوله لكم قَرِيبٌ مني ومنكم، يجازيني ويجازيكم، فلو كنت مدّعيا عليه لعاقبني. ... كلمة في السياق: 1 - رأينا أن المقطع قد ابتدئ بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ

[سورة سبإ (34): آية 51]

بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ورأينا أنه قد جاء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... وقد رأينا في المجموعة الأخيرة ردودا على الكافرين في شأن الرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن، والآن تأتي آيات مصدرة بقوله تعالى: وَلَوْ تَرى ... ففي أول آية في المقطع جاءت وَلَوْ تَرى وهاهنا تأتي كذلك؛ مما يدل دلالة واضحة على صلة المجموعة الأخيرة ببداية المقطع. 2 - لقد أعلن الكافرون كفرهم بالقرآن، وبما بين يديه من أمور الآخرة، وقد عرض الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم ما سيجدونه أمامهم في بداية المقطع، وخواتيمه وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ ... وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ... وفيما بين ذلك كان تصحيح وإقامة حجة، كما رأينا، فلنر الآيات الأخيرة. ... وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ فَزِعُوا عند البعث فَلا فَوْتَ أي فلا مهرب ولا مفرّ لهم ولا وزر ولا ملجأ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي من الموقف إلى النار، وليس في ذلك من بعد وَقالُوا حين عاينوا العذاب آمَنَّا بِهِ أي بالرسول صلّى الله عليه وسلم أو باليوم الآخر، أو بالله أو بالقرآن وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي التناول مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم، يريد أن التوبة كانت تقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا، وبعدت عن الآخرة، قال ابن كثير: (أي وكيف لهم تعاطي الإيمان، وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي دار الجزاء، لا دار الابتلاء، فلو كانوا آمنوا في الدنيا، لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الآخرة، لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، كما لا سبيل إلى حصول الشئ لمن يتناوله من بعيد) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ أي بالحق أو بالرسول أو باليوم الآخر مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا قال ابن كثير: (أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذّبوا الرّسل) وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أي وكانوا يتكلمون بالغيب، أو بالشئ الغائب قذفا وسبّا، أو رميا وإلقاء، نافين وجوده قائلين: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عن الصدق، أو عن الحق والصواب، وقال قتادة ومجاهد في الآية: يرجمون بالظنّ لا بعث ولا جنة ولا نار وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل، ومن الآخرة وما فيها، فمنعوا منه قال النسفي:

كلمة في المقطع الثالث وسياقه

(وحجز بينهم وبين ما يشتهون من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار، والفوز بالجنة) كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم في الكفر مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم، دلّ ذلك على أن كفار الأمم السابقة على بعثة رسولنا صلّى الله عليه وسلم تدخل النار قبل كفار هذه الأمة إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من أمر الرسل والبعث مُرِيبٍ أي موقع في الريبة قال ابن كثير: (أي كانوا في الدنيا في شك وريبة، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب، قال قتادة: إيّاكم والشك والريبة؛ فإن من مات على شك بعث عليه، ومن مات على يقين بعث عليه) وقال النسفي: هذا ردّ على من زعم أن الله لا يعذب على الشك. ... كلمة في المقطع الثالث وسياقه: رأينا أن المقطع فيه خمس مجموعات، والمجموعات الخمس عالجت موضوع الكفر بالقرآن، وباليوم الآخر، تارة من خلال عرض مشاهد من مشاهد يوم القيامة، وتارة من خلال الردّ المباشر على فكرة خاطئة، وتارة من خلال الدلالة على طريق الهداية، وتارة من خلال البيان للواقع، وقد مرّ معنا صلة المجموعات ببعضها، وبالسورة، ولا يغيب عن المتأمل صلتها بمحور السورة، وسنرى في الكلمة الختامية عن السورة مزيد تفصيل. فلنر الآن بعض الفوائد المتعلقة بالمجموعة الأخيرة. .. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ] بمناسبة قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ذكر ابن كثير رواية عن البخاري بسنده إلى ابن عباس: (عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صعد النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم، فقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني» قالوا: بلى! قال صلّى الله عليه وسلم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب تبّا لك ألهذا جمعتنا، فأنزل الله عزّ وجل تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ وقد تقدم عند قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فنادى

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد

ثلاث مرات فقال: «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلّى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم، فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو، قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه، أيها الناس أتيتم، أيها الناس أتيتم» ثلاث مرات، وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» تفرّد به الإمام أحمد في مسنده. 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ] وبمناسبة قوله تعالى: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ قال ابن كثير: (أي جاء الحق من الله، والشرع العظيم، وذهب الباطل زهق واضمحل كقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: 18] ولهذا لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، أي لم يبق للباطل مقالة ولا رئاسة ولا كلمة). 3 - [نظرة للواقع الذي نعيشه، وإعجاز القرآن الكريم في تصوير الواقع] إنّ الدعوات الإلحادية في عصرنا قد عمّت وطمّت، وقد ظهر الفكر المادي بأفظع صور الزخرفة والزيف، واستعمل لذلك من أساليب الغواية ووسائل الإعلام الكثير والكبير، وأصبح الإنسان يسمع ويقرأ ألفاظ الهزء والسخرية بالعقلية الغيبية، وبالغيوب التي تحدّث عنها الرّسل عليهم الصلاة والسلام، ولقد أصبح الآن من المعلوم بالبديهة أن عشرات الألوف من الأجهزة تسهر ليلا ونهارا لتحطّم الإسلام ولتنهيه. إن من أدرك هذا الواقع، ثمّ قرأ قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ .... وقرأ قوله تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. إن من عرف الواقع وتملّى مثل هذه النّصوص، فإنّه لا بدّ أن يحس بالإعجاز القرآني بشكل واضح، فالإحاطة، والبلاغة، ودقّة التصوير، وسلاسة التعبير، واجتماع ذلك كله يجعل الإحساس واضحا بمظاهر الإعجاز. تأمل قوله تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.

كلمة أخيرة في سورة سبأ

إنّها تفهم على أوجه متعدّدة: فهناك ناس يرجمون الغيب من مكان بعيد، فلا تصل إليه قذائفهم؛ لأن الغيب محفوظ، وهم أحقر من أن يصلوا إليه بأذى، فهؤلاء يدخلون في الصورة التي تحدّثت عنها الآية، وإنّك لتراهم في كل مكان. وهناك ناس يحاولون أن يمسكوا بالغيوب كلها- في زعمهم- ليرموها إلى آخر درك يستطيعونه ليتخلصوا منها، وهيهات لهم ذلك، أمثال هؤلاء يدخلون في الصورة، وإنك لتجدهم في كل مكان. فإن تجد النص على مثل هذا الاختصار، وعلى مثل هذا التصوير للواقع، وعلى مثل هذه البلاغة، ثمّ أن تجده في محلّه من السياق الجزئي والعام للقرآن، يؤدي دوره بمثل هذا الانسجام الرفيع، وهذه السلاسة العذبة، إنّ ذلك لشئ يدل على أن هذا القرآن من عند الله، فالحمد لله على نعمة الإيمان. كلمة أخيرة في سورة سبأ: رأينا أن سورة سبأ تألفت من مقدمة وثلاثة مقاطع. المقدمة تحدّثت عن استحقاق الله عزّ وجل للحمد في الدنيا والآخرة، والمقطع الأول ردّ- بشكل مباشر- على كفر الكافرين بالساعة، والمقطع الثاني ردّ على كفر الكافرين بالساعة من خلال الردّ عن شخصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمقطع الثالث ردّ على كفر الكافرين بالساعة من خلال الردّ عن القرآن الكريم. بدأ المقطع الأول بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ. وبدأ المقطع الثاني بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. وبدأ المقطع الثالث بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ. فأنت ترى أن الكلام عن اليوم الآخر ورد في بداية المقاطع الثلاثة، إما بشكل متفرد، وإما في معرض الكفر بالرّسول أو بالقرآن؛ فدل ذلك على ارتباط موضوع اليوم الآخر بموضوع الرسالة والقرآن، وفي كل ذلك رأينا ارتباط هذه الأمور بموضوع الإيمان بالله، ومن ثمّ ندرك صلة السورة بمحورها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ

أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. ... وإذ كان محور السورة هو هذه الآية، فالسورة حدثتنا عن استحقاق الله عزّ وجل للحمد، كما حدّثتنا عن طريق الحمد وعاقبته، كما حدّثتنا عن الكفر ونماذجه وعاقبة أهله من خلال الدعوة إلى الإيمان بالآخرة، الذي هو الشرط الرئيسي للشكر، ومن خلال الإيمان بالقرآن، الذي هو الدليل على طريق الشكر، ومن خلال الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلم الذي هو القدوة في الشكر، والذي أنزل عليه القرآن الكريم للإنذار والتبشير باليوم الآخر. ... وهاهنا نحب أن ننبه على فكرة حول موضوع السورة القرآنية ومحورها. إنّ محاور السور في سياقها، وفي موضعها تؤدي دورها بشكل كامل، وهي في الوقت نفسه مفصّلة تفصيلا كاملا، ثمّ تأتي السور فتفصّل هذه المحاور تفصيلا بعد تفصيل، خذ مثلا قوله تعالى في سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. لقد أدت الآيتان دورهما الكامل في الإنكار على الكفر والتعجيب منه، وفي إقامة الحجة على أهله بشكل واضح، وبيّن ومفصّل. فعند ما تأتي سورة الأنعام تفصّل في هذا المحور، أو تأتي سورة سبأ وفاطر، فتفصلان في هذا المحور، فإنّ معاني جديدة سترد، هي من ناحية تفصيل للمحور، وهي من ناحية أخري تؤدي أدوارا، وتكمّل بناء، فآيتا سورة البقرة ذكرتا الرجوع إلى الله كمسلّمة، ولكن هذه المسلّمة ليست مسلّمة في منطق الكافرين، ومن ثمّ فعند ما تأتي سورة سبأ تجدها تقيم الدليل على هذه المسلّمة، وتذكر موقف الكافرين منها، وتردّ عليهم بأساليب وطرق شتى، فليست سورة سبأ- بالنسبة لمحور السورة إذن- تفصيلا حرفيا، بل الأمر أوسع من ذلك وأبعد؛ فالسورة تفتح آفاقا جديدة،

وتذكر أشياء جديدة، وتبيّن معاني جديدة، ولكنها كلها تصبّ في خدمة محور السورة على طريقة في التفصيل ليست معهودة للبشر. ... إنك عند ما تقرأ سورة سبأ مثلا تجد فيها أن الرجوع إلى الله مسلّمة وبديهية، وتجد أن الشكر لله مسلّمة وبديهية، وتجد أن كفران نعم الله مستنكر ومتعجب منه، كل هذا تخرج منه من خلال قراءتك للسورة، وكل هذه المعاني مستكنّة في محور السورة من سورة البقرة، ولكن هل تجد أي تشابه بين هذا التفصيل في السورة، وبين أي نوع من التفصيل للمعاني المجملة التي عرفها البشر، أو يمكن أن يفكّر فيها البشر، إن هذا وحده- لمن تأمّله وعقله كاف ليعرف الإنسان أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من بشر، بل هو من عند الله الحكيم الخبير، الغفور الرحيم. ... إن سورة سبأ سلّطت الأضواء بشكل كامل على صلة الإيمان باليوم الآخر بموضوع شكر الله، كما سلّطت الأضواء على ارتباط الإيمان باليوم الآخر بموضوع الإيمان بالله، كما أرتنا صلة الإيمان بالله والرسول والقرآن بموضوع اليوم الآخر، فالسورة تحدثت عن هذه القضايا كلها وصلاتها ببعضها. وقد رأينا في السورة كيف يعالج القرآن الكريم قضايا العقيدة، فليكن لنا في ذلك دروس. ... إن طريقة القرآن في المعالجات والعرض طريقة معجزة، والمعاني التي يعرضها القرآن هي في بابها معجزة، فأنت عند ما ترى القرآن يحدّثك بأروع البيان عن حال الكافرين في الآخرة بما لا يمكن أن يخطر ببال بشر، ثم يكون بجانب هذا حديث عن أدق خلجات النفس البشرية ثم يكون بجانب هذا حديث عن كليات هذا الوجود، وجزئياته، ثمّ يكون هذا كله مرتبطا بمحور ضمن وحدة كلية للقرآن، فإذا لم يكن هذا كله معجزا فما هو المعجز؟. ***

سورة فاطر

سورة فاطر وهي السّورة الخامسة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة السّابعة من المجموعة الأولى من قسم المثاني وآياتها خمس وأربعون آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة فاطر ومحورها

كلمة في سورة فاطر ومحورها: يلاحظ أن سورة فاطر تتألف من مقدمة هي: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ثم يأتي نداء مبدوء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ ... ويتكرر هذا النداء ثلاث مرات في السورة، فكأن السورة تتألف من مقدمة وثلاثة مقاطع، وكل مقطع مبدوء ب يا أَيُّهَا النَّاسُ ... ومن الآية الأولى في المقطع الأول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ندرك أن محور السورة هو الآية الثانية من محور سورة الأنعام- كما ذكرنا من قبل- وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. بل من مقدمة السورة ندرك هذا: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .... ... وكما أنّه بعد آية سورة البقرة المذكورة يوجد حديث عن الملائكة، وعن استخلاف الله للإنسان في الأرض وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فإننا نجد في مقدمة السورة ذكرا للملائكة: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ كما أنّ السورة تذكر موضوع الاستخلاف هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ وهو المعنى الذي يرد في سورة الأنعام في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ. ... وكما قلنا من قبل فإن التلاحم بين سورتي سبأ وفاطر قائم؛ لأن الآيتين اللتين فصّلتا سورة الأنعام- وهما محورا سورتي سبأ وفاطر- مترابطتا المعنى، ولأن الآية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً آتية في حيّز قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ

نقل: قال الألوسي في تقديمه لسورة فاطر

وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ... ومن ثمّ فظلال الآية الأولى موجود في سورة فاطر، وإذا كانت سورة الأنعام قد فصّلت في مضامين الآيتين، وإذا كانت سورة سبأ قد فصّلت وبيّنت استحقاق الله عزّ وجل الشكر، فإن سورة فاطر فصّلت وحدّدت طريق الشكر العملي. ... تتألف سورة فاطر من مقدمة هي آيتان، ومن مقطع أول هو آيتان، ومن مقطع ثان يمتد حتى نهاية الآية (14). ومن مقطع ثالث يمتد حتى نهاية السورة، أي حتى نهاية الآية (45) وسنرى كيف أنّ الصلة بين المقاطع والمقدمة والسورة والمحور على كمالها وتمامها. ومعلوم أن آيتي سورة البقرة واردتان في سياق معرفة الله وعبادته التي هي الطريق إلى التقوى المشار إليها في أول سورة البقرة، ويظهر أثر هذا في سورة فاطر بشكل بارز. ... نقل: قال الألوسي في تقديمه لسورة فاطر: (وتسمى سورة الملائكة. وهي مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما؛ وفي مجمع البيان قال الحسن: مكية إلا آيتين إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الآية. وآيها ست وأربعون في المدني الأخير والشامي، وخمس وأربعون في الباقين. والمناسبة- على ما في البحر- أنه عزّ وجل لما ذكر في آخر السورة المتقدمة هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وإنزالهم منازل العذاب، تعيّن على المؤمنين حمده وشكره كما في قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وينضم إلى ذلك تواخي السورتين في الافتتاح بالحمد، وتقاربهما في المقدار وغير ذلك).

مقدمة سورة فاطر وتتألف من آيتين وهاتان هما مع البسملة

مقدمة سورة فاطر وتتألف من آيتين وهاتان هما مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 35/ 2 - 1 التفسير: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال النّسفي: حمد ذاته تعليما وتعظيما فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبتدئهما ومبدعهما جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي بينه وبين أنبيائه أُولِي أَجْنِحَةٍ أي ذوي أجنحة، والأجنحة جمع جناح مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة. قال ابن كثير. (ومنهم من له أكثر من ذلك كما جاء في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ولهذا قال جل وعلا: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء) وقال النسفي: (يزيد في خلق الأجنحة وغيره ما يشاء. وقيل هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن، والحظ الحسن، والملاحة في العينين) والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وذلاقة في اللسان، ومحبة في قلوب المؤمنين، وما أشبه ذلك إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي من رزق، أو مطر، أو صحة، أو غير

نقل: عن صاحب الظلال بمناسبة آية ما يفتح الله للناس من رحمة .. (2)

ذلك فَلا مُمْسِكَ لَها أي فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها وَما يُمْسِكْ أي يمنع ويحبس فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي فلا مطلق لها من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب القادر على الإرسال والإمساك الْحَكِيمُ أي الذي يرسل ويمسك ما تقضي الحكمة إرساله وإمساكه. قال ابن كثير في الآية: (يخبر تعالى أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع). نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة آية ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ .. (2)] قال صاحب الظلال في قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: (في هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى. وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعا. إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله. وتيأسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض، وتصله برحمة الله. وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض، وتفتح أمامه باب الله. وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض، وتشرع له طريقه إلى الله. ورحمة الله تتمثّل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخّر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير. ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح. ويجدها من يفتحها الله له في كل شئ، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان ... يجدها في نفسه، وفي مشاعره؛ ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان. ولو فقد كل شئ مما يعد الناس فقده هو الحرمان .. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شئ، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شئ مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان! وما من نعمة- يمسك الله معها رحمته- حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة- تحفّها رحمة الله- حتى تكون هي بذاتها نعمة .. ينام الإنسان على الشوك- مع

رحمة الله- فإذا هو مهاد. وينام على الحرير- وقد أمسكت عنه- فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور- برحمة الله- فإذا هي هوادة ويسر. ويعالج أيسر الأمور- وقد تخلّت رحمة الله- فإذا هي مشقة وعسر. ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار! ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن. أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس- برحمة الله- تتفجر ينابيع السعادة والرضى والطمأنينة. ومن داخل النفس- مع إمساكها- تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة! هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسدّ جميع المسالك .. فلا عليك. فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء ... وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء! هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن. ويضيق العيش، وتخشن الحياة ويشوك المضجع .. فلا عليك فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شئ. فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء! المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان .. تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان. يبسط الله الرزق- مع رحمته- فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار. ويمنح الله الذرية- مع رحمته- فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار!

ويهب الله الصحة والقوة- مع رحمته- فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلّطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدّخر السوء ليوم الحساب! ويعطي الله السلطان والجاه- مع رحمته- فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على قوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار! والعلم الغزير. والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغيّر وتتبدّل من حال إلى حال .. مع الإمساك ومع الإرسال .. وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة. والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد. في كل أمر وفي كل وضع، وفي كل حال .. ولا يصعب القياس على هذه الأمثال! ومن رحمة الله أن تحسّ برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك. ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة. والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ. ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم- عليه السلام- في النار. ووجدها يوسف- عليه السلام- في الجب كما وجدها في السجن. ووجدها يونس- عليه السلام- في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ووجدها موسى- عليه السلام- في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ووجدها رسول الله- صلّى الله عليه وسلم، وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار .. ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها. منقطعا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدا باب الله

فوائد

وحده دون الأبواب. ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها. ومتى أمسكها فلا مرسل لها. ومن ثمّ فلا مخافة من أحد. ولا رجاء في أحد. ولا مخافة من شئ، ولا رجاء في شئ. ولا خوف من فوت وسيلة، ولا رجاء مع الوسيلة. إنما هي مشيئة الله. ما يفتح الله فلا ممسك. وما يمسك الله فلا مرسل. والأمر مباشرة إلى الله .. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .. يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك. ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها. وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام. وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ .. فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه. فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله. أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير. آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة؛ وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها. ذهبت أم جاءت. كبرت أم صغرت. جلّت أم هانت. كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء! صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات. ولو تضافر عليها الإنس والجن. وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها .. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فوائد: 1 - [حول قوله تعالى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ومعنى كلمة (فاطر)] بمناسبة قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكر ابن كثير رواية سفيان الثوري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها أي

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية يزيد في الخلق ما يشاء ..

بدأتها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بديع السموات والأرض). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال ابن كثير: (وقال الزهري وابن جريج في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ يعني حسن الصوت، رواه عن السدي والبخاري عن الزهري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره، وقرئ في الشاذ (يزيد في الحلق) بالحاء المهملة والله أعلم). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها .. ] بمناسبة قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: إن معاوية كتب إلى المغيرة بن شعبة: اكتب لي بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعاني المغيرة فكتبت إليه: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وسمعته ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومنع وهات. وقال الإمام مالك رحمة الله عليه كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا مطروا يقول: مطرنا بنوء الفتح، ثم يقرأ هذه الآية: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ورواه ابن أبي حاتم عن يونس عن ابن وهب عنه). كلمة في السياق: [حول صلة المقدمة بمحور السورة] قلنا إن محور سورة فاطر هو قوله تعالى من سورة البقرة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإن تبتدئ سورة هذا محورها بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فذلك واضح الحكمة، وأن تتحدث مقدمة السورة عن خلق السموات والأرض، وعن خلق الملائكة، وعن قدرة الله على الزيادة في الخلق، فذلك كله منسجم مع محور السورة، وأن تتحدث عن طلاقة مشيئته جل جلاله في الإعطاء والإمساك، وأن يبتدئ ذلك كله بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ فذلك واضح الصلة، وأن يأتي بعد قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ... فذلك كذلك واضح الصلة، وأن تكون هذه مقدمة لسورة فاطر التي تفصّل هذا المحور، كل ذلك واضح الحكمة بيّن الترابط.

المقطع الأول ويمتد من الآية (3) إلى نهاية الآية (4) وهذا هو

المقطع الأول ويمتدّ من الآية (3) إلى نهاية الآية (4) وهذا هو: 35/ 4 - 3 التفسير: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا باللسان والقلب نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ من خلقه السموات والأرض، وإرسال الرسل لبيان السبيل إليه، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بالمطر وأنواع النبات، وتسخير كل شئ لكم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فبأي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان. قال ابن كثير في الآية: (ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك، فليفرد بالعبادة، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان .. ) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد هؤلاء المشركون بالله، ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، وإفراد الله بالعبادة شكرا فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فتأسّ بهم، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنّهم كذلك جاءوا قومهم بالبينات، وأمروهم بالتوحيد، فكذّبوهم وخالفوهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قال ابن كثير: أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء. وقال النسفي: (هذا) كلام يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقانه. كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الأول بالمقدمة وبالمحور] بعد أن ذكر الله عزّ وجل في المقدمة أنه سبحانه وتعالى فاطر السموات والأرض، وأن له الحمد، وأنّه ما من رحمة بخلقه إلا وهي منه. أمر في هذا المقطع بتذكّر نعمه

وذكرها مذكّرا أنّه وحده الخالق والرازق، وأنه وحده الإله المعبود بحق. وواسى رسوله صلّى الله عليه وسلم على تكذيب الكافرين له، وحذّر وأنذر هؤلاء المكذبين. والانتقال من تقرير الوحدانية إلى خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلم يشبه ما ذكر في المقدمة من اتباع ذكر الملائكة الذين هم الواسطة بين الله ورسله لذكر خلقه السموات والأرض، كما أن بين ذكر الملائكة في المقدمة، وذكر الرسل في المقطع صلة، فالصلة بين المقطع والمقدمة قائمة وواضحة، كما أن الصلة بين المقطع وبين محور السورة واضحة. فمحور السورة هو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وهذه نعمة تحتاج إلى تذكر، ومن ثمّ بدأ المقطع بقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وقد فهمنا من المقطع: أن الرسول صلّى الله عليه وسلم يدعو إلى تذكّر نعم الله، وإلى توحيده، وأن تكذيبه في هذا إفك وطغيان. وهكذا نجد منذ البداية، ارتباط موضوع الشكر لله بموضوع الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلم، وارتباط توحيد الله وعبادته بالإيمان برسالاته. والآن يأتي مقطع جديد يبدأ بالتحذير من الدنيا ومن الشيطان: الدنيا التي خلقها الله لكم لا تفتنكم عن عبادته، ولا تلهينّكم عنه، والشيطان الذي أخرجكم من الجنة لا يدخلنّكم النار. ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (14) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتدّ من الآية (5) إلى نهاية الآية (14) وهذا هو: المجموعة الأولى 35/ 14 - 5 المجموعة الثانية والثالثة 35/ 9 - 11

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثاني

35/ 12 - 14 تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثاني يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعد الله بالبعث والجزاء كائن فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي فلا تخدعنكم الدنيا، ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة، وطلب ما عند الله وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان. قال ابن كثير: (أي لا يفتننّكم الشيطان، ويصرفنّكم عن اتباع رسل الله، وتصديق كلماته، فإنه غرار كذاب أفاك). وقال النسفي: (ولا يغرنّكم الشيطان فإنّه يمنّيكم الأماني الكاذبة، ويقول: إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك) ثمّ بيّن تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي هو مبارز لكم بالعداوة؛ فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذّبوه فيما يغرّكم به، فعل بأبيكم ما فعل فاتخذوه عدوا في عقائدكم وأفعالكم، ولا يوجدنّ منكم إلا ما يدلّ على معاداته في سرّكم وجهركم، ثمّ لخّص أمره بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك، فقال: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ فأي حماقة أكبر من اتباع وسوسته. قال ابن كثير: (أي إنما يقصد أن يضلّكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدوّ المبين، نسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباع كتاب الله، والاقتفاء بطريق رسوله صلّى الله عليه وسلم إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير) ثمّ كشف تعالى الغطاء،

[سورة فاطر (35): آية 8]

فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل الصالح، فهو علامة ترك الاغترار في الدنيا، وعلامة ترك الاغترار بالشيطان فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي فمن أجابه حين دعاه فله عذاب شديد، لأنه صار من حزبه، أي من أتباعه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلم يغتروا بالدنيا، ولم يجيبوا الشيطان، ولم يصيروا من حزبه بل عادوه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما فرط منهم من ذنب وَأَجْرٌ كَبِيرٌ على ما عملوه من خير وعلى مجاهدتهم، ثمّ لما ذكر الفريقين بيّن أن السائرين في طريق الشيطان مزيّنة لهم أعمالهم الفاسدة بتزيين الشيطان، فهم يرونها حسنة أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بتزيين الشيطان فَرَآهُ حَسَناً قال ابن كثير: يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالا سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي بقدره كان ذلك فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ يعني فلا تهلك نفسك للحسرات. قال ابن كثير: (أي لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل، ويهدي من يهدي، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التامّ) إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ هذا وعيد لهم بالعذاب على سوء صنيعهم. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة الأولى بمقطعها وبمقدمة السورة وبالمحور] إن الله عزّ وجل خلق كل شئ للإنسان ليشكر، فإذا انشغل الإنسان بالنعمة عن المنعم، فذلك دليل انحراف، والشيطان هو العدو الأول للإنسان، فإذا أصبح الشيطان هو المعلم للإنسان، فذلك علامة انحراف في تفكير الإنسان وسلوكه، وهذه المجموعة التي مرّت معنا لفتت نظر الإنسان إلى هذا، وحذرته، وبيّنت له مغبة ذلك ونتيجته. وهذا المعنى الذي مر معنا في المجموعة هو المعنى المكمّل للمعنى الذي تعرّض له المقطع الأول. فالمقطع الأول دعا إلى ذكر النعمة، والبناء على ذلك، والمجموعة الأولى من هذا المقطع دعت إلى ترك الاغترار بالدنيا والشيطان، لأن ذلك يصرف الإنسان عن شكر النعمة، وصلة ذلك بمقدمة السورة واضحة. إذ مقدمة السورة ذكرت استحقاق الله للحمد، وقالت ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ .. وإذا كان هذا هو الشأن، فلا يجوز أن يصرف الإنسان صارف عن الإيمان والتوحيد والشكر لا دنيا ولا شيطان. فما محل هذه المجموعة في السياق العام للقرآن؟:

إن المجموعة بدأت بالتذكير بأن وعد الله حق، ثم نهت عن الاغترار في الدنيا والشيطان، فإذا تذكرنا أن محور السورة هو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وأن هذه الآية قد جاءت بين قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وبين قصة آدم عليه السلام المنتهية بقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فما قبل آية المحور وما بعدها توجد وعود لها علاقة باليوم الآخر، وما بعد آية المحور كانت قصة إضلال الشيطان لآدم عليه السلام. فإن تأتي المجموعة فيها النهي عن الاغترار بالدنيا والشيطان في سياق تقرير أنّ وعد الله حق فذلك واضح الارتباط بالمحور وسياقه. والآن تأتي مجموعتان كل منهما مبدوء بقوله تعالى وَاللَّهُ ... فالمجموعتان استمرار للكلام عن الذي رأيناه في المقدمة، ورأيناه في المقطع الأول. والسورة كلها تصبّ في سياق الحديث عن الله عزّ وجل، وسنعرض المجموعتين مع بعضهما لاتصالهما ببعضهما. ***

تفسير المجموعتين الثانية والثالثة

تفسير المجموعتين الثانية والثالثة وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً قال النسفي: إنما قيل (فتثير) لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة الدالّة على القدرة الربانية فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بالمطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبسها. قال النسفي: (ولما كان سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقناه وأحييناه، معدولا بهما عن لفظ الغيبة، إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّه عليه) كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات. قال ابن كثير: (كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها، أنزل من تحت العرش مطرا يعمّ الأرض جميعا، وتنبت الأجساد في قبورها، كما تنبت الحبة في الأرض، ولهذا جاء في الصحيح «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق، ومنه يركب». كلمة في السياق: هذه الآية جسر بين ما قبلها وما بعدها، فهي تدلل على اليوم الآخر الذي قال الله عزّ وجل عنه إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بين يدي الكلام عن إرادة العزة التي هي إحدى مزالق الشيطان وإحدى مظاهر الدنيا، ومن ثمّ اقتضى ذلك أن يسبقها الكلام عن حتمية مجئ اليوم الآخر، لأنّه وحده العلاج من أن تقع النفس فريسة غرر الدنيا، والشيطان، بسبب طلبها العزة. فالكلام عن العزة في هذا السياق كلام عن واحد مما يغري به الشيطان الإنسان، وعن مظهر من مظاهر الدنيا التي تصرف عن الآخرة. *** مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي العزة كلها مختصة بالله، عزة الدنيا، وعزة الآخرة. قال ابن كثير: (أي من كان يحب أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعا). ثمّ عرّف تعالى أن ما يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح فقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أي كلمات التوحيد، أي لا إله إلا الله. قال ابن كثير: يعني الذكر والدعاء وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أي العبادة الخالصة، أي أداء الفرائض والنوافل يَرْفَعُهُ أي يرفعه الله، وفي ضمائر (يرفعه) اختلاف

[سورة فاطر (35): آية 11]

كثير، يترتب عليه اختلاف المعنى، وقد لخص النسفي ذلك فقال: (والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فالرافع الكلم، والمرفوع العمل، لأنه لا يقبل عمل إلا من موحّد، وقيل الرافع الله والمرفوع العمل، أي العمل الصالح يرفعه الله، وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع، والكلم الطيب يصعد بنفسه، وقيل العمل الصالح يرفع العامل ويشرّفه. أي من أراد العزة فليعمل عملا صالحا فإنه هو الذي يرفع العبد) وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات السَّيِّئاتِ محافظة على عزتهم الباطلة، أو للوصول إلى العزة الجاهلية؛ رغبة في الدنيا وطلبا لها لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يفسد ويبطل وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ خلق آدم من تراب، وخلقكم من تراب، حتى صرتم نطفا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم أنشأكم من نطفة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا، أو ذكرانا وإناثا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إلا معلومة له وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي من أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ يعني اللوح أو صحيفة الإنسان. قال ابن كثير: يقول: ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا هو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له؛ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إن إحصاء ذلك، أو إنّ زيادة العمر ونقصانه، على الله سهل. ... نقل: [من الظلال حول آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ .. ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ: (وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها، وتبدل الوسائل والخطط أيضا! إن العزة كلها لله. وليس شئ منها عند أحد سواه. فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره. ليطلبها عند الله، فهو واجدها هناك وليس

بواجدها عند أحد، ولا في أي كنف، ولا بأي سبب فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة؛ وتخشى اتباع الهدى- وهي تعترف أنه الهدى- خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى. إن الناس هؤلاء. القبائل والعشائر وما إليها. إن هؤلاء ليسوا مصدرا للعزة، ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً .. وإذا كانت لهم قوة فمصدرها الأول هو الله. وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو الله. وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر الأول، لا إلى الآخذ المستمد من هذا المصدر. ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده كل العزة، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم. وهم مثله طلاب محاويج ضعاف! إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية. وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين، وتعديل الحكم والتقدير، وتعديل النهج والسلوك، وتعديل الوسائل والأسباب! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزا كريما ثابتا في وقفته غير مزعزع، عارفا طريقه إلى العزة، وطريقه الذي ليس هنالك سواه! إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر. ولا لعاصفة طاغية. ولا لحدث جلل. ولا لوضع ولا لحكم. ولا لدولة ولا لمصلحة، ولا لقوة من قوى الأرض جميعا. وعلام؟ والعزة لله جميعا. وليس لأحد منها شئ إلا برضاه؟ ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه. فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله. القول الطيب والعمل الصالح. القول الطيب الذي يصعد إلى الله في علاه؛ والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه ويكرمه بهذا الارتفاع. ومن ثمّ يكرم صاحبه ويمنحه العزة والاستعلاء. والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس. حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله. حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي. يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة،

ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس. ومتى استعلى على هذه فلن يملك أحد وسيلة لإذلاله وإخضاعه. فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم، ومخاوفهم ومطامعهم. ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شئ وعلى كل إنسان ... وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان! إن العزة ليست عنادا جامحا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل. وليست طغيانا فاجرا يضرب في عتو وتجبر وإصرار. وليست اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذل للشهوة. وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح .. كلا! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله. ثم هي خضوع لله وخشوع؛ وخشية لله وتقوى، ومراقبة لله في السراء والضراء .. ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه. ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه. ومن هذه المراقبة لله لا تعنى إلا برضاه. هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة، وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في السياق. ثم تكمل بالصفحة المقابلة: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ. ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون. ولكنه عبّر بها لغلبة استعمالها في السوء. فهؤلاء لهم عذاب شديد. فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور. فلا يحيا ولا يثمر. من البوار ومن البوران سواء. وذلك تنسيقا مع إحياء الأرض وإثمارها في الآية السابقة. والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلبا للعزة الكاذبة، والغلبة الموهومة. وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء، وأنهم أعزاء، وأنهم أقوياء. ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله، والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه. وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل. فأما المكر السيئ قولا وعملا فليس سبيلا إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان. إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد. وعد الله. لا يخلف الله وعده. وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: جاء قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ... بين آيتين مبدوأتين بقوله تعالى: وَاللَّهُ ... آية دلّلت على مجئ اليوم الآخر، وآية ذكّرت بابتداء خلق الإنسان من تراب، وبأن الأعمار بيد الله، وفي التذكير باليوم الآخر، وفي التذكير بابتداء خلق الإنسان من تراب، وفي التذكير بكون الأعمار بيد الله، تذكير للإنسان ألّا يطلب العزة إلا بالله ومن الله. إن حكمة مجئ الآية التي تتحدث عن العزة بين هاتين الآيتين العظيمتين هي أن تقطع من النفس البشرية عوامل طلب العزة من غير طريق الإيمان، وكل ذلك قد جاء في سياق النهي عن الاغترار بالدنيا والشيطان. ثمّ إن الكلام عن الله عزّ وجل، وعن مظاهر قدرته في أمر الدنيا والآخرة فيه تأكيد لقدرته جل شأنه على إعطاء العزة لمن يشاء، ولا زال السياق ينصب على الكلام عن الله عزّ وجل فلنتابع: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة سائِغٌ شَرابُهُ أي مريء سهل الانحدار؛ لعذوبته، وبه ينتفع شرّابه وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة لدرجة المرارة وَمِنْ كُلٍّ أي من العذب والمالح تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وهي اللؤلؤ والمرجان وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ في كل من البحرين مَواخِرَ أي شواقّ للماء يجريها لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتبتغوا من فضل الله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ قال ابن كثير: (أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم وهو البحر، تتصرفون فيه كيف شئتم، وتذهبون أين أردتم، ولا يمتنع عليكم شئ منه، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض. الجميع من فضله ورحمته). كلمة في السياق: 1 - رأينا أن السورة بدأت بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ثم جاء المقطع الأول مبدوءا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.

ثم جاء المقطع الثاني مبدوءا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ .. فإن يأتي بعد ذلك حديث عن الله عزّ وجل وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ .. ثم حديث عنه جل جلاله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ... ثم حديث عن مظهر من مظاهر قدرته وحكمته، وإنعامه في خلق الأنهار والبحار، كل ذلك واضح الصلة ببعضه. فالسياق يعرّفنا على الله وعما تستلزمه هذه المعرفة. 2 - ورأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الآتية في حيز قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فإن يأتي كلام في السورة يحدثنا عن مظاهر إنعام الله، وعما يدل على الرجوع إليه، وعن خلقه الإنسان من طور إلى طور، وعن تسخيره البحر لهذا الإنسان، وأن يحدثنا عن الشكر في هذا السياق. كل ذلك واضح الصلة بعضه ببعض، إنه لا يغيب عن المتأمل صلة الآيات التي مرت معنا بسياق السورة ولا بمحورها، ولكن ما صلة الآية الأخيرة بالسياق الجزئي للمقطع؟ لا شك أن الآية الأخيرة تؤدي دورها في تعريفنا على الله وعلى نعمه وعلى ما تقتضيه هذه المعرفة من الشكر، ولكن ما صلة ذلك في المقطع المبدوء بالنهي عن الاغترار في الدنيا وعن تغرير الشيطان؟ قال النسفي في الآية: (ضرب البحرين العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر). وإذن فالنسفي يفهم أن مجئ هذه الآية له صلة بالكلام السابق عن قضية الإيمان والكفر، ونحن إذا تأملنا المقطع الذي وردت فيه هذه الآية نجد فيه قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ونجد مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ... ولا يبعد أن يكون المثل مرتبطا بموضوع الكفر والإيمان، وبموضوع العزة كذلك، فالمؤمن الذي يطلب العزة بالله، ومن الله، وفي السير في طريق الله، هو العذب الفرات، والكافر الذي يطلب بنفسه، ولنفسه، وفي السير في طريق الكفر، هو الملح الأجاج، وفي هذا منفعة للخلق، وفي هذا منفعة للخلق، ولكن الفارق بين الشخصيتين يبقى قائما؛ هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج. ولنستمر في التفسير فإن السياق لا زال يحدثنا عن الله عزّ وجل وعن مظاهر قدرته وعن تسخيره الأشياء للإنسان.

[سورة فاطر (35): آية 13]

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قال ابن كثير: (وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم في تسخيره الليل بظلامه، والنهار بضيائه ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفا وشتاء) وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لصالح هذا الإنسان كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى يوم القيامة ذلِكُمُ أي الذي فعل هذا اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لأنه هو الخالق وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي من الأصنام والأنداد ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ القطمير: هي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، أي لا يملكون من السموات والأرض شيئا، ولا بمقدار هذا القطمير إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنها جماد لا أرواح فيها وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لا يقدرون على شئ مما تطلبون منها وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم، ويتبرءون منكم وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ قال ابن كثير: (أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة). وقال النسفي: (ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبئك الله الخبير بخفايا الأمور، وتحقيقه ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به، يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به، والمعنى: أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به). كلمة في المقطع الثاني وسياقه وسياق السورة: 1 - بدأ المقطع بالنهي عن الاغترار بالدنيا، والتحذير من تغرير الشيطان، ثمّ نفّر من الكفر، ومن طلب العزة الباطلة، ومن الشرك، مما يشير إلى أن هذه الأشياء من مظاهر الاغترار بالدنيا، والوقوع في تغرير الشيطان، ورغّب في الإيمان والعمل الصالح، والكلم الطيب، والشكر، هذه مظاهر طلب الله والدار الآخرة. فالمقطع حدّد للمسلم جوانب عملية للسير في طريق الشكر. 2 - يلاحظ أن المقطع انتهى بالكلام عن التوحيد إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ... فكل ما قبله كان يخدم هذه النتيجة وهو نفس المعنى الذي صبّ فيه المقطع الأول اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وهو المعنى الذي قدمت له مقدمة السورة.

فوائد: حول الآيتين إليه يصعد الكلم الطيب، وما يعمر من معمر ..

3 - سارت السورة إذن في سياقها الرئيسي في طريق تعريفنا على الله، وما تستلزمه هذه المعرفة، وحررتنا من كل ما يتنافى مع هذه المعرفة من شرك، أو كفر، أو اغترار بالدنيا، أو ولاء للشيطان. 4 - بدأت المقدمة بذكر استحقاق الله الحمد، ثمّ جاء المقطع الأول ليذكّرنا بنعمة الله علينا، ثمّ جاء المقطع الثاني لينهانا عن أن تكون الدنيا والشيطان أداتي تغرير بنا، وصرف لنا عن الشكر. والآن يأتي المقطع الثالث ليذكرنا في بدايته بافتقارنا إلى الله عزّ وجل واحتياجنا إليه، ولذلك محلّه في الوصول إلى الشكر. فوائد: [حول الآيتين إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ .. ] 1 - بمناسبة قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قال ابن كثير: (وروى ابن جرير عن المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله- ابن مسعود- رضي الله عنه إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى، أن العبد المسلم إذا قال سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجئ بهن وجه الله عزّ وجل، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ... وقال كعب الأحبار: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لدويا حول العرش، كدوي النحل، يذكرن لصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن، وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار رحمة الله عليه، وقد روي مرفوعا. روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذين يذكرون الله، من جلال الله، من تسبيحه، وتكبيره، وتحميده، وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن، ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شئ يذكر به» وهكذا رواه ابن ماجه). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ قال ابن كثير: (وروى النسائي عند تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود ... وروى ابن أبي حاتم عن

أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «إن الله تعالى لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر»). ***

المقطع الثالث ويمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (45) أي إلى نهاية السورة وهذا هو

المقطع الثالث ويمتدّ من الآية (15) إلى نهاية الآية (45) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: المجموعة الأولى 35/ 45 - 15

35/ 28 المجموعة الثانية 35/ 29 - 37

المجموعة الثالثة 35/ 38 - 40 المجموعة الرابعة 35/ 41 - 43

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثالث

35/ 44 - 45 تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثالث يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ قال ذو النون المصري: الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة، وكيف لا، ووجودهم به، وبقاؤهم به. وقال ابن كثير: أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو تعالى الغني عنهم بالذات. ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن الأشياء أجمع فهو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له الْحَمِيدُ المحمود في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ قال النسفي: (أي إن يشأ يذهبكم كلكم إلى العدم؛ فإن غناه بذاته لا بكم في القدم، ويأت بخلق جديد، وهو بدون حمدكم حميد) وَما ذلِكَ أي الإنشاء والإفناء عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع. قال ابن كثير في الآية: (أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس، وأتى بقوم غيركم، وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع). وهذا واحد من مظاهر افتقاركم وغناه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى. والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤاخذ نفس بذنب نفس وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي بالذنوب أحدا إِلى حِمْلِها أي ثقلها أي ذنوبها ليتحمّل عنها بعض ذلك لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ أي المدعو ذا قُرْبى أي ذا قرابة قريبة كأب أو ولد أو أخ. قال ابن كثير: أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار- أو بعضه- لا يحمل منه شئ، ولو كان ذا قربى أي وإن كان قريبا إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها، كلّ مشغول بنفسه وحاله. كلمة في السياق: ما محل هذه الآية الأخيرة في السياق وما صلتها بما قبلها؟ بعد أن قرر الله عزّ وجل افتقار الخلق وغناه جل شأنه وقدرته على الإنشاء والإفناء جاء بهذه القاعدة الكلية العادلة ليبين أن طلبه العبادة من خلقه ليس لاحتياجه إلى ذلك

كلمة في السياق

منهم، فهو لم يكلف عباده لمنفعة تعود إليه، وإنما لمصلحتهم بالذات، كما ستدلّنا على ذلك خاتمة الآية وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وقد جاءت هذه المعاني ضمن معان أخرى، وهذا من مظاهر الإعجاز في القرآن، إنك تجد الآية في نصّها تعطيك معنى، وتعطيك معنى آخر من سياقها، وبذلك تتولد المعاني الكثيرة من الألفاظ القليلة، وإذ قرّر عزّ وجلّ غناه وافتقار الخلق إليه، وأنّه عند ما كلّف لم يكلّف افتقارا، وإنما كلّف وهو غني حميد لحكمة أرادها، إذ تقرر، هذا يبيّن الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم من الذي يستفيد بالموعظة ممن لا يستفيد: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخشون ربهم في حالة غيابهم عن رؤية عذابه، إيمانا منهم بأن عذابه كائن، وإن لم يشاهدوه، أو يخشون عذابه غائبا عنهم، أو يخشون ربهم غائبين عن أعين العباد، حيث لا اطلاع لأحد عليهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ في مواقيتها أي إنما ينتفع بإنذارك هؤلاء. قال ابن كثير: (أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهي، الخائفون من ربهم، الفاعلون ما أمرهم به) وَمَنْ تَزَكَّى بفعل الطاعات، وترك المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي ومن عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المرجع وهو وعد للمتزكّي بالثواب، دلّ هذا على أنّ الكلام السابق على هذا إنذار بليغ للإنسان. ... كلمة في السياق: بعد أن أثبت الله عزّ وجل افتقار الخلق إليه وغناه. ودلل على ذلك بقدرته على إفنائهم، وخلق غيرهم، وذكر عدله في الحساب، وحال الناس يوم يحاسبون بيّن لرسوله صلّى الله عليه وسلم صفات من ينفع فيهم الإنذار، وهم من اجتمعت لهم الخشية، وإقامة الصلاة. وهذا يفيد أن غيرهم ليس كذلك. ومن ثمّ تأتي الآن آيات تقارن بين هؤلاء وأولئك. ... وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ الحرور: الريح الحار كالسموم، إلا أن السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ قال ابن كثير: (يقول تعالى

[سورة فاطر (35): آية 23]

كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى والبصير لا يستويان، بل بينهما فرق وبون كبير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات). أقول: المؤمن بصير، والإسلام نور، والظل الحق، والإيمان حياة، والكافر أعمى، والكفر ظلمات، والباطل نار على أهله، والكفر موت، ولا مساواة بين هذا وهذا، ومع ذلك فإن كثيرين يفضلون العمى والظلمة، والنار والموت على الإبصار والنور والظل والحياة. قال ابن كثير: (فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقرّ به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصمّ في ظلمات يمشي لا خروج له منها، بل هو يتيه في غيّه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم). إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي يهديهم إلى سماع الحجّة وقبولها والانقياد لها وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم- وهم كفار- بالهداية والدعوة، كذلك هؤلاء الكافرون، الذين كتب عليهم الشقاوة، لا حيلة لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم إِنْ أي ما أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي إنما عليك البلاغ والإنذار، والله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. أي ما عليك إلا أن تبلّغ فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرّين فما عليك لأن ذلك من شأن الله وحكمته وعدله أنه يهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق بَشِيراً للمؤمنين وَنَذِيراً للكافرين وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي وما من أمة قبل أمتك إلا مضى فيها نذير، يخوفهم وخامة الطغيان، وسوء عاقبة الكفران. قال ابن كثير: (أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي وإن يكذبك من أرسلت إليهم فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أرسلوا إليهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الباهرات، والدلائل القاطعات وَبِالزُّبُرِ أي الكتب والصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح البيّن، كالتوراة والإنجيل والزبور، فلم يكن تكذيبهم لعلة؛ فالحجة واضحة ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالعقاب والنكال بعد تكذيبهم رسلهم، مع كل ما جاءوا به فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم، وتعذيبي لهم. قال ابن كثير: (أي

[سورة فاطر (35): آية 27]

فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيما شديدا بليغا) وبعد أن لفت الله النظر إلى ما يثير الخشية منه من خلال ما فعل بالمكذّبين، لفت النظر إلى مظاهر قدرته في هذا الكون من أجل أن يثير الخشية منه من خلال التعريف بعظمته فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بالماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها كالرمّان، والتّفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يحصر، فمنها الأحمر والأصفر والأخضر وغير ذلك وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي طرق بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها أي ومن الجبال ذو جدد، أي ذو طرق بيض وحمر وَغَرابِيبُ سُودٌ قال عكرمة: الغرابيب: الجبال الطوال السود. قال ابن كثير: (وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد أيضا). والغرابيب: جمع غربيب وهو القاتم السواد وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي كاختلاف الثمرات والجبال. ثم بعد أن عدّد الله عزّ وجل ما عدّد من آياته، وأعلام قدرته، وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ممّا يستدلّ به عليه وعلى صفاته. أتبع ذلك بقوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أي العلماء الذين عرفوه بصفاته؛ فعظّموه، ومن ازداد علما به ازداد منه خوفا، ومن كان علمه به أقل كان آمن. قال النسفي: (وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن أن معناه: أن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم) إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ هذا تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم. والمعاقب المثيب حقّه أن يخشى. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من هذا المقطع. وقد بيّنت أنّ بداية السير إلى الله الخشية، وإقامة الصلاة. ودلّت على الطريق إلى ذلك، وتكلّمت عن مثيرات الخشية لله من معرفة غنى الله، والافتقار إليه، إلى معرفة قدرته عزّ وجل على الإفناء والإنشاء، إلى معرفة عقوبته يوم القيامة لمن خالف، إلى معرفة انتقامه ممن يكذّب الرسل، إلى معرفة مظاهر قدرته التي تدلّ على عظمته. ولقد قال صاحب الظلال في الآيتين الأخيرتين ما يلي: (إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب. لفتة تطوف في الأرض كلها، نتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها. في الثمرات. وفي الجبال. وفي الناس. وفي الدواب والأنعام. لفتة تجمع في كلمات قلائل، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعا، وتدع القلب مأخوذا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع

الكبير الذي يشمل الأرض جميعا. وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان. ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسّامين في جميع الأجيال. فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر. بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد. فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شئ من اختلاف اللون! وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية. ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها! وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. والجدد: الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد. واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك، يستحق النظر والالتفات. ثم ألوان الناس. وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر. فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه. بل متميز من توأمه الذي شاركه حملا واحدا في بطن واحدة! وكذلك ألوان الدواب والأنعام. والدواب أشمل والأنعام أخص. فالدابة كل

كلمة في السياق: حول صلة المجموعات الباقية من المقطع بالمجموعة الأولى وبالمحور

حيوان. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان. والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء. هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول: إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. وهذه الصفحات التي قلّبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب. ومن ثمّ يعرفون الله معرفة حقيقية. يعرفونه بآثار صنعته. ويدركونه بآثار قدرته. ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه. ومن ثمّ يخشونه حقا ويتقونه حقا، ويعبدونه حقا. لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون. ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر .. وهذه الصفحات نموذج من الكتاب .. والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب. العلماء به علما واصلا. علما يستشعره القلب، ويتحرك به، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل. إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه. ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدي عن طريق جمالها. هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح. ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح، لتنشأ الثمار .. وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها! .. والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه. لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان. وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال. الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه. ومن ثمّ هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض). كلمة في السياق: [حول صلة المجموعات الباقية من المقطع بالمجموعة الأولى وبالمحور] 1 - بقي من المقطع الثالث ثلاث مجموعات كل منها مبدوء بكلمة (إن). إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ ....

فوائد

إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .... إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا .... 2 - ذكّرت السورة بالنّعم التي توصل إلى التوحيد، ثمّ بينت أن الناس قسمان: شاكر، وكافر، وذكرت السورة أن طريق الشكر يبدأ بالخشية، وإقام الصلاة، ويغذيه التفكر، وقراءة القرآن: أَلَمْ تَرَ ... إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ .... 3 - في المقطع الأول أمرنا الله أن نذكر نعمته وفي المقطع الثاني حذّرنا من الدنيا ومن الشيطان أن يفتنانا، وفي المجموعة الأولى من المقطع الثالث بيّن لنا أن نقطة البداية في السير إلى الله الخشية، وحدثنا عن مثيرات الخشية، وستكمّل مجموعات المقطع الثالث هذا الموضوع. 4 - بدأت السورة بذكر الأسس التي لا بدّ منها من أجل الانطلاق في السير نحو الشكر، من تذكير، وتحذير، وتعريف، وأمر، ونهي، ثمّ لفتت نظر الإنسان إلى ما حوله، وها هي في ما تبقى منها تذكر مغذّيات السير. وقبل أن ننتقل إلى عرض المجموعة الثانية في المقطع الثالث، فلننقل بعض الفوائد: فوائد: 1 - [كلام النسفي بمناسبة آية يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قال النسفي: (ولم يسمهم بالفقراء للتحقير بل للتعريض على الاستغناء، ولهذا وصف نفسه بالغنى الذي هو مطمع الأغنياء، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، والجواد المنعم عليهم، إذ ليس كل غني نافعا بغناه، إلا إذا كان الغني جوادا منعما وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم. قال سهل: لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا بالسر إليه، ومنقطعا عن الغير إليه، حتى تكون عبوديته محضة، فالعبودية: هي الذل والخضوع، وعلامته أن لا يسأل من أحد. وقال الواسطي: من استغنى بالله لا يفتقر، ومن تعزز بالله لا يذل. وقال الحسين: على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيا بالله، وكلما ازداد افتقارا ازداد

2 - كلام ابن كثير بمناسبة آية وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ..

غنى. وقال يحيى: الفقر خير للعبد من الغنى؛ لأن المذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة، خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال. وقيل صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شئ، والفقر إليه في كل شئ، والرجوع إليه من كل شئ. وقال الشبلي: الفقر يجر البلاء وبلاؤه كله عز). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى قال ابن كثير: (قال عكرمة في قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها الآية قال: هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني، وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة، فيقول له: يا مؤمن إن لي عندك يدا، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا، وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يردّه إلى منزل دون منزله وهو في النار، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول: يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني خيرا، فيقول له: يا بنيّ إني قد احتجت إلى مثقال ذرّة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده، يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوّف مثل ما تتخوّف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته فيقول: يا فلانة- أو يا هذه- أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا، فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو بها مما ترين، قال فتقول: ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا إني أتخوّف مثل الذي تتخوّف، ويقول الله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها الآية، ويقول تبارك وتعالى: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان: 33]، ويقول تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37]. رواه ابن أبي حاتم رحمه الله). 3 - [كلام النسفي بمناسبة آية وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ وتعليق المؤلف على ذلك] وبمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ قال النسفي: (أي وما من أمة قبل أمتك. والأمة: الجماعة الكثيرة وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ ويقال لأهل كل عصر أمة، والمراد هنا أهل العصر، وقد كانت آثار النذارة باقية فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، فلم تخل تلك الأمم من نذير، وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث محمد عليه الصلاة السلام إِلَّا خَلا مضى فِيها نَذِيرٌ يخوّفهم وخامة الطغيان، وسوء عاقبة الكفران، واكتفى بالنذير عن

4 - حديث بمناسبة قوله تعالى ثمرات مختلفا ألوانها

البشير في آخر الآية بعد ما ذكرهما؛ لأن النذارة مشفوعة بالبشارة، فدل ذكر النذارة على ذكر البشارة). وقال ابن كثير: (أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] وكما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36]. والآيات في هذا كثيرة). أقول: وهذه الآية أصل في الدلالة على أن كل الأمم قد أرسل لها رسل، لا كما يظن بعض الناس أن الرسل محصورون في منطقتنا أو فيما هو قريب منها، إلا أنّنا لا نصف أحدا بالرسالة إلا من ثبتت بالنص رسالتهم. 4 - [حديث بمناسبة قوله تعالى ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها] بمناسبة قوله تعالى: ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها قال ابن كثير: (روى البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: أيصبغ ربك؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم صبغا لا ينقض أحمر وأصفر وأبيض» وروي مرسلا وموقوفا والله أعلم). 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال ابن كثير: (أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال: الذين يعلمون أن الله على كل شئ قدير. وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله، وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزّ وجل، وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الحسن إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم عن كثرة الخشية، وقال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن

صالح المصري معناه: أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية، وإنما العلم الذي فرض الله عزّ وجل أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم أئمة المسلمين، فهذا لا يدرك إلا بالرواية، ويكون تأويل قوله نور يريد به: فهم العلم، ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى، ويعلم الحدود، والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله، ولا يعلم الحدود والفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عزّ وجل). ولننتقل إلى المجموعة الثانية في المقطع الثالث. ***

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثالث إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على تلاوة القرآن وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ليلا ونهارا، إسرارا وإعلانا. أي يجمعون بين تلاوة الكتاب والعمل به يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي لن تكسد. يعني: تجارة ينتفي عنها الكساد، وتنفق عند الله. قال ابن كثير: أي يرجون ثوابا عند الله لا بد من حصوله لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ أي ثواب أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر على بالهم إِنَّهُ غَفُورٌ لذنوبهم شَكُورٌ للقليل من أعمالهم. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي القرآن هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب المتقدمة يصدقها كما شهدت هي له بالتنويه، وأنه منزل من رب العالمين إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. قال ابن كثير: (أي هو خبير بهم، بصير بمن يستحق ما يفضله به على من سواه. ولهذا فضّل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضّل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وجعل منزلة محمد صلّى الله عليه وسلم فوق جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). كلمة في السياق: بعد أن بينت لنا المجموعة السابقة أنه لا يقبل الإنذار إلا من اجتمعت له الخشية والصلاة، ودلّتنا على بواعث الخشية من الله تأتي هذه الآيات لتذكّر بالتلاوة والصلاة والإنفاق. أما التلاوة فكطريق للخشية، وأما الصلاة والزكاة فهما مظهرا الخشية وأثراها. ثم جاءت الآية الأخيرة جسرا بين ما قبلها وما بعدها. فهي تشجّع على التلاوة وتبين أهمّية وراثة الكتاب، وهما المعنيان اللذان وجدت بينهما. ... ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي القرآن الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا من هذه الأمّة المجتباة ثم رتّبهم على مراتب فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو المفرّط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. قال ابن كثير: (وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات) وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ. قال ابن كثير: (وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات

[سورة فاطر (35): آية 33]

والمكروهات، وبعض المباحات) ذلِكَ أي إيراث الكتاب هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ دلّ على أن إرث الكتاب فضل عظيم جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها أي الفرق الثلاث، فالأوّلون يدخلونها بعد أن يمحّصوا، والتالون يدخلونها بعد أن يحاسبوا حسابا يسيرا. والآخرون يدخلونها بلا حساب ولا عذاب. وسنرى دليل ذلك في الفوائد يُحَلَّوْنَ فِيها أي يلبسون فيها الحليّ مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي يلبسون فيها الأساور الذهبية واللؤلؤ وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ لما فيه من البهجة والزينة وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أي خوف النار، أو خوف الموت، أو هموم الدنيا. قال ابن كثير: وهو الخوف من المحذور أزاحه عنا، وأراحنا مما كنا نتخوّفه، ونحذره من هموم الدنيا والآخرة. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ يغفر الجنايات وإن كثرت شَكُورٌ يقبل الطاعات وإن قلّت. قال ابن كثير: قال ابن عباس وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة لا نبرح منها ولا نفارقها مِنْ فَضْلِهِ أي من عطائه وإفضاله لا باستحقاقنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب ومشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي إعياء من التعب وقترة. قال ابن كثير: أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء. ولما ذكر الله تبارك وتعالى حال السعداء شرع في بيان حال الأشقياء فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي لا يقضى عليهم بموت ثان فيستريحون، ولا يخفف عنهم من عذاب نار جهنم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذّب الحق وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي ينادون فيها أي يجأرون إلى الله عزّ وجل بأصواتهم، والاصطراخ: هو الصياح بجهد ومشقّة رَبَّنا أَخْرِجْنا أي من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي ردنا إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر، ونطيع بعد المعصية فيجابون أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. قال النسفي: (وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه، وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم) وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي الرسول فَذُوقُوا أي العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي من ناصر يعينهم. قال ابن كثير: (أي فذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم؛ فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنّكال والأغلال).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: قلنا: إن السياق استقر في المقطع الأخير على تبيان الطريق إلى الله الذي بدايته الخشية، وهذه المجموعة فصّلت في الطريق بما يوصل إلى الخشية ويعمّقها، وخلصت إلى ما أعد الله عزّ وجل للمؤمنين الذين أعطوا النعمة حقها، وعرفوا الله حق المعرفة، وأعطوا هذه المعرفة مستلزماتها من إيمان بالرسل، وتلاوة للكتاب، وعبادة، والتزام، وطاعة، وإلى ما أعدّه للكافرين، الذين ظلموا في الدنيا وأمنوا. فوائد: 1 - [آية القراء إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ ... ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ. قال ابن كثير: (قال قتادة: كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء). 2 - [كلام النسفي وتحقيق ابن كثير حول آية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا .. ] بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال النسفي: (وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل، وقال ابن عطاء، إنما قدّم الظالم لئلا ييأس من فضله، وقيل إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربه وقيل: إن أول الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة، وقال سهل: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل وقال: أيضا السابق الذي اشتغل بمعاده، المقتصد الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده، وقيل: الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق، وقيل: الظالم من أخذ الدنيا حلالا كانت أو حراما، والمقتصد من يجتهد أن لا يأخذها إلا من حلال، والسابق من أعرض عنها جملة، وقيل: الظالم طالب الدنيا، والمقتصد طالب العقبى، والسابق طالب المولى). وقد حقق ابن كثير المقام في هذه الآية. فذكر الاختلافات فيها، ثم رجّح وأقام الدليل، ومجمل ترجيحه اعتمدناه في التفسير. ولننقل هنا تحقيقه كله مع حذف الأسانيد. قال: (روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا قال: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، ورّثهم الله تعالى كل

كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب، وروى أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ذات يوم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» قال ابن عباس رضي الله عنهما: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلم، وكذا روي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة، لا من المصطفين الوارثين لكتاب، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال: هو الكافر، وكذا روى عنه عكرمة وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير، وقال ابن نجيح عن مجاهد في قوله تعالى فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال هم أصحاب المشأمة، وقال مالك عن زيد بن أسلم والحسن وقتادة هو المنافق ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتادة: وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها، والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضا ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر. (الحديث الأول) روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: «في هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة» هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسم وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شعبة به نحوه ومعنى قوله: بمنزلة واحدة أي في أنهم من هذه الأمة، وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة. (الحديث الثاني) روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا

فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ. (طريق أخرى) روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال: «فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن ثم يدخل الجنة» ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد فجلس إلى جنب أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: اللهم آنس وحشتي، وارحم غربتي، ويسر لي جليسا صالحا، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لئن كنت صادقا لأنا أسعد به منك، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم أحدّث به منذ سمعته منه، ذكر هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن، وذلك قوله تعالى وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. (الحديث الثالث) روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كلهم من هذه الأمة». (الحديث الرابع) روى ابن أبي حاتم عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحّصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده، يقول الله تعالى صدقوا لا إله إلا أنا؛ أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده، واحملوا خطاياهم على أهل النار، وهي التي قال الله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13]. وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فجعلهم ثلاثة أفواج وهم أصناف كلهم: فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يمحص ويكشف» غريب جدا. (أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه) روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون بذنوب عظام، حتى يقول الله عزّ وجل ما هؤلاء؟ - وهو أعلم تبارك وتعالى- فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام، إلا أنهم لم يشركوا بك شيئا، فيقول الرب عزّ وجل: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي.

وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية. (أثر آخر) روى أبو داود الطيالسي عن عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية، فقالت لي: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات: فمن مضى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالجنة، وأما المقتصد: فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم، وأما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلكم قال: فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا، وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات، لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال: هي لأهل بدونا، ومقتصدنا أهل حضرنا، وسابقنا أهل الجهاد، رواه ابن أبي حاتم. وقال عوف الأعرابي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب الأحبار رحمة الله عليه قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة، ألم تر أن الله تعالى قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها إلى قوله عزّ وجل وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ قال: فهؤلاء أهل النار، رواه ابن جرير من طرق عن عوف به ثم قال: إن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعبا عن قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا إلى قوله بِإِذْنِ اللَّهِ قال: تماست مناكبهم ورب كعب، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم، ثم روى ابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي في هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية، قال أبو إسحاق: أما ما سمعت من ذي ستين سنة فكلهم ناج، ثم روى ابن جرير أيضا- بسنده- عن محمد ابن الحنفية رضي الله عنه قال: إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله. ورواه الثوري عن إسماعيل ابن إسماعيل عن رجل عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه بنحوه. وقال أبو الجارود: سألت محمد بن علي- يعني الباقر- رضي الله عنهما عن قول الله تعالى فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ فقال: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. فهذا ما تيسر من إيراد

3 - كلام ابن كثير بمناسبة آية يحلون فيها من أساور من ذهب ..

الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة فإنهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق فقال: ما أقدمك أي أخي؟ قال حديث بلغني أنك تحدّث به عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أما قدمت للتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا. قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال نعم، قال رضي الله عنه فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن قيس ومنهم من يقول قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري، ولله الحمد والمنة وقد تقدم في أول سورة طه حديث ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي»). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا فأجابه الله تعالى لهم في الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» وقال: «هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أبا أمامة رضي الله عنه حدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حدّثهم وذكر حلي أهل الجنة فقال: مسورون بالذهب والفضة، مكللة بالدر، وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك شباب جرد مرد مكحلون). 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ] وبمناسبة قوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال

5 - اختلاف المفسرين في العمر الذي يؤنب عليه الإنسان إذا لم يسلم بمناسبة الآية (37)

ابن كثير: (وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم، ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» رواه ابن أبي حاتم من حديثه. وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور، وكأني انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور» قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات وشكر لهم اليسير من الحسنات). 5 - [اختلاف المفسرين في العمر الذي يؤنب عليه الإنسان إذا لم يسلم بمناسبة الآية (37)] اختلف المفسرون في العمر الذي يؤنب عليه الإنسان إذا لم يسلم في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قال النسفي- وهو الذي اخترناه-: وهو متناول لكل عمر تمكّن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم، وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعذر الله عزّ وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة» وبعد تحقيق حول هذا الحديث وتأكيد لصحته. قال ابن كثير: (ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث، قال الحسن بن عرفة رحمه الله حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد عن الحسن بن عرفة به ثم قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا عجب من الترمذي فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك» وقد رواه الترمذي في كتاب الزهد أيضا ثم قال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد روي من غير وجه عنه هذا نصه بحروفه في الموضعين والله أعلم. وقال الحافظ أبو يعلى عن أبي موسى الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول

الله صلّى الله عليه وسلم: «معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين» وبه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أقل أمتي أبناء سبعين» إسناده ضعيف. (حديث آخر) في معنى ذلك روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أنبئنا بأعمار أمتك؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما بين الخمسين إلى الستين» قالوا: يا رسول الله فأبناء السبعين؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «قلّ من يبلغها من أمتي، رحم الله أبناء السبعين، ورحم الله أبناء الثمانين» ثم قال البزار لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد وعثمان بن مطر (وهو من رجال سنده) من أهل البصرة ليس بقوي، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة، وقيل ستين، وقيل خمسا وستين. والمشهور الأول والله أعلم). ***

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثالث إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما عنكم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي يعلم ما تكنّه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ. قال النسفي: (والمعنى أنه جعلكم خلفاء في أرضه، قد ملّككم مقاليد التصرّف فيها، وسلّطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة) فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فمن كفر منكم وغمط مثل هذه النعمة فوبال كفره راجع عليه، ومقت الله وخسارة الآخرة كما قال تعالى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وهو أشدّ البغض وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي هلاكا وخسرانا قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ أي آلهتكم التي أشركتموهم في العبادة الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والأنداد أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي أخبروني عن هؤلاء الشركاء، وعما استحقوا به الشركة، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه دون الله أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي أم لهم شركة في خلق السموات أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي أمعهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه، فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب بَلْ إِنْ أي ما يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً أي ما يعد الزعماء للأتباع إلا باطلا وزورا. قال ابن كثير: (أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيّهم التي تمنّوها لأنفسهم وهي غرور وباطل وزور). كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة ببقية مجموعات المقطع وبالمحور، ثم عرض لمضمون المجموعة] 1 - تألفت هذه المجموعة من ثلاث آيات. آية عرّفت على الله بما يزيد المؤمنين خشية، وآية ذكّرت بنعم الله بما يزيد المؤمنين رغبة، وآية أقامت الحجة على الشرك بما لا مزيد عليه، وفي كل ذلك نوع تعريف على الله، وصلة ذلك بسياق السورة لا يخفى فهذه هي مضامين السورة الرئيسية، ولو أننا تذكرنا أول مقطع في السورة لرأيناه يدعو إلى تذكّر نعمة الله وإلى توحيده. 2 - رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وفي هذه المجموعة ورد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي

الْأَرْضِ ثم بنى على هذا فقال: فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وهذا يؤكد أنّ سورة فاطر تبيّن لنا ما تستلزمه معرفة الله، وما تستلزمه نعمه من قيام بحقّه، من شكره وإيمان برسله، وسير في طريقه. وقد رأينا في هذا المقطع أن بداية ذلك كله هو الخشية؛ إذ بدونها لا يقبل أحد نذارة الرسول، ومن ثمّ فإن السياق يذكر لنا كل ما يبعث على هذه الخشية. 3 - من خلال هذه المجموعة ندرك أن هناك ترابطا بين معرفة الله، وبين شكره وتوحيده عزّ وجل، يدلّنا على ذلك تسلسل الآيات الثلاث في المجموعة، ويدل السياق أنّ بين هذه الثلاثة وبين خشيته تعالى ترابطا، فمن لم تجتمع له هذه الأربعة فهو مقصّر في التكليف. 4 - والآن لنتساءل ما هي صلة مجموعات هذا المقطع ببعضها بعد أن ركّزنا فيما مضى على صلة المجموعات بسياق السورة؟ بدأ المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. ثم تحدّث عن مظهر من مظاهر غناه وافتقارنا بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. ثم تحدّث عن مظهر من مظاهر غناه بقوله: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ .... ثم تحدّث عن مظهر من مظاهر غناه وافتقار خلقه إليه بقوله: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ .... ثم تحدّث عن مظهر من مظاهر غناه وافتقارنا بقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ .... وسيأتي في أول المجموعة القادمة مظهر من مظاهر افتقارنا وغناه: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا .... وهكذا فالصلة بين مجموعات السورة ومقدمة المقطع قائمة. ***

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثالث

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثالث إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي يمنعهما من أن تزولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي ولئن زالتا على سبيل الفرض ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه. أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي يرى عباده وهم يكفرون به، ويعصونه وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجّل، ويستر آخرين ويغفر. قال النسفي: (أي) غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدا لعظم كلمة الشرك وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي إقساما بليغا. أي جاهدين في أيمانهم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ قال ابن كثير: أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل. قال النسفي: (أي من الأمّة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة، كما يقال للداهية العظيمة هي إحدى الدواهي). والمقسمون قريش والعرب فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً أي إلا تباعدا عن الحق اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي استكبروا استكبارا عن اتّباع آيات الله وَمَكْرَ السَّيِّئِ أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله المكر السيئ فدوافع نفورهم: استكبارهم، ومكرهم المكر السيّئ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي وما يحيط وينزل المكر السيّئ إلا بأصحابه فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ وهي إنزال العذاب على الذين كذّبوا برسلهم من الأمم قبلهم. والمعنى: فهل ينظرون بعد تكذيبك إلا أن ينزل بهم العذاب مثل الذي نزل بمن قبلهم من مكذبي الرسل فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بيّن أن سنته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل سنة لا يبدّلها في ذاتها ولا يحوّلها عن أوقاتها، وأنّ ذلك مفعول لا محالة أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين، وعلامات هلاكهم ودمارهم وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من أهل مكة أو من كافري هذه الأمة عموما قُوَّةً أي اقتدارا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً أي عليما بهم قادرا عليهم وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا أي بما اقترفوا من المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من نسمة تدبّ عليها وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة ببقية مجموعات المقطع وبالمحور

يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً أي لم تخف عليه حقيقة أمرهم وحكمة حكمهم. وبهذا انتهت السورة. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة ببقية مجموعات المقطع وبالمحور] بدأ المقطع الثالث بتذكيرنا بعظمة الله وغناه، وافتقارنا إليه ليثير الخشية والشكر وهما مفتاحا سياق السورة. ثم بيّن إخلال الكافرين بأيمانهم التي أعطوها على الاهتداء، وعلل ذلك بالكبر والمكر، مما يشير إلى أن الكبر والمكر هما علتا الكفر الرئيسيتان، ثمّ بيّن سنّته تعالى التي لا تتغير ولا تتبدّل بالماكرين. ثمّ دلّهم على ما يستدلون به على سنّته وهو آثار الهالكين السابقين. ثم بين أن سنة أخرى هي التي تحميهم من التعجيل بالعذاب، وهذا كله يستثير الخشية منه تعالى. فالمجموعة تؤدي دورها في سياق المقطع وفي سياق السورة. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ] بمناسبة قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إياك ومكر السيّئ فإنه لا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله ولهم من الله طالب» وقال محمد ابن كعب القرظي: ثلاث من فعلهنّ لم ينج حتى ينزل به: من مكر أو بغى أو نكث وتصديقها في كتاب الله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23] فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح: 10]. 2 - [حول قوله تعالى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ذكر ابن أبي حاتم بسنده إلى عبد الله بن مسعود قوله: (كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وقال سعيد بن جبير والسدّي في قوله تعالى ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ: أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدوابّ). كلمة أخيرة في سورة فاطر: دلّت سورة فاطر على وجوب الشكر، وعلى نقطة البداية فيه كما دلّت على طريق

المعرفة الكاملة لله عزّ وجل، فهي تفصّل فيما فصّلت فيه سورة الأنعام وتكمّل تفصيلها. وقد دلّت السورة كذلك على الصوارف عن الشكر، وحذّرتنا من ذلك، فحذرتنا من الشيطان والدنيا، ودلّت على أن الرغبة في العز والجاه والمجد من الصوارف عن طريق الله. ولمّا كانت بداية السير إلى الله تكمن في قبول الإنذار، ولما كان قبول الإنذار يحتاج إلى خشية من الله عزّ وجل، فقد دلّت السورة على الطريق لتحقيق الخشية وبينت بواعثها، ودلّت على مغذياتها. وسورة فاطر تكمّل سورة سبأ، ومن ثمّ فهي تبني على ما ذكرته تلك، فسورة سبأ وضعت الأساس في موضوع الشكر، وجاءت سورة فاطر لتبني على هذا الأساس. لاحظ التكامل بين السورتين: جاء في سورة سبأ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وجاء في سورة فاطر وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ. جاء في سورة سبأ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وجاء في سورة فاطر: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. لقد ربطت سورة سبأ بين معرفة الله والإيمان باليوم الآخر والقيام بالتكليف الذي هو الشكر، وسورة فاطر هي التي دلّت على طريق الشكر العملي. وسورتا سبأ وفاطر تكمّلان مجموعتهما في قسم المثاني بإعطاء كثير من المعاني، فهما قد عمّقتا قضية الشكر، وهو موضوع مرتبط بقضية التقوى الواردة في سورة الأحزاب، وذلك يعمّق قضية الإيمان التي ركزت عليها زمرة (الم) في هذه المجموعة. إنّ لسورة فاطر سياقها المرتبط بمحورها، ولها تكاملها مع السورة التي سبقتها ومع مجموعتها التي هي فيها وكل ذلك بعض أسرار الإعجاز.

سورة يس

سورة يس وهي السّورة السّادسة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثامنة والأخيرة من المجموعة الأولى من قسم المثاني، وآياتها ثلاث وثمانون آية وهي مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة يس ومحورها

كلمة في سورة يس ومحورها: يلاحظ أن سورة (يس) مبدوءة بالحرفين (يا) و (س) وهذان الحرفان مفتاحان، بهما نتعرف على محل هذه السورة في السياق القرآني العام. فلنتذكر الآن شيئا: بدأت سورة مريم بقوله تعالى: كهيعص ولاحظنا أن الحرف (ها) ورد في سورة (طه) التي هي بداية مجموعة، والحرف (يا) جاء الآن في سورة (يس)، والحرف (ع) سيأتي معنا في بداية سورة الشورى وهي بداية مجموعة، والحرف (ص) سيأتي في سورة (ص) وهي نهاية مجموعة، فالملاحظ أنّ هذه الأحرف تأتي إما في بداية مجموعة، أو في نهاية مجموعة فحرف (ها) جاء في سورة (طه) وهي بداية مجموعة. وحرف (ص) جاء في نهاية مجموعة كما سنرى. وحرف (ع) سيأتي في بداية مجموعة كما سنرى وأن الحرف (يا) جاء في سورة (يس) التي هي نهاية مجموعتها كما سنبرهن الآن: ... وإنما اعتمدنا أن الحرف (يا) علامة على نهاية مجموعة، وبالتالي فإن سورة (يس) نهاية المجموعة التي مرّت معنا لأسباب كثيرة: 1 - نلاحظ أن الحرف (س) ورد في بداية هذه السورة، كما ورد في الطاسينات، ونلاحظ أن خاتمة سورة (يس) هي نفس خاتمة (طسم) القصص التي هي خاتمة مجموعتها، فتلك انتهت بقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وسورة (يس) انتهت بقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مما يشير إلى وحدة المحور. 2 - نلاحظ أن محور (الطاسينات) جميعا هو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ونلاحظ أن بداية (يس) هي قوله تعالى: يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وهذا يؤكد أن محور (يس) هو محور الطاسينات. وكما أن الطاسينات نهاية مجموعتها فسورة (يس) نهاية مجموعتها. 3 - نلاحظ أن جرس الطاسينات موجود في (يس) فمثلا في سورة الشعراء تتكرر كلازمة وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وتجد في أول سورة (يس) قوله تعالى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وبالتالي فكما أن الطاسينات كانت نهاية مجموعة فإن سورة (يس) نهاية مجموعة.

4 - نلاحظ أنه بعد سورة (يس) تأتي سورة (الصافات) المبدوءة (بقسم)، وتلك علامة من علامات بداية المجموعات- كما سنرى- مما يشير إلى أن سورة (يس) هي نهاية مجموعة سابقة. 5 - إن هناك مجموعة دلائل تدل على أن سورة (يس) تفصّل قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ومن ثمّ فهي تفصّل من سورة البقرة ما يأتي بعد محور سورة فاطر، ولا نجد سورة بعدها تفصّل ما بعد آية محورها، ممّا يدل كذلك على أنها نهاية مجموعتها. ... وهاك مجموعة الدلالات التي تدل على أن سورة (يس) تفصّل قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ مما يدل على أنّ هذه الآية هي محور السورة. 1 - نلاحظ أن الكلام عن المرسلين يأخذ حيّزا من السّورة: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. كما نلاحظ أن السّورة تعرض علينا بعض آيات الله وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ ... وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ ... وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ .... 2 - نلاحظ أن قوله تعالى من سورة البقرة تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قد جاء في حيّز قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ لاحظ أَلَمْ تَرَ ونلاحظ في سورة (يس) تكرار ما يقارب هذه الصيغة أَلَمْ يَرَوْا .... أَوَلَمْ يَرَوْا ... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ .... لهذا كله قلنا: إنّ سورة (يس) هي نهاية مجموعتها، وأن محورها هو ما ذكرناه من سورة البقرة. ... ومع أن السورة تفصّل محورها ولها سياقها فهي كذلك تتكامل مع مجموعتها،

نقول: تقديم ابن كثير والألوسي وصاحب الظلال لسورة يس

فتكمّل معاني سورة فاطر، فسورة فاطر مثلا ذكر الله فيها إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وسورة (يس) تتحدّث عن الرسل ومهمتهم. ومما تقوله: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ فهي تكمّل ما بدأته سورة فاطر، وتزيده تفصيلا، إذ تتحدث عن المرسلين عامة ومهمتهم وموقف الناس ... ... بعد أن عرفنا أن سورة (يس) هي نهاية المجموعة السابقة، وعرفنا ما هو محورها نقول: إن سورة (يس) تتألف من مقطعين: المقطع الأول: ويمتد من أول السورة إلى نهاية قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي إلى نهاية الآية (30)، والمقطع الثاني، ويمتدّ إلى نهاية السورة. أي إلى نهاية الآية (83) ونلاحظ أن المقطع الثاني يتألف من مجموعات واضحة التقسيم، واضحة البدايات: أَلَمْ يَرَوْا أَلَمْ أَعْهَدْ أَلَمْ يَرَوْا أَوَلَمْ يَرَ .. نقول: [تقديم ابن كثير والألوسي وصاحب الظلال لسورة يس] 1 - [من تقديم ابن كثير لتفسير سورة (يس)] قدّم ابن كثير لتفسير سورة (يس) بأن ذكر الأحاديث والآثار الواردة في هذه السورة وفضلها، والحض على تلاوتها وحفظها. فلنذكر ما ذكره في هذه المقدمة مع حذف الأسانيد. قال ابن كثير: (روى أبو عيسى الترمذي ... عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن لكل شئ قلبا، وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن. وهارون أبو محمد- أحد رواة الحديث- شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا يصح لضعف إسناده، وعن أبي هريرة رضي الله عنه منظور فيه. أما حديث الصديق رضي الله عنه فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه أبو بكر البزار بإسناده عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن لكل شئ قلبا، وقلب القرآن يس» ثم قال لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد. وروى الحافظ

2 - ومن تقديم الألوسي لسورة (يس) ننقل ما يلي

أبو يعلى ... عن الحسن قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورا له، ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح مغفورا له» إسناده جيد. وروى ابن حبان في صحيحه ... عن الحسن عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عزّ وجل غفر له». وروى الإمام أحمد ... عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته؛ نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا. واستخرجت اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ من تحت العرش، فوصلت بها- أي فوصلت بسورة البقرة- ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله تعالى والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة. وروى الإمام أحمد ... عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: «اقرءوها على موتاكم يعني يس» ورواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك به إلا أن في رواية النسائي عن أبي عثمان عن معقل بن يسار رضي الله عنه، ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسّره الله تعالى، وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة وليسهل عليه خروج الروح والله تعالى أعلم. قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان قال: كان المشيخة يقولون: إذا قرئت- يعني يس- عند الميت خفف الله عنه بها. وروى البزار ... عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي» يعني يس). 2 - ومن تقديم الألوسي لسورة (يس) ننقل ما يلي: (صح من حديث الإمام أحمد. وأبي داود. والنسائي. وابن ماجه. والطبراني. وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال (يس) قلب القرآن وعد ذلك أحد أسمائها، وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالاعتراف بالحشر والنشر، وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه، ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه، واستحسنه الإمام الرازي، وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه، فلا وجه لاختصاص الحشر والنشر بذلك. وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار، ويرغب في الجنة دار الأبرار فيرتدع

3 - ومن كلام صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة

عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف، ويشتغل بالطاعات التي هي كحفظ الصحة، ومن لم يقو إيمانه به كان حاله على العكس، فشابه الاعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن، وبفساده يفسد، وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده، وهو غير مشاهد في الحس، وهو محل لانكشاف الحقائق والأمور الخفية، وكذا الحشر من المغيبات، وفيه يكون انكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور، وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية، وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلى بالشقاوة السرمدية. وفي الكشف: لعل الإشارة النبوية في تسمية هذه السورة قلبا، وقلب كل شئ لبه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته، وإما من متمماته إلى ما أسلفناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد، وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك، وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم، ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان. اه). (ووجه اتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة فاطر قوله سبحانه وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ وقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وأريد به محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد أعرضوا عنه وكذبوه افتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة والسلام، وأنه على صراط مستقيم، لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في فاطر: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ وفي هذه السورة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره صلّى الله عليه وسلم أيضا فتأمل). 3 - ومن كلام صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثمّ جاء عدد آياتها ثلاثا وثمانين. بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها- سورة فاطر- وعدد آياتها خمس وأربعون. وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص، فتتلاحق إيقاعاتها، وتدق على الحس دقات متوالية، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار).

(هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة- بصفة خاصة- ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنسانا وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون!). (وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه: منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار .. ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ. فَيَكُونُ .. وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.). ... ولنبدأ عرض السّورة.

المقطع الأول ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (30) وهذا هو مع البسملة

المقطع الأول ويمتدّ من الآية (1) إلى نهاية الآية (30) وهذا هو مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 36/ 30 - 1

التفسير

36/ 18 - 30 التفسير: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة، وصف بالحكيم لأنّه كلام الله الحكيم إِنَّكَ يا محمد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هذا هو المقسم عليه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريقة مستقيمة وهو الإسلام. قال ابن كثير: أي على نهج ودين قويم وشرع مستقيم تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ قال النسفي: (العزيز الغالب بفصاحة نظم كتابه أوهام ذوي العناد، الرحيم الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام أولي الرشاد). وقال ابن كثير: أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين لِتُنْذِرَ قَوْماً أي أرسلت لتنذر قوما ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي لم ينذر آباؤهم من قبل فَهُمْ غافِلُونَ. قال ابن كثير: (يعني بهم العرب فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم، كما أن ذكر بعض

نقول

الأفراد لا ينفي العموم، وقد تقدّم ذكر الآيات والاحاديث المتواترة في عموم بعثته صلّى الله عليه وسلم ... ). ... نقول: 1 - [كلام لصاحب الظلال حول قوله تعالى وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ] بمناسبة قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ قال صاحب الظلال: (ويصف القرآن- وهو يقسم به- بأنه «القرآن الحكيم». والحكمة صفة العاقل. والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة. وهي من مقتضيات أن يكون حكيما. ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها. فإن لهذا القرآن لروحا! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره؛ ويقف ينصت إذا سمع من يرتل هذا القرآن. كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب! والقرآن حكيم. يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه. ويضرب على الوتر الحساس في قلبه. ويخاطبه بقدر. ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه. والقرآن حكيم. يربي بحكمة، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم. منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم. ويقرر للحياة نظاما كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم.). 2 - [كلام للآلوسي حول آية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ] وبمناسبة قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قال الألوسي: (والمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون وإلا فالأبعدون قد أنذرهم إسماعيل عليه السلام، وبلغهم شريعة إبراهيم عليه السلام). كلمة في السياق: [الآيات (1 - 6) وفحوى الرسالة المحمدية ومضمونها وحكمتها] ذكرت هذه الآيات أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول، وأن رسالته هي الصراط المستقيم، وأن رسالته من عند الله، وأن الحكمة منها إنذار قومه أولا فإذا تذكرنا محور السورة

[سورة يس (36): آية 7]

وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ نعلم أن السورة تبدأ بتبيان فحوى الرسالة ومضمونها وحكمتها فإذا استقرّ ذلك فإن السياق يبدأ بعرض موقف الكافرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن دعوته. ... لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي وجب وثبت، والقول: هو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. عَلى أَكْثَرِهِمْ دلّ على أن القليل فقط هم الذين يؤمنون فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب، لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر، فبسبب ذلك هم لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون رسله. قال ابن جرير في معنى الآية: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتّم عليهم في أمّ الكتاب أنهم لا يؤمنون إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الغل: هو ما تجمع به اليدان إلى العنق، ولما كان هذا معروفا اكتفى بذكر الأعناق عن ذكر الأيدي فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال مجاهد: (أي) رافعي رءوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم فهم مغلولون عن كل خير، أي مرفوعة رءوسهم بشكل لا يدعهم الغل يطأطئون رءوسهم. قال النسفي: مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدّامهم، ولا ما خلفهم في ألّا تأمّل لهم ولا تبصّر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله بقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا أي وجعلنا من أمامهم سدا عن الحق ومن خلفهم سدا عن الحق فَأَغْشَيْناهُمْ أي فأغشينا أبصارهم عن الحق أي غطّيناها وجعلنا عليها غشاوة فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق والرشاد أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: جعل الله تعالى هذا السّدّ بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه وقرأ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97] ثم قال: من منعه الله تعالى لا يستطيع وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي سواء عليهم الإنذار وتركه. والمعنى: من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار.

[سورة يس (36): آية 11]

قال ابن كثير: (أي قد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثّرون به) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي وخاف عقاب الله مع أنّه لا يراه أو خاف الله حيث لا يراه أحد إلّا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل. والمعنى: إنما ينتفع بإنذارك الذين اجتمع لهم اتباع القرآن العظيم وخوف الله، ممّا يفيد أنّ اتباع القرآن والخوف من الله هما بداية السير، وبداية قبول الموعظة والتذكير. فهذه مسلّمة لا بد منها للسير إلى الله فَبَشِّرْهُ أي بشر المتّبع للذكر الخائف من الله بِمَغْفِرَةٍ أي لذنوبه وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي كثير واسع حسن جميل. أي الجنة. ثم ذكر تعالى ما يثير الخشية منه ويبعث عليها فقال: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي يوم القيامة. أي نبعثهم بعد مماتهم وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي من الأعمال أي ما أسلفوا في حياتهم الدنيا وَآثارَهُمْ أي ما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علّموه أو كتاب صنّفوه، أو وقف وقفوه، أو رباط أو مسجد صنعوه، أو من أثر سيئ كوظيفة وظّفها بعض الظلمة، وكذلك كل سنّة حسنة أو سيئة يستنّ بها وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي عددناه وبيّناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي موضح يعني اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب ومقتداها. قال ابن كثير: (أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا: هو أم الكتاب، قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم). كلمة في السياق: 1 - ما مرّ فيه تعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتعليم. فالتعزية هي في تبيان أن كفر الكافرين إنما هو بالله، وله في ذلك حكمة، فلا يحزنك ذلك، وفيه تعليم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في إراءته أين يثمر إنذاره، ولا يعني هذا ألا ينذر وألا يقيم الحجة، بدليل أن الآيات اللاحقة تبدأ بقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ... لأن من كتب الله عليهم الشقاوة غير معروفين بأعيانهم، إلا بتعريف الله عزّ وجل، وقد مرّ معنا في أول سورة الأنبياء أن من هذا شأنهم هم من توفرت فيهم مجموعة صفات على كمالها وتمامها، ولا أحد يعلم ذلك إلا الله، ومن ثمّ فلا بد من الإنذار وإقامة الحجة، وإذا كان في ما مر تعزية وتعليم فلا يذهبن أحد أن الآيات تفيد الجبر، بل الإنسان مختار، والجمع بين اختيار الإنسان وكون كل شئ بعلم الله وإرادته وقدرته ذكرناه في مكان آخر من هذا التفسير، فعلم الله كاشف لا مجبر، والإرادة تخصص على وفق العلم،

فوائد

والقدرة تبرز على وفق الإرادة. مع العلم أن صفات الله أزلية، وأن علم الله وإرادته أزليان، فمن الأزل علم ومن الأزل أراد دون ترتيب. 2 - نلاحظ أن المعاني الأولى في سورة البقرة قد مرت معنا في هذه الآيات مما يشير إلى أهمية هذه المعاني في رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وإذا كانت هذه المعاني قد تضمنتها السور السبع الماضية من هذه المجموعة، فهذا يرينا كيف أن السورة تكرّ على ما مضى لتضعه في محله من موضوع الرسالة والرسول الذي هو مضمون سورة يس، ومن قبل كنّا ذكرنا أن التفصيل في محور تفصيل فيه وفي امتدادات معانيه، وفي ارتباطاته من سورة البقرة. 3 - نلاحظ أنه بعد أن ذكر الله عزّ وجل ما ذكر من قواعد ومعان يأمر فيما يأتي رسوله صلّى الله عليه وسلم بأن يضرب مثلا في موقف أهل مدينة من رسلهم، وماذا كان عقابهم، ممّا يفيد أن الرسول صلّى الله عليه وسلم عليه واجب الإنذار، ولو علم أن إنذاره لا يفيد وهو شيء علمناه من أول السورة: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ مع أن أكثر القوم بنص الآيات لا يؤمنون: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وقبل أن نرى المثل فلننقل بعض فوائد ما مر. فوائد: 1 - [كلام النسفي بمناسبة آية وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قال النسفي: (وروي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية على غيلان القدري فقال: كأني لم أقرأها، أشهدك أني تائب عن قولي في القدر، فقال عمر: اللهم إن صدق فتب عليه، وإن كذب فسلط عليه من لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من عنده فقطع يديه ورجليه، وصلبه على باب دمشق). 2 - [حول سبب نزول قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا .. ] في سبب نزول قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا ... إلى فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. قال ابن كثير: (وقال عكرمة: قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأفعلن، ولأفعلن فأنزلت إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: وكانوا يقولون هذا محمد، فيقول: أين هو أين هو؟ لا يبصر، ورواه ابن جرير؛ وقال محمد ابن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب

3 - قولان لابن كثير حول آية ونكتب ما قدموا وآثارهم ودليل لكل قول وتعليق عليهما

قال: قال أبو جهل- وهم جلوس- إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا فإذا متّم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم نار تعذبون بها، وخرج عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه فجعل يذرها على رءوسهم ويقرأ يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى انتهى إلى قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لحاجته، وباتوا رصداء على بابه، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال مالكم؟ قالوا: ننتظر محمدا قال: وقد خرج عليكم فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه ترابا، ثم ذهب لحاجته، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال: وقد بلغ النبي صلّى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: «أنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحا وإني لآخذهم»). أقول: يبدو أن هذه الحادثة كانت قبيل الهجرة. 3 - [قولان لابن كثير حول آية وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ودليل لكل قول وتعليق عليهما] رأينا معنى قوله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ إذ ذكرنا أن معناها: ما أسلفوا وما هلكوا عنه من أثر حسن أو سيئ، ولم نذكر غير هذا القول. وقد ذكر ابن كثير قولا آخر في ذلك وبعد أن ذكر القولين ودليل كلّ قال: (وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى؛ فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى). أما وقد عرفنا أنه لا تنافي بين القولين فلنذكر القولين ودليل كلّ كما عرضهما ابن كثير، قال رحمه الله: (وفي قوله تعالى وَآثارَهُمْ قولان (أحدهما): نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر كقوله صلّى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ» رواه مسلم، وفيه قصة مجتابي الثمار المضربين، وأخرجه ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله ثم تلا هذه الآية وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة، وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن

أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده» وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت مجاهدا يقول في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ قال: ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ يعني: ما أثروا، يقول ما سنّوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم فإن كانت خيرا فلهم مثل أجورهم، لا ينقص من أجر من عمل به شيئا، وإن كانت شرا فعليهم مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئا ذكرهما ابن أبي حاتم، وهذا القول هو اختيار البغوي. (والقول الثاني): أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد ما قَدَّمُوا أعمالهم وَآثارَهُمْ قال: خطاهم بأرجلهم، وكذا قال الحسن وقتادة وَآثارَهُمْ يعني: خطاهم. وقال قتادة: لو كان الله عزّ وجل مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره، وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى، أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد أوردت في هذا المعنى أحاديث: (الحديث الأول) روى الإمام أحمد ... عن أبي نضرة عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لهم: «إني بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد» قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم» وهكذا رواه مسلم. (الحديث الثاني) روى ابن أبي حاتم ... عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد فنزلت إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا، تفرد بإخراجه الترمذي عند تفسيره هذه الآية الكريمة عن محمد ابن الوزير به ثم قال حسن غريب من حديث الثوري، ورواه ابن جرير عن أبي نضرة به، وقد رواه البزار من غير طريق الثوري. روى الحافظ أبو بكر البزار ... عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فأقاموا في مكانهم.

ولنمض في التفسير

وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية والسورة بكمالها مكية فالله أعلم. (الحديث الثالث) روى ابن جرير ... عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقالوا: نثبت مكاننا، هكذا رواه وليس فيه شئ مرفوع، ورواه الطبراني ... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فثبتوا في منازلهم. (الحديث الرابع) روى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: توفي رجل بالمدينة فصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «يا ليته مات في غير مولده» فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة» ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى وابن ماجه عن حرملة كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به، وروى ابن جرير ... عن ثابت قال: مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدا، فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي فقال يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى؛ فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم). ولنمض في التفسير: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي اذكر لهم قصة عجيبة هي قصة أصحاب القرية. قال ابن كثير: (يقول تعالى: واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك مثلا أصحاب القرية) إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ أي إلى أهل القرية اثْنَيْنِ أي رسولين فَكَذَّبُوهُما أي بادروهما بالتكذيب فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث فَقالُوا أي الرسل الثلاثة لأهل القرية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له قالُوا أي أصحاب القرية ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا قال ابن كثير: (أي فكيف أوحى إليكم وأنتم بشر ونحن بشر فلم لا أوحى إلينا مثلكم، ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة ... ). وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ

[سورة يس (36): آية 16]

شَيْءٍ أي من الوحي أي وما أنزل الله وحيا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي وما أنتم إلا كذبة، فلغة الكافرين في كل زمان ومكان واحدة قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ قال ابن كثير: (أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشدّ الانتقام، ولكنّه سيعزّنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة بصحته. قال ابن كثير: (يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والأخرى، وإن لم تجيبوا فستعلمون غبّ ذلك) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي قال لهم أهل القرية ذلك. ومعنى تطيرنا بكم: تشاءمنا بكم. قال النسفي: (وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمّنوا بكل شئ مالوا إليه، وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة ذلك). وقال ابن كثير فيها: (أي لم نر على وجوهكم خيرا في عيشنا. وقال قتادة: يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم) لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي لنقتلنكم رجما بالحجارة أو المعنى: لنطردنّكم أو لنشتمنّكم وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي ليصيبنّكم منا عذاب شديد. أي عقوبة شديدة، وذلك دأب الظالمين مع الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان، إذ تفوتهم الحجة يلجئون إلى التهديد والوعيد، ثم التنفيذ قالُوا أي الرسل طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر، أو شؤمكم مردود عليكم، قابلوا الكلام بمثله ممّا يدلّ على جواز الانتصار لتبيان الحق أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي أإن وعظتم ودعيتم إلى الإسلام تطيّرتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي مجاوزون الحدّ في العصيان فمن ثمّ أتاكم الشؤم من قبلكم لا من قبل رسل الله وتذكيرهم. قال النسفي: (أو بل أنتم مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ أي من أبعدها رَجُلٌ يَسْعى أي يسرع قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ حضّ قومه على اتباع الرسل الذين جاءوهم اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً أي على إبلاغ الرسالة وَهُمْ أي الرسل مُهْتَدُونَ فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي وإليه مرجعكم يوم القيامة، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع

[سورة يس (36): آية 24]

إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ أي مكروه لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ أي هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا يملكون من الأمر شيئا، فإن الله تعالى لو أرادني بسوء فإن هذه الأصنام لا تستطيع كشفه، ولا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذونني مما أنا فيه إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ظاهر بيّن أي إن اتخذتها آلهة من دون الله إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ هل هذا القول قاله للرسل ليشهدوا له، أو قاله لقومه متحدّيا عند ما أخذوا يقتلونه؟ قولان قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ دلّ على أنهم قتلوه فكافأه الله عزّ وجل بالجنة. قال ابن كثير: فدخلها فهو يرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. فلما رأى الثواب قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي بمغفرة ربي لي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ أي بالجنة بإيماني بربي، وتصديقي المرسلين. قال ابن كثير: (ومقصوده أنهم لو اطّلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء، والنعيم المقيم؛ لقادهم ذلك إلى اتّباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لتعذيبهم ونصر رسلنا وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قومه جندا من السماء، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك. قال ابن مسعود: أي ما كاثرناهم بالجموع، الأمر كان أيسر من ذلك إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. قال ابن كثير: (قال المفسرون: بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة؛ فإذا هم خامدون عن آخرهم، لم تبق بهم روح تتردد في جسد) فَإِذا هُمْ خامِدُونَ قال النسفي: (أي ميّتون كما تخمد النّار) والمعنى: أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك، ولم ينزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ أي يا ويل العباد. وقال قتادة أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيّعت من أمر الله، وفرّطت في جنب الله. وقال النسفي: الحسرة: شدة الندم، وهذا نداء الحسرة عليهم، كأنما قيل لها تعالي يا حسرة، فهذه من أحوالك التي حقّك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى: أنّهم أحقاء أن يتحسّر عليهم المتحسّرون ويتلهف على حالهم المتلهفون، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. وقال ابن كثير: ومعنى هذا يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة، إذا عاينوا العذاب كيف كذّبوا رسل الله، وخالفوا

نقل: عن صاحب الظلال عند قوله تعالى على لسان الكافرين للرسل إنا تطيرنا بكم

أمر الله لقد كان المكذبون منهم في الدار الدنيا ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يكذبونه ويستهزءون به، ويجحدون ما أرسل به من الحق. وبهذا انتهى المقطع الأول. نقل: [عن صاحب الظلال عند قوله تعالى على لسان الكافرين للرسل إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ] بمناسبة قوله تعالى على لسان الكافرين للرسل إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ قال صاحب الظلال: (فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة؛ وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم. إنما هو معهم. مرتبط بنواياهم وأعمالهم، متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا أو أن يجعلوه شرا. فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه، ومن خلال اتجاهه، ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح. أما التشاؤم بالوجوه، أو التشاؤم بالأمكنة، أو التشاؤم بالكلمات ... فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم!). كلمة في السياق: ضرب الله عزّ وجل هذا المثل بعد أن ذكر موقف كافري هذه الأمة من الإنذار، وبعد أن ذكر من هم الذين يستفيدون من الإنذار، فكان هذا المثل إنذارا للمعرضين، وتبشيرا للمستجيبين. وعرفنا به سنة من سنن الله عزّ وجل في نصرة رسله، وعرفنا طريقة من طرق الأداء عن الله، ومظهرا من مظاهر الإيمان الصادق بالرسل عليهم الصلاة والسلام، واتصال المقطع بمحور السورة وهو قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ واضح؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام واحد من المرسلين الذين أرسلهم الله ليبلغوا عنه، ومن خالف هؤلاء الرسل فإن عقابه آتيه في الدنيا قبل الآخرة. ... فوائد: 1 - [دروس في فقه الدعوة إلى الله] من فقه الدعوة في هذه القصة أن تكليف ثلاثة في شأن الدعوة غاية في القوة. فقد أرسل الله أولا اثنين لأهل القرية، كما أرسل موسى وهارون إلى فرعون. ثم

2 - حول عقيدة سكان أطراف المدينة ووسطها بمناسبة آية وجاء من أقصا المدينة ..

عزّز بثالث هنا، ومن ثمّ نفهم أن تكليف ثلاثة في مهمّة دعوية أقوى، مع تحديد الأمير. 2 - [حول عقيدة سكان أطراف المدينة ووسطها بمناسبة آية وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ .. ] من قوله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى فهم بعضهم أن أطراف المدينة أقرب إلى الفطرة، ومن ثمّ فهم أدعى إلى الاستجابة، وبعضهم يقول إن الحادثة تدل على أن وسط المدينة أكثر تمسكا بما ورثوه من عقائد، وهذا كما ينطبق على عقائد باطلة، ينطبق على عقائد حق، وبالتالي يختلف هذا باختلاف ما إذا كان البلد إسلاميا أو لا. 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى على لسان مؤمن (يس) يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ] بمناسبة قوله تعالى على لسان مؤمن (يس) يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا لا تلقاه غاشا. لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله، وما هجم عليه، وقال ابن عباس نصح قومه في حياته بقوله يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وبعد مماته في قوله يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ رواه ابن أبي حاتم، وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بإيماني بربي، وتصديق المرسلين، ومقصوده: أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من الثواب والجزاء، والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه. روى ابن أبي حاتم ... عن عبد الملك- يعني ابن عمير- قال: قال عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إني أخاف أن يقتلوك» فقال لو وجدوني نائما ما أيقظوني، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «انطلق» فانطلق فمرّ على اللات والعزى فقال: لأصبّحنك غدا بما يسوؤك فغضبت ثقيف، فقال يا معشر ثقيف إن اللات لا لات وإن العزى لا عزى أسلموا تسلموا، يا معشر الأحلاف، إن العزى لا عزى، وإن اللات لا لات، أسلموا تسلموا، قال ذلك ثلاث مرات فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هذا مثله كمثل صاحب يس» قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ. وروى محمد بن إسحاق ... عن كعب الأحبار أنه ذكر له حبيب ابن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة

4 - تحقيق حول اسم القرية التي ضربها الله مثلا في سورة يس

حين جعل يسأله عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فجعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول نعم ثم يقول أتشهد أني رسول الله فيقول لا أسمع فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول نعم، فجعل يقطعه عضوا عضوا، كلما سأله لم يزده عن ذلك، حتى مات في يديه، فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه حبيب). 4 - [تحقيق حول اسم القرية التي ضربها الله مثلا في سورة يس] ما اسم هذه القرية؟ لا توجد روايات عن رسولنا عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن وإنما هناك روايات مرجعها أهل الكتاب تلقاها الكثير بالقبول، وهي محل نظر، ولا يترتب على الأمر عمل، وإلا لكان الله عزّ وجل أو رسوله صلّى الله عليه وسلم سمى لنا ذلك. وقد حقق ابن كثير في أمر اسم القرية فقال: (وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه (أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عزّ وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ إلى أن قالوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، والله تعالى أعلم، ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. (الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة وهنّ (القدس) لأنها بلد المسيح و (أنطاكية) لأنها أول بلد آمنت بالمسيح عن آخر أهلها و (الإسكندرية) لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين. ثم (رومية) لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم، كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين. فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم والله أعلم. (الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك

بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تبارك وتعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: 43] فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني ... عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس، والسابق إلى محمد صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه» فإنه حديث منكر، لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر وهو شيعي متروك، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب). هذا تحقيق ابن كثير في اسم القرية. والذي يبدو لي أن من أسلم من علماء أهل الكتاب قرءوا في كتبهم أن أنطاكية ذهب إليها ثلاثة من تلاميذ المسيح؛ فظنوا أن القصة يراد بها هذه الحادثة، وتابعهم الكثير على ذلك، وهذا من ضعف التحقيق، فإنه لا يكفي أن تكون صلة ما بين شئ وشئ حتى نحكم أن هذا الشئ هو هو، والذي يبدو أنّ اسم مؤمن (يس) من هذا الباب؛ إذ إن الغالب في اسمه أنه منقول عن أهل الكتاب، وليسوا حجة قاطعة. قال ابن كثير: (قال ابن اسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه أن أهل القرية همّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى أي لينصرهم من قومه قالوا وهو حبيب، وكان يعمل الحرير، وهو الحباك، وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه، مستقيم الفطرة، وقال ابن إسحاق عن رجل سماه عن الحكم عن مقسم أو مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اسم صاحب يس حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه. وقال الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسمه حبيب ابن سري، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه وقال السدي كان قصارا، وقال عمر بن الحكم كان إسكافا، وقال قتادة كان يتعبد في غار هناك). من هذه النقول ندرك أن تسمية مؤمن (يس) باسم (حبيب) مرجعه في الغالب

5 - عروة بن مسعود الثقفي يشبه حاله حال مؤمن (يس)

كلام أهل الكتاب الذين أعطونا تصورا أن الرسل الثلاثة هم رسل عيسى عليه السلام، أو من تلاميذه حتى إن بعضهم سماهم فقال هم شمعون، ويوحنا، والثالث بولس. وهذا كلام بعيد عن التحقيق، فالله عزّ وجل أعلم أين وقعت الحادثة فإن رسل الله عزّ وجل كثيرون، ولم تخل أمة من رسول، وفي هذا العالم بلاد كثيرة عذّبت لم يشر القرآن إليها بأعيانها، ولكن آثار عذابها لا زالت باقية شاهدة، والقاعدة العامة هي أن كل مدينة عذبت لم تعذب إلا بعد إقامة الحجة عليها. قال تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص: 59]. فهذه بيروت يقال إنها بيروت السابعة بمعنى أن الله عزّ وجل زلزل بها ست مرات، وفي كل مرة يعاد بناؤها، وهذه (بومبي) في إيطاليا التي أهلكها الله عزّ وجل ببركان فيزوف المجاور، وهي الآن عجب من العجب فعلى بابها كما حدثني من شاهد ذلك تمثال لرجل يضع الذّكر في كفة ميزان، وفي الكفة الأخرى يوجد الذهب، مما يدل على أن رمز المدينة القديم: الشهوة، والمال، وقد يرمز التمثال إلى شئ آخر، وقد خلّف لنا البركان هياكل بشرية متحجّرة تدل على الحال الذي نزل عليها العذاب، فهناك جسد رجل متحجّر وهو يجامع امرأة وغير ذلك من مناظر الاعتبار. أقول هذا ليعلم أن المدن التي نزل بها العذاب كثيرة. ففي سوريا مثلا تجد أفاميا، وتجد كثيرا من البلدان المندثرة تكشف عنها الحفريات، وكلها مظنة عذاب، فإن نحمل قصة المرسلين الثلاثة على أن المراد بها بلد بعينها من دون دليل بل الدليل على خلاف ذلك، فإن هذا تسرّع لا ينبغي أن نتعامل به مع كتاب الله عزّ وجل. 5 - [عروة بن مسعود الثقفي يشبه حاله حال مؤمن (يس)] نادرا ما تجد خيرا أو قدوة عليا في أمة من الأمم إلا وتجد في أمتنا مثله، فهذا عروة بن مسعود الثقفي الذي نقلنا قصته من قبل يشبه حاله حال مؤمن يس. 6 - [دروس من قصة مؤمن يس حول القتل في سبيل الله] من قصة مؤمن يس ندرك ضلال من يظن أن القتل في سبيل الله علامة على خطأ السير أو علامة على تهوّر صاحبه، إن القتل في سبيل الله له مردوده الكبير في العمل الإسلامي، إن في نفسية الظالمين أو في نفسية المؤمنين في الدنيا والآخرة على الشهيد وعلى المسلمين بل على العالم كله. ... ولننتقل إلى المجموعة الأولى من المقطع الثاني.

المقطع الثاني وهو الآيات (31 - 83) ويتألف من ثلاث مجموعات

المقطع الثاني [وهو الآيات (31 - 83) ويتألف من ثلاث مجموعات] المجموعة الأولى من المقطع الثاني وتمتدّ من الآية (31) إلى نهاية الآية (70) وهذه هي: 36/ 70 - 31

36/ 47 - 66

ملاحظة في السياق: صلة مجموعات المقطع الثاني ببعضها البعض وصلته بالمقطع الأول

36/ 67 - 70 ملاحظة في السياق: [صلة مجموعات المقطع الثاني ببعضها البعض وصلته بالمقطع الأول] تبدأ هذه المجموعة بقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا وسنرى أن المجموعة الثانية تبدأ ب أَوَلَمْ يَرَوْا مما يشير إلى أن المجموعة الثانية معطوفة على الأولى، ثم نرى أن المجموعة الثالثة مبدوءة بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ ... مما يدل على أنها معطوفة على سياق الأولى والثانية. وهذا الذي جعلنا نعتبر أن ما بقي من السورة يشكّل مقطعا واحدا، وهذا يفيد أن الضمير في قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يعود على العباد عامة الوارد ذكرهم في قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهي الآية الآتية مباشرة قبل المقطع الثاني. ... إن الهدف من السياق هم المخاطبون من هذه الأمة، وهم الذي ورد من أجلهم قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ... والآن يخاطبون بقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ... فبعد أن بيّن المقطع الأول أن محمدا صلّى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه يدعو إلى صراط الله المستقيم، وأن الأكثرين يرفضون هذه الدعوة، وأن الأقلّين يقبلونها، وهم الذين اتبعوا الذكر وخافوا الله. أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يضرب لهم مثلا يبعث على الخشية. والآن يخاطبهم بما يبعث الخشية، وبما تقوم به الحجة، وبما يبعث على العمل الذي يؤدي إلى السير. فكما أن سورة فاطر ركّزت على نقطة البداية في السّير، فإنّ سورة (يس) تكمّل هذا الموضوع. ...

تفسير الفقرة الأولى

تفسير الفقرة الأولى أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم هؤلاء المرسل إليهم كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ قال النسفي: (أي) ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. وقال ابن كثير: (أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذّبين للرّسل، كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرّة ولا رجعة). أقول: وفي هذا ردّ واضح على القائلين بالتناسخ أو بالدور وَإِنْ أي وما كُلٌّ أي جميع الأمم الماضية والآتية لَمَّا أي إلا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي وما كلهم إلا محشورون مجموعون محضرون للحساب أو معذّبون. قال ابن كثير: (أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عزّ وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلها، خيرها وشرها. كلمة في السياق: بدأ المقطع الثاني بالإنذار، وذلك بالتذكير بهلاك السابقين، وعدم عودتهم، وبالتذكير برجوع الخلق كلهم إلى الله عزّ وجل. وبعد هذه الفقرة الخالصة في التذكير، تأتي الآن ثلاث فقرات كل منها مبدوءة بقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ ... وفي ذكر الآيات في هذا السياق تدليل على قدرته تعالى على الإهلاك وعلى البعث، كما أن في ذكر الآيات في سياق السورة ما يقوم به الدليل على الإرسال من عدة نواح سنراها. ***

تفسير الفقرة الثانية

تفسير الفقرة الثانية وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي وعلامة تدل على أن الله يبعث الموتى إحياء الأرض اليابسة، أو ودلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى إحياء الأرض الهامدة، التي لا شئ فيها من النبات وَأَخْرَجْنا مِنْها من الأرض حَبًّا فَمِنْهُ أي من الحب يَأْكُلُونَ أي جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم وقد قدم الجار والمجرور (فمنه) ليدل على أن جنس الحب هو الشيء الذي يتعلّق به معظم العيش، ويقوم بالأرزاق منه صلاح الإنس، وإذا قلّ جاء القحط، ووقع الضرّ، وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لمّا امتنّ على خلقه بإيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثّمار وتنوّعها، وأصنافها بذكر أهمّها وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي وجعلنا في الأرض أنهارا سارحة، وآبارا ثابتة لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي ليأكلوا من ثمر الله، أو ليأكلوا من ثمر ما مرّ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قال ابن كثير: (أي وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لا بسعيهم ولا كدّهم، ولا بحولهم وقوتهم). وعلى هذا فإن ابن كثير يعتبر أنّ (ما) في الآية نافية، ورجّح غيره أن (ما) اسم موصول والتقدير ليأكلوا من ثمره ومن الذي عملته أيديهم من الغرس والسّقي والتلقيح، وغير ذلك من الأعمال، ليبلغ الثمر منتهاه، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كدّ بني آدم أَفَلا يَشْكُرُونَ الله على نعمه باتّباع رسله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف كلها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي من زروع وثمار ونبات وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أي الأولاد ذكورا وإناثا وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها، ولا توصّلوا إلى معرفتها. وبهذا انتهت الفقرة الثانية من المجموعة. نقل: [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها .. ] بمناسبة قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ قال صاحب الظلال: (وهذه التسبيحة تنطلق في أوانها وفي موضعها؛ وترتسم معها حقيقة ضخمة من حقائق هذا الوجود. حقيقة وحدة الخلق .. وحدة القاعدة والتكوين .. فقد خلق الله الأحياء أزواجا. النبات فيها كالإنسان. ومثل ذلك غيرهما .. مِمَّا لا يَعْلَمُونَ. وإن هذه الوحدة لتشي بوحدة اليد المبدعة. التي توجد قاعدة التكوين مع اختلاف

كلمة في السياق: حول مضمون الفقرة الثانية وسياقها

الأشكال والأحجام والأنواع والأجناس، والخصائص والسمات، في هذه الأحياء التي لا يعلم علمها إلا الله .. ومن يدري فربما كانت هذه قاعدة الكون كله حتى الجماد! وقد أصبح معلوما أن الذرة- أصغر ما عرف من قبل من أجزاء المادة- مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربي، سالب وموجب يتزاوجان ويتحدان! كذلك شوهدت ألوف من الثنائيات النجمية. تتألف من نجمين مرتبطين يشد بعضهما بعضا، ويدوران في مدار واحد كأنما يوقعان على نغمة رتيبة!). كلمة في السياق: [حول مضمون الفقرة الثانية وسياقها] يلاحظ أنه في آخر سياق الآيات قال تعالى: أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وهذا يشير إلى أن الآية التي ذكرت في ابتداء الفقرة إنّما ذكرت لاستخراج الشكر وتنزيه الله، وهذا فحوى كل رسالة ابتعث الله عزّ وجل بها رسله. فالفقرات الثلاث التي تعرض لنا آيات ثلاثا كبارا تعرّفنا على الله عزّ وجل، وعلى ضرورة شكره، ثم إن عرض هذه الآيات في سياق هذه السورة يشير إلى أن الله عزّ وجل الذي فعل هذا كله للإنسان لم يفعله سدى، ولن يترك عباده سدى، ومن ثمّ أرسل الرسل الذين تحدّث عنهم في المقطع الأول من السّورة. ***

تفسير الفقرة الثالثة

تفسير الفقرة الثالثة وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شئ من ضوء النهار، أو ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض فيعرى، أو نصرفه منه فيذهب فيقبل الليل فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في الظلام. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي وآية لهم الشمس تسير لمستقر لها. قال الألوسي: (أي لحد معيّن تنتهي إليه من فلكها في آخر السّنة) وقال النسفي: (أو لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا) ذلِكَ أي الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي الغالب بقدرته على كل مقدور الْعَلِيمِ بكل معلوم فهو الذي قدّر ذلك ووقّته على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ قال ابن كثير: (أي جعلناه يسير سيرا آخر يستدل به على مضي الشهور، كما أنّ الشمس يعرف بها الليل والنهار). وتعرف بها السنة الشمسية. والمعنى: والقمر قدّرنا نوره منازل فيزيد وينقص، أو قدّرنا مسيره منازل. قال النسفي: (وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة في واحد منها، لا يتخطاه، ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستو يسير فيها من ليلة المستهل، إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين، أو ليلة إذا نقص الشهر حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي فإذا كان آخر منازل القمر دقّ واستقوس حتى عاد كقضيب النّخل إذا يبس واعوجّ وتقادم. قال النسفي: (إذا قدم دق وانحنى واصفر، فشبّه القمر به من ثلاثة أوجه) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ قال النسفي: (أي لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم أن تدرك القمر فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره. لأن لكل واحد من النيّرين سلطانا على حياله؛ فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل) قال قتادة في الآية: يعني أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ قال الضحاك: لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجئ النهار من هاهنا. وقال مجاهد: يطلبان حثيثين يسلخ أحدهما من الآخر. قال ابن كثير: (والمعنى في هذا: أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة، ولا تراخ؛ لأنهما مسخّران دائبان، يتطالبان طلبا حثيثا) وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ قال ابن كثير: (يعني الليل والنهار، والشمس والقمر، كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء، قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني). وقال النسفي في يَسْبَحُونَ أي يسيرون.

نقول من الظلال

نقول [من الظلال]: 1 - [حول قوله تعالى وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ .. ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ: (ومشهد قدوم الليل، والنور يختفي والظلمة تغشى .. مشهد مكرور يراه الناس في كل بقعة في خلال أربع وعشرين ساعة (فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب) وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعو إلى التأمل والتفكير. والتعبير القرآني عن هذه الظاهرة- في هذا الموضع- تعبير فريد. فهو يصور النهار ملتبسا بالليل؛ ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون. ولعلنا ندرك شيئا من سر هذا التعبير الفريد حين نتصور الأمر على حقيقته. فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس تمر كل نقطة منها بالشمس؛ فإذا هذه النقطة نهار؛ حتى إذا دارت الأرض وانزوت تلك النقطة عن الشمس، انسلخ منها النهار ولفها الظلام- وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام، وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام. فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير). ... 2 - [بمناسبة قوله تعالى وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها .. ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها: والشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها، ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها، إنما هي تجري فعلا، تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية. والله ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها يقول: (إنها تجري لمستقر لها). هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه ولا يعلم بوعده سواه. وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء لا يسندها شئ، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. ... 3 - [بمناسبة آية وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ .. ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ

4 - حول آية لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ..

كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ: (والعباد يرون القمر في منازله تلك. يولد هلالا. ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدرا. ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالا مقوسا كالعرجون القديم. والعرجون: هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة. والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة يدرك ظل التعبير القرآني العجيب: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ .. وبخاصة ظل ذلك اللفظ الْقَدِيمِ فالقمر في لياليه الأولى هلال. وفي لياليه الأخيرة هلال .. ولكنه في الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وفتوة. وفي الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم، ويكسوه شحوب وذبول. ذبول العرجون القديم! فليست مصادفة أن يعبر القرآن الكريم عنه هذا التعبير الموحي العجيب! والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة. والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة، لا ينجو من تأثرات واستجابات، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال؛ المدبرة للأجرام بذلك النظام. سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم. فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب، واستجاشة الشعور، وإثارة التدبر والتفكير). 4 - [حول آية لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ .. ] وقال صاحب الظلال في الآية الأخيرة من الفقرة: (وأخيرا يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. ولكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر نحو ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال ... وهذه المسافات على بعدها ليست شيئا يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا. وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية. وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة! (أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون

كلمة في السياق الفقرة الثالثة: حول ما يستوجب الشكر لله وتنزيهه

مليون ميل!). وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع- حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجئ بالليل والنهار لا تختل أبدا فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان!. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطا سابحة في ذلك الفضاء المرهوب. وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة. متناثرة في الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تافهة في ذلك الفضاء الفسيح!!). *** كلمة في السياق [الفقرة الثالثة: حول ما يستوجب الشكر لله وتنزيهه] عرض علينا ربنا في هذه الفقرة ما يستوجب شكره وتنزيهه، وعليهما مدار دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام. فالسورة كلها تستحث الإنسان ليتّبع رسل الله صلّى الله عليه وسلم. فالله عزّ وجل الذي فعل هذا كله للإنسان ينبغي أن يطاع بطاعة رسله واتّباعهم. ***

تفسير الفقرة الرابعة

تفسير الفقرة الرابعة وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء والمراد بالذرية الأولاد، ومن يهمّهم حمله وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ في البر وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ في البحر فَلا صَرِيخَ أي مغيث أو فلا إغاثة لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي ينجون مما أصابهم إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي إلّا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل، قال ابن كثير: (ولكن برحمتنا نسيّركم في البرّ والبحر ونسلمكم إلى أجل مسمّى) وبهذا انتهت الفقرات الثلاث التي عرضت ثلاث آيات كبار من آيات الله عزّ وجلّ. ... كلمة في السياق: لنتذكر محور السورة: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لاحظ الصلة بين قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وبين قوله تعالى هاهنا: وَآيَةٌ لَهُمُ وَآيَةٌ لَهُمُ وَآيَةٌ لَهُمْ وإذا تذكرنا الطاسينات الثلاث، نجد أن الكلام عن الآيات فيها واضح، فمثلا لاحظنا أن قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* قد تكرّر مرارا في سورة الشعراء وفي سورة النّمل وورد ذكر الآيات أكثر من مرة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.* وقد بدأت الطاسينات كلها بذكر الآيات وهكذا نجد كل سورة محورها الآية المذكورة في سورة البقرة تحدثنا عن الآيات، وتعطينا نماذج جديدة من آيات الله عزّ وجل التي يتلوها علينا في هذا القرآن وهذه سورة يس تذكّرنا بثلاث كبار من آيات الله عزّ وجل، كل آية منها تنطوي على آيات. فإذا تذكّرنا آية المحور تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ندرك أنّ لذكر الآيات صلة بموضوع الرسالة، وهو الشئ الذي يشهد له السياق. فالله عزّ وجل بعد أن قرر في المقطع الأول رسالة رسولنا عليه الصلاة والسلام، وحذّر من مخالفته فإنّه يذكّر بهذا المقطع بما يدعو إلى الإيمان به وبما يوصل إلى الإيمان برسوله وقبول نذارته، يدلّ على هذا الفقرة اللاحقة من هذه المجموعة إذ تقول: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فبعد أن ذكرت في الفقرات الثلاث الماضية

تفسير الفقرة الخامسة

الآيات المذكورة بيّن الله عزّ وجل أنهم مع كل هذه الآيات إذا دعوا إلى التقوى لا يستجيبون ... فلنر الفقرة الخامسة في المجموعة. تفسير الفقرة الخامسة وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ أي اتقوا ما تقدم من ذنوبكم وما تأخّر، أو اتقوا من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذّبة بأنبيائها وما خلفكم من أمر الساعة، أو اتقوا عذاب الله في الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لعلّ الله- باتقائكم ذلك- يرحمكم ويؤمّنكم من عذابه وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدالّة على التوحيد، وصدق الرسل إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها. أي دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة، دلّت الآية على أنّهم قابلوا الدّعوة إلى التقوى بالإعراض وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للكافرين أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي تصدّقوا على الفقراء قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ يقولون: أيفقره الله ونطعمه نحن. قال ابن كثير: (أي هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم، لو شاء الله لأغناهم، ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم) إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في أمركم لنا بذلك وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد البعث والقيامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أيها المؤمنون. كلمة في السياق: من مجئ هذه الفقرة بعد الفقرات الثلاث المصدرة كل منها بقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ نعلم أنّ رؤية الآيات المذكورة يقتضي تقوى، ويقتضي إنفاقا، ويقتضي إيمانا باليوم الآخر. ولكن الكافرين يرفضون التقوى مع التذكير بها، ويرفضون الإنفاق مع التذكير به، ويستبعدون في كل حال موضوع اليوم الآخر، عرفنا ذلك من مجئ الفقرة الأخيرة بعد الفقرات الثلاث. ومن السّياق نعرف أن رؤية آيات الله من قبل المؤمنين تجعلهم يأمرون غيرهم بالتقوى، والإنفاق، والإيمان باليوم الآخر. فرؤيتهم للآيات جعلتهم يؤمنون ويدعون غيرهم للإيمان. فالتذكير بالآيات يستتبع- عند المؤمنين- سلوكا، والكافرون لا يرفعون بشيء من ذلك رأسا، ولا يفقهون قولا، وها هو السياق فيما يأتي يذكّر هؤلاء وغيرهم بمشاهد من يوم القيامة ثم تختم المجموعة بالعودة إلى موضوع الرسول والإنذار. فلنعرض ما بقي من المجموعة.

[سورة يس (36): آية 49]

ما يَنْظُرُونَ أي ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال النسفي: هي النفخة الأولى تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ قال النسفي: والمعنى: تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا في معاملاتهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي أن يوصوا في شئ من أمورهم وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم. ويرى ابن كثير أن هذه هي نفخة الفزع، ثم تكون نفخة الصعق، ثم تكون نفخة البعث وَنُفِخَ فِي الصُّورِ قال النسفي: هي النفخة الثانية. وقال ابن كثير: هذه النفخة الثالثة وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي يعدون، قال ابن كثير: والنّسلان: هو المشي السريع قالُوا أي الكفار يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا أي من أنشرنا مِنْ مَرْقَدِنا أي مضجعنا. قال ابن كثير: (وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرّقاد. قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه، ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين فلذلك يقولون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون، قاله غير واحد من السلف) هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. قال ابن كثير: (وقال الحسن إنما يجيبهم بذلك الملائكة ولا منافاة إذ الجمع ممكن والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار ... نقله ابن جرير واختار الأول وهو أصح). كلمة في السياق: في قوله تعالى: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ما يشير إلى أن السياق الرئيسي للسورة يصب في موضوع تصديق الرسل، وقد ذكرنا أن محور السورة هو قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ... إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً قال النسفي: النفخة الأخيرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ للحساب.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أن الآية الثانية من هذه المجموعة هي قوله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ وهاهنا جاء قوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ فكأن الشئ الذي ذكر في مقدمة المجموعة يأخذ الآن مداه في التفصيل، وما بين ذلك ورد قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ ... وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ... ليكون ما ذكر في الوسط تدليلا على وقوع ما سيقع وإقامة حجة. ... فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً. قال ابن كثير: أي من عملها وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذه قاعدة الحساب إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ أي يوم القيامة فِي شُغُلٍ عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم فاكِهُونَ قال النسفي: الفاكه والفكه: المتنعم المتلذذ، وشغل أهل الجنة فسره النسفي فقال: وهو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار، أو ضرب الأوتار أو ضيافة الجبار. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ قال مجاهد: أي وحلائلهم فِي ظِلالٍ قال ابن كثير: أي في ظلال الأشجار عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ فهم في غاية المتعة واللذة والراحة لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ من جميع الأنواع وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ قال ابن كثير: أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذّ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال النسفي: والمعنى أن الله يسلّم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم وذلك متمنّاهم، ولهم ذلك لا يمنعونه وأما الكافرون فيقال لهم وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي وانفروا عن المؤمنين وكونوا على حدة أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ فيما ركزته فيكم من أدلة العقل، وأنزلته عليكم من دلائل السمع أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي ألا تطيعوه فيما يوسوس به إليكم، ويزيّنه لكم إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي واضح العداوة ظاهرها وَأَنِ اعْبُدُونِي أي وحّدوني وأطيعوني هذا أي طاعة الرحمن ومعصية الشيطان صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي صراط بليغ في استقامته ولا صراط أقوم منه وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي خلقا كثيرا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هذا استفهام تقريع على

[سورة يس (36): آية 63]

تركهم الانتفاع بالعقل. دلّ هذا على أن من لم يصل إلى الإيمان لا يكون مستعملا عقله استعمالا صحيحا هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها. أي هذه التي حذّرتكم الرسل فكذبتموهم اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي ادخلوها بكفركم وإنكاركم لها الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نمنعهم من الكلام وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال ابن كثير: (هذه حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي فاستبقوا إلى الصراط فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي فكيف يبصرون حينئذ، وقد طمسنا أعينهم. وهل هذه الآية استمرار للكلام عن الآخرة، أو انتقل الكلام إلى خطابهم في الدنيا؟ لم يذكر ابن كثير إلا الثاني فهي خطاب لهم في الدنيا. وعلى هذا فالمراد بالصراط: الحق، وعلى هذا يكون معنى الآية: ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ قردة أو خنازير أو حجارة عَلى مَكانَتِهِمْ أي على مكانهم. أي لمسخناهم في منازلهم حيث يجترحون المآثم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أمامهم وَلا يَرْجِعُونَ خلفهم أي فلم يقدروا على ذهاب ولا مجئ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي نقلبه فيه. بمعنى من أطلنا عمره نكّسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفا، وبدل الشباب هرما، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكّسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم أَفَلا يَعْقِلُونَ أن من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوّة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف، وقلة التمييز، قادر على أن يطمس على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويبعثهم بعد الموت وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي وما علمنا النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقول الشعر وَما يَنْبَغِي لَهُ أي وما يصح له، ولا يليق بحاله، وبالتالي فإن القرآن ليس من جنس الشعر إِنْ هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرٌ من الله يوعظ به الإنس والجن وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي بيّن واضح جلي لمن تدبّره وتأمّله. قال النسفي: (وما هو إلا قرآن كتاب سماوي يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين، فكم بينه وبين الشعر) لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم مَنْ كانَ حَيًّا أي

كلمة في السياق

عاقلا متأمّلا- لأن الغافل كالميّت- أو حيا بالقلب وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي وتجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ الذين لا يتأمّلون وهم في حكم الأموات. قال ابن كثير: أي هو رحمة للمؤمنين وحجّة على الكافرين. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أن آخر هذه المجموعة هو قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ* لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ونلاحظ أنه قبل قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا من المقطع الأول ورد قوله تعالى: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ وهذا يفيد أن ما ورد بين هذه الآيات كان إنذارا، وقد شمل هذا الإنذار فقرة ضرب المثل، وشمل فقرة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ... وشمل فقرات وَآيَةٌ لَهُمُ وشمل فقرة ما يَنْظُرُونَ ... وشمل فقرة وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ مما يشير إلى أن أنواع الإنذار لا تفيد مع الكافرين الذين توافرت فيهم صفات معينة فههنا قد ذكر من أنواع الإنذار الكثير، الإنذار بضرب المثل، والإنذار بذكر العبر من التاريخ، والإنذار بذكر الآيات، والإنذار بالأمر العملي المباشر، والإنذار بعرض مشاهد اليوم الآخر، والإنذار ببأس الله وعقابه، واستقرّ السياق على أن غير الأحياء لا يستفيدون. 2 - إن مجئ قوله تعالى في آخر المجموعة الأولى من المقطع الأول: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ومجئ قوله تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ في آخر المجموعة الأولى من المقطع الثاني يدلنا على أن إحدى الآيتين تفسير الأخرى؛ فالحي هو من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب. قال ابن كثير: (وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة، وقال قتادة: حي القلب حي البصيرة) ومن ثمّ فعلى الذين يشتغلون بالتربية أن يبدءوا بإحياء القلب فذلك الذي يجعل الإنسان يتّبع القرآن وعندئذ تبدأ التربية الكاملة على كل معاني الكتاب والسنة. وقد رأيت الناس في عصرنا قسمين: قسم يربون ويعتبرون أن مهمتهم تنتهي عند تربية القلب وإحيائه، ولا يعطون تعليم الكتاب والسنة الشريفة بعد ذلك الأهمية التي تستحقها، وقسم لا يعرفون شيئا عن موضوع

إحياء القلب ويشتغلون في تعليم الفقه أو غيره، وينتهي دورهم عند هذا الحد. وهذا وهذا قصور عن التربية القرآنية والطريقة المحمدية. راجع كتاب (تربيتنا الروحية). 3 - نلاحظ أنه بعد قوله تعالى في نهاية المقطع الأول: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ورد قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ثمّ استقرّ السياق على قوله تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وهذا يفيد ضمنا أنّ إحياء القلوب على الله، والله يتولاه، ولكن لا بدّ من الأسباب: المنذر بنذارته، والمنذر ببذل الجهد، والله عزّ وجل هو الذي يتولّى عملية الإحياء، ومن ثمّ فإن على الدعاة إلى الله أن يلاحظوا هذا، فيعقدوا حلقات الوعظ، ويدعوا الناس إليها، وعلى الناس أن يحضروا، وعلى الدعاة ألا يهملوا الوعظ أبدا في كل حال، وعلى الناس أن يسمعوا. والتقصير في هذا يؤدي إلى فقدان حياة القلوب وبالتالي إلى ضعف الإسلام. 4 - فيما يتعلق بصلة المجموعة الأخيرة بمحور السورة أصبحت واضحة فالمحور يقول: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ والمجموعة ترسم الطريق للاستجابة إلى المرسلين من خلال الإنذار والتبشير، فهي تعليم للمرسلين، وإنذار للمرسل إليهم، وتبشير للمستجيبين. 5 - لنلاحظ أخيرا أن بداية المجموعة كانت: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ* وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. وأن نهاية المجموعة كانت: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ* وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ* وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ. ذكّرهم أولا بهلاك القرون الخالية، ثم ذكّرهم أخيرا بقدرته على طمس أعينهم ومسخهم، وذكر لهم ما يعتبرون به وهو أن من عمّر نكّس في الخلق، مما يدل على قدرته جل شأنه على أن يفعل بهم ما هددهم به، وما بين البداية والنهاية كانت جولات في التذكير، وإقامة الحجة، حتى إذا نضج القلب الحي في التذكير، انصب الكلام عن الرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن فجاء قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ... تأمّل صلة ذلك ببداية السورة: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ... إنّ الصّلة على أشدّها بين

فوائد

المحور والسورة كلها، وبين السورة ومقاطعها ومجموعاتها وفقراتها، وقد بقيت معنا مجموعتان من المقطع الثاني، ونؤثر أن نؤخر الكلام عنهما إلى ما بعد ذكر بعض فوائد المجموعة الأولى من المقطع الثاني. فوائد: 1 - [معجزة من معجزات القرآن بمناسبة آية سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ .. ] في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ معجزة من معجزات هذا القرآن الكثيرة؛ إذ تتحدث عن معنى يستحيل على أحد من البشر أن يتكلم فيه ساعة نزول هذا القرآن، مما يدلّ دلالة قطعية على أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل. 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وتعليق المؤلف] رأينا أن قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها معناه تجري إلى يوم القيامة، وهناك قراءة أخرى ذكرها ابن كثير قال: (وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما (والشمس تجري لا مستقر لها) أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلا ونهارا لا تفتر ولا تقف كما قال تبارك وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة). أقول: وفي هذه القراءة الثانية كذلك معجزة من معجزات القرآن، فالحديث عن الشمس والقمر حديث علم محيط لا يمكن أن يكون إلا من المحيط علما بكل شئ. 3 - [حول سبب كثرة الأقاويل عند الكلام عن الشمس والقمر في سورة يس] بمناسبة الكلام عن الشمس والقمر في السورة نجد كلاما كثيرا للمفسرين، منه الخطأ ومنه الصواب، لأن المفسّرين يفسرون هذا القرآن بقدر ثقافتهم من ثقافة عصرهم، ولا شك أن ثقافة أي عصر تتقاصر عن أن تسع هذا القرآن، وفي هذا المقام ذكر ابن كثير حديث أبي ذر في موضوع سجود الشمس واستئذانها، وطلوعها من مغربها قبل يوم القيامة وهو موضوع حققناه في آخر سورة الأنعام، فلا نعود إليه، وتحدثنا في أكثر من مكان في هذا التفسير عن موضوع سير الشمس وحركتها، وعن موضوع دوران الأرض وحركتها، وأن دوران الأرض لا يعني ثبوت الشمس، كما صوّره بعضهم، وتحدّثنا بأن للشمس ثلاث حركات: حركة مع مجرتها، وحركة حول نفسها، وحركة نحو كوكبة الجاثي هي ومجموعتها الشمسية ولعلها هي المرادة هنا بقوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وإنّ في قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ما يدل على

4 - حول علاقة تعاقب الليل والنهار بدوران الأرض

أن الشمس والقمر والأرض- التي هي محل الليل والنهار- كل هذه الأشياء في حالة حركة. 4 - [حول علاقة تعاقب الليل والنهار بدوران الأرض] في قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ إشارة إلى تعاقبهما واستحالة انعدام واحد منهما في نظام هذا الكون، فتقرير هذا المعنى هنا، وتقرير أن الليل يطلب النهار في سورة الأعراف يؤكد ما ذهبنا إليه هناك وبرهنّا عليه، بأن في آية الأعراف إشارة إلى موضوع دوران الأرض. 5 - [مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني في آية وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ .. ] في قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني بل من هذا النّص ندرك كيف أن الإعجاز القرآني يسع العصور، فالفلك هي السفن، والسفن تصنع من خشب وحديد، أو من حديد فقط، ومما يشبه السفن من وسائل حديثة تسير في البر السيارات والقطارات والدبابات والطائرات وهي لم تكن موجودة في زمن نزول الوحي، وقد أشار النص القرآني إليها بقوله مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل السفن، ومن ثمّ قال تعالى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فذرية المخاطبين الأول في القرآن هي التي اجتمع لها ركوب السفن، وركوب المثل الكامل لها وهي وسائل النقل الحديثة في عصرنا، ومما يؤكد أن المراد بذلك هو وسائل النقل الحديثة هو أن التصريح بالمركوبات القديمة سيأتي فيما بعد في المجموعة الثانية، إذ يحدثنا الله عزّ وجل عن الأنعام فيقول: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وعلى هذا فالآية فيها معجزة غيبية، وفيها ما يدلّ على أنّ منزّل هذا القرآن هو الذي وسع علمه الزمان والمكان. وقد يقول قائل إن قوله عزّ وجل وَخَلَقْنا يدل على المضي نقول: إن الماضي قد يراد به المستقبل في القرآن للدلالة على تأكيد وقوعه كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ ثم الوسائل المعاصرة ستكون ماضية بالنسبة لما يأتي من الزمن. ثم إن النص القرآني جاء بصيغة يرى فيها أهل كل عصر آية، فالمخاطبون الأوائل في القرآن حملوا النص على المراد به الإبل والخيل، وأمثال ذلك إذ المثلية متحققة من وجه من الوجوه، هو وجه الركوب، وهذا مظهر من مظاهر استيعاب النص القرآني للزمان والمكان وهكذا نلاحظ أنّ الله عزّ وجل في الفقرات الثلاثة التي حدّثنا فيها عن آياته وَآيَةٌ لَهُمُ وَآيَةٌ لَهُمُ وَآيَةٌ لَهُمْ قد عرض لنا آياته في الكون في صيغة هي في نفسها آيات، فتأمّل هذه الظاهرة وصلتها بقوله تعالى في محور السورة

6 - الكفر معدن الشح ولا يقوم نظام حضاري بغير إيمان بمناسبة الآية (47)

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. 6 - [الكفر معدن الشح ولا يقوم نظام حضاري بغير إيمان بمناسبة الآية (47)] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ نقول: دل هذا النص على أن الكفر معدن الشحّ، وأنّ الحياة البشرية بدون إيمان لا يمكن أن يقوم فيها نظام اقتصادي متراحم متعاطف. ومن ثمّ نلاحظ في كل من النظامين العالميين الحاليين الشيوعي والرأسمالي أن التكافل لا يقوم إلا بسيف القانون، أما في النظام الإسلامي فسيف التشريع قائم، ومع ذلك فللتراحم البشري وللتعاطف محله، وبدون ذلك لا تستقيم الحياة البشرية، فسيف القانون لا يطول كلّ الأحوال، والتراحم والتعاطف لا يكفيان في كل الحالات. 7 - [حول المقصود بالصيحة في آية ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً .. ] ذكرنا أن ابن كثير حمل قوله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ على أن المراد بذلك النفخة الأولى وهي واحدة من ثلاث نفخات كائنات قال: (والله أعلم وهذه نفخة الفزع، ينفخ في الصور نفخة الفزع والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذ أمر الله عزّ وجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة، يطولها ويمدها، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتا، ورفع ليتا- وهي صفحة العنق-؛ يتسمّع الصوت من قبل السماء، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر يوم القيامة بالنار، تحيط بهم من جوانبهم، ولهذا قال تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر، ثم يكون بعد هذه نفخة الصعق التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ثم بعد ذلك نفخة البعث). 8 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ] بمناسبة قوله تعالى: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ. قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن كريب أنه سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: قال رسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلم: «ألا هل مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد؛ ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخيرة ونعمة، في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال صلّى الله عليه وسلم: «قولوا إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله، وكذا

9 - كلام ابن كثير بمناسبة آية ألم أعهد إليكم يا بني آدم ..

رواه ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد ابن مهاجر به). 9 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ... قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ* هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله عزّ وجل: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» [الجاثية: 28]). 10 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ.] بمناسبة قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «أتدرون مم أضحك؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال صلّى الله عليه وسلم: «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» وقد رواه مسلم والنسائي كلاهما ... عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي وهو حديث غريب والله تعالى أعلم. كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عن عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان. وروى عبد الرزاق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنكم تدعون مفدما على أفواهكم بالفدام، فأول من يسأل عن أحدكم فخذه وكفاه» رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به، وروى سفيان ابن عيينة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل قال فيه: «ثم يلقى الثالث فيقول ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك، وصمت وصليت وتصدقت، يثني بخير ما استطاع» قال: «فيقال

11 - تحقيق ابن كثير حول موضوع الشعر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بمناسبة الآية (69)

له: «ألا نبعث عليك شاهدنا؟» قال: «فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه، ويقال لفخذه انطقي» قال: «فينطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه، ذلك الذي يسخط الله تعالى عليه» رواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله). 11 - [تحقيق ابن كثير حول موضوع الشعر في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم بمناسبة الآية (69)] بمناسبة قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ كتب ابن كثير تحقيقا حول موضوع الشعر في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وختمه بالإشارة إلى كون الشعر منه المباح، ومنه المندوب، وهذا هو كلام ابن كثير في هذا المقام: (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنّه صلّى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم، بل إن أنشده زحّفه، أو لم يتمّه، وروى أبو زرعة الرازي ... إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنّه قال: ما ولد عبد المطلب ذكرا ولا أنثى إلا يقول الشعر، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء. روى ابن أبي حاتم ... عن الحسن هو البصري قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: (كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا). فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا). قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما أشهد أنك رسول الله، يقول تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ وهكذا روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه أنت القائل: (أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة). فقال: إنما هو بين عيينة والأقرع. فقال صلّى الله عليه وسلم: «الكل سواء» يعني في المعنى، صلوات الله وسلامه عليه والله أعلم. وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه صلّى الله عليه وسلم في هذا البيت مناسبة أغرب فيها، حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه، بخلاف ذاك والله أعلم، وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول: «نفلق هاما» فيقول الصديق رضي الله عنه متمما للبيت: ... من رجال أعزة … علينا وهم كانوا أعق وأظلما وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة. وروى الإمام أحمد ...

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضا من حديث المقدام ابن شريح بن هانئ عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كذلك ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الحافظ أبو بكر ... عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) ثم قال: ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها وهذا في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة وهذا المذكور عجز بيت منها أوله: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأخبار من لم تبع له … بتاتا ولم تضرب له وقت موعد وقال سعيد بن عروة عن قتادة قيل لعائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره وآخره أوله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وهذا لفظه وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشعر؟ فقالت رضي الله عنها: لا إلا بيت طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل صلّى الله عليه وسلم يقول: «من لم تزود بالأخبار» فقال أبو بكر ليس هذا هكذا فقال صلّى الله عليه وسلم: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بسنده عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا: تفاءل بما تهوى يكن فقلما … يقال لشئ كان إلا تحققا سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال هو منكر، ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير (وهما من رجال إسناده) وثبت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم تمثّل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ولكن تبعا لقول

أصحابه رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون: لا هم لولا أنت ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا … وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا … إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع صلّى الله عليه وسلم صوته بقوله أبينا ويمدها وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضا. وكذا ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو: أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب لكن قالوا هذا وقع اتفاقا من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غار فنكبت إصبعه فقال صلّى الله عليه وسلم: هل أنت إلا إصبع دميت … وفي سبيل الله ما لقيت وسيأتي عند قوله تعالى إِلَّا اللَّمَمَ إنشاد: إن تغفر اللهم تغفر جما … وأي عبد لك ما ألما وكل هذا لا ينافي كونه صلّى الله عليه وسلم ما علم الشعر، ولا ينبغي له؛ فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته صلّى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا، كما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن رافع الفتوحي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي» تفرد به أبو داود، وروى الإمام أحمد رحمه الله ... عن أبي نوفل قال: سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسائغ عنده الشعر؟ فقالت: قد كان أبغض الحديث إليه وقال: عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك، وروى أبو داود ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» انفرد به من هذا الوجه، وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وروى

12 - الصلة بين ذكر إحياء الله للموتى وذكر إحيائه للقلوب

الإمام أحمد عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة لم تقبل له صلاة تلك الليلة» وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، والمراد بذلك نظمه لا إنشاده والله أعلم، على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت رضي الله عنه، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ومنهم: أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه» وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلم مائة بيت يقول صلّى الله عليه وسلم عقب كل بيت «هيه» يعني يستطعمه فيزيده من ذلك، وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب وبريدة بن الخصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما»). 12 - [الصلة بين ذكر إحياء الله للموتى وذكر إحيائه للقلوب] رأينا أثناء الكلام عن السياق الصلة بين قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ... وبين قوله تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ إذ قلنا: إن في ذكر إحياء الله الموتى في سياق السورة إشارة إلى إحيائه القلوب. قال ابن كثير: (وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار، الذين قد ماتت قلوبهم بالضّلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). 13 - [نصيحة المؤلف للمتصدي للقراءة في كتب التفسير وكلام المفسرين] إن علينا أن نلاحظ أثناء قراءتنا لكتب التفسير صلة كلام المفسرين بتصوراتهم وثقافاتهم، وثقافات عصورهم، فإن كلامهم أحيانا لا يخلو عن خطأ في بعض المواطن، وخاصة عند ما يتحدثون عن الكون بمناسبة ذكر القرآن لمظهر من مظاهر الكون، إذ ثقافة عصورهم المحدودة تجعلهم يفهمون بعض النصوص على ضوء ثقافة عصرهم، ولو كان خطأ، وقد رأينا أكثر من مرّة كيف يسع النص القرآني الزمان والمكان، وكيف أن فيه من مظاهر الإعجاز ما لا يحاط به، وإنما نقول هذا ليتنبه القارئ على أنّ أقوال النّاس ليست حجة على كتاب الله، بل كتاب الله عزّ وجل هو الحجة على أقوال الناس، والحاكم عليها. وفي عصرنا يحاول الكثيرون من الكافرين أن

يشككوا بكتاب الله عزّ وجل، من خلال عرض ما قاله هذا المفسر أو ذاك، فيستدلون بخطإ المفسر على خطأ القرآن، لعنهم الله عزّ وجل. وبهذه المناسبة نقول: إنه لا يجوز أن نتردد إطلاقا في فهم النص القرآني على ضوء الحقيقة العلمية، على شرط أن تكون حقيقة علمية، أما الفرضيات والنظريات فعلينا أن نحتاط في حمل النّص القرآني عليها. ***

المجموعة الثانية من المقطع الثاني وتمتد من الآية (71) إلى نهاية الآية (76) وهذه هي

المجموعة الثانية من المقطع الثاني وتمتدّ من الآية (71) إلى نهاية الآية (76) وهذه هي: 36/ 76 - 71 ملاحظة في السياق: [حول التدليل على أن المجموعة الثانية معطوفة على المجموعة الأولى] ذكرنا من قبل أن المجموعة الأولى من المقطع الثاني بدأت بقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. وأن المجموعة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا لاحظ الواو العاطفة، فالمجموعة الثانية معطوفة على المجموعة الأولى، ومكمّلة لها، إلا أن المجموعة الأولى يغلب عليها استثارة الخوف، وهذه يغلب عليها استثارة الشكر، وهما نقطتا البداية في السير إلى الله. ... التفسير: أَوَلَمْ يَرَوْا أي أو لم ير العباد أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي مما تولينا نحن إحداثه، ولم يقدر على توليه غيرنا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي خلقناها لأجلهم فملّكناها إياهم فهم متصرّفون فيها تصرّف الملّاك، مختصّون بالانتفاع بها، أو فهم لها ضابطون قاهرون وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي وصيّرناها منقادة لهم، فتمّت

[سورة يس (36): آية 73]

الاستفادة منها بتذليله سبحانه وتعالى وتسخيره فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي ما يركب وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي سخّرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. قال ابن كثير: (جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم لا تمتنع منهم. بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وذاك ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير). وهي مع هذا للركوب والأكل وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود والأوبار وغير ذلك وَمَشارِبُ أي: من ألبانها طازجة ومخثرة أَفَلا يَشْكُرُونَ الله فيوحّدونه ويتّبعون رسله ويعملون بأمره ويجتنبون نهيه بدلا من أن يشركوا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لعل آلهتهم تنصرهم إذا حزبهم أمر لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ قال ابن كثير: (أي لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقلّ وأذلّ وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الاستنصار لأنفسها ولا الانتقام ممن أرادها بسوء لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل) وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ قال قتادة: والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا. إنما هي أصنام. أي إن المشركين أعطوا الأصنام الجندية الكاملة؛ متصورين أن هذه الآلهة تنصرهم وليس الأمر كذلك، فلو أنهم أعطوا هذه الجندية الكاملة لله الذي يملك النصر ويملك النّفع والضرّ لكان هذا هو الصراط المستقيم. قال النسفي في الآية: (أي الكفار للأصنام أعوان وشيعة يخدمونهم ويذبّون عنهم، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله، ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهّموا حيث هم يوم القيامة جند معدّون لهم محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلون وقود النار) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله. قال النسفي: يعني فلا يهمّك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من عداوتهم وَما يُعْلِنُونَ وإنا مجازوهم عليه فحق مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة، حتى ينقشع عنه الهمّ ولا يرهقه الحزن. قال ابن كثير: (أي نحن نعلم جميع ما هم فيه وسنجزيهم وصفهم، ونعاملهم على ذلك، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلا ولا حقيرا، ولا صغيرا ولا كبيرا. بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديما وحديثا). كلمة في السياق: بعد أن وعظهم الله عزّ وجل وذكّرهم في المجموعة الأولى بمجموعة أمور كما رأينا.

فائدتان

تأتي هذه المجموعة فتذكّرهم بنعم الله عليهم استخراجا لشكرهم، إلا أن السياق بيّن لنا أنهم مع هذا يشركون شركا بيّن الخطأ، ظاهر الخطل، ومع ذلك يخلصون له كامل الإخلاص، وأمام هذا الخطل الكبير، أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم ألا يحزن على ذلك لأن الله مطّلع عليهم وسيجازيهم. فائدتان: 1 - [رأي النسفي حول من فتح همزة (إنا) في الصلاة في آية إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يتحدث النسفي عن موضوع هو: لو أن إنسانا فتح همزة (إنا) هل تبطل صلاته. يذهب النسفي: إلى أنه لا تبطل صلاته رادا على من زعم ذلك، لأنها في هذه الحالة يمكن أن تفيد التعليل أو غير ذلك من الأوجه التي لا تبطل معها الصلاة. 2 - [الآية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً .. وبطلان نظرية التطور] الظاهر من قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً أن الأنعام مخلوقة مباشرة بيد الله عزّ وجل، مما يشير إلى بطلان نظرية التطور في مثل هذا. ***

المجموعة الثالثة والأخيرة من المقطع الثاني وتمتد من الآية (77) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (83) وهذه هي

المجموعة الثالثة والأخيرة من المقطع الثاني وتمتدّ من الآية (77) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (83) وهذه هي: 36/ 83 - 77 التفسير: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ الذي ينكر البعث. قال ابن كثير: للجنس يعم كل منكر للبعث أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ حقيرة ضعيفة مهينة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي بيّن الخصومة. قال النسفي: (أي فهو على مهانة أصله، ودناءة أوّله، يتصدّى لمخاصمة ربه، وينكر قدرته على إحياء الميت، بعد ما رمّت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف وألصقه به، وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهو غاية المكابرة). قال ابن كثير: (أي أو لم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة؛ فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شئ حقير ضعيف مهين ... فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته) وَضَرَبَ لَنا أي هذا الإنسان الكافر المنكر للبعث مَثَلًا بفتّه العظم واستبعاده أن يعيد الله خلق الإنسان بعد تفرقه وَنَسِيَ خَلْقَهُ من المني فهو أغرب

[سورة يس (36): آية 79]

من إحياء العظم قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ الرميم: اسم لما بلي من العظام. قال ابن كثير: (أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده). ولهذا قال عزّ وجل: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أي خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي ابتداء وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ أي مخلوق عَلِيمٌ لا يخفى عليه شئ، ومن ذلك أجزاء الحي بعد موته، فإنها- وإن تفرقت في البر والبحر- يجمعه الله ويعيده كما كان. قال ابن كثير: أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت، وأين تفرّقت وتمزقت الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ قال قتادة: الذي أخرج هذه النار من هذه الشجرة، قادر على أن يبعثه، وقال ابن كثير: (أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا، ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، كذلك هو فعّال لما يشاء، قادر على ما يريد، لا يمنعه شئ). ثم بيّن تعالى أن من قدر على خلق السموات والأرض مع عظم شأنهما فهو على إعادة خلق الأناسي أقدر أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ قال ابن كثير: أي مثل البشر فيعيدهم كما بدأهم بَلى أي قل: بلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ أي الكثير المخلوقات الْعَلِيمُ أي الكثير المعلومات إِنَّما أَمْرُهُ أي شأنه إِذا أَرادَ أن يكوّن شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فيحدث. قال ابن كثير: (أي إنما يأمر بالشيء أمرا واحدا، لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد). قال النسفي: (أي فهو كائن موجود لا محالة). ثم ختم الله عزّ وجل السورة بقوله: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي ملك كل شئ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تعادون بعد الموت بلا فوت. قال ابن كثير: (أي تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله وله الخلق والأمر، وإليه ترجع العباد يوم المعاد، فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المنعم المتفضل). نقل: [لصاحب الظلال حول آية أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ .. ] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ:

كلمة في سياق المجموعة والمقطع

(والسماوات والأرض خلق عجيب هائل دقيق .. هذه الأرض التي نعيش عليها ويشاركنا ملايين الأجناس والأنواع، ثم لا نبلغ نحن شيئا من حجمها، ولا شيئا من حقيقتها، ولا نعلم عنها حتى اليوم إلا القليل .. هذه الأرض كلها تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها .. وهذه الشمس واحدة من مائة مليون في المجرة الواحدة التي تتبعها شمسنا، والتي تؤلف دنيانا القريبة! وفي الكون مجرات أخرى كثيرة. أو دنييات كدنيانا القريبة. عد الفلكيون حتى اليوم منها مائة مليون مجرة بمناظيرهم المحدودة. وهم في انتظار المزيد كلما أمكن تكبير المناظير والمراصد. وبين مجرتنا أو دنيانا والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مائة ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية تقدر بستة وعشرين مليون مليون من الأميال!) .. وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن أنه من نثارها كانت تلك الشموس. وهذا هو الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة! تلك الشموس التي لا يحصيها العد. لكل منها فلك تجري فيه. ولمعظمها توابع ذات مدارات حولها كمدار الأرض حول الشمس .. وكلها تجري وتدور في دقة وفي دأب. لا تتوقف لحظة ولا تضطرب. وإلا تحطم الكون المنظور واصطدمت هذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسيع. هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد، كأنها ذرات صغيرة. لا نحاول تصويره .. فذلك شئ يدير الرءوس! أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟. وأين الناس من ذلك الخلق الهائل العجيب؟ بَلى! وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). كلمة في سياق المجموعة والمقطع: انصبّ الكلام في المجموعة الأخيرة على إقامة الدليل على مجئ اليوم الآخر، لأن الإنذار والقيام بالتكليف، والقيام بالشكر، مرجعه كله إلى الإيمان باليوم الآخر، كما فصّلت ذلك سورة سبأ من قبل، وبهذا تكامل الإنذار في المقطع الثاني. بدأ المقطع الثاني بلفت النظر إلى هلاك الماضين، ثم ثنّى في سياقه الرئيسي بلفت النظر إلى النعمة، ثم ثلّث بلفت النظر إلى ما يوجب الإيمان باليوم الآخر. ومن ثمّ كانت بداية المجموعات:

فوائد

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ .... فوائد: 1 - في سبب نزول المجموعة الأخيرة قال ابن كثير: (قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبي بن خلف- لعنه الله- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفته، ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات من آخر يس أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ إلى آخرهن، وروى ابن أبي حاتم بسنده عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتّه بيده، ثم قال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك جهنم» قال: نزلت الآيات من آخر يس، ورواه ابن جرير من غير طريق ابن عباس رضي الله عنهما). 2 - [حديث بمناسبة قوله تعالى أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ] بمناسبة قوله تعالى: أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد في مسنده ... عن بشر بن جحاش قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم: «قال الله تعالى يا بني آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سوّيتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق وأنى أوان الصدقة؟» ورواه ابن ماجه). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد بسنده أنه قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: سمعته صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن رجلا حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا جزلا، ثم

4 - اتجاه آخر في تفسير آية الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وتعليق المؤلف

أوقدوا فيه نارا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى عظمي فامتحشت، فخذوها فدقّوها فذروها في اليم، ففعلوا فجمعه الله تعالى إليه ثم قال له: لم فعلت ذلك؟ قال من خشيتك، فغفر الله عزّ وجل له» فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول ذلك وكان نباشا. وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير بألفاظ كثيرة منها أنه أمر بنيه أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر في يوم رائح- أي كثير الهواء- ففعلوا ذلك، فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن فإذا هو رجل قائم، فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك وأنت أعلم؛ فما تلافاه أن غفر له). 4 - [اتجاه آخر في تفسير آية الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً وتعليق المؤلف] هناك اتجاه آخر غير الذي ذكرناه في قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ذكره ابن كثير ووجه على ضوئه النسفي الآية. قال ابن كثير: (وقيل المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي المثل: لكل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء في كل شجر نار إلا العناب). قال النّسفي: (ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار للماء، وانطفائها به، وهي الزناد التي توري بها الأعراب، وأكثرها من المرخ والعفار وفي أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، لأن المرخ: شجر سريع الورى، والعفار شجر تقدح منه النار، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء فيسحق المرخ- وهو ذكر- على العفار- وهي أنثى- فتنقدح النار بإذن الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من شجرة إلا وفيها النار، إلا العناب لمصلحة الدق للثياب، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالتعقيب أسهل في العقل من الجمع معا بلا ترتيب). أقول: العنّاب لا نار فيه بمعنى: أنك مهما حككته ببعضه لا يتولّد منه نار وليس

5 - معنى (الملك والملكوت) عند الصوفية وفي الكتاب والسنة

المعنى أنّه لا يحترق، بدليل ما نقله النسفي في شأنه (إلا العناب لمصلحة الدّق للثياب). 5 - [معنى (الملك والملكوت) عند الصوفية وفي الكتاب والسنة] يفرق الصوفية في مصطلحاتهم بين الملك والملكوت. فيريدون بالملك عالم الحس، ويريدون بالملكوت عالم المعنى وهو مصطلح خاص بهم، أما لفظتا الملك والملكوت في الكتاب والسنة فلا فارق بينهما، إلا من حيث إن زيادة الواو والتاء تفيد المبالغة كما قال النسفي، وقد حقق ابن كثير هذا المقام فقال: (فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت، ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح، والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم، روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات، وكان صلّى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع الله لمن حمده» ثم قال: «الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف وقد كادت تنكسر رجلاي. وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي ... عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي من الليل وكان يقول: «الله أكبر- ثلاثا- ذي الملكوت والجبروت، والكبرياء والعظمة» ثم استفتح فقرأ البقرة ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم» ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه وكان يقول في قيامه: «لربي الحمد» ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول في سجوده: «سبحان ربي الأعلى» ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: «رب اغفر لي رب اغفر لي» فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، أو الأنعام- شك شعبة- هذا لفظ أبي داود. وقال النسائي: أبو حمزة عندنا طلحة ابن يزيد، وهذا الرجل يشبه أن يكون ابن عم حذيفة كما هو مذكور في رواية الإمام أحمد والله أعلم. وأما رواية صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه فإنها في صحيح مسلم ولكن ليس فيها ذكر الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة. وروى أبو داود ... عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب

نقل: قال الألوسي في خواتيم كلامه عن سورة (يس)

إلا وقف وتعوّذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه «سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة، ورواه الترمذي في الشمائل والنسائي من حديث معاوية بن صالح به). نقل: قال الألوسي في خواتيم كلامه عن سورة (يس): (وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب عليّة، وتضمنت أدلة جليلة جلية، ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم أكمل الرسل، وأن طريقه أوضح السبل، وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى لِتُنْذِرَ الخ ثم بينه إجمالا أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب وتمّمه بضرب المثل مدمجا فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب، والمنزل عليه، وتفضيلهما على الكتب والرسل، والتنبيه عليه ثانيا بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده، ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات، وأوثر منها الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة وضمّن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه والحذر من الركون إلى من سواه، ثم في بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد، بما ينال في المعاد، وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك، وذكر غايتهما، ولخّص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء، حيث قدّم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان، وضمّن فيه أن أساسها التوحيد، وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابيا في المقدمات، ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات، وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه عزّ وجل لا يتعاظمه شئ، ولا ينقص خزائنه عطاء، وأنه لا يخرج عن مملكته من قربه قبول أو بعده إباء تحقيقا لكل ما سلف على الوجه الأتم، ولما كان كلاما صادرا عن مقام العظمة والجلال وجب أن يراعى فيه نكتة الالتفات في قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ليكون إجمالا لتوضيح التفصيل. كذا قرره صاحب الكشف. والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل).

كلمة أخيرة في سورة يس ومجموعتها

كلمة أخيرة في سورة يس ومجموعتها: ذكرت سورة يس رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأظهرت حكمتها، وذكرت مضمونها، وحدّدت موقف الناس منها، ونوعية الذين يستجيبون لها ويقبلونها. وبالتالي من لا يستجيب لها ولا يقبلها. ... وحدّدت صفات الذين يستجيبون بأنهم الذين يتبعون الذكر ويخشون الله. وذكّرت بكل ما يوصّل إلى ذلك، وأقامت الحجة على الآخرين، وهي بذلك تكون قد أكملت البناء الذي ابتدأته سورة فاطر، إذ حدّدت سورة فاطر نقطة البداية في السير: وهي خشية الله، وإقام الصلاة. قالت سورة فاطر: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ. وقالت سورة يس: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فاجتمع من السورتين أن الذي يقبل الإنذار هو الخائف من الله، المصلي المتّبع لكتاب الله، وبالتالي فهو الحي كما قالت سورة (يس): لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا فسورة فاطر ذكرت بداية الطريق، وأكملت هذه البداية سورة يس؛ فذكرت الأساس الذي يقوم عليه تلقي دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومن قبل ذكرت سورة سبأ الأسس العامة للقيام بالتكليف، فلو رجعنا إلى سورة سبأ فإننا نلاحظ أنّها ذكّرت بالشروط اللازمة لقضية الشكر التي هي القيام بالتكليف، ثم جاءت سورتا فاطر ويس، فذكّرتا ببداية السير العملي، وبهذا تكاملت السور الثلاث في تبيان الهدف، ونقطة البداية فيه، والطريق إليه، فإذا تذكرنا السور الأربع: العنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، التي فصّلت في قضية الإيمان العملي والنظري، وتذكرنا سورة الأحزاب، التي رسمت الطريق للتحقق، نعلم كيف تكاملت مواضيع المجموعة، وكيف أدّت كل سورة محلها في هذا التكامل. ... فالسور الأربع الأولى حدّدت خريطة الإيمان النظري والعملي، وسورة الأحزاب حددت الطريق للتحقق بذلك. وجاءت سورة سبأ لتبيّن ماهية الشكر الذي هو مجموع ما ورد في السور الخمس السابقة، وتبين كل الشروط اللازمة للتحقق به، ثم جاءت

سورة فاطر لتبيّن نقطة البداية فيه، وجاءت سورة يس لتكمّل قضية الأساس في قبول الإسلام كله، ومن ثم نفهم كيف أن كل مجموعة من مجموعات القرآن لها تكاملها، ولها دورها في بناء قضية الإسلام لرب العالمين. ... ومن المعنى السابق ندرك خطأ الذين يتصورون أنّ فهم شئ من القرآن- حتى ولو كان سورة البقرة- يغني عن فهم كل آية من آيات القرآن؛ لأن كل آية، وكل سورة، وكل مجموعة، لها غناؤها، وفيها فقهها الخاص بها، ولها دورها في بناء النفس البشرية، والأمّة الإسلامية، وفي تفصيل القضايا النفسية، أو الشروط النفسية، أو غير ذلك مما يلزم عملية البناء، صحيح أنّ كل مجموعة من المجموعات، أو كل قسم من الأقسام، يذكّر بالقضايا الرئيسية، بل قد تجد سورا قصيرة تذكّر بالمعاني الرئيسية، إلا أن التذكير شئ، وفهم الإسلام كله شئ آخر. لقد جعل الله كتابه فيه تبيان كل شئ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ومن ثمّ فلا يتعرف الإنسان تعرفا كاملا على القضايا كلها إلا من خلال فهم الكتاب كله. ... وإذ أدركنا من خلال المجموعة المارّة كيف تتكامل كل مجموعة من المجموعات ندرك صلة الآيات التي تشكّل محاور هذه المجموعات من سورة البقرة مع بعضها، وهو موضوع تحدّثنا عنه من قبل فلا نعيده، ولكنا هنا نقول: إن تفصيل المجموعات لسورة البقرة يأخذ كل مرة منحى جديدا، وطابعا جديدا، وأسلوبا جديدا، بحيث يوجد عندنا في كل مرة، وبكل مجموعة موضوع متكامل يؤدي دوره في بناء الشخصية المسلمة والأمة المسلمة، ومن الملاحظ أن بعض آيات سورة البقرة يتكرر تفصيلها في كل مجموعة، بينما لا يتكرر تفصيل بعض الآيات، ولذلك صلته باحتياجات النفس البشرية لتكرار بعض المعاني، أو لاحتياج معنى من المعاني إلى تفصيلات كثيرة. وبهذا ننهي الكلام عن المجموعة الأولى من قسم المثاني ولله الحمد والمنة. ***

المجموعة الثانية من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمى بقسم المثاني

المجموعة الثانية من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمّى بقسم المثاني وتشمل سورتي: (الصافات، وص)

كلمة في هذه المجموعة

كلمة في هذه المجموعة: هذه المجموعة تتألف من سورتين فقط، وإنما دلنا على أن هذه المجموعة تتألف من هاتين السورتين هو ابتداء سورة الصافات بالقسم، وهي علامة من الآن فصاعدا على بداية المجموعات كما سنرى وَالذَّارِياتِ. لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالْفَجْرِ ... وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ... وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. وَالْعَصْرِ، وأن السورة الثانية مبدوءة بالحرف (ص) وهي علامة على نهاية مجموعة منذ سورة مريم. فسورة مريم فيها (صاد) فهي نهاية مجموعة، وهذه كذلك نهاية مجموعة. ... وممّا يدلّنا على أنّ سورة الصافات بداية مجموعة كون (يس) قبلها كانت نهاية مجموعة، وكون سورة الزمر بعد (ص) بداية مجموعة كما سنرى، فتعيّن أنّ الصافات وصاد مجموعة واحدة في هذا القسم- قسم المثاني- وسنرى في هذا القسم كثرة المجموعات وكيف أنّ أكثرها يفصّل في أوائل سورة البقرة ولعلّ لهذا صلة بتسمية هذا القسم بالمثاني. ... وتكاد سورة الصافات تمثل في معنى من معاني الآيات الأولى من سورة البقرة والواردة في صفات المتقين، وتكاد سورة (ص) تفصّل في معنى من معاني الآيات الآتية بعدها والواردة في صفات الكافرين. فسورة الصافات تفصّل في معان مستكنّة في قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وكذلك سورة (ص) تفصّل في معان مستكنّة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.

وكما أن كل مجموعة لها تكاملها، ولها روحها، ولها كذلك دورها الخاص بها، فإن هاتين السورتين كذلك، فهما تبرزان معنى من المعاني المستكنة في مقدمة سورة البقرة بشكل بارز لا نراه في غيرهما. كما أن كل سورة منهما على حدة تبرز معاني من محورها وتفصلها بشكل لا نراه على كماله وتمامه كما هو في هاتين السورتين، وكل ذلك سنراه بالتفصيل إن شاء الله تعالى. ... وإذ كانت السورتان تفصلان في حيز واحد هو مقدمة سورة البقرة، فإننا نجد بينهما تداخلا، كما أن الكلام في المقدمة متداخل، إذ الكلام عن المؤمنين يحوي في طياته كلاما عن الكافرين. والكلام عن الكافرين يحوي في طياته كلاما عن المتقين، فمن خلال تقريرك لصفات الكافرين تكون قد حددت بعض خصائص المؤمنين، ومن خلال تقريرك لصفات المؤمنين تكون قد حددت بعض خصائص الكافرين، وإذا كانت السورتان تتحدثان في هاتين الدائرتين فمن ثمّ نجد فيهما تكاملا وتداخلا مع احتفاظ كل منهما بدوره في تفصيل محوره الرئيسي. ... وبمناسبة ذكر الاستكنان نقول: إنك تجد معاني كثيرة مستكنة في آية من آيات القرآن، فتجد سورة كاملة تفصّل هذا الاستكنان، كما رأينا ذلك في كثير من آيات سورة البقرة، إذ تأتي سورة وسور كاملة من أجل أن تفصّل ما استكنّ فيها. إنك لتجد كثيرا من سور القرآن تفصّل تفصيلا نورانيا لمحورها، فمثلا سورة الأنعام تفصيل لآيتين من سورة البقرة. وسورتا سبأ وفاطر تفصيل جديد لهاتين الآيتين، ولكنه تفصيل يراعي التفصيل الأول، إن أول تفصيل لمقدمة سورة البقرة يأتي في سورة آل عمران، ثم يأتي تفصيل ثان لبعضها في سورة يونس، مراعى فيه التفصيل الأول. ثم تأتي سورة الحجر لتفصّل في بعض المقدمة تفصيلا ثالثا، مراعى فيه التفصيلين السابقين، ثم تأتي سورة طه والأنبياء فتفصلان بعض المقدمة تفصيلا رابعا، مراعى فيه التفصيلات السابقة. ثم تأتي زمرة (الم) في هذه المجموعة لتفصّل في مقدمة سورة البقرة تفصيلا خامسا، مراعى فيه التفصيلات السابقة، ومن ثمّ تجد معنى في تفصيل سابق قد فصّل في تفصيل لاحق.

وهكذا تجد معاني فصّلت مرة بعد مرة، وكل التفصيلات اللاحقة مستكنة في آيات المحور. وسنرى هذا بشكل بارز في سورتي هذه المجموعة فمثلا: أن لا إله إلا الله مستكنة في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وستجد كيف أن سورة الصافات تبرز هذا المستكنّ هناك، وهي تفصّل من جديد في مقدمة سورة البقرة. ولنبدأ عرض سورتي المجموعة الثانية من قسم المثاني.

سورة الصافات

سورة الصّافّات وهي السّورة السّابعة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الأولى من المجموعة الثانية من قسم المثاني وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة الصافات ومحورها

كلمة في سورة الصافات ومحورها: تبدأ سورة الصافات بقوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً* إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وإذن فالسورة تبدأ بقسم، وجواب للقسم، ومن جواب القسم نعلم موضوع السورة الرئيسي وهو وحدانية الله عزّ وجل، ثم تسير السورة حتى تصل إلى قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ. ثم تستمر السورة حتى تصل إلى قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ [الآية: 149] مما يدل على أن التعريف على الله وما تستلزمه هذه المعرفة هو الشيء الذي يصب فيه سياق السورة الرئيسي. فإذا وصلنا إلى آياتها الأخيرة نجد قوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ومن خلال البداية والنهاية، ومن خلال الاستفتاءين اللذين يشكلان نقطتي علام في السورة، ندرك المصبّ الرئيسي الذي يصبّ فيه سياق السورة وهو- كما قلنا- التعريف على الله عزّ وجل، وما تستلزمه تلك المعرفة، وهو الموضوع الأول من مواضيع الإيمان بالغيب، والذي يستتبع الإيمان بالغيب كله، ومن ثمّ فمن خلال السياق الرئيسي للسورة تعرض بعض المعاني التي لها علاقة بالآخرة والرسل والملائكة والكتاب، كما سنرى. ونلاحظ أن قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* يتكرر في السورة أكثر من مرة مما يشير كذلك إلى الموضوع الرئيسي في السورة، وهو التعريف على الله وتنزيهه وتوحيده. ... إنه من المعلوم بديهة أن كلمة التوحيد هي كلمة التقوى، وهي نقطة الارتكاز في هذا الدين، وهي نقطة البداية في دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنها تحوي كل عقائد الإسلام، وإليها ترجع هذه العقائد، فإذا عرفنا أن هذا هو مضمون السورة أدركنا محل سورة الصافات في تفصيل قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ*

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إنها تفصّل في موضوع التوحيد ومستلزماته. ... تتألف السورة بشكل واضح من مقدمة تستمر حتى نهاية الآية العاشرة، تتحدث عن التوحيد، وعن أدلته، وعن حفظ الوحي. ثم يأتي مقطعان كل منهما مبدوء بقوله تعالى فَاسْتَفْتِهِمْ. المقطع الأول مبدوء بقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ويستمر حتى نهاية الآية (148). والمقطع الثاني مبدوء بقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ويستمر حتى نهاية السورة أي حتى نهاية الآية (182). ويندمج الكلام في المقطع الأول عن التوحيد، واليوم الآخر، والرسل كمواضيع متلازمة، إذ يرتبط الإيمان بالله بالإيمان باليوم الآخر، بل إنّ أكثر كفر الكافرين سببه الكفر باليوم الآخر، ويرتبط الإيمان بالله بالإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام؛ إذ هم الذين يعرفونه حق المعرفة، ويعرّفون عليه حقّ التعريف، ومن ثمّ يقول تعالى في السورة سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ويندمج الكلام في المقطع الثاني عن الله عزّ وجل والملائكة والرسل والمؤمنين بشكل عجيب سنراه. ومن ثمّ فإن السورة إذ تعرض التوحيد تعرض معه قضايا الإيمان كلها، لأن التصور السليم عن موضوع التوحيد مرتبط بالتصور السليم عن قضايا الإيمان كلها. ... ولأول مرة في السياق القرآني نجد سورة مبدوءة بقسم مباشر، فما قبل سورة الصافات نجد قسما في بداية السورة، ولكنه مسبوق بشيء مثل (يس) في سورة (يس) إذ مطلعها يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. ومن الآن فصاعدا سنجد سورا كثيرة مبدوءة بقسم مباشر، بل نجد في المجموعة

نقول: تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة الصافات

الواحدة مجموعة سور كلها مبدوءة بقسم مباشر. فمجموعة الذاريات فيها ثلاث سور متوالية مبدوءة بقسم مباشر هي: وَالذَّارِياتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وفي مجموعة الفجر تجد خمس سور مبدوءة بقسم مباشر هي: وَالْفَجْرِ، لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَاللَّيْلِ وَالضُّحى. وكما كانت سورة الصافات المبدوءة بقسم مباشر بداية المجموعة، فسنجد أن القسم المباشر في بداية سورة علامة على أن مجموعة جديدة قد بدأت. فلنبدأ بعرض سورة الصافات، وقبل أن نبدأ بعرضها فلنذكر فائدة صدّر بها ابن كثير الكلام عن سورة الصافات ولننقل بعض النقول حول السورة: ... قال ابن كثير: روى النسائي ... عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات، تفرد به النسائي. أقول: كأنّ ابن عمر يريد من هذه الرواية أن التخفيف لا يعني القراءة القليلة، والذي عليه الفقهاء أن الإمام يراعي حال المأمومين، واستعدادهم، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة، والأزمنة، والبيئات، وأحوال الناس؛ فالعامل أثناء العمل، والمسافر أثناء السفر، والمبتدءون بالصلاة، والمشغولون بحادث يطرأ، والمعتادون على الصلاة القصيرة، كل من هؤلاء يراعي حاله، وحكمة الإمام في هذه الأمور هي التي تقدر، ولقد رأيت أئمة يطيلون قليلا عما ألفه الناس- وهو قليل- فيؤدّي ذلك إلى فتنة، أو قطع صلاة، وحتى إلى كلمة كفر، فلا بدّ للإمام أن يراعي هذا، وإذا اقتصر في بعض المواطن على الفاتحة وآيات قصار معدودة فلا بأس. نقول: [تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة الصافات] 1 - قدّم الألوسي لسورة الصافات بقوله: (مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا، وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين، ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم، وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها

2 - ومن تقديم صاحب الظلال لسورة الصافات ما يلي

في قوله تعالى في السورة المتقدمة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين، وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة، ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك، وذكر فيها شئ مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها، وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان، ذكر عزّ وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا، كما يشير إليه قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا). 2 - ومن تقديم صاحب الظلال لسورة الصافات ما يلي: (هذه السورة المكية- كسابقتها- قصيرة الفواصل، سريعة الإيقاع، كثيرة المشاهد والمواقف، متنوّعة الصور والظلال، عميقة المؤثرات، وبعضها عنيف الوقع، عنيف التأثير. وهي تستهدف- كسائر السور المكية- بناء العقيدة في النفوس، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله. ولكنها- بصفة خاصة- تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى. وتقف أمام هذه الصورة طويلا؛ وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى .. تلك هي الصورة التي كانت جاهلية العرب تستسيغها، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله- سبحانه- وبين الجن. وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزواج بين الله- تعالى- والجنة ولدت الملائكة. ثم تزعم أن الملائكة إناث. وأنهن بنات الله! هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة؛ تكشف عن تهافتها وسخفها. ونظرا لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً .. ويتلوها حديث عن الشياطين المردة، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كيلا يقربوا من الملأ الأعلى. ولا يتسمّعوا لما يدور فيه؛ ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة! كذلك يشبّه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرءوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ* أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ* أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ

لَكاذِبُونَ* أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* أَفَلا تَذَكَّرُونَ* أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ* فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ .. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ!. وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية. فتثبت فكرة التوحيد مستدلة بالكون المشهود: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ* رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ .. وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذّبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ* إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ* إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ* بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ* إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ* وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .. كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ* قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ .. ثم تعرض بهذه المناسبة مشهدا مطولا فريدا من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجات! وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قولهم: أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ والرد عليهم: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم تعرض سلسلة من قصص الرسل: نوح وإبراهيم وبنيه. وموسى وهارون. وإلياس. ولوط. ويونس. عليهم السلام. تتكشّف فيها رحمة الله ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل. قصة الذبح والفداء، وتبرز فيها الطاعة والاستسلام لله في أروع صورها وأعمقها وأرفعها؛ وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء. ***

والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها، تتمثل بشكل واضح في: مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ. وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة، ومفاجئاتها الفريدة، وانفعالاتها القوية. والمشاهد التي تحويها هذه السورة ذات طابع فريد حقا سنلمسه عند استعراضه تفصيلا في مكانه من السورة. وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته. وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل- عليهما السلام-، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهزّ القلوب هزّا عميقا عنيفا. ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة، وهو ذو طابع مميّز يتّفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة).

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى الآية (10) وهذه هي

مقدمة السورة وتمتدّ من الآية (1) إلى الآية (10) وهذه هي: 37/ 4 - 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ التفسير: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هذا قسم بالملائكة فإنها تصفّ في صلاتها صفا، وتزجر عما نهى الله عنه زجرا، وتتلو ذكر الله. قال النسفي: (أقسم الله سبحانه وتعالى بطوائف الملائكة، أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة، فالزاجرات السحاب سوقا، أو عن المعاصي بالإلهام، فالتاليات لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها) ولم يذكر ابن كثير إلا هذا الوجه الذي نقلناه عن النسفي، إلا أن النسفي يذكر وجهين آخرين في معنى الآيات فيقول: (أو بنفوس العلماء العمّال الصافات أقدامها في التهجد، وسائر الصلوات، فالزاجرات بالمواعظ والنّصائح، فالتاليات آيات الله، والدارسات شرائعه، أو بنفوس الغزاة في سبيل الله، التي تصف الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك ... ) والفاء تدل على ترتيب الصفات في التفاضل، فتفيد الفضل للصف، ثم للزجر، ثم للتلاوة، أو على العكس، والآيات تفيد فضيلة الصف لله أو في سبيل الله، وفضيلة الزجر في الله، أو في سبيل الله، وفضيلة تلاوة القرآن والذكر إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ هذا هو

[سورة الصافات (37): آية 5]

المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من المخلوقات وَرَبُّ الْمَشارِقِ أي والمغارب قال ابن كثير: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه. وبعد أن عرفنا الله عزّ وجل على أنه رب كل شئ وأنّه وحده الإله يعرفنا على مظاهر من فعله لنا، ومن أجلنا فقال: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربى منكم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قال النسفي: والمعنى: إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب وَحِفْظاً قال ابن كثير: تقديره: وحفظناها حفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ قال ابن كثير: (يعني المتمرّد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه) فالمارد: هو الخارج عن الطاعة قال النسفي: المعنى: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء، وحفظا من الشياطين لا يَسَّمَّعُونَ أي الشياطين إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قال ابن كثير: (أي لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى- وهي السموات ومن فيها من الملائكة- إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدره) وفسّر النسفي: (الملأ الأعلى بالملائكة لأنهم يسكنون السموات وقال: والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض) وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي ويرمون بالشهب من جميع جوانب السماء، من أي جهة صعدوا للاستراق دُحُوراً أي يقذفون للدحور، أو مدحورين، والدحور: هو الطرد. قال ابن كثير: (أي رجما يدحرون به، ويزجرون، ويمنعون من الوصول إلى ذلك، ويرجمون) وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ أي دائم، قال النسفي: (أي أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع) قال ابن كثير: (أي في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ أي سلب السلبة يعني أخذ شيئا من كلام الملائكة بسرعة فَأَتْبَعَهُ أي لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ أي مضئ مستنير، فالله عزّ وجل الذي فعل هذا كله هو الرب، وهو وحده المستحق للإلهية والعبادة، وفي الكلام عن رجم الشياطين إذا صعدوا إلى السماء، وفي ذكر الملائكة في ابتداء السورة، وكونهم يتلون الذكر إشارة إلى حفظ الله وحيه، وهكذا تحدّثت مقدمة السورة عن التوحيد والملائكة والوحي، وفي ذلك كلام عن الرسل ضمنا؛ إذ هم الذين ينزل عليهم وحي الله عزّ وجل، وبذلك تجد مقدمة السورة تحدّثت- صراحة أو ضمنا- عن أركان الإيمان كلها، بما في ذلك الإيمان باليوم الآخر، إذ ورد قوله تعالى عن الشياطين وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ.

فوائد

فوائد: 1 - [حول أقوال المفسرين في (الصافات، والزاجرات، والتاليات) ورأي المؤلف] رأينا أن النسفي ذكر ثلاثة أقوال في تفسير الصّافات، والزّاجرات، والتّاليات، بينما لم يذكر ابن كثير إلا قولا واحدا، والذي أراه أن سياق السورة لا يحتمل إلا الوجه الأول، إلا أن الملائكة قدوة في الطاعة، فمن تحقق بما وصف الله به الملائكة دخل في ما استحقوه من تشريف، ومن ثمّ سنجد في سياق السورة ما يدل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يتأسى المسلمون بالملائكة، وفي الفائدة التالية بيان. 2 - [كلام ابن كثير عند قوله تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا] بمناسبة قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن كثير: (روى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء» وقد روى مسلم أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش ... عن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم: «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربهم؟» قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف»). 3 - [هل ترمى أجزاء من الكواكب على الشياطين أم يرمى الشيطان بكوكب كامل؟] نقلنا من قبل عن ابن كثير: أن أجزاء من الكواكب هي التي يرمى بها، فعند ما يذكر الله عزّ وجل أن الكواكب يرمى بها إنما يريد أجزاءها، وليس كلها، وهذه قضية مهمة، فمن المعلوم أنّ النيازك التي تصطدم في جو الأرض، والتي بها يتمّ الرمي، إنما هي أجزاء من النجوم والكواكب، وذكر الجزء وإرادة الكلّ أسلوب معروف في كلام العرب، فقد يذكر الكل ويراد به الجزء، وقد يذكر الجزء ويراد به الكل، وقد يذكر العام ويراد به الخاص، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة» ومن ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ... [آل عمران: 173]. 4 - [حول تزيين السماء الدنيا بالكواكب] ولم يفهم ابن كثير من كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب أن هذه الكواكب دون السماء الدنيا في المكان، ومن ثمّ قال: (فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جرم السماء الشفاف، فتضئ لأهل الأرض) وهذا يرجّح ما ذكرناه في

5 - أقوال المفسرين في السموات السبع والعرش، ورأي المؤلف في ذلك

تفسير سورة البقرة، إذ ذكرنا أن السموات السبع- المنصوص عليها بالقرآن- سماوات مغيّبة عنا، وأنها قريبة، فهي أقرب من نجوم غير المجموعة الشمسية، ويؤكد هذا القرب النسبي أن النيازك إنما يظهر ضوؤها الثاقب إذا اصطدمت في جو الأرض، مما يشير إلى أن المكان الذي يصاب به الجن هو جو الأرض، وبالتالي فهم لا يصعدون بعيدا لسماع نبأ السماء والوحي. 5 - [أقوال المفسرين في السموات السبع والعرش، ورأي المؤلف في ذلك] للمفسرين كلام كثير ومختلف في موضوع النجوم، والأرض، والسموات، والشمس، والقمر، واختلاف الكلام يدلّ على أن للاجتهاد وللتحقيق فيه نصيب، فمن تصورات بعضهم ما نقله الألوسي بقوله: (خلق الله سبحانه السموات السبع، وجعل في كل منها كوكبا، وهي الجواري) ومن تصورات بعضهم أن الشمس في السماء الرابعة، ومن القديم ذهب بعض المفسرين إلى أنه يوجد بعد العرش نجوم، فالآراء في هذا كثيرة وقسم كبير منها ظني. والذي أرجحه: أن السموات السبع والعرش من الأمور الغيبية، وأن المجموعة الشمسية في وسط السماء الدنيا، وأن الكواكب السيارة دونها، ولا أستبعد أن يكون ذلك هو المراد بقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصافات: 6] فالكواكب السيارة بعض زينة السماء الدنيا، هذا إذا لم يكن المراد بالسماء الدنيا السماء اللغوية، وأتصور أن هناك نسبة ثابتة بين الأرض والسموات السبع والعرش، وأن السموات السبع والعرش والمجموعة الشمسية في حالة حركة واحدة، لتبقى النسبة ثابتة، وهذه كلها موجودة ضمن الكون الكبير في مجرّاته الواسعة وسيمرّ في هذا التفسير ما يوضّح الكثير عن هذه الأمور. 6 - [حول المقصود بالمشرقين والمغربين وكلام صاحب الظلال بمناسبة آية وَرَبُّ الْمَشارِقِ] ذكر القرآن مشرقا ومغربا واحدا، وذكر مشرقين ومغربين، وذكر مشارق ومغارب، فقال مرة رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] وقال رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17] وقال فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] وقال هاهنا في سورة الصافات وَرَبُّ الْمَشارِقِ وحاول بعض المفسرين أن يذكر تعليلا لذلك والذي يبدو لي أن التعليل الوحيد لذلك هو: أن الإنسان في أي مكان من الأرض يرى شروقا واحدا للشمس، وغروبا، والغروب في حقه شروق في حق غيره من الجهة الثانية من الأرض، والشروق في حقه غروب في حق غيره، ومن ثمّ كان مشرقان ومغربان،

كلمة في السياق: حول صلة مقدمة السورة بالمقطع الأول وبالمحور

ولكنه في الحقيقة ما من لحظة من اللحظات إلا وفيها شروق وغروب بالنسبة لجزء من أجزاء الكرة الأرضية، ومن ثمّ كانت مشارق ومغارب، فإن يذكر القرآن هذا المعنى فذلك من معجزاته الكثيرة وفي ذكر المشارق والمغارب إشارة إلى كروية الأرض، لأنه لا يمكن أن يكون مشارق ومغارب إلا إذا كانت الأرض كروية، وفي ذلك كذلك معجزة قرآنية إذا نظرنا إلى معارف الجزيرة العربية في عصر نزول القرآن. قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَرَبُّ الْمَشارِقِ. (ولكل نجم مشرق، ولكل كوكب مشرق، فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السماوات الفسيحة .. وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك. فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة- كما تتوالى المغارب- فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس كان هناك مشرق على هذا القطاع، وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية. حتى إذا تحركت الأرض كان هناك مشرق آخر على القطاع التالي، ومغرب آخر على القطاع المقابل له وهكذا ... وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم؛ ولكن خبّرهم بها الله في ذلك الزمان القديم! وهذا النظام الدقيق في توالي المشارق على هذه الأرض. وهذا البهاء الرائع الذي يغمر الكون في مطالع المشارق .. كلاهما جدير بأن يوقع في القلب البشري من التأثرات الموحية، ما يهتف به إلى تدبّر صنعة الصانع المبدع، وإلى الإيمان بوحدانية الخالق المدبّر، بما يبدو من آثار الصنعة الموحدة التي لا اختلاف في طابعها الدقيق الجميل). كلمة في السياق: [حول صلة مقدمة السورة بالمقطع الأول وبالمحور] رأينا أنّ مقدمة السورة انصب سياقها الرئيسي على موضوع التوحيد والتعريف على الله عزّ وجل، وما يستلزمه ذلك من استحقاق الله وحده للألوهية، ومن ثمّ يبتدئ المقطع الأول في السورة بقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا .... وفي هذا الابتداء ما يوحي باستمرار السورة في سياقها الرئيسي في الكلام عن موضوع التوحيد، ومع أن ذلك هو السياق الرئيسي فإنّ المقدّمة تحدّثت بشكل عرضي عن الملائكة، والوحي، والقرآن، واليوم الآخر، أي عن أركان الإيمان، وسنرى أنّ

المقطع الأول كذلك يتحدث عن هذه القضايا، وصلة ذلك بالآيات الأولى لسورة البقرة واضحة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فلنر المقطع الأول. ***

المقطع الأول ويمتد من الآية (11) إلى نهاية الآية (148) وهذا هو

المقطع الأول ويمتدّ من الآية (11) إلى نهاية الآية (148) وهذا هو: 37/ 148 - 11

37/ 36 - 69

37/ 70 - 101

37/ 102 - 134

التفسير

37/ 135 - 148 التفسير: فَاسْتَفْتِهِمْ أي استخبر الكافرين أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى أو أصعب وأشق أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما قال النسفي: (وجئ بمن تغليبا للعقلاء على غيرهم) إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لاصق أو لازم. ومعنى الآية: أن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، ولم يصعب عليه اختراعها، كان خلق البشر عليه أهون، وذكر خلقهم من طين احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب قال ابن كثير: (يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقا هم أم السموات والأرض، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ... ؟ فإنّهم يقرّون أنّ هذه المخلوقات أشدّ خلقا منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم ممّا أنكروا ... ثم بيّن أنهم خلقوا من شئ ضعيف هو الطين اللازب أي الجيّد الذي يلزق بعضه ببعض). كلمة في السياق: [آيات المقطع ومدى ترابطها وصلتها بالمحور] هذه الآية جسر للانتقال إلى موضوع اليوم الآخر وهي جسر يبيّن أنّ موضوع اليوم الآخر مرتبط بموضوع الإيمان بالله، فالسياق أشعرنا أنّ مجرد معرفة أن الله هو

[سورة الصافات (37): آية 12]

الخالق لما ذكر فهذا يقتضي إيمانا بالبعث، والسّياق أشعرنا أنّ الكافرين لا يعطون هذا اللازم حقه، ومن ثمّ أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يوجه لهم هذا السؤال ليقيم عليهم الحجة من خلاله، ومن هذا نفهم أنّ الذي لا يؤمن باليوم الآخر ليس مؤمنا بالله أصلا، ومن ثمّ ندرك كيف أن السورة مع أنها تصبّ في سياقها الرئيسي في موضوع التوحيد فهي تتعرض لموضوع اليوم الآخر، وغيره من المواضيع الإيمانية، وما ذلك إلا لأن التوحيد الكامل يدخل فيه موضوع الإيمان باليوم الآخر والرسل، فمن لا يؤمن باليوم الآخر يتصوّر أن هذا الكون خلقه الله سدى وعبثا، ومن لم يؤمن بالرسل يتصور أن الله عزّ وجل يهمل ويترك عباده بلا هداية، وكل ذلك يتنافى مع التصور الصحيح لموضوع الألوهية، وبالتالي فهو يتنافى مع التوحيد الحق الخالص، ولنمض في التفسير: ... بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ قال ابن كثير: (أي: بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدّق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون ممّا تقول لهم من ذلك) أي أنت تعجب من تكذيبهم لأن الأمر في غاية الوضوح عندك، وهم يسخرون منك، ومن تعجبك فالبعد بين الموقفين واضح، كالبعد بين الموقف العقلي الحاسم الجازم، والموقف النفسي الهازل وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي ودأبهم إذا وعظوا لا يتعظون، فهم مع موقفهم الهازل الساخر المكذّب ليس عندهم استعداد للسماع ولا للتذكّر وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة، أو دلالة واضحة على صدق ما جئت به يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في الاستهزاء منها، أو يستدعي بعضهم بعضا أن يسخر منها، فلا الآيات تنفع لهم، ولا التذكير ينفع بهم، ولا عقل يخضعون لحكمه، وأبشع من هذا كله أنهم يعتبرون الحقّ القطعي سحرا وَقالُوا إِنْ أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر وما هو الذي سمّوه سحرا؟ إنّه البعث أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ يتساءلون سؤال إنكار، أنبعث إذا كنا ترابا وعظاما؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ أي أيبعث أيضا آباؤنا الأقدمون، ويعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل، وهكذا عرفنا لم أمر الله عزّ وجل رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يستفتي هؤلاء الكافرين الاستفتاء السابق، ويوجّه لهم ذلك السؤال، عرفنا أن ذلك من أجل هذا الموقف الذي وضّحه السياق فيما بعد، وإنّما أخّره ليربط

[سورة الصافات (37): آية 18]

بين موضوع الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وليجعل ما قبل السؤال حجة في ردّ ما زعموه، وفي تقرير أن اليوم الآخر لازم من لوازم الإيمان بالله، وإذ قامت الحجة عليهم من قبل فإنّ الجواب على سؤالهم الاستنكاري، يأتي الآن بشكل جواب تقريري، وعرض لما سيكون، قال تعالى: قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي صاغرون ذليلون قال ابن كثير: (أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة، بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، وأنتم داخرون: أي حقيرون تحت القدرة العظيمة ... ) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي صيحة واحدة والتقدير: إذا كان الأمر كما ذكر فما هي إلا صيحة واحدة فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا هم أحياء بصراء ينظرون إلى سوء أعمالهم، أو ينتظرون ما يحل بهم قال ابن كثير: (أي فإنما هو أمر واحد من الله عزّ وجل يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، عندئذ يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا، فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم؛ حيث لا ينفعهم الندم وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ أي اليوم الذي ندان فيه، أي نجازى بأعمالنا، والويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، قال ابن كثير: فتقول لهم الملائكة والمؤمنون هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلال الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يقال لهم هذا على وجه التقريع والتوبيخ، قال ابن كثير: (ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميّز الكفار من المؤمنين في الموقف، في محشرهم ومنشرهم) ولهذا قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: كفروا، والخطاب للملائكة وَأَزْواجَهُمْ أي أشباههم وأمثالهم وإخوانهم وقرناءهم وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام والأنداد، تحشر معهم في أماكنهم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي: فارشدوهم إلى طريق جهنم، أي: دلّوهم إلى طريق النار وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أقوالهم وأفعالهم قال ابن عباس: يعني احبسوهم إنّهم محاسبون وقال ابن كثير: أي: قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا ... ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي: لا ينصر بعضكم بعضا، وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر، بعد ما كانوا متناصرين في الدنيا بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ أي منقادون لأمر الله، لا يخالفونه ولا يحيدون عنه قال النسفي: (أو قد أسلم بعضهم بعضا، وخذله عن عجز، فكلّهم مستسلم غير منتصر).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: صوّر الله لنا حال الكافرين في الدنيا حيث يسخرون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودعوته، وينأون عن التذكير، ويستسخرون من الآيات إذا رأوها، ويستنكرون أن يكون هناك يوم آخر، ثم صوّر لنا حالهم في الآخرة، إذ ينقلب هذا كله ذلة واستسلاما، ومن تأمّل مثل هذا الإبداع في التصوير والتعبير- تصوير العناد في الدنيا وانقلابه استسلاما في الآخرة- أدرك- بما لا يقبل الشك- أن مثل هذا التعبير جل عن طوق البشر؛ إذ كيف يأتي التعبير بمثل هذه البلاغة والإحاطة في قضية ليست مطروقة إطلاقا في كلام العرب! ألا إن الذين يكابرون في كون هذا القرآن من عند الله لجاهلون جهلا فظيعا. ... وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي: يتخاصمون، والسياق يدل على أن هذا الخصام والتلاوم كان بين الأتباع والمتبوعين في عرصات القيامة قالُوا أي الأتباع للمتبوعين إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي: عن القوة والقهر، قال النسفي: إذ اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش، أي: إنكم كنتم تحملوننا على الضلال، وتقسروننا عليه قال ابن عباس: يقولون: كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنّا كنّا أذلاء، وكنتم أعزاء قالُوا أي: القادة والرؤساء من الجن والإنس للأتباع بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: بل أبيتم أنتم الإيمان، وأعرضتم عنه مع تمكّنكم منه، مختارين له على الكفر، غير ملجئين، قال ابن كثير: (أي: ما الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان، قابلة للكفر والعصيان) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من تسلّط نسلبكم به تمكّنكم واختياركم، قال ابن كثير: أي: من حجّة على صحة ما دعوناكم إليه بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ أي بل كنتم قوما مختارين للطغيان قال ابن كثير: (أي: بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق، فلهذا استجبتم لنا، وتركتم الحق الذي جاءكم به الأنبياء، وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاءوكم به فخالفتموهم) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا أي فلزمنا جميعا وعيد الله إِنَّا لَذائِقُونَ أي بأنا لذائقون لعذابه لا محالة؛ لعلمه بحاله، قال ابن كثير: يقول الكبراء للمستضعفين: حقت علينا كلمة الله: إنّا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة فَأَغْوَيْناكُمْ أي: فدعوناكم إلى الضلالة والغي إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي: فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا، أي: فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا قال الله تعالى

[سورة الصافات (37): آية 33]

مقرّرا ما يستحقه الجميع فَإِنَّهُمْ أي: الأتباع والمتبوعين يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية قال ابن كثير: أي: الجميع في النار كل بحسبه إِنَّا كَذلِكَ أي: مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي: بالمشركين أي: بكل مجرم إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ أي: إذا سمعوا بكلمة التوحيد استكبروا وأبوا إلا الإشراك قال ابن كثير: أي: يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ أي: أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون، يصفون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، وحاشاه، قال الله تعالى تكذيبا لهم وردّا عليهم بَلْ جاءَ أي: محمد صلّى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ في كل ما جاء به من الأخبار والطلب وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ قال ابن كثير: (أي صدّقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره كما أخبروا ... ). ... كلمة في السياق: 1 - لقد علل الله عزّ وجل لما أصاب الكافرين في الآخرة بقوله إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ مما يدل على أن أصل البلاء ومشكلته الكبرى هو الشرك، وأن الداء الذي ينبع عنه كل شر هو الشرك؛ فعنه ينبثق الكفر باليوم الآخر، وعنه ينبثق الكفر بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن ثمّ قلنا إن السياق الرئيسي للسورة يصب في موضوع التوحيد، والمواضيع الأخرى التي تتحدث عنها السورة كلها تتفرّع عن هذا الأصل. 2 - من السياق نعلم أن هناك موضوعين رئيسيين متفرّعين عن قضية التوحيد، هما: قضية اليوم الآخر، وقضية بعثة الرسل، ومن ثمّ نلاحظ أن هذا المقطع كله يتحدّث عن موضوع الإيمان باليوم الآخر، والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولذلك فقد جاء في وسط الكلام عن اليوم الآخر قوله تعالى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وذلك بعد ذكر الشرك مباشرة. 3 - وفي هذا السياق مرّ معنا قول السادة للأتباع بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فإذا تذكرنا أن (لا إله إلا الله) هي أساس الإيمان، وإذا كان السياق كله في موضوع

[سورة الصافات (37): آية 38]

(لا إله إلا الله) نعرف صلة السورة بالآيات الأولى من سورة البقرة، وخاصة في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ولنمض في التفسير ملاحظين أن السياق لا زال يحدّثنا عن مشاهد يوم القيامة: ... إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي عذاب النار وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فليس عقابكم وتعذيبكم ظلما إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فهؤلاء مستثنون من العذاب قال ابن كثير: (أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم، ولا يناقشون في الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، إلى ما يشاء الله من التضعيف) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعني الجنة ثمّ فسّره بقوله: فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي يخدمون ويرفهون وينعمون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي وهم منعّمون في جنات النعيم، فهم في الجنة مكرمون مرزوقون قال النّسفي: (فسّر الرزق المعلوم بالفواكه وهي كل ما يتلذذ به، ولا يتقوّت لحفظ الصحة، يعني أن رزقهم كله فواكه، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، لأن أجسادهم محكمة مخلوقة للأبد، فما يأكلونه للتلذذ، ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر، وقيل معلوم الوقت كقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] والنفس إليه أسكن) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قال مجاهد: (أي) لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض وقال النسفي: التقابل أتم للسرور والأنس يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي من شراب معين، أو من نهر معين: وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة كما يجري الماء كما سنرى في سورة محمد صلّى الله عليه وسلم والكأس: هي الزّجاجة إذا كان فيها الخمر، وتسمّى الخمر نفسها كأسا قال ابن كثير: (أي بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لونها مشرق حسن بهي، لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الردئ، من حمرة أو سواد، أو اصفرار، أو كدورة، إلى غير ذلك مما ينفّر الطبع السليم، ووصفت بأنّها لذة للشاربين بمعنى: أنها ذات لذّة، أو أنها اللذة عينها قال ابن كثير: (أي طعمها طيّب كلونها، وطيب الطعام دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في ذلك كله) لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم كخمر الدنيا

[سورة الصافات (37): آية 48]

وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي يسكرون قال مجاهد: لا تذهب عقولهم قال ابن كثير: (وقال الضحاك عن ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السّكر، والصداع، والقئ، والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزّهها عن هذه الخصال) كما ذكر في سورة الصافات وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن قال النسفي: أي قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا يمددن طرفا إلى غيرهم عِينٌ جمع عيناء أي نجلاء واسعة العين، أي حسان الأعين، قال ابن كثير: (وهي النجلاء العيناء، فوصف عيونهن بالحسن والعفة) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي مصون، شبّهه ببيض النّعام المكنون في الصفاء، وبها تشبّه العرب النساء وتسمّيهن بيضات الجذور قال ابن كثير: (وصفهنّ بترافة الأبدان بأحسن الألوان). كلمة في السياق: قال تعالى في الآيات المارّة إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ* وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ* أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ... ثم وصف تعالى الرزق المعلوم، لاحظ كلمة أُولئِكَ وتذكر ما ختم الله تعالى به الآيات الأولى من سورة البقرة أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فكأن الآيات هنا تصف فلاحهم فتقول أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ* فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ* يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ* لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ* وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ* كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ فإذا كان تحديدنا محور السورة صحيحا، وإذا كانت هذه الآيات تفصيلا لفلاح المتقين، فإن عباد الله المخلصين إذن هم المتقون الذين ورد تحديد صفاتهم في أول سورة البقرة، وعلى هذا فقوله تعالى إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ له صلة وارتباط بقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ويستمر السياق في السورة مكمّلا وصف حال أهل الجنة، فيصف الآن مشهدا من مشاهد جلساتهم. ... فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ يعني أهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ جاء هذا بعد قوله

[سورة الصافات (37): آية 51]

تعالى فيما مرّ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ فالمعنى: أنهم يشربون ويتحادثون على الشراب كعادة الشّراب، فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن أهل الجنة أنّه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، أي عن أحوالهم، وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من حديثهم على شرابهم، واجتماعهم في تنادمهم، ومعاشرتهم في مجالسهم، وهم جلوس على السرر، والخدم بين أيديهم، يسعون ويجيئون بكل خير عظيم، من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك، ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ قال ابن عباس: هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا يَقُولُ المشرك للمؤمن أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بيوم الدين قال ابن كثير: (أي أأنت تصدّق بالبعث والنّشور، والحساب والجزاء؟! يعني يقول ذلك على وجه التعجّب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمحاسبون ومجزيّون بأعمالنا قالَ ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار لأريكم ذلك القرين فَاطَّلَعَ المسلم فَرَآهُ أي قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسطها قالَ المؤمن تَاللَّهِ إِنْ أي إنه كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني لو أطعتك وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي أي عصمته وتوفيقه في الاستمساك بعروة الإسلام لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك قال ابن كثير: (أي ولولا فضل الله عليّ لكنت مثلك في سواء الجحيم، حيث أنت، محضر معك في العذاب، ولكنّه تفضّل عليّ ورحمني فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده .. ) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قال ابن كثير: (هذا من كلام المؤمن مغتبطا نفسه بما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب) قال النسفي: (وهذا قوله يقوله المؤمن تحدّثا بنعمة الله، بمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له، وزيادة تعذيب)، يقرّعه على اعتقاده في الدنيا أن لا بعث ولا عذاب، وما ثمّ إلا الموتة الأولى ثم قال المؤمن لقرينه إِنَّ هذا أي الأمر الذي نحن فيه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ...

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - لاحظ الصلة بين قوله تعالى في محور السورة من سورة البقرة وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وبين قوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فالسياق هاهنا يحدّثنا عن مظهر ثان من مظاهر فلاح أهل الإيمان. 2 - جاء في أوائل المقطع الذي نحن فيه قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ... أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لاحظ صلة ذلك بالمشهد الذي نحن فيه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ... أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ* إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إنّ للمقطع وحدته ضمن سياق السّورة، وللسورة وحدتها ضمن الوحدة القرآنية العامّة، من حيث ارتباطها بما قبلها، وبما بعدها، ومن حيث ارتباطها بمحورها من سورة البقرة. ... وبعد أن قصّ الله علينا حال أهل الجنة وفوزهم وفلاحهم حثّنا على العمل فقال لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لمثل هذا النعيم، وهذا الفوز، فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة أَذلِكَ أي نعيم الجنة وما فيها من اللذات، والطعام والشراب خَيْرٌ نُزُلًا النزل: ما يقدّم للنازل بالمكان من الرزق أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ خير نزلا؟! يقول ابن كثير: (يقول الله تعالى: أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ، خير ضيافة وعطاء، أم شجرة الزقوم أي التي في جهنم) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ أي محنة وعذابا لهم في الآخرة، أو ابتلاء لهم في الدنيا، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النّار شجرة والنار تحرق الشجر؟ فكذّبوا. قال ابن كثير: (ومعنى الآية: إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم؛ اختبارا تختبر به الناس، من يصدّق منهم ممّن يكذب ... ) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قال ابن كثير: أي أصل منبتها في قرار النار طَلْعُها أي ثمرها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال ابن كثير: (تبشيع لها، وتكريه لذكرها ... وإنّما شبّهها برءوس الشياطين- وإن لم تكن معروفة عند

[سورة الصافات (37): آية 66]

المخاطبين- لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر) وقال النسفي: (وشبّه (أي طلعها) برءوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة، وقبح المنظر، لأن الشيطان مكروه، مستقبح في طباع الناس؛ لاعتقادهم أنه شر محض) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي فمالئون منها بطونهم لما يغلبهم من الجوع الشديد ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً أي لخلطا ولمزاجا مِنْ حَمِيمٍ أي من ماء حار يشوي وجوههم، ويقطّع أمعاءهم قال النسفي والمعنى: (ثم إنهم يملئون البطون من شجرة الزقوم: وهو حار يحرق بطونهم، ويعطشهم فلا يسقون إلا بعد ملىّ؛ تعذيبا لهم بذلك العطش، ثم يسقون ما هو أحرّ، وهو الشراب المشوب بالحميم) وقد فسر بعضهم الشوب بأنه مزيج من الحميم والصّديد والغسّاق مما يسيل من فروجهم وعيونهم ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ قال النسفي: (أي أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم، وهي الدركات التي أسكنوها، إلى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن يمتلئوا، ويسقون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم) ثمّ علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدّين، واتّباعهم إياهم في الضلال، وترك اتّباع الدليل فقال تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ الإهراع: الإسراع الشديد، كأنّهم يحثون حثا قال ابن كثير: (أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتّبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل كفار هذه الأمة أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ أي أكثر الأمم الخالية بالتقليد، وترك النظر، والتأمّل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أي أنبياء حذّروهم العواقب فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي الذين أنذروا وحذّروا إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصهم الله لدينه، فهؤلاء نجّاهم ونصرهم وظفّرهم. ... كلمة في السياق: 1 - تكرّر قوله تعالى إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ* حتى الآن مرتين: المرة الأولى: جاءت في سياق قوله تعالى إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ* وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.

فوائد

والمرة الثانية: هاهنا في سياق قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. وفي المرة الأولى بيّن أنّهم ناجون من عذاب يوم القيامة؛ وفي المرة الثانية بيّن أنهم ناجون من عذاب الاستئصال في الدنيا، فإذا تذكّرنا محور السورة من سورة البقرة، وتذكّرنا قوله تعالى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، عرفنا أن فلاح المتقين كائن في الدنيا؛ إذ ينجّيهم الله من عذابه، وفي الآخرة إذ ينجيهم الله من عذابه، ومن قبل ذكرنا أن المخلصين هم المتقون، أخذنا ذلك من صلة السورة بمحورها. وبعد هذا البيان والتقرير يأتي دور التمثيل في المقطع، فيعرض الله علينا مثلا من نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوطا ويونس عليهم الصلاة والسلام، وكأن المقطع ينقسم إلى مجموعتين رئيسيتين: مجموعة تقرّر المعاني، وأخرى تضرب الأمثال. 2 - لقد جاء فيما مرّ معنا من السورة قوله تعالى بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وجاء قوله تعالى وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ والآن يأتي دور التمثيل لكيفية كون دعوة الرسل واحدة، ولتصديق محمد صلّى الله عليه وسلم للمرسلين السابقين، ودعوتهم الحق القائمة على التوحيد، وتكذيب الأكثرية لذلك، وبماذا عوقبوا، والتمثيل لمواقف الرسل الإيمانية التي هي القدوة العليا، وغير ذلك مما تحتاجه المعاني السابقة من أمثلة قائمة، وسنرى ذلك، وصلته بسياق المقطع، وسياق السورة، وصلة ذلك بالمحور، وقبل أن نبدأ عرض المجموعة الثانية من المقطع فلننقل بعض الفوائد المتعلّقة بما مرّ. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ] بمناسبة قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيما داع دعا إلى شئ كان موقوفا معه إلى يوم القيامة، لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلا» ثم قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ورواه الترمذي من حديث ليث ابن أبي سليم، ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي الله عنه مرفوعا، وقال عبد الله بن المبارك سمعت عثمان بن زائدة يقول: إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه).

2 - حول المراد باليمين في آية إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين وقول المؤلف في ذلك

2 - [حول المراد باليمين في آية إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ وقول المؤلف في ذلك] اعتمدنا في قوله تعالى إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أن المراد باليمين القوة والقهر، إلا أننا نحب أن نسجل هنا ملاحظة وهي أن المفسرين في هذا المقام كثر كلامهم، ولا يكون الأمر كذلك إلا لأن النص يحتمل، ولا يأتي أحد بما يقطع، وقد عرض ابن كثير أقوال المفسرين، ولنا في الأخير كلمة نقولها قال ابن كثير: (قال الضحاك عن ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنا كنا أذلاء، وكنتم أعزاء، وقال مجاهد يعني: عن الحق والكفار تقوله للشياطين. وقال قتادة قالت الإنس للجن: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين، قال من قبل الخير فتنهونا عنه، وتبطّئونا عنه، وقال السدي: تأتوننا من قبل الحق، وتزيّنوا لنا الباطل، وتصدّونا عن الحق. وقال الحسن في قوله تعالى إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصدّه عنه، وقال ابن زيد معناه: تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به. وقال يزيد: الشك من قبل لا إله إلا الله، وقال خصيف: يعنون من قبل ميامنهم، وقال عكرمة إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قال: من حيث نأمنكم). أقول: في عصرنا طرح موضوع اليمين واليسار، وأصبح اليسار يعتبر عند بعض الناس علامة على الرغبة في التقدم والتخلّص من عراقيل الماضي، وأصبحت من أكبر الشتائم أن تقول لإنسان أنت يميني، واتفق اليسار على أن يعتبر المتديّنين جميعا يمينيّين، وأصبح كثير من الناس يفرون من التدين خوفا من أن يتهموا بأنّهم يمينيون رجعيون، فهل تحتمل الآية- من جملة ما تحتمل- الإشارة إلى هؤلاء الناس الذين يصرفون الناس عن الإسلام بدعوى أنّ الإسلام يمينيّ، فيكون معنى الآية: إنكم كنتم تأتوننا عن طريق مهاجمة اليمين لتصرفونا عن الإسلام، لا نزعم أن الآية تعني هذا قطعا، ولكن التعبير يحتمله، وذلك من مظاهر الإعجاز القرآني، إذ يعطي التعبير فيه في كل عصر عبيرا خاصا. والله أعلم. 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجل» وأنزل الله في كتابه العزيز، وذكر قوما استكبروا فقال تعالى إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ

4 - حديث بمناسبة قوله تعالى كأنهن بيض مكنون

لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وروى ابن أبي حاتم أيضا عن أبي العلاء قال: يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله وعزيزا فيقال لهم: خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله والمسيح، فيقال لهم خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم: لا إله إلا الله فيستكبرون، ثم يقال لهم: لا إله إلا الله فيستكبرون، ثم يقال لهم: لا إله إلا الله فيستكبرون، فيقال لهم: خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة: فينطلقون أسرع من الطير، قال أبو العلاء: ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد الله تعالى، فيقال لهم: هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقال لهم: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عدل له، قال: فيتعرّف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين). 4 - [حديث بمناسبة قوله تعالى كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ] بمناسبة قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا حزنوا، وأنا شفيعهم إذا حبسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزّ وجل ولا فخر، يطوف عليّ ألف خادم كأنهن البيض المكنون- أو اللؤلؤ المكنون-» والله أعلم بالصواب). 5 - [كلام ابن كثير حول آية أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وما ورد عن الزقوم] بمناسبة قوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ قال ابن كثير: (وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ [المؤمنون: 20] يعني الزيتونة، ويؤيد ذلك قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ* لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة: 51، 52] وقوله عزّ وجل إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قال قتادة: ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة، وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فأنزل الله تعالى إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ غذيت من النار ومنها خلقت. وقال مجاهد إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قال أبو جهل- لعنه الله-: إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه (قلت): ومعنى الآية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا نختبر به الناس، من يصدق منهم ممن يكذب، كقوله تبارك وتعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي

6 - كلام ابن كثير بمناسبة آية ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم

أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ* وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً [الإسراء: 60]). وبمناسبة الكلام عن الزقوم قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم رحمه الله عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال: «اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة وقال الترمذي: حسن صحيح). 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ] بمناسبة قوله تعالى ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «يقرب- يعني إلى أهل النار- ماء فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره» وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إذا أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو مارّا مرّ بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثوا بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون أمعاءهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور). 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ] بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ قال ابن كثير: (أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقّد، وسعير تتوهج، فتارة في هذا، وتارة في هذا، كما قال تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] هكذا تلا قتادة هذه الآية وهو تفسير حسن قوي، وقال السدي في قراءة عبد الله رضي الله عنه (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم) وكان عبد الله رضي الله عنه يقول: والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم قرأ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] وروى الثوري عن عبد الله رضي الله عنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء، ويقيل هؤلاء قال سفيان أراه ثم قرأ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم (قلت): على هذا التفسير

ولنعد إلى التفسير

تكون ثم عاطفة لخبر على خبر). ولنعد إلى التفسير: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي دعانا فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي فو الله لنعم المجيبون نحن، والجمع دليل العظمة والكبرياء والمعنى: أنا أجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي ومن آمن به من الناس ومن أولاده مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الغرق أو التكذيب والأذى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ من قومه أو من الناس كافة وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم هذه الكلمة وهي سَلامٌ عَلى نُوحٍ يعني يسلّمون عليه تسليما، ويدعون له فِي الْعالَمِينَ أي ثبّت هذه التحيّة فيهم جميعا، ولا يخلو أحد منهم منها، وكأنه قيل ثبّت الله التّسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلّمون عليه من آخرهم، ثم علّل مجازاته بتلك التكرمة السنيّة بأنه كان محسنا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى، نجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك قال النّسفي: (ثمّ علّل كونه محسنا بأنّه كان عبدا مؤمنا ليريك جلالة محل الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتّعظيم) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ أي المصدّقين الموحّدين الموقنين ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي الكافرين أهلكناهم فلم تبق منهم عين تطرف، ولا ذكر ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة. كلمة في السياق: 1 - قلنا: إنّ المقطع الأول من سورة الصافات ينقسم إلى مجموعتين: الأولى للتقرير، والثانية للتمثيل، وقد جعل الله بين ذلك جسرا انتقل به السياق من التقرير إلى التمثيل، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ثم بدأ التمثيل بقوله تعالى وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ ... قال النسفي: (لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية، وسوء عاقبة المنذرين، أتبع ذلك ذكر نوح عليه السلام، ودعاءه إياه حين أيس من قومه) وقال ابن كثير: (لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة، شرع يبين ذلك مفصّلا؛ فذكر نوحا عليه الصلاة والسلام، وما لقي من

فوائد: تحقيق حول أولاد نوح عليه السلام بمناسبة آية وجعلنا ذريته هم الباقين

قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل، مع طول المدة، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلما طال عليه ذلك، واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة؛ فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، فغضب الله تعالى لغضبه ... ). 2 - في التمثيل بقصة نوح عليه السلام في سياق السورة توضيح لنجاة عباد الله المخلصين، من عذاب الدنيا، وتوضيح لقيمة الإيمان، ونموذج على إرسال الله الرسل للإنذار، ونموذج على أن هؤلاء الرسل هم المثل الأعلى للأخلاق الربانية من إحسان وإيمان. 3 - في قوله تعالى عن نوح عليه السلام إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى كون نوح عليه السلام من الموحّدين المؤمنين، ومن ثم فإن قصة نوح خدمت سياق السورة من عدة نواح، أولا: في موضوع التوحيد، ثانيا: في موضوع بعثة الرسل جميعا بالتوحيد، ثالثا: في موضوع إنجاء الله المؤمنين من العذاب، رابعا: في إبراز قيمة الإيمان في موازين الله عزّ وجل، وصلة ذلك كله بمحور السورة من سورة البقرة وخاصة قضية الإيمان واضحة. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... إن نوحا عليه السلام هو نموذج من النماذج العليا للإيمان إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. ... فوائد: [تحقيق حول أولاد نوح عليه السلام بمناسبة آية وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ] - بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال: الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال: سام وحام ويافث. وروى الإمام أحمد عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم» ورواه الترمذي، قال الحافظ

أبو عمرو بن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم مثله، والمراد بالروم هاهنا: هم الروم الأول، وهم اليونان المنتسبون إلى رومي ابن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش ابن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام، ويافث، وحام، وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاثة: فولد سام العرب، وفارس والروم، وولد يافث الترك والصقالبة، ويأجوج ومأجوج، وولد حام القبط والسودان والبربر، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم). وفي سفر التكوين الإصحاح العاشر حديث عن أبناء نوح، ومن تفرّع عنهم وهذا هو ننقله للاستئناس: (وهذه مواليد بني نوح. سام وحام ويافث. وولد لهم بنون بعد الطوفان. بنو يافث جومر وماجوج وماداي وياوان وتوبال وماشك وتيراس. وبنو جومر أشكناز وريفاث وتوجرمة. وبنو ياوان أليشة وترشيش وكتيم ودودانيم. من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيهم كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم بأممهم. وبنو حام كوش ومصرايم وفوط وكنعان. وبنو كوش سبأ وحويلة وسبتة ورعمة وسبتكا. وبنو رعمة شبا وددان. وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض. الذي كان جبار صيد أمام الرب. لذلك يقال كنمرود جبار صيد أمام الرب. وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلنة في أرض شنعار. من تلك الأرض خرج أشعور وبني نينوى ورحوبوت عير وكالح ورسن بين نينوى وكالح. هي المدينة الكبيرة. ومصرايم ولد لوديم وعناميم ولهابيم ونفتوحيم وفتروسيم وكسلوحيم. الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم. وكنعان ولد صيدون بكره وحثا واليبوسي والأموري والجرجاشي والحوي والعرقي والسيني والأروادي والصماري والحماتي. وبعد ذلك تفرقت قبائل الكنعاني. وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجئ نحو جرار إلى غزة وحينما تجئ نحو سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم إلى لاشع. هؤلاء بنو حام حسب قبائلهم كألسنتهم بأراضيهم وأممهم. وسام أبو كل بني عابر أخو يافث الكبير ولد له أيضا بنون. بنو سام عيلام وأشور وأرفكشاد ولود وأرام. وبنو أرام عوص وحول وجاثر وماش. وأرفكشاد ولد شالح وشالح وكالح ولد عابر. ولعابر ولد ابنان. اسم الواحد فالج لأن في أيامه قسمت

ولنعد إلى التفسير

الأرض. واسم أخيه يقطان. ويقطان ولد الموداد وشالف وحضرموت ويارح وهدورام وأوزال ودقلة وعوبال وأبيمايل وشبا وأوفير وحويلة ويوباب. جميع هؤلاء بنو يقطان. وكان مسكنهم من ميشا حينما تجئ نحو سفار جبل المشرق. هؤلاء بنو سام حسب قبائلهم كألسنتهم بأراضيهم حسب أممهم. هؤلاء قبائل بني نوح حسب مواليدهم بأممهم. ومن هؤلاء تفرقت الأمم في الأرض بعد الطوفان). ولنعد إلى التفسير: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي من شيعة نوح عليه السلام أي ممن شايعه على أصول الدين، أو شايعه على التصلّب في دين الله، ومصابرة المكذبين لَإِبْراهِيمَ. كلمة في السياق: مرّ معنا من قبل قوله تعالى عن رسولنا عليه الصلاة والسلام بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وقد رأينا قصة نوح عليه السلام، وكيف أنّه جاء بعدها مباشرة قوله تعالى وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ وفي ذلك إشارة إلى أن الرسل جميعا أسرة واحدة، طريقهم واحد، فالآية الأولى من قصة إبراهيم عليه السلام تخدم في سياق السورة هذا المعنى، كما تخدم معاني أخرى سنراها. ... إِذْ جاءَ إبراهيم عليه السلام رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشرك وآفات القلوب، وهذه الآية تفسير لما في الشيعة في الآية السابقة من معنى المشايعة على الدين والتقوى، فهذه الآية تبيّن نوع المشايعة الربانية الصحيحة أن يواطئ القلب القلب في الاعتقاد والصفاء، ومعنى مجئ إبراهيم عليه السلام ربّه بقلب سليم: أنه أخلص لله قلبه، وعلم الله ذلك منه إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون آلهة من دون الله إفكا أي كذبا فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ قال قتادة: يعني ما ظنّكم أنّه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره وقال النسفي: (أي أيّ شئ ظنكم برب العالمين وأنتم تعبدون غيره ... أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره،

كلمة في السياق

وعلمتم أنه المنعم الحقيقي، فكان حقيقا بالعبادة؟) وهذه الآية تفسّر القلب السليم بأنه القلب الموحّد، النّافر من الشّرك، المنكر على أهله. كلمة في السياق: من ذكر أن إبراهيم عليه السلام من شيعة نوح عليه السلام، ومن ذكر إنكار إبراهيم عليه السلام على قومه الشرك نعلم أن إبراهيم ونوحا كليهما بعثا بالتوحيد، فإذا تذكّرنا قوله تعالى عن أهل النار إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ* بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إذا تذكّرنا هذا نعرف كيف أنّ هذا الجزء من المقطع تمثيل لما ورد في المجموعة الأولى، فالرسل بعثوا بالتوحيد جميعا، ومحمد صلّى الله عليه وسلم مصدّق لهم في ذلك، وصلة ذلك كله بالسياق الرئيسي للسورة إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ واضحة. ... فَنَظَرَ إبراهيم عليه السلام نَظْرَةً فِي النُّجُومِ قال النسفي: (أي نظر في النجوم راميا ببصره إلى السماء، متفكّرا في نفسه كيف يحتال لإصلاح اعتقادهم، أو أراهم أنه ينظر في النجوم لاعتقادهم علم النجوم، فأوهمهم أنه استدلّ بأمارة على أنّه يسقم فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي ضعيف أو مشارف للسقم قال ابن كثير: (إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسّرها، فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر، فهموا منه أنّه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي فأعرضوا عنه مولّين الأدبار، وقد فهم بعضهم من هذا أنه ذكر لهم مرضا يخافونه، قال ابن عباس: فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج فقال: إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي مال إليها سرّا قال ابن كثير: (أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء) فَقالَ للأصنام استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتبرّك لهم فيه ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي فأقبل ومال عليهم ضربا بيمينه، لأنّها أقوى الجارحتين، وأشدّهما، أو ضربهم بسبب اليمين الذي حلفه في قوله وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أي يسرعون قال ابن كثير: (وهذه القصة هاهنا مختصرة وفي سورة الأنبياء مبسوطة فإنّهم

[سورة الصافات (37): آية 95]

لمّا رجعوا لم يعرفوا من أوّل وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا، فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك، فلمّا جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي بأيديكم وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ أي الله خالقكم وخالق أعمالكم، فلم تعبدون غيره؟ فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة، عدلوا إلى أخذه باليد والقهر على طريقة الظالمين المستكبرين، إذ قامت عليهم الحجة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي في النّار الشّديدة فَأَرادُوا بِهِ أي بإلقائه في النار كَيْداً أي أن يكيدوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي فجعلناهم المقهورين عند الإلقاء، ونجّاه الله من النار، وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها. ... كلمة في السياق: في إنجاء الله عزّ وجل إبراهيم عليه السلام من النار نموذج ثان على إنجاء الله عزّ وجل عباده المخلصين، وهي إحدى المعاني الرئيسية، التي تمثل لها قصص هذه المجموعة من المقطع؛ فلقد سبقت هذه المجموعة بقوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. ... وَقالَ إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النار، وبعد ما نصره الله تعالى على قومه، وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر إلى المكان الذي أمرني ربي بالذهاب إليه سَيَهْدِينِ أي سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفّقني رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أي بعض الصالحين، يريد الولد لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد قال ابن كثير: (يعني أولادا مطيعين يكونون عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ هو إسماعيل عليه السلام قال النسفي: (انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم؛ لأن الصبي لا يوصف بالحلم، وأنّه يكون حليما، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فاستسلم لذلك) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، أي فلمّا بلغ الحدّ الذي يقدر فيه على السّعي مع أبيه بمعنى: كبر وترعرع وشبّ وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من

[سورة الصافات (37): آية 103]

السّعي والعمل قالَ إبراهيم عليه السلام يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أي في الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى أي ما هو رأيك قال النسفي: (ولم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته، ولكن ليعلم أيجزع أم يصبر) قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي امض إلى ما أمرك الله من ذبحي سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أي على الذبح، أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عزّ وجلّ، وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله وخضعا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه؛ ليكون أهون عليه، أي أكبّه على وجهه وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، أي حقّقت ما أمرناك به في المنام من تسليم الولد للذبح إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال النسفي: (هذا) تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرج بعد الشدّة إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الاختبار البيّن الذي يتميّز فيه المخلصون من غيرهم قال ابن كثير: (أي الاختبار الواضح الجليّ، حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله تعالى، منقادا لطاعته) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذّبح: هو ما يذبح، والمراد به هنا كبش ضخم الجثة، سمين وهو السنّة في الأضاحي وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ فما من أمّة بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهي تسلّم على إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ بأن نبارك لهم في الذكر الحسن قال النسفي: ولم يقل (إنا كذلك) هنا كما في غيره؛ لأنه قد سبق في هذه القصة، فاكتفى بذكره مرّة عن ذكره ثانية إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ هذا تعليل لكونه محسنا، بأنه كان عبدا مؤمنا ليريك- كما قال النسفي من قبل- جلالة محلّ الإيمان، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا أي وبشّرناه بوجود إسحاق مقدّرة نبوته مِنَ الصَّالِحِينَ وكل نبي صالح، وفي ذكر الصلاح هنا ثناء عليه قال ابن كثير: (لمّا تقدّمت البشارة بالذبيح- وهو إسماعيل عليه السلام- عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ أي مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي كافر مُبِينٌ أي ظاهر أو محسن إلى الناس وآخر ظالم لنفسه بتعديه حدود الشرع قال النسفي: (وفيه تنبيه على أنّ الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البرّ الفاجر، والفاجر البر، وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد

نقل: عن صاحب الظلال حول ورود قصة إبراهيم عليه السلام في السورة

بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله، ويعاقب على ما اجترمت يداه، لا على ما وجد من أصله وفرعه). ... نقل: [عن صاحب الظلال حول ورود قصة إبراهيم عليه السلام في السورة] قال صاحب الظلال في الجزء الأخير الذي مرّ معنا من قصة إبراهيم عليه السّلام: (هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام. طالما تطلّع إليه. فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتّح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم .. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحيا صريحا، ولا أمرا مباشرا. ولكنها إشارة من ربه .. وهذا يكفي .. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه .. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟! ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب .. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. فَانْظُرْ ماذا تَرى. فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه! والأمر شاق- ما في ذلك شك- فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته .. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده. يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه .. وهو- مع هذا- يتلقّى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرّة لينفذ إشارة ربه. وينتهي. إنما يعرض الأمر عليه كالذي

يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسّه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوّق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوّق لذة التطوّع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى .. فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- مِنَ الصَّابِرِينَ. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين .. يا أَبَتِ .. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته. افْعَلْ ما تُؤْمَرُ .. فهو يحسّ ما أحسّه من قبل قلب أبيه. يحسّ أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب. ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. ولم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا .. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: سَتَجِدُنِي- إِنْ شاءَ اللَّهُ- مِنَ الصَّابِرِينَ. يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان. ويا لنبل الطاعة. ويا لعظمة التسليم! ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ:

فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان .. إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانا. لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم. إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شئ والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هنا شئ آخر .. ليس هنا دم فاغر ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقّل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون. لا بل هنا الرضى الهادئ المستشعر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل! وهنا كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد أدّيا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما .. كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحقّقت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذّب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شئ. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلّياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جاوزوا الامتحان بنجاح. وعرف الله إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أدّيا وحققا وصدقا: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا

لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. قد صدّقت الرؤيا وحققتها فعلا. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنّه عن الله أو تعزّه عن أمره، أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت النفس والحياة. وأنت- يا إبراهيم- قد فعلت. جدت بكل شئ. وبأعز شئ. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدّت. يفديها بذبح عظيم. قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل! وقيل له: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي تتبع ملّته، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم! ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدّية. مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام. واحتسبها لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها .. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ.* فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله عقبا ونسبا إلى يوم الدين. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ.

كلمة في السياق: حول قصة إبراهيم وولديه عليهم السلام وبعض ما فيها من دروس

أي سلام عليه من ربه. سلام يسجل في كتابه الباقي. ويرقم في طوايا الوجود الكبير. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .. كذلك نجزيهم بالبلاء. والوفاء. والذكر. والسلام. والتكريم. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .. وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين. ثم يتجلى عليه ربه بفضله مرة أخرى ونعمته فيهب له إسحاق في شيخوخته. ويباركه ويبارك إسحاق. ويجعل إسحاق نبيا من الصالحين: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ. وتتلاحق من بعدهما ذريتهما. ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب، إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ). كلمة في السياق: [حول قصة إبراهيم وولديه عليهم السلام وبعض ما فيها من دروس] 1 - ذكرنا من قبل أنّ في إنجاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام من النار نموذجا على إنجاء المؤمنين، ونلاحظ أن في ذكر إنجاء الله إسماعيل من الذبح نموذجا آخر على أن في تنفيذ أمر الله الخير كل الخير، وأنه مهما كان في ظاهره فيه شدّة فإنّ الخير فيه، وأن اليسر هو عاقبته، ولذلك اتبع الله عزّ وجل موضوع الذبح بقوله تعالى إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال ابن كثير: (أي هكذا نصرف عمّن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا، كقوله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ... [الطلاق: 2، 3] وقد جعل الله في هذه الحادثة سنة خالدة للمسلمين في شعيرة الأضحية، تذكيرا لما فعل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إذ أسلما هذا الإسلام العجيب الخالد. 2 - في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام نموذج على التوحيد الخالص، الذي ترافقه الطاعة الكاملة والاستسلام الكامل لله، وفي ذلك تمثيل جديد لما يخدم قضية التوحيد، وهو الموضوع الرئيسي في السورة كما رأينا.

فوائد

3 - في ثناء الله عزّ وجل على إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى ما يفعله الإيمان الخالص في القلوب الصادقة، وما يتركه من آثار، فالقصة إذن نموذج من نماذج المواقف الإيمانية العالية الراقية، وفي ذلك كذلك انسجام مع الموضوع الرئيسي في السورة موضوع الإيمان. 4 - في ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام وثلاثتهم من رسل الله في سياق السّورة ما يذكّرنا بكون محمد صلّى الله عليه وسلم مصدّقا لدعوتهم، ومصدقا لهم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. وهكذا نجد أن قصة إبراهيم عليه السلام قد خدمت السياق العام للسورة في أكثر من جانب. ... فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] بمناسبة قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال ابن كثير في تفسير القلب السليم: (قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ قال: يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وقال الحسن: سليم من الشرك، وقال عروة: لا يكون لعّانا). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة قول إبراهيم لقومه إِنِّي سَقِيمٌ] بمناسبة قول إبراهيم عليه السلام لقومه إِنِّي سَقِيمٌ قال ابن كثير: (فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله في سارة هي أختي» فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا ولما، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «إن في المعاريض لمندوحة من الكذب» وروى ابن أبي حاتم عن سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال ما منها

3 - حول معنى ما في قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون وتوجيهات الآية

كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ وقال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي). 3 - [حول معنى ما في قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وتوجيهات الآية] في قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: (يحتمل أن تكون (ما) مصدرية فيكون الكلام: خلقكم وعملكم، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره: والله خلقكم، والذي تعملونه وكلا القولين متلازم، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا قال «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته»). 4 - [مناقشة لابن كثير حول كون الذبيح إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام وتعليق المؤلف] بمناسبة الكلام عن الذبيح قال ابن كثير: (وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين، وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم إن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا إسحاق، ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب؛ فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى مكة، وهو تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره، وأيضا فإن أول ولد له معزّة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار). أقول: ما ذكره ابن كثير هنا موجود في سفر التكوين، فيما بين الإصحاح السادس عشر، والإصحاح الثالث والعشرين، وفي الإصحاح الثاني والعشرين (فقال: (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق) إن إسحاق ليس هو الابن الوحيد لإبراهيم عليه السلام، لأنّه الابن الثاني، فالتحريف واضح في النّص، وهذا الذي أشار إليه ابن كثير. 5 - [حديث «رؤيا الأنبياء وحي» بمناسبة الآية إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ .. ] بمناسبة قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قال ابن كثير: (قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، ثمّ تلا هذه الآية: قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله

(6، 7، 11) - كلام ابن كثير والنسفي حول قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم وتعليق المؤلف

صلّى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء في المنام وحي» قال ابن كثير: (ليس هو في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه) أقول: معناه صحيح. [(6، 7، 11) - كلام ابن كثير والنسفي حول قوله تعالى وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وتعليق المؤلف] 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قال ابن كثير: (وقد استدلّ بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النّسخ قبل التمكّن من الفعل، خلافا لطائفة من المعتزلة، والدلالة من هذه ظاهرة لأن الله تعالى شرع لإبراهيم عليه السلام ذبح ولده ثمّ نسخه عنه، وصرفه إلى الفداء، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل عليه السلام على الصبر على ذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله، منقادا لطاعته). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولّدت عامّة أهل دارنا أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه، وقالت مرة إنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلّى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت فنسيت آمرك أن تخمرهما فخمّرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شئ يشغل المصلي» قال سفيان لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا، وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف، وجيلا بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله صلّى الله عليه وسلم). 8 - [فصل في ذكر الآثار الواردة بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام وهو المقطوع به] عقد ابن كثير فصلا عنوانه (فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو) ثم ذكر من قال هو إسحاق عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال وهو الصحيح المقطوع به، ونحن نضرب عن ذكر القسم الأول لتأكد خطئه ونذكر القسم الثاني قال: ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام. وروى

ابن جرير ... عن ابن عباس أنه قال المفدى إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وقال إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو إسماعيل عليه السلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي: هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم: إسماعيل عليه السلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى، وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ويقول الله تعالى فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا، وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت انظر فيه وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عزّ وجل، وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: هو إسماعيل. ذكره في كتاب الزهد. وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول: الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا: الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره وإليه ذهب عبد الله ابن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد

9 - سياق قصة إبراهيم يشير إلى أن البشارة بإسحاق جاءت بعد تنفيذ إبراهيم للرؤيا

ابن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضا عن أبي عمرو ابن العلاء. وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا ... عن عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال: فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل، والثاني إسماعيل. وهذا حديث غريب جدا وقد رواه الأموي في مغازيه عن عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل أو إسحاق وذكره، كذا كتبته من نسخة مغلوطة والله أعلم). 9 - [سياق قصة إبراهيم يشير إلى أن البشارة بإسحاق جاءت بعد تنفيذ إبراهيم للرؤيا] من الملاحظ أن سياق قصة إبراهيم عليه السلام أشعرنا أن البشارة بإسحاق كانت بعد أن قام بتنفيذ ما رآه في الرؤيا، فكأن السياق أراد أن يرينا أنه لما نوى أن يذبح ابنه لله أنقذ ابنه وزاده ابنا آخر مباركا. 10 - [من دروس قصة إبراهيم عليه السلام أن التوحيد والامتحان متلازمان] في قصة إبراهيم عليه السلام دروس كثيرة من دروس التوحيد أحدها أن مقتضى التوحيد طاعة الله في كل أمر مهما كان ظاهره صعبا وشاقّا، فمن فهم أن الإسلام راحة، وأن التوحيد لا يرافقه تكليف، أو لا يرافقه امتحان، فقد أخطأ؛ فالتوحيد والامتحان متلازمان. 11 - ذكر النسفي عن ابن عباس أنه لو تمّت تلك الذبيحة لصارت سنة، وذبح الناس أبناءهم وبمناسبة قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قال النّسفي مفسّرا الذبح العظيم: (ضخم الجثة سمين وهي السنة في الأضاحي وروي أنه هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه، وبقيت سنة في الرمي وروي أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر والله الحمد فبقي سنة، وقد استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة، والأظهر أن الذبيح إسماعيل وهو قول أبي بكر وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين رضي الله عنهم لقوله عليه السلام «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ

[سورة الصافات (37): آية 114]

بنوه عشرة أن يذبح آخر ولده تقربا وكان عبد الله آخرا ففداه بمائة من الإبل ولأن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في زمن الحجاج وابن الزبير وعن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة). أقول: المشهور أن إبراهيم عليه السلام رمى الشيطان بالحصيات، (روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات، ثم تلّه للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض، فقال له: يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه، فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش). ... وَلَقَدْ مَنَنَّا أي أنعمنا عَلى مُوسى وَهارُونَ بالنبوة وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي من الغرق أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم وَنَصَرْناهُمْ أي موسى وهارون وقومهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون وقومه وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي البليغ في بيانه وهو التوراة وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي في الأقوال والأفعال وهي صراط أهل الإسلام وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ أي أبقينا لهما من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا ثمّ فسّره بقوله تعالى سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ* إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا الاعتقاد والعمل إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وذلك أصل كل خير.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: تحدّثت هذه الفقرة عن موسى وهارون عليهما السلام بما يخدم سياق السورة في ثلاث قضايا: 1 - قضية نجاة عباد الله المخلصين من عذاب الله في الدنيا. 2 - قضية وحدة الرسالات. 3 - قضية أنّ أصل كلّ حسن وخير الإيمان، وكل ذلك يخدم الموضوع الرئيسي للسورة. ... وَإِنَّ إِلْياسَ سنعطيك خبرا عنه في الفوائد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين جاء محمد صلّى الله عليه وسلم يصدّقهم والذين بعثوا بالتوحيد والحقّ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون الله أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي أتعبدون بعلا: وهو الصنم الذي كان يعبده أهل الشام في عصره، وتسرّبت عبادته إلى بني إسرائيل، وإليه نسبت بعلبك المدينة المعروفة في بلاد الشام وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن المقدّرين اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ إسحاق ويعقوب وإبراهيم أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي للعذاب يوم الحساب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قومه أي الموحّدين منهم وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أي ثناء جميلا سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أي على إلياس كما يقال طور سيناء وطور سينين كذلك يقال إلياس وإلياسين إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الحسن في إبقاء الذكر الجميل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في القول والعمل والاعتقاد إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وذلك علّة إحسانه. ... كلمة في السياق: إن قصة إلياس تخدم سياق السورة في ثلاثة جوانب: في كون إلياس من المرسلين الذين صدّقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي كونه دعا إلى التوحيد، وذلك دعوة جميع الرسل، وفي كونه من المؤمنين، فهو نموذج إيماني يقتدي به المؤمنون في كل زمان ومكان.

فوائد: حول قصة إلياس عليه السلام ونقول من كتاب العهد القديم

فوائد: [حول قصة إلياس عليه السلام ونقول من كتاب العهد القديم] يلاحظ أن العرب لم يكن عندهم تصور ما عن إلياس عليه السلام حتّى ذهب ابن مسعود إلى أنه إدريس، والتصور الأول الذي وصلهم عن غير القرآن كان عن وهب بن منبه، فأن يذكر القرآن إلياس بجانب الكلام عن بعل فهذا من معجزات القرآن العظيمة يعرف ذلك من درس الكتب السابقة، إن أسفار العهد القديم تتحدّث بإسهاب عن إلياس وتلميذه وخليفته اليسع الذي سيذكر اسمه في سورة (ص). فمن الإصحاح السابع عشر في سفر الملوك الأول إلى نهاية هذا السفر إلى الإصحاح الثالث من سفر الملوك الثاني يستمر الكلام عن إلياس وها نحن ناقلون فقرات مما ورد في هذين السفرين: في الإصحاح السادس عشر من سفر الملوك الأول: (وعمل أخاب بن عمري الشّرّفي عيني الرب أكثر من جميع الذين قبله. وكأنه كان أمرا زهيدا سلوكه في خطايا يربعام بن نباط حتى اتخذ إيزابل ابنة أثبعل ملك الصيدونيين امرأة وسار وعبد البعل وسجد له. وأقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة. وعمل أخاب سواري وزاد أخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذين كانوا قبله). وفي الإصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الأول: (ولمّا رأى أخاب إيليا (إلياس) قال له أخاب أأنت هو مكدّر إسرائيل؟ فقال لم أكدر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم. فالآن أرسل واجمع إلي كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المئة والخمسين وأنبياء السواري أربع المئة الذين يأكلون على مائدة إيزابل. فأرسل أخآب إلى جميع بني إسرائيل وجمع الأنبياء إلى جبل الكرمل. فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال حتى متى تعرجون بين الفرقتين. إن كان الرب هو الله فاتبعوه وإن كان البعل فاتبعوه. فلم يجبه الشعب بكلمة. ثم قال إيليا للشعب أنا بقيت نبيا للرب وحدي وأنبياء البعل أربع مئة وخمسون رجلا. فليعطونا ثورين فيختاروا لأنفسهم ثورا واحدا ويقطعوه ويضعوه على الحطب ولكن لا يضعوا نارا وأنا أقرب الثور الآخر وأجعله على الحطب ولكن لا أضع نارا. ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب. والإله الذي يجيب بنار فهو الله. فأجاب

جميع الشعب وقالوا الكلام حسن. فقال إيليا لأنبياء البعل اختاروا لأنفسكم ثورا واحدا وقربوا أولا لأنكم أنتم الأكثر وادعوا باسم آلهتكم ولكن لا تضعوا نارا. فأخذوا الثور الذي أعطى لهم وقربوه ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر قائلين يا بعل أجبنا. فلم يكن صوت ولا مجيب. وكانوا يرقصون حول المذبح الذي عمل. وعند الظهر سخر بهم إيليا وقال ادعوا بصوت عال لأنه إله. لعله مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعله نائم فيتنبه. فصرخوا بصوت عال وتقطعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم. ولما جاز الظهر وتنبأوا إلى حين إصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغ. قال إيليا لجميع الشعب تقدموا إلي. فتقدم جميع الشعب إليه. فرمم مذبح الرب المنهدم. ثم أخذ إيليا اثني عشر حجرا بعدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه قائلا إسرائيل يكون اسمك. وبنى الحجارة مذبحا باسم الرب وعمل قناة حول المذبح تسع كيلتين من البزر. ثم رتّب الحطب وقطع الثور ووضعه على الحطب وقال املأوا أربع جرات ماء وصبوا على المحرقة وعلى الحطب. ثم قال ثنوا فثنوا وقال ثلثوا فثلثوا. فجرى الماء حول المذبح وامتلأت القناة أيضا ماء. وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدم وقال أيها الرب إله إبراهيم وإسحاق وإسرائيل ليعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل وأني أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور. استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله وأنك أنت حولت قلوبهم رجوعا. فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا الرب هو الله الرب هو الله. فقال لهم إيليا أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك). وفي الإصحاح الثاني من سفر الملوك الثاني: (وفيما هما يسيران (اليسع وإلياس) ويتكلّمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليّا في العاصفة إلى السماء). أقول: إن هذا النّقل هو مرجع ما يذكره بعض المفسرين أنّ إيليّا رفع إلى السماء والله أعلم بصحة ذلك، فهم يجعلونه كالمسيح عليه السّلام، لكنّ المسيح قد نصّ القرآن على رفعه، وليس في إلياس نص.

[سورة الصافات (37): آية 133]

وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين بعث محمد صلّى الله عليه وسلم مصدّقا لهم والذين دعوا إلى التوحيد إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ كسنّتنا في إنجاء عباد الله المخلصين إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي في الباقين الهالكين وهي زوجته، وقد مرّت قصتها في أكثر من مكان في القرآن ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم كسنة الله عزّ وجل في المنذرين المكذبين وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلم مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أي ليلا ونهارا أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفما فيكم عقول تعتبرون بها؟ قال النسفي: (وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام كما ختم قصة من قبلهم لأن الله تعالى قد سلّم على جميع المرسلين في آخر السورة، فاكتفى بذلك عن ذكر كل واحد منفردا بالسلام). ... كلمة في السياق: خدمت قصة لوط سياق السورة في قضيتين: قضية إهلاك المكذبين للرسل، وقضية إنجاء عباد الله المخلصين من عذاب الله في الدنيا، ومحل ذلك في السياق لا يخفى؛ فقد سبقت هذه النماذج كلها بقوله تعالى فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ومحل ذلك في قضية التوحيد واضح، فالرسل الذين بعثوا بالتوحيد أيّدهم الله، بأن عذّب من خالفهم، ونجى من وافقهم واتّبعهم. ... وَإِنَّ يُونُسَ بن متى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين جاء محمد صلّى الله عليه وسلم مصدّقا لهم إِذْ أَبَقَ أي هرب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء فَساهَمَ أي فقارعهم عند ما هاج البحر فيمن يلقي نفسه من السفينة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي المغلوبين بالقرعة فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ أي فابتلعه الحوت وهو داخل في الملامة فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح، أو من القائلين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أو من المصلّين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ أي في بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إلى يوم البعث فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ أي فألقيناه بالمكان الخالي الذي لا شجر فيه ولا نبات وَهُوَ سَقِيمٌ أي عليل مما ناله من التقام الحوت وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي من قرع وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أي بل يزيدون فَآمَنُوا به وبما أرسل به فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي إلى منتهى آجالهم.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: خدمت قصة يونس سياق السورة بأن بيّنت أنّ يونس عليه السلام من الرسل الذين جاء محمد صلّى الله عليه وسلم لتصديقهم في الدعوة إلى التوحيد، كما خدمت السياق في تبيان أن الإيمان وحده مئنّة النّجاة من عذاب الله، وأن أحدا لا ينجو من المحاسبة إذا أخلّ؛ فهذا يونس عليه السلام تصرّف قبل الإذن فكان له هذا العقاب، وفي ذلك درس من دروس التوحيد الخالص سنراه في الفوائد. نقل: [لصاحب الظلال بمناسبة ورود قصة يونس عليه السلام في سورة الصافات] بمناسبة الكلام عن يونس عليه السّلام في سورة الصافات قال صاحب الظلال: (وتذكر الروايات أن يونس ضاق صدرا بتكذيب قومه. فأنذرهم بعذاب قريب. وغادرهم مغضبا آبقا. فقاده الغضب إلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة. وفي وسط اللجة ناوأتها الرياح والأمواج. وكان هذا إيذانا عند القوم بأن من بين الركاب راكبا مغضوبا عليه لأنه ارتكب خطيئة. وأنه لا بد أن يلقى في الماء لتنجو السفينة من الغرق. فاقترعوا على من يلقونه من السفينة. فخرج سهم يونس- وكان معروفا عندهم بالصلاح. ولكن سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر. أو ألقى هو نفسه. فالتقمه الحوت وهو (مليم) أي مستحق للوم، لأنه تخلى عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضبا قبل أن يأذن الله له. وعند ما أحس بالضيق في بطن الحوت سبّح الله واستغفره وذكر أنه كان من الظالمين. وقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فسمع الله دعاءه واستجاب له. فلفظه الحوت. فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. وقد خرج من بطن الحوت سقيما عاريا على الشاطئ. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وهو القرع. يظلله بورقه العريض ويمنع عنه الذباب الذي يقال إنه لا يقرب هذه الشجرة. وكان هذا من تدبير الله ولطفه. فلما استكمل عافيته رده الله إلى قومه الذين تركهم مغاضبا. وكانوا قد خافوا ما أنذرهم به من العذاب بعد خروجه، فآمنوا، واستغفروا، وطلبوا العفو من الله فسمع لهم ولم ينزل بهم عذاب المكذبين: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ وكانوا مائة ألف يزيدون ولا ينقصون. وقد آمنوا أجمعين).

فوائد

فوائد: 1 - [قصة يونس عليه السلام درس بليغ من دروس التوحيد] إن في قصة يونس عليه السلام درسا بليغا من دروس التوحيد، إذ ميزان الله دقيق والالتزام بأوامره ينبغي أن يكون بحذافيره، فهذا يونس- وهو رسول- ترك مكانه دون إذن فعوقب هذا العقاب الشديد، فلا يفر أحد من تنفيذ أمر الله خوفا من شئ، بل عليه أن يخاف إذا لم ينفذ أمر الله. 2 - [حديث «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»] قال ابن كثير بمناسبة الكلام عن يونس عليه السلام: (قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء، وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ ... ] بمناسبة قوله تعالى: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أي فقارع فكان من المغلوبين قال ابن كثير: (وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاثة مرات وهم يضنّون به أن يلقى من بينهم فتجرّد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك، وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار، وأن يلتقم يونس عليه السلام، فلا يهشم له لحما، ولا يكسر له عظما، فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه السلام نفسه، فالتقمه الحوت، وذهب به فطاف به البحار كلها، ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات، ثم حرّك رأسه ورجليه وأطرافه، فإذا هو حي فقام فصلى في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس. واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله قتادة، وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه، وقيل أربعين يوما قاله أبو مالك، وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك). 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه- ولا أعلم إلا أن يرفع أنس الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن يونس النبي عليه الصلاة

5 - كلام ابن كثير حول آية وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وفوائد القرع

والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحن بالعرش، قالت الملائكة: يا رب هذا صوت ضعيف معروف، من بلاد بعيدة غريبة، فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال عزّ وجل: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل ودعوة مستجابة؟ قالوا يا رب أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء» ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به). 5 - [كلام ابن كثير حول آية وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وفوائد القرع] بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال ابن كثير: (وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره، ونعومته، وأنّه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمره، وأنّه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره أيضا، وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يحبّ الدّبّاء ويتتبعه من حواشي الصفحة). 6 - [مناقشة المؤلف لما جاء في سفر (يونان بن متاب) حول قصة يونس عليه السلام] هناك سفر من أسفار العهد القديم اسمه سفر (يونان بن متاب) خاص بالكلام عن يونس عليه السلام، يتألف من أربعة إصحاحات، وهو كبقية أسفار أهل الكتاب، قد اختلط فيه الحق بالباطل. (يتحدّث هذا السفر عن يونس، وأنه من بني إسرائيل، وأن الله كلّفه بالرسالة إلى أهل نينوى، فخشي التكليف، وأراد أن يفرّ إلى ترشيش، فركب السفينة، وحدث هيجان شديد في البحر، فاقترعوا فيمن يلقى في البحر، فوقعت القرعة على يونس، فألقوه في البحر، فسكن البحر والتقم الحوت يونس، فبقي في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليال، وصلّى يونس في جوف الحوت، فأمر الربّ الحوت فقذف يونس إلى البر، ثم كرر الله عزّ وجل الأمر إلى يونس بالذهاب إلى نينوى، فذهب وأنذر أهل نينوى أن الله عزّ وجل سيقلب نينوى بعد أربعين يوما، فآمن أهل نينوى فرفع الله العذاب عنهم، فاغتمّ يونس لأن الله لم يعذبهم، فأنبت الله اليقطينة عليه، ثمّ أماتها ليضرب له مثلا من حرصه عليها على حرص الله على خلقه، ويذكر السفر أن عدد أهل نينوى كان مائة وعشرين ألفا). وكما ترى فالأخطاء في السفر كثيرة، فاليقطينة نبتت بعد الإلقاء من بطن الحوت، وليس كما زعم السفر، والإنذار لأهل نينوى كان قبل هرب يونس، والغمّ الذي أصاب يونس كان بعد الإنذار الأول، مما ترتب عليه الهرب، والظاهر أن ما في السفر قد

7 - هل كل مائة ألف من السكان ينبغي تفرغ وارث نبوة كامل لدعوتهم إلى الله عز وجل؟

سرى إلى بعض المفسّرين، فحاول أن يحمل النّص القرآني عليه فأخطأ. 7 - [هل كل مائة ألف من السكان ينبغي تفرغ وارث نبوة كامل لدعوتهم إلى الله عزّ وجل؟] هل تستطيع أن تستفيد من قوله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أن كل مائة ألف من السكان ينبغي أن يتفرغ لشأنهم في أمر الدعوة إلى الله عزّ وجل وارث نبوّة كامل؟. كلمة في المقطع الأول: [حول صلة المقطع الأول بمقدمة السورة وبمقطعها الثاني وبالمحور وبآياته] نلاحظ أنه بعد قصة يونس عليه السلام مباشرة يأتي قوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وقد فطن النسفي للصلة بين بداية المقطع الجديد وبداية المقطع الأول فقال عن (فاستفتهم) الثانية في المقطع الثاني: معطوف على مثله في أول السورة، أي على فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسول الله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا، ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها؛ حيث جعلوا لله تعالى الإناث، ولأنفسهم الذكور في قولهم الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهن، ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن). من كلام النسفي هذا ندرك أن المقطع الأول يشكّل وحدة متكاملة، ومن انتهاء المقطع كله بقصة يونس، ثم الانتقال مباشرة إلى قوله تعالى فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ندرك أن قصة يونس بانتهائها ينتهي سياق المقطع، فإذا تذكّرنا ما قلناه من قبل أن المقطع ينقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم للتقرير، وقسم للتمثيل، تدرك أن التمثيل انتهى بقصة يونس عليه السلام فبها ينتهي ما أراد الله عزّ وجل أن يعمّقه من معان مرتبطة في قضية التوحيد. لقد قررت مقدّمة السورة التوحيد، وجاء المقطع الأول ليعمّق قضية التوحيد، وليبين ما يدخل في قضية التوحيد من معان، فاليوم الآخر وإرسال الرسل، كل ذلك فرع عن قضية التوحيد، وقد عمّق المقطع الأول هذه المعاني كلها من خلال التقرير والتمثيل كما رأينا. والآن يأتي مقطع ثان في السّورة ليبلور قضية التوحيد والتنزيه والإيمان، وما يتعلق بذلك، والمقطع الجديد يشكل خاتمة السورة فلنره.

المقطع الثاني والأخير ويمتد من الآية (149) إلى نهاية الآية (182) أي إلى نهاية السورة وهذا هو

المقطع الثاني والأخير ويمتدّ من الآية (149) إلى نهاية الآية (182) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: المجموعة الأولى 37/ 182 - 149 المجموعة الثانية 37/ 161 - 163 المجموعة الثالثة 37/ 164 - 166

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثاني

المجموعة الرابعة 37/ 167 - 170 المجموعة الخامسة 37/ 171 - 182 تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثاني فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أي سلهم على سبيل الإنكار كيف ينسبون إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم، أليس هذا منتهى الحماقة والجهل، وسوء التقدير أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم قال النسفي في تفسير قوله تعالى شاهِدُونَ حاضرون ثم قال: تخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم، وتجهيل لهم لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال، أو معناه أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس، لإفراط جهلهم، كأنهم شاهدوا خلقهم أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي من كذبهم لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ أي صدر منه الولد وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم قال ابن كثير: (ذكر

[سورة الصافات (37): آية 153]

الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب: فأولا جعلوهم بنات الله، فجعلوا لله ولدا- تعالى وتقدّس-، وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون الله- تعالى وتقدّس- وكل منها كاف للتخليد في نار جهنم ثم قال تعالى منكرا عليهم أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ قال ابن كثير: (أي أي شئ يحمله على أن يختار البنات دون البنين) قال النسفي: (وهو استفهام توبيخ) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون أَفَلا تَذَكَّرُونَ فترون في تذكركم أنكم بهذا تجعلون لله المقام الأدنى، ولأنفسكم المقام الأعلى، على حسب تصوراتكم وقيمكم أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي حجة ظاهرة على ما تقولونه قال النسفي: (أي) أم لكم حجة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله؟! فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي أنزل عليكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم قال ابن كثير: (أي هاتوا برهانا على ذلك يكون مستندا إلى كتاب منزل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه، فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوّزه العقل بالكلية وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الجنة هنا إما المراد بها الملائكة لاستتارهم، أو المراد بهم الجن على الحقيقة، فإذا كان المراد بهم الملائكة فهو استكمال لعرض موضوع كفرهم السابق، وإذا كان المراد به الجن فإنه يحتمل وجهين: الأول أن يكون المراد أن الجن هم أمهات الملائكة، وهم بالتالي أزواج الله- على قائل ذلك لعنة الله-، والثاني أن المراد بذلك ما يذهب إليه بعضهم من كون إبليس أخا لله عزّ وجل- تعالى الله عن ذلك- هذا مجمل ما ذكره النسفي وابن كثير في هذا المقام، وسنراه في الفوائد وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أي الذين نسبوا لهم ذلك إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في ذلك، وافترائهم، وقولهم الباطل بلا علم، ثم نزّه الله عزّ وجل ذاته عما يصفه به الخلق أجمعون، إلا عباد الله المخلصين فإنهم يصفونه بما هو له قال تعالى سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ نزّه نفسه عن الصاحبة والولد والنّسب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنّهم برءاء من أن يصفوه إلا بما هو أهله. ... كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بتقرير وحدانية الله عزّ وجل، ثم ناقش المقطع الأول

الكافرين في استبعادهم اليوم الآخر، وبيّن لنا المقطع أنّ أصل الكفر باليوم الآخر هو رفض التوحيد الذي بعث به محمد صلّى الله عليه وسلم والذي بعث به كل رسول، وسار المقطع الأول كما رأينا، حتى إذا جاء المقطع الثاني بدأ بمناقشة الكافرين في قضايا مخلّة بالتوحيد، كالزعم أن لله ولدا وزوجة وأخا، ثم نزّه الله عزّ وجل ذاته في نهاية المجموعة الأولى من المقطع الثاني عما يصفه به الكافرون. 2 - مرّ معنا في المقطع الأول أكثر من مرة قوله تعالى إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ:* (أ) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ* بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ* إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ* وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. (ب) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. (ج) وفي قصة إلياس قال الله تعالى فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. (د) وفي هذه المجموعة قال تعالى سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. ومن مجموع هذا نفهم أن عباد الله المخلصين هم الموحّدون، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، فهؤلاء الذين يصفون الله عزّ وجل بما هو أهله، وهكذا نجد كيف أن سياق السورة كله يصبّ في موضوع التوحيد، وما يدخل فيه، وها هو السياق في المجموعة الثانية يتوجّه إلى المشركين في الخطاب: ***

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثاني

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الثاني فَإِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ أي ومعبودكم ما أَنْتُمْ وهم عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ أي بمضلين إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضلّ منكم ممّن ذرئ للنار، فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة. قال النسفي: أي لستم تضلون أحدا إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم- بسوء أعمالهم- يستوجبون أن يصلوها ... وقال الحسن: فإنكم أيها القائلون بهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ما أنتم على عبادة الأوثان بمضلين أحدا، إلا من قدّر عليه أن يصلى الجحيم أي يدخل النار وقيل: ما أنتم بمضلين إلا من أوجبت عليه الضلالة في السابقة. ... كلمة في السياق: بيّن الله عزّ وجل في هذه الآيات أن الدعاة إلى الشرك لا يفتنون إلا من استوجب النار، وبهذا علمنا أن المستجيبين للرسل هم أهل الجنة، لأنهم هم أهل التوحيد الذي بدونه لا يدخل أحد الجنة، وبهذه الآيات عرفنا أن كل الكلام السابق من نسبة الولد والأخ والزوجة إلى الله كل ذلك مخلّ بالتوحيد وهو شرك، ثم حدثنا الله عزّ وجل عن الملائكة الذين زعم المشركون أنهم بنات الله ما هو مقالهم وما هو فعلهم فقال على لسانهم: ***

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثاني

تفسير المجموعة الثالثة من المقطع الثاني وَما مِنَّا أحد إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في العبادة لا يتجاوزه قال ابن كثير: أي له موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي تصف أقدامنا في الصلاة، أو تصفّ حول العرش، داعين للمؤمنين، قال ابن كثير: أي نقف صفوفا في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المنزهون أو المصلون وقال ابن كثير: (نصطف فنسبّح الربّ ونمجّده ونقدّسه وننزّهه عن النقائص، فنحن عبيد له، فقراء إليه، خاضعون لديه). ... كلمة في السياق: 1 - عرفنا من هذه الآيات ماهيّة مقام العبودية الكامل الذي يتحقق به الملائكة عليهم الرضوان، وهو مقام جدير أن يقتدى به، ولذلك فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يؤدّب المسلمين عليه كما سنرى في الفوائد وهو مقام يتنافى مع ما ينسبه المشركون للملائكة من معان. 2 - نلاحظ حتى الآن في السورة أنه قد كان حديث عن الله عزّ وجل، وعن الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعن اليوم الآخر، وعن الملائكة، وكل ذلك من خلال عرض قضية التوحيد، أي إنه حتى الآن عرض علينا أربعة أركان من أركان الإيمان، ومرّ معنا ما يشير إلى موضوع القدر في قوله تعالى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ. وسيأتي معنا الآن أربعة آيات تتحدّث عن موضوع الإيمان بالكتاب، وهكذا نجد السورة من خلال عرض قضية التوحيد قد عرضت لنا أركان الإيمان كلها، وبهذا ندرك صلة السورة بمحورها وهو الآيات الأولى من سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... فلنر الآيات الأربعة التالية من سورة الصافات. ***

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثاني

تفسير المجموعة الرابعة من المقطع الثاني وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي وإنّه كان مشركو قريش ليقولون قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذّبنا كما كذّبوا، ولما خالفنا كما خالفوا قال ابن كثير: (أي قد كانوا يتمنّون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى، ويأتيهم بكتاب الله) قال النسفي: فجاءهم الذكر الذي هو سيّد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ مغبّة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام. .. كلمة في السياق: بعد أن بيّن الله عزّ وجل مواقف الكافرين المخلّة بالتوحيد، وردّها، ذكّر في الأربع الآيات السابقة بكتابه الذي يجب أن يؤمنوا به، وذكّر هؤلاء الكافرين بأنهم من قبل كانوا يتمنّون أن ينزل عليهم ذكر، وها هو قد نزل، وكان المفروض أن يؤمنوا ويصححوا تصوراتهم وأفكارهم، ويخلصوا لله العبادة والقول والاعتقاد، وإذا بهم قد كفروا بهذا القرآن، وبهذا تكون السورة قد أقامت الحجة على وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر، والكتب والرسل والملائكة والقدر، وأعطتنا تصورا صحيحا عن أركان الإيمان كلها، وعن صلة كل ركن من الأركان بقضية التوحيد، وبيّنت لنا التصورات الخاطئة في أي قضية من هذه القضايا، وأن كل تصور خاطئ ينعكس خطؤه على موضوع التوحيد بالذات، فإذا استقرت هذه المعاني كلها تأتي الآن مجموعة هي خاتمة المقطع وخاتمة السورة، فيها التبشير والإنذار، وفيها التنزيه لله رب العالمين، وفيها إشارة إلى موضوع القدر. ***

تفسير المجموعة الخامسة من المقطع الثاني

تفسير المجموعة الخامسة من المقطع الثاني وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا أي في اللوح المحفوظ لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ثم فسّر الكلمة بقوله إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي في الدنيا والآخرة، وقد تقدّم بيان نصرتهم على من كذّبهم وخالفهم وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ بأن تكون لهم العاقبة قال النسفي: (والمراد الموعد بعلوّهم على عدوهم في مقام الحجاج، وملاحم القتال في الدنيا، وعلوّهم عليهم في الآخرة، وعن الحسن ما غلب نبي في حرب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في العقبى، والحاصل أن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه الظفر والنصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والعبرة للغالب). وإذا كان الأمر كذلك فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي فأعرض عنهم إلى مدة يسيرة أي اصبر على أذاهم لك، وانتظر إلى وقت مؤجّل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر، وقد كان ذلك في بدر، وفتح مكة، وغيرها وَأَبْصِرْهُمْ أي أبصر ما ينالهم يومئذ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ذلك قال النسفي: وهو للوعيد دون التبعيد، أو انظر إليهم إذا عذّبوا فسوف يبصرون ما أنكروا، أو أعلمهم فسوف يعلمون. وقال ابن كثير: أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنّكال بمخالفتك وتكذيبك، ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي قبل حينه فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ أي بمحلتهم ودارهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ صباحهم وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قال ابن كثير: تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك. وقال النسفي: وإنما ثنّى ليكون تسلية على تسلية، وتأكيدا لوقوع الميعاد إلى تأكيد، وفيه فائدة زائدة: وهي إطلاق الفعلين معا عن التقييد بالمفعول، وأنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرّة، وأنواع المساءة، وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، وبالآخر عذاب الآخرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ أي ذي العزّة التي لا ترام قال النسفي: (أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، وكأنه قيل ذو العزة ... ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها) عَمَّا يَصِفُونَ أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين من نسبتهم إليه تعالى الولد والصاحبة والشريك. قال ابن كثير: ينزّه تبارك وتعالى نفسه الكريمة، ويقدّسها ويبرّئها عمّا يقول الظالمون

[سورة الصافات (37): آية 181]

المكذّبون المعتدون، تعالى وتنزّه وتقدّس عن قولهم علوا كبيرا وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ قال ابن كثير: (أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه في ربهم، وصحته وحقيقته) وقال النسفي: (عمّ الرسل بالسلام بعد ما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلا) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن كثير: أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال. وقال النسفي: (أي): والحمد لله على هلاك الأعداء ونصر الأنبياء. اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله، ونسبوه إليه، مما هو منزّه عنه، وما عاناه المرسلون من جهتهم، وما خوّلوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين والحمد لله رب العالمين على ما قيّض لهم من حسن العواقب، والمراد تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلّوا به، ولا يغفلوا عن مضمّنات كتابه الكريم، ومودعات قرآنه المجيد. ... نقل: [لصاحب الظلال بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ .. ] عند قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. قال صاحب الظلال: (والوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذّبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين. ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار. وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل. تسيطر على قلوب الناس وعقولهم. وتكيف تصوراتهم وأفهامهم. وما تزال على الرغم من كل شئ هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض. وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل. باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها. وحقّت كلمة الله لعباده المرسلين. إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون. هذه بصفة عامة. وهي ظاهرة ملحوظة. في جميع بقاع الأرض. في جميع العصور. وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله، يخلص فيها الجند، ويتجرّد لها

كلمة في السياق والمقطع الثاني

الدعاة. إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل. ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة. وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله. والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. الوعد بالنصر والغلبة والتمكين. هذا الوعد سنّة من سنن الله الكونية. سنّة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء .. ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء. ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة. ولكنها لا تخلف أبدا ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة، ولا يدركون تحقق السنّة في صورة جديدة إلا بعد حين! ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله. ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى. فيكون ما يريده الله. ولو تكلف الجند المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون .. ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة، وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام، وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام. ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك وتدور عليهم الدائرة ويقسو عليهم الابتلاء لأن الله يعدّهم للنصر في معركة أكبر، ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع وفي خط أطول وفي أثر أدوم. لقد سبقت كلمة الله ومضت إرادته بوعده وثبتت سنته لا تتخلّف ولا تحيد: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ. كلمة في السياق والمقطع الثاني: نلاحظ أنه في المقطع الأول بعد قوله تعالى فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ... سار السياق إلى أن أوصلنا إلى قوله تعالى وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ثم تحدث السياق عن الرسل مباشرة.

فوائد

وفي المقطع الثاني بعد أن ناقش الله عزّ وجل المشركين جاء قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ .... فكما أن المقطع الأول أوصل إلى قوله تعالى وَلَقَدْ .... فالمقطع الثاني أوصل إلى قوله تعالى وَلَقَدْ .... وجاءت المجموعة الأخيرة المبدوءة بقوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ لتبني على ما مرّ في السورة، ولتؤكّد ما مرّ من معان، ولتجمّل معاني السورة فتقرّر التنزيه، وتذكر بعثة الرسل، ونصرتهم وخذلان أعدائهم وهكذا أكمل المقطع الثاني بناء قضية التوحيد، وقضية الإيمان وختم بتبيان نوع من أنواع فلاح المؤمنين الذي أشارت إليه الآيات الأولى من سورة البقرة، والتي هي محور سورة الصافات وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وفي الكلمة الأخيرة عن السورة زيادة بيان عن السياق. ... فوائد: 1 - [كلام ابن كثير حول آية وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وتعليق المؤلف] بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً قال ابن كثير: (قال مجاهد: قال المشركون: الملائكة بنات الله تعالى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا بنات سروات الجنّة، وكذا قال قتادة وابن زيد، وقال العوفي عن ابن عباس: قال زعم أعداء الله أنّه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان حكاه ابن جرير). أقول: ويشبه ما ذكره ابن عباس ما يقوله المجوس الذين يقولون بالثنوية أي بإلهين: إله للنور وإله للظلام. 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ قال ابن كثير: (وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه- وكان ممن بايع يوم الفتح- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه: «أطت السماء وحقّ لها أن تئط؛ ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد» ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ

3 - كلام ابن كثير بمناسبة آية فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ..

مَعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وقال الضحاك في تفسيره وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ قال: كان مسروق يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم» فذلك قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وقال الإمام الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك، أو قدماه، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه قال وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وكذا قال سعيد بن جبير وقال قتادة: كانوا يصلون الرجال والنساء جميعا حتى نزلت وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فتقدم الرجال وتأخّر النساء وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي نقف صفوفا في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فصفّوا، وقال أبو نضرة: كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال أقيموا صفوفكم، استووا قياما يريد الله تعالى بكم هدي الملائكة ثم يقول وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا» الحديث. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي نصطف فنسبّح الرب، ونمجّده، ونقدّسه، وننزّهه عن النقائص، فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ الملائكة وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ الملائكة وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ الملائكة تسبح الله عزّ وجل. وقال قتادة وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ يعني المصلين يثبتون بمكانهم من العبادة كما قال تبارك وتعالى وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ* وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (الأنبياء: 26 - 29). 3 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ قال

4 - كلام ابن كثير حول الآيات الثلاث الأخيرة في السورة

ابن كثير: (ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ورواه البخاري من حديث مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: لما صبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم، وغدوا إلى حروثهم وأرضيهم، فلما رأوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نكصوا مدبرين، فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» لم يخرجوه من هذا الوجه وهو صحيح على شرط الشيخين). 4 - [كلام ابن كثير حول الآيات الثلاث الأخيرة في السورة] بمناسبة قوله تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن كثير: (ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة، ويستلزم إثبات الكمال- كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه من النقص- قرن بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن، ولهذا قال تبارك وتعالى سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سلمتم عليّ فسلّموا على المرسلين؛ فأنا رسول من المرسلين» هكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد عنه كذلك، وقد أسنده ابن أبي حاتم رحمه الله ... عن قتادة قال حدثنا أنس ابن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين» وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلّم قال: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم يسلم. إسناده ضعيف. وروى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق عن الشعبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» وروي من وجه آخر متّصل موقوف على عليّ رضي الله عنه روى أبو محمد البغوي في تفسيره ... عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه سُبْحانَ

كلمة أخيرة في سورة الصافات

رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال دبر كل صلاة: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين- ثلاث مرات- فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر» وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك). كلمة أخيرة في سورة الصافات: قلنا من قبل: إنّ سورة ما عند ما تفصّل في محور من سورة البقرة فإنّها تفصّل فيه، وفي امتدادات معانيه من سورة البقرة نفسها. ولقد رأينا كيف أن سورة الصافات قد فصّلت في محورها من سورة البقرة؛ ففصّلت في الآيات الأولى من سورة البقرة وخاصة في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فلقد فصّلت السورة في أركان الإيمان، حتى لم يبق ركن من هذه الأركان إلا وقد أصابه نوع تفصيل، وكل ذلك ضمن سياق السّورة الرئيسي، الذي انصب الكلام فيه على التوحيد. ... لنتذكر الآن ما يلي: تألّفت سورة البقرة من مقدّمة، وثلاثة أقسام، وخاتمة، وتحدّثت المقدّمة عن المتقين، والكافرين، والمنافقين، ثمّ جاء القسم الأول فدعا الناس جميعا أن يكونوا من المتقين، ولقد انتهى القسم الأول بقوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الآية: 163]. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... [الآية: 164]. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً ... [الآية: 165]. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ... [الآية: 166]. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ... [الآية: 167].

إن هذه المعاني التي ختم بها القسم الأول من أقسام سورة البقرة ترتبط بشكل مباشر بمقدّمتها أي بالكلام عن المتقين والكافرين. ... لاحظ صلة هذه المعاني بسورة الصافات: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ* رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ [الآيتين: 4، 5]. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ* قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ* قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ... [الآيات: 27 - 30] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ* .. [الآيتين: 50، 51]. ... وهكذا نجد أن سورة الصافات تفصّل في محورها مع امتدادات معانيه ضمن سياقها الخاص بها، وهذا كله مع تكاملها مع سورة (ص) التي تشكّل معها المجموعة الثانية من قسم المثاني. وكنموذج على هذا التكامل: إنّك تجد في سورة الصافات كلمة (المخلصين) قد تكررت كثيرا، وتجد في سورة (ص) ذكرا لما به أخلصوا: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. ***

سورة ص

سورة ص وهي السّورة الثامنة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثانية والأخيرة من المجموعة الثانية من قسم المثاني، وآياتها ثمان وثمانون آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

نقول في سورة (ص)

نقول في سورة (ص): [تقديم الألوسي لسورة (ص)] قدّم الألوسي لسورة (ص) بقوله: (مكية كما روي عن ابن عباس وغيره، وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني. وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي، وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده، قيل ولم يقل أحد إن (ص) وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور، وفيه بحث. وهي كالمتممة لما قبلها من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام، كداود وسليمان، ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وأنهم كفروا بالذكر لمّا جاءهم بدأ عزّ وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، وفصّل ما أجمل هناك من كفرهم، وفي ذلك من المناسبة ما فيه، ومن دقّق النظر لاح له مناسبات أخر والله تعالى الموفق). ومن تقديم صاحب الظلال لسورة (ص): (وهذه الأشواط ... التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى، تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ* وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ* إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ. تعرض على القلب البشري هذه الصفحة. صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين. ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين، في قصص داود وسليمان وأيوب. هذا وذلك في واقع الأرض .. ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان. وصور الجحيم والغضب. حيث يرى لونا آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء. بعد ما لقياه في دار الفناء. والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار. وهم غافلون. كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن

كلمة في سورة (ص) ومحورها

في بناء السماء والأرض. وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض. فهذا من ذلك: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا .. وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة .. ). كلمة في سورة (ص) ومحورها: قلنا من قبل: إن محور سورة (ص) هو قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ومن ثمّ نجد في أول السورة قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. ثم نجد بعد آية قوله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. ثم نجد في أعماق السورة: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. ثم نجد بعد آية: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. ثم نجد ختام السورة: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ. ... ونلاحظ أن السورة تبدأ بمقدمة ثم تنتقل منها بقوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. ونجد في السورة بعد ذلك: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ. ونجد: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. ونجد: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ.

فكأن السورة تعطي دروسا للنذير. ... وتكثر في السورة الأوامر (قل) مما يشير إلى أنّ القرآن يلقّن النّدير حجّته أمام المواقف الجاحدة الكافرة. ... وتعرض السورة مظاهر من العذاب العظيم الذي أعدّه الله للكافرين. وتعرض السورة آدابا كثيرة للرسل الذين يقومون بواجب النذارة عن الله عزّ وجل، وارتباط كل ذلك بالمحور واضح، سنراه أثناء عرضنا للسورة. ... والسورة تكمّل سورة الصافات، ومن ثمّ نجد الكلام عن التوحيد منذ البداية: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وإذا حدّثتنا سورة الصافات عن إلياس، فإن سورة (ص) تذكر اسم خليفته (اليسع) وإذا حدّثتنا سورة الصافات عن عباد الله المخلصين، فسورة (ص) تحدّثنا عن الطريق إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. ... ولأنّ سورتي الصافات وص تفصّلان في مقدمة سورة البقرة، فإننا نلاحظ تداخلا؛ فسورة الصافات تحدّثنا عن الكافرين في معرض الكلام عن التوحيد، وسورة (ص) تحدثنا عن المتقين في سياق الإنذار. ... وكما فصّلت سورة الصافات في الآيات الأولى من سورة البقرة مع امتداد معانيها في سورة البقرة كلها، فإن سورة (ص) تفصّل آيتي سورة البقرة في وصف الكافرين مع امتداد معانيها في سورة البقرة أيضا. لاحظ ما يلي: جاءت في سورة البقرة قصة إبليس، وهي مرتبطة بموضوع الكفر، وجاء في

سورة البقرة قوله تعالى فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ [الآية: 137]. وجاء في سورة البقرة قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [الآية: 176]. وجاء في سورة البقرة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [الآية: 206]. لاحظ كلمتي الشقاق والعزّة ثمّ لاحظ أن سورة (ص) تبدأ بقوله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. والملاحظ كذلك أن سورة (ص) تنتهي بقصة إبليس عليه اللعنة، وهذا يؤكّد ما ذكرناه من أنّ سورة (ص) تفصّل في محورها، وفي امتدادات هذا المحور من سورة البقرة. ... وإذا كانت آيتا المحور في سورة البقرة قد أجملتا موضوع عدم استفادة الكافرين من الإنذار، فإن سورة (ص) ستفصّل لنا حرفيات مواقفهم التي أوصلتهم إلى هذه النتيجة وتردّ عليها. ... تتألف سورة (ص) من مقدمة تمتد حتى نهاية الآية (16). ومن مقطع أول يمتد حتى نهاية الآية (64)، ومن مقطع ثان يمتد حتى نهاية السورة. فلنر السورة.

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (16) وهذه هي

مقدمة السورة وتمتدّ من الآية (1) حتى نهاية الآية (16) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 38/ 16 - 1

التفسير

التفسير: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أي: القرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد، ونفع لهم في المعاش والمعاد، أو القرآن ذي الشرف، أي: ذي الشأن والمكانة. قال ابن كثير: (ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف، مشتمل على التذكير، والإعذار والإنذار) واختلفوا في جواب هذا القسم فقال قتادة جوابه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ. واختاره ابن جرير، وقيل جوابه ما تضمّنه سياق السورة بكمالها. وذكر النسفي أكثر من وجه. أحدهما: (ص والقرآن ذي الشرف إنه لكلام معجز، وأيا ما كان التقدير ففي القسم بالقرآن وخاصيّة من خواصّه، وهي التذكير إشعار بأنّ الحجة قائمة على الكافرين فكتاب اشتمل على التذكير فيه دليل إعجازه، وأنّه من عند الله، وسنرى في السورة نماذج من كون هذا القرآن ذكرا، مما يؤكّد ما ذهبنا إليه أن في القسم إشعارا بأن الحجة على الكافرين قائمة، وسياق السورة الذي يبيّن خاصيّة هذا القرآن في كونه ذكرا يقيم الحجة على الكفر وأهله من خلال هذه الخاصية لكتاب الله عزّ وجل. فالسورة تبيّن أن الحجة على الكافرين قائمة، ومع ذلك فإن الكافرين مصرون على كفرهم وعنادهم وكبرهم ... بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أي تكبّر عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وَشِقاقٍ أي خلاف لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم. قال النسفي: (والتنكير في عزة وشقاق للدلالة على شدتهما وتفاقمهما). وقال ابن كثير: (أي إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكّر، وعبرة لمن يعتبر، وإنّما لم ينتفع به الكافرون لأنّهم في عزّة أي استكبار عنه وحميّة، وشقاق أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة) ثمّ خوّفهم الله ما أهلك به الأمم المكذّبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل، وتكذيبهم للكتب المنزلة من السماء فقال تعالى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي من أمّة مكذّبة فَنادَوْا أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي وليس ذلك بمجد عنهم شيئا. والتقدير: وليس الحين حين مناص، أي منجى وفرار وذهاب وَعَجِبُوا أي وعجب الكافرون أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ أي رسول مِنْهُمْ أي من أنفسهم ينذرهم يعني: استبعدوا أن يكون النبي من البشر وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ اتّهموا الرسول صلّى الله عليه وسلم بالسّحر والكذب- عليهم من الله ما يستحقون- وقد علّل النّسفي لقوله تعالى: وَقالَ الْكافِرُونَ وعدم قوله وقالوا. فقال: (ولم يقل: وقالوا: إظهارا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغّلون في الكفر، المنهمكون

[سورة ص (38): آية 5]

في الغيّ؛ إذ لا كفر أبلغ من أن يسمّوا من صدّقه الله كاذبا ساحرا، ويتعجّبوا من التوحيد، وهو الحقّ الأبلج، ولا يتعجبوا من الشّرك وهو باطل لجلج). أَجَعَلَ الْآلِهَةَ أي أصيّرهم إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي بليغ في العجب. قال ابن كثير: (أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك- قبّحهم الله تعالى- وتعجّبوا من ترك الشرك بالله، فإنّهم كانوا قد تلقّوا عن آبائهم عبادة الأوثان، وأشربته قلوبهم، فلمّا دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم، وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجّبوا) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين أَنِ امْشُوا أي استمروا على دينكم وَاصْبِرُوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد صلّى الله عليه وسلم من التوحيد إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. أي: (إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع، ولسنا نجيبه إليه) ذكره ابن جرير. ما سَمِعْنا بِهذا أي بالتوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى مثلّثة غير موحّدة، أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا. قال ابن عباس: قالوا: لو أن هذا القرآن حق لأخبرتنا به النصارى إِنْ أي: ما هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي: كذب اختلقه أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ أي: على محمد صلّى الله عليه وسلم الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم. قال النسفي: أنكروا أن يختصّ بالشرف من بين أشرافهم، وينزل عليه الكتاب من بينهم حسدا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي: من القرآن بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ هذا بداية الردّ على مواقفهم. أي: بل أنهم لا يصدّقون به إلّا أن يمسهم العذاب فيصدقوا حينئذ. قال ابن كثير: (أي: إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا- إلى حين قولهم ذلك- عذاب الله تعالى ونقمته، سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا) ثم قال تعالى مبيّنا أنه المتصرّف في ملكه، الفعال لما يشاء، الذي يعطي من يشاء ما يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده، ويختم على قلب من يشاء، فلا يهديه أحد من بعد الله، وأن العباد لا يملكون شيئا من الأمر، وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة، وما يملكون من قطمير، ولهذا قال تعالى منكرا عليهم أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي: العزيز الذي لا يرام جنابه، الوهاب الذي يعطي ما يريد

[سورة ص (38): آية 10]

لمن يريد. قال النسفي: يعني ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا، ويصرفوها عمّن شاءوا، ويتخيّر للنبوة بعض صناديدهم، ويترفّعوا بها عن محمد صلّى الله عليه وسلم وإنّما الذي يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه. الوهّاب الكثير المواهب، المصيب بها مواقعها، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته، ثم رشح هذا المعنى فقال: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما حتى يتكلّموا في الأمور الربانية، والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ قال ابن كثير: أي: إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم يعني: طرق السماء جُنْدٌ ما من الجنود المرتقين في الأسباب هُنالِكَ مَهْزُومٌ أي: مكسور هنالك أي في السماء مِنَ الْأَحْزابِ المكذّبين. ثم أخبر تعالى عن القرون الماضية، وما حلّ بهم من العذاب والنّكال والنّقمات في مخالفة الرّسل، وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل هذه الأمة قَوْمُ نُوحٍ كذّبوا نوحا وَعادٌ كذّبوا هودا وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ كذب موسى وسمّي ذا الأوتاد إمّا لأنّه كان يربط بالأوتاد سجناءه ومعذّبيه، وإمّا لتمكّن جذوره في الأرض وَثَمُودُ كذبت صالحا وَقَوْمُ لُوطٍ كذبوا لوطا وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي: الغيضة كذبوا شعيبا أُولئِكَ الْأَحْزابُ قال النسفي: أراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب. وقال ابن كثير: أي: كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شئ لمّا جاء أمر ربك، ولهذا قال عزّ وجل إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ جعل علّة إهلاكهم تكذيبهم بالرّسل، فليحذر المخاطبون من ذلك أشدّ الحذر. قال النسفي: (ذكر أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأن في تكذيب الواحد منهم تكذيب الجميع لاتحاد دعوتهم ... ) ومعنى فَحَقَّ عِقابِ أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي: المكذبون من هذه الأمة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي: النفخة الأولى وهي الفزع الأكبر ما لَها مِنْ فَواقٍ أي: ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتي الحالب. أي: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، أو ما لها من رجوع وترداد، أي: إنها نفخة واحدة فحسب، لا تثنّى ولا تردّد وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ أي: عجّل لنا حظّنا ونصيبنا من الخير أو الشر في الدنيا. قال النسفي: أي: حظنا من الجنة

نقل: عن صاحب الظلال حول آيتي ما سمعنا بهذا .. * أأنزل عليه الذكر .. (7، 8)

لأنه عليه السلام ذكر وعد الله للمؤمنين الجنة. فقالوا على سبيل الهزء: عجّل لنا نصيبنا منها أو نصيبنا من العذاب الذي وعدته كقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ* وهو كلام لا يستأهل ردّا ولذلك لم يجب الله عليه، وإنما أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم بالصبر كما سنرى. وبهذا الذي ذكرناه انتهت المقدمة. نقل: [عن صاحب الظلال حول آيتي ما سَمِعْنا بِهذا .. * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ .. (7، 8)] بمناسبة قوله تعالى حكاية عن موقف الكافرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ* أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا قال صاحب الظلال: (وكانت عقيدة التثليث قد شاعت في المسيحية. وأسطورة العزير قد شاعت كذلك في اليهودية فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ... ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله. الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم فما يقول إذن إلا اختلاقا! ولقد حرص الإسلام حرصا شديدا على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على العقائد التي سبقته. حرص هذا الحرص لأن التوحيد حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله؛ ويشهد بها هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة. ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشرية كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها. ويحسن ونحن نستعرض مقاومة قريش لهذه العقيدة ودهشتها وعجبها من جعل الآلهة إلها واحدا. ومقاومة المشركين قبل قريش على مدار القرون ومدار الرسالات لهذه الحقيقة كذلك. وإصرار كل رسول عليها، وقيام كل رسالة على أساسها. والجهد الضخم الذي بذل في إقرار هذه الحقيقة في نفوس البشر على مدار الزمان ... يحسن أن نتوسّع قليلا في بيان قيمة هذه الحقيقة. إنها حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود. إن وحدة النواميس الكونية التي تتحكم في هذا الكون الذي نراه واضحة؛ وناطقة بأن الإرادة التي أنشأت هذه النواميس لا بد أن تكون واحدة .. وحيثما نظرنا إلى هذا الكون واجهتنا هذه الحقيقة. حقيقة وحدة النواميس. وحدة تشي بوحدة الإرادة.

كل ما في هذا الكون في حركة دائمة منتظمة .. الذرة الصغيرة وهي الوحدة الأولى لكل ما في الكون من شئ- حي أو غير حي- في حركة مستمرة. فهي مؤلفة من الكترونات تتحرك حول النواة المؤلفة من بروتونات. وكما تدور الكواكب حول الشمس في المجموعة الشمسية. وكما تدور المجرة المؤلفة من مجموعات شمسية ومن كتل سديمية حول نفسها .. واتجاه الدورة في الكواكب وفي الشمس وفي المجرة اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق. عكس دورة الساعة! (¬1). والعناصر التي تتكون منها الأرض وبقية الكواكب السيارة واحدة. وعناصر النجوم هي كذلك من عناصر الأرض. والعناصر مؤلفة من ذرات. والذرات مؤلفة من الكترونات وبروتونات ونيوترونات .. كلها مؤلفة من هذه اللبنات الثلاث بلا استثناء .. «وفي الوقت الذي ترد فيه المادة إلى ثلاث لبنات. يرد العلماء (القوى) إلى أصل واحد: الضوء والحرارة، الأشعة السينية، الأشعة اللاسلكية، الأشعة الجيمية. وكل إشعاع في الدنيا .. كلها صور متعددة لقوة واحدة. تلك القوة المغناطيسية الكهربائية. إنها جميعا تسير بسرعة واحدة، وما اختلافها إلا اختلاف موجة». «المادة ثلاث لبنات. والقوى موجات متأصلات». «ويأتي أينشتين وفي نظريته النسبية الخاصة، يكافئ بين المادة والقوى؛ ويقول: إن المادة والقوى شئ سواء. وتخرج التجارب تصدّق دعواه. وخرجت تجربة أخيرة صدّقت دعواه بأعلى صوت تسمعه الدنيا. ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليودينوتية». «المادة والقوى إذن شئ سواء» (1). هذه هي الوحدة في تكوين الكون كما عرفها الإنسان أخيرا في تجاربه المحسوسة .. وهناك الوحدة الظاهرة في نظام الكون كما أشرنا إلى قانون الحركة الدائبة. ثم هي الحركة المنظمة المنسقة التي لا يشذ فيها شئ في هذا الكون. ولا يضطرب فيها شئ .. توازن هذه الحركة في جميع الكائنات بحيث لا يعطّل بعضها بعضا ولا يصدم بعضها بعضا. وأقرب مثل هذه الكواكب والنجوم والمجرات الضخمة التي تسبح في الفضاء: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ .. والتي تشهد بأن مجراها في هذا الفضاء، المنظم ¬

_ (¬1) عن كتاب: مع الله في السماء للدكتور أحمد زكي، المدير السابق لجامعة القاهرة.

لحركتها وأبعادها ومواقعها واحد لا يتعدد، عارف بطبيعتها وحركتها. مقدر لهذا كلها في تصميم هذا الكون العجيب. ونكتفي بهذه اللمحة الخاطفة في تتبع حقيقة الوحدة التي ينطق بها نظام هذا الكون ويشهد بها كل ما فيه. وهي حقيقة لا يستقيم أمر هذه البشرية إلا عليها. فوضوح هذه الحقيقة في الضمير البشري ذو أهمية بالغة في تصور البشر للكون من حولهم، ولموضعهم هم في هذا الكون، ولعلاقتهم بكل ما فيه من أشياء وأحياء. ثم في تصوّرهم لله الواحد ولحقيقة ارتباطهم به، وبما عداه ومن عداه في هذا الوجود .. وكل ذلك ذو أهمية بالغة في تكييف مشاعر البشر وتصورهم لكل شئون الحياة. والمؤمن بالله الواحد، المدرك لمعنى هذه الوحدانية، يكيّف علاقته بربه على هذا الأساس، ويضع علاقته بمن عدا الله وبما عداه، في موضعها الذي لا تتعداه. فلا تتوزع طاقاته ومشاعره بين آلهة مختلفة الأمزجة! ولا بين متسلطين عليه غير الله ممن خلق الله! والمؤمن بأن الله الواحد هو مصدر هذا الوجود الواحد يتعامل مع الوجود ومن فيه وما فيه على أساس من التعارف والتعاون والألفة والمودة، يجعل للحياة طعما وشكلا غير ما لها في نفس من لا يؤمن بهذه الوحدة، ولا يحسها بينه وبين كل ما حوله ومن حوله. والمؤمن بوحدة الناموس الإلهي في الكون يتلقى تشريعات الله له وتوجيهاته تلقيا خاصا، لينسق بين القانون الذي يحكم حياة البشر والناموس الذي يحكم الكون كله؛ ويؤثر قانون الله. لأنه هو الذي ينسق بين حركة البشر وحركة الكون العام. وعلى الجملة فإن إدراك هذه الحقيقة ضروري لصلاح الضمير البشري واستقامته واستنارته وتصالحه مع الكون من حوله. وتنسيق حركته مع الحركة الكونية العامة. ووضوح الارتباطات بينه وبين خالقه. ثم بينه وبين الكون حوله. ثم بينه وبين كل ما في الكون من أحياء ومن أشياء! وما يتبع هذا من تأثرات أخلاقية وسلوكية واجتماعية وإنسانية عامة في كل مجال من مجالات الحياة. ومن ثمّ كان هذا الحرص على إقرار عقيدة التوحيد. وكان هذا الجهد الموصول المكرور مع كل رسالة وكل رسول. وكان هذا الإصرار من الرسل- صلوات الله

عليهم- على كلمة التوحيد بلا هوادة. وفي القرآن الكريم يتضح الحرص والجهد والإصرار في تكرار عرض قضية التوحيد ومقتضياتها في السور المكية على وجه التخصيص وفي السور المدنية كذلك في صور تناسب طبيعة الموضوعات التي تعالجها السور المدنية. وهذه هي الحقيقة التي كان المشركون يعجّبون ذلك العجب من إصرار محمد صلّى الله عليه وسلم عليها ويحاورونه فيها ويداورونه، ويعجبون الناس منه ومنها، ويصرفونهم عنها بكل وسيلة. وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره صلّى الله عليه وسلم ليكون رسولا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا .. وما كان في هذا من غرابة. ولكنه كان الحسد. الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حدث، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق؛ فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرقوا .. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك! قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن

كلمة في السياق: حول مضمون المقدمة وصلتها بالمحور، وصلة لسورة الصافات بسورة ص

وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! فقام عنه الأخنس وتركه .. فهو الحسد كما نرى. يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى ما لا مطمع فيه لطامع. وهو السر في قولة من كانوا يقولون: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟. وهم الذين كانوا يقولون: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ .. يقصدون بالقريتين مكة والطائف، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون؛ الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين، كلما سمعوا أن نبيا جديدا قد أطل زمانه. والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله- على علم- نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم وفتح له من أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين). كلمة في السياق: [حول مضمون المقدمة وصلتها بالمحور، وصلة لسورة الصافات بسورة ص] 1 - رأينا أن محور سورة (ص) هو قوله تعالى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وقد رأينا في مقدمة سورة (ص) كيف أن الإنذار لا ينفع في هؤلاء الكافرين؛ بدليل أن الله عزّ وجل بعد أن عرض علينا مواقفهم ختمها بقولهم: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ فنهاية المطاف أنهم استعجلوا العذاب، ومن قبل ذلك قصّ الله علينا عنهم وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. ومن استعراضنا لمجموع صفاتهم في المقدمة نعرف الحالة التي إذا وجدت لم يعد الإنذار ينفع: (1) العزة. (2) المشاقّة لله والرسول. (3) تكذيب الرسل واتّهامهم. (4) استبعاد التوحيد. (5) التآمر من أجل الاستمرار على الكفر. (6) الاحتجاج بما عليه الكافرون الآخرون. (7) الحسد. (8) استعجال المتاع الدنيوي أو استعجال

فوائد

العذاب الذي يدل على عدم خوف الله عزّ وجل. 2 - من مظاهر التكامل بين ما عرضته سورة الصافات وسورة (ص). أن سورة الصافات عرضت في سياقها الرئيسي موضوع التوحيد، وتحدثت عن الرسل، وهاهنا نرى استبعاد الكافرين لموضوع التوحيد، وتكذيبهم للرسل عليهم الصلاة والسلام. فوائد: 1 - [سبب نزول الآيات أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ... ] بمناسبة قوله تعالى حكاية عن تعجب الكافرين من دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ... قال ابن كثير: (ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات) قال: (قال السّدّي: إن ناسا من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه، فلينصفنا منه، فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شئ فتعيّرنا به العرب، يقولون تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه، فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب، فاستأذن لهم على أبي طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك، قال: أدخلهم، فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه، وقال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم، ويدعوك وإلهك، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟» قال: وإلام تدعوهم؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «أدعوهم أن يتكلّموا بكلمة يدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم» فقال أبو جهل- لعنه الله- من بين القوم: ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها؟ قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «تقولون لا إله إلا الله» فنفروا، وقالوا: سلنا غيرها، قال صلّى الله عليه وسلم: «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» فقاموا من عنده غضابا، وقالوا: والله لنشتمنّك وإلهك الذي أمرك بهذا وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد فلما خرجوا دعا رسول الله صلّى الله

2 - من معجزات القرآن الكونية بمناسبة قوله تعالى ... فليرتقوا في الأسباب ..

تعالى عليه وآله وسلم عمه إلى قول لا إله إلا الله فأبى، وقال بل على دين الأشياخ ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ. وروى أبو جعفر ابن جرير ... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فجاء إليه النبي صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشي أبو جهل- لعنه الله- إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرقّ له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما لقومك يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم بها العجم الجزية» ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا، فقالوا وما هي، وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لا إله إلا الله» فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ قال نزلت من هذا الموضع إلى قوله بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ رواه الإمام أحمد والنسائي، ورواه الترمذي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا. وقال الترمذي حسن). 2 - [من معجزات القرآن الكونية بمناسبة قوله تعالى ... فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ .. ] رأينا أن قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ* جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ آت في معرض الردّ على استنكارهم واستبعادهم أن ينزل الله عزّ وجل على محمد صلّى الله عليه وسلم القرآن أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ... وقد رأينا محل الآيات في الرد إذ المعنى: فليصعدوا إلى السماء حتى يدبروا أمر العالم، وملكوت الله، وينزلوا الوحي إلى من يختارون. فالآية آتية في أداء هذا المعنى، ولكنها حوت معجزة من معجزات القرآن التي تثبت أن القرآن وحي، وأنه فوق الشك، وذلك أن قوله تعالى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ* جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أشعر أن عملية الارتقاء في الأسباب الموصلة إلى السماء كائنة، وأن أكثر من طرف داخل في عملية السباق هذه، وأن أحد الأطراف سيهزم، وأن جميع الأطراف كافرة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك كَذَّبَتْ

قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... وهذا الذي أفهمنا إياه النص هو الذي رأيناه في عصرنا، إذ حدث السباق في الارتقاء في الأسباب إلى السماء بين أمريكا وروسيا، فسبقت أمريكا- حتى كتابة هذه السطور- في هذا الارتقاء، وأنزلت بشرا على القمر وهي ماضية في برامجها. ولننتقل إلى المقطع الأول. ***

المقطع الأول ويمتد من الآية (17) إلى نهاية الآية (64) وهذا هو

المقطع الأول ويمتد من الآية (17) إلى نهاية الآية (64) وهذا هو: 38/ 64 - 17

38/ 27 - 45

ملاحظة في السياق: حول صلة المقطع الأول بالمقدمة وبموضوع السورة الرئيسي

38/ 46 - 64 ملاحظة في السياق: [حول صلة المقطع الأول بالمقدمة وبموضوع السورة الرئيسي] يلاحظ أن المقطع بدئ بقوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ... فبعد أن تبيّن في المقدمة أن الإنذار لا ينفع بالكافرين، فالسورة تتوجّه بالخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، آمرة إياه بالصبر والذكر، فتأمره أن يذكر داود، ثم أيوب، ثم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم إسماعيل واليسع وذا الكفل عليهم الصلاة والسلام مما يشير إلى أن على الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يأخذ دروسا من هؤلاء عليهم السلام. فالسورة بعد أن بيّنت انعدام فائدة الإنذار في هذا الصنف من الكافرين، بدأت تعطي

التفسير

دروسا للنذير، من خلال أمره أن يذكر هؤلاء المذكورين، ثم تأتي في نهاية المقطع مجموعة مبدوءة بقوله تعالى: هذا ذِكْرٌ مما يشير إلى أن المقطع يعطينا نماذج على كون القرآن ذكرا، وهي الصفة التي وصف بها القرآن في أول السورة: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ فالمقطع إذن برهان عملي على أن القرآن ذكر، وفي ذلك إقامة حجة على الكافرين، فإذا كان القرآن الذي هو ذكر من الله، وتذكير للإنسان، لم ينفع فيهم، بل شكّوا فيه وأعرضوا عنه ورفضوه، فإنّ أمثال هؤلاء ما عاد ينفع فيهم شئ، وليس لهم إلا العذاب. التفسير: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أقوال كافرة فاجرة شاكّة ناقدة. قال النّسفي: (أي) اصبر على ما يقولون فيك، وصن نفسك أن تزلّ فيما كلّفت من مصابرتهم، وتحمّل أذاهم وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ لتأخذ من هذا الذكر دروسا وعبرا، ومن ذلك أنّه مع كرامته على الله زل تلك الزّلة اليسيرة، فلقي من عتاب الله ما لقي ذَا الْأَيْدِ أي ذا القوة في الدين، أو ذا القوة في العلم والعمل. وقال قتادة: أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة، وفقها في الإسلام إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجّاع إلى الله عزّ وجلّ في جميع أموره وشئونه. قال النسفي: وهو تعليل لذي الأيد إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ أي ذلّلناها معه يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ قال ابن كثير: أي أنه تعالى سخّر الجبال تسبّح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. قال النسفي: واختار (يسبحن) على مسبحات ليدلّ على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شئ، وحالا بعد حال ... والعشي: وقت العصر إلى الليل، والإشراق: وقت الإشراق، وهو حين تشرق الشمس أي تضئ، وهو وقت الضحى وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية، تسبّح بتسبيحه وترجّع بترجيعه كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي مطيع مسبّح، لأنها كانت تسبّح لتسبيحه، ووضع الأوّاب موضع المسبّح لأنّ الأوّاب وهو التّواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته من عادته أن يكثر ذكر الله، ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل الضمير لله. أي كل من داود والجبال والطير لله أوّاب أي مسبّح مرجّع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوّيناه. قال ابن كثير: أي جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: كان أشدّ أهل الدنيا سلطانا وَآتَيْناهُ

كلمة في السياق

الْحِكْمَةَ قال النسفي: (أي: الزبور وعلم الشرائع، وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة. وقال مجاهد: يعني الفهم والعقل والفطنة، وقال مرة: العدل، وقال مرة: الصواب. وقال قتادة: كتاب الله واتباع ما فيه. وقال السّدّي: النبوة). وكل ذلك أوتيه داود عليه السّلام وَفَصْلَ الْخِطابِ قال النسفي: (أي: علم القضاء، وقطع الخصام، والفصل بين الحق والباطل، والفصل: هو التمييز بين الشيئين ... ، وفصل الخطاب: البين من الكلام الملخص يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه ... والمراد بفصل الخطاب: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، وهو كلامه في القضايا والحكومات، وتدابير الملك والمشورات). وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام وفي الحكم. قال ابن كثير: وهو المراد. واختاره ابن جرير. ... كلمة في السياق: نلاحظ أن الله عزّ وجل وصف داود عليه السلام بالقوة والأوبة، وهما مطلوبان من كل مسلم أن يكون قويا رجّاعا إلى الله عزّ وجل، وهاتان الصفتان في سياق السورة تبيّنان أن المسلم يجابه الكفر بالصبر والقوة، والرجوع إلى الله، وذكرت لنا الآيات ما أعطى الله عزّ وجل داود بهاتين الصفتين: من تسبيح الجبال، والطير معه، ومن تقوية ملكه، وإيتائه الحكمة، وإعطائه فصل الخطاب في القول إذا تكلم، فكأنّ الله عزّ وجل يقول للمسلم: أيها المسلم كن صابرا قويا، أوّابا، وسأعطيك الكثير كما أعطيت داود عليه السلام. هذا هو الدرس الأول من ذكر قصة داود عليه السلام في سياق هذه السورة. والآن يقصّ الله علينا حادثة عن داود عليه السلام يتبيّن لنا فيها كيف أنّ داود عليه السلام كان أوّابا، وفيها مثل على حكمة داود وعلى إعطائه الحكمة وفصل الخطاب. فالحادثة تخدم قصة داود عليه السلام في جوانب متعددة. ... وَهَلْ أَتاكَ يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصماء. قال النسفي: ظاهر الاستفهام ومعناه الدلالة على الأنباء العجيبة إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي تصعّدوا سوره ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، والمحراب: الغرفة أو المسجد، أو صدر المسجد إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قال ابن كثير: (إنما كان ذلك لأنه كان

[سورة ص (38): آية 23]

في محرابه وهو أشرف مكان في داره، وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم، فلم يشعر إلا شخصين قد تسوّرا عليه المحراب، أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما) قالُوا الضمير يعود على الخصم، ولذلك جمع مع أنهما كانا اثنين. والظاهر أنهما ملكان في صورة إنسانين لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدّى بعضنا على بعض وظلم فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي ولا تجر أي لا تتجاوز الحدّ ولا تتخطّى الحقّ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجّته، والمراد عين الحق ومحضه إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ المراد بالأخوّة هنا أخوّة الدنيا، أو أخوّة الصداقة والألفة، أو أخوّة الشركة والخلطة فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي ملّكنيها. أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، أو اجعلها كفلي أي نصيبي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي وغلبني في الخصومة. أي إنه كان أقدر على الاحتجاج مني قالَ داود عليه السلام حاكما بينهما لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ قال النسفي: (وإنما ظلم الآخر بعد ما اعترف به خصمه، ولكنّه لم يحك في القرآن لأنّه معلوم). وعقّب على حكمه بقاعدة عظيمة من قواعد التعايش والخلطة فقال: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء والأصحاب، والمتخالطين مع بعضهم في بيت أو سجن أو دائرة لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي ليظلم بعضهم بعضا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ فهذا القليل الصالح وحده لا يظلم بعضه بعضا في الخلطة وَظَنَّ داوُدُ أي علم وأيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ أي اختبرناه وابتليناه، وأنّه المراد بهذا المثل فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً أي سقط على وجهه ساجدا لله وَأَنابَ أي ورجع إلى الله بالتوبة فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما ظنّ داود أنّه وقع فيه، ومن أجل ذلك اختصم إليه الملكان وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربة وَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجع وهو الجنة. قال ابن كثير في قوله تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ: (أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين) وسنرى في الفوائد ما هي القضية التي تنسب لداود عليه السلام وعوتب فيها. وقد فهمنا من الحادثة نموذجا من حكمة داود عليه السلام، ونموذجا من إيتائه فصل الخطاب، ونموذجا من أوبته إلى الله وهي- والله أعلم- المقاصد الرئيسية من عرض الحادثة في هذا السياق. ثم خاطب الله عزّ وجلّ داود عليه السلام خطابا هو درس لكل من ولّاه الله عزّ وجل شأنا من شئون الأمة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ

كلمة في السياق

خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ قال النسفي: (أي استخلفناك على الملك في الأرض، أو جعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق) وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغيّر فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ قال النسفي: أي بحكم الله إذ كنت خليفته، أو بالعدل وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي هوى النفس في قضائك وحكمك فَيُضِلَّكَ الهوى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه وشرعه وطريقه إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بنسيانهم يوم الحساب. قال السّدّي: (أي) لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب. قال ابن كثير: (هذه وصية من الله عزّ وجل لولاة الأمور، أن يحكموا بين الناس بالحق المنزّل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه؛ فيضلّوا عن سبيل الله، وقد توعّد تبارك وتعالى من ضلّ عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد). ... كلمة في السياق: نلاحظ أنه بعد الأمر لداود عليه السلام بالحكم بالحق، وترك اتباع الهوى، تأتي الآن ثلاث آيات تفصل بين الكلام عن داود وسليمان عليهما السلام، فكأن هذه الآيات تعلّل للأمر بالحكم بالحق، وللنهي عن اتباع الهوى، وتعلّل لمجئ اليوم الآخر والحساب. .. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الخلق باطِلًا أي خلقا باطلا أي ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب، ولكن للحق المبين، وهو أنا خلقنا نفوسا أودعناها العقل، ومنحناها التمكين، وأزحنا عللها، ثمّ عرّضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم. قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا، وإنّما خلقهم ليعبدوه ويوحّدوه، ثمّ يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذّب الكافر) ثم أخبر تعالى أن خلق السموات والأرض باطلا ظن الكافرين قال تعالى: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين لا يرون بعثا ولا معادا، وإنما يعتقدون أن ليس إلّا هذه الدار فقط. قال النسفي: (أي خلقها للعبث لا للحكمة

[سورة ص (38): آية 28]

هو مظنون الذين كفروا، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما لقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* لأنه لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب مؤديا إلى أن خلقها عبث وباطل جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم، فمن جحده فقد جحد الحكمة في خلق العالم). فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدّة لهم. ثم بيّن تعالى أنّه عزّ وجلّ من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ* أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ الاستفهام في الآية للإنكار. قال النّسفي: والمراد أنه لو بطل الجزاء- كما يقول الكافرون- لاستوت أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر، ومن سوّى بينهم كان سفيها ولم يكن حكيما. وقال ابن كثير في الآية: أي لا نفعل ذلك (وهي التسوية بين المؤمنين والكافرين والمتقين والفجار) ولا يستوون عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدلّ العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنّه لا بدّ من معاد وجزاء؛ فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدّ في حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار. فتعيّن أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة، والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ أي هذا كتاب أنزلناه إليك يعني القرآن لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتدبّروا آياته ومعناه: ليتفكّروا فيها فيقفوا على ما فيه، ويعملوا به وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتعظ بالقرآن أولو العقول. قال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل. رواه ابن أبي حاتم. ... كلمة في السياق: ذكرنا أن هذه الآيات الثلاث جاءت في وسط الكلام عن داود وسليمان عليهما السلام وارتباطها بالسياق القريب واضح كما رأينا. فبعد أن ذكر الله عزّ وجل نهيه داود

[سورة ص (38): آية 30]

عليه السلام عن اتّباع الهوى، وأمره إياه بالحكم بالحق، وتبيانه جزاء الضالين يوم القيامة، جاءت الآيتان التاليتان لذلك لتبيّنا ضرورة وجود اليوم الآخر وحكمته، واقتضى هذا أن تأتي الآية الثالثة لتبيّن حكمة نزول القرآن، إذ ما دام هناك يوم آخر فلا بدّ من وحي، وكان هذا الوحي في الرسالة الخاتمة هو القرآن الذي أنزله الله للتدبّر والتذكّر، فإذا اتضح هذا فلنتساءل ما محل هذه الآيات في سياق السورة والمقطع؟ لاحظنا أن المقطع بدأ بقوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ... فالمقطع يبدأ بالأمر بذكر داود عليه السلام مما يوحي أنّ المقطع يأتي من أجل تبيان نماذج من كون هذا القرآن ذكرا؛ فهو يذكّر من خلال القصة والحادثة، ويذكّر من خلال التقرير، ويذكّر من خلال العرض، وقد ذكّرنا في قصّة داود عليه السلام من خلال القصة، وذكّرنا في الآيات الثلاث في الوسط من خلال التقرير، وختم الآيات بتبيان وتأكيد كون القرآن مذكّرا وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وصلة ذلك ببداية السورة وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ واضحة. فالسّورة نموذج على كون القرآن ذكرا. ومجئ الآيات الثلاث بعد قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ... فيه إشارة إلى أهمية ما ورد في الآية، حتى جاءت ثلاث آيات بعدها لتعضّد مضمونها، فالحكم بالحق وترك اتباع الهوى من أعظم المقاصد في هذه الشريعة، وفي ختم الآيات الثلاث بقوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ ... فيه إشارة إلى أن القرآن هو ميزان الحق، وميزان عدم اتباع الهوى، وفي ختم الآية الأخيرة بقوله تعالى: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ما يفيد أن في السياق من العبر ما يحتاج إلى تدبّر، وتذكّر كبيرين، وبعد هذا الفاصل الذي خدم سياق السورة القريب والعام خدمات كثيرة يعود السياق إلى الحديث عن داود عليه السلام. ... وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ وفي ذكر هبة الله داود سليمان عليهما السلام في هذا المقام ما يشير إلى أنّ هذه الهبة مكافأة لداود عليه السلام على ما مرّ، ممّا يشير إلى أنّه قد قام بحق الاستخلاف، وحكم بالحق، وترك اتباع الهوى نِعْمَ الْعَبْدُ أي سليمان إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا تعليل لاستحقاقه الثناء، والأواب: هو الكثير الرجوع إلى الله تعالى، فكما كان أبوه أوّابا فهو أوّاب، وكما أعطي أبوه ما أعطي، فقد أعطي هو الكثير؛ مكافأة له على أوّابيته، وكما عرض الله عزّ وجل حادثة تدل على أوّابيّة داود عليه

[سورة ص (38): آية 31]

السلام، فإنه الآن يقصّ علينا حادثة تدلّ على أوّابيّة سليمان عليه السلام، وتخصيص سليمان عليه السلام بالذكر بأنّه هبة الله إلى داود- مع أن داود كان له بنون غيره- يدلّ على أنّ المراد بهذه الهبة جعله سليمان نبيا إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ أي على سليمان عليه السلام بِالْعَشِيِّ أي بعد الظهر الصَّافِناتُ هي الخيل التي تقف على ثلاث، وطرف حافر الرابعة الْجِيادُ أي السراع، جمع جواد لأنه يجود بالركض. قال النسفي: (وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان، وإنّما هو في العراب، وقيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية، يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها وقيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد ... ) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي المال أي الخيل عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي عن صلاتي حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ قال النسفي: (والذي دلّ على أنّ الضمير للشمس مرور ذكر العشي، ولا بد للضمير من جري ذكر أو دليل ذكر، أو الضمير للصافنات أي حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام رُدُّوها عَلَيَّ أي ردّوا الصافنات عليّ فَطَفِقَ أي فجعل مَسْحاً أي يمسح السيف بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي يقطّعها لأنّها منعته عن الصلاة، وكانت الخيل مأكولة في شريعته، فلم يكن إتلافا. وسنرى في الفوائد كلام ابن كثير في هذا المقام. ... كلمة في السياق: تبيّن لنا هذه الحادثة أوابيّة سليمان عليه السلام، إذ رأينا سليمان عليه السلام قد أشغله الاستعراض عن ذكر الله، ففعل ما فعل معاقبة لنفسه، وغضبا لله، بأن قتل ما شغله عن ذكر الله عزّ وجلّ، وفي ذلك درس لكل حاكم مسلم ألا تشغله الاستعراضات عن ذكر الله عزّ وجل، وألا يستغرقه شأن عن واجباته تجاه ربه عزّ وجل، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل هذه الحادثة التي دلّتنا على أوّابية سليمان عليه السلام، ذكر حادثة أخرى تدلّ على ذلك: ... وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي اختبرناه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ أي: على سرير ملكه جَسَداً أي: لا روح فيه، أي لا إيمان كامل فيه، أو جسد ميّت عزيز

نقل

عليه؛ عتابا له على حرصه عليه حرصا كبيرا استغرق قلبه عن التوكل ثُمَّ أَنابَ أي: رجع إلى الله وتاب، فهو أوّاب في كل حال، في حال الغفلة عن الشكر، أو في حال الاختبار والابتلاء. ... نقل: سننقل فيما بعد بعض كلام المفسّرين حول الخيل، وحول الجسد في قصة سليمان عليه السّلام، وهاهنا ننقل ما ذكره صاحب الظلال في ذلك، قال رحمه الله: (والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة. وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان .. كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها. ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوّرا يطمئن إليه قلبي، فأصوره هنا وأحكيه. ولم أجد أثرا صحيحا أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح. صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعا. ونصه: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» .. وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا. وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال ... أما قصة الخيل فقيل: إن سليمان- عليه السلام- استعرض خيلا له بالعشي. ففاته صلاة كان يصليها قبل الغروب. فقال: ردّوها عليّ. فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل الله ... وكلتا الروايتين لا دليل عليهما. ويصعب الجزم بشيء عنها. ومن ثمّ لا يستطيع متثبّت أن يقول شيئا عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن.

كلمة في السياق

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان- عليه السلام- في شأن يتعلّق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجّههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل. وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع، وطلب المغفرة؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء). كلمة في السياق: إن ذكر ابتلاء سليمان عليه السلام في هذا المقام يؤدي دوره الرئيسي في السياق في تبيان أوّابيّة سليمان عليه السلام، ولكنّه يشعرنا- لوروده بعد حادثة غفلة- أن هذا الامتحان كان عقوبة له على تلك الغفلة، مما يعطينا درسا في أصول التعامل مع الله عزّ وجل، في ألا يفرط الإنسان، لأنه لا تفريط إلا وتعقبه عقوبة بشكل من الأشكال. فليحذر الإنسان سخط الله عزّ وجل. وسنذكر في الفوائد ما يذكره المفسرون عن فتنة سليمان عليه السلام هذه. ولنعد إلى التفسير لنرى دعاء سليمان عليه السلام، وما أعطاه الله عزّ وجلّ مكافأة له على أوّابيّته: ... قالَ سليمان عليه السلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي أي لا يكون لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قدّم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء- عليهم السلام- والصالحين في تقديم الاستغفار على السؤال. قال النسفي: (وإنّما سأل بهذه الصفة ليكون معجزة له لا حسدا، وكان قبل ذلك لم يسخّر له الريح والشياطين، فلمّا دعا بذلك سخّرت له الريح والشياطين، ولن يكون معجزة حتى يخرق العادات) إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تهب من تشاء ما تشاء فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ أي بأمر سليمان عليه السلام رُخاءً أي ليّنة طيّبة حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد وقصد وَالشَّياطِينَ أي وسخّرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ يبني له من الأبنية الهائلة من المحاريب والتماثيل والجفان إلى غير ذلك من الأعمال الشاقّة التي لا يقدر عليها البشر وَغَوَّاصٍ أي: ويغوصون له في البحر، يستخرجون ما بها من اللآلئ والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها وَآخَرِينَ من الشياطين مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ قال ابن كثير: (أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممّن تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى، أو قد أساء في صنيعه واعتدى) هذا

[سورة ص (38): آية 40]

عَطاؤُنا أي: هذا الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة عطاؤنا فَامْنُنْ أي: فأعط منه ما شئت من المنّة وهي العطاء أَوْ أَمْسِكْ عن العطاء. قال النّسفي: (وكان إذا أعطى أجر، وإن منع لم يأثم بخلاف غيره) بِغَيْرِ حِسابٍ أي: هذا عطاؤنا جمّا كثيرا، لا يكاد يقدر على حصره، أو بغير حساب، أي: لا حساب عليك في ذلك. قال ابن كثير: (أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام، والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعط من شئت، واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي: مهما فعلت فهو جائز لك. احكم بما شئت فهو صواب) ثمّ نبّه الله عزّ وجل على أنّ سليمان عليه السلام ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا. ومن ثمّ قال: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي: لقربى وَحُسْنَ مَآبٍ أي: وحسن مرجع. أي: في الدار الآخرة. ... كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أنّ قصّة داود وسليمان عليهما السلام بدأت بقوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ... والآن تأتي قصة أيّوب عليه السلام مبدوءة بقوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ فالسياق كله في موضوع الذكر والتذكير، وذلك شأن المقطع كله، الذكر والتذكير للمنذر والنذير، فهي دروس للنذير الذي يقابله الكافرون بالإعراض، ليطمئنّ إلى رعاية الله وعطائه، وهي دروس للمنذرين الذين يستفيدون من الإنذار. 2 - نلاحظ أنّ الأوّابيّة هي الدرس الأعظم الذي قدّمه لنا السّياق في قصة داود وسليمان عليهما السلام، وهو الدرس الرئيسي الذي نجده في قصة أيوب عليه السلام. فلنر قصة أيوب عليه السلام في السورة: ... وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي: دعاه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ أي: بتعب ومشقّة وَعَذابٍ يريد مرضه، وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب، فعند ما دعا الله عزّ وجل بهذا الدعاء استجاب له أرحم الراحمين، وأمره أن يقوم من مقامه، وأن يركض الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله تعالى عينا، وأمره أن

[سورة ص (38): آية 42]

يغتسل منها، فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى. قال ابن كثير: (ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر، فأنبع له عينا أخرى، وأمره أن يشرب منها، فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا) ولهذا قال تبارك وتعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ اضرب برجلك الأرض، فضربها، فنبعت عين فقيل له: هذا مغتسل بارد وشراب. قال النسفي: (أي هذا ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك وقيل: نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله تعالى). وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال ابن كثير: (قال الحسن وقتادة: أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم) رَحْمَةً مِنَّا أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي ولتذكير أولي الألباب، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه- لصبره وأوّابيّته- رغّبهم ذلك الصبر والأوّابيّة ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج، والمخرج والرحمة وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي: حزمة صغيرة من حشيش، أو ريحان أو غير ذلك فَاضْرِبْ بِهِ زوجتك وَلا تَحْنَثْ أي: بيمينك، قال ابن كثير: (وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته، ووجد عليها في أمر فعلته، وقيل: باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إيّاه فلامها على ذلك، وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنّها مائة جلدة، وقيل لغير ذلك من الأسباب، فلما شفاه الله عزّ وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة، والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب، فأفتاه الله عزّ وجل أن يأخذ ضغثا: وهو الشمراخ، فيه مائة قضيب، فيضربها به ضربة واحدة، وقد برّت يمينه، وخرج من حنثه، ووفى بنذره. وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه). وقال النسفي: (وكان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ، فحلل الله يمينه بأهون شئ عليه وعليها؛ لحسن خدمتها إياه، وهذه الرخصة باقية، ويجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة، والسبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة، فحرج صدره، وقيل باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عليه السلام إذا قام). إِنَّا وَجَدْناهُ أي: علمناه صابِراً أي: على البلاء، صحيح أنّه قد شكا إلى الله ما به واسترحمه، لكن الشكوى إلى الله لا تسمى جزعا بل هي محض العبودية، ثم أثنى الله تعالى عليه ومدحه بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ أي: رجّاع منيب.

نقل: بمناسبة الكلام عن أيوب عليه السلام قال صاحب الظلال

نقل: بمناسبة الكلام عن أيوب عليه السلام قال صاحب الظلال: (وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة؛ وهي تضرب مثلا للابتلاء والصبر. ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها. والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب- عليه السلام- كان- كما جاء في القرآن- عبدا صالحا أوّابا؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا. ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له. وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، ومنهم زوجته، بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه. وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدّثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عددا عيّنه- قيل: مائة. وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ. فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته. إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ. هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ. ويقول القرآن الكريم: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات. وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين. وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية. مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك). كلمة في السياق: [حول قصة أيوب وصلتها بالمقطع وصلة سورة (ص) بسورة الأنبياء] 1 - إن قصة أيوب عليه السلام في هذا السياق هي الشئ الثاني الذي أمر الله

[سورة ص (38): آية 45]

رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يذكره؛ لما فيها من دروس للنذير، ولأولي العقول من البشر في فضيلة الأوبة إلى الله، والصبر على بلائه. ويلاحظ أن قصة أيوب عليه السلام تأتي هنا عقب قصة سليمان عليه السلام كما هي في سورة الأنبياء، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عزّ وجل يبتلي بالنعمة، كما يبتلي بالمحنة، ومهمة العبد أن ينجح في الابتلاءين، ومن السياق هنا نعلم أنّ الأوّابيّة هي الصّفة المرشح أهلها للنّجاح في الامتحانات الإلهية. 2 - رأينا أن سورة الأنبياء كانت تفصيلا لقوله تعالى في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وقد آن لنا أن نلاحظ الشبه الكبير بين سورة الأنبياء، وسورة (ص) سواء في مقدمتها، أو في ذكر بعض النماذج والأمثلة فيها، مما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن محور سورة (ص) هو نفس محور سورة الأنبياء. 3 - نلاحظ أن قصة أيوب عليه السلام ورد فيها قوله تعالى: وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، ونلاحظ أنه في وسط قصة داود وسليمان عليهما السلام ورد قوله تعالى في القرآن وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ مما يشير إلى أن المقطع كله بيان لكون القرآن ذكرا، وعلى هذا فهو يعرض في سياقه نماذج تؤكّد أنه ذكر. وصلة ذلك بقوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ واضحة. إنّ في تبيان أن القرآن ذكر، وإقامة الدليل على ذلك في سياق السورة التي تتحدّث عن عدم استفادة الكافرين من الإنذار دليلا على أن العلة في الكافرين، والحجة قائمة عليهم، وسيتّضح هذا في الأمرين القادمين الآتيين بصيغة (واذكر): ... وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي. قال ابن عباس: أي: أولي القوة وَالْأَبْصارِ أي: الفقه في الدين. قال ابن كثير: (يعني بذلك العمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والبصيرة النافذة). قال النسفي: أي: (أولي الأعمال الظاهرة، والفكر الباطنة) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي جعلناهم لنا خالصين بِخالِصَةٍ أي: بخصلة صالحة، لا شوب فيها ذِكْرَى الدَّارِ أي: هي ذكر الدار، أو يعني ذكر الدار الآخرة. قال النسفي: (يعني: جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يذكّرون النّاس الدار الآخرة، ويزهّدونهم في الدنيا، أو معناه: أنّهم يكثرون ذكر الآخرة، والرّجوع إلى الله، وينسون ذكر الدنيا). قال مجاهد: أي: جعلناهم

[سورة ص (38): آية 47]

يعملون للآخرة ليس لهم همّ غيرها وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي: المختارين من بين أبناء جنسهم الْأَخْيارِ جمع خيّر. قال ابن كثير: (أي المختارين المجتبين الأخيار، فهم أخيار مختارون. ... كلمة في السياق: يلاحظ أنه سبحانه وتعالى قال عن داود عليه السلام: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ وهاهنا قال عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ وفي ذلك درس للنذير وأمته. وفي قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ تبيان لطريق السير إلى أن يكون الإنسان من المخلصين. وفي ذلك درس ثان للنذير وأمته. وفي الأمر بذكر الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام إشعار بأن لله رسلا قبل محمد صلّى الله عليه وسلم قد بعثوا بالتوحيد والإنذار، فليس محمد صلّى الله عليه وسلم ببدع من الرسل، فعجب الكافرين الذي ذكره الله عزّ وجل لنا في أوّل السورة في غير محله. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ يدلّنا على هذا الآية الآتية، إذ ليس فيها إلا الأمر بذكر مجموعة من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وهو خليفة إلياس في قومه بني إسرائيل وَذَا الْكِفْلِ نقل الألوسي عن وهب بن منبه: (أن الله بعث بعد أيوب عليه السلام شرف بن أيوب نبيا وسمّاه ذا الكفل) والاختلاف في شأن ذي الكفل عليه السلام كثير وَكُلٌّ أي: وكلهم مِنَ الْأَخْيارِ. كلمة في السياق: 1 - بالآية الأخيرة تنتهي الأوامر بصيغة وَاذْكُرْ الآتية في هذا المقطع وفي السورة، ويأتي بعد هذا مباشرة- كما سنرى- قوله تعالى: هذا ذِكْرٌ قال ابن كثير: (أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكّر وقال السدي: يعني: القرآن العظيم). ممّا يدلّ على ما ذكرناه من قبل أن في هذا المقطع نموذجا على كون هذا القرآن ذكرا يذكّر بالله عزّ وجل، وصفاته وأفعاله، وإنعامه واختباره، وعطائه وشرعه وسنته وغير ذلك. وكون القرآن على مثل هذا الكمال في الذكر فذلك وحده دليل على أنّه من عند الله، وإلا فمن من البشر قادر على أن يأتي بكتاب فيه كل شئ، وهو ذكر كله؟ وفي

[سورة ص (38): آية 49]

هذا إقامة حجّة على الكافرين الذين لا يستفيدون من الإنذار إذ لم يبق لهم ما يتعلّقون به بعد هذا القرآن، ولئن كان المقطع أدى دوره في هذا الموضوع فهو يؤدي دوره كذلك في تعليم النّذير وأمّته ما ينبغي أن يكونوا عليه من الكمال، غير ملتفتين إلى أقوال الكافرين ومواقفهم. 2 - لقد رأينا في هذا المقطع كيف أن هذا القرآن ذكر من خلال تذكيره بفعل الله برسله، ومن خلال ذكره لكمال رسله وهديهم، ومن خلال تقريره للحجج القاطعة كما رأينا نموذج ذلك في الآيات الآتية في وسط الكلام عن داود وسليمان عليهما السلام، وسنرى الآن المجموعة الأخيرة في المقطع كنموذج على كون القرآن ذكرا من خلال عرضه ما أعد الله عزّ وجل للمتقين وللظالمين. فلنر المجموعة الأخيرة: ... هذا ذِكْرٌ قال ابن كثير: (أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكّر. وقال السدي يعني القرآن العظيم) وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي لحسن مرجع ومنقلب. ... كلمة في السياق: قد وجّه النسفي هذه الآية على الشكل التالي: قال: (أي: هذا شرف وذكر جميل، يذكرون فيه أبدا، وإنّ لهم مع ذلك لحسن مرجع، يعني: يذكرون في الدنيا بالجميل، ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة رب جليل). وعلى هذا فالنسفي يفهم أن المراد بالمتقين في الآية هم المذكورون من قبل، وأن المراد بالأوامر السابقة وَاذْكُرْ ... التعريف على شرف هؤلاء الرّسل، فيكون على هذا الدرس الرئيسي في المقطع كله: هو أن الذين يتّقون الله لهم شرف الدنيا والآخرة، فكن أيها الإنسان منهم، ولا تكن من الكافرين الذين عرض الله لهم في أول السورة، وسيعرض الله علينا ما أعدّ لهم من عذاب في آخر هذه المجموعة، وهو توجيه حسن، ولكنّ التوجيه الذي وجهناه نحن، والذي يعضده عرض ابن كثير قد يكون أكثر انسجاما مع السّياق- والله أعلم-. وعلى توجيهنا يكون المعنى: إن هذا القرآن مهمته التذكير، فمن اتقى فجزاؤه كذا، ومن طغى فجزاؤه كذا، فكانت الصيغة المؤدية لهذا المعنى:

[سورة ص (38): آية 50]

هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ... هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ... ولنعد إلى التفسير. ... فقد فسر الله عزّ وجل حسن المآب الذي أعده للمتقين بقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: جنات إقامة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي: مفتحة لهم أبوابها أي: إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها مُتَّكِئِينَ فِيها أي: جلستهم المفضّلة هي الاتّكاء، وهي أكثر أنواع الجلوس راحة يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أي: مهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا وَشَرابٍ أي: من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدّام وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي: عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن أَتْرابٌ أي: متساويات في السنّ والعمر. قال النسفي: (أي: لدات أسنانهنّ كأسنانهم، لأنّ التحابّ بين الأقران أثبت) هذا ما تُوعَدُونَ أيها المتقون لِيَوْمِ الْحِسابِ أي: ليوم تجزى كل نفس بما عملت قال ابن كثير: (أي: هذا الذي ذكرنا من صفة الجنّة هي التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار). ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء. فقال تعالى: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي: من انقطاع، ولما ذكر الله تعالى مآل السعداء، ثنّى بذكر حال الأشقياء، ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال: هذا أي: الأمر هذا، أو هذا كما ذكر وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ أي: الخارجين عن طاعة الله عزّ وجلّ، المخالفين لرسل الله صلّى الله عليه وسلم لَشَرَّ مَآبٍ أي: لسوء منقلب ومرجع. ثمّ فسّره بقوله: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي: يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم فَبِئْسَ الْمِهادُ شبّه ما تحتهم من النّار بالمهاد الذي يفترشه النائم هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أي: هذا حميم وغسّاق فليذوقوه. قال ابن كثير: (أما الحميم: فهو الماء الذي قد انتهى حره، وأما الغساق: فهو ضدّه، وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم). ولهذا قال عزّ وجل: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أي: وأشياء من هذا القبيل، الشئ وضده يعاقبون بها. قال الحسن البصري: ألوان من العذاب. وقال غيره: كالزمهرير، والسّموم، وشرب الحميم، وأكل الزّقوم، والصعود والهوي، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادّة، والجميع مما يعذّبون به، ويهانون بسببه هذا فَوْجٌ

[سورة ص (38): آية 60]

مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض، أي: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أي: دخل النار في صحبتكم، والاقتحام: الدخول في الشئ بشدة، والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب لا مَرْحَباً بِهِمْ هذا دعاء منهم على أتباعهم إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي: داخلوها، هذا تعليل لاستيجابهم الدّعاء عليهم. وقيل: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كلام الرؤساء، وقيل هذا كله كلام الخزنة، والقول الأوّل أقوى بدليل ما يأتي قالُوا أي: الأتباع بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي: الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعلّلوا ذلك أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي: أنتم قدّمتم العذاب، أو دخول النار لنا، أي: إنكم دعوتمونا إليه فكفرنا باتّباعكم فَبِئْسَ الْقَرارُ النار قالُوا أي: الأتباع رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً أي: مضاعفا فِي النَّارِ يطلبون أن يزيد الله عذاب زعمائهم بأن يكون ضعفي عذابهم وَقالُوا أي: رؤساء الكفرة ما لَنا لا نَرى رِجالًا يعنون فقراء المسلمين كُنَّا نَعُدُّهُمْ في الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ أي: من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا هذا استفهام ينكرون به على أنفسهم استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا أَمْ زاغَتْ أي: مالت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي: أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم، وهم فيها؟ قسّموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة فلاموا أنفسهم على استهزائهم بهم في الدنيا، وبين أن يكونوا من أهل النار، إلا أنه خفي عليهم مكانهم. قال ابن كثير: (يسلون أنفسهم بالمحال يقولون: أو لعلّهم معنا في جهنم، ولكن لم يقع بصرنا عليهم) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي: إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض، ولعن بعضهم لبعض، لحق لا مرية فيه ولا شك. وبهذا انتهى المقطع. كلمة في المقطع الأول وسياقه: [وتكامل معاني سورتي الصافات و (ص)] 1 - نلاحظ أن هذا المقطع الذي مرّ معنا قد جاء في وسط السورة وما قبله كلام عن موقف الكافرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما بعده مباشرة سيأتي قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ... مما يؤكد أن المقطع يخدم موضوع السورة الرئيسي، المتمثّل في محورها: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وهذه الخدمة رأيناها، إن في توجيه النذير، أو في

فوائد

تبيان أنّ هذا القرآن ذكر، أو في تبيان أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل. 2 - نلاحظ أن المجموعة الأخيرة عرضت ما أعد الله للمتقين، وما أعد للكافرين، وهو تفصيل لمعان موجودة في مقدّمة سورة البقرة، إن في وصف المتقين، أو في الكلام عن الكافرين، ومن قبل قلنا: إنّ الموضوعين متداخلان، ومن ثمّ عرضا في سورة البقرة ضمن حيّز واحد. 3 - نلاحظ التكامل بين سورة الصافات وبين سورة (ص) من خلال معان وردت في المقطع؛ فسورة الصافات ذكرت إلياس أستاذ اليسع عليهما السلام، ولم تذكر اليسع، وسورة (ص) ذكرت اليسع خليفة إلياس، ولم تذكر إلياس، وسورة الصافات عرضت لتخاصم الكافرين قبل دخولهم النار، وسورة (ص) عرضت لتخاصم الكافرين في النار، وسورة الصافات عرضت لتساؤل المؤمنين عن الكافرين، وسورة (ص) عرضت لتساؤل الكافرين عن المؤمنين. 4 - في محور سورة (ص) نجد قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ونجد في آخر المقطع الذي مرّ معنا تفصيلا للعذاب العظيم الذي سيصيب الكافرين. 5 - بقي معنا الآن في السورة مقطع واحد، مجموعاته مصدّرة بقوله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام قُلْ كما سنرى. وعلى هذا فالسورة في سياقها الرئيسي عرضت مواقف الكافرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم أمرت الرسول صلّى الله عليه وسلم بالصبر والذكر، وحدّدت له ما يذكره في المقطع الأول. ويأتي المقطع الثاني- والأخير- ليحدّد للرسول صلّى الله عليه وسلم ما يقوله أمام هذا العناد المتكبّر، وقبل أن نعرض المقطع الأخير. فلنذكر بعض الفوائد المتعلّقة بالمقطع الأول. فوائد: 1 - [حديث حول أحب الصلاة وأحب الصيام إلى الله بمناسبة الكلام عن داود عليه السلام] بمناسبة الكلام عن داود عليه السلام، قال ابن كثير: (في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عزّ وجل صيام داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى وإنه كان أوّابا»). 2 - [كلام ابن كثير حول صلاة الضحى بمناسبة آية .. يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ] بمناسبة قوله تعالى عن داود عليه السلام: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ

3 - حول معنى كلمة فصل الخطاب الذي أعطيه داود عليه السلام

بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ قال ابن كثير: (روى ابن جرير ... عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه أن أم هانئ رضي الله عنها ذكرت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة بقول الله عزّ وجل يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. ثم رواه من حديث سعيد ابن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب عن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث ابن نوفل أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يصلي الضحى، فأدخلته على أم هانئ رضي الله عنها، فقلت: أخبري هذا ما أخبرتيني، فقالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي، ثم أمر بماء صبّ في قصعة، ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رشّ ناحية البيت، فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهنّ وسجودهنّ وجلوسهن سواء، قريب بعضهن من بعض، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وكنت أقول أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول صلاة الإشراق). 3 - [حول معنى كلمة فَصْلَ الْخِطابِ الذي أعطيه داود عليه السلام] رأينا ماذا تعنى كلمة فَصْلَ الْخِطابِ الذي أعطيه داود عليه السلام، غير أن المفسرين يذكرون نماذج لفصل الخطاب في قضايا القضاء. والمراد بما أعطيه داود عليه السلام أوسع مما يذكرونه. فلنر نماذج من أقوالهم ومحلها بالنسبة للآية. قال ابن كثير: وَفَصْلَ الْخِطابِ (قال شريح القاضي والشعبي: فصل الخطاب الشهود والأيمان، وقال قتادة: شاهدان على المدعي، أو يمين المدعى عليه، وهو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل، أو قال المؤمنون والصالحون وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكذا قال عبد الرحمن السلمي، وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وقال مجاهد أيضا هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وهذا يشمل هذا كله، وهو المراد، واختاره ابن جرير، وروى ابن أبي حاتم ... عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أول من قال: أما بعد: داود عليه السلام وهو فصل الخطاب، وكذا قال الشعبي فصل الخطاب: أما بعد). 4 - [كلام ابن كثير والمؤلف والنسفي حول آية وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ... قال ابن كثير: (وقد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا

لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد- وإن كان من الصالحين- لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عزّ وجل فإن القرآن حق وما تضمّن فهو حق أيضا). أقول: في الإصحاح الحادي عشر والثاني عشر من سفر صموئيل الثاني تذكر قصة فيها بعض كلمات القصة القرآنية، وفيها رجاسات اليهود، إذ يذكر الإصحاح الحادي عشر أن داود زنى بامرأة (أوريّا) قائده في حياة أوريّا، ودفع بأوريّا ليقتل. ثم يذكر الإصحاح الثاني عشر ضمّ داود زوجة أوريا إليه، وعتاب ناثان النبي له على ذلك. ويذكر الإصحاح هنا فكرة النعجة الواحدة والنعاج الكثيرة. وكثير ممّا ذكر في كتب العهد القديم أو الجديد كلام لا قيمة له من الناحية العلمية؛ إذ يخالف الحقّ الذي أنزله الله في القرآن، ويكفي لرفضه، ومعرفة قيمته الخسيسة، ذكر أن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا في حياة زوجها، وزوجها يقاتل في سبيل الله، ممّا لا يفعله أخسّ الخلق- فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين- بما يفترون على رسل الله. وقد حاول النسفي أن يستشف ما يمكن أن تكون الحادثة في إطارها اللائق في حق الأنبياء وسننقل كلامه فيما بعد، ونكتفي هنا بأن ننقل خاتمة كلامه: قال رحمه الله: (وما يحكى أنه بعث مرة بعد مرة أوريا إلى غزوة البلقاء وأحب أن يقتل ليتزوجها، فلا يليق من المتّسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء، وقال علي رضي الله عنه: من حدّثكم بحديث داود عليه السلام- على ما يرويه القصاص- جلدته مائة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء، وروي أنه حدّث بذلك عمر بن عبد العزيز، وعنده رجل من أهل الحق، فكذّب المحدّث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله، فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت، وكفّ الله عنها سترا على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح؛ لكونها أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرّض به كان أوقع في نفسه، وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة).

5 - حول سجدة سورة (ص) أهي سجدة شكر أم من العزائم؟

من كلام النسفي يفهم أنه يمكن أن يكون داود عليه السلام قد طلب من أوريّا أن يتنازل له عن زوجته، ويبدو أنّ هذا كان سائغا في شريعتهم، ويمكن أن يكون داود عليه السلام قد همّ أن يتزوجها لو حدث لزوجها حادث، فلمّا قتل زوجها تزوّجها دون أن يكون رغب في قتل زوجها، أو دفعه إلى موقف يقتل فيه حاشاه عليه السلام. فعاتبه الله عزّ وجل على مدّه بصره إلى ملك الآخرين والله أعلم. ولنتذكر دائما ما يقوله النقاد الغربيون أنفسهم من أن أسفار العهد القديم لا يوجد فيها سفر يصمد على النقد إلا سفر إرميا، ونحن نشكك حتى في سفر إرميا لأنه لم يرد إلينا بسند صحيح. 5 - [حول سجدة سورة (ص) أهي سجدة شكر أم من العزائم؟] بمناسبة قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ نقول: هاهنا سجدة من السجدات القرآنية عند أبي حنيفة ومالك، وبمناسبة الآية قال ابن كثير: (وقد اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين الجديد مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في السجدة: (ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسجد فيها، ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي: حسن صحيح. وروى النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: «سجدها داود عليه السلام توبة، ونسجدها شكرا» تفرّد بروايته النسائي، ورجال إسناده كلهم ثقات. وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع ... عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جرير يا حسن حدثني جدّك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع بها عني وزرا، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من

6 - أحاديث بمناسبة قوله تعالى عن داود عليه السلام وإن له عندنا لزلفى ..

كلام الشجرة، رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه، وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروى البخاري عند تفسيرها عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلّى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد ... أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب (ص) فلما بلغ إلى الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شئ بحضرته انقلب ساجدا قال: فقصها على النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد، تفرد به أحمد، وروى أبو داود ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال صلّى الله عليه وسلم: «إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم» فنزل وسجد، تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح). 6 - [أحاديث بمناسبة قوله تعالى عن داود عليه السلام وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى .. ] بمناسبة قوله تعالى عن داود عليه السلام وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ قال ابن كثير: (كما جاء في الصحيح: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا» وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر» ورواه الترمذي، وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك ابن دينار في قوله تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش، ثم يقول يا داود مجّدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته؟ فيقول الله عزّ وجل إني أرده عليك اليوم، قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان). 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ] بمناسبة قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم بسنده عن إبراهيم أبي زرعة- وكان قد قرأ الكتاب- أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت الكتاب

8، 9 - حول موضوع (الخيل) في قصة سليمان عليه السلام وموضوع لعب الأطفال

الأول، وقرأت القرآن، وفقهت؛ فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قلت: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام، إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة، ثم توعّده في كتابه فقال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآية). [8، 9 - حول موضوع (الخيل) في قصة سليمان عليه السلام وموضوع لعب الأطفال] 8 - لا نجد في أسفار العهد القديم شيئا يشير إلى موضوع استعراض الخيل من قبل سليمان عليه السلام حتى نستأنس نوع استئناس بشيء إذا وافق الحق الذي نعلمه، وهيهات أن تجد فيها الكثير، بل إنك لتجد فيها الكذب الكثير، حتى إنك لتجد في الإصحاح الحادي عشر (الملوك الأول) اتهام سليمان عليه السلام بأن نساءه أمالت قلبه وراء آلهة أخرى ... ومما يقوله هذا الإصحاح: (فذهب سليمان وراء عشتورت إلاهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وعمل سليمان الشر في عيني الرب). وحاشاه عليه السلام، ولكنهم اليهود أجرأ خلق الله على الأنبياء عليهم السلام. وأمام سكوت أسفار العهد القديم فليس أمامنا إلا الفهم من ألفاظ النّص القرآني ضمن القواعد العامة. قال ابن كثير: (وقوله تبارك وتعالى: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا، بل نسيانا، كما شغل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب، وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه، من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال: جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسبّ كفار قريش، ويقول: يا رسول الله، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها» فقال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلّى الله عليه وسلم للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال، والخيل تراد للقتال، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حيث لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما، والأول أقرب لأنه قال بعده رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قال الحسن البصري: قال: لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها

10 - حول (الجسد) الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام

فعقرت، وكذا قال قتادة، وقال السّدّي ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف، وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها، وهذا القول اختاره ابن جرير، قال لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها، وهذا الذي رجّح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة، ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوّضه الله عزّ وجل ما هو خير منها، وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوّها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل. روى الإمام أحمد ... عن أبي قتادة وأبي الدهماء- وكان يكثران السفر نحو البيت- قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي أخذ بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عزّ وجل وقال: «إنك لا تدع شيئا اتقاء لله تعالى إلا أعطاك الله عزّ وجل خيرا منه»). 9 - بمناسبة ذكر الخيل في قصة سليمان عليه السلام ذكر ابن كثير حديثا قال: (وروى أبو داود ... عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوة تبوك- أو خيبر- وفي سهوتها ستر، فهبّت الريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما هذا يا عائشة؟» قالت رضي الله عنها: بناتي ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي أرى وسطهن؟» قالت رضي الله عنها: فرس، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي عليه؟» قالت رضي الله عنها: جناحان قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فرس له جناحان؟» قالت رضي الله عنها: أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة، قالت رضي الله عنها: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه). أقول: وقد أخطأ من فهم من الحديث أن خيل سليمان عليه السلام لها أجنحة. فليس في الحديث ما يدل على ذلك. والحديث دليل على أن لعب الأطفال متسامح بها. 10 - [حول (الجسد) الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام] لا نجد في أسفار العهد القديم ما يشير إلى الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان، ولكنا نجد أن أخاه نافسه على الملك، وحاول أن يصل إلى الملك في حياة أبيه. ثم فشّل ذلك داود، وآل الأمر إلى سليمان ولا ندري إذا كان المراد بهذا هو

11 - كلام ابن كثير بمناسبة آية رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ...

المشار إليه في النّص. وينقل المفسرون في هذا المقام كلاما الله أعلم بحقيقته، ومرجعه كله أهل الكتاب، ولا نرى أن نتعب به القارئ. 11 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ... ] بمناسبة قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ... قال ابن كثير: (والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروى البخاري عند تفسير هذه الآية ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا من الجن تفلّت عليّ البارحة- أو كلمة نحوها- ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» قال روح (وهو من رجال سنده) فرده خاسئا وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به. وروى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك- ثم قال- ألعنك بلعنة الله» ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال صلّى الله عليه وسلم: «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك- ثلاث مرات- ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يتأخر- ثلاث مرات- ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة» وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: «لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين- الإبهام والتي تليها- ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» وقد روى أبو داود منه «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل». وروى الإمام أحمد بسنده عن ربيعة بن يزيد بن عبد الله الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الرهط، وهو محاصر فتى من قريش

يزني ويشرب الخمر، فقلت بلغني عنك حديث أنه «من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عزّ وجل له توبة أربعين صباحا، وأن الشقي من شقي في بطن أمه، وأنه من أتى بيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه» فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق، فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إني لا أحل لأحد أن يقول عليّ ما لم أقل، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه- قال: فلا أدري في الثالثة أو الرابعة قال- فإن عاد كان حقا على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة» قال: وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عزّ وجل خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله عزّ وجل» وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان عليه السلام سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة، سأله حكما يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله عزّ وجل قد أعطانا إياها» وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزّ وجل خلالا ثلاثا» وذكره، وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين. وروى الطبراني ... عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عزّ وجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتا في الأرض، فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به، فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي. قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر، ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا، فشكا ذلك إلى الله عزّ وجل، فقال: يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا، قال ولم يا رب؟ قال لما جرى على يديك من الدماء، قال: يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك؟ قال: بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم، فشق ذلك عليه، فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان، فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه، ولما تم قرّب القرابين، وذبح الذبائح، وجمع بني إسرائيل، فأوحى الله إليه قد

أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك، قال: أسالك ثلاث خصال: حكما يصادف حكمك، وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- أما الثنتان فقد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة». وروى الإمام أحمد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه «سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب» وقد قال أبو عبيد عن صالح بن مسمار قال لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك، قال: أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي، فقال الله عزّ وجل: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني، وأن أجعل قلبه يحبني، لأهبن له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. قال الله جلت عظمته فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ والتي بعدها، قال: فأعطاه ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه. هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه. وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي، فأوحى الله عزّ وجل إليه: أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي، أكن له كما كنت لك. وقوله تبارك وتعالى فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ قال الحسن البصري رحمه الله: لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضبا لله عزّ وجل، عوّضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع، الريح التي غدوّها شهر ورواحها شهر. وقوله جل وعلا حَيْثُ أَصابَ أي حيث أراد من البلاد وقوله جل جلاله وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر، وطائفة غوّاصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرّد وعصى، وامتنع من العمل وأبى، أو قد أساء في صنيعه واعتدى. وقوله عزّ وجل هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام، والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت، واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي مهما فعلت فهو جائز لك، احكم بما شئت فهو صواب، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم لما خيّر

12 - حول بعض ما جاء في أسفار العهد القديم عن قصة داود وسليمان عليهما السلام

بين أن يكون عبدا رسولا- وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به- وبين أن يكون نبيا ملكا، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له: تواضع فاختار المنزلة الأولى، لأنها أرفع قدرا عند الله عزّ وجل، وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبّه تعالى على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا فقال تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي في الدنيا والآخرة). 12 - [حول بعض ما جاء في أسفار العهد القديم عن قصة داود وسليمان عليهما السلام] ونختم الكلام عن داود وسليمان عليهما السلام بذكر أن الذي نافس سليمان عليه السلام على الملك هو أدونيّا أخوه الأكبر، وقصة ذلك مذكورة في الإصحاح الأول والثاني من سفر الملوك الأول، ونلاحظ في السفر الثاني ملاحظة: هو أن أدونيّا يطلب من أم سليمان أن تتوسط لدى سليمان أن يعطي سليمان أدونيا أبيشبح الشونمية امرأة له، والظاهر أن أبيشبح الشونمية كانت امرأة لسليمان عليه السلام، وقد غضب سليمان- فيما ذكر الإصحاح- لهذا الطلب، وأمر بقتل أخيه. فإذا صحّ أن أبيشبح كانت زوجة لسليمان، وصح توسّط أم سليمان عند سليمان في ذلك، فإنّ ذلك يدلّ على أنّه من المتعارف عندهم أن يتنازل بعضهم لبعض عن زوجاتهم. ومن ثمّ فإن قصة داود عليه السلام كانت من هذا القبيل. وهذا الذي خرّج عليه النسفي الحادثة وهو تخريج مبني على الظن، وأظن أنه لا حرج لو نقلنا ما قاله النسفي هنا بعد معرفة حدوده. قال النسفي: (روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وكان لهم عادة في المواساة بذلك، وكان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أن داود عليه السلام وقعت عينه على امرأة أوريا فأحبها، فسأله النزول له عنها، فاستحيى أن يرده ففعل، فتزوجها وهي أم سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة للنزول عنها لك، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك، وقهر نفسك، والصبر على ما امتحنت به، وقيل خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه). 13 - [كلام المؤلف وابن كثير بمناسبة قصة أيوب عليه السلام] في أسفار العهد القديم سفر اسمه سفر أيوب وهو سفر واضح الصنعة،

وواضح أنه موضوع، وأنه مصنوع، وإن كان لا يخلو من نفس حق، ولكنّه لا يصلح للاعتماد، وقد ذكر فيه بلاء أيوب، ولكن فيه على لسان أيوب اعتراضات، وشكاوى على الله- وحاشاه- وإنما هو دأب اليهود- عليهم لعائن الله- في تشويه سمعة الأنبياء عليهم السلام. وللمفسرين كلام كثير يبالغون فيه في بلاء أيوب مبالغة يرفضها علماء التوحيد. وفي مثل هذه الأحوال فالموقف الأصح هو الوقوف عند النص، وأن نفهمه ضمن القواعد العامة، وأن نذكر ما أثر عن رسولنا صلّى الله عليه وسلم في هذا المقام. ويذكر ابن كثير حديثين لهما علاقة بأيوب عليه السلام فلننقلهما: (روى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى، فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: لا أدري ما تقول غير أن الله عزّ وجل يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فاستبطأته فالتفتت تنظر، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ فو الله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا هو، قال وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض، هذا لفظ ابن جرير رحمه الله. وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه، فناداه ربه عزّ وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال عليه

14 - كلام المؤلف حول آية إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار

الصلاة والسلام: بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك» انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به). 14 - [كلام المؤلف حول آية إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ نقول إن هذه الآية من أهم ما ينبغي الانتباه إليه، مما له علاقة في السلوك إلى الله، فالحسن البصري يقول: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلى المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فإذا كان المخلصون على خطر عظيم فمن هم الذين ليسوا كذلك، لا شك أنهم هم المخلصون. وقد رسمت الآية الطريق للوصول إلى أن يصبح الإنسان مخلصا، وهو ذكرى الدار الآخرة، فلنكثر من ذكرها. 15 - [كلام ابن كثير حول آية جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ] بمناسبة قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج والمروج، له خسمة آلاف باب، وعند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله- أو لا يسكنه- إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل» وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة). ... ولننتقل إلى المقطع الثاني في السورة وهو المقطع الأخير. ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (65) إلى نهاية السورة. أي إلى نهاية الآية (88) وهذا هو

المقطع الثاني ويمتدّ من الآية (65) إلى نهاية السورة. أي إلى نهاية الآية (88) وهذا هو: المجموعة الأولى 38/ 66 - 65 المجموعة الثانية 38/ 85 - 67

ملاحظة: حول تقسيمات المقطع الثاني وتشابه بدايات مجموعاته

المجموعة الثالثة 38/ 88 - 86 ملاحظة: [حول تقسيمات المقطع الثاني وتشابه بدايات مجموعاته] نلاحظ أن كلمة (قل) تكررت في المقطع ثلاث مرات، ومن ثمّ فالمقطع يتألّف من ثلاث مجموعات، كل مجموعة تؤدي دورها في عملية الإنذار وإقامة الحجة ضمن سياق السورة. وبما يخدم محورها. ***

تفسير المجموعة الأولى

تفسير المجموعة الأولى قُلْ يا محمد للكافرين إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ أي ما أنا إلا رسول منذر، أنذركم عذاب الله تعالى، وأقول لكم إن دين الحق توحيد الله، وأن تعتقدوا أن لا إله إلا الله الْواحِدُ بلا ندّ ولا شريك الْقَهَّارُ لكل شئ فهو قد قهر كل شئ وغلبه رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي هو مالك جميع ذلك ومتصرّف فيه. قال النسفي: (أي) له الملك والربوبية في العالم كله الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب الْغَفَّارُ لذنوب من التجأ إليه. ... كلمة في السياق: أمر الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذه المجموعة أن يعلن أنه رسول، وأن لله وحده الألوهية والربوبية في العالم كله. وكأن السياق بعد أن عرض مواقف الكافرين المتعنّتة وعرض ما به تقوم الحجة يبيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام أن نور الحق لا بد من إظهاره، وأن الرسالة لا بد من تبليغها، وأن أسس الدعوة ينبغي الجهر بها على كل حال، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام في واقع الأمر وحقيقة الحال منذر، قبل الناس إنذاره أو رفضوه، استفادوا من ذلك أو لم يستفيدوا، وإذ يتقرر الإعلان هذا يأتي أمر جديد فيه إعلان عن قيمة الإعلان الأول، وفيه إقامة حجة جديدة عليهم، فالملاحقة ينبغي أن تستمر حتى يلقي الكفر سلاحه. ***

تفسير المجموعة الثانية

تفسير المجموعة الثانية قُلْ يا محمد هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أي هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله وحده لا شريك له نَبَأٌ عَظِيمٌ أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. ثم أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي غافلون. وقال مجاهد والسدي وشريح القاضي في تفسير النبأ العظيم: بأنه القرآن، وأنه هو المعرض عنه. وقال الحسن: يوم القيامة. وأيا ما كان النبأ فالمضمون الذي أعرضوا عنه هو الإنذار، وصلة ذلك بمحور السورة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ واضحة. ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أمره أن يحتج لصحة نبوته بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى واختصامهم، أمر ما كان له به علم قط، ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ من أهل الكتاب فعلم أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى. قال ابن كثير في الآية: (أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني في شأن آدم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجّته ربه في تفضيله عليه). وهذا الاختصام قد فسّر بعد هذا بآية أثناء الكلام عن قصة آدم عليه السلام. كما ذكر ذلك ابن كثير إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا للإنذار، أو ما يوحى إلا هذا وهو أن أبلّغ وأنذر، ولا أفرّط في ذلك. أي ما أمر إلا بهذا الأمر وحده، وليس لي غير ذلك. قال النسفي: (والمراد بالملأ الأعلى أصحاب القصة (أي الآتية) الملائكة وآدم وإبليس، لأنهم كانوا في السماء، وكان التقاول بينهم). والآن تعرض السورة قصة الاختصام: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي فإذا أتممت خلقه وعدّلته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي من الروح التي خلقتها وأضفتها إلى ذاتي تشريفا لهذه الروح والمعنى: أحييته وجعلته حساسا متنفسا فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي اسقطوا على الأرض له. أي اسجدوا له. قال النسفي: (قيل كان انحناء يدلّ على التواضع، وقيل كان سجدة لله (وهو كالقبلة) أو كان سجدة التحية). والسجود أو الانحناء لغير الله في شريعتنا محرّم فهو حكم منسوخ في شريعة الله الخاتمة. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أفاد التعبير أنهم سجدوا عن آخرهم جميعهم في وقت واحد غير متفرقين في أوقات إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظّم عن السجود وَكانَ مِنَ

[سورة ص (38): آية 75]

الْكافِرِينَ أي وصار من الكافرين بإباء الأمر قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ أي بلا واسطة، أي ما منعك عن السجود امتثالا لأمري، وإعظاما لخطابي لمن خلقته بلا واسطة، وفي ذلك دليل على بطلان نظرية التطور في شأن خلق آدم عليه السلام أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ هذا استفهام إنكار. أي هل الكبر أم العلو هو الذي جعلك ترفض السجود قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قال النسفي: يعني: لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له، لأنه مخلوق مثلي فكيف أسجد لمن هو دوني؟ لأنه من طين، والنار تغلب الطين وتأكله قالَ الله عز وجل فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السموات فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مرجوم أي مطرود. قال النسفي: (تكبّر إبليس أن يسجد لمن خلق من طين، وزلّ عنه أن الله أمر به ملائكته واتبعوا أمره إجلالا لخطابه، وتعظيما لأمره، فصار مرجوما ملعونا بترك أمره) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي أي إبعادي من كلّ الخير إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي إلى يوم الجزاء. قال النسفي: (ولا يظن ظانّ أن لعنته غايتها يوم الدين ثم تنقطع، لأن معناه أن عليه اللعنة في الدنيا وحدها، فإذا كان يوم الدين اقترن بها العذاب، فينقطع الانفراد أو لما كان عليه اللعنة في أوان الرحمة، فأولى أن تكون عليه في غير أوانها، وكيف تنقطع وقد قال الله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. قالَ إبليس رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي فأمهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى، ويومه اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه ومعنى (المعلوم) أنه معلوم عند الله، معيّن لا يتقدم ولا يتأخر قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أقسم بعزة الله: وهي سلطانه وقهره أن يغويهم جميعا إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصتهم واستخلصتهم قالَ الله عز وجل فَالْحَقُ أي الحق قسمي أو أنا الحق وَالْحَقَّ أَقُولُ أي وأقول الحق الذي هو نقيض الباطل لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أقسم الله عز وجل أن يملأ جهنم بإبليس وجنسه من الشياطين وأتباعه من ذرية آدم أي لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدا. ...

نقول من الظلال

نقول [من الظلال]: 1 - [بمناسبة قوله تعالى قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ قال صاحب الظلال: (وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهره القريب. إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله. وشأن من شئون هذا الكون بكامله. إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود. ليس منفصلا ولا بعيدا عن شأن السماوات والأرض، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد. ولقد جاء هذا النبأ ليتجاوز قريشا في مكة، والعرب في الجزيرة، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض. ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان؛ ويؤثّر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها؛ ويكيّف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدّره الله له. ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم. سواء في ذلك من آمن به ومن صدّ عنه. ومن جاهد معه ومن قاومه. في جيله وفي الأجيال التي تلته. ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم. ولقد أنشأ من القيم والتصورات، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها، وفي أجيال البشرية جميعها، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال! وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغيّر وجه الأرض؛ ويوجّه سير التاريخ؛ ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة؛ ويؤثّر في ضمير البشرية وفي واقعها؛ ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما. وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة. يؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة. والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر. لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود؛ ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود؛ ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضا واقعيا، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا

2 - بمناسبة قوله تعالى ونفخت فيه من روحي ..

النبأ الذين يهمهم دائما أن يصغّروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ .. ومن ثمّ فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان .. ). 2 - [بمناسبة قوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال صاحب الظلال رحمه الله: (ونحن نجهل كنه هذه النفخة؛ ولكننا نعرف آثارها. فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض. ميزته بخاصية القابلية للرقي العقلي والروحي. هي التي جعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل. وجعلت روحه يتجاوز المدرك بالحواس والمدرك بالعقول، ليتصل بالمجهول للحواس والعقول. وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها سائر الأحياء في هذه الأرض. وقد عاصر مولد الإنسان الأول أجناس وأنواع شتى من الأحياء. ولم يقع في هذا التاريخ الطويل أن ارتقى نوع أو جنس- ولا أحد أفراده- عقليا أو روحيا. حتى مع التسليم بوقوع الارتقاء العضوي. لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض؛ وأن يتسلّم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له. حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات. لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة. ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة، واستمد من هذا المصدر في استقامة. فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام؛ وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطرا على سلامة اتجاهه. إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي. ولو تضخّمت علومه وتجاربه في جانب من جوانب الحياة. وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة .. ما كان له أن ينال شيئا من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة .. وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء. وما الكوكب الأرضي إلا تابع

كلمة في السياق: حول قصة آدم عليه السلام في السورة وصلة لسورة الصافات بسورة (ص)

صغير من توابع أحد النجوم. ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه .. فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن؛ إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السر كريم كريم. فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد .. من طين!). كلمة في السياق: [حول قصة آدم عليه السلام في السورة وصلة لسورة الصافات بسورة (ص)] 1 - جاءت قصة آدم عليه السلام لتؤدي مقصدا رئيسيا في السورة، وهو إقامة الحجة على الكافرين بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم ما كان ليعلم مثل هذه القصة لولا الوحي، فهذا دليل من أدلة رسالته عليه الصلاة والسلام، ولكنها في سياقها أدّت خدمات أخرى، منها إعلام هؤلاء الكافرين الذين يأبون اتباع محمد صلّى الله عليه وسلم أنهم سائرون على قدم إبليس، ومنها تعريف هؤلاء بعاقبتهم إن استمروا على ما هم عليه، ومنها تعريف الراغبين بالحق بطريق الخلاص، وهو أن يخلص لله رب العالمين، وكل هذه المعاني واضحة الصلة بسياق السورة وبمحورها العام. 2 - نلاحظ الصلة بين قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وبين قوله تعالى هنا إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ كما نلاحظ الصلة بين ذكر عباد الله المخلصين هنا، وذكر عباد الله المخلصين أكثر من مرة في سورة الصافات، مما يشير إلى التكامل بين سورتي الصافات وص. والآن يأتي التوجيه الأخير للنذير عليه الصلاة والسلام أن يقول لهؤلاء المعرضين الفارّين المستكبرين الطاغين الظالمين المتعجّبين الكلام الأخير. ***

تفسير المجموعة الثالثة

تفسير المجموعة الثالثة قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن أو الوحي أو الإنذار مِنْ أَجْرٍ أي: ما أسألكم على هذا البلاغ، وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا؛ حتى تظنوا بي الظنون وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي: من الذين يتصنّعون ويتحلّون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنّعا ولا مدّعيا بما ليس عندي؛ حتى أنتحل النّبوة، وأتقوّل القرآن، أمره أن يلفت نظرهم إلى خصائصه الذاتية التي تدل- وحدها- على أنّه لا يمكن أن يكون إلا رسولا صادقا لله. ثم أمره أن يلفت نظرهم إلى خصائص القرآن إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي: ما القرآن إلا ذكر من الله للثقلين أوحي إلي، فأنا أبلغه وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي: خبر القرآن وما فيه من الوعد والوعيد، وذكر البعث والنشور بَعْدَ حِينٍ أي: بعد الموت أو يوم القيامة. قال صاحب الظلال رحمه الله: (إنها الدعوة الخالصة للنجاة، بعد كشف المصير وإعلان النذير. الدعوة الخالصة التي لا يطلب صاحبها أجرا. وهو الداعية السليم الفطرة، الذي ينطق بلسانه، لا يتكلّف ولا يتصنّع، ولا يأمر إلا بما يوحي منطق الفطرة القريب. وإنه للتذكير للعالمين أجمعين فقد ينسون ويغفلون. وإنه للنبإ العظيم الذي لا يلقون بالهم إليه اليوم، وليعلمن نبأه بعد حين. نبأه في الأرض- وقد علموه بعد سنوات من هذا القول- ونبأه في اليوم المعلوم. عند ما يحق وعد الله اليقين: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ. إنه الختام الذي يتناسق مع افتتاح السورة ومع موضوعها والقضايا التي تعالجها. وهو الإيقاع المدوي العميق، الموحي بضخامة ما سيكون: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). كلمة في السياق والمقطع: 1 - نلاحظ أن المجموعة الأخيرة لفتت نظرهم إلى مجموعة الأمور التي لو تأمّلوها لآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم وقبلوا إنذاره، ومن جملة ذلك كون القرآن ذكرا وهو المعنى الذي بدأت به السورة، وتوسّطت به، وانتهت به ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ

فوائد

لِلْعالَمِينَ. وهذا يفيد أن هذه الخاصية في القرآن كافية لأن تقيم الحجة على صحة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم وعلى صحة كون هذا القرآن من عند الله، ومن ثمّ تقيم الحجة على المنذرين، فإذا رفضوا الإيمان مع وجود هذه الخاصية فالعلة في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم. 2 - ونلاحظ أن المقطع الأخير بمجموعه قد أتم صرح السورة في تبيان أن الكافرين لا يقبلون الإنذار، وفي تبيان العذاب العظيم المعدّ لهم، وفي تبيان ما ينبغي أن يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مقابل إعراضهم من ذكر وتذكر، وإقامة حجة ولفت نظر. ... فوائد: 1 - [حديث حول الملأ الأعلى بمناسبة ذكرهم في آية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى .. ] بمناسبة قوله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ذكر ابن كثير حديثا ليس له علاقة بالآية، ولكن لمجرد ذكر الملأ الأعلى فيه ونحن نذكره تبرّكا، لا على أنه تفسير للآية. قال ابن كثير: (فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد ... عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج صلّى الله عليه وسلم سريعا فثوّب بالصلاة، فصلى وتجوّز في صلاته، فلما سلّم قال صلّى الله عليه وسلم: «كما أنتم» ثم أقبل إلينا فقال: «إني قمت من الليل فصلّيت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت، فإذا أنا بربي عزّ وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب- أعادها ثلاثا- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شئ، وعرفت، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات؟ قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام، قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني؛ وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنها حق فادرسوها وتعلّموها» فهو حديث المنام المشهور، ومن

2 - كلام ابن كثير بمناسبة ذكر قصة آدم عليه السلام في سورة (ص)

جعله يقظة فقد غلط، وهو في السنن من طرق، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليماني به، وقال: حسن صحيح وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر). 2 - [كلام ابن كثير بمناسبة ذكر قصة آدم عليه السلام في سورة (ص)] بمناسبة ذكر قصة آدم عليه السلام في سورة (ص) قال ابن كثير: (هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة، وفي أول سورة الأعراف، وفي سورة الحجر، وسبحان، والكهف وهاهنا، وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر، متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله عزّ وجل؛ فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسا. كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته أحوج إليه فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه عزّ وجل فيه، وادّعى أنه خير من آدم، فإنه مخلوق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى، وكفر بذلك، فأبعده الله عزّ وجل، وأرغم أنفه، وطرده عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه، وسماه إبليس إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة، وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى القيامة تمرد وطغى وقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ كما قال عزّ وجل أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى، وهي قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65]. 3 - [كلام النسفي والمؤلف بمناسبة آية قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ قال النسفي: (للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم) وأذكر بمناسبة هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا وصالحو أمتي براء من التكلف»، وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: أيها الناس من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.

4 - كلام المؤلف بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قسم إبليس فبعزتك لأغوينهم أجمعين ..

4 - [كلام المؤلف بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قسم إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ .. ] بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قسم إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ نتذكر ما أثبتناه في فوائد المقطع الأول عند قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ من أجل أن نعمل على السير إلى طريق الاستخلاص، وهو كما حددته الآية: ذكر الدار الآخرة، والتذكير به- وحبذا لو وقف الإنسان عند الآيات المذكرة بالآخرة- وكانت له جلسة تفكر في الآخرة كل يوم، قال تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18]. ... كلمة أخيرة في سورة (ص) ومجموعتها: لاحظ قوله تعالى في سورة (ص) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ وتذكر ما فسّر به المفسرون قوله تعالى: وَالْأَبْصارِ بأنه البصر في الدين والفقه فيه. وتذكّر الآن محور السورة من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فالكافرون على أبصارهم غشاوة، والرسل عليهم الصلاة والسلام أصحاب الأبصار، هذا نموذج على الصلة الدقيقة بين سورة (ص) ومحورها من سورة البقرة. وقد رأينا كيف أن مقدّمة سورة (ص) أرتنا كيف أن الكافرين لا ينفع معهم الإنذار، كما رأينا كيف أن المقطع الأول أعطى دروسا للنذير من خلال الأمر بالصبر والذكر، ثم رأينا كيف أن المقطع الثاني أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول المعاني الأخيرة الفاصلة القاطعة التي تقيم الحجج النهائية على الكافرين، وقد رأينا كيف أن عدم انتفاع الكافرين بالإنذار قد عرض في السورة بما تقوم به الحجة على الكافرين قياما كاملا، من خلال ذكر خصائص القرآن، وخصائص الرسول عليه الصلاة والسلام. ... وسورة (ص) والصافات عالجت كل منهما معاني رئيسية لمحور محدد، ولكن كون السورتين عالجتا مقدمة سورة البقرة فإنك تجد تداخلا بين السورتين، بحيث تجد سورة الصافات قد تعرضت لمواقف الكافرين، وبحيث تجد سورة (ص) قد تعرّضت للكلام عن المتقين، ولكن في نفس الوقت انصبّ الكلام الرئيسي في سورة الصافات على

تفصيل معان في إطار الآيات الأربعة الأولى من سورة البقرة، وانصبّ الكلام انصبابا رئيسيا في سورة (ص) عن الآيتين اللاحقتين. ... وقد رأينا من خلال عرضنا لسورة (ص) كيف يظهر التكامل بينها وبين سورة الصافات، على اعتبار أنهما تشكلان مجموعة واحدة، فكما أن التكامل قائم بين محوريهما فكذلك نرى التكامل على امتداد السورتين. فمقدمة سورة الصافات تقرر إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ ومقدمة سورة (ص) يرد فيها قوله تعالى على لسان الكافرين: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وسورة (ص) تتحدّث عن اختصام الكافرين مع بعضهم في النار، وسورة الصافات تستثني عباد الله المخلصين مرات. وسورة (ص) تذكر الطريق إلى هذا الاستخلاص، وتستثنيهم من الوقوع في غواية الشيطان. وسورة الصافات تذكر المرسلين وإنذارهم ودعوتهم، وسورة (ص) تتحدّث كذلك عن الرسل. وهكذا نجد السورتين تتداخلان، وتتكاملان لتؤديا دورا واحدا في بناء قضية الإيمان والسلوك الإيماني، وفضح الكفر والسلوك الكافر. ... نلاحظ في سورة الصافات أنها لم تتحدّث عن داود وسليمان وأيوب عليهم السلام، بينما تحدّثت عنهم سورة (ص). وتحدّثت سورة الصافات عن نوح وإلياس وموسى وهارون ولوط ويونس عليهم الصلاة والسلام ولم تتحدّث عنهم سورة (ص). وتحدثت سورة الصافات عن إلياس عليه السلام. وتحدّثت سورة (ص) عن خليفته اليسع عليه السلام. وتحدّثت سورة الصافات بشيء من الإسهاب عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم الصلاة والسلام بينما ذكرتهم ذكرا فقط سورة (ص). وكل ذلك من مظاهر التكامل بين السورتين. ... ويلاحظ أن سورة (ص) تحدّثت عن خاصية من خواص القرآن وهو أنه (ذو الذكر) ونحب أن نذكر هنا أن هذه الخاصية التي تحدّثت عنها سورة (ص) خاصية فريدة وعجيبة ومعجزة. وهي وحدها تدل على أن هذا القرآن من عند الله.

فكتاب تحدّث عن كل شئ، وفصّل كل شئ مما يحتاجه الإنسان، وكان فيه الأمر والنهي، والخبر والقصّة، والعظة والزجر، والترغيب والترهيب وغير ذلك، فإن يكون هذا كله فيه مذكّرا بالله عزّ وجل، إن كتابا على مثل هذا الكمال، وفيه مثل هذه الخاصية الظاهرة من أوله إلى آخره، لا يمكن أن يكون من عند بشر. ***

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

المجموعة الثالثة من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمى بقسم المثاني وتشمل سور: (الزمر، وغافر، وفصلت)

المجموعة الثالثة من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمّى بقسم المثاني وتشمل سور: (الزمر، وغافر، وفصلت)

كلمة في المجموعة الثالثة من قسم المثاني

كلمة في المجموعة الثالثة من قسم المثاني: دلّلنا من قبل على أنّ سورة (ص) نهاية مجموعة، وهذا يعني تلقائيا أن سورة الزمر بداية مجموعة، وسنرى بأكثر من دليل أن سورة الشورى بداية مجموعة أخرى، وهذا يقتضي بالضرورة أن تكون سورتا غافر وفصلت تتمة لمجموعة الزمر، خاصة إذا دلّنا على ذلك المعنى، وإذا لم يكن هناك ما يدلّ على أن واحدة منهما خارجة عن ذلك. وعند ما ندرس السور الثلاث نلاحظ أن كل شئ فيهن يدلّ على أن السور الثلاث تشكّل وحدة متكاملة. نلاحظ بشكل واضح أن سورة فصّلت تفصّل في محور سورة هود، لاحظ بدايتي السورتين. بدأت سورة هود بقوله تعالى: الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ .... وبدأت سورة فصّلت بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً .... ومن المعلوم أن سورة هود فصّلت من سورة البقرة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .... ونلاحظ بشكل واضح أن سورة الزّمر تفصّل في محور سورة يونس، لاحظ بدايتي السورتين: بدأت سورة يونس بقوله تعالى: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ. وبدأت سورة الزمر بقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وسنرى التشابه الكبير بين مضمونات سورة الزمر وسورة يونس. وكان محور سورة يونس قوله تعالى في سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ

ونلاحظ بشكل واضح أن سورة غافر تفصّل في الكلام عن الكافرين، بدليل أنه بعد مقدمة السورة مباشرة يأتي قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ. ونجد في السورة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ .... ونجد في خاتمة السورة قوله تعالى: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ. ولذلك نقول: إنّ محور سورة المؤمن (غافر) هو قوله تعالى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وبناء على ما مرّ نقول: إنّ سورتي الزمر والمؤمن تفصّلان في مقدمة سورة البقرة، ثم تأتي سورة فصّلت لتفصل في حيز الآيات الآتية مباشرة بعد مقدمة سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... وسنرى تفصيل ذلك كله. وإذن فأنت تلاحظ أن آيات سورة البقرة الأولى تفصّل في قسم المثاني مرات، وفي كل مرة تجد روحا جديدة، وأسلوبا جديدا، وسياقا جديدا، وعرضا جديدا، ووحدة في كل سورة، ووحدة في كل مجموعة، إن هذا لمظهر من مظاهر الإعجاز في القرآن، أن تجد المعنى الواحد يعرض بالأساليب الكثيرة وفي السور الكثيرة، وفي كل مرة تجد جديدا وتجد تفريعات وتفصيلات لمعان مستكنة. ولعلّه يتضح لك في عرضنا لمجموعات هذا القسم لم سمّي هذا القسم بالمثاني؟ إذ تجد المعاني تثنى وتكرّر مرّة بعد مرّة، ويلاحظ أيضا أن سورة الزمر يرد فيها قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. ولنبدأ عرض السور الثلاث.

سورة الزمر

سورة الزّمر وهي السّورة التاسعة والثلاثون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الأولى من المجموعة الثالثة من قسم المثاني وآياتها خمس وسبعون آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة الزمر ومحورها

كلمة في سورة الزمر ومحورها: تبدأ السورة بمقدمة هي آية واحدة وهي قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (الآية: 1). ثم يأتي قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (الآية: 2). ثم تسير السورة حتى نهاية الآية 40 ثم يأتي قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الآية: 41). ثم تسير السورة إلى نهايتها. فكأن السورة تتألف من مقدمة ومقطعين كل مقطع مبدوء بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا ....... *. والصلة بين بدايتي المقطعين ومقدمة السورة واضحة؛ إذ يشترك الجميع في وجود معنى التنزيل. وفي المقطع الأول تجد قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ .. (الآية: 23). وتجد وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الآيتين: 27، 28). وفي المقطع الثاني تجد قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (الآية: 71). وهذا يشير إلى أن الكلام عن القرآن وكونه منزلا من عند الله عزّ وجل موضوع رئيسي في السورة، ونلاحظ أن هناك آيات في السورة مبدوءة بلفظ الجلالة: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ... اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها .... اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. مما يشير إلى أن الكلام عن الله عزّ وجل منزل هذا القرآن موضوع رئيسي من مواضيع السورة.

ونلاحظ أن موضوع العبادة يتكرّر في السورة كثيرا: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ .... قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي .... قُلْ يا عِبادِيَ .... قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ .... بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ .... مما يشير إلى أنّ هناك صلة بين معرفة الله وعبادته وإنزاله القرآن. فلنتذكر الآن بعض معان في سورة يونس: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ* إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. لاحظ وجود اسم الله (الحكيم) في الآية الأولى من السورتين، ولاحظ الأمر (فاعبد) في أوائل سورة الزمر، والأمر (فاعبدوه) في أوائل سورة يونس، ثم لاحظ خاتمة سورة يونس. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الآية: 41). من خلال ذلك ندرك أن هناك صلة بين السورتين، وأنّ سورة الزمر تبني على سورة يونس، وتفصّل في محورها، ومن المعلوم أن سورة يونس فصّلت في الآية الأولى

من سورة البقرة، أي: في قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقد كنا رأينا من قبل أن سورة الصافات فصّلت في الآيات الأربع الأولى التي وصفت المتقين من سورة البقرة، ونلاحظ أن سورة الصافات ختمت بقوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. كما نلاحظ أن سورة الزمر ختمت بقوله تعالى وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وهذه الخاتمة كذلك تجعلنا نستأنس أن سورة الزمر تفصّل في ما فصلت فيه سورة الصافات، أي في الآيات الأولى من سورة البقرة. إن تفصيل سورة الزمر ينصبّ على المحور الذي فصلته سورة يونس، وهو قوله تعالى الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلا أن التفصيل الموجود في سورة الزمر يكمّل التفصيل الموجود في سورة يونس، فإذا كان الكلام في سورة يونس انصب على نفي الريب عن هذا القرآن بنفي كل ما يؤدي إليه، وتقرير أن هذا القرآن هدى، فإن سورة الزمر ينصب الكلام فيها على أن هذا القرآن منزّل من عند الله، وعلى تعريفنا على الله منزّل هذا القرآن، وعلى ما يترتب على كون هذا القرآن من عند الله: من عبادة لله، وصياغة للسلوك والأفكار على ضوء ذلك، إلى غير ذلك من المواضيع التي سنراها ونلاحظ في السورة بشكل واضح كثرة الآيات المبدوءة باستفهام: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ... أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ ....

نقول: تقديم ابن كثير والألوسي لسورة الزمر

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ....... أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ .... أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ .... أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ..... مما يعطي السورة جرسا معيّنا، ويصبغها بصبغة معينة، وهذا يرينا مظهرا من مظاهر هذا الإعجاز؛ إذ تجد الموضوع الواحد تفصّله سور كثيرة، كلّ سورة تبرز جانبا من جوانبه المتعلّقة به، مع كون التفصيل في كل مرّة يأتي بروح جديدة، وصيغة جديدة، وأسلوب جديد، وهكذا. وسنعرض السورة على أنّها مقدّمة ومقطعان، وسنرى أنّ كل مقطع فيه مجموعات واضحة المعالم، وسنرى صلة هذه المجموعات بسياق السورة الخاص، وصلتها بمحور السورة، ولا نستعجل الكلام عن ذلك، وقبل أن نبدأ عرض السورة نحبّ أن ننقل مجموعة نقول حول السّورة: نقول: [تقديم ابن كثير والألوسي لسورة الزمر] 1 - قدّم ابن كثير لتفسير سورة الزمر بالحديث التالي: (روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان صلّى الله عليه وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.). 2 - وقال الألوسي في تقديمه لسورة الزمر: (وتسمى سورة الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ

فَوْقِها غُرَفٌ أخرج ابن الضريس. وابن مردويه. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن، وأخرج النحاس عنه أنه قال: نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى ثلاث آيات، وزاد بعضهم قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ الآية ذكره السخاوي في جمال القراء وحكاه أبو حيان عن مقاتل، وزاد بعض اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ حكاه ابن الجوزي، والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الخ، وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى آخر السبع وآيها خمس وسبعون في الكوفي، وثلاث في الشامي، واثنتان في الباقي، وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره، ووجه اتصال أولها بآخر سورة (ص) أنه قال سبحانه هناك: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وقال جل شأنه هنا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام، ثم إنه تعالى ذكر آخر سورة (ص) قصة خلق آدم، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميّتون، ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد، متصلا بخلق آدم- عليه السلام- المذكور في السورة قبلها، وبين السورتين أوجه أخر من الربط، تظهر بالتأمل، فتأمّل.). ***

المقدمة: وهي آية واحدة وهذه هي

المقدمة: وهي آية واحدة وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 39/ 1 التفسير: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: القرآن مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي: المنيع الجناب، غير المنازع في السّلطان الْحَكِيمِ في تدبيره وفي أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره. كلمة في السياق: قلنا إن محور هذه السورة من سورة البقرة هو قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وقد جاءت مقدّمة السورة لتقرّر أنّ منزل هذا القرآن الذي لا ريب فيه هو الله العزيز الحكيم، وفي ذكر اسم الله العزيز في هذه المقدمة بيان أن الله لم ينزل كتابه ذلّة، وأنّ ما فيه من تكليف إنما هو تكليف عزيز في سلطانه، وفي ذلك إشعار إلى أنه سيحاسب ويعاقب لمن خالف كتابه، فذلك شأن العزيز، وفي ذكر اسم الله الحكيم في هذه المقدمة إشعار بأن كتابه حكيم، لأن الحكيم يصدر عنه ما هو حكيم، وفي ذلك بيان أن هذا القرآن فيه الحكمة في ما أمر، وفي ما نهى، وفيما أخبر، وفي ترتيبه، وترتيب سوره، وترتيب آياته. وإن ظهور الحكمة في هذا القرآن، وظهور آثار العزة الإلهية فيه لواضح، وذلك دليل على أن هذا القرآن من عند الله العزيز الحكيم، فالبشر لا يملكون الحكمة الكاملة، لأنّهم لا يملكون العلم الكامل، والبشر لا يملكون العزة المطلقة، فلو أنّ هذا القرآن بشريّ المصدر لظهر فيه الضعف البشري، والجهل البشري، أمّا وهو منزّه عن ذلك فذلك دليل أنّه من عند الله، وإذ تقرر ذلك كله في المقدمة يأتي المقطع الأول.

المقطع الأول ويتألف من سبع مجموعات، ويمتد من الآية (2) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو

المقطع الأول ويتألف من سبع مجموعات، ويمتد من الآية (2) إلى نهاية الآية (40) وهذا هو: المجموعة الأولى 39/ 2 - 7

39/ 8 - 9 المجموعة الثانية 39/ 10 - 18

المجموعة الثالثة 39/ 19 - 21 المجموعة الرابعة 39/ 22 - 23 المجموعة الخامسة 39/ 24 - 26

المجموعة السادسة 39/ 27 - 35 المجموعة السابعة 39/ 36 - 37

تفسير المجموعة الأولى

39/ 38 - 40 تفسير المجموعة الأولى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فالمنزل هو الله تعالى، والمنزل عليه محمد صلّى الله عليه وسلم، والمنزل بالحق الكتاب، ويلاحظ التشابه بين الآية الأولى في السورة وهذه الآية قال النسفي: (هذا ليس بتكرار؛ لأنّ الأول (أي: ما ورد في الآية الأولى) كالعنوان للكتاب، أي: القرآن، والثاني (أي: ما ورد في هذه الآية لبيان ما في الكتاب) أي: القرآن، أي لبيان مضمون ما في هذا الكتاب وهو الحق الخالص، وبعد أن بيّن الله عزّ وجلّ هذا، أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بالعبادة والإخلاص، فهما لازما كون هذا القرآن من عند الله، وكونه حقا خالصا، لقد خلق الله الخلق لعبادته، فشئ بديهي أن ينزل كتابه من أجل هذه العبادة، وبيانها والمطالبة بها، وذكر شروطها ومواصفاتها، ومن ثمّ قال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي: ممحّضا له الدين من الشرك والرياء، وذلك بالتوحيد، وتصفية السر، قال ابن كثير: (أي: فاعبد الله وحده لا شريك له، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي: هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر؛ لاطّلاعه على الغيوب والأسرار. فالدين في الآية المراد به الخضوع والطاعة. قال ابن كثير في الآية: (أي: لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له) وهذا لا يكون إلا بالتوحيد الخالص، ومن ثمّ فسّر قتادة الدين في الآية: بأنه شهادة أن لا إله إلا الله وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي: من دون الله أَوْلِياءَ أي: آلهة فإنهم يقولون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي: تقربا، أي: ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا، أما الآخرة فكانوا جاحدين لها، كافرين بها إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ

[سورة الزمر (39): آية 4]

بَيْنَهُمْ أي: بين عباده والمشركين به يوم القيامة فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ دلّ على أنّ المشركين ينازعون ويفلسفون، ويجادلون ويدّعون ويبرّرون. كما دلّت الآية على أنّ الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين، أي: سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ قال ابن كثير: (أي: لا يرشد إلى الهداية من قصد الكذب والافتراء على الله تعالى، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه.) قال النّسفي: (أي: لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر، يعني لا يوفّقه للهدى، ولا يعينه وقت اختياره الكفر، ولكنه يخذله) أقول: دلّت الآية على أنّه إذا اجتمعت صفتا الكذب والكفران في إنسان فإنّ الله لا يلهمه الهداية، فليحذر امرؤ من صفتي الكذب والكفران لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء، لا ما تختارون أنتم وتشاءون، وقد أشعرتنا الآية أنّ بعضا ممّن عبدوا مع الله غيره ليتقربوا- في زعمهم- إليه، عبدوهم بعد أن خلعوا عليهم صفات البنوّة لله عزّ وجل كبعض العرب إذ قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، وقد ردّ الله هذا القول وفنّده، ثمّ نزّه ذاته سبحانه عن أن يكون له ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد فقال: سُبْحانَهُ أي: تعالى وتقدّس وتنزّه عن أن يكون له ولد هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي فإنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي كل شئ عبد لديه، فقير إليه، وهو الغني عمّا سواه، الذي قد قهر الأشياء؛ فدانت له وذلّت وخضعت، وإذ كان كذلك فقد كذب من نسب إليه الشريك والولد. قال النسفي: (يعني: أنه واحد، متبرئ عن انضمام الأعداد، متعال عن التجزؤ والأولاد، قهار غلاب لكل شئ، ومن الأشياء آلهتهم، فأنّى يكون له أولاد وشركاء.) نقل: [عن صاحب الظلال حول آية ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى] بمناسبة قوله تعالى على لسان المشركين: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى قال صاحب الظلال: (فلقد كانوا يعلنون أن الله هو خالقهم وخالق السماوات والأرض .. ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة، وفي إخلاص الدين لله بلا

كلمة في السياق: الآيات السابقة وعلاقتها بمحور السورة

شريك. إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه. ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها. ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة- وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة- ليست عبادة لها في ذاتها، إنما هي زلفى وقربى لله؛ كي تشفع لهم عنده، وتقرّبهم منه! وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها، إلى هذا التعقيد والتخريف. فلا الملائكة بنات الله. ولا الأصنام تماثيل للملائكة. ولا الله- سبحانه- يرضى بهذا الانحراف. ولا هو يقبل فيهم شفاعة. ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق! وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام، وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول. وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء، تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة- أو تماثيل الملائكة- تقربا إلى الله- بزعمهم- وطلبا لشفاعتهم عنده. وهو سبحانه يحدد الطريق إليه. طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب!) كلمة في السياق: [الآيات السابقة وعلاقتها بمحور السورة] قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والآيات السابقة قرّرت أن هذا الكتاب من عند الله، وأنّ ذلك يقتضي توحيد الله بالعبادة، وإذن فأوّل مظاهر هدايته للمتقين دلالتهم على إفراد الله تعالى بالعبادة، وإخلاصهم إيّاها لله عزّ وجل، وإن الشرك بكل صوره باطل، ولنلاحظ الصلة بين قوله تعالى في الآيات المارة إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ، وبين قوله تعالى في الآية التي هي محور السورة من سورة البقرة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ولنلاحظ أنه في سورة البقرة قال تعالى بعد مقدمتها يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مما يشير إلى أن نقطة البداية الصحيحة للوصول إلى التقوى هي العبادة، وسورة الزمر- التي هي تفصيل لقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ- تذكر في سياقها الآن نقطة البداية التي يقتضيها إنزال هذا القرآن، وهي العبادة الخالصة لله عزّ وجل، التي هي الطريق للاهتداء إلى اتباع كتاب الله، والتي هي اللازم الأول لإنزال الكتاب، وبعد أن بيّن الله عزّ وجل في الآيات التي مرّت معنا استحقاقه وحده للعبادة، وأنّه منزّه عن الشريك

[سورة الزمر (39): آية 5]

والولد، وأنه الواحد القهار، يحدثنا الآن عن مظاهر من خلقه تدل على وحدانيته، وعلى استحقاقه عزّ وجل العبادة وحده، وتدلّ على تنزهه عن الشريك والولد. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وخلقه السموات والأرض بالحق دليل على أنه أنزل كتابه بالحق، ودليل على أنّه سيكلّف ويحاسب يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ قال النسفي: (والتكوير: اللف واللّي، يقال كار العمامة على رأسه وكوّرها) وفي ذلك إشارة واضحة إلى كروية الأرض؛ إذ التكوير لا يكون إلا للشئ الدائري. وقال ابن كثير في الآية: (أي: سخّرهما يجريان متعاقبين لا يفتران، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا) وقد أثبتنا في سورة الأعراف وغيرها أنّ القرآن أشار إلى دوران الأرض، ونقول هاهنا: إن ذكر تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل، فيه إشارة إلى الكروية والدوران، والله أعلم وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي: إلى مدة معلومة عند الله، تنتهي بيوم القيامة أَلا هُوَ الْعَزِيزُ أي: الغالب القادر الْغَفَّارُ أي: مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ قال ابن كثير: (أي: خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم، وألسنتكم وألوانكم، من نفس واحدة، وهو آدم عليه الصلاة والسلام) ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وهي حواء عليها السلام وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قال ابن كثير: (وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج، وهي المذكورة في سورة الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ (من الآية: 143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ (من الآية: 144) وفي استعماله سبحانه كلمة أنزل كلام سنراه في الفوائد يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم .... فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال النسفي: (ظلمة البطن والرحم والمشيمة) وهو قول ابن كثير. وذكر أنه قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة .... ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: الذي فعل هذا كله هو الله ربنا لَهُ الْمُلْكُ لأنّه الخالق، دلّ على أنّ من فعل هذا هو وحده المستحقّ للربوبية، والمالك الحقيقي، وبالتالي فهو وحده المستحقّ لعبوديّتنا، ومن ثمّ ختم الآية بقوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن عبادته سبحانه إلى عبادة غيره؟ فأين يذهب بعقولكم؟.

نقول

نقول: بمناسبة قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ قال صاحب الظلال: (وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان، لأنها نظريات تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتبطل غدا. والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل! مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الأرض. فهو يصوّر حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض. فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكوّر، فالنهار كان عليه مكوّرا والليل يتبعه مكوّرا كذلك. وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكوّر على الليل. وهكذا في حركة دائبة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ. واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية). وبمناسبة قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قال صاحب الظلال: (والأنعام الثمانية كما جاءت في آية أخرى- هي: الضأن والمعز والبقر والإبل، من كلّ ذكر وأنثى، وكلّ من الذكر والأنثى يسمى زوجا عند اجتماعهما. فهي ثمانية في مجموعها .. والتعبير يعبر عن تسخيرها للإنسان بأنه إنزال لها من عند الله، فهذا التسخير منزل من عنده منزل من عليائه إلى عالم البشر، ومأذون لهم فيه من عنده تعالى). كلمة في السّياق: هاتان الآيتان خدمتا في تقرير أن القرآن حق، وخدمتا في موضوع استحقاق الله

[سورة الزمر (39): آية 7]

وحده للعبادة، ومن ثم نلاحظ أن الآية التالية تتحدّث عن الشكر والكفر. إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وعن أعمالكم وإيمانكم وأنتم محتاجون إليه لأنّكم أنتم الذين تتضررون بالكفر، وتنتفعون بالإيمان وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أي: لا يحبه ولا يأمر به وإن كان بإرادته، لأنه لا يخرج شيء عن إرادته، فالإرادة في حق الله غير الأمر، وغير الرضا وَإِنْ تَشْكُرُوا بالإيمان والعبادة والعمل الصالح يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرضى الشكر لكم، لأنه سبب فوزكم، فيثيبكم عليه الجنة، قال ابن كثير: (أي: يحبه لكم ويزدكم من فضله) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر، أي: ولا تحمل نفس عن نفس شيئا، بل كل مطالب بأمر نفسه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها، فإنّه لا تخفى عليه خافية. كلمة في السياق: قرّرت هذه الآية استحقاق الله عزّ وجل للشكر، وأن هذا الشكر لصالح الإنسان نفسه، وقررت أن كفر الإنسان لا يضر الله عزّ وجل، كما قررت أن كل نفس مسئولة عن نفسها، ومحاسبة على فعلها، وهي معان كلها مرتبطة بمعرفة الله عزّ وجل، ومرتبطة بمعاني العبادة، التي هي نقطة البداية في الاهتداء بهذا القرآن. والآن تأتي آية تذكّر الإنسان بأنّه في الضرّ يوحّد، وفي الرّخاء يكفر، وتهدده وتنذره. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ أي: بلاء وشدة دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ أي: راجعا إلى الله بالدعاء، لا يدعو غيره ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي: أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ أي: من الله عزّ وجل نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي: نسي ربه الذي كان يتضرّع إليه، أو نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. قال ابن كثير: (أي: في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع) وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أي: أمثالا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي: عن الإسلام، فهو في حال العافية يشرك بالله، ويدعو إلى الشرك

كلمة في السياق

قُلْ يا محمد لهذا الكافر تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي: في الدنيا، وهو أمر تهديد. قال ابن كثير: (أي: قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه: تمتّع بكفرك قليلا، وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد) دلّ هذا على أنّ للكفر متعته وهي آثار الكفر في الانفلات من التكليف إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي: من أهلها. كلمة في السياق: أقامت هذه الآية الحجة على الكفار بأنّهم جاحدون لنعم الله العامة والخاصة؛ فالطبيعة الكافرة طبيعة جحود، على خلاف الطبيعة المؤمنة، ومن ثم تأتى الآية اللاحقة لتبيّن الفارق البعيد بين موقف الكافر الذي صوّرته الآية السابقة، وموقف المؤمن الشاكر الذي تصوره الآية اللاحقة. أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أي: مطيع لله آناءَ اللَّيْلِ أي: ساعاته ساجِداً وَقائِماً أي: مصليا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي: هو في حال عبادته خائف راج، يخاف عذاب الآخرة، ويرجو جنة ربه، لا كذلك الكافر الجاحد المشرك، الذي مرّ ذكره في الآية السابقة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا؛ ليضل عن سبيله) جعل الكافر لا يعلم، وأي: علم لمن يجهل ربه، ويجهل طريق شكر إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي: إنّما يتّعظ بوعظ الله أولو العقول أو إنّما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لبّ وهو العقل. نقل بمناسبة قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال صاحب الظلال رحمه الله: فالعلم الحق هو المعرفة. هو إدراك الحق. هو تفتّح البصيرة. هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود. وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس. وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة .. هذا هو .. القنوت لله وحساسية القلب، واستشعار الحذر من الآخرة، والتطلّع إلى رحمة الله وفضله؛

كلمة في السياق: آيات المجموعة الأولى من المقطع الأول وهي (2 - 9)

ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة .. هذا هو الطريق، ومن ثم يدرك اللب ويعرف، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب؛ وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة. فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة، والمشاهدات الظاهرة، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء .. ) كلمة في السياق: [آيات المجموعة الأولى من المقطع الأول وهي (2 - 9)] 1 - أعطتنا الآيتان الأخيرتان نموذجين على الشكر والكفر، بما ينفّر من الكفر وأهله، وبما يقيم الحجة على أهله، وكلّ ذلك قد جاء بعد الآية التي ذكرت الشكر والكفر، وكان قد سبق ذلك ذكر ما يقتضي الشكر، وجاء قبل ذلك الأمر بعبادة الله وتوحيده بعد ذكر أن العبادة هي اللازم لإنزال القرآن بالحق. 2 - كنّا ذكرنا أن بين سورة الزمر وبين سورة يونس تشابها يدلّنا على وحدة المحور، وذكرنا نماذج على التشابه، وهاهنا نذكر نوعا آخر من التشابه: في سورة يونس يتكرّر الكلام عن النفسية الكافرة، كيف تقبل على الله في الشدة، وتكفر في الرخاء: قال تعالى في سورة يونس: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (الآية: 12) وقال كذلك في سورة يونس وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (الآية: 21) وقال تعالى في سورة الزمر: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (الآية 8) وسيأتي في المقطع الثاني من سورة الزمر قوله تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. 3 - بدأ المقطع الأول بالأمر بعبادة الله، ثم أوصلنا إلى الكلام عن شكر الله، ثم من خلال المقارنة بين المطيع المؤمن والجاحد، عرّفنا على مظهر من مظاهر عبادته تعالى وهو الصلاة آناء الليل، مع التلبس بحالي الرجاء والخوف، فعرفنا من خلال ذلك مظهرا من مظاهر الشكر، ومن مظاهر العبادة، وذلك عنوان العلم الصحيح، ومن ثمّ فإن

فوائد

علينا أن نعطي قيام الليل حقه من سلوكنا، إذا أردنا أن نشكر نعمة الله علينا بهذا القرآن، وبما سخّر لنا من الأكوان. 4 - بعد أن استقر السياق في المقطع الأول على ما رأينا تأتي مجموعة أخرى يأمر الله فيها رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول مجموعة أقوال سنراها أثناء عرضنا للمجموعة، ولنلاحظ قبل أن نعرض المجموعة القادمة أن المجموعة التي مرت معنا انتهت بقوله تعالى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ وأنّ المجموعة القادمة ستنتهي بقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وقد لاحظنا أن المجموعة السابقة قد شكّلت وحدة متكاملة، وسنرى أن المجموعة الثانية تشكل وحدة متكاملة كذلك، ضمن المقطع الأوّل وسياقه. وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الثانية فلننقل بعض الفوائد المتعلقة بالمجموعة الأولى: فوائد: 1 - [كلام ابن كثير حول آية ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا ... وحديث عن الوثنية] في قوله تعالى على لسان المشركين ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى قال ابن كثير: (قال قتادة والسّدّي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي: ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي أعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردّها، والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شئ اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل: 36) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25) وأخبر أن الملائكة التي في السموات من الملائكة المقربين وغيرهم، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ (النحل: 74) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا)

2 - كلام النسفي في تفسير كلمة"أنزل" في الآية (6)

2 - [كلام النسفي في تفسير كلمة «أنزل» في الآية (6)] يلاحظ أن الله عزّ وجل قال: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ فهل المراد بالإنزال الخلق، أو غير ذلك؟ قال النسفي مفسّرا كلمة (أنزل) في الآية: (أي: جعل عن الحسن، أو خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام، ثم أنزلها، أو لأنها لا تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها) 3 - [كلام النسفي حول آية يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ وحديث عن الخوف والرجاء] عند قوله سبحانه وتعالى عن المؤمن: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قال النسفي: (ودلّت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء يرجو رحمته لا عمله، ويحذر عقابه لتقصيره في عمله، ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمنا، والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياسا، وقد قال الله تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (الأعراف: 99) وقال إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (يوسف: 87) فيجب أن لا يجاوز أحدهما حده) وقال ابن كثير: (ولا بد في العبادة من هذا وهذا (أي الرجاء والخوف) وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب، ولهذا قال تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه، كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال «كيف تجدك؟» فقال: أرجو وأخاف، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عزّ وجل الذي يرجو، وأمّنه الذي يخافه». ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه وقال الترمذي غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلا.) 4 - [كلام ابن كثير حول آية أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ .. وحديث عن القنوت والخشوع] وفي قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً قال ابن كثير: يقول عزّ وجل أمّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا؟ لا يستوون عند الله كما قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (آل عمران: 113) وقال تبارك وتعالى هاهنا أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً أي: في حال سجوده وفي حال قيامه، ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة، ليس هو القيام وحده، كما ذهب إليه آخرون. وقال الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: القانت المطيع لله عزّ وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن والسّدّي وابن زيد (آناء الليل): جوف الليل، وقال الثوري

5 - كلام النسفي حول آية هل يستوي الذين يعلمون .. وحديث عن قيمة العلم

عن منصور: بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء، وقال الحسن وقتادة: آناء الليل أوله وأوسطه وآخره) (وروى ابن أبي حاتم عن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قال ابن عمر: ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل، وقراءته، حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة كما روى ذلك أبو عبيدة عنه رضي الله تعالى عنه، وقال الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به … يقطع الليل تسبيحا وقرآنا وقال الإمام أحمد كتب إلى الربيع بن نافع ... عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة. 5 - [كلام النسفي حول آية هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ .. وحديث عن قيمة العلم] عند قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال النسفي: (كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقنتون ويفتنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي). ولننتقل إلى المجموعة الثانية في المقطع الأول من سورة الزمر. تفسير المجموعة الثانية قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قال النسفي: (معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة) وقال ابن كثير: أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال مجاهد: فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان. وقال عطاء: (أي) إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا، وقال النسفي: (أي لا عذر للمفرّطين في الإحسان البتة، حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكّنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان، قيل لهم فإن أرض الله واسعة، وبلاده كثيرة، فتحوّلوا إلى بلاد أخر. واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير

[سورة الزمر (39): آية 11]

بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم). إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها من تجرّع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله، وازدياد الخير أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي: لا يهتدي إليه حساب الحسّاب ولا يعرف، أي: يوفون أجرهم موفرا في الجنة قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ أي: بأن أعبد الله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي: أمرت بإخلاص الدين، قال ابن كثير: أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قال السّدّى: يعني من أمته. قال النسفي: (أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة. والمعنى: أن الإخلاص له السّبقة في الدين فمن أخلص كان سابقا، فالأول أمر بالعبادة مع الإخلاص، والثاني، بالسبق، فلاختلاف جهتيهما نزلا منزلة المختلفين، فصح عطف أحدهما على الآخر). قُلْ يا محمد إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو يوم القيامة، فإذا كان هو كذلك فما بال المقصّرين قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قال النسفي: (وهذه الآية إخبار بأنه يخص الله وحده بعبادته مخلصا له دينه دون غيره، والأولى إخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص، فالكلام أولا واقع في نفس الفعل وإثباته، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله). ولذلك رتّب عليه قوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وهذا أمر تهديد وتبّر منهم قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ أي: الكاملين في الخسران، الجامعين لوجوهه وأسبابه الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بإهلاكها في النار وَأَهْلِيهِمْ أي: وخسروا أهليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنّهم أضلّوهم فصاروا إلى النار، ثم وصف خسرانهم وأنه في غاية الفظاعة بقوله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ وذلك لأنّهم استبدلوا بالجنة نارا، وبالدرجات دركات، ثمّ وصف حالهم في النار فقال لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أي: أطباق مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي: أطباق من النّار، أي: النار محيطة بهم ذلِكَ أي: الذي وصف من العذاب، وذلك الظلل يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ليؤمنوا به ويتّقوه، ويجتنبوا مناهيه، دلّ ذلك على أنّ الوعظ لا يؤثر إلا في عباد الله المؤمنين يا عِبادِ فَاتَّقُونِ أي: لا تتعرّضوا لما يوجب سخطي، خوّفهم بالنّار، ثمّ حذّرهم نفسه، قال ابن كثير: أي: اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أي: الشياطين أَنْ

[سورة الزمر (39): آية 18]

يَعْبُدُوها أي: عبادتها وَأَنابُوا أي: رجعوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى قال النسفي: هي البشارة بالثواب تتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشّرين، وحين يحشرون فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي: يفهمونه ويعملون بما فيه قال النسفي: (أراد أن يكونوا نقادا في الدين يميّزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب، وكذا المباح والندب، حرصا على ما هو أقرب عند الله، وأكثر ثوابا أو يستمعون القرآن وغيره، فيتّبعون القرآن، أو يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو ونحو ذلك، أو يستمعون الحديث مع القوم فيه محاسن ومساوئ، فيحدّث بأحسن ما سمع، ويكفّ عن سواه) أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي: المتّصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي: ذوو العقول والفطر المستقيمة. نقل [عن صاحب الظلال حول آية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال صاحب الظلال: (فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان. فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان؛ ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان. وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن. فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه. والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان؛ ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.

كلمة في السياق: المجموعة الثانية وعلاقتها بالمحور وبالمجموعتين الأولى والثالثة

كلمة في السياق: [المجموعة الثانية وعلاقتها بالمحور وبالمجموعتين الأولى والثالثة] 1 - يلاحظ أن هذه المجموعة بدأت بقوله تعالى قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا وختمت بقوله تعالى: فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ومن البداية والنهاية نعرف أنّ من صفات عباد الله: الإيمان، واتّباع الحسن، أو الأحسن من القول، وتلك علامة الهداية فيهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ فلنتذكر محور السورة من سورة البقرة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فالمتقون هم المهتدون بهدي القرآن، وهم المؤمنون، وهم عباد الله. 2 - يلاحظ أنّ الآية الأولى في المجموعة أمرت بالتقوى، قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وحضّت على الصّبر إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ والصبر جزء من التقوى كما رأينا ذلك في آية البرّ من سورة البقرة، فالأمر بالتقوى والصبر أمر بالاهتداء بكتاب الله، وذلك محور السورة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. 3 - يلاحظ أنّ الله عزّ وجلّ أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يعلن إخلاصه العبادة لله قولا، وأن يعلن ممارسته لهذا الإخلاص في العبادة فعلا، وأن ينذر المشركين، وأن يبيّن لهم خسارهم، وأن يعلن خوفه من الله عزّ وجل، وكل ذلك قضايا توضح ماهية التقوى، وحقيقة المتقين الذين يهتدون بهذا القرآن. 4 - من قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ندرك أنّ السياق يربّي فينا مشاعر التقوى، ومن ثمّ نعلم أن السورة تضعنا على حقيقة التقوى، وتربينا عليها، ولذلك صلته بقوله تعالى عن القرآن في آية المحور هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ومما ذكرناه ندرك صلة المجموعة بمحور السورة، وأما صلة المجموعة بسياق السورة الخاص فقد رأينا من بداية المقطع أنّ الله عزّ وجلّ ربط بين نزول القرآن، والأمر بعبادته، والإخلاص فيها، وبعد أن ذكر كل ما يلزم لتعميق هذا المعنى، أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذه المجموعة أن يقول كلّ ما يلزم للتوكيد والتوضيح، وهكذا نجد أنّه سبحانه أمره صلّى الله عليه وسلم في المجموعة الأولى أن يعبد، وفي هذه المجموعة أمره أن يقول ويبشّر.

تفسير المجموعة الثالثة

5 - نلاحظ أن المجموعتين السابقتين ختمتا بذكر أولي الألباب، ونلاحظ أن المجموعة الثالثة القادمة قد ختمت بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ممّا يوضّح أنّ المجموعات الثلاث الأولى في المقطع تعرّفنا على نفسها من خاتمتها فلنر المجموعة الثالثة. تفسير المجموعة الثالثة أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ أي: وجب عليه كَلِمَةُ الْعَذابِ أي: أن يعذبه الله أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي: أفأنت تنقذه؟ أي: لا يقدر أحد أن ينقذ من أضلّه الله، وسبق في علمه أنّه من أهل النّار، قال ابن كثير: يقول تعالى: أفمن كتب الله أنّه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال أو الهلاك؟ أي: لا يهديه أحد من بعد الله، لأنه من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضلّ له، ثم أخبر تعالى عن عباده السعداء وما أعدّ لهم فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي: لهم منازل في الجنة رفيعة، وفوقها منازل أرفع، فللكفار ظلل من النار، وللمتقين غرف مَبْنِيَّةٌ قال ابن كثير: طباق فوق طباق، مبنيات محكمات مزخرفات عاليات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال ابن كثير: أي: تسلك الأنهار خلال ذلك كما يشاءون، وأين أرادوا وَعْدَ اللَّهِ أي: هذا الذي ذكره وعد وعده الله عباده المؤمنين لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ فهو وعد كائن لا محالة أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر، قال ابن كثير: يخبر تعالى أن أصل الماء في الأرض من السماء، وفي هذا الذي ذكره ابن كثير معنى كبير سنراه في الفوائد فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي: فأدخله عيونا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد، أي: فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض، ثم يصرّفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار بحسب الحاجة إليها ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي: بالماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي: هيئاته من خضرة، وحمرة، وصفرة، وبياض، وأصنافه من برّ، وشعير، وسمسم، وغير ذلك ثُمَّ يَهِيجُ أي: ثم يجفّ فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد نضارته وحسنه، قال ابن كثير: أي: بعد نضارته وشبابه يكتهل فتراه مصفرا قد خالطه اليبس ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي: فتاتا متكسّرا، أي: ثم يعود يابسا يتحطم إِنَّ فِي

كلمة في السياق: المجموعة الثالثة وعلاقتها بالمحور وبما قبلها وما بعدها

ذلِكَ أي: في إنزال الماء وإخراج الزرع لَذِكْرى أي: لتذكيرا وتنبيها لِأُولِي الْأَلْبابِ على أنّه لا بد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن إهمال وتعطيل، قال ابن كثير: (أي: الذين يتذكّرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون خضرة ناضرة حسناء، ثم تعود عجوزا شوهاء، والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا، وبعد ذلك كله الموت، فالسّعيد من كان حاله بعده إلى خير). كلمة في السياق: [المجموعة الثالثة وعلاقتها بالمحور وبما قبلها وما بعدها] 1 - حدّدت هذه المجموعة في آيتيها الأوليين حال الكافرين في الآخرة، وحال المتقين بهذا الشكل المعجز الذي رأيناه، من وصف الكافر وهو في طبقات النار، إلى وصف المؤمن وهو في طبقات الجنان، وذلك لاستجاشة النّفس وبعثها نحو التقوى التي من خصالها الاهتداء بالقرآن الكريم هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وذلك يذكّرنا بصلة المجموعة بمحور السورة، وفي هذا السياق لفت الله نظر رسوله صلّى الله عليه وسلم إلى موضوع إنزال الماء من السماء، وما يترتب عليه من نبات، وما يحدث للنّبات من تغيّرات، وفي ذلك تزهيد في الدنيا، وتشويق للآخرة، وفي ذلك تذكير بأن منزل الماء هو منزل القرآن، ولكن القرآن هو الحياة الدائمة للقلوب في الدنيا، وهو سبب الحياة الدائمة للإنسان في الآخرة، أمّا الماء فإنه يحيي، ولكنّ مآل من حيى به الموت، فالمجموعة كلها تهيّج على التقوى، وعلى طلب الآخرة. 2 - والصلة بين المجموعة وما قبلها مباشرة واضحة، فما قبلها كان حديثا عن المتقين الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، كما كان حديثا عن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، فالمجموعة تكمّل صورة ما أعدّ لهؤلاء وهؤلاء، مع لفت النظر إلى فناء هذه الدار من خلال النّظر إلى حياة النبات. 3 - نلاحظ أن المجموعة الأولى ختمت بقوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ والمجموعة الثانية ختمت بقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ والمجموعة الثالثة ختمت بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ والآن تأتي مجموعة تبدأ بالحديث عن نعمة الله على من شرح الله قلبه للإسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فكأن المجموعات

تفسير المجموعة الرابعة

الثلاث مقدمة لتبيان عظمة الاهتداء بهذا القرآن، وكأن المجموعات الثلاث مقدّمة لتبيان فظاعة قسوة القلب. فلنر المجموعة الرابعة في المقطع الأول من السورة: تفسير المجموعة الرابعة أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي: وسّع صدره للإسلام فاهتدى فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي: على بيان وبصيرة، والمعنى أفمن شرح الله صدره فاهتدى، كمن طبع على قلبه فقسا قلبه، ولكنه حذف لدلالة ما بعده عليه، قال ابن كثير: أي: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق، فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي: فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع، ولا تعي، ولا تفهم، قال النسفي: أي: من ترك ذكر الله، أو من أجل ذكر الله، أي: إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (التوبة: 125) أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في غواية ظاهرة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً أي: يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان، والوعظ والحكمة والإعجاز، وغير ذلك مَثانِيَ جمع مثنى بمعنى: مردّد ومكرّر لما ثنّي من قصصه، وأنبائه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه ومعانيه. قال ابن كثير: وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ (آل عمران: 7) ذاك معنى آخر. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: تنقبض، والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وآيات وعيده، أصابتهم خشعة تقشعر منها جلودهم، قال ابن كثير: (هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف) ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي: إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم، وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. قال النّسفي: (وعدّي بإلى لتضمّنه معنى فعل متعد بإلى، كأنه قيل اطمأنت إلى ذكر الله، لينة غير منقبضة، واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة لأن رحمته سبقت غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رءوفا رحيما، وذكرت الجلود وحدها أولا، ثم قرنت بها القلوب ثانيا، لأن محل الخشية

كلمة في السياق: المجموعة الرابعة حول علاقتها بالمقطع والمحور والسياق الخاص بالسورة

القلب، فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب) ذلِكَ إشارة إلى الكتاب هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وهم من علم منهم اختيار الاهتداء وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: ومن يخلق الضلالة فيه فَما لَهُ مِنْ هادٍ إلى الحق، فعلامة من أراد الله هدايته تلك أن يقشعر جلده إذا تلي عليه القرآن ثم يلين. كلمة في السياق: [المجموعة الرابعة حول علاقتها بالمقطع والمحور والسياق الخاص بالسورة] 1 - رأينا أن المقطع بدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ورأينا أن آخر آية في المجموعة الثالثة هي قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً .. ورأينا الصلة بين إنزال القرآن وإنزال الماء، ورأينا أنه قد عرض خلال ذلك كل ما يبعث على العبادة والتقوى، التي بدونها لا يكون اهتداء بكتاب الله، ثم جاءت بعد ذلك هذه المجموعة المؤلفة من آيتين، لتبيّن في الآية الأولى الفارق الكبير بين من شرح الله صدره للإسلام وبين قساة القلوب، فالأوّلون مهتدون فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ والآخرون ضالون أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وصلة ذلك بقوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة، ثم تأتي الآية الثانية لتبيّن أربع خصائص من خصائص هذا القرآن، ولتبيّن علامة المهتدين، وعلامة التقوى، ومن خلال ذكر الخصائص نعلم أن هذا القرآن معجز، وذلك دليل على أنّه حق، وأنّه لا ريب فيه، وصلة ذلك بسياق السورة وبمحورها واضحة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. 2 - ذكرت الآية الثانية أربع خصائص لهذا القرآن، كلها تشهد أنّه كتاب رب العالمين: أ- اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فالقرآن أحسن الحديث، فكلمته أحسن الكلم، ومعانيه أحسن المعاني، وفي كتابنا (الرسول) ضربنا أمثلة كثيرة على كون الكلمة القرآنية في محلها لا يمكن أن يكون غيرها أحسن منها، ولا يمكن أن يحل غيرها محلها، وهذا وحده معجز، فكيف إذا اجتمع مع ذلك حسن المعنى، وحسن الجرس، وحسن الأسلوب، وأنواعا أخرى من الحسن لا يحاط بها؟.

ب- كِتاباً مُتَشابِهاً فهو يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان، والوعظ والحكمة، والإعجاز والإخبار، والتذكير والتبشير والإنذار، فكل جزء منه تظهر فيه خصائص القرآن كله، مع تعدّد المواضيع وكثرتها وتنوّعها، وهذا وحده معجز، وإلا فأي كتاب في العالم يتحدّث عن الإبداع بنفس الأسلوب الذي يتحدّث فيه عن قضايا الإرث. وقد أبرزنا هذا المعنى في كتاب (الرّسول) في فصل (المعجزة القرآنية). ج- مَثانِيَ جمع مثنى بمعنى: مردّد ومكرّر؛ لما ثنّي من قصصه، وأنبائه وأحكامه، وأوامره ومعانيه ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه، وقد رأينا في هذا التفسير كيف أنّ بعض المعاني تثنّى مرات ومرات، وفي كلّ مرة تجد أسلوبا جديدا، وروحا جديدة، وعرضا جديدا، بشكل عجيب مدهش، غير مستطاع للبشر، وهذا وحده مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن يدلّ على أنّه من عند الله. د- تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إن التأثير الذي يحدثه القرآن في القلوب المؤمنة المخبتة شئ عجيب، وقد وصفته الآية هنا، ووصفته آيات كثيرة في القرآن، إنّ مثل هذا التأثير لا يمكن أن يكون على مثل هذه الشاكلة، لولا أنه من عند الله. إن إيراد هذه الخصائص في سياق السورة تدليل على ما بدأ به المقطع من ذكر إنزال القرآن بالحق، ونفي لما نفاه محور السورة عن القرآن من ريب. 3 - ثمّ إنّ الآية الثانية ذكرت علامات التقوى، وعلامات الاهتداء بالقرآن: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ فلنتذكر محور السورة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لنعلم أي تفصيل لما أجمل هناك قد وجد هنا. 4 - نلاحظ أن خصائص أخرى للقرآن ستذكر، ولكن بعد المجموعة الخامسة التي تهيّج على التقوى فلنر المجموعة الخامسة.

تفسير المجموعة الخامسة

تفسير المجموعة الخامسة أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: كمن هو آمن من العذاب، والمراد بسوء العذاب: شدته، واتقاء الكافر سوء العذاب بوجهه معناه كما قال النسفي: (إن الإنسان إذا لقي مخوفا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار، يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه). وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي: تقول لهم خزنة النار تقريعا وتوبيخا ذُوقُوا وبال ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وبال كسبكم كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: القرون الماضية المكذبة لرسلها فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينما هم آمنون إذ فوجئوا من مأمنهم فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي: الذلّ والصغار كالمسخ والخسف، والقتل والجلاء، ونحو ذلك من عذاب الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن كثير: أي بما أنزل بهم من العذاب والنّكال، وتشفّي المؤمنين منهم، فليحذر المخاطبون من ذلك، فإنهم قد كذّبوا أشرف الرسل، وخاتم الأنبياء وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي: والذي أعدّه الله جل جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظم ممّا أصابهم في الدنيا، ولو كانوا يعلمون الحقيقة كاملة لآمنوا، ولكن لا يعلمون فيستمرون على الكفر .. كلمة في السياق: 1 - بيّنت هذه المجموعة عاقبة الضالين وعاقبة المهتدين، وبيّنت كيف ستكون عاقبة الذي لا يتقي الله في الآخرة حتى إنّه ليتّقي النّار بوجهه الذي كان في الدنيا يقيه بغيره، هذا مع استحقاقه العذاب في الدنيا، والخزي فيها، فالصلة بين هذه المجموعة وما قبلها واضحة. 2 - من هذا التصوير المعجز للعذاب يوم القيامة، نرى كيف أن القرآن أحسن

تفسير المجموعة السادسة

الحديث، وأنه متشابه، وأنه مثان، وأنّه تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ... ، ومن ثم ندرك الصلة كذلك بين المجموعة وما قبلها. 3 - وفي قوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ نرى مثلا يوضّح لنا مآل الضالّين، فإذا عرفنا أنّ المجموعة اللاحقة مبدوءة بقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... نعلم كيف أنّ هذه المجموعة مقدّمة لما بعدها. فلنر المجموعة السادسة من المقطع الأول. تفسير المجموعة السادسة وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: بيّنا للناس فيه بضرب كل نوع من أنواع الأمثال لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: ليتعظوا، فإن المثل يقرّب المعنى إلى الأذهان قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف. قال ابن كثير: (أي: هو قرآن بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان) وإنما جعله الله تعالى كذلك، وأنزله بذلك لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي يحذرون ما فيه من الوعيد، ويعملون بما فيه من الوعد، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي: متنازعون ومختلفون وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي: ذا سلامة أي: ذا خلوص له من الشركة، أي: خالصا له لا يملكه أحد غيره هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا قال ابن كثير: (أي: لا يستوي هذا وهذا. كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد: هذه الآية ضربت مثلا للمشرك والمخلص). ولما كان هذا المثل ظاهرا بينا جليا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: على إقامته الحجة عليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: فلهذا يشركون بالله. قال النسفي: (مثّل الكافر ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف، وكل واحد منهم يدّعي أنّه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى، وهو متحيّر لا يدري أيّهم يرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته، وممّن يطلب رزقه، وممّن يلتمس رفقه، فهمّه مشاع، وقلبه أوزاع، (ومثّل)

[سورة الزمر (39): آية 30]

المؤمن بعبد له سيّد واحد فهمّه واحد، وقلبه مجتمع). وقال صاحب الظلال: إنهما لا يستويان. فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين. وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه. ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال، ولا يرضي واحدا منهم فضلا عن أن يرضي الجميع!. وهذا المثل يصوّر حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى، لأن بصره أبدا معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق. ولأنه يعرف مصدرا واحدا للحياة والقوة والرزق، ومصدرا واحدا للنفع والضر، ومصدرا واحدا للمنح والمنع، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلّق يديه بحبل واحد يشد عروته، ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره. ويخدم سيدا واحدا يعرف ماذا يرضيه فيفعله، وماذا يغضبه فيتقيه .. وبذلك تتجمع طاقته كذلك وتتوحّد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء .. ويعقّب على ذلك المثل الناطق الموحي، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة والاستقرار. وهم مع هذا ينحرفون، وأكثرهم لا يعلمون .. ). إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أي: إنك ستموت وإنّهم سيموتون ثُمَّ إِنَّكُمْ أي: إنك وإياهم يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فتحتجّ أنت عليهم بأنك بلّغت فكذّبوا، واجتهدت في الدّعوة فلجّوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، ثمّ بيّن من تكون بينهم الخصومة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فافترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي: بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم إِذْ جاءَهُ يفيد التعبير أنّه أسرع بالتّكذيب بما سمع به من غير وقفة ولا إعمال رويّة، أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل، لا كما يفعل أهل النّصفة فيما يسمعون قال ابن كثير: (أي: لا أجد أظلم من هذا لأنّه جمع بين طرفي الباطل: كذب على الله، وكذّب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا الباطل، وردّوا الحق) ولهذا قال جلت عظمته متوعدا لهم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي: مقاما لهؤلاء الذين كذبوا على

[سورة الزمر (39): آية 33]

الله، وكذّبوا بالصدق، وهم الجاحدون المكذّبون وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ هم المسلمون أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لا غيرهم لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: في الجنة مهما طلبوا وجدوا ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ دلّ السّياق على أن المجئ بالصدق والتصديق به تقوى وإحسان لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي: عن المتقين أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أي: سئ عملهم، لأن تكفير الأسوأ يرافقه تكفير السيئ من باب أولى وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ كرما منه وتفضّلا. كلمة في السياق: [المجموعة السادسة حول علاقتها بالمقطع والمحور والربط بين المجموعات الستة] 1 - بدأت المجموعة بذكر خصيصتين من خصائص القرآن، أولاهما أنه ضرب للناس من كل مثل، وقد استوعب سيد قطب رحمه الله الكلام في كتابه (التصوير الفني في القرآن) هذا الموضوع إذ أثبت أن الأصل في العرض القرآني هو التصوير المبدع، فإن يكون القرآن على مثل هذا الكمال في هذا الجانب وغيره، فذلك دليل كونه من عند الله، والخصيصة الثانية التي ذكرت هنا: هي كون القرآن لا عوج فيه، لا في اللغة، ولا في الأسلوب، ولا في المعاني، ولا في التشريع، ولا في أي شئ، فإن يكون كذلك فذلك دليل آخر على أنّه من عند الله، وصلة ذلك بمقدمة المقطع إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وبمحور السورة من سورة البقرة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ واضحة، وفي الآية الأولى من هذه المجموعة بيّن الله حكمة ضرب الأمثال، فقال: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وفي الآية الثانية بيّن حكمة كونه غير ذي عوج فقال: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فالتذكر والتقوى هما اللذان ينبغي أن يخرج بهما قارئ هذا القرآن. وصلة ذلك بما قبل هذه المجموعة وبمحور السورة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة. 2 - وقد ضرب الله في الآية الثالثة مثلا للموحّد والمشرك، وصلة ذلك ببداية المجموعة واضحة، إذ في المثل نموذج على كون القرآن قد ضرب الأمثال، وصلة ذلك ببداية المقطع فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ واضحة، فبعد الجولة الطويلة يعود

السياق إلى الكلام عن التوحيد. ثم إنّ المجموعة ذكّرت بالموت، وذكّرت بمآل الإنسان، وذكّرت بالحساب والمحاكمة، ثمّ بيّنت أنه لا أظلم ممن كذب على الله، وكذّب بالصدق إذ جاءه، أي: بالقرآن والوحي، فبيّنت بذلك أن الكافرين سيخسرون المحاكمة بلا ريب، وسيدخلون النار. 3 - ثمّ ذكرت المجموعة تعريفا جديدا للمتقين وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وصلة ذلك بمحور السورة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة، كما أن صلة ذلك بمقدمة المقطع إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ واضحة، كما أن صلة ذلك بمقدمة المجموعة وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ واضحة. وهكذا فالمجموعة خدمت سياق السورة، وتفصيل المحور بشكل واضح. 4 - ولم يبق عندنا في المقطع الأول إلا مجموعة واحدة، فلنر كيف سار السياق إليها: بيّنت المجموعة الأولى أن الله أنزل القرآن بالحق، وأن هذا يقتضي عبادة وإخلاصا، وخصّت نوعا من أنواع العبادة بالذكر، وهو قيام الليل، ثم جاءت المجموعة الثانية تأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يعلن مجموعة أمور لها علاقة بالعبادة. ثم جاءت المجموعة الثالثة لتهيّج على التقوى، وتلفت النظر إلى ما يوصل إليها. ثم جاءت المجموعة الرابعة لتقارن بين المهتدين والضالين، وتبين بعض خصائص هذا القرآن. ثم جاءت المجموعة الخامسة لتحذّر وتنذر، ثم جاءت المجموعة السادسة لتحدّثنا عن خصائص أخرى للقرآن، وتوصلنا إلى ضرورة الإيمان به، وبمن أنزل عليه، فإذ استقر هذا كله، وانتفت الصوارف عن السير، إلا أن يعوق عن السير رهبة أو رغبة، أو تهديد أو تخويف، أو غير ذلك، ومن ثمّ تأتي المجموعة السابعة لتعالج أمثال هذه القضايا ..

تفسير المجموعة السابعة

تفسير المجموعة السابعة أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أي: محمدا صلّى الله عليه وسلم أو كل من اتصف بصفة العبودية له سبحانه. قال ابن كثير: (يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكّل عليه) وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: المشركين يخوّفون الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويتوعّدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها معه دون الله، جهلا منهم، وضلالا، ودخل في ذلك كل تخويف بغير الله يخوّفه أحد عبدا من عباد الله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟ أي: أليس الله منيع الجانب، لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه؟! فإنه العزيز الذي لا أعزّ منه، ولا أشدّ انتقاما منه، ممّن كفر به وأشرك، وعاند رسوله صلّى الله عليه وسلم، وفي الآية وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين، بأنه ينتقم لهم منهم، وينصرهم عليهم، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ كائنا ما كان هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي: دافعات شدّته عنّي أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ كائنة ما كانت هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ أي: هي لا تستطيع شيئا من الأمر، وقد جاء هذا في سياق تخويفهم إيّاه بمن دون الله، فأمره أن يقررهم أولا بأن حالق العالم هو الله وحده، ثمّ يقول لهم بعد التقرير فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك؟ فلمّا أفحمهم قال الله تعالى قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا لمضرة أوثانكم وأصنامكم وآلهتكم عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ لأنّه وحده أهل لأن يتوكل عليه، توكّلنا عليك ربنا، ثمّ أمر الله عزّ وجلّ رسوله صلّى الله عليه وسلم الأمر الأخير في المقطع قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي: على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكّنتم منها، والمكانة والمكان بمعنى واحد، أي: اعملوا على طريقتكم وهذا تهديد ووعيد إِنِّي عامِلٌ أي: على مكانتي وطريقتي ومنهجي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي: يذله في الدنيا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي: دائم مستمر لا محيد له عنه، وذلك يوم القيامة، وفي الآية أمر بالتوعّد بكونه منصورا عليهم، غالبا عليهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم إذا أتاهم الخزى والعذاب فذاك عزّه وغلبته، من حيث إن الغلبة تتم له بعزّ عزيز، يعز أولياءه، ويذلّ أعداءه، وبهذا انتهى المقطع الأول.

كلمة في السياق: المجموعة السابعة وعلاقة المقطع الأول بالثاني

كلمة في السياق: [المجموعة السابعة وعلاقة المقطع الأول بالثاني] 1 - رأينا أنّ هذه المجموعة ثبّتت على الطريق من خلال الأمر بالتوكل، ومن خلال التعريف على الله، ومن خلال إعلان المفاصلة في المواقف، ومن خلال الإنذار والتبشير، وبهذا تمّ المقطع ليبدأ مقطع جديد، بدايته شبيهة ببداية المقطع السابق: لاحظ البدايتين: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. 2 - والصلة ظاهرة بين بداية المقطع الجديد، ونهاية المقطع السابق، فالمقطع السابق انتهى بقوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ فبعد أن أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول هذا الكلام، ذكّر رسوله صلّى الله عليه وسلم في الآية التالية بنعمته عليه بإنزال هذا الكتاب، وكونه حقا، وأن من اهتدى فقد نفع نفسه، ومن ضلّ فإنّما يضرّ نفسه، وأن مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم الإنذار فقط. 3 - إنّ التشابه بين بداية المقطع الثاني وبداية المقطع الأول ومقدمة السورة يشير إلى أن البداية الجديدة سيبدأ معها السياق الرئيسي للسورة سيره من جديد، وسنعرض المقطع الثاني بعد أن ننقل بعض الفوائد حول المجموعات الست الأخيرة: فوائد [حول المجموعات الستة من الثانية إلى السابعة]: 1 - [سبب نزول قوله تعالى وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها .. ] في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها .. قال ابن كثير: (قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها نزلت في زيد بن عمرة بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم، والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن، فهؤلاء هم

2 - حديث عن غرف الجنة بمناسبة آية .. لهم غرف ..

الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة). 2 - [حديث عن غرف الجنة بمناسبة آية .. لَهُمْ غُرَفٌ .. ] بمناسبة قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ قال ابن كثير: (أخبر عزّ وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفا في الجنة وهي القصور أي: الشاهقة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ طباق فوق طباق مبنيات محكمات، مزخرفات عاليات. روى عبد الله بن الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن في الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها» فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلم «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام» ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، وقال: حسن غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبل حفظه وروى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدّها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى والناس نيام» تفرّد به أحمد. وروى الإمام أحمد أيضا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في أفق السماء» قال: فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: «كما تراءون الكوكب الذي في الأفق الشرقي أو الغربي» أخرجاه في الصحيحين وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع في تفاضل أهل الدرجات» فقال يا رسول الله أولئك النبيون؟ فقال صلّى الله عليه وسلم «بلى والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل» ورواه الترمذي، وقال حسن صحيح. وروى الإمام أحمد عن أبي المدلة مولي أم المؤمنين رضي الله عنها أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قلنا يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد، قال صلّى الله عليه وسلم: «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم؛ ولو لم تذنبوا لجاء الله عزّ وجل بقوم يذنبون كي يغفر لهم» قلنا: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك الأزفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت. لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم

3 - كلام عن تأثر المؤمنين بالقرآن بمناسبة آية .. تقشعر منه جلود ..

تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السماوات، ويقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» وروى الترمذي وابن ماجه بعضه. 3 - [كلام عن تأثر المؤمنين بالقرآن بمناسبة آية .. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ .. ] بمناسبة قوله تعالى عن المؤمنين في وصف حالهم عند سماع القرآن: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال ابن كثير: (هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر من جلودهم من الخشية والخوف ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه: (أحدها) أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات (الثاني) أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم كما قال تبارك وتعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (الأنفال: 2 - 4) وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (الفرقان: 25) أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها، فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم (الثالث) أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة. قال عبد الرازق: حدثنا معمر قال: تلا قتادة رحمه الله تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عزّ وجل بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان). 4 - [كلام عن الموت والحساب بمناسبة آية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال ابن كثير: (هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق

رضي الله عنه عند موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، حتى تحقق للناس موته مع قوله عزّ وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ومعنى هذه الآية: أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزّ وجل، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق، وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحّدين، ويعذّب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين. ثمّ إن هذه الآية- وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة. روى ابن أبي حاتم رحمه الله عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير رضي الله عنه: يا رسول الله: أتكرّر علينا الخصومة؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم» قال رضي الله عنه: إن الأمر إذن لشديد. وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان وعنده زيادة: ولما نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (التكاثر: 8) قال الزبير رضي الله عنه: «أي رسول الله، أي نعيم نسأل عنه وإنما نعيمنا الأسودان: التمر والماء؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «أما إن ذلك سيكون» وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان به وقال الترمذي حسن، وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال صلّى الله عليه وسلم «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» قال الزبير رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد. وكذا رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أول خصمين يوم القيامة جاران» تفرد به أحمد، وروى أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا» تفرد به أحمد رحمه الله، وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان قال: «أتدري فيما ينتطحان يا أبا ذر؟» قلت: لا، قال صلّى الله عليه وسلم «لكن الله يدري وسيحكم بينهما» وروى الحافظ أبو بكر البزار: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة،

5 - الفرق في المعنى بين"الميت" و"الميت"

فتخاصمه الرعية فيفلحون عليه فيقال له: سد ركنا من أركان جهنم» ثم قال: الأغلب بن تميم ليس بالحافظ وهو من رجال الحديث. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ يقول: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر، وقد روى ابن مندة في كتاب الروح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة، حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سوّلت، فيبعث الله تعالى ملكا يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير، دخلا بستانا، فقال المقعد للضرير، إني أرى هاهنا ثمارا، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: اركبني فتناولها، فركبه فتناولها فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما، فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما، يعني أن الجسد للروح كالمطية، وهي راكبة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية وما نعلم في أي شيء نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال: قلنا من نخاصم؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، فمن نخاصم؟ حتى وقعت الفتنة، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا الذي وعدنا ربنا عزّ وجل نختصم فيه، ورواه النسائي. وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال: يعني أهل القبلة، وقال ابن زيد: يعني أهل الإسلام وأهل الكفر، وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم). 5 - [الفرق في المعنى بين «الميت» و «الميّت»] قال النّسفي في تبيان الفارق بين كلمتي (ميت) و (ميّت): قال الخليل أنشد أبو عمرو: وتسألني تفسير ميت وميّت … فدونك قد فسرت إن كنت تعقل فمن كان ذا روح فذلك ميّت … وما الميت إلا من إلى القبر يحمل فالميّت، من حاله أنه سيموت، والميت من حلّ به الموت. 6 - [كلام ابن كثير حول آية وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ .. ] رأينا أن قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو محمد صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ وهم المسلمون، إلا أن في الآية أقوالا أخرى، ذكرها ابن كثير فلنرها، قال ابن كثير: (قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو

7 - حديث بمناسبة قوله تعالى أليس الله بكاف عبده

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال السّدّي: هو جبريل عليه السلام وَصَدَّقَ بِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ قال: من جاء بلا إله إلا الله وَصَدَّقَ بِهِ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقرأ الربيع بن أنس والذين جاءوا بالصدق يعني: الأنبياء وصدقوا به يعني: الأتباع. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ قال أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون: هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا. وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به، والرسول صلّى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير، فإنه جاء بالصدق وصدّق المرسلين، وآمن بما أنزل من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ قال: المسلمون أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: اتقوا الشرك. 7 - [حديث بمناسبة قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ] بمناسبة قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به» ورواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: صحيح). 8 - [سبب نزول قوله تعالى وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ] في سبب نزول قوله تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ذكر النّسفي أن قريشا: قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لتكفنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنّك، فنزلت وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ .... 9 - [كلام عن صدق التوكل على الله بمناسبة آية قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ. قال ابن كثير: (وذكر ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس مرفوعا: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة؛ إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، جفت الصحف ورفعت الأقلام، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج

المقطع الثاني ويتألف من ثلاث مجموعات ويمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (75) أي: إلى نهاية السورة وهذا هو

مع الكرب، وأن مع اليسر يسرا» قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي: والله كافي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (هود: 54 - 56) وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما رفع الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عزّ وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجل». ولننتقل إلى المقطع الثاني. *** المقطع الثاني ويتألف من ثلاث مجموعات ويمتدّ من الآية (41) إلى نهاية الآية (75) أي: إلى نهاية السورة وهذا هو: المجموعة الأولى 39/ 41

39/ 42 - 52

المجموعة الثانية 39/ 53 - 61 المجموعة الثالثة 39/ 63 - 64

39/ 65 - 75

تفسير المجموعة الأولى

تفسير المجموعة الأولى إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي: القرآن لِلنَّاسِ أي: لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشّروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية، وقال ابن كثير (أي: لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به) أي: لأجل الناس ومصالحهم الدنيوية والأخروية بِالْحَقِّ الخالص الذي لا يخالطه باطل فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي: فإنّما يعود نفع ذلك إلى نفسه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي: إنما يرجع وبال ذلك على نفسه، قال النسفي: (أي: فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضّلالة فقد ضرّ) وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي: بحفيظ ثم أخبر تعالى بأنه الحفيظ القدير عليهم اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وتوفيها إماتتها: وهو أن يسلب ما هي به حيّة حسّاسة درّاكة وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي: يتوفّاها حين تنام، تشبيها للنائمين بالموتى حيث لا يتصرفون كما أنّ الموت كذلك. قال ابن كثير: (قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنّه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنّه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام) إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في توفي الأنفس مائتة ونائمة، وإمساكها أو إرسالها إلى أجل لَآياتٍ على قدرة الله وعلمه لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: يجيلون في ذلك أفكارهم ويعتبرون. كلمة في السياق: ما الصلة بين إنزال الكتاب على محمد صلّى الله عليه وسلم وبين توفي الأنفس؟ أي: الصلة بين الآية الأولى والآية الثانية في هذا المقطع؟ إن الآية الثانية بيّنت أنّ روح الإنسان في قبضة الله عزّ وجل، فهو يتوفّاها الوفاة الكبرى، ويتوفّاها الوفاة الصغرى، وهذا يقتضي من الإنسان أن يستجيب لأمر الله، ويهتدي بهداه الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، كما أن في ذكر الوفاة، وكونها بيد الله، تعزية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فإذا تنكّب أحد عن الهدى فإنّ الآية تذكّر بإحاطة الله عزّ وجلّ به، فإذا عرفنا الصلة بين الآيتين فلنتذكر الصلة بين الآية الأولى منهما وبين محور السورة، قال تعالى في سورة البقرة.

[سورة الزمر (39): آية 43]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وهاهنا قال تعالى مبيّنا الحكمة في إنزال الكتاب: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لكل الناس بِالْحَقِّ ثمّ بيّن أنّ نفع من اهتدى به عائد عليه، وضرر من ضلّ عنه عائد عليه، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ولذلك صلته بقوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وإذا تقررت هذه المعاني، تأتي الآن آية تبيّن كيف أنّ الكافرين قد أشركوا: أَمِ أي: بل اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي: آلهة تشفع لهم في زعمهم عند الله عزّ وجل والاستفهام للإنكار قُلْ يا محمد لهؤلاء الزاعمين ذلك أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً أي: أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئا قط وَلا يَعْقِلُونَ أي: ولا عقل لهم قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي: هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هذا تقرير لكون الشفاعة لله جميعا، لأنّه إذا كان له الملك كله، والشفاعة من الملك، كان مالكا لها ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له، فله ملك الدنيا والآخرة أي: فيحكم بينكم بعدله، ويجزي كلا بعمله. كلمة في السياق: ذكرت الآية الأولى أنّ الله عزّ وجل منزل الكتاب، وذكرت الآية الثانية أن الله عزّ وجل يتوفى الأنفس، ثم ذكرت الآية الثالثة موضوع اتخاذ المشركين آلهة مع الله لتشفع لهم- في زعمهم- عنده، فكأنّ السّياق يقول: إنه مع إنزال الكتاب، ومع كون أرواح الناس في قبضة الله فإنّ المشركين يشركون معه غيره مما لم ينزل به سلطانا ثم يأتي موقف آخر للكافرين وردّ عليه، فالمشرك لا يكتفي بأن يتخذ شريكا لله، بل إنّه يشمئز من ذكر اسم الله منفردا. وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي: إذا أفرد الله بالذكر، ولم تذكر معه آلهتهم

[سورة الزمر (39): آية 46]

اشْمَأَزَّتْ أي: نفرت وانقبضت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ دلّ على أنّ العلة هي الكفر باليوم الآخر وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: آلهتهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لافتتانهم بها. لاحظ موقفهم البشع، فهم في الغاية من السرور إذا ذكر غير الله، وفي غاية الانقباض إذا ذكر الله. قال النسفي: (ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه، فالاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه، والعامل في (إذا ذكر) هو العامل في إذا المفاجأة. تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار) وأمام هذا الموقف المغرق في الشرك والنفرة من التوحيد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول معلنا للحق، ومذكّرا وواعظا ومنذرا قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ أي: يا فاطر السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ أي: يا عالم الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: السّر والعلانية أَنْتَ تَحْكُمُ أي: تقضي بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الهدى والضلال، أي: أنت تفصل بينهم يوم معادهم، ونشورهم وقيامهم من قبورهم، ثمّ يحدّثنا الله عزّ وجل عن موقف الكافرين يوم الفصل، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ أي: لو أن لهم جميع ما في الأرض وضعفه معه لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: من شدّته وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي: وظهر لهم من الله من العذاب والنّكال بهم ما لم يكن في بالهم، ولا في حسابهم وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: سيئات أعمالهم التي كسبوها، أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم، وكانت خافية عليهم، أو عقاب ذلك. وقال ابن كثير: أي: وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم. وَحاقَ بِهِمْ أي: نزل بهم وأحاط ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: جزاء هزئهم، أي: وأحاط بهم من لعذاب والنّكال ما كانوا يستهزءون به في الدار الدنيا. كلمة في السياق: رأينا في الآيات الأخيرة موقفا آخر للمشركين من قضية التوحيد، ورأينا ما هو الموقف المكافئ لهذا الموقف، ثمّ يعرض الله عزّ وجل علينا موقفا ثالثا للكافرين، وردّ عليه، هذا الموقف هو إنكار الكافرين أن يكون ما بهم من نعمة من الله، مع أنهم في أيام الشدة لا يدعون إلّا الله.

[سورة الزمر (39): آية 49]

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا أي: تضرّع إلينا لنكشف عنه ضرّه، وهذا اعتراف منه بأنّ النعم من الله ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أي: أعطيناه تفضّلا نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أي: على علم مني بوجوه الكسب والعمل والحركة بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنها فتنة، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدّعون ما يدّعون قَدْ قالَهَا أي: قد قال هذه المقالة وهي قولة إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كقارون مثلا إذ قال: (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا وما يجمعون منها فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: جزاء سيئات كسبهم وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ أي: والذين أشركوا من هذه الأمّة سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين من عذاب الله أَوَلَمْ يَعْلَمُوا عن طريق ما يشاهدونه أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: ويضيّق إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأنّه لا قابض ولا باسط إلّا الله عزّ وجل، أما الكافرون فإنّهم عمي عن رؤية الآيات، وبهذا بينت الآيات تناقض الكافرين، وأقامت عليهم الحجة، فهم في حال الشدة يؤمنون بأنّ النعم بيد الله، فإذا أصبحوا في نعمة أنكروا أن يكون مصدر النعمة هو الله، بل نسبوها لأنفسهم، مع أنّ نظرة صحيحة لموضوع بسط الرزق وقبضه تدلّ على أن الله وحده هو المنعم، وفي سياق ذلك أنذرهم الله عزّ وجلّ العذاب، مبيّنا أنّ عدم اعتراف الإنسان بالنّعمة، وأنّها من عند الله، يستحقّ بسببه عذاب الاستئصال. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من المقطع الثاني. نقل: [عن صاحب الظلال حول آية فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا. ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا، قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قال صاحب الظلال: (والآية تصور نموذجا مكررا للإنسان، ما لم تهتد فطرته إلى الحق، وترجع إلى ربها الواحد، وتعرف الطريق إليه، فلا تضل عنه في السراء والضراء.

ملاحظات حول السياق

إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود. فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده. حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء. نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء. وقال عن النعمة والرزق والفضل: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ .. قالها قارون، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان. غافلا عن مصدر النعمة، وواهب العلم والقدرة، ومسبب الأسباب، ومقدّر الأرزاق. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ هي فتنة للاختبار والامتحان. ليتبين إن كان سيشكر أو سيكفر؛ وإن كان سيصلح بها أم سيفسد؛ وإن كان سيعرف الطريق أم يجنح إلى الضلال. والقرآن- رحمة بالعباد- يكشف لهم عن السر، وينبهم إلى الخطر، ويحذرهم الفتنة. فلا حجة لهم ولا عذر بعد هذا البيان. وهو يلمس قلوبهم بعرض مصارع الغابرين قبلهم. مصارعهم بمثل هذه الكلمة الضالة التي يقولها قائلهم: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ... هي ذاتها هذه الكلمة الضالة قالها الذين من قبلهم، فانتهت بهم إلى السوء والوبال. ولم يغن عنهم علمهم ولا مالهم ولا قوتهم شيئا. وهؤلاء سيصيبهم ما أصاب الغابرين. فسنّة الله لا تتبدّل وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. فالله لا يعجزه خلقه الضعاف المهازيل!. فأما ما أعطاهم الله من نعمة، وما وهبهم من رزق، فإنه يتبع إرادة الله وفق حكمته وتقديره في بسط الرزق وقبضه، ليبتلي عباده، ولينفذ مشيئته كما يريد: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فلا يجعلوا آيات الله سببا في الكفر والضلال .. وهي جاءت للهدى والإيمان .. ). ملاحظات حول السياق: 1 - [إبراز التشابه بين المجموعة الأولى من كلا المقطعين] لاحظنا أن المجموعة الأولى في المقطع الأول: بدأت بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا

2 - عرض عام لمسار السورة وعلاقة ذلك بالمحور

إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ثم تحدثت عن اتخاذ المشركين شركاء ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ثم حدثنا السياق عن الله عزّ وجل وعن شكره، ثم حدثنا عن موقف الكافر عند الشدة وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ .. ثم جاءت مجموعة مبدوءة بقوله تعالى قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... ونلاحظ أن المجموعة الأولى في المقطع الثاني بدأت بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ .. ثم حدثتنا عن اتخاذ المشركين آلهة ليشفعوا لهم ... أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ .. ثمّ وثمّ حتى حدثتنا عن موقف الكافر عند الشدة، وكفره عند الرخاء فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا ... ثم تأتي الآن مجموعة مبدوءة بقوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ .... هذا التشابه الكبير بين المجموعة الأولى والثانية في المقطع الأول، وبين المجموعة الأولى والثانية في المقطع الثاني، يذكّرنا بقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ... إنك تلاحظ التشابه الواضح، وتلاحظ تثنية المعاني، وتلاحظ أن ذلك عرض على أعظم ما يكون البيان، وأحسن ما يكون الكلم، وكل ذلك في صيغة تبشير وإنذار، تقشعر منها الجلود ثم تلين، وهذا كله يتأدّى دون أن تحسّ بملل لرؤيتك التجديد والجديد كلما سرت في السورة، ومن ثم فإنك تجد كيف أنّ السورة يخدم بعضها بعضا بأشكال متعددة، وبشكل لا يمكن الإحاطة به، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز الكبير في هذا القرآن، ودليل على أنّ القرآن من عند الله. 2 - [عرض عام لمسار السورة وعلاقة ذلك بالمحور] من التشابه بين المقطعين تستطيع أن تدرك مسار السورة، فالسورة تحدّثنا عن تنزيل هذا القرآن، وهذا يقتضي عبادة لله، والعبادة تقتضي معرفة لله وعملا، وقد عرفنا الله عزّ وجل في المقطع الأول على ذاته، ودلّنا على طريق العمل، وأقام الحجة على الجاحدين والجاهلين والمشركين. وجاء المقطع الثاني ليكمّل المسار، فيقرر تنزيل الله هذا القرآن، ثم يعرفنا على الله عزّ وجل، ثمّ يبيّن ضلال المشركين في شأن الألوهية، ثم يبين لنا ما ينبغي فعله، وهكذا ما بين التعريف بالله عزّ وجل، والتعريف على العمل، وتبيان المآل، نرى السياق يسير، وكل ذلك بما يخدم محور السورة من سورة البقرة

تفسير المجموعة الثانية

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إذ إنّ أوّل ما يقدّمه القرآن في باب الهداية هو الهداية إلى معرفة الله، والتعريف على طريق عبادته. فلنر المجموعة الثانية في المقطع الثاني التي تفتح باب التوبة، والرّجوع إلى الله. تفسير المجموعة الثانية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها لا تَقْنَطُوا أي: لا تيأسوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً بالعفو عنها إلا الشرك إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ يستر عظائم الذنوب الرَّحِيمُ بكشف فظائع الكروب، قال ابن كثير: (هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة؛ لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه). وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي: وارجعوا إليه، أي: وتوبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ أي: واستسلموا له بالانقياد لشرعه، والتسليم لقدره مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب، أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن أو عزائم القرآن مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي: من قبل أن يفجأكم العذاب وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم من حيث لا تعلمون ولا تشعرون أَنْ تَقُولَ لئلا تقول نَفْسٌ من الأنفس يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ أي: على ما قصّرت فِي جَنْبِ اللَّهِ أي: في أمر الله، أو في طاعة الله، أو في ذاته، أو في طريقه: وهو توحيده والإقرار بنبوّة محمد صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ كُنْتُ أي: وإنه كنت لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي: المستهزئين قال قتادة لم يكفه أن ضيّع طاعة الله حتى سخر من أهلها، وتقدير الكلام فرّطت في حال سخريتي أَوْ تَقُولَ يوم القيامة لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي: أعطاني الهداية لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي: من الذين يتقون الشرك أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي: رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي: من الموحّدين، أي: تودّ لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. ولمّا عرض الله علينا ما يتمنّاه أهل الجرائم من العود إلى الدنيا ردّ عليهم فقال: بَلى قَدْ

[سورة الزمر (39): آية 60]

جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قال ابن كثير: (أي: قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي في الدار الدنيا، وقامت حججي عليك فكذّبت بها، واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها). وقال النسفي: (كأنه يقول: بلى قد جاءتك آياتي وبيّنت لك الهداية من الغواية وسبيل الحق من الباطل، ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية، واختيار الحق على الباطل، ولكن تركت ذلك وضيّعته، واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضدّ ما أمرت به، فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك) وبعد هذا الرد يعود السياق ليعرض علينا الحال يوم القيامة، لنتدارك أمرنا في الدنيا، ونكون من المتقين وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ أي: وصفوه بما لا يجوز عليه من إضافة الشريك والولد إليه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أي: بكذبهم وافترائهم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي: منزل لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي: أليست جهنم كافية لهم سجنا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان بسبب تكبّرهم وتجبّرهم، وإبائهم عن الانقياد إلى الحق، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ أي: بفلاحهم، أي: بما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله، ثمّ فسّر فوزهم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي: النار يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، بل هم آمنون من كل فزع، مزحزحون عن كل شر، نائلون كل خير. نقل: [عن صاحب الظلال بمناسبة آية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا .. ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قال صاحب الظلال: (إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية كائنة ما كانت، وإنها الدعوة للأوبة، دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال. دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم. ويعلم العوامل المسلّطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه. ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد. ويأخذ عليهم كل طريق. ويجلب عليهم بخيله ورجله. وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه. وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده. وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن

كلمة في السياق

شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم .. يعلم الله- سبحانه- عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط. وبعد أن يلج في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل. في هذه اللحظة- لحظة اليأس والقنوط- يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وليس بينه- وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق- ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. الإنابة. والإسلام. والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام .. هذا هو كل شيء. بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء!. إنه حساب مباشر بين العبد والرب. وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق. من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب. ومن أراد الإنابة من الضالين فلينب. ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم. وليأت. ليأت وليدخل فالباب مفتوح. والفئ والظل والندى والرخاء. كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب!). كلمة في السياق: 1 - [الصلة بين المجموعة الثانية من المقطع الثاني وبين المقطع الأول] يلاحظ أن هذه المجموعة تبنى على معان موجودة في المقطع الأول وتكمّلها،

2 - لخصت هذه المجموعة ما ينبغي أن يكون عليه المهتدون

بل نلاحظ أن في هذه المجموعة ما يقابل أشياء موجودة في المقطع الأول، مما يؤكد ما ذكرناه من ملاحظات حول السياق بعد المجموعة الأولى من هذا المقطع، فمثلا في أواخر المقطع السابق ورد قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ، إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وهاهنا يرد قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وهناك يرد قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وهاهنا يرد قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ .. وفي المقطع الأول يرد قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وهاهنا يرد قوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فالمقطع الثاني يكمّل المقطع الأول. 2 - [لخصت هذه المجموعة ما ينبغي أن يكون عليه المهتدون] لخّصت هذه المجموعة ما ينبغي أن يكون عليه المهتدون: من توبة، وإنابة، وإسلام لله، واتباع للقرآن، وإحسان وتقوى، وتجنّب لليأس من رحمة الله، وتجنّب للتفريط أو للسخرية بشرع الله وأهله أو للكبر، وهي معان تدخل في معنى العبادة، وهي أثر من آثار معرفة الله عزّ وجل. 3 - [الصلة بين هذه المجموعة وسورة آل عمران] نلاحظ أنّ سورة آل عمران فصّلت في الآيات الأولى من سورة البقرة، وقد ورد فيها قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ والملاحظ أنه قد مرّ معنا في هذه المجموعة قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ والصلة واضحة. 4 - [المجموعة الثالثة وصلتها بما قبلها] ونلاحظ أن مجموعة جديدة ستأتي على صلة وثيقة جدا ببداية المقطع، فقد بدأ المقطع بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. ثمّ تأتي مجموعة مبدوءة بقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فالصلة واضحة، أنت يا محمد لست عليهم بوكيل، ولكن الله على كل شئ وكيل، فكأن المجموعتين السابقتين وضحتا معاني موجودة في الآية الأولى من المقطع، ثم تأتي المجموعة الجديدة فتوضح كذلك بشكل مباشر شيئا موجودا في هذه الآية فلنر تفصيل ذلك:

تفسير المجموعة الثالثة

الآية الأولى هي: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. وقد جاء مباشرة بعد هذه الآية قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ .. وسار السياق حتى المجموعة الثالثة وهي مبدوءة بلفظ الجلالة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فكأن المقطع الثاني مؤلّف من مقدمة وجولتين، كل منهما مبدوءة بلفظ الجلالة (الله) (الله). وإذا تأمّلنا مجموعتي الجولة الأولى نلاحظ أنّها تفصّل في كون الله هو الوكيل، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم ليس وكيلا، وتفصّل كيف أنّ من اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فعليها، وتذكر مظاهر من الهداية، ومظاهر من الضلال، فإذا جاءت الجولة الجديدة فإنّها تفصّل في كون الله هو الوكيل بما يخدم الموضوع الرئيسي وهو تنزيل الكتاب، ووجوب اهتداء الإنسان به. فلنر الجولة الثانية في المقطع الثاني وهي تستمر حتى نهاية السورة وهي المجموعة الثالثة في المقطع الثاني. تفسير المجموعة الثالثة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فالذي يخلق كل شئ هو الذي على كل شئ وكيل، أي: حافظ ومراقب، ومن ثمّ فإنّه هو الذي يتولى أمر من يخالف الكتاب الذي أنزله، ومن ثم قال: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: مفاتيح السموات والأرض، أي: هو مالك أمرهما وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ التي أنزلها على رسوله صلّى الله عليه وسلم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في الدنيا والآخرة. كلمة في السياق: [تؤكد صلة هذه المجموعة ببداية المقطع] إن ختم الآيتين السابقتين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ

[سورة الزمر (39): آية 64]

الْخاسِرُونَ دليل على ما ذكرناه من كون السياق هنا يفصّل ما سبق ذكره في مقدمة المقطع، من أن الله هو الوكيل، وأنّ ذلك مرتبط بموضوع موقف الإنسان من كتاب الله، وإذا تقرّر أنّ الله عزّ وجلّ هو منزل الكتاب، وأنّه هو الوكيل، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم ليس وكيلا، فالسّياق الآن يتوجه آمرا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول للجاهلين الذين لم يهتدوا بهدي الله: قُلْ يا محمد أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أي: أفغير الله أعبد بأمركم بعد هذا البيان أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بتوحيد الله؟. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الذي عملته قبل الشرك وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ قال النسفي: (وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون؛ لأن الخطاب للنبي عليه السلام والمراد به غيره، ولأنه على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها، وقيل لئن طالعت غيري في السر ليحبطن ما بيني وبينك من السر. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ هذا رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم، كأنّه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل فاعبد الله وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم به عليك وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: وما عظّموه حقّ تعظيمه، إذ دعوك لعبادة غيره، ورفضوا الاهتداء بكتابه، ثمّ نبّههم على عظمته، وجلال شأنه فقال: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً أي: والأرضون السبع كلها قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والقبضة بالمرّة من القبض، يعني أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ والطّيّ ضدّ النّشر كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ* أي: ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عمّا يضاف إليه من الشركاء.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: عرفنا ممّا مر أن الله وحده هو الوكيل؛ ولأنّه هو الخالق، ولأنّه هو المالك، ولأن الأرضين قبضته يوم القيامة، والسّماوات مطويات بيمينه يوم القيامة، ومن ثمّ فإنّه وحده المستحق للعبادة، والمستحق للشكر، وأنّ من يشرك به خاسر وحابط عمله، وكون الله عزّ وجل هو الوكيل فإنه سيحاسب من رفض هدايته ورفض كتابه، ومن ثمّ تبدأ المجموعة تعرض لنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة، تذكر فيه كيف سيفعل الله عزّ وجل بالمتقين الذين اهتدوا بكتابه، والكافرين الذين رفضوا كتابه. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ أي: مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال النسفي: (أي: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل هم حملة العرش، أو رضوان والحور العين ومالك والزبانية) وسنرى تحقيق هذا الموضوع في الفوائد، وسنرى في سورة المؤمن القادمة تفصيلا آخر ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى أي: ثم نفخ في الصور نفخة أخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ قال النسفي: (يقلبون أبصارهم في الجهات، نظر المبهوت إذا فاجأه خطب، أو ينظرون أمر الله فيهم، ودلت الآية على أن هناك نفختين: الأولى للموت، والثانية للبعث، والجمهور على أنها ثلاث: الأولى للفزع، كما قال تعالى: يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ والثانية للموت والثالثة للإعادة). وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي: وأضاءت، وهل المراد بالنور العدل، أو المراد نور يخلقه الله عزّ وجل يوم القيامة، وأضافه إلى ذاته تشريفا لإضاءة الأرض؟، قولان للمفسرين. قال ابن كثير: (أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلّى الحقّ جلّ وعلا للخلائق لفصل القضاء وَوُضِعَ الْكِتابُ أي: كتاب الأعمال وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة، وما أجابهم قومهم وَالشُّهَداءِ أي: الحفظة من الملائكة وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بين العباد بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي: جزاءه وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ من غير كتاب ولا شاهد وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي: أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض

[سورة الزمر (39): آية 72]

حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها السبعة قال ابن كثير: (أي: بمجرد وصولهم إليها فتحت أبوابها سريعا، لتعجّل لهم العقوبة، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أي: قال لهم خزنتها من الزبانية الذين هم غلاظ الأخلاق، شداد القوى، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي: من جنسكم تتمكّنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ أي: وحيه، ويقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: ويحذرونكم وقت دخولكم النار، قالُوا أي: الكفار للخزنة بَلى قد جاءونا وتلوا علينا آيات ربنا وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: ولكن وجبت علينا كلمة الله بأن يملأ جهنم، ذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: ماكثين فيها لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم، أي: فبئس المصير وبئس المقيل لكم، بسبب تكبركم في الدنيا، وإبائكم عن اتّباع الحق، فهو الذي صيّركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال، وبئس المآل، ومن القائل لهم هذا؟ قال ابن كثير: (لم يسند هذا القول إلى قائل معيّن، بل أطلقه ليدلّ على أنّ الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً قال النسفي: المراد سوق مراكبهم، لأنّه لا يذهب بهم إلا راكبين إلى دار الكرامة والرضوان، قال ابن كثير: (وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة زُمَراً أي: جماعة بعد جماعة: المقرّبون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضا). حَتَّى إِذا جاؤُها أي: وصلوا إلى أبواب الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ من دنس المعاصي، وطهّرتم من خبث الخطايا، وقال الزّجاج: أي: كنتم طيبين في الدنيا، ولم تكونوا خبيثين فَادْخُلُوها خالِدِينَ أشعرت الآية أن دخول الجنة مسبّب عن الطيب والطّهارة، لأنّها دار الطيبين، ومثوى الطاهرين، قد طهّرها الله من كل دنس، وطيّبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها، موصوف بصفتها وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي: أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعم العقبى وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي: أرض الجنة، وقد أورثوها أي:

[سورة الزمر (39): آية 75]

ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرّفهم فيها كما يشاءون، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، واتساعه فيه نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوّأ أي: فيتخذ مبوّأ ومقرا من جنته حيث يشاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنّة وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي: محدقين من حوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بين الأنبياء والأمم، أو بين أهل الجنة والنار بِالْحَقِّ أي: بالعدل وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال النسفي: أي: يقول أهل الجنة شكرا حين دخولها وتمّ وعد الله لهم كما قال: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. كلمة في المجموعة الأخيرة والمقطع: 1 - إن المجموعة الأخيرة أرتنا كيف أن الله عزّ وجل الذي أنزل هذا القرآن هو الوكيل، وأرتنا ما هي عاقبة الذين صدّقوا بالكتاب واهتدوا به، وعاقبة الذين كذّبوا بالكتاب، ومن ثم رأينا كيف كان خطاب الملائكة لأهل النار أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ... وهذا يدلنا على الصلة بين المجموعة الأخيرة وبداية المقطع، وبين المجموعة وسياق السورة كلها. 2 - نلاحظ أنّ المجموعة الأخيرة أكملت بناء الأمر بالعبادة في السورة، ففي المقطع الأول ورد قوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ... قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ... وفي هذا المقطع ورد قوله تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ* وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ* بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وهكذا نجد كلا من المقطعين في السورة يكمّل الآخر. 3 - نلاحظ أنّ المقطع الأخير قد بين أن الله عزّ وجل الذي أنزل هذا القرآن هو الذي يتولّى أمر عقاب المنحرفين عن دينه وكتابه في الدنيا والآخرة وما على الرسول إلا أن يطيع الله فيما أمره به.

فوائد حول المقطع الثاني

فوائد [حول المقطع الثاني]: 1 - [كلام عن الوفاة الصغرى والكبرى بمناسبة آية اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ... ] في قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال ابن كثير: (قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان. والوفاة الصغرى عند المنام كما قال تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (الأنعام: 60، 61) فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ولهذا قال تبارك وتعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فيه دلالة على أنها تجتمع في الملإ الأعلى إذا ماتت، كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن مندة وغيره. وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين». وقال بعض السلف: يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف). وقال النسفي في الآية: (وقالوا: التي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النّفس، والنائم يتنفّس، ولكل إنسان نفسان: إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: في ابن آدم نفس وروح، بينهما شعاع مثل شعاع النفس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، وعن علي رضي الله عنه قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، وعنه: ما رأت نفس النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت بعد الإرسال فيلقنها الشيطان فهي كاذبة، وعن سعيد بن

2 - كلام المؤلف حول تحديد سبب إعراض الكافرين بمناسبة آية وإذا ذكر الله وحده ..

جبير أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليه الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها، وروي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم في السماء، فمن كان منهم طاهرا أذن له في السجود، ومن لم يكن منهم طاهرا لم يؤذن له فيه). 2 - [كلام المؤلف حول تحديد سبب إعراض الكافرين بمناسبة آية وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أقول: إن العلة الكبرى في المواقف الخاطئة هي انعدام أو نقص الإيمان باليوم الآخر، فهو الذي ينبع عنه ما ينبع، ومن ذلك هذا الاشمئزاز الذي يقابل به الكافرون ذكر اسم الله وحده، وهو داء استشرى في عصرنا، فإنك إذا ذكرت أن الشفاء بيد الله، والنصر بيد الله، أو غير ذلك من الكلام الذي هو توحيد محض، رأيت الاشمئزاز يعلو وجوه كثيرين، وإذا ذكرت عالم الأسباب وتأثيرات الأسباب تستبشر القلوب المنكرة، والوجوه، ومن ثم فإن على الدعاة إلى الله أن يحيوا قضية الإيمان باليوم الآخر بأن يدلّلوا، ويعظوا، ويذكّروا، والله الموفق. 3 - [ذكر لبعض الأدعية المأثورة بمناسبة آية قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قال النسفي: (وعن ابن المسيب: لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها) وقال ابن كثير: (روى مسلم في صحيحه: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل، قالت رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قال: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، إلا قال الله عزّ وجل لملائكته يوم القيامة: إن عبدي قد عهد إلي عهدا فأوفوه إياه فيدخله الله الجنة» وروى الإمام أحمد عن يحيى بن عبد الله أن أبا عبد الرحمن حدثه قال: أخرج لنا عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قرطاسا وقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلمنا نقول: «اللهم فاطر

4 - كلام ابن كثير بمناسبة آية قل يا عبادي الذين أسرفوا .. وسبب نزولها

السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء، وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما أو أجرّه إلى مسلم». قال أبو عبد الرحمن رضي الله عنه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام، تفرد به أحمد أيضا. وروى الإمام أحمد عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت له: حدّثنا ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فألقى بين يدي صحيفة، فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنظرت فيها فإذا فيها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه إلى مسلم» ورواه الترمذي وقال: حسن غريب من هذا الوجه. وروى الإمام أحمد عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي من الليل: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .... 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا .. وسبب نزولها] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قال ابن كثير: (روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ (الفرقان: 68) ونزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي. والمراد من الآية الأولى قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآية، وروى الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآية» فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «ألا ومن أشرك» - ثلاث مرات- تفرد به الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم

شيخ كبير يدعم على عصا له فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات فهل يغفر لي؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى وأشهد أنك رسول الله، فقال صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم «قد غفر لك غدراتك وفجراتك» تفرد به أحمد. وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقرأ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وسمعته صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ورواه أبو داود والترمذي من حديث ثابت، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، لا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت فإن باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ (التوبة: 104) وقال عزّ وجل وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (النساء: 110) وقال جل وعلا في حق المنافقين: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا (النساء: 145، 146) وقال جل جلاله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (المائدة: 73) ثم قال جلت عظمته: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا (البروج: 10) قال الحسن البصري رحمة الله عليه: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذا كثيرة جدا. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم ندم، وسأل عابدا من عباد بني اسرائيل هل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالما من علمائهم هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها، فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله عزّ وجل أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عند الموت، وأن الله تبارك وتعالى أمر البلدة الخيّرة أن تقترب، وأمر تلك البلدة أن تتباعد، هذا معنى الحديث وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في

فصل: في ذكر أحاديث فيها نفي القنوط

قوله عزّ وجل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إلى آخر الآية، قال: قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزيزا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولا من هؤلاء؛ من قال أنا ربكم الأعلى وقال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزّ وجل، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد ابن شكل أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وإن أكثر آية في القرآن فرحا في سورة الغرف قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فقال له مسروق: صدقت، وقال الأعمش: عن أبي سعيد عن أبي الكنود قال: مرّ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه على قاص وهو يذكر الناس فقال: يا مذكر لم تقنط الناس من رحمة الله؟ ثم قرأ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ رواه ابن أبي حاتم رحمه الله. فصل: في ذكر أحاديث فيها نفي القنوط: روى الإمام أحمد عن حسن السدوسي قال: دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزّ وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم» تفرد به أحمد. وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت منكم شيئا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول «لولا أنكم تذنبون لخلق الله عزّ وجل قوما يذنبون فيغفر لهم» هكذا رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما

قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كفارة الذنب الندامة» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم» تفرد به أحمد. وروى عبد الله بن الإمام أحمد عن محمد بن الحنفية عن أبيه على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب» ولم يخرجوه من هذا الوجه. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال «إن إبليس لعنه الله تعالى قال: يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم، وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك، قال: فأنت مسلط، قال: يا رب زدني، قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله، قال: يا رب زدني، قال: أجعل صدورهم مساكن لكم وتجرون منهم مجرى الدم، قال: يا رب زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فقال آدم عليه الصلاة والسلام: يا رب قد سلّطته علي وإني لا أمتنع إلا بك، قال تبارك وتعالى: لا يولد لك ولد إلا وكّلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال: يا رب زدني، قال: الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو أمحوها، قال: يا رب زدني، قال: باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد، قال: يا رب زدني، قال: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وقال محمد بن إسحاق: قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال: وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم، قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، قال: فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه قال: فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوي، أصعد بها فيه وأصوّب ولا أفهمها، حتى قلت اللهم أفهمنيها، قال: فألقى الله عزّ وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة).

5 - سبب نزول آية قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون

5 - [سبب نزول آية قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ] في سبب نزوله قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ قال ابن كثير: (ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ؟. 6 - [كلام عن عظمة قدرة الله بمناسبة قوله تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .. ] من قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ قال ابن كثير: يقول تبارك وتعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شئ المالك لكل شئ وكل شئ تحت قهره وقدرته، قال مجاهد: نزلت في قريش، وقال السّدّي ما عظموه حق تعظيمه، وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شئ قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره، وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال البخاري: قوله تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عزّ وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الخبر ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية ورواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من صحيحه والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه. وروى الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع؟ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: وأنزل الله عزّ وجل وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى آخر الآية، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر يهودي برسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى السماء

على ذه- وأشار بالسبابة- والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه- كل ذلك يشير بأصابعه- قال: فأنزل الله عزّ وجل وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية، وكذا رواه الترمذي في التفسير، وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه: البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر. وروى البخاري في موضع آخر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك» تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر، وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول عن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر «يمجد الرب نفسه أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز أنا الكريم» فرجف برسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به، وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه، ولفظ مسلم عن عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكي النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله تبارك وتعالى سماواته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شئ منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلّى الله عليه وسلم؟. وروى البزار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حتى بلغ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فقال المنبر هكذا، فجاء وذهب ثلاث مرات والله أعلم. ورواه الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال: صحيح. وروى الطبراني في المعجم الكبير عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنفر من أصحابه رضي الله عنهم «إني قارئ عليكم آية من آخر سورة الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة» فقرأها صلّى الله عليه وسلم من عند وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى آخر السورة فمنا من بكى، ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا: يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك، فقال صلّى الله عليه وسلم «إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك» هذا حديث غريب

7 - كلام عن النفخ في الصور بمناسبة آية ونفخ في الصور ..

جدا وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضا عن الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله تعالى يقول: ثلاث غيبتهن عن عبادي لو رآهنّ رجل ما عمل بسوء أبدا: لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن، ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم، وقبضت السموات بيدي، ثم قبضت الأرضين ثم قلت: أنا الملك من ذا الذي له الملك دوني، فأريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير، فيستيقنوها، وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر، فيستيقنوها، ولكن عمدا غيبت ذلك عنهم، لأعلم كيف يعملون وقد بينته لهم» وهذا إسناد متقارب وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة، والله أعلم. 7 - [كلام عن النفخ في الصور بمناسبة آية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ .. ] عند قوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال ابن كثير: (هذه النفخة هي الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله كما جاء مصرحا به مفسرا في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة والبقاء ويقول لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ثلاث مرات ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أنا الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شيء، وحكمت بالفناء على كل شئ، ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثالثة: نفخة البعث، قال الله عزّ وجل ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي: أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا، صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ* فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (النازعات: 13، 14) وقال عزّ وجل: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 52) وقال جل وعلا وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (الروم: 25) روى الإمام أحمد عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال: سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنك تقول الساعة تقوم إلى كذا وكذا، قال: لقد هممت أن لا أحدثكم شيئا، إنما قلت: سترون بعد قليل أمرا عظيما، ثم قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي، فيمكث فيهم أربعين، لا أدري أربعين يوما، أو أربعين شهرا، أو أربعين عاما، أو أربعين ليلة، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيظهر فيهلكه الله تعالى، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله تعالى ريحا

8 - كلام عن كيفية استقبال أهل الجنة بمناسبة آية وسيق الذين اتقوا ..

باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، حتى أن لو كان أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه» قال: سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، قال: فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون، فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل الله تعالى، أو ينزل الله عزّ وجل مطرا كأنه الظل- أو الطل شك نعمان- فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ- قال- ثم يقال أخرجوا بعث النار، فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فيومئذ تبعث الولدان شيبا، ويومئذ يكشف عن ساق» انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه (حديث أبي هريرة رضي الله عنه) وروى البخاري عن أبي صالح قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما بين النفختين أربعون» قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال رضي الله تعالى عنه: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت ويبلى كل شئ من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق). 8 - [كلام عن كيفية استقبال أهل الجنة بمناسبة آية وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا .. ] عند قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قال ابن كثير: «وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول، فيقصدون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا صلّى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، كما فعلوا في العرصات عند استشفاعهم إلى الله عزّ وجل أن يأتي لفصل القضاء، ليظهر شرف محمد صلّى الله عليه وسلم على سائر البشر في المواطن كلها. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ لمسلم «وأنا أول من يقرع باب الجنة». وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة أستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد- قال- فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» ورواه مسلم عن أنس رضي الله عنه به. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أول

زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون فيها، ولا يتغوّطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا» ورواه البخاري ومسلم. وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء» وأخرجاه أيضا من حديث جرير، وروى الزهري: عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفا تضئ وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر» فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال «اللهم اجعله منهم» ثم قام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فقال صلّى الله عليه وسلم «سبقك بها عكاشة» أخرجاه وقد روى هذا الحديث في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وابن مسعود ورفاعة بن عرابة الجهني وأم قيس بنت محصن رضي الله عنهم، ولهما عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف، آخذ بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «وعدني ربي عزّ وجل أن يدخل في الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي عزّ وجل» ورواه الطبراني. عن عيينة بن عبد السلمى «ثم مع كل ألف سبعين ألفا» ويروى مثله عن ثوبان وأبي سعيد الأنماري وله شواهد من وجوه كثيرة وقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ لم يذكر الجواب هاهنا، وتقديره: حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراما وتعظيما، وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء، كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب

فصل: في ذكر سعة أبواب الجنة وبعض ما أعد الله فيها

والتأنيب، فتقديره: إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم، وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل، ومن زعم أن الواو في قوله تبارك وتعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها واو الثمانية واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع، وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان» فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم وأرجو أن تكون منهم» رواه البخاري ومسلم من حديث الزهري ينحوه وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب» باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون». وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» وروى الحسن بن عرفة عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مفتاح الجنة لا إله إلا الله». فصل: في ذكر سعة أبواب الجنة وبعض ما أعد الله فيها: في الصحيحين من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل «فيقول الله تعالى: يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر- وفي رواية- مكة وبصرى». وفي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها: ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، وفي المسند عن حكيم ابن معاوية عن أبيه رضي الله

عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثله، وروى عبد بن حميد عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة». وقوله تبارك وتعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ أي: طابت أعمالكم وأقوالكم، وطاب سعيكم، وطاب جزاؤكم كما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات «إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة- وفي رواية- مؤمنة» وقوله فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي: ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي: يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يقولون عند ذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي: الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (آل عمران: 194) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ (سورة الأعراف: 43) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (سورة فاطر: 34، 35) وقولهم وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. قال أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وابن زيد: أي: أرض الجنة، فهذه الآية كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: 105) ولهذا قالوا نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: أين شئنا حللنا، فنعم الأجر أجرنا على عملنا. وفي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك». وروى عبد بن حميد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة فقال: در مكة بيضاء مسك خالص فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صدق». ورواه مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن ابن صائد سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال «در مكة بيضاء مسك خالص». وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً قال: سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم تغير أبشارهم بعدها أبدا، ولم تشعث أشعارهم أبدا بعدها كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما

كلمة أخيرة في سورة الزمر

أمروا بها فشربوا منها فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة، أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا، قال: وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين فيقول: هذا فلان باسمه في الدنيا فيقلن: أنت رأيته؟ فيقول: نعم فيستخفهن الفرح، ثم يخرج إلى أسكفة الباب، قال: فيجئ فإذا هو بنمارق مصفوفة، وأكواب موضوعة، وزرابي مبثوثة، قال: ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض، ومن كل لون، ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله تعالى قدر له أن لا يذهب ببصره إنه لمثل البرق، ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه ثم يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ. 9 - لاحظ أنه لما كان الحديث عن أهل النار قال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها بدون واو قبل (فتحت) بينما قال في أهل الجنة: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بواو قبل (فتحت) فما السر في ذلك؟ علل النسفي لذلك بقوله: (إن أبواب النار لا تفتح إلّا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فتقدم فتحها كقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ فلذلك جيئت بالواو، كأنه قال حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها) وقد رأينا ردّ ابن كثير على من زعم أن هذه الواو تسمّى واو الثمانية. وبهذا ينتهي ما أردنا نقله من فوائد المقطع الأخير، وقد آن أن نتكلم كلمة أخيرة عن السورة. كلمة أخيرة في سورة الزمر: بدأت السورة بقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقد كانت السورة مجلى لعزة الله وحكمته، فرأينا آثار عزّة الله في الكلام عن خلقه وعظمته، وفعله بالكافرين والمكذّبين والمستكبرين في الدنيا والآخرة، ورأينا آثار عزته بأمره بالعبادة والتقوى والإحسان والتوبة والإنابة، ورأينا آثار حكمته، في العرض والأمر

والنهي، وإحاطة الأمر بكل ما يلزمه من معان، وتكرار المعنى اللازم تكراره بأكثر من طريقة عرض. وفي الوقت نفسه فقد كانت السورة تدليلا على أنّ هذا القرآن منزل من عند الله، إذ هي نموذج لمجموعة خصائص من خصائص هذا القرآن ذكرت في السورة، وكل خصيصة من هذه الخصائص برهان كامل على أن هذا القرآن من عند الله. رأينا أنّ السورة تتألف من مقدّمة ومقطعين يبدأ المقطع الأول بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقد سار المقطع بعد ذلك مبينا الحق في أمور كثيرة، وراسما طريق العبادة الخالصة لله. وبدأ المقطع الثاني بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ. وقد سار المقطع الثاني مبينا الحق في أمور، وسار في طريق تفصيل أن الله عزّ وجل هو الوكيل، وذكر مظاهر من كونه هو الوكيل، وبين كيف أن من اهتدى فإنما نفع هدايته عائد عليه، ومن ضلّ فإنما وبال ضلاله عليه. وتحدّث المقطعان عن واجبات المنزل عليه القرآن، من عبادة وتبليغ، فحدّدا للرسول صلّى الله عليه وسلم كثيرا من القضايا التي عليه أن يبلغها أو يقولها، ومن ذلك قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ فهناك قراءة هي «أمن» على أنّ الهمزة للنّداء، والمنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعلى هذه القراءة تكون الآية أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: يا محمد المتصف بالقيام والرجاء والخوف قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ومن ثم نجد في السورة الأمر (قل) يتكرّر كثيرا.

ورأينا أنّ السورة ذكرت خصائص ستا للقرآن: أنه أحسن الحديث، وأنه متشابه. وأنّه مثان، وأنّه في أعلى درجات التبشير والإنذار، وأنه ضرب للناس من كل مثل، وأنه غير ذي عوج. وكانت السورة نموذجا واضحا على كون هذا القرآن كذلك. ورأينا بأكثر من دليل أن السورة محورها قوله تعالى من سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ولذلك ذكر في أكثر من مكان في السورة أن هذا القرآن من عند الله، وكان هذا الموضوع من الوضوح والتأكيد بحيث ذكر في المقدمة، وذكر في مقدمتي المقطعين، ورأينا من خلال ذكر خصائص القرآن كيف أن هذا القرآن من عند الله، لا شك في ذلك ولا ريب، ورأينا في السورة عاقبة اهتداء المتقين بهذا القرآن، وعاقبة نكوص الكافرين عن الاهتداء به بأشكال متعددة، ورأينا علامات الاهتداء به، وعلامات الضلال عنه في مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .... ورأينا في السورة أن نقطة البداية في الاهتداء بهذا القرآن هي العبادة، والعبادة فهم وسلوك وعلم وعمل، وقد وضّحت السورة هذه المعاني كلها، كما ذكرت كل الأشياء اللازمة للتحقق بالهداية، وكل الأشياء التي تحول دون الهداية كالكذب والكفر والكبر، كما فتحت الطريق للهداية ولو أن الإنسان كان غارقا في الذنوب. وهكذا نجد أنّ السورة فصّلت في محورها من سورة البقرة تفصيلا جديدا فأتمّت البناء، فهذا المحور فصّلت فيه سورة آل عمران، وفصّلت فيه سورة يونس، وفصّلت فيه سورة طه، وفصّلت فيه سورة الزمر، وكلّ سورة فصّلت في المحور تفصيلا يكمّل تفصيل السور الأخرى، هذا مع احتفاظ السورة بسياقها الخاص، واحتفاظ كل مقطع منها وكل مجموعة بوحدتهما، وكل ذلك يظهر على كماله وتمامه، وذلك شأن عجيب في هذا القرآن، يدلّك على أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل.

وأخيرا نقول

ونلاحظ أنّ السورة على طولها خلت من القصة مع أنه لم تمّر معنا سورة من قبل خالية من القصص، وهذا يشير إلى أن هذا القرآن إن تكلّم قاصا فهو أحسن الحديث، وإن تكلم كلاما مجردا عن القصة فهو أحسن الحديث، وأن أسلوبه الأعلى هو أسلوبه الذي لا يختلف في أي فن من فنون الكلام تطرّق له، فهذا الإبداع في العرض والأسلوب مع وجود مجموعة الخصائص القرآنية- من تذكير وتبشير وإنذار وهداية وصدق وحق وعدل في كل جزء منه- لدليل على أن هذا القرآن من عند الله. وقد أبرزنا أثناء الكلام عن مقدّمة السورة تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صلة ذكر اسمي الله العزيز الحكيم بموضوع السورة، إذ بيّنا أنّ موضوع السورة كان فيه إظهار لمعاني اتصاف الله عزّ وجل بالعزة والحكمة، وهو موضوع سنراه في أكثر من سورة من سور القرآن، فكما أنّ هذا الكون تظهر فيه أسماء الله عزّ وجل كلها، من أنّه المحيي والمميت، والمعز والمذلّ، والقادر والغالب والعليم .. فكذلك هذا القرآن، نرى فيه ظهورا لأسماء الله كلها، ففيه يظهر اسم الله البديع والحكيم والعزيز، وبقية الأسماء، إما من خلال وصف القرآن لله عزّ وجل فيها، أو من خلال كون الكتاب كلام الله عزّ وجل، والكلام يدل على المتكلم. وأخيرا نقول: إنّ علينا أن ننظر ببالغ الأهمية لما ورد في السورة من معان عملية، فنقبل على الله بالعبادة ملاحظين الرجاء والخوف، والشكر والاعتراف لله بالنعم، والإيمان والتقوى، والصبر والإخلاص والإسلام، والإنابة إلى الله، واجتناب عبادة الطاغوت، واتباع الأحسن من القول، والخشية لله، وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، والتوكل على الله عزّ وجل في كل حال، ولنلاحظ خاصة علامات انشراح الصدر في الإسلام، فقد قال النسفي عند قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ: (وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الشرح فقال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» فقيل: هل

لذلك من علامة؟ قال: «نعم: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت»). ***

سورة غافر

سورة غافر وهي السّورة الأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثانية من المجموعة الثالثة من قسم المثاني، وآياتها خمس وثمانون آية وهي مكيّة وهي السّورة الأولى من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة غافر ومحورها

كلمة في سورة غافر ومحورها: تبدأ السورة بآيتين هما قوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وبعد ذلك يأتي قوله تعالى ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (الآية: 4) ثم تسير السورة حتى تجد قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ .. (الآية: 10) ثم تتحدّث السورة عن أشياء كثيرة حتى تصل إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (الآية: 35) ثم تسير السورة فتحدّثنا عن معان كثيرة حتى تصل إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الآية: 56) ثم تسير السورة فتحدّثنا عن معان كثيرة حتى تصل إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ .. (الآية: 69) ثم تسير السورة حتى تختتم بلفظ (الكافرون) في قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ. (الآية: 85). إن افتتاح السورة وختمها بالكلام عن الكافرين يشعرنا أن السورة تفصّل بشكل أخصّ في قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ حتى لتكاد تكون هاتان الآيتان هما محور السورة. ولكنا في الوقت نفسه نلاحظ أنّ السورة تفصّل فيما فصّلت فيه سورة الروم، إذ نجد تشابها كبيرا بين سورة الروم وسورة غافر. فمثلا في سورة الروم يتكرّر الكلام عن نصر الله عزّ وجل أكثر من مرة يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ونلاحظ أن سورة غافر ذكر فيها قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا

وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. ونلاحظ أن سورة الروم ورد فيها قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (الآية: 9). ونلاحظ أن سورة غافر ورد فيها قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ. (الآية: 21) وكذلك ورد فيها قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (الآية: 82). فإذا تذكرنا أن سورة الروم فصّلت في الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة فإن هذا يشعرنا أن لسورة غافر صلة بذلك، وعلى هذا فسورة غافر تفصّل بشكل مباشر في الآيتين الخامسة والسادسة من مقدمة سورة البقرة، وتفصّل بشكل غير مباشر في الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة، وهي مواضيع متلاحمة، فصار تفصيلها الكلي في قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فإذا كانت سورة الزمر فصّلت قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ كما رأينا، فإنّ سورة غافر تبني على تفصيل سورة الزمر، وتكمّل ذلك، ومن ثم نلاحظ مجئ قوله تعالى فيها: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ. ويذكّرنا آخر الآية هذه بقوله تعالى من سورة آل عمران: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ

كلمة في زمرة (آل حم)

الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فيشعرنا كذلك بأن سورة غافر عليها طابع سورة آل عمران التي فصّلت مقدمة سورة البقرة كلها. ومن ثم نستطيع القول: إن سورة الزمر فصّلت في الآية الأولى من سورة البقرة بشكل أخص، وفصّلت فيما سوى ذلك من الآيات الأولى من سورة البقرة بشكل ضمني، وجاءت بعد ذلك سورة غافر لتفصّل في الآيتين الخامسة والسادسة بشكل أخص، وتفصّل في الآيات الأولى من سورة البقرة بشكل ضمني، وسنرى أن سورة فصّلت ستفصّل بشكل أخص في الآيات التي ستأتي بعد المقدمة من سورة البقرة، وتفصّل فيما قبل ذلك بشكل ضمني، فالتكامل بين السور الثلاث واضح بحيث تبني الثانية على الأولى، والثالثة على الأولى والثانية، فالأولى تفصّل في حيز محدّد، وتأتي الثانية لتفصّل في حيز أوسع يغطي نفس الحيّز الأول ويزيد عليه. وتأتي الثالثة لتغطي ما غطته السورتان الأوليان وزيادة، وكل ذلك يتمّ بتكامل وتداخل بحيث لا يطغى على السياق الخاص لكل سورة. ونلاحظ بشكل واضح أن السورة تتألف من مقدمة طويلة، تستمر حتى نهاية الآية (20)، ثم يأتي قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... وتسير السورة حتى يأتى قبيل آخرها قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... مما يشير إلى أنّ هذه الآية معطوفة على شبيهتها بحرف العطف الفاء. ثم بعد ثلاث آيات مرتبطة بالآية المذكورة تنتهي السورة، فكأن السورة تتألف من مقدمة طويلة، ومقطع واحد، وسنرى ذلك بالتفصيل. كلمة في زمرة (آل حم) إنّ سورة غافر هي أول سورة مبدوءة ب (حم) والسور المبدوءة ب (حم) سبع، تأتي متعاقبة لا يفصل بينها شئ. والسؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: لماذا اعتبرنا سورة الزمر بداية مجموعة؟، ولماذا لم نعتبر (حم غافر) مجموعة؟، ولماذا لم نعتبر حواميم كلها مجموعة واحدة؟ والجواب: إن سورة الزمر مبدوءة بقوله تعالى:

نقول: لابن كثير والألوسي وصاحب الظلال حول تقديم سورة غافر

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وهذه سورة غافر مبدوءة بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وستأتي معنا سورتان من حواميم هما: الجاثية والأحقاف، مبدوءتان بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ*. إن هذه البداية المتشابهة بين سورة الزمر وثلاثة من حواميم تدلنا على أن سورة الزمر لها صلة بحواميم، وإن لم تبدأ (بحم)، وقد رأينا أن سورة (ص) نهاية مجموعة، فلا بد أن تكون سورة الزمر بداية مجموعة، وسنرى بالدليل أن المعاني التي تعرّضت لها السور هي التي ساقتنا إلى تقسيماتنا التي سنراها. ولقد رأينا من قبل أنّ السور المبدوءة ب (الر) لم تشكّل كلها مجموعة واحدة، بل كان بعضها في مجموعة، وواحدة منها في مجموعة أخرى، ولكنها كانت كلها في قسم واحد، والمعاني هي التي هدتنا إلى ذلك وكذلك (آل حم) فإنها وإن اشتركت بحر في (حم) إلا أنها تشكّل أكثر من مجموعة، كما سنرى بالدليل. إلا أنها مع كونها كذلك فإنها جميعا تشترك بخاصية واحدة كما سنرى وسيبرز معنا من خلال رؤية أن آل حم مجموعات، سبب من الأسباب التي سمّي بها هذا القسم من القرآن بقسم المثاني، وسنرى بوضوح كيف أن سورة الزمر التي ذكر فيها وصف القرآن بأنه مثاني هي في الحقيقة مقدمة لآل حم. نقول: [لابن كثير والألوسي وصاحب الظلال حول تقديم سورة غافر] 1 - قال ابن كثير في تقديمه لسورة المؤمن (غافر): (قد كره بعض السلف منهم محمد بن سيرين أن يقال (الحواميم) وإنما يقال آل حم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شئ لبابا، ولباب

2 - وقال الألوسي في تقديمة لسورة (المؤمن)

القرآن آل حم، أو قال: الحواميم، وقال مسعر بن كدام: كان يقال لهن العرائس، روى ذلك كله الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في كتاب (فضائل القرآن). وروى حميد بن زنجويه: عن عبد الله رضي الله عنه قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا، فمرّ بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجّب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب، فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن، أورده البغوي. وروى ابن لهيعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لكل شئ لباب ولباب القرآن الحواميم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات أتأنق فيهنّ. وروى أبو عبيد أن رجلا رأى أبا الدرداء رضي الله عنه يبني مسجدا فقال له: ما هذا؟ فقال: أبنيه من أجل حم. وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء رضي الله عنه هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق، وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وضع له، فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات «إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون- وفي رواية- لا تنصرون». وروى الحافظ أبو بكر البزار: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي، وأول حم المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء» ورواه الترمذي من حديث المليكي وقال: تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه). أقول: إن حرص بعض السلف على تسمية السور المبدوءة ب (حم) آل حم يشير إلى أنهم اعتبروا هذه السور السبع أسرة واحدة وزمرة واحدة. وهذا لا ينفي أن تكون هذه السور مجموعات. فكما أن السورة المبدوءة ب (الر) أو (الم) لم تشكل مجموعة واحدة مع أنها زمرة واحدة فكذلك هنا. 2 - وقال الألوسي في تقديمة لسورة (المؤمن): (وتسمى سورة غافر وسورة الطول، وهي كما روي عن ابن عباس. وابن الزبير. ومسروق. وسمرة بن جندب مكية، وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك، وعن الحسن

أنها مكية إلا قوله تعالى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ لأن الصلوات نزلت بالمدينة، وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت. وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين: أن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعيّن إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية، وقيل: هي مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ الآية، فإنها مدنية، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال، وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب كما تقول: عنى بهذه الآية كذا، وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمّن هذا الحكم، لا أن هذا سبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك، وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي، وأربع في الحجازي، واثنتان في البصري، وقيل: ست وثمانون، وقيل: ثمان وثمانون، ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن، ذكر جل وعلا هنا أنه تعالى غافر الذنب، وقابل التوب، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه، وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة، ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر، وقد فصّل في هذه من ذلك ما لم يفصّل منه في تلك، وفي تناسق الدرر: وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الافتتاح (بتنزيل الكتاب). وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر (حم) وتلك مناسبة جلية، ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح ب (حم)، وبذكر الكتاب، وأنها مكية، بل ورد عن ابن عباس. وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف، وورد في فضلها أخبار كثيرة. أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شئ لبابا وإن لباب القرآن الحواميم. وأخرج هو، وابن الضريس، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وأخرجه أبو الشيخ. وأبو نعيم. والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وأخرج الديلمي. وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا «الحواميم روضة من رياض الجنة». وأخرج محمد بن نصر. والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال: كنّ الحواميم يسمين

3 - ومن تقديم صاحب الظلال لسورة المؤمن

العرائس. وأخرج ابن نصر، وابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبي قبلي». وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجئ كل (حم) منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرئني» وجاء في خصوص بعض آيات هذه السور ما يدل على فضله، أخرج الترمذي، والبزار، ومحمد بن نصر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حم إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وآية الكرسي حين يصبح، حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح». 3 - ومن تقديم صاحب الظلال لسورة المؤمن: (هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل، قضية الإيمان والكفر، قضية الدعوة والتكذيب، وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين .. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم. وجو السورة كله- من ثم- كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجئ ذكر المؤمنين!. ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة- وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر- وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه النسمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس، ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!. كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا .. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين: (حا، ميم). منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر: (عين. سين قاف). وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها، وهي أحرف لغتهم التي يتحدّثونها ويكتبونها). ولنبدأ عرض السورة. ***

المقدمة وتتألف من أربع مجموعات، وتستمر من الآية (1) إلى نهاية الآية (20) وهذه هي

المقدمة وتتألف من أربع مجموعات، وتستمر من الآية (1) إلى نهاية الآية (20) وهذه هي: المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 40/ 1 - 6 المجموعة الثانية 40/ 7

40/ 8 - 9 المجموعة الثالثة 40/ 10 - 12 المجموعة الرابعة 40/ 13 - 19

تفسير المجموعة الأولى

40/ 20 تفسير المجموعة الأولى حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: حم هذا تنزيل الكتاب مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي: المنيع بسلطانه عن أن يتقوّل عليه متقوّل الْعَلِيمِ بمن صدّق وكذّب، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين غافِرِ الذَّنْبِ غافر أي: سائر ذنب المؤمنين وَقابِلِ التَّوْبِ أي: وقابل توبة الراجعين. قال ابن كثير: أي: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه شَدِيدِ الْعِقابِ أي: لمن تمرّد وطغى، وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله وبغى، والملاحظ أنه كثيرا ما يقرن تعالى بين وصفيه الغفور التوّاب، وبين شديد العقاب، ليبقى العبد بين الرجاء والخوف ذِي الطَّوْلِ أي: ذي الغنى والفضل، وذي النعم والفواضل. قال ابن كثير: والمعنى أنه المتفضّل على عباده، المتطوّل عليهم بما هم فيه من المنن والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا نظير له في جميع صفاته، فلا إله غيره ولا ربّ سواه إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أي: الجاحدون لآيات الله وبراهينه، أي: ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها إلا الذين كفروا، قال النسفي: فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، واستنباط معانيها، وردّ أهل الزيغ بها، فأعظم جهاد في سبيل الله فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي: في أموالها ونعيمها وزهرتها بالتجارات النافعة، والمكاسب المربحة، والانتصارات السياسية والعسكرية، والغلبة للخصوم، فإن عاقبة أمرهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة. ثم بيّن تعالى كيف ذلك فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: والأحزاب الذين تحزّبوا على الرسل، وناصبوهم من كل أمة بعد قوم نوح، كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي: ليتمكنوا منه فيقتلوه. قال ابن كثير: أي: حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل

[سورة غافر (40): آية 6]

رسوله وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أي: بالكفر لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي: ليبطلوا به الإيمان. أي: ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي فَأَخَذْتُهُمْ أي: أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام، من محاولتهم أخذ الرسل وتكذيبهم ومماحلتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي: فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم؟ قد كان شديدا موجعا مؤلما. قال قتادة: كان شديدا والله وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي: مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار. ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب تعذيبهم بعذاب النار في الآخرة، أو المعنى: كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأنّ علّة واحدة تجمعهم، أنهم من أصحاب النار. وينتقل السياق ليحدثنا عن الملائكة ودعائهم للمؤمنين .. كلمة في السياق: [المجموعة الأولى حول تفصيل السورة لمحورها وبعض معان أخرى] 1 - ذكر الله عزّ وجل في الابتداء أن هذا الكتاب تنزيله، وذكر مجموعة من أسمائه عزّ وجل، وذكر ذلك كله بصيغة تقريرية تشير إلى أن هذا الموضوع حقيقة مقررة مقطوع بها، ومن ثم قال بعد ذلك: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ... 2 - في ذكر مجموعة الأسماء لله التي صدرت بها السورة إشارة إلى مظهر من مظاهر التدليل على كون هذا القرآن من عند الله. فكتاب يصف الله عزّ وجل بمثل هذا الكمال لا يمكن أن يكون مكذوبا على الله. وكتاب تظهر فيه آثار هذه الأسماء من علم وحكمة، وعزّة وغفران، وشدة عقاب، وكثرة إنعام، دليل على أنه من عند الله؛ إذ الكلام تظهر فيه صفات المتكلّم وخصائصه. فعند ما يقول الله عزّ وجل بعد ذلك ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا .. فلأن الحجة قد ذكرت من قبل. 3 - إذا تذكرنا أن محور سورة غافر هو قوله تعالى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ نعرف سرّ مجئ قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا .. وأنّ هؤلاء المتّصفين بهذه الصفة هم الذين لا يفلح معهم الإنذار. وقد فصّلت الآيات الأخيرة نوعي العذاب العظيم الذي يستحقه هؤلاء

تفسير المجموعة الثانية

في الدنيا والآخرة. 4 - في قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ درس للنذير الذي يرى أن إنذاره لا ينفع في هؤلاء الكافرين، ألّا يغتر بما هم فيه من متع الدنيا، فالعبرة للعاقبة في الدنيا والآخرة. 5 - نلاحظ من الآيات التي مرّت معنا في سورة غافر: أن آيتين منها فصّلتا في الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة. وأن الآيات الثلاث التالية فصّلت في الآيتين اللاحقتين من سورة البقرة. وهذا شئ سنراه كذلك في الآيات اللاحقة، أن التفصيل يتناوب بين آيات المتقين من سورة البقرة، وآيتي الكافرين منها. فقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ ... يفصّل في قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... وقوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ... تفصيل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... وهذه مجموعة تحدثنا عن موقف الملائكة من المؤمنين في الدنيا، وعن موقف الملائكة من الكافرين يوم القيامة، وفي ذلك تفصيل لقضية من قضايا الإيمان بالغيب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وتفصيل لنوع من أنواع الفوز، وتفصيل لنوع من أنواع العذاب للكافرين. تفسير المجموعة الثانية الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ من الملائكة وَمَنْ حَوْلَهُ أي: والحافين حوله وهم الذين يسمّيهم العلماء الكروبيين نسبة إلى لفظة الكروبيم العبرانية، والتي تعني العرش والله أعلم. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ أي: يجمعون بين الإيمان والعمل، قارنين بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح، وفائدة وصفهم بالإيمان في هذا المقام إظهار شرف الإيمان وفضله

[سورة غافر (40): آية 8]

والترغيب فيه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فالملائكة يستغفرون لأهل الإيمان أي: لمن في مثل حالهم. قال النسفي: وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شئ إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأجناس والأماكن رَبَّنا أي: يقول الملائكة ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أي: وسعت رحمتك كل شئ، ووسع علمك كل شئ، ولما كان الدعاء للمؤمنين فكأنهم أرادوا أن يقولوا: رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا أي: للذين علمت منهم التوبة، أو فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ بأن أقلعوا عما كانوا فيه، واتّبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات. أي: واتّبعوا طريق الهدى الذي دعوت إليه وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي: وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي: اجمع بينهم وبينهم لتقرّ بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي: الذي لا يمانع ولا يغالب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن الْحَكِيمُ في أقوالك وأفعالك، من شرعك وقدرك وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي: فعلها، أو وبالها ممّن وقعت منه. أو جزاءها وهو عذاب النار وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي: لطفت به ونجيته من العقوبة وَذلِكَ أي: رفع العذاب هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز أعظم منه. كلمة في السياق: [المجموعة الثانية وصلتها بمحور السورة] رأينا في هذه المجموعة ما للمؤمنين من مقام عظيم، إذ يدعو لهم حملة العرش ومن حوله من الملائكة هذا الدعاء العظيم، وفي ذلك دعوة للناس أن يكونوا من أهل الإيمان والتقوى، وصلة ذلك بأحد محوري السورة واضحة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فالآيات دعوة لأن يكون الإنسان من هؤلاء لينال دعوات الملائكة، وهي تفصيل لهذه الآيات كذلك من حيث إنها فصّلت في قضية فلاحهم، وذكرت نموذجا على هذا الفلاح في الدنيا والآخرة، من إلحاق أزواجهم وذرياتهم بهم في

تفسير المجموعة الثالثة

الآخرة، ومن دعوات الملائكة لهم، ومن وقايتهم السيئات، لأن دعاء الملائكة مستجاب، كما أنّها بيّنت أنّ التّوبة، واتباع السبيل، هما قوام هذا الأمر، وفي هذا زيادة تفصيل لقضية التقوى. والآن تأتي مجموعة آيات تتحدث عما يقوله الملائكة للكافرين يوم القيامة بعد أن عرفنا ما تدعو به الملائكة لأهل الإيمان في الدنيا ... تفسير المجموعة الثالثة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا أنفسهم فيناديهم خزنة النار لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ البغض أشد المقت والمعنى: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمّارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله، وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار، إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهنّ: قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون، وذلك عند ما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم، وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا، بأن نادتهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون، أشدّ من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة. قال قتادة في قوله تعالى: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ يقول لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة، وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذرّ بن عبيد الله الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري). قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي أمتنا إماتتين أو موتتين، وأحييتنا إحياءتين أو حياتين، وأرادوا بالإماتتين خلقهم أمواتا أولا، وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءتين، الإحياءة الأولى في الدنيا، والإحياءة الثانية البعث فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم علموا أن الله قادر على الإعادة، كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم التي

[سورة غافر (40): آية 12]

اقترفوها، من إنكار البعث، وما تبعه من معاصيهم فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ من النار أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء لنتخلّص مِنْ سَبِيلٍ قط أم اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه؟ وجاء الجواب من خلال التعليل لبقائهم في النار بقوله: ذلِكُمْ أي الذي أنتم فيه، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أي ذلكم كفركم بتوحيد الله، وإيمانكم بالإشراك به فَالْحُكْمُ لِلَّهِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الْعَلِيِّ شأنه فلا يرد قضاؤه الْكَبِيرِ أي العظيم سلطانه فلا يحدّ جزاؤه. كلمة في السياق: [المجموعة الثالثة حول الفرق بين الكفر والإيمان والعلاقة بين مقدمة سورة غافر وسورة الزمر] 1 - أرانا الله عزّ وجل في هذه المجموعة ماذا يقول الملائكة للكافرين يوم القيامة إذا دخلوا النار، وبيّن لنا ماهية العذاب العظيم الذي يلاقونه، وبيّن لنا علّة ذلك، وهو رفضهم للإيمان والتوحيد، وقبولهم الشرك وسيرهم فيه. وهكذا نجد من خلال عرض موقف الملائكة من أهل الإيمان في الدنيا، وموقفهم من أهل الكفر في الآخرة، الفارق الكبير بين الكفر والإيمان وأهلهما. ولذلك صلته بمقدّمة سورة البقرة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. 2 - بدأت السورة بالحديث عن الله عزّ وجل، وأنه منزل الكتاب، وأن من أسمائه الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ثم حدثتنا عن مجادلة الكافرين في آيات الله، وعن تكذيب الأمم السابقة، وأخذهم واستحقاقهم النار. وحدثتنا عن موقف الملائكة من أهل الإيمان، ودعاء الله لهم بالتوبة ... والجنة. ثم عن موقف الملائكة من الكافرين إذا دخلوا النار، وقد عرفنا من خلال ذلك مظاهر عزّة الله وعلمه، وغفرانه وشدة عقابه، وكثرة إنعامه ووحدانيته حتى إذا رأينا في ما مرّ مظاهر اتّصاف الله عزّ وجل بهذه الصفات كلها يعود الحديث الآن إلى الكلام عن الذات الإلهية في الآيات اللاحقة، فنرى الآية الآتية هي: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ... فكأنها استمرار مباشر لما ورد في أول السورة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ .. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. وكأن ما ورد بين ذلك قد أدى دوره المتعدد، وعاد السياق إلى سيره الرئيسي في الكلام عن الله عزّ وجل: فلنتذكّر الآن أن هذه الآيات وما بعدها كلها

تفسير المجموعة الرابعة

مقدمة للمقطع الرئيسي في السورة، الذي يخاطب الكافرين. فكأنّ المقدّمة تعرّفنا على الله عزّ وجل، وتعرّفنا على عاقبة تكذيب رسله، ثم تتوجه بالخطاب إلى الكافرين لتقيم عليهم الحجة. 3 - نلاحظ أن المقدّمة الطويلة لسورة غافر تفصّل معاني موجودة في الآيات الست الأولى من سورة البقرة، إلا أنّ السياق شيئا فشيئا سيستقل في تفصيل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فهو المحور الرئيسي في السورة فلنلاحظ ذلك، فكأن مقدّمة سورة غافر تبني على سورة الزمر وتكملها، وتفصّل فيما فصّلت فيه، ثم تنطلق السورة لتفصّل في ما بعد محور سورة الزمر، وهو الكلام عن الكافرين، ولنعد إلى التفسير، فقد رأينا أن المجموعة اللاحقة تكمّل موضوع التعريف على الله عزّ وجل الذي بدأته الآيتان الأوليان في السورة. تفسير المجموعة الرابعة هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي: يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي، من الآيات العظيمة الدّالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، من ريح وسحاب ورعد وصواعق وغير ذلك وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار، ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله، وهو ماء واحد، فبالقدرة العظيمة جعل المطر سبب الرزق، وفاوت بين هذه الأشياء وَما يَتَذَكَّرُ أي: يعتبر ويتفكّر في هذه الأشياء، ويستدلّ بها على عظمة خالقها إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي: إلا من هو رجّاع توّاب إلى الله. قال النسفي: (أي) وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك، ويرجع إلى الله، فإن المعاند لا يتذكّر ولا يتعظ. ثم قال للمنيبين فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: فاعبدوه مخلصين له الدين من الشرك وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي: وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليسوا على دينكم. قال ابن كثير: (أي: فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم، ثمّ زادنا تعريفا على ذاته عزّ وجل ليستخرج منا العبادة والإخلاص، وليبيّن لنا حكمة إنزاله الوحي على رسله فقال: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي: رافع السموات بعضها فوق بعض، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة أو رافع منازلهم في الجنّة ذُو الْعَرْشِ أي: صاحب العرش ومالكه الذي خلقه فوق السموات مطافا للملائكة، وإظهارا لعظمته مع

[سورة غافر (40): آية 16]

استغنائه يُلْقِي الرُّوحَ أي: جبريل ينزله، أو يلقي الوحي الذي تحيا به القلوب مِنْ أَمْرِهِ أي: من أجل أمره أو بأمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ المرسلين لِيُنْذِرَ الله أو الرسول يَوْمَ التَّلاقِ أي: يوم القيامة، لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، والأولون والآخرون يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي: ظاهرون لا يسترهم شئ من جبل أو أكمة أو بناء لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ أي: من أعمالهم وأحوالهم، أي: الجميع في علمه على السواء لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ أي: يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه، ثم يجيب نفسه بقوله: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. أي: الذي قهر الخلق بالموت الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. قال النسفي: (لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم، عدد نتائج ذلك وهي أن كل نفس تجزى بما كسبت وعملت في الدنيا من خير وشر، وأن الظلم مأمون منه؛ لأنه ليس بظلّام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين). كلمة في السياق: نلاحظ أنه في معرض كلام الله عزّ وجل عن صفاته أعلمنا أن من صفاته إلقاء الوحي على رسله لينذروا يوم القيامة، وإذ تقرر ذلك يصدر الله عزّ وجل أمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام بالإنذار، فمن السياق يتبيّن أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الروح، ومن ثمّ فإنه يؤمر بالإنذار، وكأنّ أمر نذارته بديهي. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي: القيامة، سميت بذلك لاقترابها. فيوم الآزفة اسم من أسماء يوم القيامة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ من الخوف كاظِمِينَ أي: ساكتين ما لِلظَّالِمِينَ أي: الكافرين مِنْ حَمِيمٍ أي: من محب مشفق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي: ولا شفيع يشفّع. ثم أتمّ الله عزّ وجل تعريفنا على ذاته

[سورة غافر (40): آية 20]

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي: استراق العين النظر إلى ما لا يحل وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي: ما تسرّه من أمانة وخيانة. قال النسفي: وقيل (في الآية): هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته، والله يعلم ذلك كله وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي: والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: من آلهة مزعومة لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي: لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشيء، لأنّهم ليس لهم مؤهلات الحكم إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ أي: لأقوال خلقه الْبَصِيرُ بهم. قال النسفي (هذا تقرير لقوله) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون وأنه يعاقبهم عليه، وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع ولا تبصر). كلمة في مقدّمة سورة غافر وسياقها: 1 - [بعض صفات الله التي ذكرت في مقدمة السورة] ذكر النسفي أن قوله تعالى: يُرِيكُمْ آياتِهِ وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وقوله تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ وقوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ وقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ وقوله تعالى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ كلها أخبار لقوله تعالى في أول الآية: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ... فإذا تذكّرنا أن هذه الآية امتداد لقوله تعالى في أول السورة: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ندرك أن الله عزّ وجل عرّفنا على ذاته في هذه المقدمة. ومما عرفنا به على ذاته: أنه منزل القرآن، ومنزل الوحي، ومرسل الرسل، والحاكم بين العباد بالحق والعدل، وأنه هو الذي أمر رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم بالإنذار. 2 - [العلاقة بين الآيات السابقة والمحور] نلاحظ أن بعد هذه المقدمة يأتي قوله تعالى مباشرة: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ... مما يشير أنّه لمّا أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم بالإنذار رفض الكافرون هذا الإنذار، ومن ثم خاطبهم ولفت نظرهم إلى ما فعله في المكذبين السابقين. فإذا أدركنا هذه النقطة نعرف أنّ محور السورة الرئيسي هو قوله تعالى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولكن كما أنّ سورة البقرة

3 - تجلية أسماء الله وصفاته من أحد أهداف السورة

قدّمت لهذا بذكر معان، فقد قدمت سورة غافر للوصول إلى هذا بمعان هي تفصيل للمعاني التي قدّمتها سورة البقرة، ومن ثم عرضت لنا سورة غافر صورا عن اليوم الآخر، وصورا من مضمونات الغيب، وعرضت لقضية الإيمان، وعرضت لقضية تنزيل الكتاب من الله عزّ وجل، وأنه فوق الريب والشكوك، فلا يجادل في هذا الشأن إلا معاند، وأوصلتنا إلى أن نفهم من السياق أن الكافرين يرفضون الإيمان والإنذار، وذكرت ذلك كله في مقدمة السورة، لتوصّلنا إلى المقطع الوحيد فيها، وهو الذي يقيم الله به الحجة على الكافرين، وينذرهم ويخوفهم، حتى تقوم الحجة الكاملة عليهم. 3 - [تجلية أسماء الله وصفاته من أحد أهداف السورة] رأينا أن المقدمة بدأت بذكر أسماء الله عزّ وجل، حدثتنا عن صفاته، وقد رأينا كيف أن المقدّمة برهنت لنا على اتصاف الله عزّ وجل بذلك، والواقع أن السورة كلها تجلّي هذه الحقيقة، وتدلّل على اتصاف الله عزّ وجل بهذه الصفات والأسماء. فلننقل الآن بعض الفوائد المتعلّقة بهذه المقدّمة. فوائد: [حول آيات مقدمة السورة] 1 - بمناسبة قوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ قال ابن كثير (وقال أبو بكر بن عياش سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ وقال: اعمل ولا تيأس. رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وابن جرير. وروى ابن أبي حاتم عن يزيد ابن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر فقال: ما فعل فلان بن فلان، فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب. قال فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه، ويتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتاب

عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذروني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان وزاد فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووثقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه. وروى ابن أبي حاتم عن ثابت البناني قال كنت مع مصعب بن الزبير رضي الله عنه في سواد الكوفة، فدخلت حائطا أصلي ركعتين، فافتتحت حم المؤمن، حتى بلغت لا إله إلا هو إليه المصير، فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء، عليه مقطعات يمنية قال: إذا قلت: غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، وإذا قلت: وقابل التوب فقل: يا قابل التوب اقبل توبتي. وإذا قلت شديد العقاب فقل: يا شديد العقاب لا تعاقبني، قال فالتفت فلم أر أحدا، فخرجت إلى الباب فقلت مرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية؟ قالوا: ما رأينا أحدا، فكانوا يرون أنه إلياس، ثم رواه من طريق أخرى عن ثابت بنحوه وليس فيه ذكر إلياس والله سبحانه وتعالى أعلم). 2 - بمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا ... قال ابن كثير: (ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤمّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله). 3 - التحقيق أنّ حملة العرش الآن أربعة، ويوم القيامة يكونون ثمانية. وهو موضوع سنحققه عند الكلام عن سورة الحاقة إن شاء الله. 4 - بمناسبة دعاء الملائكة: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ قال ابن كثير: (وقال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة ثم تلا هذه الآية رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ الآية

وأغشّ عباده للمؤمنين الشياطين). 5 - بمناسبة قوله تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلّم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، قال وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يهلل بهنّ دبر كل صلاة، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيّاه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون». وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه»). 6 - بمناسبة قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ قال ابن كثير: (قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي السموات والأرض بيده ثم يقول: أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وفي حديث الصور أنه عزّ وجل إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له، حينئذ يقول: لمن الملك اليوم؟ ثلاث مرات ثم يجيب نفسه قائلا: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي الذي هو وحده قد قهر كل شئ وغلبه. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة، فيسمعها الأحياء والأموات، قال: وينزل الله عزّ وجل إلى السماء الدنيا ويقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. 7 - بمناسبة قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ قال ابن كثير: كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عزّ وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا- إلى أن قال- يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه»).

المقطع الأول والأخير في السورة ويتألف من ثلاث فقرات، ويمتد من الآية (21) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (85) وهذا هو

ولننتقل إلى المقطع الوحيد في السورة بعد المقدمة. المقطع الأول والأخير في السورة ويتألف من ثلاث فقرات، ويمتد من الآية (21) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (85) وهذا هو: الفقرة الأولى وتشتمل على خمس مجموعات المجموعة الأولى من الفقرة الأولى 40/ 21 - 22 المجموعة الثانية من الفقرة الأولى 40/ 23 - 25

40/ 26 - 27 المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى 40/ 28 - 34

40/ 35 - 37 المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى 40/ 38 - 46

المجموعة الخامسة من الفقرة الأولى 40/ 47 - 54 الفقرة الثانية وتشتمل على أربع مجموعات المجموعة الأولى من الفقرة الثانية 40/ 55 - 56

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية 40/ 57 - 60 المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية 40/ 61 - 66

40/ 67 - 68 المجموعة الرابعة من الفقرة الثانية 40/ 69 - 76 الفقرة الثالثة 40/ 77

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

40/ 78 - 85 تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: أولم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك وإنذارك يا محمد فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أي: كيف كان آخر أمر الذين كذبوا الرسل من قبلهم، ما حلّ بهم من العذاب والنكال كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً بأجسادهم وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يشهد على ذلك ما خلّفوه، ومن رأى سدّ الصين، وأهرامات مصر، وأعمدة تدمر، وبعلبك رأى فضل آثار السابقين على آثار من بعدهم. هذا إذا اعتبرنا أنّ الخطاب عام للبشرية كلها التي بعث لها محمد صلّى الله عليه وسلم، أما إذا كان الخطاب لأهل مكة المخاطبين الأوّلين بهذا الخطاب فالأمر واضح، كيف أنّ الأوّلين أقوى منهم، وأشدّ آثارا في الأرض، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي: عاقبهم

[سورة غافر (40): آية 22]

بذنوبهم مع هذه القوّة العظيمة، والبأس الشديد وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي: وما دفع عنهم عذاب الله أحد، ولا ردّه عنهم رادّ، ولا وقاهم منه واق. ثم ذكر علة أخذه إياهم، وأنّها ذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى: ذلِكَ أي: الأخذ بِأَنَّهُمْ أي: بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بالدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات فَكَفَرُوا أي: مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أي: أهلكهم ودمّرهم إِنَّهُ قَوِيٌّ أي: ذو قوة عظيمة وبطش شديد شَدِيدُ الْعِقابِ أي: عقابه أليم شديد موجع إذا عاقب. كلمة في السياق: [ما مر من السورة وعلاقته بمحورها] بدأ الكلام عن الكافرين في هذه السورة بقوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ. ثم جاء كلام آخر عنهم في الآيات (10، 11، 12) وهو: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ* قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ* ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. وفي الآية (18) ورد قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ. وبعد ذلك تأتي آيتان لا تشعراننا بقبولهم الإنذار. ثم يأتي قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا ... مما يشير إلى أنهم رفضوا الإنذار والله عزّ وجل يحذرهم أن يفعل بهم كما فعل بالمكذبين من قبل. ونلاحظ أنّ هناك صلة بين الآيات التي تتحدّث عنهم: ما يُجادِلُ ... كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ... فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ فالسورة إذن تصبّ في الكلام عن الكافرين في سيرها الرئيسي، وتذكّرهم

بالمعنى الواعظ مرّة بعد مرّة. مرّة بصيغة التقرير، ومرّة بصيغة الطلب، وتذكرهم بالعذاب الدنيوي، والعذاب الأخروي. فالسير العام للسورة يفصّل قوله تعالى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. والسورة تبين لنا نوعية هؤلاء الكافرين الذين لا ينفعهم الإنذار، وهم الذين يجادلون في آيات الله، تكذيبا وعنادا مع وضوحها. ونلاحظ أن السورة مع تبيانها عدم استفادة الكافرين من الإنذار فإن الله عزّ وجل يأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالإنذار، لأن الكافرين الذين حكم الله عليهم بالموت على الكفر لا يعلمهم إلا الله، ومن أعلمه الله بشأنهم، وإذ كان الأمر غيبا فإن على الرسول الإنذار، ثم إنه مع كفر الكافرين لا بد من إقامة الحجة عليهم، هذا مع ملاحظة أن الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم هم الذين اجتمعت بهم صفات معينة استكملوا بها صفات لم يعد ينفع معها إنذار. وقد رأينا في سورة الأنبياء هذه الصفات. وسنرى في هذه السورة كذلك هذه الصفات، ولاحتمال أن هناك كافرا لم يصل إلى هذا الحد فإن على الرسول صلّى الله عليه وسلم الإنذار لعلّ أحدا يهتدي. ونلاحظ أنه بعد ما قال الله عزّ وجل أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ يقصّ علينا الله عزّ وجل قصة من قصص السابقين كيف كانوا أشدّ قوة وآثارا، وكيف كذّبوا رسل الله، وكيف كانت عاقبتهم، وكيف كان عقابهم شديدا، هذه القصة هي قصة فرعون، وذكر قصة فرعون في هذا السياق له دلالته، إذ الفراعنة كانوا أشدّ قوة وآثارا في الأرض، كما هو مشهور. وسنرى أنّ القصة تخدم سياق السورة بأكثر من وجه. ***

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي: المعجزات التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي وحجة ظاهرة، فاجتمع له المعجزة والحجة القولية إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر وَهامانَ وهو وزيره في مملكته وَقارُونَ وهو من بني إسرائيل، وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة. وقد مرّت قصته في سورة القصص فَقالُوا عن موسى هو ساحِرٌ كَذَّابٌ فسمّوا المعجزات سحرا، والحجة الواضحة كذبا. أي: كذّبوه وجعلوه ساحرا مجنونا مموّها كذّابا في أنّ الله أرسله فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا أي: بالبرهان القاطع الدّال على أنّ الله عزّ وجل أرسله إليهم قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي: أعيدوا عليهم قتل الذكور الذي كان أولا، واستحياء الإناث للخدمة. قال ابن كثير: (وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل، أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، أو لمجموع الأمرين، وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية، ولإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام؛ ولهذا قالوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (سورة الأعراف: 129). قال قتادة هذا أمر بعد أمر). ومن القائل هذه المرة، هل هو فرعون وحده، أو اشترك معه هامان وقارون؟ الملاحظ أن القرآن عبّر بصيغة (قالوا) وهذا يشير إلى تواطؤ الثلاثة على القتل. وسنتحدث في الفوائد عن قارون وهامان. فلنسر الآن في التفسير قال تعالى عن كيدهم في قتل الأولاد واستحياء الذرية وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: في ضياع يعني أنهم باشروا قتلهم أولا، فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني؟! وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان. فلمّا بعث موسى عليه السلام، وأحسّ بأنّه قد وقع، أعاده عليهم غيظا وظنا منه أنّه يصدّهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرّتين جميعا وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى أي: دعوني حتى أقتل موسى. قال ابن كثير: وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه الصلاة والسلام وَلْيَدْعُ رَبَّهُ قال ابن كثير: أي لا أبالي منه، وهذا في غاية الجهل والتجهرم والعناد إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أي أن يغيّر ما أنتم عليه أَوْ أَنْ يُظْهِرَ

[سورة غافر (40): آية 27]

موسى فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ أي التقاتل والتهايج والفوضى، بحيث يذهب معه الأمن، وتتعطّل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلا وضياعا، كأنه قال: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه، أو يفسد عليكم دنياكم، بما يظهر من الفتن بسببه قال ابن كثير: يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغيّر رسومهم وعاداتهم. وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مذكّرا يعني واعظا يشفق على الناس من موسى عليه السلام. وَقالَ مُوسى لمّا بلغه قول فرعون: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي استجرت بالله وعذت به مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ عن الحق مجرم لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبّر، والتكذيب بالجزاء، وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعلى عباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، وأراد موسى بالتكبّر الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار، وأدل على دناءة صاحبه، وعلى فرط ظلمه. وفي قول موسى وَرَبِّكُمْ بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذ بالله عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه. فوائد: 1 - [حول تحقيق عن شخصية قارون] يلاحظ أن قارون ورد ذكره هنا على أنه من الذين شاركوا في تعذيب بني إسرائيل، فهل هو نفس قارون الذي ورد في سورة القصص؟ وإذا كان هو فهل يعني هذا أنه كان خائنا لقومه باغيا عليهم؟ الظاهر نعم؛ لقوله تعالى في سورة القصص: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وهل هو قورح المذكور في التوراة الحالية على أنه خسف به الأرض أو هو غيره؟ يلاحظ أن أسفار موسى تذكر أن هذا الخسف حدث بعد خروج بني إسرائيل من مصر، ويلاحظ أن بحيرة في مصر بجانب بلدة الفيوم تسمى بحيرة قارون. فإذا كانت هذه البحيرة هي مكان الخسف بقارون، وإذا كانت رواية التوراة صحيحة. فمعنى هذا أن قارون غير قورح، فهما حادثتان منفصلتان، وقد تكون الحادثة واحدة إذا كان قارون هو قورح، والخطأ إما في رواية التوراة الحالية، أو في رواية الناس. 2 - [نقل عن كتب العهد القديم عن هامان] في سفر إستير من كتب العهد القديم حديث عن هامان وزير الملك أحشويروش في زمن سبي بابل، وأنه كاد لبني اسرائيل في زمن المحنة هذه، فهل هامان وزير فرعون

3 - عن صيغة الاستعاذة

موسى هو هذا نفسه. ونسّاخ بني إسرائيل الكذبة حرّفوا القصة وجعلوا هامان وزير هذا بدل فرعون، أو أن هناك تشابها في الاسم والعمل بين وزير فرعون ووزير أحشويروش؟ أو أنهم أطلقوا على وزير أحشويروش اسم ذاك تشبيها له به؟ أعلم بحقيقة الأمر. 3 - [عن صيغة الاستعاذة] بمناسبة قول موسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ قال ابن كثير: ولهذا جاء في الحديث (عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال «اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم»). كلمة في السياق: [قصة موسى توضح الأخلاق الفاسدة التي ينبع عنها كل شر] إنّ قصة موسى عليه السلام في سياق هذه السورة تعرض لنا قصة كفرة يجادلون في آيات الله، ولا ينفع معهم الإنذار، ويكذّبون الرسل، فيعاقبون في الدنيا والآخرة، والآيات التي مرت معنا أرتنا من طبيعة هؤلاء الكافرين اتهامهم موسى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالسحر والكذب، ومحاولتهم إيذاء قوم موسى، ومحاولتهم قتل موسى، واتهامهم موسى بالإفساد في الأرض، وتغيير النظام، واتصافهم بالكبر والكفر باليوم الآخر، وفي هذا دروس كثيرة في فقه الدعوة، سواء للنذير، أو لأهل الإيمان، أو في معرفة مواقف الكافرين من المؤمنين، ومن أهم ما ينبغي أن نعرفه مما له علاقة بسياق السورة العام: أن الكبر والكفر باليوم الآخر هما أفظع وأسوأ الأخلاق، وعنهما يتبع كل شر، وبوجودهما لا ينفع الإنذار. وبعد أن أرانا الله عزّ وجل في المجموعة السابقة موقف الكافرين من نذارة موسى، ورغبتهم في قتله. يعرض علينا بعد ذلك كيف قام رجل من آل فرعون يدافع عن موسى ويعظ قومه وكيف كان موقفهم منه: تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قال ابن كثير: المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون يَكْتُمُ إِيمانَهُ أي آمن بموسى سرّا أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أي: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرّمة، وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله، وهو ربكم أيضا لا ربه وحده وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ يعني أنه ليس له بينة واحدة فقط، بل له بيّنات

[سورة غافر (40): آية 29]

من الله، وقد جاءكم بها وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ وبال كَذِبُهُ لا يتخطّاه إلى غيره وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي من العذاب، ولم يقل: كل الذي يعدكم مع أنّه وعد من نبي صادق القول؛ مداراة لهم، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم قال ابن كثير في تفسير قول مؤمن آل فرعون هذا: (يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه، فإن يك كاذبا فإن الله سبحانه وتعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم، فإنه يتوعّدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا، فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه). إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ أي: مجاوز للحد كَذَّابٌ في ادّعائه، وهذا أيضا من باب المجاملة. والمعنى أنه إن كان مسرفا كذّابا خذله الله وأهلكه فتخلصون منه، أو لو كان مسرفا كذّابا لما هداه الله بالنبوة، ولما عضده بالبينات. وقال النسفي: وقيل: أوهم أنّه عنى بالمسرف موسى وهو يعني به فرعون. وقال ابن كثير: (أي لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون لكان أمره بيّنا يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله). يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ أي: عالين فِي الْأَرْضِ أي: بأرض مصر، أو الأرض كلها بانتشار نفوذهم، وانتشار سمعتهم. قال ابن كثير: (أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض، بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى، وتصديق رسوله صلّى الله عليه وسلم، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء). يعني أن لكم ملك مصر، وقد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرّضوا لبأس الله أي عذابه، فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم، ولا يمنعكم منه أحد قالَ فِرْعَوْنُ لقومه رادا على هذا الرجل الصالح ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي طريق الصواب والصلاح، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا ادّخر منه شيئا، ولا أسرّ

[سورة غافر (40): آية 30]

عنكم خلاف ما أظهر، يعني: أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، فلعنه الله ما أكثر ضلاله، إذ يرى أن في قتل موسى رشادا وَقالَ الَّذِي آمَنَ متابعا دفاعه عن موسى عليه السلام ومحاورا يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي: مثل أيام الذين كذّبوا رسل الله في قديم الدهر. كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم من الأمم المكذبة، كيف حلّ بهم بأس الله، وما ردّه عنهم رادّ، ولا صدّه عنهم صادّ، ومن ثم قال: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي مثل جزاء دأب هؤلاء، ودأب هؤلاء دءوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي وديمومتهم عليه لا يفترون فيه وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي وما يريد الله أن يظلم عباده فيعذّبهم بغير ذنب، أو يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب يعني: أنّ تدميرهم كان عدلا، لأنّهم استحقوه بأعمالهم، ثمّ تابع تذكيره ووعظه وتحذيره دفاعا عن موسى عليه السلام، محذّرا إيّاهم من عذاب الآخرة بعد أن خوّفهم عذاب الدنيا وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أي يوم القيامة، وسمّي بذلك لأن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار، كما ذكر في سورة الأعراف، وقيل غير ذلك كما سنذكره في الفوائد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من مرشد وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات، أي جاء أهل مصر قبل موسى عليه السلام فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ أي فشككتم فيها ولم تزالوا شاكّين حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا وذلك لكفرهم وتكذيبهم حكموا هذا الحكم من عند أنفسهم من غير برهان، أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أنّه لا يجدّد الله عليكم إقامة الحجة كَذلِكَ أي: مثل هذا الإضلال يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي: مسرف في عصيانه، مرتاب: أي: شاك في دينه. قال ابن كثير: أي: كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله، وارتياب قلبه. ثمّ بيّن من هؤلاء المسرفون المرتابون؟، وما هي صفاتهم فقال: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ دفعا لها وإبطالا بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أي: بغير حجة جاءتهم من الله. قال ابن كثير: أي: الذين يدفعون الحق بالباطل، ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى. فإن الله عزّ وجل يمقت على ذلك أشد المقت. ولهذا قال تعالى: كَبُرَ مَقْتاً أي: عظم بغضا جدال الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم عِنْدَ اللَّهِ

[سورة غافر (40): آية 36]

وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فالله يبغضهم أشد البغض، والمؤمنون أيضا يبغضون من تكون هذه صفته كَذلِكَ أي: مثل هذا الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ على الحق جَبَّارٍ على خلق الله، وإنما وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما. وقد بيّنت الآية أنّ الطبع على القلب إنّما يستحقّه من اتّصف بالكبرياء والجبروت، ويبدو أنّه على أثر هذا الدفاع الحارّ عن موسى عليه السلام، وعلى أثر هذا الوعظ الشديد، أقلع فرعون عن قتل موسى، فخاطب وزيره من أجل أن يبني له صرحا يطّلع إلى إله موسى عليه السلام، وبذلك أشعر بصرف النظر، وأراد أن يغطي ذلك بهذا الطلب دون أن يعترف أنه كان مخطئا في تفكيره في قتل موسى عليه السلام، ودون أن يعلن انصرافه عن هذا القتل وَقالَ فِرْعَوْنُ جهلا، أو تمويها، أو تغطية، أو انصرافا عما كان فيه، أو إنهاء لكلام مؤمن آل فرعون يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أي: قصرا عاليا منيفا شاهقا. قال النسفي: وقيل الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ أي: طرقها وأبوابها، وما يؤدي إليها، إذ كل ما أدّاك إلى شئ فهو سبب فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى أي: فأنظر إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي: موسى عليه السلام كاذِباً في قوله له إله غيري، أو في وجود إله غيري وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك التزيين وذلك الصدّ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي: في خسران وهلاك. كلمة في السياق: [حول قضية الختم على القلب وسببه، وأهمية الإنذار، وإبراز وحدة السورة] 1 - يلاحظ أنه ورد في أول السورة قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ وأنه ورد على لسان مؤمن آل فرعون هنا قوله: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وفي ذلك دليل على أن قصة موسى عليه السلام وما ورد فيها تمثيل واقعي للمعاني التي ذكرت من قبل في السورة، كما أن في الآية دليلا على أنّ علامة الطبع على القلب الجدال في آيات الله. وبإدراكنا لهذه القضية ندرك مفتاح السورة، ونعرف محورها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فالختم على القلب سببه الجدال في آيات الله، وهي علامته. ومن ثم فإن

فوائد

السورة عند ما بدأت في الكلام عن الجدال في آيات الله إنّما كانت تفصّل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... من سورة البقرة. 2 - ورد في كلام مؤمن آل فرعون هذان القولان: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إن الله لا يهدي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ* الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ .... وهذا يدل على أن الله عزّ وجل إذا حكم على إنسان بالكفر، وختم على قلبه فما ذلك إلا لاتّصافه بصفات: منها الإسراف، ومنها الكذب، ومنها الارتياب الذي يرافقه جدال في آيات الله بغير حق، وردّ لها ودفع، أما إذا كان ريب يرافقه رغبة في الإيمان، وتسليم للحجة، فهذا يرجى من صاحبه خير. 3 - إذا اعتبرنا كلام مؤمن آل فرعون تفصيلا لمحور السورة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فإننا ندرك هاهنا قضية مهمة: وهي أنّه إذا كان الإنذار لأمثال هؤلاء الكافرين لا ينفعهم، بحيث يؤمنون، فإن الكلام معهم قد يفيد في شيء آخر؛ فإننا لاحظنا أن كلام مؤمن آل فرعون أثّر في صرف فرعون عن قتل موسى عليه السلام، ومن ثم فلا بد من إنذار، فإنه إنّ لم ينفع في تحقيق قضية الإيمان، فإنه ينفع في شئون أخرى، فلا يقولن إنسان لا ينفع الإنذار أبدا. فليس هناك طاغية كفرعون، ومع ذلك تزحزح عن موقف من مواقفه بسبب الإنذار البليغ. 4 - نلاحظ أنه في أول السورة وعظ الله الكافرين بقوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ .. ونلاحظ أن مؤمن آل فرعون وعظ قومه بهذا: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ... فالله عزّ وجل يعظ هذه الأمة من خلال الخطاب المباشر، ومن خلال العرض، ومن خلال القصة. ومن كل ما ذكرناه ندرك أنّ السورة تسير في اتجاه واحد، وتؤلف وحدة متكاملة ومحورا محددا. وقبل أن ننتقل إلى الجولة الثانية من كلام مؤمن آل فرعون. فلننقل بعض الفوائد. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير عن مؤمن آل فرعون] بمناسبة الكلام عن مؤمن آل فرعون. قال ابن كثير: (قال ابن جرير عن ابن

2 - كلام ابن كثير عن سبب تسمية يوم القيامة بيوم التناد

عباس رضي الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل، وامرأة فرعون والذي قال يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ (سورة القصص: 20) رواه ابن أبي حاتم، وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى فأخذت الرجل غضبة لله عزّ وجل. وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر كما ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ انفرد به البخاري وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل ما أشد ما رأيت قريشا بلغوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: مرّ صلّى الله عليه وسلم بهم ذات يوم فقالوا له: أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال «أنا ذاك» فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه، فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه وهو يصيح بأعلى صوته، وإن عينيه ليسيلان وهو يقول يا قوم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ حتى فرغ من الآية كلها وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة فجعله من مسند عمرو بن العاص رضي الله عنه). 2 - [كلام ابن كثير عن سبب تسمية يوم القيامة بيوم التناد] ذكرنا أن في سبب تسمية يوم القيامة يوم التناد أقوالا متعددة وقد عرض ابن كثير الأقوال الواردة في ذلك. قال: (وسمي بذلك قال بعضهم: لما جاء في حديث الصور إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى ذلك، ذهبوا هاربين، ينادي بعضهم بعضا، وقال آخرون منهم الضحاك: بل ذلك إذا جئ بجهنم، ذهب الناس هرابا منها، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر، وهو قوله تعالى وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها (الحاقة: 17) وقوله يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (الرحمن: 33) وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه والحسن والضحاك أنهم قرءوا يوم التناد بتشديد الدال، من ندّ البعير إذا تردى وذهب، وقيل: لأن الميزان عنده ملك، إذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته: ألا قد سعد فلان

3 - معنى كلمة"جبار" وكلام حول آية يطبع الله على كل قلب متكبر جبار

ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خفّ عمله نادى ألا قد شقي فلان بن فلان، وقال قتادة: ينادى كل قوم بأعمالهم، ينادي أهل الجنة أهل الجنة وأهل النار أهل النار، وقيل سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ (الأعراف: 44) ومناداة أهل النار أهل الجنة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (الأعراف: 50) ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار كما هو مذكور في سورة الأعراف، واختار البغوي وغيره أنه سمي بذلك لمجموع ذلك وهو قول حسن جيد والله أعلم). 3 - [معنى كلمة «جبار» وكلام حول آية يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] بمناسبة قوله تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ روى ابن أبي حاتم عن عكرمة وحكى عن الشعبي أنهما قالا: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين، وقال أبو عمران الجوني وقتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق والله تعالى أعلم). أقول: ليس شرطا حتى يعتبر الإنسان من الجبارين أن يقتل، بل قد يكون جبارا لمجرد قسوته وظلمه بدليل الحديث: «لا يزال الرّجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم» رواه الترمذي وقال حديث حسن قال النووي: (يذهب بنفسه) أي يرتفع ويتكبر، فقد يكون الإنسان من الجبارين ولو لم يقتل بغير حق، ولكن القتل بغير حق علامة من علامات الجبروت. 4 - [هدم نظرية الوصول إلى الله عن الطريق الحسي] في مقدمة كتابنا (الله جل جلاله) ذكرنا أن الطريق إلى الله آياته، وذكرنا أن كثيرين- خلال العصور السابقة وفي عصرنا- يطلبون الوصول إلى الله عن طريق الحسّ. واستشهدنا- من جملة ما استشهدنا على ذلك- بموقف فرعون إذ يقول لهامان ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وذكرنا أن الطريق إلى الله ليس هذا، مستشهدين بأدلة العقل والنقل، ومن جملة ما استشهدنا عليه من أدلة النقل قول الله عزّ وجل في هذا المقام: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ فالسبيل إلى الله ليس ما تصوره فرعون. 5 - [بشارة لأهل الإيمان وتهديد لأهل الطغيان] نلاحظ أنه في أول قصة موسى عليه السلام هاهنا ورد قوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وفي نهاية المجموعة الأخيرة ورد قوله تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ وهذه بشارة لأهل الإيمان أن يطمئنوا إلى العاقبة، وأن يعرفوا أن

تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى

أعداء الله ليسوا على شئ مهما علا سلطانهم وامتد بغيهم، هذا في الدنيا، وما عند الله أشد. وفي الحديث: «ما من إمام يموت- يوم يموت- وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» ولننتقل إلى الجولة الثانية في قصة مؤمن آل فرعون وهي المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى في المقطع .. تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ لا كما كذب فرعون عند ما قال: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. والرشاد هو: نقيض الغي: وفي قول مؤمن آل فرعون تعريض شبيه بالتصريح، أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغيّ. وبعد أن أجمل في دعوته فسّر، فافتتح بذم الدنيا فزهّدهم فيها، وهي التي قد آثروها على الأخرى، وصدّتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه السلام، وفي ذلك إشارة إلى أن بداية الرشاد وطريقه هو الزهد في الدنيا يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل، والمتاع هو ما فيه تمتيع يسير، فالإخلاد إلى الدنيا أصل الشر، ومنبع الفتن. وبعد أن حقّر الدنيا ثنى بتعظيم الآخرة، وبيّن أنّها هي الوطن والمستقر فقال: وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ أي: الدار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم. ومن ثم عقّب بذكر الأعمال سيئها وحسنها، وعاقبة كل منها، ليثبّط عما يتلف، وينشّط لما يزلف فقال: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ هذا هو الشرط فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يتقدّر بجزاء بل يثيبه الله عزّ وجل ثوابا كثيرا لا انقضاء له ولا نفاد. ثم وازن بين الدعوتين: دعوته إلى دين الله الذي ثمرته الجنات، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار. فقال: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله صلّى الله عليه وسلم الذي بعثه والتي مآلها الجنة وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ثم بيّن ما يدعونه إليه تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ أي: أجحده وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي: ما ليس لي بربوبيته وألوهيته علم، أي: ما لا يقوم الدليل والبرهان على صحة ألوهيته وربوبيته وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الذي لا أعظم من عزته، والذي هو مع عزته الْغَفَّارِ يغفر ذنب من تاب إليه لا جَرَمَ أي: حقا أو لا كذب

[سورة غافر (40): آية 44]

أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الأصنام والأنداد لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ أي: هو لا يدعو إلى عبادة نفسه، لا في الدنيا ولا في الآخرة فكيف تعبدونه؟! أو ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، فكيف تدعون من لا يستطيع استجابة دعاء من دعاه وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: وإن رجوعنا إليه في الدار الآخرة، فيجازي كلّا بعمله وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي: خالدين فيها بإسرافهم، وهو شركهم بالله عزّ وجل فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ أي: من النصيحة عند نزول العذاب. أي: سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به، ونهيتكم عنه، ونصحتكم ووضحت لكم، وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفعكم الندم وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي: وأتوكل على الله وأستعينه، وأقاطعكم وأباعدكم، أو وأسلّم أمري إلى الله إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي: بأعمالهم ومآلهم. أي: هو بصير بهم تعالى وتقدّس، فيهدي من يستحق الهداية، ويضلّ من يستحقّ الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامّة، والقدر النافذ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا أي: شدائد مكرهم، وما همّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، دلّ ذلك على أنّهم أرادوا الإيقاع به، ولكنّ الله نجاه وَحاقَ أي: ونزل بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ وهو الغرق في اليمّ، ثم النقلة منه إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة. فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا أي: في هذين الوقتين يعذّبون في النار، وفيما بين ذلك، إما أن يعذبوا بجنس آخر، أو ينفّس عنهم، ويجوز أن يكون المراد بذلك الدوام. وهذه الآية دليل على عذاب القبر. قال ابن كثير: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ أي: أشدّه ألما وأعظمه نكالا. كلمة في السياق: [حول صلة قصة مؤمن آل فرعون بمحور السورة] نلاحظ أن الله عزّ وجل عقّب على إنذار مؤمن آل فرعون بقوله: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ وهذا يدل على أنّهم لم ينتفعوا بإنذاره، ولذلك صلته بمحور السورة. من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ

تفسير المجموعة الخامسة من الفقرة الأولى

عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد عرض الله عزّ وجل علينا نموذجا من هذا العذاب العظيم في قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ولما كان آل فرعون أتباعا ومتبوعين فإنّ الله عزّ وجل يقصّ علينا خصومة أهل النّار مع بعضهم. ثم يقصّ علينا حكمة تعذيبه الكافرين في الدنيا والآخرة. ثم يختم قصة موسى عليه السلام في السورة. فلنر ذلك ثم نعود إلى السياق. تفسير المجموعة الخامسة من الفقرة الأولى وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي: واذكر وقت تخاصمهم في النار فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ يعني الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني الرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي: أتباعا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ أي: دافعون عَنَّا نَصِيباً أي: جزءا مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها أي: إنا كلنا فيها لا يغني أحد عن أحد، أي: لا نتحمل عنكم شيئا، كفى بنا ما عندنا، وما حمّلنا من العذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ أي: قضى بَيْنَ الْعِبادِ أي: قسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقّه كل منّا وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ جميعا لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أي: للملائكة الموكّلين بعذاب أهل النار ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً أي: بقدر يوم من أيام الدنيا مِنَ الْعَذابِ لمّا علموا أنّ الله عزّ وجل لا يستجيب منهم، ولا يستمع لدعائهم- سألوا الخزنة- وهم كالسجّانين لأهل النار- أن يدعوا لهم الله تعالى في أن يخفف عن الكافرين ولو بمقدار يوم واحد من العذاب، فقالت لهم الخزنة رادّين عليهم قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بالمعجزات والدلائل الواضحات قالُوا أي: الكافرون بَلى قالُوا فَادْعُوا أي: أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لكم، ولا نسمع منكم، ولا نودّ خلاصكم، ونحن منكم براء، ثمّ أخبروهم أنه سواء دعوا أو لم يدعوا لا يستجاب لهم، ولا يخفف عنهم؛ ولهذا قالوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي: إلا في ضياع وذهاب لا يقبل ولا يستجاب.

نقل: عن صاحب الظلال حول آية فيقول الضعفاء للذين استكبروا ..

نقل: [عن صاحب الظلال حول آية فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا .. ] عند قوله تعالى: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟ قال صاحب الظلال: (إن الضعفاء إذن في النار مع الذين استكبروا. لم يشفع لهم أنهم كانوا ذيولا وإمّعات! ولم يخفف عنهم أنهم كانوا غنما تساق! لا رأي لهم ولا إرادة ولا اختيار!. لقد منحهم الله الكرامة. كرامة الإنسانية. وكرامة التبعة الفردية. وكرامة الاختيار والحرية. ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعا. تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية. لم يقولوا لهم: لا. بل لم يفكروا أن يقولوها. بل لم يفكروا أن يتدبروا ما يقولونه لهم وما يقودونهم إليه من ضلال .. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً .. وما كان تنازلهم عما وهبهم الله واتباعهم الكبراء ليكون شفيعا لهم عند الله. فهم في النار. ساقهم إليها قادتهم كما كانوا يسوقونهم في الحياة. سوق الشياه! ثم ها هم أولاء يسألون كبراءهم: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟ .. كما كانوا يوهمونهم في الأرض أنهم يقودونهم في طريق الرشاد، وأنهم يحمونهم من الفساد، وأنهم يمنعونهم من الشر والضر وكيد الأعداء!. فأما الذين استكبروا فيضيقون صدرا بالذين استضعفوا، ويجيبونهم في ضيق وبرم وملالة. وفي إقرار بعد الاستكبار ... قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ. كلمة في السياق: ذكر الله عزّ وجل ثلاثة أنواع من العذاب يسلّطه على الكافرين به وبرسله: عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ في القبر، وعذاب النار، وبعد أن ذكر الله سبحانه أنواع العذاب هذه بيّن أنّ ذلك كله إنّما يفعله نصرة لرسله وللمؤمنين فقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كما نصر موسى ومؤمن آل فرعون بإغراق فرعون وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي: يوم القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يقبل عذرهم وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي: البعد من رحمة الله وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي: سوء دار الآخرة وهو عذابها، وسمّي يوم القيامة بيوم الأشهاد؛ لأن

كلمة في السياق

الأنبياء يشهدون فيه، والحفظة يشهدون، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب، والحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال. كلمة في السياق: بدأ الله عزّ وجلّ موسى عليه السلام بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ ... ثمّ قصّ علينا موقف الكافرين من موسى عليه السلام ودفاع مؤمن آل فرعون عن موسى، ثم قصّ الله علينا أنواع العذاب الذي يعذّبها الله الكافرين، انتصارا لرسله وللمؤمنين، ويختم الله عزّ وجل قصة موسى عليه السلام في هذه السورة بقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى يريد به جميع ما أتى به في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي: التوراة هُدىً أي: هداية وَذِكْرى أي: تذكيرا لِأُولِي الْأَلْبابِ أي: لأولي العقول. كلمة في السياق: بدأت قصة موسى عليه السلام بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وختمت بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ* هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ فكأنه يشير إلى البداية والنهاية في حياة موسى عليه السلام: مرحلة الصراع مع فرعون، ومرحلة النجاة، وهداية بني إسرائيل، ووراثتهم التوراة بعد ذلك وهي النعم الكبرى، والنصر العظيم، فالنّعمة الكبرى أن يكون الإنسان على الهدى، والنّصر العظيم أن يوجد ورّاث لدين الله ودعوته. وبهذا تنتهي الفقرة الأولى من المقطع الوحيد بعد مقدمة السورة، ويتوجّه الآن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم آمرا إياه بالصبر والاستغفار والتسبيح كما سنرى. وهذه بعض الفوائد المتعلّقة بالمجموعتين الأخيرتين.

فوائد

فوائد: 1 - [كلام ابن كثير عن مقاعد أهل النار بمناسبة آية النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها .. ] بمناسبة قوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عزّ وجل إلى يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به. 2 - [الفهم الصحيح لكيفية نصر الله للمؤمنين من خلال كلام ابن كثير وصاحب الظلال] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ قال ابن كثير: (قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا سؤالا فقال: قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء، ومنهم من خرج من بين أظهرهم، إما مهاجرا كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى، فأين النصرة في الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين «أحدهما» أن يكون الخبر خرج عامّا، والمراد به البعض، قال: وهذا سائغ في اللغة «الثاني» أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم، أو في غيبتهم، أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيي وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم، وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إماما عادلا، وحكما مقسطا، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام، وهذه نصرة عظيمة، وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه، أن ينصر عباده المؤمنين في الدنيا، ويقر أعينهم ممن آذاهم. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب» وفي الحديث الآخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب»، ولهذا أهلك الله عزّ وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحدا، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحدا. وقال السدي لم يبعث الله عزّ وجل رسولا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوم من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا،

قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها، وهكذا نصر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم وخذلهم، وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرّنين في الأصفاد، ثم منّ عليه بأخذ الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرّت عينه ببلده- وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم- فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده، فبلّغوا عنه دين الله عزّ وجل، ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جلّ وعلا، وفتحوا البلاد والرساتيق، والأقاليم والمدائن، والقرى والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل) .. أقول: الذي يظهر من السياق في السورة أنّ النّصرة التي وقعت لموسى عليه السلام ولمؤمن آل فرعون تظهر في أخذ فرعون وجنده في البحر، وتسليط أنواع من العذاب الرباني عليهم، ثم تعذيبهم في القبر، ثم تعذيبهم يوم القيامة، فهذه مظاهر النصرة لموسى عليه السلام ومن آمن به، ومظاهر انتصار الله لرسله وللمؤمنين كثيرة فليستبشر المؤمنون، فإنّ في قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بشارة للمؤمنين إلى قيام الساعة بنصرة الله. وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ قال صاحب الظلال: فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان. إن وعد الله قاطع جازم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ... .. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل، ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذّبا مطرودا، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من

يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد .. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل!. ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير. إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيّز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!. والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى. وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة. إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها .. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك- في منطق العقيدة- أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! .. والحسين- رضوان الله عليه- وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في أرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين. وكثير من غير المسلمين!. وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزا محركا للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال. ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور ومن القيم. قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!.

كلمة في الفقرة الأولى من هذا المقطع وفي مقدمة السورة

على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد صلّى الله عليه وسلم في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا- من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة- فيشاء الله أن ينصر صاحب هذه العقيدة في حياته ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية. وفق تقدير الله وترتيبه. وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا. ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها. وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله. وإن هنالك لأشكالا من الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويطمئن إلى قضاء الله فيه وقدره عليه، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله. ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول. وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله، ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير. فسيكل هذا كله لله. ويلتزم. ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير .. وذلك معنى من معاني النصر .. النصر على الذات والشهوات. وهو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال. كلمة في الفقرة الأولى من هذا المقطع وفي مقدمة السورة: 1 - بدأ هذا المقطع بقوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ. ثم جاءت قصة موسى عليه السلام نموذجا على تعذيب الله لمن كذّب الرسل، حتى إذا استقر هذا المعنى يتوجّه الآن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم آمرا إياه بالصبر، فإذا تذكرنا مقدمة سورة (ص) التي تفصّل في نفس المحور الذي تفصّل فيه سورة غافر، فإننا نلاحظ أنّه قد جاء بعد مقدمة السورة قوله تعالى اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ وهاهنا بعد إذ

قرر الله عزّ وجل ما رأينا يأتي قوله تعالى فَاصْبِرْ ... ثم بعد آيات كثيرة يتكرر الأمر بالصبر فَاصْبِرْ فإذا تذكّرنا أنه قبيل بداية المقطع ورد قوله تعالى وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ .. نعلم كيف أنّ السورة وجّهت الرسول صلّى الله عليه وسلم نحو الإنذار، ثم تبدأ الآن توجّهه نحو الصبر أمام المواقف المتعنّتة المستكبرة. 2 - إذا اتضح ما مرّ ندرك كيف تسير السورة في تفصيل المحور إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فالسورة ترينا أنّ هناك كافرين لا يؤثّر فيهم الإنذار، وترينا مظاهر من العذاب العظيم للكافرين، وترينا علامة الكافرين الذين يستأهلون الطبع على القلوب، كما ترينا ضرورة الإنذار. وها هي ذي تصل إلى الحديث عما ينبغي أن يكون عليه النذير من الصفات. 3 - رأينا في قصة مؤمن آل فرعون نموذجا على إنذار المؤمن، ونموذجا على مواقف المؤمنين، والدرس الكبير الذي نأخذه من القصة: أن كتمان الإيمان ينبغى أن يكون لخدمة الدعوة، حتى إذا أصبح الإظهار هو المصلحة الحقيقية فينبغي أن يظهر الإيمان، فالذين يكتمون ويموتون وهم كاتمون مع وجود المصلحة الحقيقية للإظهار- وخاصة عند ما يكونون في وضع يفترض عليهم أن يفعلوا- هؤلاء آثمون. 4 - بدأت السورة بتبيان أن هذا القرآن من عند الله، ثم تحدّثت عن كون الكافرين يجادلون في آيات الله، وأمرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بألا يغرّ بتقلّبهم في البلاد، ثم ذكرت موقف الأمم السابقة من رسلها، وما عوقبوا به، ثم حدّثتنا عن دعاء الملأ الأعلى للمؤمنين، وتأنيب الملائكة للكافرين يوم القيامة، ثمّ عرّفتنا على الله عزّ وجل، آمرة لنا بعبادته، والإخلاص فيها ولو كره الكافرون، ثمّ عرّفتنا على الله وإرساله الرسل، وأمرت الرسول صلّى الله عليه وسلم بالإنذار. ثمّ خاطب الله الكافرين بأن يعتبروا بمشاهداتهم لفعل الله لرسله وللمؤمنين، وفي ذلك بشارة للمؤمنين وتثبيت لقلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى إذا وضحت الأمور هذا الوضوح يأتي الآن توجيه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم آمرا إياه بالصبر كما سنرى. 5 - إن قصة موسى عليه السلام خدمت بشكل مباشر قوله تعالى أَوَلَمْ يَسِيرُوا .. ، كما خدمت مقدمة السورة كذلك؛ إذ بيّنت لنا الأسباب النفسية والقلبية

الفقرة الثانية من المقطع وتشتمل على أربع مجموعات

لجدال الكافرين، واستحقاقهم الطبع على القلب بذلك، وبيّنت لنا أنماطا من جدال الكافرين بآيات الله، وبيّنت لنا تأييد الله لرسله وللمؤمنين، وبيّنت لنا مآل الكافرين، وكل ذلك قد تحدّثت عنه مقدمة السورة، فالقصة خدمت ما سبقها من معان، وهي كذلك تخدم المعاني التي ستأتي بعدها فلننتقل الآن إلى الفقرة الثانية في المقطع. الفقرة الثانية من المقطع [وتشتمل على أربع مجموعات] تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية فَاصْبِرْ يا محمد على ما يجرعك الكافرون من الغصص في مواقفهم الظالمة الكافرة المنكرة المستكبرة الرافضة للحق إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بإقامة الساعة حَقٌّ لا مرية فيه ولا شك وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قال النسفي: أي: لذنب أمّتك، وقال ابن كثير: هذا تهييج للأمّة على الاستغفار، أقول: هو على كل حال أمر له عليه الصلاة والسلام بالاستغفار، وكان عليه الصلاة والسلام يستغفر كثيرا كل يوم كما سنرى في الفوائد، ولعل استغفاره أثر عن رؤية التقصير عن مراتب العمل كما ينبغي لله جل جلاله، فإنّ الإنسان كلّما عرف من جلال الله وكماله، زاد شعوره بكثرة تقصيره؛ فيستغفر استغفار المذنبين، ومن ثمّ قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ أي: في أواخر النّهار، وأوائل الليل وَالْإِبْكارِ وهي أوائل النهار وأواخر الليل هكذا قال ابن كثير في تفسير العشي والإبكار، وقال النسفي: أي: دم على عبادة ربك والثناء عليه، وقيل: هي صلاتا الفجر والعصر، وقيل: سبحان الله وبحمده إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردّون الحجج بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي: تعظّم، وهو إرادة التقدّم والرئاسة، وألا يكون أحد فوقهم، فلهذا عادوك ودفعوا آياتك، خيفة أن تتقدمهم، ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك؛ لأن النبوة تحتها كل ملك ورئاسة، أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك، حسدا وبغيا، أو إرادة دفع الآيات بالجدل ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي: ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضاه وهو متعلّق إرادتهم من الرئاسة، أو النّبوة، أو دفع الآيات، قال ابن كثير: أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم

كلمة في السياق: حول عرض كيفية جدال الكافرين في آيات الله

به، وليس ما يرومونه من إخماد الحق، وإعلان الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقول ويقولون الْبَصِيرُ بما تعمل ويعملون فهو ناصرك عليهم، وعاصمك من شرّهم، أو المعنى: فاستعذ بالله من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان، إنه هو السميع لكل شئ، البصير بكل شئ. كلمة في السياق: [حول عرض كيفية جدال الكافرين في آيات الله] يلاحظ أنّ موضوع مجادلة الذين كفروا بآيات الله قد ذكرت ثلاث مرات حتى هاهنا: مرّة في أوّل السورة ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ومرة على لسان مؤمن آل فرعون: إن الله لا يهدي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ* الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ومرة هنا: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. المرة الأولى قررت أن المجادلة في آيات الله لا يفعلها إلا الكافرون، والمرّة الثانية بيّنت أنّ الإسراف والارتياب هما سبب الجدل في آيات الله، وأن الجدل في آيات الله هو علامة أن القلب قد طبع عليه بسبب الكبرياء والجبروت، والمرّة الثالثة بيّنت أنّ الجدال في آيات الله أثر عن الكبر الذي يستهدف أصحابه الجاه والعظمة والرئاسة. وإذ تحدّدت الأسباب النفسية والقلبية للجدال في آيات الله، وتبيّنت مظاهر ذلك وأهداف أصحابه، فإن الآيتين الأخيرتين حدّدتا الموقف المكافئ لذلك، وهو الصبر والاستغفار، والتسبيح بحمد الله، والاستعاذة بالله، ومن قبل أمرت الآية الأولى من الآيات الثلاث بعدم الاغترار بما عليه الكافرون، وهكذا نرى كيف أن السياق يصبّ في مصبّ واحد مع تعرضه لكثير من المعاني خلال سيره الرئيسي؛ لاحتياج المعنى الرئيسي إلى ذلك، وإذا كان الصبر مستحيل الوجود إلا إذا كان هناك إيمان بالله وباليوم الآخر. وإذا كان الاستغفار والتسبيح والاستعاذة أثرا عن معرفة الله عزّ وجل، فإنّ السياق الآن يتّجه للحديث عن اليوم الآخر، ويتّجه ليعرّفنا على الله عزّ وجل.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ قال النّسفي: (لما كانت مجادلتهم في آيات الله مشتملة على إنكار البعث- وهو أصل المجادلة ومدارها- حجّوا بخلق السموات الأرض؛ لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها، فإن من قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر). وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم قال ابن كثير في الآية: (يقول الله تعالى منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السموات والأرض، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأخرى)، ولأنّ رؤية هذه المعاني تدلّ على بصيرة القلب، وعدم رؤيتها يدلّ على العمى، ولأن الإيمان بها ينبع عنه العمل الصالح، وعدم الإيمان ينبع عنه العمل السيئ، قال تعالى وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي: كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي: تذكرا قليلا تتذكّرون، قال ابن كثير: أي: ما أقلّ ما يتذكّر كثير من الناس، ثمّ قرّر تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي: لكائنة وواقعة لا رَيْبَ فِيها أي: لا شك. قال النسفي: (أي: لا بدّ من مجيئها، وليس بمرتاب فيها لأنّه لا بدّ من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء). وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا يصدّقون بها بل يكذّبون بوجودها وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أي: اعبدوني، أو وحّدوني، أو سلوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي: أثيبكم، أو أغفر لكم، أو أعطكم قال ابن كثير: هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفّل لهم بالإجابة، ولنا عودة في الفوائد على هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي قال ابن كثير: أي: عن دعائي وتوحيدي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي: صاغرين حقيرين. نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال عن عجائب خلق الله في السموات والأرض بمناسبة الآية (57)] قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ والسماوات والأرض معروضتان للإنسان

2 - كلام صاحب الظلال عن آداب الدعاء بمناسبة آية ادعوني أستجب لكم ..

يراهما، ويستطيع أن يقيس نفسه إليهما. ولكنه حين (يعلم) حقيقة النسب والأبعاد، وحقيقة الأحجام والقوى، يطامن من كبريائه، ويتصاغر ويتضاءل حتى ليكاد يذوب من الشعور بالضآلة. إلا أن يذكر العنصر العلوي الذي أودعه الله إياه، والذي من أجله كرمه. فهو وحده الذي يمسك به أمام عظمة هذا الكون الهائل العظيم. ولمحة خاطفة عن السموات والأرض تكفي لهذا الإدراك. هذه الأرض التي نحيا عليها تابع صغير من توابع الشمس تبلغ كتلتها ثلاثة من مليون من كتلة الشمس! ويبلغ حجمها أقل من واحد من مليون من حجم الشمس. وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا؛ والتي نحن منها. وقد كشف البشر- حتى اليوم- نحو مائة مليون من هذه المجرات! متناثرة في الفضاء الهائل من حولها. والذي كشفه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يذكر من بناء الكون! وهو- على ضآلته- هائل شاسع يدير الرءوس مجرد تصوره. فالمسافة بيننا وبين الشمس حوالي ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. ذلك أنها رأس أسرة كوكبنا الأرضي الصغير. بل هي- على الأرجح- أم هذه الأرض الصغيرة. ولم تبعد أرضنا عن أحضان أمها بأكثر من هذه المسافة: ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها حوالي مائة ألف مليون سنة .. ضوئية .. والسنة الضوئية تعني مسافة ستمائة مليون مليون ميل! لأن سرعة الضوء هي ستة وثمانون ومائة ألف ميل في الثانية!. وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية .. ! ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها. وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض!). 2 - [كلام صاحب الظلال عن آداب الدعاء بمناسبة آية ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ .. ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ: وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب

كلمة في السياق: حول علاقة المجموعة بما قبلها وما بعدها وبالمحور، وملاحظة حول المجموعات القادمة

السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر- رضي الله عنه- يقول: «أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه» وهي كلمة القلب العارف، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما- حين يوفق الله- متوافقان متطابقان. فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة، وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار). كلمة في السياق: [حول علاقة المجموعة بما قبلها وما بعدها وبالمحور، وملاحظة حول المجموعات القادمة] 1 - جاءت هذه الآيات بعد الآية التي قالت إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ وكأنّها تذكر أمهات القضايا التي يجادلون فيها، وهي الساعة والإيمان والعمل الصالح والعبادة، وقد عرضها الله عزّ وجل عرضا يظهر منه أنّ جدالهم في غير محله، فذكر أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فموضوع البعث بديهي، وذكر أن الإيمان والعمل الصالح لا يستوي مع الإساءة، كما لا يستوي الأعمى والبصير، فالإيمان والعمل الصالح لا ينبغي أن يمارى في فضلهما، والعبادة لله عزّ وجل بديهية من البديهيات، كيف والله عزّ وجل قد خلق للإنسان ما خلق ممّا سنراه في المجموعة اللاحقة، فالمجموعة تربط بين ما قبلها وما بعدها. 2 - جاءت هذه المجموعة بعد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بالصبر والتسبيح والاستعاذة بالله، فكانت برهانا على مجئ اليوم الآخر، وتهييجا على الإيمان والعمل الصالح والدعاء والعبادة التي فيها الاستغفار والتسبيح والاستعاذة. 3 - إذا تأمّلنا محور السورة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وتأمّلنا قوله تعالى في المجموعة إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وإذا تأمّلنا عدم استواء الإيمان والكفر، والعمل الصالح والإساءة،

تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية

أدركنا صلة ذلك بكون الكافرين لا يستفيدون من الإنذار، وأدركنا ضرورة الصبر على مثل هذه المواقف. 4 - نلاحظ أنّ المجموعات القادمة تتحدّث عن الله عزّ وجلّ، وذلك بعد قوله تعالى وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ فكأنّ السياق يرينا أنّه من البديهي أن تجب العبادة لله، فلنر ذلك ملاحظين أن لفظ الجلالة (الله) أو الضمير العائد إليه (هو) يتكرر ورودهما في آيات المجموعة التالية: تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية أ- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي: لتطمئنوا فيه وتستريحوا وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئا ليتصرفوا بالأسفار، وقطع الأقطار، والتمكّن من الصناعات إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي: لصاحب فضل عليهم لا يوازيه فضل وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي: لا يقومون بشكر الله عليهم، بأن يعبدوه كما أمرهم ذلِكُمُ أي: الذي خلق الليل والنهار اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا شئ إلا وهو خلقه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا رب غيره، ولا إله سواه، فهو الجامع لأوصاف الربوبية والإلهية والوحدانية فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: تصرفون. قال ابن كثير: أي فكيف تعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا بل هي مخلوقة منحوتة. وقال النسفي: أي: (فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قال النسفي: أي: كل من جحد بآيات الله، ولم يتأمّلها، ولم يطلب الحق، أفك كما أفكوا وقال ابن كثير: (أي كما ضلّ هؤلاء بعبادة غير الله، كذلك أفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الجهل والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته) ومعنى يؤفك: يصرف.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: وهكذا أقامت هذه الآيات الحجة على ضرورة عبادة الله وشكره، بأن ذكّرت بنعم الله في خلقه الليل والنهار والأشياء كلها، وبأن ذكّرت بوحدانيته وربوبيته وألوهيته، كما أنكرت على من يصرف عن العبادة، وبيّنت أنّ سبب الصرف عن العبادة هو جحود آيات الله. فالجحود هو الصارف عن العبادة، وعن الشكر، وصلة ذلك بقوله تعالى وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ واضحة، وصلة ذلك بالجدال في آيات الله واضحة. ب- اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً قال النسفي: أي مستقرا وقال ابن كثير: (أي جعلها لكم مستقرا بساطا مهادا تعيشون عليها وتتصرّفون فيها، وتمشون في مناكبها، وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم). أقول: وقد أخطأ من ظنّ أن القرار لا يجتمع مع الدوران، فأتت تشعر بالاستقرار وأنت راكب في السيارة والقطار والطائرة، ولا يعني ذلك نفي الحركة، فالله عزّ وجل يمنّ علينا باستقرارنا على الأرض بحيث لا تميد بنا ولا تضطرب، وهذا يتحقق في حالة سكون الأرض، أو حركتها المنتظمة وَالسَّماءَ بِناءً محكما غير مضطرب، أي: فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور. قال صاحب الظلال: فأما الإنسان ذاته فمن حسن صورته هذه الهيئة المتفردة بين سائر الأحياء، وهذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقّة؛ وهذا التوافق بين تكوينه والظروف الكونية العامة التي تسمح له بالوجود والحركة في هذا الوسط الكوني كما هو كائن. وذلك كله فوق خاصيته الكبرى التي جعلت منه خليفة في الأرض، مجهزا بأداة الخلافة الأولى: العقل والاتصال الروحي بما وراء الأشكال والأعراض. ولو رحنا نبحث دقة التكوين وتناسق أجزائه ووظائفه- بوصفها داخلة في قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ- لوقفنا أمام كل عضو صغير، بل أمام كل خلية مفردة، في هذا الكيان الدقيق العجيب.

[سورة غافر (40): آية 65]

ونضرب مثلا لهذه الدقة العجيبة فك الإنسان ووضع الأسنان فيه من الناحية الآلية البحتة. إن هذا الفك من الدقة بحيث إن بروز واحد على عشرة من المليمتر في اللثة أو في اللسان، يزحم اللثة واللسان، وبروز مثل هذا الحجم في ضرس أو سن يجعله يصطك بما يقابله ويحتك! ووجود ورقة كورقة السيجارة بين الفكين العلوي والسفلي يجعلها تتأثر بضغط الفكين عليها فتظهر فيها علامات الضغط لأنهما من الدقة بحيث يلتقيان تماما ليمضغ الفك ويطحن ما هو في سمك ورقة السيجارة. ثم .. إن هذا الإنسان بتكوينه هذا مجهز ليعيش في هذا الكون .. عينه هذه مقيسة على الذبذبات الضوئية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكل حاسة فيه أو جارحة مصممة وفق الوسط المهيأ لحياته، ومجهزة كذلك بالقدرة على التكيف المحدود عند تغير بعض الظروف. إنه مخلوق لهذا الوسط، ليعيش فيه، ويتأثر به، ويؤثر فيه. وهناك ارتباط وثيق بين تصميم هذا الوسط وتكوين هذا الإنسان. وتصوير الإنسان على هذه الصورة ذو علاقة بوسطه. أي: بالأرض والسماء. ومن ثم يذكر القرآن صورته في نفس الآية التي يذكر فيها الأرض والسماء .. ألا إنه الإعجاز القرآنى .. ). وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي: من المآكل والمشارب في الدنيا قال ابن كثير: فذكر أنّه خلق الدار والسكان، والأرزاق فهو الخالق الرازق ذلِكُمُ أي: الذي فعل هذا كله اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: فتعالى وتقدّس وتنزّه رب العالمين كلهم هُوَ الْحَيُّ وليس كمن تعبدون من الأموات من أصنام وطبيعة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو المنفرد بالألوهية فَادْعُوهُ أي: فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة من الشرك والرياء، مع التوحيد الخالص قائلين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: جامعين بين العبادة والشكر قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والأوثان والأنداد لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي أي: القرآن وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: وأمرت أن أستسلم وأستقيم وأنقاد لرب العالمين.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: ذكر الله عزّ وجل في هذه الآيات ما يستوجب شكره وعبادته وإفراده بالعبادة، وختم هذه الآيات بأن أمر رسوله الله صلّى الله عليه وسلم أن يبيّن أنّه منهي عن عبادة غير الله عزّ وجل، ومأمور بالاستسلام لله، وفي ذلك بيان أنّ الموقف الصحيح من الآيات هو إفراد الله عزّ وجل بالعبادة والاستسلام، لا كما فعل الكافرون من ردّ الآيات، ورفض العبادة والاستسلام لله عزّ وجل، وهذا يؤكّد الصلة بين هذه الآيات ومسار السورة عامة، كما يوضح الصلة بين هذه الآيات وبين قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ كما يوضح أن الأمر بعبادة الله يدخل فيه النهي عن عبادة غيره، كما يدخل فيه التسليم لله رب العالمين. ج- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ قبل أن تكونوا نطفا، وذلك أن التراب والهواء يتحوّلان إلى غذاء، والغذاء يتحوّل داخل الجسم إلى نطف، أو المراد خلق آدم عليه السلام من تراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ببلوغكم الأربعين ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً بعد بلوغكم الأشدّ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي: من قبل بلوغ الأشدّ أو بلوغ الشيخوخة وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي: ويفعل ذلك ليبلغ الجنس البشري يوم القيامة وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: ما في ذلك من العبرة والحجج، فتؤمنوا وتعبدوا وتسلموا هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: هو المنفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: فإنّما يكوّنه سريعا من غير كلفة، ومن كان هذا شأنه فيجب أن يعبد وحده، ولا يشرك به، وأن يسلم له. كلمة في السياق: قلنا إن سورة المؤمن تتألف من مقدّمة ومقطع، ورأينا أنّه بانتهاء قصة موسى تنتهي

تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الثانية

الفقرة الأولى من المقطع، ثمّ تأتي الفقرة الثانية التي تبدأ بقوله تعالى فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد مرّت معنا من الفقرة الثانية ثلاث مجموعات، والملاحظ أن المجموعة التي ستأتي معنا لها صلة ببداية الفقرة، فلقد جاء في بداية الفقرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلنر المجموعة الرابعة من الفقرة الثانية من المقطع: تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الثانية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ قال ابن كثير: يقول تعالى: ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذّبين بآيات الله، ويجادلون بالباطل كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي: بالقرآن وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا أي: من الهدى والبيان فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد من الرب جل جلاله لهؤلاء) ثم بيّن متى سيكون هذا العلم فقال إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ أي: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم يُسْحَبُونَ أي: تسحبهم الزبانية على وجوههم فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ قال ابن كثير: تارة إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم. والحميم هو: الماء الحار، والجحيم: النار، وسجر التّنور معناه: ملأه وقودا، ومعنى أنهم يسجرون أي أنّهم في النّار، فهي محيطة بهم، وهم مسجورون بالنّار، ومملوءة بها أجوافهم ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ على وجه التقريع والتوبيخ والتحقير والتصغير، والتهكم والاستهزاء بهم، والقائل هم خزنة جهنم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام التي كنتم تعبدونها قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي: ذهبوا فلم ينفعونا، أو غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي: تبيّن لنا أنّهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا، وقد يكون المراد جحودهم لعبادة غير الله كذبا منهم، كعادتهم الكذب في الدنيا ... كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي: مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة، يضلهم الله عن الحق في الدنيا، بجدالهم في آيات الله، أو كما أضل هؤلاء المجادلين، يضل سائر الكافرين الذين علم منهم اختيار الضلال على الدين الحق ذلِكُمْ العذاب الذي نزل بكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ أي: بسبب ما كان لكم من

[سورة غافر (40): آية 76]

الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك، وعبادة الأوثان. قال ابن كثير: (أي: تقول لهم الملائكة: هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم). ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله، واتّباع دلائله وحججه، وبهذا انتهت الفقرة الثانية من المقطع، لتبدأ فقرة ثالثة مبدوءة بما بدأت به الفقرة الثانية فَاصْبِرْ ... كلمة في السياق: [حول علة من علل جدال الكافرين، وعلاقة الفقرة الثانية بالثالثة] 1 - عجّبت هذه المجموعة الأخيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من صرف الذين يجادلون في آيات الله عن الحق، وبيّنت أنهم سيعلمون الحقّ عند ما يعذّبون في الآخرة، وذكرت أنّ استحقاقهم العذاب بسبب فرحهم في الأرض ومرحهم بغير الحق، ففهمنا علة جديدة من علل جدال الكافرين، وهي الفرح والمرح بغير الحق، وكان السياق قد ذكر من قبل الدنيا والإسراف والارتياب والتكبر والجبروت. 2 - إنّ هذا الجزء من المقطع والمتضمن للفقرة الثانية بدأ بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصبر والاستغفار، والتسبيح والاستعاذة، ليساعده ذلك على السير رغم مكابرة المكابرين، وأقام الحجة على هؤلاء المكابرين في أمهات القضايا التي يكابرون فيها ويجادلون، رغبة في إبطالها، وبيّن أنّ كل ما يجادلون فيه إنما هو من باب البديهيات لمن عقل أو تذكّر. حتى إذا قامت الحجة يعود السياق في الفقرة الثالثة إلى الأمر بالصبر، وقبل أن نعرض الفقرة الثالثة فلنذكر بعض الفوائد .. فوائد: 1 - [عرض لاتجاهات العلماء في المقصود بالدعاء في آية ادْعُونِي أَسْتَجِبْ .. ] للعلماء في قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ثلاثة اتجاهات. أن المراد بالدعاء هنا الدعاء المعروف، أو أن المراد به التوحيد، أو أن المراد به العبادة، والحديث الشريف يقول «الدعاء مخ العبادة» أو «الدعاء هو العبادة» وما ذلك إلا لأن فيه

2 - كلام ابن كثير حول آية فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين

افتقارا إلى الله، وخضوعا له، ومعرفة لكونه سميعا قريبا مجيبا، فمن عبد الله بالدعاء لم يستكبر عن عبادته بمعاني العبادة الأخرى، ولذلك بدأت الآية بالأمر بالدعاء، وختمت بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ وبمناسبة هذه الآية قال ابن كثير: (روى الإمام الحافظ أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عزّ وجل قال: «أربع خصال: واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي، فأما التي لي لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك عليّ فما عملت من خير جزيتك به، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الإجابة، وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك». وروى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير، وقال الترمذي: حسن صحيح ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله عزّ وجل غضب عليه» تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به. وروى الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتابابسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا». 2 - [كلام ابن كثير حول آية فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] بمناسبة قوله تعالى: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن كثير: (قال ابن جرير: كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين، عملا بهذه الآية. ثم روى عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وعن سعيد بن جبير قال: إذا قرأت فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فقل لا إله إلا الله، وقل على أثرها الحمد لله رب العالمين ثم قرأ الآية فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. روى الإمام أحمد عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن بدر المكي قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا

تفسير الفقرة الثالثة

حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخرى عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وذكر تمامه). ولننتقل للحديث عن الفقرة الثالثة في المقطع، وكما وجدت في الفقرة الثانية آيات مبدوءة بلفظ الجلالة فسنرى هاهنا نفس الظاهرة. تفسير الفقرة الثالثة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: فاصبر يا محمد فإن وعد الله بالنصر على الكافرين حق بتعذيبهم في الدنيا، أو بالتسليط عليهم، عدا ما أعدّه لهم من عذاب الآخرة. قال ابن كثير: (يقول تعالى آمرا رسول صلّى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه، فإن الله تعالى سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة). فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك ذلك فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي: يوم القيامة فننتقم منهم أشدّ الانتقام، وقد أرى الله رسوله صلّى الله عليه وسلم نصره في الحياة الدنيا، بأن أقرّ عينه من كبراء المشركين وعظمائهم الذين أبيدوا في يوم بدر، ثم فتح الله عليه مكة، وسائر جزيرة العرب في حياته عليه الصلاة والسلام، ثمّ قال تعالى مسلّيا رسوله صلّى الله عليه وسلم ومبينا له سنته في هذا الأمر فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إلى أممهم مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أي: منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع أقوامهم كيف كذّبوهم، ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال ابن كثير: وهم أكثر ممّن ذكر بأضعاف أضعاف كما تقدّم التنبيه على ذلك في سورة النساء وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ أي: بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فالأمر أمره فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذّبين قُضِيَ بِالْحَقِّ قال ابن كثير: فينجّي المؤمنين، ويهلك الكافرين ولهذا قال وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أي: المعاندون والذين يجادلون في آيات الله.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - دلّت الآيتان على أنّ نصرة الله لرسله محقّقة، ولكن ليس شرطا أن يروها، فإذا كانت النصرة بالتعذيب، فقد يأتي التعذيب بعد انتقال الرسول، وهاهنا نحبّ أن ننبّه إلى أمر: وهو أننا نلاحظ أن كلا من هاتين الفقرتين في المقطع بدأت بقوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد يراد بالوعد في الآية الأولى وعد الله يوم القيامة، والوعد المذكور في الآية الثانية [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ] قد يراد به وعد الله بالنصر في الدنيا. 2 - قال الله عزّ وجل في هذه الآيات وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وهذا يشعر أن الكافرين يقترحون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيات ولذلك فإن الله عزّ وجل يلفت النظر فيما يأتي إلى آية من آياته في الكون. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ أي: خلق لَكُمُ الْأَنْعامَ البقر والإبل والغنم والماعز لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي: لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ في ألبانها وأوبارها وجمالها وغير ذلك وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي: لتبلغوا عليها ما تحتاجون إليه من الأمور وَعَلَيْها أي: وعلى الأنعام وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ تفضلا من الله ونعمة قال ابن كثير: (فالإبل تركب وتؤكل وتحلب، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية والأقطار الشاسعة، والبقر تؤكل ويشرب لبنها ويحرث عليها الأرض، والغنم تؤكل ويشرب لبنها، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة، كما فصّل وبيّن في أماكن تقدم ذكرها في سورة الأنعام وسورة النحل وغير ذلك). وَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي: حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أي: لا تقدرون على إنكار شئ من آياته، فكيف تقترحون الآيات وهي مبثوثة أمامكم، وكيف لا تؤمنون والآيات مرئية مشاهدة، ولماذا تجادلون وتعاندون وتكابرون والأمر أوضح من كل واضح أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي: أفلم يسر هؤلاء الكافرون المعاندون المجادلون فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ أي: نهاية الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وَأَشَدَّ قُوَّةً أي: في أبدانهم وَآثاراً خلّفوها فِي الْأَرْضِ والظاهر أنّ الخطاب لقريش المخاطبين

كلمة في السياق

الأوائل فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: لم يردّ عنهم ذلك شيئا لمّا جاء بأس الله. كلمة في السياق: بدأ المقطع بقوله تعالى أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... وبعد ثلاث فقرات يعود السياق إلى خطابهم بنفس المضمون أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... لافتا نظرهم إلى الاعتبار في السير، إلى علة هلاك الأمم السابقة، وفي ذلك تحذير أي تحذير. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال النسفي: يريد علمهم بأمور الدنيا، ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ فلما جاءتهم الرسل بعلوم الدين- وهي أبعد شئ من علمهم؛ لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات- لم يلتفتوا إليها، وحقروها واستهزءوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به، أو علم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه، وحقروا علم الأنبياء إلى علمهم، وَحاقَ بِهِمْ أي: بالكافرين الفرحين بما عندهم من العلم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: يكذّبون ويستبعدون وقوعه فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي: عاينوا وقوع العذاب بهم قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي: وحّدوا الله عزّ وجل، وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال العثرات، ولا تنفع المعذرة فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي: عذابنا، أي: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم وقتذاك سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ أي: مضت فِي عِبادِهِ أنّ الإيمان عند نزول العذاب لا ينفع، وأن العذاب نازل بمكذّبي الرسل. قال ابن كثير: أي: هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنّه لا يقبل، ولهذا جاء في الحديث: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أي: فإذا غرغر، وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك فلا توبة حينئذ، ولهذا قال تعالى وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ والكافرون خاسرون في كل أوان، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب، وبهذا انتهت السورة مشبها آخرها أولها، مرتبطا أولها بآخرها بأواسطها.

ملاحظات في السياق: عرض لمظاهر تكامل السورة مع بعضها البعض

ملاحظات في السياق: [عرض لمظاهر تكامل السورة مع بعضها البعض] جاء بعد آيتين في أوائل السورة قوله تعالى: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ. وجاء في أول المقطع بعد المقدمة. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ. وجاء في آخر السورة قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وإنك لتجد وحدة السياق من خلال وحدة هذه المعاني المتشابهة في أول السورة ووسطها وخاتمتها، كما أنك تجدها في غير ذلك، كموضوع جدال الكافرين في آيات الله الذي عرض في أول السورة ووسطها وخاتمتها .. إنك لو تأمّلت قصة موسى عليه السّلام لوجدتها تخدم المعاني التي سبقتها، والمعاني التي لحقتها، ولو تأمّلت معاني الفقرات الأخيرة في السورة لوجدت تلاحمها مع بعضها، ولو وجدت صلاتها مع ما سبقها في السورة، فالسورة كل متكامل، ومع ذلك فهي تفصّل في محورها من سورة البقرة، وتأخذ محلّها في مجموعتها. فائدة: [العلم الدنيوي قد يكون دافعا إلى الغرور والصد عن سبيل الله] إن هناك معان كثيرة تذكر في القرآن باختصار، إن مجرد الإشارة إليها يعتبر معجزة ضخمة لمن عقل، وتأمّل من ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

كلمة أخيرة في سورة غافر ومحلها من مجموعتها

فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فالإشارة إلى أنّ العلم الدنيوي عامل من عوامل الغرور الصاد عن متابعة الرسل، معجزة من معجزات هذا القرآن، وهي معجزة لا يدرك الإنسان مداها كما يدركه في عصرنا، إذ وصل الغرور البشري إلى ذروته، فأصبح أهل العلم بقوانين هذا الكون يحتقرون كل العلوم الدينية إلا المنصفين منهم، وقليل ما هم، قال صاحب الظلال: (والعلم- بغير إيمان- فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون، ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل. وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه). كلمة أخيرة في سورة غافر ومحلّها من مجموعتها: رأينا أن محور سورة غافر هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وقد رأينا في السورة الكثير مما له علاقة بالمحور، فرأينا أنّ علامة الكفر هي المجادلة في آيات الله: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. ورأينا أنّ الجدال في آيات الله هو علامة الطبع على القلب. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ* الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. ورأينا أن العلّة الحقيقية للجدال في آيات الله هي الكبر: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ. ورأينا أن المجادلين في آيات الله مصروفون عن الحق بسبب العمى والصمم، اللذين يصاب بهما القلب الكافر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ.

ورأينا في السورة: استحقاق الكافرين لعذاب الله في الدنيا، ورأينا صورة عن عذابهم في البرزخ، ورأينا صورة عن عذابهم يوم القيامة، ورأينا- مع هذا كله- كيف أن الحجة قائمة عليهم، ورأينا أدب النذير، ونماذج من الإنذار، ورأينا ما ينبغي أن يفعله النذير في مقابلة كفر الكافرين، وارتباط ذلك كله بمحور السورة واضح. وقد رأينا من قبل أنّ سورة (ص) فصّلت في نفس المحور، ورأينا أنّ سورة الأنبياء فصّلت في نفس المحور، ولو تأمّلنا هذه السور لوجدنا أن كل سورة منهنّ قد فصّلت في مجال، وأبرزته ووضّحته، فالمحور وإن كان واحدا لكن التفصيل والسياق الخاص لكل سورة متعدد، ولكل سورة روحها الخاصة بها. وبمجموع السور التي تفصّل محورا واحدا يتكامل التفصيل للمحور، وكل سورة في محلها تخدم مجموعتها، وتترابط معها بحيث تؤدي مع مجموعتها خدمة متكاملة لمجموع القرآن، وذلك من عجائب هذا القرآن التي لا يحيط بها أحد إلا الله. لاحظ ماذا أدّته سورة الزمر؟. سورة الزمر فصّلت في نقطة البداية للاهتداء بهذا القرآن، وبيّنت أنّ الاهتداء بهذا القرآن لصالح الإنسان. وجاءت سورة غافر فبيّنت خطر المجادلة في آيات الله، وربّت على التسليم. وستأتي سورة (فصّلت) لتبين مواقف الكافرين من دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن القرآن، وتردّ عليها، وتبيّن ملامح الطريق إلى الله، وتدفع المسلم إلى السير الصحيح فيه، وهكذا تجد أنّ المجموعة كمّلت بعضها بعضا، مع كون كل سورة قد خدمت محورها في سياقها الرئيسي. والملاحظ أن سورة غافر فصّلت في الآيات الأربع الأولى من سورة البقرة، من خلال سياقها، وما ذلك إلا لأنّ الآيات الأولى من سورة البقرة الواردة في المتقين هي المقدمة الصحيحة للكلام عن الكافرين، وسنلاحظ أنّ سورة (فصّلت) ستفصّل في الآيات نفسها، وفي الآيات التي تتحدّث عن الكافرين، حتى إنّ مقدمتها لتكاد تكون إجمالا لذلك كله. وما ذلك إلا لأنّ هذا كله مقدمة بديهية لمضمونها، فسورة (فصّلت) تلخّص مضمون السورتين السابقتين، ثم تنطلق في موضوعها الخاص .. وسورة (غافر) تلخّص مضمون سورة (الزمر)، وتنطلق في سياقها الخاص ومن ثمّ نجد ما يلي:

تبدأ سورة الزمر بقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وسورة غافر تبدأ بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ .. ثم تحدثت عن الكافرين، وسورة فصّلت تلخص في مقدمتها مضمون السورتين السابقتين، وتنطلق فنجد بدايتها: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فالسورة اللاحقة في المجموعة تلخّص مضامين ما قبلها وتبني عليها. كنا قد سجّلنا معنى في سورة الزمر: هو أن سورة الزمر بدأت بذكر اسمين من أسماء الله عزّ وجل. الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقلنا إنه يلاحظ أنّ السورة يظهر فيها آثار هذين الاسمين فهي مجلى لهما. ونلاحظ أن سورة غافر بدأت بذكر ستة أسماء لله عزّ وجل هي: العزيز- العليم- غافر الذنب- قابل التوب- شديد العقاب- ذو الطول- ومن تأمّل السورة وجد مظهر اسم الله العزيز في سياقها، سواء في نصرة الرسل، أو في تعذيب الكافرين، أو في عقوبة من يجادل في آياته، كما يجد فيها مظهر اسم الله العليم في سياقها عامة، سواء في ذكر أدق خفايا النفس البشرية، أو في عرضها ما لا يعلمه إلا الله، كما يجد فيها مظهر اسم الله غافر الذنب، نرى ذلك عند ما تحدّثنا عن دعاء الملائكة لأهل الإيمان بالغفران وكذلك قابل التوب فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ كما تجد فيها مظهر اسم الله ذي الطول في إنعامه على المؤمنين وعلى الرسل، كما نجد فيها مظهر اسم الله شديد العقاب، في الكلام عن معاقبته المكذبين للرسل، فالسّورة مجلى لأسماء الله التي ذكرت في بدايتها، وفي كون السور القرآنية تظهر فيها آثار أسماء الله عزّ وجل، وتعرفنا على هذه الأسماء فذلك وحده دليل على أن هذا القرآن من عند الله، فالكلام صفة المتكلم. لقد جعل الله الكون مجلى لأسمائه، وجعل كتابه مجلى لأسمائه، فمن لم ير الله في الكون، ويره في القرآن فإنه أعمى، ومن شك أن هذا الكون ليس من خلق الله، أو شك أن هذا القرآن ليس كلام الله، فإنه أعمى.

هذه سورة غافر تنسجم بداياتها ونهاياتها وأواسطها مع بعضها. وتخدم محورها، وتخدم مجموعتها، وتتداخل هذه المعاني كلها مع السياق الخاص للسورة. أليس هذا من العجب العجيب؟! أو ليس الكفر بعد ذلك ضربا من الخيال العقلي الواضح؟! ***

سورة فصلت

سورة فصّلت وهي السّورة الحادية والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثالثة من المجموعة الثالثة من قسم المثاني وآياتها أربع وخمسون آية وهي مكيّة وهي السّورة الثانية من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة فصلت ومحورها

كلمة في سورة فصلت ومحورها: أول ظاهرة نراها في سورة فصّلت هي التشابه الكبير بينها وبين سورة هود، فنلاحظ ما يلي: بدأت سورة هود بقوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وبدأت سورة فصّلت بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. ويأتي في الآية الثالثة في سورة هود قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ .... ونلاحظ أن الآية السادسة في سورة فصّلت فيها: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ... والآية السابعة في سورة هود هي: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ .... ونلاحظ أن الآيتين التاسعة والعاشرة من سورة فصّلت: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. وتحدثت سورة هود عن عاد وثمود، وقول هود وصالح لهما: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ* ونلاحظ أنّ سورة فصّلت ورد فيها قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ* إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ... وجاءت في سورة هود قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ .. (الآية: 110) والملاحظ أن هذه الآية وردت في سورة فصلت (الآية: 45). وقد ورد في سورة هود قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ (الآية: 112).

ونلاحظ أنّه قد ورد في سورة فصّلت قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ (من الآية: 6) وإِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا (الآية: 30). ونجد في سورة هود قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ* إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (الآية: 9 - 11). ونجد في سورة فصّلت لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ* وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ* وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (الآية: 49: 51). من هذه المقارنة ندرك أن التشابه كبير بين سورة فصّلت وسورة هود، وهذا يفيد أنّ المحور واحد، فإذا كان محور سورة هود هو قوله تعالى من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إذا كان هذا محور سورة هود فإنه هو نفسه محور سورة فصّلت. لاحظ أن آيتي سورة البقرة فيهما أمر ونهي: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وفي سورة فصّلت نجد قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ (الآية: 6) ونجد قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً (الآية: 9) فالعبادة ونفي الشرك واضحان من بدايات السورة. وكما أن محور السورة من سورة البقرة فصل في الطريق إلى التقوى، وسورة هود فصّلت في هذا الطريق، فإنّ سورة فصّلت كذلك تفصّل في هذا الطريق. ولا يظنّنّ ظانّ نتيجة للتشابه الكبير بين سورة هود وسورة فصّلت، ونتيجة لوحدة

المحور أنّ سورة فصّلت نسخة طبق الأصل من سورة هود فذلك خطأ كبير، إن سورة فصّلت ككلّ سورة، لها روحها الخاصة، ووحدتها الخاصة، وسياقها الخاص، ثم هي تفصّل محورها من سورة البقرة تفصيلا جديدا، يبنى على تفصيل سورة هود، فإذا كانت سورة هود فصّلت في أنّ الأمر بالعبادة هو أمر مشترك بين هذه الرسالة وبين كل رسالة لله، وبينت ذلك، ودلّلت عليه، فإنّ سورة فصّلت ينصبّ الكلام فيها على مخاطبة هذه الأمة في هذا الشأن. تتألف السورة من مقدمة هي: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. ومن مقطع واحد هو ردّ على موقفهم هذا. ويتألف من ثلاث فقرات، كل فقرة مبدوءة بكلمة قُلْ*: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (الآية: 6) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً .. (الآية: 9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ... (الآية: 52) فالسورة عرض لموقف وردّ عليه، ودعوة لما يقابله، من التوحيد والعبادة، والاستقامة على الأمر. ومن ثمّ فإنّ السّورة كما قلنا تفصيل جديد، بأسلوب جديد، لمحورها من سورة البقرة. فمحور السورة من سورة البقرة دعا الناس جميعا إلى عبادة الله للوصول إلى التقوى التي من أركانها الإيمان بالقرآن، وعدم الشك فيه، والاهتداء بهديه. وجاءت سورة النّساء لتفصّل في ماهية التقوى، وجاءت سورة هود ففصّلت في موضوع العبادة، وتأتي سورة فصّلت لتبيّن موقف الكافرين من دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم عامة. ثم يأتي الرّد، ومن الرد نعلم أنهم رفضوا الاستقامة والاستغفار، ورفضوا الزكاة، ورفضوا التوحيد، وأصرّوا على الشرك، ومن خلال الردّ يدعونا الله عزّ وجل للإيمان والتقوى، ومعرفة الله، وعبادته، والاستقامة على أمره.

نقل: تقديم الألوسي لسورة فصلت

وهكذا نجد السورة تكمّل البناء الذي وضعت آيتا سورة البقرة أساسه، وجاءت سورة النساء، وسورة هود، وسورة الحج، وسورة الأحزاب، ثم سورة فصّلت لتكمّل كل منها البناء بشكل من الأشكال، وكانت كل سورة من هذه السور تفصيلا لمعنى مستكن في ذلك المحور. نقل: [تقديم الألوسي لسورة فصلت] قال الألوسي في تقديمه لسورة فصلت: (وتسمى سورة السجدة، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح، وسورة الأقوات، وهي مكية بلا خلاف، ولم أقف فيها على استثناء، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون، وآيتان بصري وشامي، وثلاث مكي ومدني، وأربع كوفي، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ* الخ .. وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش، وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم، وخصّهم بالخطاب في قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ثم بيّن سبحانه كيفية إهلاكهم، وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا ... * (الآية: 2)، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة.). ***

مقدمة السورة وتتألف من خمس آيات وهذه هي

مقدمة السورة وتتألف من خمس آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 41/ 1 - 5 التفسير: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يعني: القرآن كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قال ابن كثير: أي: بيّنت معانيه، وأحكمت أحكامه. وقال النسفي: أي: ميّزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة، من أحكام وأمثال، ومواعظ ووعد ووعيد، وغير ذلك. قُرْآناً عَرَبِيًّا قال ابن كثير: أي: في حال كونه قرآنا عربيا واضحا، فمعانيه مفصّلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال ابن كثير: أي: إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون بَشِيراً وَنَذِيراً أي: بشيرا للمؤمنين، ونذيرا للكافرين فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ أي: أكثر الناس. أو أكثر المخاطبين الأوائل به وهم قريش فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي: لا يسمعون سماع قبول، ولا يعملون بمقتضاه وَقالُوا أي: الكافرون قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي: في أغطية أي: في غلف مغطاة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد والإيمان والتقوى وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي: ثقل يمنع من استماع قولك. أي: صمم عما جئتنا به وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أي: ستر، فلا يصل إلينا شئ مما تقول فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ أي: اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا عاملون ولن نتابعك، أو اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا، أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.

نقل: عن صاحب الظلال حول افتتاح سورة فصلت

نقل: [عن صاحب الظلال حول افتتاح سورة فصلت] بمناسبة قوله تعالى: حم في افتتاح سورة فصّلت قال صاحب الظلال: (سبق الحديث عن الافتتاح بالأحرف المقطعة في سور شتى. وتكرار هذا الافتتاح: «حا. ميم» .. يتمشى مع طريقة القرآن في تكرار الإشارة إلى الحقائق التي يلمس بها القلب البشري، لأن فطرة هذا القلب تحتاج إلى تكرار التنبيه، فهو ينسى إذا طال عليه الأمد، وهو يحتاج ابتداء إلى التكرار بطرق شتّى لتثبيت أية حقيقة شعورية فيه. والقرآن يأخذ هذا القلب بما أودع في فطرته من خصائص واستعدادات، وفق ما يعلم خالق هذا القلب ومصرّفه بما يشاء). كلمة في السياق: [مقدمة السورة حول الصلة بينها وبين المحور] ذكرت مقدّمة السورة بعض خصائص القرآن، وبيّنت أنّ العلم صفة لا بدّ منها لمعرفة هذه الخصائص، وبيّنت أنّ أكثر الناس قد أعرضوا عن قبول هذا القرآن؛ لأنهم لا يسمعون، فقلوبهم صمّاء. ولو أنّنا تأمّلنا هذه المقدّمة لوجدناها قد أجملت المعاني الموجودة في مقدّمة سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فالمقدّمة أشعرتنا بأن هذا القرآن أن لا ريب فيه من خلال ذكر إحكامه وتفصيله. كما أجملت المعاني الموجودة في قوله تعالى من مقدّمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لقد أجملت مقدّمة سورة فصّلت هذه المعاني عند ما قالت: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. وكما أنّه بعد المقدّمة في سورة البقرة جاء قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فسنرى فيما سيأتي من سورة فصّلت دعوة إلى العبادة والتوحيد، ونهيا عن الشرك، من خلال الردّ على قول الكافرين الذي تضمنته مقدّمة سورة فصّلت. ولنتساءل: لقد قلنا إنّ محور سورة فصّلت هو قوله تعالى من سورة البقرة:

المجموعة الأولى وتمتد من الآية (6) إلى نهاية الآية (8) وهذه هي

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .... بينما نرى سورة فصّلت تبدأ هذه البداءة، فما الصّلة بين هذه البداية والمحور؟ لقد دعا الله عزّ وجلّ الناس جميعا لعبادته وتقواه، ولكن الجزء الأكبر من الناس رفضوا هذه الدعوة، وأعلنوا رفضهم، وهذا الرفض ينبغي أن يناقش، ومن ثمّ جاءت سورة فصلت لتبيّن رفض أكثر الناس لهذه الدعوة، وتناقشهم، وتبيّن أن مضمون هذه الدعوة حق، وتلاحق فكرة الرفض هذه ملاحقة تامة؛ فسورة فصّلت تؤدي دورا جديدا في تفصيل محورها، والدعوة إلى مضمونه. ولكون إبراز هذا المعنى يقتضي منّا كلاما متواصلا فسنؤخّر نقل الفوائد إلى نهاية السورة، وسنعرض بقية السورة على مجموعات، وسنرى صلة المجموعات ببعضها البعض، ومحلّها في الردّ على كلام الكافرين، وموقفهم، وصلتها بالمحور. *** المجموعة الأولى وتمتد من الآية (6) إلى نهاية الآية (8) وهذه هي: 41/ 6 - 8 التفسير: قُلْ يا محمّد ردّا على موقف الكافرين وكلامهم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي: إني لست بملك، وإنّما أنا بشر مثلكم، وقد أوحي إليّ دونكم، فصحّت نبوّتي بالوحي إليّ وأنا بشر، وإذا صحّت نبوّتي وجب عليكم اتّباعي، وفيما يوحى إليّ أنّ إلهكم إله واحد فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ قال ابن كثير: (أي: أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرّسل) وقال النّسفي:

[سورة فصلت (41): آية 7]

(أي: فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يمينا ولا شمالا، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من اتّخاذ الأولياء والشفعاء) وَاسْتَغْفِرُوهُ أي: لسالف الذنوب، أو واستغفروه إذا وقعتم فيما يخالف الاستقامة، أو واستغفروه من الشرك الذي واقعتموه وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ أي: دمار لهم وهلاك الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي: لا يؤمنون بوجوب الزكاة، ولا يعطونها، أو لا يفعلون ما يكونون به أزكياء النفوس بأن يؤمنوا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي: بالبعث والثواب والعقاب هُمْ كافِرُونَ قال النسفي: (وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؛ لأن أحب الشئ إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وصدق نيته، ونصوع طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، فقرت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم، وما ارتدت بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها). إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع ولا مجبوب. كلمة في السياق: [المجموعة الأولى حول صلتها بما قبلها وبالمحور] في هذه الآيات تلخيص لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم التي رفضها الكافرون، وهي الإيمان بالوحي الإلهي، الذي مضمونه التوحيد، والاستقامة على أمر الله، والاستغفار، والإيمان والعمل الصالح، وأن العذاب واقع بالكافرين الذين من صفاتهم منع الزكاة، والكفر باليوم الآخر، وأنّ الأجر حاصل للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. هذا تلخيص لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهذا التلخيص ردّ على الكافرين في قولهم: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ .. فدعوة هذا مضمونها لا شئ فيه يرفضه العقل أو العلم أو الإنصاف، فلماذا يرفضها الكافرون! هذا ما له علاقة بصلة هذه المجموعة بما قبلها. فلنر صلة المجموعة بمحور السورة. رأينا أنّ محور السورة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقد ذكرت آيات المجموعة التوحيد، والاستقامة، والاستغفار، والزكاة، والإيمان باليوم الآخر،

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (9) حتى نهاية الآية (12) وهذه هي

والإيمان، والعمل الصالح، وكلها معان داخلة في العبادة والتوحيد والتقوى، وأنذرت المشركين، وذكرت علامة الشرك، وأنها منع الزكاة، والكفر باليوم الآخر، وكل ذلك نوع تفصيل لمحور السورة؛ فالسورة لها مسارها الخاص، وهي في الوقت نفسه تفصيل لمحورها. *** المجموعة الثانية وتمتد من الآية (9) حتى نهاية الآية (12) وهذه هي: 41/ 9 - 12 التفسير: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قال النسفي: تعليما للأناة، ولو أراد الله أن يخلقها في لحظة لفعل وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أي: نظراء وأمثالا وشركاء وأشباها تعبدونهم من دون الله ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: الخالق للأشياء هو رب العالمين وسيدهم ومربيهم فلا يستحق الربوبية إلا الخالق وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي: جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها كما هو مشاهد وَبارَكَ فِيها أي:

[سورة فصلت (41): آية 11]

وأكثر خيرها قال ابن كثير: أي: جعلها مباركة قابلة للخير والبذار والغراس وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي: أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ قال النّسفي: (أي: في تتمة أربعة أيام، فخلق الأرض في يومين، وإيجاد الرواسي وتقدير الأقوات في يومين آخرين، فكان المجموع أربعة أيام). سَواءً أي: استواء لِلسَّائِلِينَ أي: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها؟ قال ابن كثير: (أي: لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ أي: عمد إلى السماء في حالة كونها دخانا فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ أي: لهما جميعا ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قال ابن كثير: أي استجيبا لأمري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي: قالتا بل نستجيب لك مطيعين قال الحسن البصري: (لو أبيا عليه أمره لعذّبهما عذابا يجدان ألمه) رواه ابن أبي حاتم فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي: فأحكم خلقهن سبع سماوات في يومين، قال ابن كثير: أي: ففرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين آخرين وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال ابن كثير: أي: ورتّب فورا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي: القريبة من الأرض بِمَصابِيحَ وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض وَحِفْظاً أي: وحفظناها من المسترقة حفظا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قد عزّ كل شئ فغلبه وقهره الْعَلِيمِ بمواقع الأمور. ولنا في الفوائد كلام حول هذه الآيات وما ورد فيها من خلق السموات والأرض. وهاهنا ننقل وجهة نظر صاحب الظلال في هذه الآيات وقد جزم هاهنا على غير عادته بأنّ هذه الأيام الستة ليست كأيامنا، والذي دعاه إلى ذلك فيما يبدو ذكر الجبال والأقوات، ولا شك أنّ خلقها كما هي عليه جاء متأخرا عن بدء خلق الأرض، ولكنّ الآية تحتمل أنّه قد أوجد هذا فيها بالقوة ثمّ كان ذلك بالفعل. قال رحمه الله شارحا هذه الآيات التي مرّت معنا: (إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين. ثم يعقب عليها قبل بقية قصة الأرض. يعقب على الحلقة الأولى من قصة الأرض. ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ .. وأنتم تكفرون به وتجعلون له أندادا. وهو خلق هذه الأرض التي أنتم عليها. فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟!

وما هذه الأيام: الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض. والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي. وقدر فيهما الأقوات، وأحل فيهما البركة. فتمت بهما الأيام الأربعة؟. إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها. وليست من أيام هذه الأرض. فأيام هذه الأرض إنما هي مقياس زمني مستحدث بعد ميلاد الأرض. وكما للأرض أيام، هي مواعيد دورتها حول نفسها أمام الشمس، فللكواكب الأخرى أيام، وللنجوم أيام. وهي غير أيام الأرض. بعضها أقصر من أيام الأرض وبعضها أطول. والأيام التي خلقت فيها الأرض أولا، ثم تكونت فيها الجبال، وقدرت فيها الأقوات، هي أيام أخرى مقيسة بمقياس آخر، لا نعلمه، ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة. وأقرب ما نستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طورا بعد طور، حتى استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها. وهذه قد استغرقت- فيما تقول النظريات التي بين أيدينا- نحو ألفي مليون سنة من سنوات أرضنا!. وهذه مجرد تقديرات علمية مستندة إلى دراسة الصخور وتقدير عمر الأرض بوساطتها. ونحن في دراسة القرآن لا نلجأ إلى تلك التقديرات على أنها حقائق نهائية. فهي في أصلها ليست كذلك. وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل. فنحن لا نحمل القرآن عليها؛ إنما نجد أنها قد تكون صحيحة إذا رأينا بينها وبين النص القرآني تقاربا، ووجدنا أنها تصلح تفسيرا للنص القرآني بغير تمحل. فنأخذ من هذا أن هذه النظرية أو تلك أقرب إلى الصحة؛ لأنها أقرب إلى مدلول النص القرآني. والراجح الآن في أقوال العلم أن الأرض كانت كرة ملتهبة في حالة غازية كالشمس الآن- والأرجح أنها قطعة من الشمس انفصلت عنها لسبب غير متفق على تقديره- وأنها استغرقت أزمانا طويلة حتى بردت قشرتها وصلبت. وأن جوفها لا يزال في حالة انصهار لشدة الحرارة حيث تنصهر أقسى الصخور. ولما بردت القشرة الأرضية جمدت وصلبت. وكانت في أول الأمر صخرية صلبة. طبقات من الصخر بعضها فوق بعض. وفي وقت مبكر جدا تكونت البحار من اتحاد الإيدروجين بنسبة (2) والأوكسجين

بنسبة (1) ومن اتحادهما ينشأ الماء. (والهواء والماء على أرضنا هذه قد تعاونا على تفتيت الصخر وتشتيته، وحمله وترسيبه، حتى كانت من ذلك تربة أمكن فيها الزرع. وتعاونا على نحر الجبال والنجاد، وملء الوهاد، فلا تكاد تجد في شيء كان على الأرض أو هو كائن إلا أثر الهدم وأثر البناء) (¬1). (إن هذه القشرة الأرضية في حركة دائمة، وفي تغيير دائم، يهتز البحر بالموج فيؤثر فيها، ويتبخّر ماء البحر. تبخّره الشمس، فيصعد إلى السماء فيكون سحبا تمطر الماء عذبا، فينزل على الأرض متدفقا، فتكون السيول، وتكون الأنهار، تجري في هذه القشرة الأرضية فتؤثر فيها. تؤثر في صخره فتحله فتبدل فيه من صخر صخرا.- أي: تحوله إلى نوع آخر من الصخور- وهي من بعد ذلك تحمله وتنقله. ويتبدّل وجه الأرض على القرون، ومئات القرون وآلافها. وتعمل الثلوج الجامدة بوجه الأرض ما يفعله الماء السائل. وتفعل الرياح بوجه الأرض ما يفعل الماء. وتفعل الشمس بوجه الأرض ما يفعله الماء والريح، بما تطلق على هذا الوجه من نار ومن نور. والأحياء على الأرض تغير من وجهها كذلك. ويغير فيها ما ينبثق فيها من جوف الأرض من براكين. «وتسأل عالم الأرض- العالم الجيولوجي- عن صخور هذه القشرة فيعدد لك من صخورها الشئ الكثير، ويأخذ يحدثك عن أنواعها الثلاثة الكبرى. «يحدثك عن الصخور النارية. تلك التي خرجت من جوف الأرض إلى ظهرها صخرا منصهرا. ثم برد. ويضرب لك منها مثلا بالجرانيت والبازلت. ويأتيك بعينة منها يشير لك فيها إلى ما احتوته من بلورات. بيضاء وحمراء أو سوداء، ويقول لك: إن كل بلورة من هذه تدل على مركب كيماوي، له كيان بذاته. فهذه الصخور أخلاط. ويلفت فكرك إلى أنه من هذه الصخور النارية ومن أشباهها تكونت قشرة هذه الأرض عند ما تمت الأرض تكونا في القديم الأقدم من الزمان. ثم قام يفعل فيها الماء، هابطا من السماء أو جاريا في الأرض، أو جامدا في الثلج، وقام يفعل الهواء ويفعل الريح .. وقامت تفعل الشمس. قامت جميعها تغير من هذه الصخور. من طبيعتها ومن ¬

_ (¬1) من كتاب (مع الله في السماء) للدكتور أحمد زكي

كيميائها. فولدت منها صخورا غير تلك الصخور، حتى ما يكاد يجمعها- في منظر أو مخبر- شئ. وينتقل بك الجيولوجي إلى الصنف الأكبر الثاني من الصخور. إلى الصخور التي أسموها بالمترسبة أو الراسبة، وهي تلك الصخور التي اشتقت بفعل الماء والريح والشمس، أو بفعل الأحياء من صخور أكثر في الأرض أصالة وأعقد. وأسموها راسبة لأنها لا توجد في مواضعها الأولى. إنها حملت من بعد اشتقاق من صخورها الأولى، أو وهي في سبيل اشتقاق. حملها الماء أو حملتها الريح، ثم هبطت ورسبت واستقرت حيث هي من الأرض. ويضرب لك الجيولوجي مثلا للصخور الراسبة بالحجر الجيري الذي يتألف منه جبل كجبل المقطم، ومن حجره تبني القاهرة بيوتها. ويقول لك: إنه مركب كيماوي يعرف بكربونات الكلسيوم، وإنه اشتق في الأرض من عمل الأحياء أو عمل الكيمياء. ويضرب لك مثلا بالرمل، ويقول لك: إن أكثره أكسيد السيلسيوم، وإنه مشتق كذلك، ومثلا آخر بالطّفل والصلصال، وكلها من أصول سابقة. وتسأل عن هذه الأصول السابقة التي منها اشتقت تلك الصخور الراسبة، على اختلافها، فتعلم أنها الصخور النارية. بدأت الأرض عند ما انجمد سطحها من بعد انصهار في قديم الأزل، ولا شئ على هذا السطح المنجمد غير الصخر الناري. ثم جاء الماء، وجاءت البحار، وتفاعل الصخر الناري والماء. وشركهما الهواء .. شركهما غازات متفاعلة، وشركهما رياحا عاصفة، وشركتهما الشمس نارا ونورا. وتفاعلت كل هذه العوامل جميعا. وفقا لما أودع فيها من طبائع. فغيرت من صخر ناري صلد غير نافع، إلى صخر نافع. صخر ينفع في بناء المساكن، وصخر ينفع في استخراج المعادن. وأهم من هذا، وأخطر من هذا، أنها استخرجت من هذا الصخر الناري الصلد، الذي لا ينفع لحياة تقوم عليه، استخرجت تربة، رسبت على سطح الأرض، مهدت لقدوم الأحياء والخلائق. «إن الجرانيت لا ينفع لحرث أو زرع أو سقيا، ولكن تنفع تربة هشة لينة خرجت منه. ومن أشباه له. وبظهور هذه التربة ظهر النبات، وبظهور النبات ظهر الحيوان. وتمهدت الأرض لقيام رأس الخلائق على هذه الأرض. ذلك الإنسان .... » (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب (مع الله في السماء) ..

هذه الرحلة الطويلة- كما يقدرها العلم الحديث- قد تساعدنا على فهم معنى الأيام في خلق الأرض وجعل الرواسي فوقها، والمباركة فيها. وتقدير أقواتها في أربعة أيام .. من أيام الله .. التي لا نعرف ما هي؟ ما طولها؟ ولكننا نعرف أنها غير أيام هذه الأرض حتما .. ونقف لحظة أمام كل فقرة من النص القرآني قبل أن نغادر الأرض إلى السماء!. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها .. وكثيرا ما يرد تسمية الجبال «رواسي» وفي بعض المواضع يعلل وجود هذه الرواسي أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ* أي: إنها هي راسية، وهي ترسي الأرض، وتحفظ توازنها فلا تميد .. ولقد عبر زمان كان الناس يحسبون أن أرضهم هذه ثابتة راسخة على قواعد متينة! ثم جاء زمان يقال لهم فيه الآن: إن أرضكم هذه إن هي إلا كرة صغيرة سابحة في فضاء مطلق، لا تستند إلى شئ .. ولعلهم يفزعون حين يقال لهم هذا الكلام أول مرّة، أو لعل منهم من ينظر بوجل عن يمينه وعن شماله خيفة أن تتأرجح به هذه الأرض، أو تسقط في أعماق الفضاء! فليطمئن. فإن يد الله تمسكها أن تزول هي والسماء. ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده! وليطمئن فإن النواميس التي تحكم هذا الكون متينة من صنع القوي العزيز!. ونعود إلى الجبال فنجد القرآن يقول إنها «رواسي»، وإنها كذلك ترسي الأرض فلا تميد. ولعلها- كما قلنا في موضع آخر من هذه الظلال- تحفظ التناسق بين القيعان في المحيطات والمرتفعات في الأرض فتتوازن فلا تميد. وهذا عالم يقول: «إن كل حدث يحدث في الأرض، في سطحها أو فيما دون سطحها، يكون من أثره انتقال مادة من مكان إلى مكان يؤثر في سرعة دورانها. فليس المد والجزر هو العامل الوحيد: ذلك. (أي: في بطء سرعة الأرض كما قال قبل هذه الفقرة) حتى ما تنقله الأنهار من ماء من ناحية في الأرض إلى ناحية يؤثر في سرعة الدوران. وما ينتقل من رياح يؤثر في سرعة الدوران. وسقوط في قاع البحار. أو بروز في سطح الأرض هنا أو هنا يؤثر في سرعة الدوران .. ومما يؤثر في سرعة هذا الدوران أن تتمدد الأرض أو تنكمش بسبب ما. ولو انكماشا أو تمددا طفيفا لا يزيد في قطرها أو ينقص منه إلا بضع أقدام» (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

فهذه الأرض الحساسة إلى هذا الحد، لا عجب أن تكون الجبال الرواسي حافظة لتوازنها ومانعة: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ* كما جاء في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا. وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها .. وقد كانت هذه الفقرة تنقل إلى أذهان أسلافنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض، وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها .. فأما اليوم بعد ما كشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها على أزمان طويلة، فإن مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا .. وقد رأينا كيف تعاونت عناصر الهواء فكونت الماء .. وكيف تعاون الماء والهواء والشمس والرياح فكونت التربة الصالحة للزرع. وكيف تعاون الماء والشمس والرياح فكونت الأمطار أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار .. وهذه كلها من أسس البركة ومن أسس الأقوات. وهناك الهواء. ومن الهواء أنفاسنا وأجسامنا ... «إن الأرض كرة تلفها قشرة من صخر. وتلفّ أكثر الصخر طبقة من ماء. وتلفّ الصخر والماء جميعا طبقة من هواء. وهي طبقة من غاز سميكة. كالبحر، لها أعماق. ونحن- بني الإنسان، والحيوان، والنبات- نعيش في هذه الأعماق، هانئين بالذي فيها. «فمن الهواء نستمد أنفاسنا، من أكسجينه. ومن الهواء يبني النبات جسمه، من كربونة، بل من أكسيد كربونة، ذلك الذي يسميه الكيماويون ثاني أكسيد الكربون. يبني النبات جسمه من أكسيد الفحم هذا. ونحن نأكل النبات. ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات. ومن كليهما نبني أجسامنا. بقي من غازات الهواء النتروجين- أي الأزوت- فهذا لتخفيف الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا. وبقي بخار الماء، وهذا لترطيب الهواء. وبقيت طائفة من غازات أخرى، توجد فيه بمقادير قليلة هي- في غير ترتيب- الأرجون والهليوم والنيون، وغيرها. ثم الإدروجين. وهذه تخلفت- على الأكثر- في الهواء من بقايا خلقة الأرض الأولى» (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

والمواد التي نأكلها والتي ننتفع بها في حياتنا- والأقوات أوسع مما يؤكل في البطون- كلها مركبات من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو في جوها سواء. وعلى سبيل المثال هذا السكر ما هو؟ إنه مركب من الكربون والإيدروجين والأكسجين. والماء علمنا تركيبه من الإدروجين والأكسجين .. وهكذا كل ما نستخدمه من طعام أو شراب أو لباس أو أداة .. إن هو إلا مركب من بين عناصر هذه الأرض المودعة فيها .. فهذا كله يشير إلى شئ من البركة وشئ من تقدير الأقوات .. في أربعة أيام .. فقد تم هذا في مراحل زمنية متطاولة .. هي أيام الله، التي لا يعلم مقدارها إلا الله. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. إن هناك اعتقادا أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم. وهذا السديم غاز .. دخان. «والسدم- من نيرة ومعتمة- ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم. إن نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار. ومن هذين تكونت بالتكثّف النجوم، وبقيت لها بقية. ومن هذه البقية كانت السدم. ولا يزال من هذه البقية منتشرا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار، يساوي ما تكونت منه النجوم. ولا تزال النجوم تحرص منه بالجاذبية إليها. فهي تكنس السماء منه كنسا. ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولا» (¬1). وهذا الكلام قد يكون صحيحا لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. وإلى أن خلق الله السموات تم في زمن طويل. في يومين من أيام الله. ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته. فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرها في أغلب الأحيان. إنه خاضع حتما لهذا الناموس، لا يملك أن يخرج عنه، وهو ترس صغير جدا في عجلة الكون الهائلة؛ والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره. ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعا طاعة الأرض والسماء. إنما يحاول أن يتفلّت، وينحرف عن المجرى الهين اللين، فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه- وقد تحطّمه وتسحقه- فيستسلم خاضعا غير طائع. إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإرادتهم ورغباتهم واتجاهاتهم. تصطلح كلها مع النواميس الكلية، فتأتي طائعة، وتسير هينة لينة، مع عجلة الكون الهائلة، متجهة إلى ربها مع الموكب، متصلة بكل ما فيه من قوى .. وحينئذ تصنع الأعاجيب، وتأتي بالخوارق، لأنها مصطلحة مع الناموس، مستمدة من قوته الهائلة، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله طائِعِينَ. إننا نخضع كرها. فليتنا نخضع طوعا. ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء. في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين. إننا نأتي أحيانا حركات مضحكة .. عجلة القدر تدور بطريقتها. وبسرعتها. ولوجهتها. وتدير الكون كله معها. وفق سنن ثابتة .. ونأتي نحن فنريد أن نسرع. أو أن نبطئ. نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل. نحن بما يطرأ على نفوسنا- حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خطر السير- من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة .. ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض. ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم. ونصطدم هنا وهناك ونتحطم. والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها. وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى. فأما حين تؤمن قلوبنا حقا، وتستسلم لله حقا، ونتصل بروح الوجود حقا. فإننا- حينئذ- نعرف دورنا على حقيقته؛ وننسق بين خطانا وخطوات القدر؛ ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة، في المدى المناسب. نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود. ونصنع أعمالا عظيمة فعلا. دون أن يدركنا الغرور. لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة. ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية. إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى.

كلمة في السياق: المجموعة الثانية حول صلتها بالمحور

ويا للرضى. ويا للسعادة. ويا للراحة. ويا للطمأنينة التي تغمر قلوبنا يومئذ في رحلتنا القصيرة، على هذا الكوكب الطائع الملبي، السائر معنا في رحلته الكبرى إلى ربه في نهاية المطاف. ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق. كله مستسلم لربه، ونحن معه مستسلمون. لا تشذ خطانا عن خطاه، ولا يعادينا ولا نعاديه. لأننا منه. ولأننا معه في الاتجاه: قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ .. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ .. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها .. واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم. أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله. والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها، على هدى من الله وتوجيه، أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديدا. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً .. وَحِفْظاً .. من الشياطين .. كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن .. ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئا مفصلا. أكثر من الإشارات السريعة في القرآن فحسبنا هذا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وهل يقدر هذا كله؟ ويمسك الوجود كلّه؟ ويدبر الوجود كله؟ إلا العزيز القويّ القادر؟ وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر .. كلمة في السياق: [المجموعة الثانية حول صلتها بالمحور] 1 - في الآيتين اللتين هما محور سورة فصّلت من سورة البقرة ورد قوله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وهاهنا يقول تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً فالله عزّ وجل في آيتي المحور أمر النّاس جميعا ألا يشركوا به،. وفي هذه المجموعة يبيّن الله عزّ وجلّ أنّ رفض دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الموقف الكافر الذي ذكرته مقدمة السورة يعني الكفر بالله، ويعني الشرك به، وهو الذي خلق الأرض وما فيها لصالح الإنسان، فكيف يكفر

الإنسان بربه، وهو الذي فعل ذلك كله!. 2 - وفي الآيتين اللتين هما محور سورة فصّلت من سورة البقرة ورد قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ. ثمّ جاء في سورة البقرة بعد ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وفي هذه المجموعة ورد تفصيل ذلك. قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ... فمحور السورة يأمر بالعبادة لله الذي فعل هذه الأشياء، وينهى عن الشرك بالله الذي فعل هذه الأشياء. والمجموعة التي مرّت معنا تبيّن للكافرين أن موقفهم من رفض دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم يعني الجحود لله، والإشراك به، وهو الذي فعل هذه الأشياء كلها، وهو موقف منكر مستنكر، ومن ثم جاءت هذه المعاني في الآيات بصيغة الاستفهام الاستنكاري قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ ... إنّ هذه المجموعة تبيّن أنّ توحيد الله عزّ وجل وعبادته وتقواه منطلقها الإيمان بالقرآن، وقبوله وقبول دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم والاستماع لها، وإزالة الحجب بين النفس البشرية وبينها. وأن الإنسان إذا لم يفعل هذا فإنّه بذلك يكون والغا في الكفر، مستغرقا في الشرك، وإذ قامت الحجة على الكافرين في المجموعتين الأولى والثانية، فقد آن الأوان أن يترك الفساد، ويقبل على الله بالعبادة، والتوحيد، والاستقامة، والاستغفار، فإن لم يفعل فإنّه يستحق العذاب ولذلك فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم في المجموعة الثالثة أن ينذر.

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (13) إلى نهاية الآية (18) وهذه هي

المجموعة الثالثة وتمتدّ من الآية (13) إلى نهاية الآية (18) وهذه هي: 41/ 13 - 18 التفسير: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد هذا البيان، أو إن أعرضوا عن العبادة والتقوى والتوحيد بعد هذه الدعوة، أو إن أعرضوا عن الاستقامة إلى الله، والاستغفار إليه، مصرّين على رفضهم وموقفهم فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ أي: خوّفتكم وحذّرتكم صاعِقَةً أي: عذابا شديدا كأنه صاعقة مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي: ومن شاكلهما ممّن فعل كفعلهما إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي:

[سورة فصلت (41): آية 15]

أتوهم من كل جانب، وأعملوا معهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا الإعراض، وأنذروهم من وقائع الله فيمن كان قبلهم من الأمم، وأنذروهم عذاب الآخرة أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وحده قالُوا أي: القوم لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي: لو أرسل الله رسلا لكانوا ملائكة من عنده فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي: ما دمتم بشرا ولستم بملائكة. فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ أي: عتوا وبغوا وعصوا بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: تعظّموا في الأرض على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم، وهو القوة وعظمة الإجرام، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً اغتروا بقوتهم الجسدية وتحدّوا بها .. أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أو لم يعلموا علما يقوم مقام العيان أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي: أوسع منهم قدرة وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي: كانوا يعرفون أنّها حقّ ولكنّهم جحدوها وأنكروها كبرا وعنادا، فبارزوا الجبّار بالعداوة، وجحدوا بآياته، وعصوا رسله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي: عاصفة تصرصر. أي: تصوّت في هبوبها، أو ريحا باردة تحرق بشدة بردها، أو ريحا شديدة الهبوب قال ابن كثير: والحق أنها متصفة بجميع ذلك. فإنها كانت ريحا شديدة قوية، لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جدا، وكانت ذات صوت مزعج ... فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي: في أيام مشئومات عليهم، وقد ذكر الله عزّ وجل عددها في سورة الحاقة لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي: الذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي: أشد خزيا لهم وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ أي: في الأخرى. كما لم ينصروا في الدنيا من قبل شركائهم الذين عبدوهم من دون الله، على رجاء النصر لهم وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي: بيّنا لهم الرّشد فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي: فاختاروا الكفر على الإيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي: الهوان. قال ابن كثير: أي: بعث الله عليهم صيحة ورجفة، وذلا وهوانا، وعذابا ونكالا. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: بكسبهم السيّئ وهو التكذيب والجحود والشرك والمعاصي وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قال ابن كثير: (أي: من بين أظهرهم لم يمسّهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر، بل نجّاهم الله تعالى مع نبيّهم صالح عليه الصلاة والسلام. بإيمانهم وبتقواهم لله عزّ وجل ... ).

كلمة في السياق: المجموعة الثالثة حول صلتها بسياق السورة الخاص وبالمحور

كلمة في السياق: [المجموعة الثالثة حول صلتها بسياق السورة الخاص وبالمحور] نلاحظ أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا إلى عاد وثمود بالنهي عن عبادة غير الله عزّ وجل أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وأن النجاة كانت لمن اجتمع له صفتا الإيمان والتقوى وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ومحور السورة هو اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .... والتقوى مفسّرة في أول سورة البقرة بأنها إيمان واتّباع كتاب. فإذا اتضح هذا كله نعلم أن المجموعة تقول لهؤلاء الرافضين عبادة الله، وبالتالي الرافضين للإيمان والتقوى واتّباع رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنكم برفضكم هذا تعرضون أنفسكم لعذاب الله في الدنيا فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وهكذا نرى صلة المجموعة بسياق السورة الخاص، وصلتها بمحور السورة، وإذ كان العذاب الدنيوي هو بعض ما ينتظر هؤلاء المكذبين الرافضين، فقد أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يذكّرهم كذلك بما ينتظرهم من عذاب في اليوم الآخر، وهذا هو موضوع المجموعة الرابعة. *** المجموعة الرابعة وتمتد من الآية (19) إلى نهاية الآية (24) وهذه هي: 41/ 19 - 22

التفسير

41/ 23 - 24 التفسير: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أي: واذكر يوم يحشر أَعْداءُ اللَّهِ أي: الكفّار من الأوّلين والآخرين. إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يحبس أولهم على آخرهم. أي: يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم. قال ابن كثير: (أي: اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار يوزعون أي: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم) حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي: وقفوا عليها أي: صاروا بحضرتها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: بأعمالهم ممّا قدّموه وأخّروه لا يكتم منه حرف، وسنرى في الفوائد النصوص المبيّنة لهذا المعنى وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا أي: لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي: من الحيوان، والمعنى: إن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كلّ حيوان وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فهو لا يخالف ولا يمانع وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ومن كان هذا شأنه فكيف لا ينطقنا، وكيف لا ننطق إذا أمرنا. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ قال النسفي: (أي: أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم، لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا). وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي: ولكنّكم إنّما استترتم لظنّكم أنّ الله لا يعلم الخفايا من أعمالكم وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ أي: وذلك الظن الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أي: أهلككم .. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ في الدنيا والآخرة. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي: فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، ولم ينفكّوا به من الثواء في النار وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي: وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيين، أو إن يسألوا العتبى- وهو الرّجوع إلى ما يحبّون جزعا مما هم فيه- لم يعتبوا أي: لم يعطوا العتبى، أي: الرجوع إلى الدنيا، ولم يجابوا إليها. وقال ابن كثير في

كلمة في السياق

الآية: (أي: سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا في النار لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا فما لهم أعذار ولا تقال لهم عثرات ... ). كلمة في السياق: رأينا أن سياق السورة سار كما يلي: عرض علينا موقف الكافرين من القرآن، ومن دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم ردّ على هذا الموقف: 1 - بعرض مضمون الدعوة. 2 - بما يترتب على هذا الموقف من آثار بديهية البطلان. 3 - ثم بإنذارهم بعذاب الدنيا. 4 - ثم بإنذارهم عذاب الآخرة. وبعد هذا البيان الذي رأيناه في المجموعات الأربع، والذي لو وجد عقل أو إنصاف أو سماع تدبر لترتّب على ذلك انزجار، إلا أنّه حيث لا عقل، ولا إنصاف، ولا سماع تدبّر، فإنّ هذا كله لم يفد فيهم، ومن ثمّ تأتي المجموعة الخامسة لتعرض علينا بشكل غير مباشر عدم استفادتهم وسببها، وإصرارهم على حرب القرآن، واستئهالهم العقوبات بذلك، وندم بعضهم حيث لا ينفع الندم. فلنر المجموعة الخامسة .. *** المجموعة الخامسة وتمتد من الآية (25) إلى نهاية الآية (29) وهذه هي: 41/ 25 - 26

التفسير

41/ 27 - 29 التفسير: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي: وقدّرنا لهؤلاء الكافرين المعرضين عن العبادة أخدانا وملازمين من الشياطين، شياطين الإنس والجن، سلّطناهم عليهم فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال ابن كثير: (أي: حسّنوا لهم أعمالهم في الماضي، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين) وقال النسفي: أي: (زينوا لهم ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليه، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتّباع الشهوات، وما خلفهم من أمر العاقبة، وأن لا بعث ولا عذاب ولا حساب) وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كلمة العذاب فِي أُمَمٍ أي: في جملة أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من قبل كفار هذه الأمّة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ هذا تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير لهم وللأمم، أي: استوى الجميع في النار والدّمار، وكأثر عن هذا التزيين فإنّهم يحاربون القرآن بكل الوسائل، ومن ثم قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إذا قرئ وَالْغَوْا فِيهِ أي: شوّشوا عليه وعارضوه بكلام غير مفهوم لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ لتغلبوا على قراءته. وتغلبوا قرّاءه ومبلغيه ودعاته باستعمالكم كل أساليب التشويش: بالجحود والإنكار، والرد والطعن، والصفير والتصفيق، والغناء مع عدم السماع، قال تعالى مهدّدا لهم وموعدا إياهم: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً قال ابن كثير: أي: في مقابلة ما اعتقدوه في القرآن وعند سماعه. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: بشّر أعمالهم وسيّئ أفعالهم. قال النسفي: أي: ولنجزينّهم أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر ذلِكَ أي: الجزاء الأسوأ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ ثم فسّر ماهيته فقال: النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ فلا يخرجون منها جَزاءُ أي: جوزوا بذلك جزاء بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي: بسبب جحودهم بآيات الله أي بالقرآن وَقالَ الَّذِينَ

كلمة في السياق

كَفَرُوا إذا دخلوا النار رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا أي: الشيطانين اللذين أضلانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لأن الشيطان على ضربين إنس وجن، وقد تعاونا على الإضلال نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ في النّار جزاء إضلالهم إيانا. ولا ينفعهم هذا الكلام هناك، ومن ثم لا نجد السياق يجيبهم على النداء. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أن المجموعة هذه بدأت الكلام عن قرناء الكافرين الذين زيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم، وختمت بالكلام عن هؤلاء القرناء؛ إذ يدعو عليهم من ضلوا بسببهم إذا دخلوا النار، ممّا يشير إلى وحدة المجموعة. 2 - فهمنا من المجموعة أن هؤلاء الكافرين الذين حدّثنا الله عنهم في أوّل السورة ثم ردّ عليهم لم يستفيدوا من التقرير والوعظ والإنذار؛ بل هم مزيّنة لهم أعمالهم، مصرّون على حرب القرآن، وأن الله عزّ وجل سلّط عليهم شياطين الجن والإنس يضلونهم، وذلك عقوبة لهم على إعراضهم، كما سنرى ذلك واضحا في سورة الزخرف في قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ومن ثمّ نعرف أنّ المجموعة الأخيرة ذكرت عقوبة جديدة مما يعاقب به الله عزّ وجل المعرضين، إذ يسلط عليهم الشياطين ليضلوهم فيستحقون دخول النار. وقد عرض هذا في سياق يخدم مجموعة أمور بآن واحد، وإذ وصل السياق إلى هاهنا، فإن السورة تتجه اتجاها جديدا. إذ نجد أن مجموعات ثلاثا تأتي، وفي كل منها آية مبدوءة بكلمة إِنَّ* التي تفيد التوكيد: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا .... إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا .... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ .... وسنعرض المجموعات مبتدءين بالمجموعة الأولى التي هي المجموعة السادسة في السورة.

المجموعة السادسة وتمتد من الآية (30) إلى نهاية الآية (36) وهذه هي

المجموعة السادسة وتمتد من الآية (30) إلى نهاية الآية (36) وهذه هي: 41/ 30 - 36 التفسير: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ فاعترفوا لله بالربوبية، وعلى أنفسهم بالعبودية ثُمَّ اسْتَقامُوا على أمر الله فلم ينحرفوا يمينا أو شمالا. أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله على ما شرع الله لهم. نطقوا بالتوحيد، ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ. عند الموت قائلين إِنَّ أي: أنّه أَلَّا تَخافُوا. قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم: أي: ممّا تقدمون عليه من أمر الآخرة وَلا تَحْزَنُوا. على ما خلّفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه. قال النسفي: (فالخوف: غمّ يلحق الإنسان لتوقّع المكروه، والحزن: غمّ يلحقه لما يتوقعه من فوات نافع، أو حصول

[سورة فصلت (41): آية 31]

ضار، والمعنى: أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه). وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي: في الدنيا. قال ابن كثير: (يبشرونهم بذهاب الشرّ وحصول الخير) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال النسفي: (كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين)، وقال ابن كثير: (أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: «نحن كنا أولياءكم أي: قرناءكم في الحياة الدنيا نسدّدكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم). وَلَكُمْ فِيها أي: في الجنة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ أي: من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقرّ به العيون من النّعيم وَلَكُمْ فِيها أي: في الجنة ما تَدَّعُونَ أي: ما تتمنّون، أي: مهما طلبتم وجدتم وحضر كما اخترتم نُزُلًا أي: ضيافة وعطاء وإنعاما مِنْ غَفُورٍ لذنوبكم رَحِيمٍ بكم رءوف، حيث غفر وستر ورحم ولطف وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ ... أي: إلى عبادته، أي: دعا عباد الله إلى الله وَعَمِلَ صالِحاً أي: وعمل عملا صالحا، وهو ما أمر الله به وكان خالصا له وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قال النسفي: (متفاخرا بالإسلام ومعتقدا له) ودخل في ذلك جميع الهداة والدعاة إلى الله، وأولهم وسيدهم وقدوتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وممّن يدخل في ذلك المؤذنون قال ابن كثير في قوله تعالى: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (أي: وهو في نفسه مهتد بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد. وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير، ويترك الشر، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى، وهذه عامة في كل من دعا إلى خير، وهو في نفسه مهتد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك، كما قال محمد بن سيرين والسدى وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة) وفي السنن مرفوعا «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذّنين». وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني: إن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان، وإذا اعترضتك سيئة فادفعها بالحسنة كذلك، كما لو أساء إليك رجل إساءة فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن

[سورة فصلت (41): آية 35]

يذمّك فتمدحه، أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوّه فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقّ مثل الوليّ الحميم مصافاة لك وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي: وما يلقّى هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر قال ابن كثير: أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنّه يشق على النّفوس وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي: ذو نصيب وافر من السّعادة في الدنيا والآخرة. قال النسفي: أي: إلا رجل خيّر وفق لحظ عظيم من الخير. وقال ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه وليّ حميم). وبعد أن بيّن الله طريقة معالجة عدوّ الإنس، يبيّن طريقة معالجة عدوّ الجن: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ أي: نخس أي: وسوسة تنخس القلب نخسا فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره ولا تطعه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك الْعَلِيمُ بنزغ الشيطان. قال ابن كثير في الآية: (أي: إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه فأما شيطان الجن، فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفّه عنك وردّ كيده، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وفي سورة المؤمنون عند قوله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ* وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ. أقول: ومجئ الأمر بالاستعاذة بعد الآية التي أمرت بالدفع بالتي هي أحسن يعطينا معنى آخر سجّله النّسفي قال: (والمعنى: وإن صرفك الشيطان عمّا وصّيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره، وامض على حلمك ولا تطعه ... ). كلمة في السياق: [حول موضوعات المجموعات وترابطها وعلاقة المجموعة السادسة بالسياق القريب والعام] 1 - أمر الله عزّ وجل رسوله صلّى الله عليه وسلم في أول السّورة أن يقول: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ

مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ. ثمّ جاءت مجموعات ناقشت موضوع التوحيد، وموقف الكافرين منه، وأنذرتهم وحذرتهم، ثم جاءت المجموعة الأخيرة لتبين ما للاستقامة على أمر الله، ولتبين أن أحسن الأقوال الدعوة إلى الله، ولتبين أن الداعية إلى الله عليه أن يتخلّق بخلقين: الدفع بالتي هي أحسن، والاستعاذة بالله. 2 - جاءت هذه المجموعة بعد المجموعة التي تحدّثت عن تقييض الله قرناء للكافرين، لتبيّن أن الذين يستجيبون لأمر الله، فيستقيمون يقيّض الله لهم ملائكة يتولّونهم في الدنيا والآخرة، وشتان بين الحالين. 3 - من سنّة القرآن أن يتحدّث عن الكافرين وما أعدّ لهم، ثم يعقبه بالكلام عن المؤمنين وما أعد لهم، أو العكس وإذ كانت المجموعات السابقة على المجموعة الأخيرة تتحدّث عمّا أعدّه الله للكافرين من عذاب، فقد جاءت المجموعة الأخيرة لتتحدث عما أعد الله للمؤمنين، فصلة المجموعة في السياق القريب والسياق العام للسّورة واضحة، ولنر الصلة بين هذه المجموعة ومحور السورة. 4 - رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .. ورأينا أنّ مجموعات في السّورة قد ناقشت الكافرين الذين يرفضون العبادة والتوحيد، وأنذرتهم وحذّرتهم، وتأتي هذه المجموعة لتبين ماذا أعد الله عزّ وجل لمن يعبده ويتقيه، وتحضّه على الدعوة إلى الله، وتوجّهه في ما ينبغي فعله أمام الأعداء الظاهرين والخفيين، وهي في الوقت نفسه تعرض علينا بعض ما يدخل في العبادة والتقوى. إن العبادة تقتضي اعترافا لله بالربوبية، واستقامة على أمره، وتقتضي دعوة إليه وعملا صالحا، وإعلانا عن الانتساب إلى الصف الإسلامي، وصبرا على أعداء الله وأذاهم وتقتضي استعاذة دائمة بالله من الشيطان. 5 - يلاحظ أنّ السورة بدأت بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً ... وجاءت السورة بعد ذلك وفيها تبيان لخصائص القرآن هذه، فالسورة تدلّنا على مظاهر تجليات اسمي الله: (الرحمن، الرحيم) الذي يتلطف فينزل وحيا، والذي يتلطف فيناقش ويبين ويوضح، والذي يأمر عباده بسلوك الطريق المرحوم أهلها، ويأمرهم بالرحمة، كما أنّ

المجموعة السابعة وتمتد من الآية (37) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي

السورة نموذج على ما في هذا القرآن من تفصيل، فنجد المعنى الواحد يفصّل في كل مرة بأسلوب جديد عجيب، كما أنّ السورة نموذج على عروبة هذا القرآن، إذ تجده مبينا فصيحا واضحا، كما أنّ السورة نموذج على كون هذا القرآن بشيرا ونذيرا، وقد رأيت كيف أنذر في المجموعات قبل الأخيرة وبشّر في المجموعة الأخيرة. إن كتابا تظهر في كل سورة منه مجموع خصائصه وهي من الكثرة بحيث لا يحاط بها. إن كتابا هذا شأنه لا يضل عن كونه من عند الله إلا أعمى. إذا أدركت هذا المعنى تدرك أحد أسباب الإعجاز في هذا القرآن، وتدرك بعض السرّ لم كانت كل سورة من سوره معجزة يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها. *** المجموعة السابعة وتمتد من الآية (37) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي: 41/ 37 - 40 ملاحظة حول السياق: [حول الصلة بين بدايات المجموعات: السادسة والسابعة والثامنة] نلاحظ أن المجموعة السادسة بدأت بقوله تعالى إِنَّ والمجموعة الثامنة تبدأ

التفسير

كذلك بقوله تعالى إِنَّ بينما هذه المجموعة- أي السابعة- فقد انتهت بآية مبدوءة ب إِنَّ وذلك لأنها تتحدث عن الإلحاد بآيات الله، فناسب أن تذكر بعض آيات الله قبل أن تأتي الآية التي تقرّر جزاء الملحدين بآيات الله. وإنما نبهنا على ذلك حتى لا يظن ظان أن الآيات الثلاث الأولى من هذه المجموعة مرتبطة بالمجموعة السادسة. معتبرا أنّ الحرف (إنّ) هو العلامة على بداية المجموعة كما هو الحال في المجموعة السادسة، والمجموعة الثامنة. إن التأمّل الدقيق للسياق يؤكد صحة ما قلناه والله الموفّق وله الحمد. التفسير: وَمِنْ آياتِهِ الكونية الدالّة على قدرته ووحدانيته اللَّيْلُ وَالنَّهارُ في تعاقبهما على حد معلوم، وتناوبهما على قدر مقسوم، وما فيهما من الحكم العظيمة وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في اختصاصهما بسير مقدّر، ونور مقرّر، وغير ذلك من الحكم العظيمة، والآيات الباهرة، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ فإنّهما مخلوقان وإن كثرت منافعهما وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي: الذي خلق الشمس والقمر والأرض التي هي محل الليل والنهار إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي: إن كنتم تدّعون عبادته، فهذا طريق عبادته، وليس أن يشرك به غيره فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي: عن إفراد العبادة له، وأبوا إلّا أن يشركوا معه غيره. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: الملائكة يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملّون. قال النسفي: (والمعنى: فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم، فإنّ الله تعالى لا يعدم عابدا وساجدا بالإخلاص وله العباد المقرّبون الذين ينزّهونه بالليل والنهار من الأنداد). وَمِنْ آياتِهِ الدالّة على توحيده وقدرته على إحياء الموتى والبعث أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أي: هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة يابسة مغبرة، والخشوع: التذلل، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي: المطر اهْتَزَّتْ أي: تحرّكت بالنبات وَرَبَتْ أي: انتفخت. قال ابن كثير: (أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار) إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيكون قادرا على البعث ضرورة. إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي: يكفرون ويعاندون في آيات الله بأن لا يرتّبوا عليها لازمها العقلي، أو يرفضوا أن يعتبروها آية تدلّ على الله وأسمائه

كلمة في السياق: المجموعة السابعة حول صلتها ببداية المقطع وبالمجموعة السابعة وبالمحور وبالمجموعة الثامنة

وصفاته. لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا قال ابن كثير: فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي: أنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا تمثيل للكافر والمؤمن أي: أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان. ثم قال تعالى تهديدا للكفرة اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أي: من خير أو شر. قال النسفي: (هذا نهاية في التهديد .. ) إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم فيجازيكم عليه. كلمة في السياق: [المجموعة السابعة حول صلتها ببداية المقطع وبالمجموعة السابعة وبالمحور وبالمجموعة الثامنة] 1 - مر معنا في أول المقطع قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وقد رأينا أن المجموعة السادسة تحدثت عن الاستقامة، وما لأصحابها، وجاءت المجموعة السابعة التي نحن بصددها تتحدّث عن أدلة التوحيد، وأدلة اليوم الآخر، وتذكر ما أعدّ الله للكافرين بآياته. أي فصّلت في ماهية الويل للمشركين، ومن ثم نلاحظ أن قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ ... تحدّث عن قضية التوحيد، وأن قوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً .. تحدّث عن قضية اليوم الآخر. والآية الأخيرة تحدّثت عن عقوبة الملحدين في الآيات الدالة على التوحيد، والدالّة على اليوم الآخر. فالصلة بين المجموعة وبداية المقطع واضحة. 2 - بعد أن حدّثنا الله عزّ وجل في المجموعة السادسة. عن الذين يعترفون لله بالربوبية، والمستقيمين على أمره. حدّثنا في المجموعة اللاحقة عن الطرف المقابل، وهم الملحدون الذين لا يعترفون لله بالربوبية، ولا يستقيمون على أمره، والذين يلحدون في الآيات الدالّة عليه وعلى أسمائه وأفعاله، وقدّم للكلام عن هؤلاء بذكر آيات كونية تدل عليه عزّ وجل وعلى أسمائه وأفعاله. وبهذا نعرف الصلة بين المجموعة السادسة والسابعة. 3 - ونلاحظ أن في المجموعة السابعة أمرا بالسجود لله، وهو من العبادة وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وأمر بإعطاء الآيات الكونية لوازمها العقلية، وهي معرفة الله وأسمائه وصفاته، كما نجد نهيا عن الشرك، وصلة ذلك بمحور السورة وهو: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .. واضحة.

المجموعة الثامنة وتمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (45) وهذه هي

4 - ذكر الله عزّ وجل آيات كونية في هذه المجموعة، وأعقبها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا .. وسنرى أن المجموعة الثامنة تتحدث عن الكفر بالقرآن فكأن المجموعة السابعة مخصصة للكلام عن الكفر بالآيات الكونية، والمجموعة الثامنة مخصصة للكلام عن الكفر بالآيات القرآنية، ومجئ قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا .. قبل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ .. يلقي إشعاعا على قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ .. وكأنه مقدمة له، وبهذا ندرك أول صلة تربط بين المجموعة السابعة والثامنة، فلنر المجموعة الثامنة. *** المجموعة الثامنة وتمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (45) وهذه هي: 41/ 41 - 45

التفسير

التفسير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي: بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ أي حين جاءهم. والخبر محذوف تقديره. أي: يعذّبون أو هالكون وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ قال ابن كثير: أي: منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال ابن كثير: أي: ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزّل من رب العالمين: قال النسفي: أي: لا يأتيه التبديل أو التناقض ... بوجه من الوجوه أقول: أي: لا من الماضي ولا من المستقبل. فالماضي يؤيده والمستقبل يؤيده، فلا ينقضه ماض ولا مستقبل تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أقواله وأفعاله حَمِيدٍ أي: مستحق للحمد، أي: محمود في جميع ما يأمر به وينهى عنه، جميع ذلك محمودة عواقبه وغاياته ما يُقالُ لَكَ من التكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية، والمطاعن في الكتب المنزلة. فكما كذّبت كذّبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي: لمن تاب إليه وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ أي: لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته ثمّ لمّا ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه، وأنّه مع هذا لم يؤمن به المشركون ممّا يدل على أن كفرهم به كفر عناد وتعنّت، بيّن فيما يأتي أنّه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لقالوا على وجه التعنّت ما سيقصه علينا، فهم في كل حال متعنتون معاندون وَلَوْ جَعَلْناهُ أي: القرآن قُرْآناً أَعْجَمِيًّا أي: بلغة العجم، وهو مع ذلك ظاهر الإعجاز، فاجتمع له أن يكون كتابا أعجميا معجزا نزل على إنسان عربي لَقالُوا مع هذا تعنتا وعنادا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أي: أقرآن أعجمي ومخاطب عربي؟ والمعنى: أنّ آيات الله على أيّ طريقة جاءتهم وجدوا فيها مطعنا لأنّهم غير طالبين للحق، وإنما يتّبعون أهواءهم قُلْ هُوَ أي: القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً أي: إرشاد إلى الحق وَشِفاءٌ أي: لما في الصدور من الشكّ، إذ الشكّ مرض. قال ابن كثير: أي: قل يا محمد. هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أي: ثقل وصمم وَهُوَ أي: القرآن عَلَيْهِمْ عَمًى قال النسفي أي: ظلمة وشبهة وقال ابن كثير: أي: لا يهتدون إلى ما فيه من البيان أُولئِكَ أي: الكافرون يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال ابن جرير معناه. كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول. وقال النسفي: يعني:

[سورة فصلت (41): آية 45]

إنّهم لعدم قبولهم وانتفاعهم كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة. أقول: وهذا المعنى يحسّه الدّعاة إلى الله، ويشعرون به، فإنّهم عند ما يكلّمون أمثال هؤلاء بالمعاني الإسلامية يستشعرون العجز عن الإسماع، ويستشعرون بعد هؤلاء عن إمكانية فهم المعاني القرآنية على صفائها. وبعد هذا الذي مرّ يذكر الله عزّ وجل إنزاله الكتاب على موسى عليه السلام، مما يفيد أن إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ليس بدعا من الأمر، بل هو سنّة الله عزّ وجل وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ قال النسفي: فقال بعضهم حق وقال بعضهم باطل، كما اختلف قومك يا محمد. وقال ابن كثير: أي: كذّب وأوذي فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب إلى يوم المعاد لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: لعجّل لهم العذاب في الدنيا؛ بل لهم موعد وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي: موقع من الريبة، أي: وإن الكافرين لفي شك من القرآن شديد. قال ابن كثير: (أي: وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكّين فيما قالوه غير محققين لشيء كانوا فيه. هكذا وجّهه ابن جرير وهو محتمل) .. كلمة في السياق: [المجموعة الثامنة حول صلتها بمقدمة السورة وبالمجموعة السابعة وبالمحور والسياق القريب والبعيد] 1 - يذهب النسفي إلى أنّ قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ .. بدل من قوله تعالى .. إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا .. وهذا يفيد أن المراد بالكفر بالآيات في الآية الأولى الكفر بالقرآن، وليس هذا صحيحا فيما أرى لأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا جاء بعد ذكر آيات كونية. فالآيات الكونية داخلة في الآية، وفي عموم الآيات تدخل الآيات القرآنية، ومن ثم قلنا من قبل إنّ تأخير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا .. عن أول المجموعة جعل الآية تؤدي أكثر من خدمة، إذ دخل في ذلك الآيات الكونية، والآيات القرآنية. 2 - في مقدّمة سورة فصّلت قال تعالى عن القرآن: بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ وفي هذه المجموعة بيّن الله عزّ وجل أن القرآن بالنسبة للذين لا يؤمنون عمى، وأنّهم لا يسمعونه؛ لأنّ في آذانهم وقرا، فههنا قرّر أنّ ما قالوه عن أنفسهم صحيح، ولكنه عرض في سياق التدليل على أن القرآن حق، وأن خصائصه تدلّ على ذلك. وأن القرآن لأهل الإيمان هدى وشفاء، ولكن المرض

وحده هو الذي جعل القرآن بالنسبة لهؤلاء عمى. فالذي قالوه عن أنفسهم مما ذكرته السورة في مقدمتها أبرزته المجموعة هنا وبيّنت سببه، وهو كفرهم الذي لا يقوم على دليل بل الدليل ضدّه. 3 - الملاحظ أنه قد ورد في أوائل السورة قوله تعالى: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ وفي الآية السابقة على المجموعة الأخيرة ورد قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مما يفيد أنّ لامتدادات السورة صلة بمقدمتها، وأمّا الصّلة بين المجموعة السابعة والثامنة فواضحة، فالكلام كله عن الكفر بالآيات القرآنية والآيات الكونية. 4 - نلاحظ أن في المجموعة السادسة حديثا عن المستقيمين على أمر الله، وأنّ في المجموعة السابعة حديثا عن الملحدين في آيات الله. وأنّ في المجموعة الثامنة حديثا عن القرآن في حق المؤمنين وعنه في حق الكافرين قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى وهكذا نجد أن المجموعة الثامنة تأخذ محلها في السياق القريب والبعيد للسورة. 5 - نلاحظ أن محور السورة هو قوله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ... ومن التقوى كما ورد في أول سورة البقرة الاهتداء بهديه وعدم الارتياب فيه: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... وقد بيّنت المجموعة أنّ القرآن هدى وشفاء قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وذكرت خصائص من خصائص القرآن وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ .. وفي ذكر هذه الخصائص معالجة للريب في القرآن ولذلك صلته بمحور السورة وارتباطاته. 6 - في كتابنا (الرسول صلّى الله عليه وسلم) فصّلنا في باب المعجزة القرآنية. موضوع أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبيّنا أن ذلك وحده دليل على أن القرآن من عند الله، وهاهنا نشير إلى خصيصة من خصائص القرآن مذكورة في المجموعة: لقد وصف الله كتابه بأنه عزيز فقال: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ومن عزّته أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن عزّته أنه لا يطاله قلب الكافر، ومن ثم قال تعالى وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى وما ذلك إلا لعزّته فإنّه يأبى أن يصل إلى قلب كافر،

المجموعة التاسعة وتمتد من الآية (46) إلى الآية (51) وهذه هي

ومن عزته أنه لا يبقى في قلب إذا لم يعطه حقه من العناية والرعاية، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: «تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ تفلّتا من الإبل من عقلها» .. ولننتقل إلى المجموعة التاسعة في السورة. *** المجموعة التاسعة وتمتد من الآية (46) إلى الآية (51) وهذه هي: 41/ 46 - 51 التفسير: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ أي: إنّما يعود نفع ذلك على نفسه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي: إنما يرجع وبال ذلك عليه وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قال ابن كثير:

[سورة فصلت (41): آية 47]

أي: لا يعاقب أحدا إلا بذنبه، ولا يعذّب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسل إليه إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ قال ابن كثير: أي: لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلّى الله عليه وسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة فقال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» وقال النسفي: أي: علم قيامها يردّ إليه، أي: يجب على المسئول أن يقول: الله يعلم ذلك. وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي: من أوعيتها قبل أن تنشق وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ أي: ما يحدث شيء من خروج ثمرة، ولا حمل حامل، ولا وضع واضع، إلا وهو عالم به يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام، والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح وغير ذلك. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي الذين زعمتموهم أنّهم لي شركاء قال ابن كثير: أي: يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق أين شركائي الذين عبدتموهم معي قالُوا آذَنَّاكَ أي: أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي: ليس أحد منا يشهد اليوم أنّ معك شريكا، فصار المعنى: إنك علمت يا رب من قلوبنا الآن أنا لا نشهد بنفس الشهادة الباطلة، وما منّا أحد اليوم يشهد بأنّ لك شريكا، وما منّا إلا من هو موحد لك. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي: ما كانوا يعبدون من قبل أي: ذهبوا عنهم فلم ينفعوهم وَظَنُّوا أي: وأيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: من مهرب، أي: أيقنوا أنهم لا محيد لهم من عذاب الله، لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي: لا يملّ الإنسان مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي: من دعاء ربه بالخير: وهو المال، وصحة الجسم وغير ذلك. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ وهو البلاء أو الفقر فَيَؤُسٌ من الخير قَنُوطٌ من الرحمة، أي: يقع في ذهنه أنّه لا يتهيأ له بعد هذا خير، والقنوط: أن يظهر عليه أثر اليأس، فيتضاءل وينكر، أي: يقطع الرجاء من فضل الله وروحه، وهذه صفة الكافر بدليل ما يأتي وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي قال ابن كثير: أي: إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولنّ هذا لي، إني كنت أستحقه عند ربي. وقال النسفي: أي: وإذا فرّجنا عنه بصحة بعد مرض، أو سعة بعد ضيق، قال هذا لي، أي: هذا حقي وصل إلي لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل أعمال وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي: ما أظنها تكون قائمة. قال ابن كثير: أي: يكفر بقيام الساعة، أي: لأجل أنه خوّل نعمة يبطر ويفخر ويكفر ويقول وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي: الجنة أو الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة قائسا أمر الآخرة على أمر

[سورة فصلت (41): آية 51]

الدنيا. قال ابن كثير: أي ولئن كان ثمّ معاد فليحسننّ إليّ ربي كما أحسن إليّ في هذه الدار يتمنّى على الله عزّ وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين، قال تبارك وتعالى: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي: فلنخبرنّهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب، ولنذيقنّهم من عذاب شديد لا يفترّ عنهم قال ابن كثير: يتهدّد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنّكال ثم يذكر الله عزّ وجل ضربا آخر من طغيان الإنسان، وإنّه إذا أصابته النعمة أبطرته فنسي المنعم، وأعرض عن شكره قال تعالى وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي: أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عزّ وجلّ وتباعد عن ذكر الله ودعائه أو ذهب بنفسه وتكبّر وتعظّم. والنّأي بالجنب يعني: البعد بالنفس، عبّر عن النّفس بالجنب .. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: الشدّة من ضرّ أو فقر، أو مرض أو سجن فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي: كثير أي: أقبل على دوام الدعاء، وأخذ في الابتهال والتضرع، فهو يئوس قنوط القلب ذو دعاء عريض باللسان. كلمة في السياق: [المجموعة التاسعة حول صلتها بالمجموعتين السابقتين وببداية المقطع وبالمحور] 1 - بعد أن قصّ الله علينا حال المستقيمين على أمره، والملحدين بآياته، والكافرين بقرآنه في المجموعات الثلاث الأخيرة بيّن لنا في هذه المجموعة أنه مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فالمستقيم ينفع نفسه، والملحد يضرّها، والله عزّ وجلّ حكم عدل، ثمّ عرّفنا الله عزّ وجل على إحاطة علمه ليدلّنا على شمول حسابه، وكمال عدله، ثمّ بيّن لنا أنّ الكافرين جميعا يتبّرءون يوم القيامة من شركهم. 2 - حدّثنا الله عزّ وجل عن طبيعة الإنسان الكافر في يأسه وقنوطه في المحنة، وادّعائه في نسبة النّعمة إلى نفسه في المنحة، وجهله في شأن الألوهية وكبريائه وبطره في النعمة ودعائه الله في النقمة، فهو إنسان جاهل لا يعرف أن يضع الأمور في مواضعها، ولذلك كفر، وصلة ذلك بالمجموعتين السابقتين المتكلّمتين عن كفر الإنسان وإلحاده واضحة. 3 - جاء في خاتمة المجموعة الأولى من السورة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

المجموعة العاشرة وتمتد من الآية (52) إلى نهاية الآية (54) وهذه هي

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وجاء بعد ذلك قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً فإن تحدثنا هذه المجموعة عن العمل الصالح ونفعه لصاحبه، وتحدّثنا عن الشرك وعن الطبيعة الكافرة فذلك يشعرنا بصلة المجموعة ببداية المقطع الذي يردّ على قول الكافرين وموقفهم. 4 - ما الصلة بين المجموعة ومحور السورة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً .. ؟. لمّا كان موقف الإنسان من النعمة والنّقمة من أهمّ القضايا المرتبطة بمعرفة الله؛ فقد حدّثنا الله عزّ وجل عن الموقف الجاهل للكافرين في هذا الشأن، وفي هذا الحديث نرى افتقار الإنسان في ساعة الشدّة إلى الله، وفي ذلك دليل على وجوب العبادة له، وللمجموعات صلات أخرى بمحور السورة، فمن عبد الله واتقاه فإنه يكون قد عمل صالحا، ونفع ذلك عائد إليه، وإلّا فإنّه لا يضر إلا نفسه ولم يبق عندنا في السورة إلا مجموعة واحدة هي المجموعة العاشرة فلنرها. *** المجموعة العاشرة وتمتد من الآية (52) إلى نهاية الآية (54) وهذه هي: 41/ 52 - 54 ملاحظة في السياق: [حول الربط بين المجموعة العاشرة والمجموعتين الأولى والثانية] يلاحظ أن هذه المجموعة هي المجموعة الثالثة المبدوءة بكلمة (قل) فالمجموعة الأولى

لاحظ ما يلي

والثانية بدئتا بكلمة (قل)، وهذه المجموعة بدئت بكلمة (قل)، والملاحظ أن المجموعات السبع التي جاءت في الوسط خدمت المجموعتين الأولى والثانية، ثم جاءت المجموعة الأخيرة على نمط المجموعتين الأولى والثانية، من حيث إنّهما ردّ مباشر على موقف الكافرين. لاحظ ما يلي: بدأت السورة بقوله تعالى: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. وجاء الردّ الأول. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. ثم جاء الردّ الثاني. قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. ثم جاءت سبع مجموعات تخدم الردّين الأول والثاني. ثم يأتي الآن الردّ الثالث والأخير وبه تختم السورة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ* سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. فلنر تفسير هذا الجواب الأخير.

التفسير

التفسير: قُلْ يا محمد لهؤلاء المعرضين القائلين: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ أَرَأَيْتُمْ أي: أخبروني إِنْ كانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ثم جحدتم أنه من عند الله كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم، ولهذا قال مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ .. أي: من أضل؟ وصفهم أنّهم في شقاق بعيد، واستغنى بذكر صفتهم هذه عن توجيه الخطاب المباشر لهم، والمعنى: من أضل منكم أنتم يا أصحاب الشقاق البعيد .. أي: يا أصحاب الكفر والعناد والمشاقة للحق، ويا أصحاب المسلك البعيد عن الهدى، ثم أكّد الله عزّ وجلّ أنّ هذا القرآن من عنده فقال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ. قال ابن كثير: أي: ستظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزّلا من عند الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم بدلائل خارجية في الآفاق .. وَفِي أَنْفُسِهِمْ قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركّب منه، وفيه، وعليه من الموادّ والأخلاط والهيئات العجيبة، كما هو مبسوط في علم التشريح الدالّ على حكمة الصانع تبارك وتعالى. وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبيح وغير ذلك، وما هو متصرّف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوّته وحيله، وحذّره أن يجوزها ولا يتعداها حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ قال النسفي: أي: القرآن أو الإسلام الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أي: كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه. قال النسفي: تقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شئ شهيد. أي: أو لم تكفهم شهادة ربك على كل شئ، ومعناه: أنّ هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبيّنون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شئ شهيد. أقول: وفي كتابنا (الرسول) صلّى الله عليه وسلم ذكرنا كيف أن الله عزّ وجلّ أنجز وعده. فأرى الإنسان في الآفاق وفي الأنفس البشرية ما هو مصدّق لما في القرآن، حتى إن الإنسان إذا رأى ذلك، ورأى ما ورد في القرآن في أمره، أيقن أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل، وقد ضربنا على ذلك أمثلة كثيرة، ومن قرأ هذا التفسير، أو ذلك البحث رأى هذا بشكل واضح، فكيف يكفر كافر بالله وبالقرآن؟ ثمّ ختم الله عزّ وجلّ السورة بقوله أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ أي: في شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ قال ابن كثير: أي: في شك من قيام الساعة، ولهذا لا يتفكرون فيه، ولا يعملون له،

كلمة في السياق: حول صلة المجموعة العاشرة بالمحور

ولا يحذرون منه، بل هو عندهم هزر لا يعبئون به، بينما هو كائن لا محالة، وواقع لا ريب فيه، أقول: وهذه هي العلّة الكبرى فإنّ كلّ سوء في المواقف والأقوال أثر عن الكفر باليوم الآخر، أو الشك فيه، أو الغفلة عنه، ثم قال تعالى، مقرّرا أنه على كل شئ قدير، وبكل شئ محيط، فإقامة الساعة يسيرة عليه سهلة لديه: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ أي: المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وتحت طيّ علمه، وهو المتصرّف فيها كلها بحكمه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال النسفي: أي: عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها، وظواهرها وبواطنها، فلا تخفى عليه خافية، فيجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم. أقول: في ختم السورة بهذا النص، تهديد لهؤلاء الكافرين على مواقفهم وأقوالهم، وشكّهم ورفضهم. وبهذا انتهت السورة. كلمة في السياق: [حول صلة المجموعة العاشرة بالمحور] وهكذا أقام الله عزّ وجل الحجة على الكافرين من خلال مضمون الدعوة، ومن خلال ما يترتّب على مواقفهم من تناقضات واستحالات، ومن خلال إثبات أن هذا القرآن من عند الله. ثم إن السورة حذّرت وأنذرت، وبشّرت وبيّنت وعلّلت بما يخدم هذه المعاني، وفي الوقت نفسه ربّت الذين يسمعون لهذا القرآن والمؤمنين به على كثير من المعاني العملية، كما عرّفت على بعض آثار العبادة من استقامة واستعاذة، وصبر وطاعة، ولذلك كله ارتباطه بمحور السورة، وفي الكلمة الأخيرة عن السورة مزيد بيان فلننقل بعض فوائد عن السورة. الفوائد: 1 - [كلام ابن كثير عن الحادثة التي تلا فيها النبي صلّى الله عليه وسلم بداية السورة على عتبة بن ربيعة] بمناسبة الكلام عن بداية سورة (فصّلت) يذكر بعض المفسّرين الحادثة التي تلا فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه البداية على عتبة بن ربيعة وهذه هي. قال ابن كثير: روى الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه، ولننظر ماذا يردّ عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد

عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، وإنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وأخذا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوّجك عشرا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فرغت؟» قال: نعم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حتى بلغ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا» فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة. وكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده، وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا، أبدا، وقال: والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسكت فيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب. وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى والله تعالى أعلم، وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط فقال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيدا- قال يوما وهو

2 - كلام ابن كثير حول معنى كلمة"الزكاة" في آية .. الذين لا يؤتون الزكاة ..

جالس في نادي قريش، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع»، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قاله، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاستمع مني» قال: افعل، قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك»، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيمتوه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه؟ قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وهذا السياق أشبه من الذي قبله والله أعلم). 2 - [كلام ابن كثير حول معنى كلمة «الزكاة» في آية .. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ يذكر ابن

3 - معنى كلمة"ممنون" الواردة في الآية (8)

كثير مجموعة الأقوال الواردة في معنى الزكاة هنا؛ لأن هذه الآية نزلت في مكة، والزكاة المعروفة نزل تشريعها في المدينة قال ابن كثير: (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وكذا قال عكرمة، وهذا كقوله تبارك وتعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس: 9، 10). وكقوله جلت عظمته قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (الأعلى: 14، 15) وقوله عزّ وجل فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ (النازعات: 18) والمراد بالزكاة هاهنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك، وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام، وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات، وقال السدي وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي: لا يؤدون الزكاة، وقال معاوية بن قرة: ليس هم من أهل الزكاة، وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير، وفيه نظر؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد، وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة كان مأمورا به في ابتداء البعثة، كقوله تبارك وتعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ (الأنعام: 141) فأما الزكاة ذات النّصب والمقادير فإنما بيّن أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا والله أعلم). 3 - [معنى كلمة «ممنون» الواردة في الآية (8)] فهم بعضهم أنّ معنى مَمْنُونٍ في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير ممتنّ عليهم به، وهذا غلط بل غير الممنون هنا يعني: غير المقطوع. قال ابن كثير: (وقد رد هذا التفسير بعض الأئمة فإن المنة لله تعالى على أهل الجنة، قال الله تبارك وتعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وقال أهل الجنة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»). 4 - [كلام النسفي حول الآية وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ قال النسفي: (وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق

5 - عرض لرأي المؤلف في موضوع خلق الأرض من خلال الآية (9)

واعتقاده كأنها في غلف وأغطية من نفوذه فيها، ومج أسماعهم له كأن بها صمما عنه، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وما هم عليه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما هو عليه حجابا ساترا وحاجزا منيعا من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي). 5 - [عرض لرأي المؤلف في موضوع خلق الأرض من خلال الآية (9)] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... نقول: إن هذا المقام، مقام يصعب التحقيق فيه، وقد ذكرنا رأينا فيه في سورة البقرة وسورة هود، وهاهنا نلخص مجمل رأينا في الموضوع: أ- إنّ السماء بمعنى النجوم والمجرّات خلقت قبل خلق الأرض يشهد على ذلك: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها* وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها وأنّ السموات السبع خلقت بعد الأرض هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأنّ السموات السبع والأرض وما بينهما خلقت في ستة أيام. وأن المراد بما بينهما الكواكب السيارة، وأن الكواكب السيارة هي التي زينت بها السماء الدنيا؛ لأنها هي التي بأجزاء منها ترجم الشياطين. ونتصوّر أنه بكلامنا الذي قدّمناه نكون قد أعطينا الجواب الشافي الذي يجمع بين النصوص كلها، وبين معطيات العلوم المعاصرة، والتصور العام للكون حسب هذه المعطيات، والله أعلم، ونحبّ أن نذكّر هنا بما نبّهنا عليه في سورة البقرة أن ما يرد من روايات في تحديد ماذا كان في يوم سبت أو أحد أو غير ذلك مرجعها كلها روايات أهل الكتاب على التحقيق. ب- وقد رجّحنا- لأسباب كثيرة- أن تكون السموات السبع- التي هي سكن الملائكة، وإليها ترجع أرواح المؤمنين، والتي فوقها عرش الرحمن- غيبية، فهي موجودة كما أخبرنا الله عزّ وجل، ورسوله صلّى الله عليه وسلم عنها ولكنها مغيّبة عنا، وقد ذكرنا أدلّة ذلك في أكثر من مكان في هذا التفسير. 6 - [كلام ابن كثير حول شهادة الجوارح على أصحابها يوم القيامة بمناسبة الآية (20)] بمناسبة قوله تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .. قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم- أو تبسم- فقال صلّى الله عليه وسلم: «ألا تسألوني عن أي شئ ضحكت؟» قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي رب أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبل عليّ شاهدا إلا من نفسي،

7 - كلام ابن كثير حول حسن الظن بالله بمناسبة آية وذلكم ظنكم الذي ظننتم ..

فيقول الله تبارك وتعالى: أو ليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارا، قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، عنكنّ كنت أجادل» وكذا رواه ابن أبي حاتم، وقد أخرجه مسلم والنسائي وروى ابن أبي حاتم عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى: ويدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه عزّ وجل عمله فيجحد ويقول: أي رب، وعزّتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل. فيقول له الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزّتك أي: رب ما عملته. قال: فإذا فعل ذلك ختم على فيه، قال الأشعري رضي الله عنه: فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى. وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فجحد وخاصم فيقول: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقول: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقول احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله تعالى، وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار» وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لابن الأزرق: إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون، حتى يؤذن لهم ثم يؤذن لهم، فيختصمون فيجحد الجاحد بشركه بالله تعالى، فيحلفون له كما يحلفون لكم، فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم، جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم، ويختم على أفواههم، ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح فتقول أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فتقر الألسنة بعد الجحود. وروى ابن أبي حاتم عن راقع أبي الحسن قال: وصف رجلا جحد قال: فيشير الله تعالى إلى لسانه فيربو في فمه حتى يملأه، فلا يستطيع أن ينطق بكلمة، ثم يقول لآرابه كلها: تكلمي واشهدي عليه، فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه، ويداه ورجلاه: صنعنا عملنا فعلنا). 7 - [كلام ابن كثير حول حسن الظن بالله بمناسبة آية وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه ثقفيان- أو ثقفي وختناه قرشيان- كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله- قال- فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله

8 - كلام ابن كثير والنسفي حول الإيمان والاستقامة بمناسبة آية إن الذين قالوا ربنا الله ..

عزّ وجل وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ إلى قوله مِنَ الْخاسِرِينَ وهكذا رواه الترمذي وأحمد ومسلم والبخاري وروى عبد الرزاق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ قال: «إنكم تدعون يوم القيامة مقدما على أفواهكم بالفدام، فأول شئ يبين عن أحدكم فخذه وكفه» قال معمر: وتلا الحسن: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ثم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا مع عبدي عند ظنه بي، وأنا معه إذا دعاني» ثم أخذ الحسن ينظر في هذا فقال: ألا إنما عمل الناس على قدر ظنهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل ثم قال: قال الله تبارك وتعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ إلى قوله وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ الآية. وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ. 8 - [كلام ابن كثير والنسفي حول الإيمان والاستقامة بمناسبة آية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ... قال النسفي: (وعن الصديق رضي الله عنه: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا، وعنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها، قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان، وعن عمر رضي الله عنه: لم يروغوا روغان الثعالب، أي لم ينافقوا، وعن عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل، وعن علي رضي الله عنه: أدوا الفرائض، وعن الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقيل: حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار، لا الفرار بعد الإقرار). وقال ابن كثير في الآية: (روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها، وكذا رواه النسائي في تفسيره والبزار وابن جرير عن عمرو بن علي الفلاس عن مسلم بن قتيبة به. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الفلاس به. روى ابن جرير عن سعيد بن عمران قال: قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَ

9 - كلام ابن كثير عن أهل الاستقامة بمناسبة آية تتنزل عليهم الملائكة ..

اسْتَقامُوا قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا ثم روى من حديث الأسود بن هلال قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا؟ قال: فقالوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا من ذنب فقال: لقد حملتموها على غير المحمل، قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد، وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما: أيّ آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟ قال: قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا على شهادة أن لا إله إلا الله، وقال الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال: استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا على أداء فرائضه، وكذا قال قتادة قال: وكان الحسن يقول: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة، وقال أبو العالية: ثُمَّ اسْتَقامُوا أخلصوا له الدين والعمل. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال صلّى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه. ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به، ثم قال الإمام أحمد عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «قل ربي الله ثم استقم» قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه ثم قال- هذا» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلّى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم» وذكر تمام الحديث). 9 - [كلام ابن كثير عن أهل الاستقامة بمناسبة آية تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ .. ] بمناسبة قوله تعالى عن أهل الاستقامة تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ ... قال ابن كثير: (وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال «إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان» وقيل: إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم، حكاه ابن جرير عن ابن عباس والسدي، وروى ابن أبي حاتم: عن جعفر بن سليمان قال:

10 - كلام ابن كثير عن نعيم أهل الجنة بمناسبة الآيتين (31، 32)

سمعت ثابتا قرأ سورة حم السجدة حتى بلغ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ فوقف فقال: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له: لا تخف ولا تحزن وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ قال: فيؤمّن الله تعالى خوفه، ويقرّ عينه، فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى، ولما كان يعمل له في الدنيا، وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم، وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جدا وهو الواقع). 10 - [كلام ابن كثير عن نعيم أهل الجنة بمناسبة الآيتين (31، 32)] وبمناسبة قوله تعالى عن جزاء أهل الاستقامة: وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ قال ابن كثير: (وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ فروى عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، فقال سعيد: أوفيها سوق؟ فقال: نعم، أخبرني رسول صلّى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عزّ وجل، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، ويوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم- وما فيهم دنئ- على كثبان المسك والكافور، ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله وهل نرى ربنا؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟» قلنا: لا؛ قال صلّى الله عليه وسلم: «فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا يذكره ببعض غدراته في الدنيا- فيقول: أي رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه- قال:- فبينما هم على ذلك، غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط- قال- ثم يقول ربنا عزّ وجل: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، وخذوا ما اشتهيتم، قال: فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، قال: فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شئ، ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال: فيقبل الرجل ذو

11 - كلام ابن كثير حول فضل الأذان والمؤذنين بمناسبة الآية (33)

المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه- وما فيهم دنئ- فيروعه ما يرى عليه من اللباس، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا بحبيبنا، لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى، وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به» وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه وقال: هذا حديث غريب. وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قلنا: يا رسول الله كلنا نكره الموت قال صلّى الله عليه وسلم: «ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه، فليس شئ أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه- قال- وإن الفاجر- أو الكافر- إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه» وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه. 11 - [كلام ابن كثير حول فضل الأذان والمؤذنين بمناسبة الآية (33)] بمناسبة قوله تعالى. وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ نقل ابن كثير أحاديث كثيرة في فصل الأذان والمؤذنين على اعتبار أنه وجد من قال: إنّ الآية في المؤذنين، والصحيح أنها عامة في كل من دعا إلى خير، ويدخل في ذلك المؤذنون، ولدخولهم فيها نقل ابن كثير الأحاديث الكثيرة فيهم قال: (وروى ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: «سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه» قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو كنت مؤذنا ما باليت أن لا أحج أو أعتمر ولا أجاهد، قال: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كنت مؤذنا لكمل أمري، وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل، ولا لصيام النهار، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اغفر للمؤذنين» ثلاثا، قال: فقلت: يا رسول الله، تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف، قال صلّى الله عليه وسلم: «كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم، وتلك لحوم حرمها الله عزّ وجل على النار، لحوم المؤذنين» قال: وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ولهم هذه الآية وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قالت: فهو المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، فقد دعا إلى الله وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة، إنها نزلت في المؤذنين، وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه

12 - كلام ابن كثير عن سعة عفو الله بمناسبة آية إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم

أنه قال في قوله عزّ وجل: وَعَمِلَ صالِحاً يعني: صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة. ثم أورد البغوي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة- ثم قال في الثالثة- لمن شاء» وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه، وحديث الثوري المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الثوري: لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم «الدعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من حديث الثوري به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به، والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية لأنها مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه في منامه، فقصّه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتا كما هو مقرر في موضعه، فالصحيح إذا أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله). 12 - [كلام ابن كثير عن سعة عفو الله بمناسبة آية إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ] بمناسبة قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن سعيد بن المسيّب قال: نزلت هذه الآية إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتّكل كل أحد»). 13 - [كلام صاحب الظلال حول آية سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ .. ] وبمناسبة قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ قال صاحب الظلال: (إنه وعد الله لعباده- بني الإنسان- أن يطلعهم على شئ من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبيّن لهم أنه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج. وهذا القول الذي يقوله لهم. ومن أصدق من الله حديثا؟. ولقد صدقهم الله وعده، فكشف لهم عن آياته في الآفاق خلال القرون الأربعة عشر

التي تلت هذا الوعد، وكشف لهم عن آياته في أنفسهم. وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد. وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين. فقد تفتّحت لهم الآفاق. وتفتّحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله. لقد عرفوا أشياء كثيرة. لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير. عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون .. إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس. وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين. وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم- وربما طبيعة كونهم، إن صح ما عرفوه!. وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه. إن صح أن هناك مادة. عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة. وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع. وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع .. في صور شتى: هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام!. وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير. عرفوا أنه كرة أو كالكرة. وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس. وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره. وكشفوا عن شئ من باطنه. وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات. والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضا!. وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير، وتصرف هذا الكون الكبير. ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس. ومنهم من انحرف فوقف عند ظاهر العلم لا يتعداه. ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم، قد أخذت عن طريق العلم تثوب، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق. ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون. فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشئ الكثير. عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه، وغذائه وتمثيله، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله. وعرفوا عن النفس البشرية شيئا .. إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم؛ لأن العناية

كلمة في سورة فصلت ومجموعتها

كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه. ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجئ .. وما يزال الإنسان في الطريق!. ووعد الله ما يزال قائما: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ .. والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ. فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى. وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد. ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي. ولكن هذه الموجة تنحسر الآن. تنحسر- على الرغم من جميع الظواهر المخالفة- وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله). كلمة في سورة فصّلت ومجموعتها: 1 - [سر السياق الخاص للسورة] بدأت سورة فصّلت بمقدّمة تنتهي بتسجيل موقف للكافرين هو: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ .. ثمّ سارت السورة تردّ على هذا القول، وتفنّده مرّة بعد مرّة، وفي ذلك يكمن سرّ السياق الخاص للسورة، وبه تتجلّى وحدتها. 2 - [عدم تعارض تفصيل السورة للمحور مع كونها وحدة واحدة] ومع أن للسورة وحدتها فإنّها قد فصّلت في محورها، وفي امتدادات هذا المحور، وبنت على السّور التي فصّلته. 3 - [توضيح مدى ارتباط السورة بمجموعتها] ومع هذا وهذا فللسورة ارتباطها بمجموعتها، فهي تكمّل مجموعتها وتتكامل معها. لقد رأينا أن المجموعة الثالثة في قسم المثاني هي المجموعة التي تتألف من الزمر، والمؤمن، وفصّلت، والملاحظ أن هذه المجموعة تكمّل بعضها، وتتكامل مع بعضها. ومن مظاهر وحدة المجموعة وحدة البدايات: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ سورة الزمر حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ سورة المؤمن حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ سورة فصّلت.

4 - توضيح مدى الترابط بين أقسام القرآن ومجموعات كل قسم

ومن مظاهر تكاملها أنّك تجد كل سورة من السور الثلاث ذكرت أسماء لله، وكانت هذه السور مجلى لهذه الأسماء. ومن مظاهر تكامل المجموعة أنّك تجد في سورة معنى تكمّله سورة أخرى: فالآية الثانية في سورة الزمر هي: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ .... والآية الرابعة في سورة المؤمن هي: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا .. والآية الخامسة في سورة فصّلت هي: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ .. لاحظ كيف تتكامل المعاني في السور الثلاث، حتى لو أنك وضعت هذه الآيات بجانب بعضها لخرج معك معنى متكامل. 4 - [توضيح مدى الترابط بين أقسام القرآن ومجموعات كل قسم] وهذه المجموعة تضيف صرحا جديدا لموضوع التفصيل القرآني المتلاحم: جاءت سورة البقرة، ثم جاءت تتمّة السبع الطوال لتضع الصرح الأول في تفصيلها، ثمّ جاءت ثلاث مجموعات في قسم المئين، لتضيف صروحا ثلاثة أخرى في تفصيل سورة البقرة. ثمّ جاء قسم المثاني ليضيف ست صروح أخرى، ثمّ يأتي قسم المفصّل ليضع صروحا أخرى في التفصيل، فتكون آخر مجموعة فيه هي قمّة الهرم. قاعدة الهرم هي سورة البقرة، ثمّ يبنى الهرم بعد ذلك من مجموعات، كل مجموعة أكبر من التي بعدها، حتى نصل إلى القمة، وفيما بين ذلك من الصلات ما لا يحيط به إلا الله عز وجل. كل مجموعة لاحقة تبنى على كل ما سبقها من مجموعات، وكلّ سورة تفصّل في محور تبني على التفصيلات السابقة لهذا المحور، بحيث تعمّق المعاني وتؤكّدها وتكمّلها في عمليات متلاحقة، يتكامل بها بناء النفس البشرية؛ لتؤدي دورها مع غيرها في سير منضبط إلى الله، وفي صف واحد نحو تحقيق الأهداف.

5 - تفصيل أكثر للترابط بين أقسام القرآن ومجموعات كل قسم

5 - [تفصيل أكثر للترابط بين أقسام القرآن ومجموعات كل قسم] لقد قلنا من قبل إن كلّ سورة لها محورها من سورة البقرة، تفصّل في هذا المحور، وفي امتداداته، لاحظ الآن ما يلي: بعد مقدّمة سورة البقرة جاء مقطع يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وينتهي بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وقد رأينا كيف أن محور سورة (فصّلت) هو يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. ولقد جاء في سورة فصّلت قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ .. فلهذه الآيات صلة بآخر آية من المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، وهذا يعرّفنا على طبيعة التفصيل القرآني، ومن هذه الحيثية نجد أنفسنا أمام أشكال هندسية جديدة في الوحدة القرآنية، فلو افترضنا أن سورة البقرة تشكل قاعدة، أجزاؤها هي آياتها، فإنّ الآيات المتقاربة في معناها تلتقي خيوطها في نقطة واحدة لتأتي سورة فتفصّل، ثمّ تأتي سورة أخرى فتفصل في تجمّع آخر، وهكذا نجد أنفسنا أمام مئات الأشكال الهندسية التي تلتقي في نقاط، ثمّ تفترق لتتجمّع بعد ذلك في نقاط أخرى وهكذا، ويربط بين ذلك كله شكل جامع. 6 - [ملاحظة هامة على سياق السور الثلاثة السابقة: الزمر وغافر وفصلت] ونلاحظ أنّ السور الثلاث لم تحدّثنا كثيرا عن الأحكام العملية، بل كانت أكثر آياتها منصبة على البناء العقلي والقلبي للمسلم؛ لأن ذلك هو الأساس الذي تقوم عليه الأحكام. تأمّل الآن ما يلي: كل سورة من السور الثلاث ذكّرت بالمعاني الرئيسية التي ينبغي أن يتذكّرها الإنسان، والسور الثلاث بمجموعها ذكّرت بوحدة كلّية يحتاجها الإنسان، فإذا عرفت أن هذا القرآن يتألف من كذا سورة، ومن كذا مجموعة، وأن سوره منها القصير، ومنها الطويل، ومنها المتوسط، وأن مجموعاته كذلك- أدركت لم كان القرآن كذلك، وكيف أن القرآن ذكر ومذكّر، وفي ذلك مظهر من مظاهر الإعجاز. 7 - [ضرورة دراسة القرآن لاستيعاب مواضيع العقيدة] وأنت عندما تدرس مجموعات القرآن فإنك تجد أنّ القرآن يعالج أدقّ مواضيع العقيدة بأنواع المعالجات التي تستأصل الباطل، وتعمّق الحقّ، وتستأصل جذور

الخطأ، وتربي أعماق الفطرة، ولا تبقي جانبا- عقليا، أو نفسيا، أو قلبيا، أو روحيا- من الإنسان إلا وتربيه تربية كاملة: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ومن هذا وغيره ندرك أهمية أن يكون للمسلم ورده اليومي من كتاب الله، كما ندرك خطورة إهمال دراسة القرآن على حساب أي نوع من أنواع العلوم الإسلامية الأخرى، كما ندرك ضرورة التركيز على تعلمه وتعليمه قال تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. ***

المجموعة الرابعة من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمى بقسم المثاني وتشمل سور: (الشورى، والزخرف، والدخان)

المجموعة الرابعة من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمّى بقسم المثاني وتشمل سور: (الشورى، والزخرف، والدخان)

كلمة في المجموعة الرابعة

كلمة في المجموعة الرابعة: هناك تشابه واضح بين سورة (الشورى) وسورة (طه). تلحظ هذا التشابه في بدايات السورتين، وتلمحه في بدايات المقاطع: تأمّل بدايتي السورتين: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى * الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى. قرن هذه البداية ببداية سورة الشورى: حم عسق* كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ* تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ .... إنك تجد تشابها بين البدايتين: ثمّ لاحظ أن كلمة (كذلك) تتكرّر في سورة طه: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (الآية: 99). وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (الآية: 113). وأنّ نفس الظاهرة تجدها في سورة الشورى: حم عسق* كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (الآية: 7) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا (الآية: 52). من هذا التشابه بين سورتي طه والشورى نستنتج أن محور السورتين واحد، وكما أنّ سورة (طه) بداية مجموعة، فسورة الشورى بداية مجموعة. وعند الكلام عن كهيعص كنّا ذكرنا أنّ كلّ حرف منها إذا جاء في أوائل سورة فإنّه يكون علامة على بداية مجموعة، أو على نهايتها، تلك قاعدة استخرجناها استقراء من خلال المعاني، وقد كانت سورة طه وياسين وصاد منسجمة مع هذه القاعدة، فكذلك سورة الشورى التي ورد في أوائلها الحرف (ع). فهذه علامة ثانية على أن سورة الشورى بداية مجموعة.

وإذا كانت سورة الشورى بداية مجموعة، وإذا كان محورها هو محور سورة (طه) فإنّ محورها هو الآيات الأولى من سورة البقرة. وبعد سورة الشورى تأتي سورتا الزخرف والدّخان، والملاحظ أن بدايتيهما واحدة هي: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ*. ولو أنك تأمّلت بداية سورة الزخرف فإنّك تجد تشابها كاملا بينها وبين سورة يوسف مما يشير إلى أن مفتاحهما واحد ومحورهما واحد. تأمّل بداية سورة يوسف: الر* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وتأمّل سورة الزخرف: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إن التشابه واضح بين البدايتين، مما يشير إلى وحدة المحور، وكنا ذكرنا من قبل أن محور سورة يوسف هو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وإنّه لمحور سورة الزخرف، ومحور سورة الدّخان كذلك، بدليل أن سورة الدّخان تناقش الرّيب بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. ضع الآن محور سورة الشورى ومحور سورتي الزخرف والدّخان بجانب بعضهما، تجد معنى متكاملا: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .... بعد سورة الدخان تأتي سورتا الجاثية والأحقاف، ولهما بداية واحدة، هي بداية سورة الزمر نفسها بزيادة حم*: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ*. وهذا يشير إلى أن سورة الجاثية بداية مجموعة، كما أن سورة الزمر بداية مجموعة. بما مرّ حدّدنا بداية ونهاية المجموعة الرابعة من قسم المثاني، وحدّدنا أن هذه المجموعة تتألف من ثلاثة سور هي: الشورى والزخرف والدّخان. ***

سورة الشورى

سورة الشّورى وهي السّورة الثانية والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الأولى من المجموعة الرابعة من قسم المثاني وآياتها ثلاث وخمسون آية وهي مكيّة وهي السّورة الثالثة من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة الشورى

كلمة في سورة الشورى: قلنا إنّ محور سورة (الشورى) هو محور سورة (طه) وإذن فهو الآيات الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ومن تأمّل الآيات الآتية من سورة الشورى أدرك صحة ما ذهبنا إليه: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الآية: 3). وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (الآية: 7). شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى .. (الآية: 13). وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ ... (الآية: 15). اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ .. (الآية: 17). أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ .. (الآية: 24). وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (الآية: 38). وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ (الآية: 52). إنّ من تأمّل هذه الآيات، وتأمّل الآيات الأولى من سورة البقرة لا يشك أن آيات سورة البقرة الأولى هي محور سورة الشورى. تتألف سورة الشورى من ثلاثة مقاطع. المقطع الأول منها يبدأ بكلمة (كذلك) في قوله تعالى: حم عسق* كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ... ، وينتهي بنهاية الآية السادسة. والمقطع الثاني يبدأ- أيضا- بكلمة (وكذلك) في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا .. ، وينتهي بنهاية (الآية: 51). والمقطع الثالث يبدأ- أيضا- بكلمة (وكذلك) في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... ، وينتهي بنهاية (الآية: 53).

نقول: تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة الشورى

ومن بدايتي المقطعين- الثاني والثالث- بكلمتي (وكذلك) (وكذلك) ندرك أنهما معطوفان على بداية المقطع الأول المبدوء بكلمة (كذلك). وهذا وحده يشعر بوحدة السورة. ولعلّ أهم ما نلفت النظر إليه أن هذه السورة تتحدّث عن صفات جماعة المسلمين، فمن توافرت فيه الخصائص التي تتحدّث عنها هذه السورة فهم جماعة المسلمين، كائنا من كانوا. وهذا يجعلنا ننتبه كثيرا ونحن نقرأ هذه السورة أو نحاول فهمها وتفهيمها. نقول: [تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة الشورى] 1 - قال الألوسي في تقديمه لسورة الشورى: (وتسمى سورة «حم عسق» «وعسق» نزلت- على ما روي عن ابن عباس، وابن الزبير- بمكة، وأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء. وفي البحر هي مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إلى آخر أربع آيات. وقال مقاتل: فيها مدني قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى الصُّدُورِ. واستثنى بعضهم قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى الخ، قال الجلال السيوطي: ويدل له ما أخرجه الطبراني والحاكم في سبب نزولها، فإنها نزلت في الأنصار، وقوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ الخ فإنها نزلت في أصحاب الصّفّة رضي الله تعالى عنهم، واستثنى أيضا وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ إلى قوله تعالى: مِنْ سَبِيلٍ حكاه ابن الفرس. وسيأتي- إن شاء الله تعالى- ما يدل على استثناء غير ذلك على بعض الروايات، وجوز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب. وعدد آياتها ثلاث وخمسون في الكوفي، وخمسون فيما عداه، والخلاف في قوله تعالى: حم عسق وقوله تعالى: كَالْأَعْلامِ كما فصّله الداني، وغيره. ومناسبة أولها لآخر السورة قبلها اشتمال كل على ذكر القرآن، وذب طعن الكفرة فيه، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم). 2 - ومن تقديم صاحب الظلال للسورة: (هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية، ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة، حتى ليصح أن يقال: إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها، وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعا لتلك الحقيقة الرئيسية فيها.

هذا مع أن السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية، وتعرضها من جوانب متعددة، كما أنها تتحدّث عن حقيقة القيامة والإيمان بها، ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها. وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها. كما تلمّ بقضية الرزق- بسطه وقبضه- وصفة الإنسان في السراء والضراء. ولكن حقيقة الوحي والرسالة وما يتصل بها، تظل- مع ذلك- هي الحقيقة البارزة في محيط السورة، والتي تطبعها وتظللها. وكأن سائر الموضوعات الأخرى مسوقة لتقوية تلك الحقيقة الأولى وتوكيدها). وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع. هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة، ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم. وتبدأ أول إشارة من مطلع السورة كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .. لتقرر أنّ الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم. وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها .. لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد. وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ .. وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع، مخالفا لهذه التوصية، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم، وقع بغيا وظلما وحسدا: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .. ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ .. وعند هذا الحدّ يتبيّن أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة

راشدة تقوم على نهج ثابت قويم، فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها، والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة. ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها- صلّى الله عليه وسلم- لهذه القيادة: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ .. الخ .. ومن ثم تجئ صفة الجماعة المؤمنة المميّزة لها، طبيعية في سياق هذه السورة- في الدرس الثاني- بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية، على ذلك النهج الثابت القويم). ***

المقطع الأول ويمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (السادسة) وهذا هو

ولنبدأ عرض السورة: المقطع الأول ويمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (السادسة) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 42/ 1 - 6 التفسير: حم* عسق* كَذلِكَ .. أي: مثل ذلك الوحي، أو: مثل ذلك الكتاب يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ .. أي: وإلى الرسل من قبلك اللَّهُ الْعَزِيزُ أي: الغالب بقهره وانتقامه الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله. قال النسفي: يعني أن ما تضمّنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه إلى من قبلك يعني إلى رسله. والمعنى: أن الله كرر هذه المعاني في القرآن، وفي جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ، واللطف العظيم بعباده. عن ابن عباس.- رضي الله عنهما-: ليس من نبي صاحب كتاب إلا أوحي إليه ب «حم عسق» (أي بمعانيها) أقول: ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ المعاني التي تضمّنتها كلّ سورة مبدوءة ب (حم)، وكل سورة في بدايتها حرف (عين)، وكلّ سورة في بدايتها

[سورة الشورى (42): آية 4]

حرف (سين)، وكل سورة في بدايتها حرف (قاف)، أن كل سورة من هذا القبيل معانيها مشتركة بين الرسالات السماوية كلها، وهذا يفيد أنه إذا كان هناك معنى تنفرد به رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم فإنّه موجود في غير هذه السور، فإن من تأمّل هذه السور: سورة مريم، والطاسينات، وسورة يس، وآل حم كلها، وسورة قاف، يجد أن معانيها ليست خاصّة بهذه الرسالة، بل هي معان مشتركة في رسالات الرسل. وإذا صحّ فهمنا هذا فإنّ انفراد هذه السورة من بين سور آل (حم) ب (عسق)، يعطينا أكثر من مدلول، ويؤدي أكثر من خدمة، إن في الفهم، أو في السياق، وبعد أن بيّن الله عزّ وجل أنّ الذي أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلم وإلى الرسل قبله هو الله العزيز الحكيم، قال: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فالجميع عبيد له، وملك له، تحت قهره وتصريفه، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ قال ابن كثير: كقوله تعالى: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ والآيات في هذا كثيرة. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي: يتشققن مِنْ فَوْقِهِنَّ قال ابن كثير: أي فرقا من العظمة. وقال النسفي: ومعناه يكدن يتفطرن من علوّ شأن الله وعظمته وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تنزيها وخضوعا وشكرا وعبودية لما يرون من عظمته وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: للمؤمنين منهم كما مرّ في سورة غافر، خوفا عليهم من السخط، قال النسفي: (أو يوحدون الله وينزّهونه عما لا يجوز عليه من الصفات، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين مما رأوا من تعرض المشركين لسخط الله تعالى، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرءوا من تلك الكلمة، أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب). أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ هذا إعلام من الله عزّ وجل أنه يستجيب لدعاء الملائكة فيغفر للمؤمنين ويرحمهم. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني المشركين الذين جعلوا له شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي: رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شئ، فيجازيهم عليها. قال ابن كثير: أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدّها عدا وسيجزيهم بها أوفر الجزاء وَما أَنْتَ يا محمد عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكّل عليهم، ولا نفوّض إليك أمرهم، إنما أنت منذر فحسب، تجري عليك وعليهم أقدار الله، وتخضعون لمجرى قضائه وقهره. كلمة في السياق: [آيات المقطع حول صلتها بمقدمة سورة البقرة] هذه الآيات هي مقدمة السورة، وهي المقطع الأول فيها، وقد بيّن الله عزّ وجلّ في

فائدة: كلام ابن كثير في وصف ظاهرة الوحي بمناسبة الآية (3)

هذا المقطع أن المعاني الموجودة في هذه السورة هي وحي الله لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم ولكل رسول سابق، وقد عرّفنا الله عزّ وجل في هذا المقطع على ذاته وجلاله، وعظمته وبعض أسمائه، وعلى تسبيح الملائكة واستغفارهم لمن في الأرض، ورقابته على المشركين، وبذلك عرفنا بعض مضمون الرسالات السابقة، وعرفنا مهمّة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وعرفنا حكمة الوحي. فاتصاف الله عزّ وجل بالعزة والحكمة يقتضي وحيا، وكونه مالك السموات والأرض وما فيهنّ يقتضي وحيا، وكونه العلي العظيم يقتضي وحيا، وكون الملائكة يسبّحون لمن في الأرض يقتضي وحيا، وكون الإنسان ينحرف فيشرك يقتضي وحيا وإنذارا، وهذا كله يقتضي وجود رسول يوحى إليه. هذه المقدمة للسورة صلتها واضحة بالآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. حتى إنك لو ذكرت مقدمة سورة الشورى بعد هذه الآية لشعرت بالصلة الكاملة كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لاحظ تفسير ابن كثير لهذه الآية، قال: (أي: كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك) إنك- من تفسير ابن كثير- تجد الربط الكامل بين مقدمة سورة البقرة وسورة الشورى، وهو موضوع ستراه بشكل واضح في السورة إن شاء الله. فائدة: [كلام ابن كثير في وصف ظاهرة الوحي بمناسبة الآية (3)] بمناسبة قوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذكر ابن كثير بعض الروايات التي تصف ظاهرة الوحي قال: روى الإمام مالك رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصّد عرقا. أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري. وقد رواه الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف

المقطع الثاني: ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (51)

ينزل عليك الوحي؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال» وقال: «وهو أشدّه عليّ» قال: «وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد. ولننتقل إلى المقطع التالي في السورة: المقطع الثاني: ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (51): المجموعة الأولى 42/ 7 - 11

42/ 12 - 16 المجموعة الثانية الفقرة الأولى من المجموعة الثانية: 42/ 17 - 18

الفقرة الثانية من المجموعة الثانية: 42/ 19 - 24 الفقرة الثالثة من المجموعة الثانية: 42/ 25

42/ 26 - 27 الفقرة الرابعة من المجموعة الثانية: 42/ 28 - 35 المجموعة الثالثة الفقرة الأولى من المجموعة الثالثة: 42/ 36

42/ 37 - 43 الفقرة الثانية من المجموعة الثالثة: 42/ 44 - 46 الفقرة الثالثة من المجموعة الثالثة:

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثاني

42/ 47 - 51 تفسير المجموعة الأولى من المقطع الثاني وَكَذلِكَ قال ابن كثير: وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي: واضحا جليا مبينا بلسان العرب لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي: مكة. قال ابن كثير: وسميت أمّ القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها (وسنذكر بعضها والخلاف في أيهما أفضل هي أو المدينة في الفوائد) وَمَنْ حَوْلَها أي: من سائر البلاد شرقا وغربا، إذ العالم كله حولها وهي قبلته وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي: يوم القيامة، إذ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك في وقوعه، وأنّه كائن لا محالة. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي: في النار وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً قال النسفي: أي: مؤمنين كلهم. وقال ابن كثير: أي: إما على الهداية. أو على الضلالة، ولكنه تعالى فاوت بينهم، فهدى من يشاء إلى الحق، وأضل من يشاء عنه، وله الحكمة والحجة البالغة، ولهذا قال عزّ وجل: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي: يكرم من يشاء بالإسلام وَالظَّالِمُونَ أي: الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ أي: شافع

[سورة الشورى (42): آية 9]

وَلا نَصِيرٍ أي: دافع. وإذ نفى الله عزّ وجل أن يكون للظالمين ولي أو نصير يوم القيامة، يبيّن أن الكافرين قد اتخذوا من دونه أولياء أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: بل اتخذوا من دونه شركاء. وهو استفهام إنكاري فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي: بالحق، فهو الذي يجب أن يتولى وحده، لا ولي سواه. قال النسفي: كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شئ) وقد فهمنا من الآيات والسياق أنّ هناك فريقين، وأن أحد الفريقين يتخذ من دون الله أولياء، والآخر لا يتخذ، ومن ثم يقرر الله عزّ وجل في الآية اللاحقة أنّه هو الحاكم في كل خلاف فقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن كثير: أي: مهما اختلفتم فيه من الأمور- وهذا عام في كل الأشياء- فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي: هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم. أقول: دلّ ذلك على أنّه لا شئ إلا ولله فيه الحكم الحق ذلِكُمُ أي: الحاكم في كل شئ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي: فوّضت كل أموري إليه وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي: أرجع في جميع الأمور. ثمّ وصف الله عزّ وجل ذاته بما يذلّل به على أنّه وحده الحكم، وأنّه وحده الذي يجب التوكل عليه والإنابة إليه. فقال: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: خالقهما وما بينهما جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: خلق لكم من جنسكم من الناس أَزْواجاً قال ابن كثير: أي: من جنسكم وشكلكم، منّة عليكم وتفضلا، جعل من جنسكم ذكرا وأنثى وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي: وخلق للأنعام من أنفسها أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي: يكثركم بهذا التدبير، وهو جعل الناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. قال ابن كثير: أي: يخلقكم فيه، أي: في ذلك الخلق على هذه الصفة. لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا، خلقا من بعد خلق، وجيلا بعد جيل، ونسلا بعد نسل، من الناس والأنعام لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ قال ابن كثير: أي: ليس كخالق الأزواج كلها شئ، لأنه الفرد الصمد، الذي لا نظير له. وقال النسفي. وتقديره ليس مثله شئ، وقيل: وتقديره ليس كهو شئ .. وقيل: المراد ليس كذاته شئ وَهُوَ السَّمِيعُ لجميع الموجودات الْبَصِيرُ بجميع الموجودات. قال النسفي: وكأنّه ذكرهما لئلا يتوهم أنّه لا صفة له، كما لا مثل له. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: مفاتيح السموات والأرض، أي: هو مالك أمرهما وحافظهما يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي:

كلمة في السياق: حول بعض حكم إنزال القرآن

يوسّع على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، وله الحكمة والعدل التام إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو يعطي بعلم ويمنع بعلم. كلمة في السياق: [حول بعض حكم إنزال القرآن] نلاحظ أنّ الله عزّ وجل قد بيّن لنا في هذه الآيات بعض حكم إنزال القرآن: منها إنذار الخلق. وكذلك الحكم في كل خلاف يقع بين الناس. وعرّفنا الله عزّ وجلّ على ذاته بما يدلّل على ذلك، ويعلّل له. وقد ذكر لنا نموذجا على الاختلاف بين الخلق في قضية الكفر والإيمان، والشرك والتوحيد. وفي الآية اللاحقة يبيّن لنا أنّ ما شرعه في هذا الدين هو شرعه في رسالاته كلها. شَرَعَ لَكُمْ أي: بيّن وأظهر لكم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أي: شرع لكم من الدين، دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. ثمّ فسّر الشرع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: دين الإسلام وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: ولا تختلفوا في الدين. قال ابن كثير: أي: أوصى الله تعالى- جميع الأنبياء- عليهم السلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. قال النسفي: قال علي- رضي الله عنه-: لا تتفرقوا، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب. أقول: هذا يدلّ على أنّ هذه السورة تتحدّث عن جماعة المسلمين. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي: عظم على المشركين وشقّ عليهم ما تدعوهم إليه، من إقامة الإسلام، والوحدة فيه وبه اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ قال النسفي: أي: يجتلب ويجمع إليه بالتوفيق والتسديد من يشاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي: من يقبل على طاعته. قال ابن كثير: أي: هو الذي يقدّر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريقة الرشد أقول: دلّت الآية على أن صفة الإنابة تجعل صاحبها مظنة الرشد والهداية. كلمة في السياق: لخّص الله- عزّ وجل- في هذه الآية مضمون شريعته في كل العصور، وهي إقامة دينه، والاجتماع على ذلك. فدين الله شريعة وجماعة. وسنرى في هذه السورة

[سورة الشورى (42): آية 14]

مواصفات الجماعة. وإن غياب هذا المعنى عن المسلمين من أخطر ما يواجههم، وما يقعون فيه. وقد بينت الآية أن المشركين يشقّ عليهم ويعظم أن يقبلوا هذا الدين، وأن يعملوا لإقامته، وأن يجتمعوا على ذلك، ومن تأمّل ما عليه أحزاب الضلالة رأى مصداق ذلك. ثم بعد أن بيّن موقف المشركين فقد بيّن حال أهل الكتاب الأوائل إذ تفرّقوا واختلفوا فحطّموا أحد مظهري دين الله، وهو الجماعة. وأن الأواخر منهم الذين ورثوا الكتاب شاكّون أصلا في هذا الكتاب، وبالتالي فلا إقامة لدين الحق، ولا اجتماع عليه. وَما تَفَرَّقُوا قال النسفي: أي: أهل الكتاب بعد أنبيائهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ قال النسفي: إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء- عليهم السلام- بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: حسدا وطلبا للرئاسة، والاستطالة بغير حق. قال ابن كثير: أي: إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقّة وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: فصل بينهم في الدنيا. قال النسفي: أي: لأهلكوا حين افترقوا، لعظم ما اقترفوا. وقال ابن كثير: أي: لولا الكلمة السابقة من الله تعالى، بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. أقول: الذي يستحق العذاب هم الخارجون على الجماعة أي الخارجون عن الحق والباغون على أهله وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد جيل الخلاف لَفِي شَكٍّ مِنْهُ قال النسفي: أي: من كتابهم لا يؤمنون به حقّ الإيمان مُرِيبٍ أي: موغل في الريبة. قال ابن كثير: (يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول، المكذّب للحق لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي: ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنّما هم مقلّدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد). ولشك أهل الكتاب وتفرقهم واختلافهم، وأمام استكبار المشركين عن إقامة الإسلام والاجتماع عليه، يأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بأوامر قال تعالى: فَلِذلِكَ قال النسفي: فلأجل ذلك التفرق، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا. وقال ابن كثير: أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصّينا به جميع المرسلين قبلك، أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي: فادع إلى دين الله والاجتماع عليه، واستقم

[سورة الشورى (42): آية 16]

على شريعة الله. وعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة الباطلة من الرغبة عن دين الله، والتفرّق عنه، والاجتماع على غيره. أو أهواءهم التي بسببها اختلفوا، وبها وصلوا إلى باطل من القول وزور وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي: صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، لا نفرّق بين أحد منهم وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي: في الحكم كما أمرني الله اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي: كلّنا عبيده. قال ابن كثير: أي: هو المعبود لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوا اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا وإجبارا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي: نحن برآء منكم، وإنا لا نؤاخذ بأعمالكم، وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي: لا مجادلة؛ لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به، فلا حاجة إلى المحاجّة، ومعناه: لا إيراد حجة بيننا، لأن المتحاجّين يورد هذا حجته وهذا حجته اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا أي: يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع لفصل القضاء، فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم. قال ابن كثير: (اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها. قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنّها أيضا عشرة فصول كهذه). ولأنّ الدعوة الصافية إلى الله تلقى استجابة، ولأن الكافرين سيحاولون ثني المؤمنين عن هذه الاستجابة، فقد قال الله عزّ وجل في الآية اللاحقة: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ قال ابن كثير: أي: يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله؛ ليصدوهم عمّا سلكوه من طريق الهدى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: باطلة عند الله وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من الله بكفرهم وصدهم عن سبيل الله وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: يوم القيامة. كلمة في السياق: [المجموعة الأولى حول صلتها بالمقطع الأول ومضمونها الرئيسي] 1 - بدأت المجموعة التي مرّت معنا بذكر الحكمة من إنزال القرآن، وعرّفتنا على الله- عزّ وجل-، وحدّدت لنا مضمون شريعته التي أنزلها في هذا القرآن، وأنزلها من قبل، وذكرت لنا موقف المشركين من هذا المضمون، وما فعل أهل الكتاب الأوائل بهذا المضمون، وما هي حال أهل الكتاب الأواخر، ثمّ ذكرت ما ينبغي أن نقابل به هذه المواقف، ثمّ ذكرت بطلان حجج كل من يقف ضدّ الدعوة إلى الله.

المجموعة الثانية من المقطع الثاني وهي الآيات (17 - 35)

وإذا نظرنا إلى صلة هذه المعاني بالمقطع الأول من السورة، فإننا نجد أن الصلة كاملة. لقد قرّر المقطع الأول أن الله عزّ وجل أوحى لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وللرسل السابقين. وقد جاء في هذه المجموعة تحديد لمضمون الوحي، وتلخيص لحكم إنزال القرآن. وكما أن الصلة واضحة بين هذه المجموعة وسياق السورة، فالصلة واضحة مع المحور الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فتقرير أن منزل الكتاب هو الله- عزّ وجل-، وتبيان حكم النزول، وتبيان أن الذين يجادلون في آيات الله حجّتهم داحضة. كل هذه المعاني صلتها مباشرة بمحور السورة. 2 - ذكر- فيما مرّ من السورة- التوحيد، كما ذكر أن مضمون شريعة الله إقامة دين الله والاجتماع على ذلك، وستأتي معنا مجموعتان: مجموعة موضوعها الرئيسى توحيد، ومجموعة موضوعها الرئيسي خصائص جماعة المسلمين، فلنر المجموعتين. وهما الثانية والثالثة في المقطع الثاني. ونلاحظ أنّ المجموعة الآتية تتألف من فقرات واضحة المعالم. كل فقرة منها مبدوءة إما بلفظ الجلالة: اللَّهُ* أو بقوله تعالى: وَهُوَ*. ومجموع فقراتها أربعة، وأوائلها على الترتيب: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ .. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ .. وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ... وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا. ومن ملاحظة بداية الفقرات نعلم أن الحديث عن الله- عزّ وجلّ- هو المضمون الرئيسي للمجموعة بفقراتها: [المجموعة الثانية من المقطع الثاني وهي الآيات (17 - 35)] تفسير الفقرة الأولى من المجموعة الثانية: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي: جنس الكتاب بِالْحَقِّ أي: بالصدق، يعني أن الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه كلها صدق وحق، وهو الذي أنزلها وَالْمِيزانَ أي: وهو الذي أنزل الميزان من أجل العدل والإنصاف، فكما هدى الإنسان للميزان ليقوم العدل والإنصاف في القضايا المادية، فقد أنزل الكتاب ليقوم العدل والإنصاف في الحياة البشرية كلها، ومن ثم فالعدل والإنصاف متلازمان مع هذا القرآن، فكلّ نظرية بشرية للعدل بمعزل عن هذا القرآن لا يمكن أن يتحقق فيها العدل؛ لأن بصر الإنسان محدود، ومن ثم فلا بد من تضخيم، أو نسيان، أو قصور، أو تقصير، أو غير ذلك مما يستحيل معه العدل في أي: نظرية بشرية للعدل وَما يُدْرِيكَ

[سورة الشورى (42): آية 18]

لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي: لعل الساعة قريب منك، وأنت لا تدري. قال ابن كثير: فيه ترغيب فيها وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا. قال النسفي: ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان، أن مع الساعة يأتي الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع، فاعملوا بالكتاب والعدل، قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها قال ابن كثير: أي: يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا، أو كفرا وعنادا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ أي: خائفون مِنْها أي: وجلون من وقوعها. وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي: كائنة لا محالة فهم مستعدون لها، عاملون من أجلها. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أي: يجادلون في وجودها، ويدفعون وقوعها لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق. أي: في جهل بيّن. قال ابن كثير: لأنّ الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى. وقال النسفي: لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى، وقد دلّ الكتاب والسنّة على وقوعها، والعقول تشهد على أنّه لا بدّ من دار جزاء. كلمة في السياق: [الفقرة الأولى حول صلتها بما سبقها وبالمحور] بيّنت المجموعة الأولى من هذا المقطع أن مضمون رسالات الله هي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ فمضمون رسالات الله كلها الإسلام والاجتماع عليه، وقد جاءت هذه الفقرة لتبيّن أن الإسلام هو الحق وهو العدل، وحضّت على إقامته من خلال التذكير بقرب الساعة، فالصلة واضحة بين الفقرة وما سبقها، وصلة الفقرة بالآيات الأولى من سورة البقرة كذلك واضحة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ...

تفسير الفقرة الثانية من المجموعة الثانية

تفسير الفقرة الثانية من المجموعة الثانية: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ في إيصال المنافع، وصرف البلاء، فهو برّ بليغ البر بهم، قد وصل برّه إلى جميعهم، ومن مظاهر لطفه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي: يوسّع رزقه على من يشاء، إذا علم مصلحته فيه وَهُوَ الْقَوِيُّ أي: الباهرة القدرة، الغالب على كل شئ الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب. قال ابن كثير: أي: لا يعجزه شئ. أقول: ومن لطفه بعباده أن يرسل لهم رسلا، وأن ينزّل عليهم كتبا، ومن مظاهر رزقه أن يخصّ بعض عباده بالرسالة. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أي: عمل الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ بالتوفيق في عمله، أو التضعيف في إحسانه، أو بأن ينال به الدنيا والآخرة. قال ابن كثير: أي: نقوّيه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا أي: من كان عمله للدنيا، ولم يؤمن بالآخرة نُؤْتِهِ مِنْها أي: نؤته شيئا منها، وهو رزقه الذي قسمه له لا ما يريده ويبتغيه. قال ابن كثير: (أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شئ من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همّ البتة بالكلية حرمه الله الآخرة، وأما الدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصّل لا هذه ولا هذه، وفاز الساعي بهذه النّيّة بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة) ومن ثمّ قال تعالى عن هذا الطالب للدنيا: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي: هو محروم بالكلية من نعيمها بل هو معذّب فيها. كلمة في السياق: [الآيتين (19، 20) حول الصلة بين الفقرتين الأولى والثانية] بيّنت الفقرة الأولى من المجموعة الثانية أن الحق والعدل كائنان في الكتاب الذي أنزله الله، وبيّن ما مرّ من الفقرة الثانية أنّه- عزّ وجلّ- هو اللطيف بعباده، الرزاق القوي العزيز، ومن ثم فعلى الإنسان أن يعمل للآخرة، وألا يعمل للدنيا معترضا عن الآخرة، ظنا منه أنه بذلك يحصّل رزقا، أو اعتقادا منه أن العمل للآخرة يمنع عنه رزقا. كيف والله لطيف، والله هو الرزاق، والله قوي عزيز. وإذ بيّن الله- عزّ وجلّ- ميزة كتابه الذي فيه شرعه، وبيّن ضرورة العمل به، وخطأ الانحراف عنه، فإنه فيما يأتي من الفقرة الثانية يناقش زعمين وقضيتين، قضية السير في شرع غير شرعه، وقضية اتهام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالكذب عليه، وكل من القضيتين يبدأ مناقشتها بكلمة أَمْ.

القضية الأولى: مناقشة قضية السير في شرع غير شرع الله بمناسبة الآيات (21 - 23)

القضية الأولى: [مناقشة قضية السير في شرع غير شرع الله بمناسبة الآيات (21 - 23)] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ قال ابن كثير: أي: هم لا يتّبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتّبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأموال الفاسدة. قال النسفي: وفي الكلام إضمار تقديره: أيقبلون ما شرع الله من الدين، أم لهم آلهة شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به، أي: لم يأمر به وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أي: ولولا العدة بأنّ الفصل يكون يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بين الكافرين والمؤمنين، أو لعجّلت لهم العقوبة قال ابن كثير: أي: لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي: المشركين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة وإن أخر عنهم في دار الدنيا، دلّ ذلك على أن المشركين المتّبعين غير شرع الله ظالمون. وبعد أنّ بيّنت الآية أن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة صوّر الله لنا حال هؤلاء يوم القيامة تَرَى الظَّالِمِينَ أي: المشركين في الآخرة مُشْفِقِينَ أي: خائفين مِمَّا كَسَبُوا أي: من جزاء كفرهم في عرصات القيامة وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي: نازل بهم لا محالة، أشفقوا أو لم يشفقوا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وهم المقيمون شرع الله فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أي: أين من هو في العرصات في الذل والهوان، والخوف المحقق عليه بظلمه، ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذّ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ على العمل القليل، الفوز العظيم والنّعمة التّامة السابغة الشاملة العامّة ذلِكَ أي: ما ذكر من الفضل الكبير الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال ابن كثير: أي: هذا حاصل لهم كائن لا محالة، ببشارة الله تعالى لهم به قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على الدعوة، أو على التبليغ، أو على هذا الإسلام الموصّل إلى مثل هذا الفضل أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي: إلا أن تودّوا قرابتي، أي: أهلي. أو إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقرّبكم عند الله زلفى، أو إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من

كلمة في السياق

القرابة. فتسمعون وتستجيبون، وسنرى تفصيل الأقوال في هذا الموضوع في الفوائد- إن شاء الله تعالى-. قال النسفي: وقيل القربى: التقرب إلى الله تعالى، أي: إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي: يكتسب طاعة نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي: يضاعفها له أجرا وثوابا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ أي: يغفر الكثير من السيئات شَكُورٌ لمن أطاع، يكثر له القليل من الحسنات ويضاعفه، ويستر ويغفر له السيئات. كلمة في السياق: بيّن الله- عزّ وجلّ- في هذه الآيات عاقبة المشركين السائرين على غير شرعه، وبيّن عاقبة السائرين على شرعه، ويلاحظ التشابه بين نهاية هذه الآيات ونهاية الآيتين اللتين بدئت بهما هذه الفقرة: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ... وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً .... فالفقرة دعوة للسير على شريعة الله، ودعوة لترك شريعة غير الله، وبيان لعاقبة هؤلاء وهؤلاء. والآن يأتي عرض القضية الثانية في الفقرة: فالفقرة كما قلنا دعوة للالتزام بكتاب الله. وإنّما يحول دون ذلك السير وراء شرائع أخرى، أو تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلم في إنزال الكتاب عليه، وقد عولجت القضية الأولى فيما مرّ، والآن يأتي دور القضية الثانية. القضية الثانية: [مناقشة قضية اتهام الرسول صلّى الله عليه وسلم بالكذب على الله بمناسبة الآية (24)] أَمْ يَقُولُونَ أي: بل أيقول هؤلاء الظالمون افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وهو استفهام فيه توبيخ. قال النسفي: كأنه قيل أيتمالكون أن ينسبوا مثله (أي: مثل محمد) صلّى الله عليه وسلم إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ قال ابن كثير: أي: لو افتريت على الله كذبا- كما يزعم هؤلاء الجاهلون- يختم الله على قلبك أي: يطبع على قلبك، ويسلبك ما كان آتاك

كلمة في السياق: حول الربط بين الفقرات الثلاثة للمجموعة الثانية

من القرآن وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أي: الشرك، وهو وعد مطلق من الله عزّ وجل وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي: ويظهر الإسلام ويثبته بكلماته بما أنزل من كتابه على لسان نبيّه- عليه الصلاة والسلام- وقد فعل- جل جلاله- ويفعل. قال ابن كثير: أي: يحقّقه ويثبته ويبيّنه ويوضّحه بكلماته، أي: بحججه وبراهينه. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما تكنّه الضمائر وتنطوي عليه السرائر، وبهذا انتهت الفقرة الثانية من المجموعة الثانية من المقطع الثاني. كلمة في السياق: [حول الربط بين الفقرات الثلاثة للمجموعة الثانية] رأينا أنّ المجموعة الثانية تتألف من فقرات: الفقرتان الأولى والثانية تبدءان بلفظ الجلالة اللَّهُ*، والفقرتان الثالثة والرابعة تبدءان بقوله تعالى: وَهُوَ*. وقد رأينا أن الفقرتين الأولى والثانية ذكرتا إنزال الله- عزّ وجل- الكتاب والميزان، ووجوب العمل بالكتاب طلبا للآخرة، وأزاحتا العلل القاطعة عن السير إلى الله، وأنكرتا قضية السير وراء شرائع أخرى، وقد فنّدت الآية الأخيرة أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد كذب على الله بأن بيّنت أن لو كان شئ من ذلك لعاقبه الله بالختم على القلب فكان كافرا- والعياذ بالله- ولم يكن سيد المؤمنين. كيف والله- عزّ وجل- يؤيّده وينصره وهو العالم بكل شئ؟!. وبعد ذلك تأتي فقرة ثالثة في المجموعة الثانية تحضّ على التوبة، وتبيّن من هم الذين يستجيبون لدعوة الله- عزّ وجل- وتعلّل لسنّة الله- عزّ وجل- في رزقه العباد على ما نراه. تفسير الفقرة الثالثة من المجموعة الثانية: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال ابن كثير: يقول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه، أنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ويستر ويغفر وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ قال النسفي: هو ما دون الشرك .. وقال ابن كثير: أي: يقبل التوبة في المستقبل، ويعفو عن السيئات في الماضي وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي: من التوبة والمعصية. قال ابن كثير: أي: هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم، ومع هذا يتوب على من تاب إليه. أقول: ومجئ هذه الآية في هذا السياق يفيد مطالبة

[سورة الشورى (42): آية 26]

بالسير في شريعة الله، ومطالبة بالتوبة عن السير في غيرها أو في المعصية وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ في هذا النصّ اتجاهان، أولهما: أنّ الله- تعالى- يستجيب دعاء المؤمنين العاملين فيعطيهم مطلوبهم ويزيدهم عليه، وثانيهما: أنّ الذين اجتمع لهم الإيمان والعمل الصالح هم الذين يستجيبون الاستجابة الكاملة لخطاب الشارع، والله- عزّ وجل- يكرمهم بالزيادة من فضله فلا يزالون في ترقّ. وقد رجّح ابن كثير القول الأول. ويبدو لي- والله أعلم- أن القول الثاني هو الأرجح، فسياق السورة يفصّل في موضوع الاتّباع الكامل لشريعة الله، والإقامة الكاملة لدين الله، فمن اجتمع له الإيمان والعمل الصالح فهو المرشّح لكمال العمل بالشريعة ولإقامة دين الله- عزّ وجل- ومما يرجّح ما ذهبنا إليه أنه قد جاء هذا بعد المنّ بقبول التوبة، فكأن الآية تشير إلى أن المؤمنين العاملين هم التوّابون إلى الله- عزّ وجل- المستجيبون لأمره وَالْكافِرُونَ لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ شَدِيدٌ أي: موجع مؤلم. وأيّ عذاب أشد من عذاب النار؟! نعوذ بالله منها. ولمّا كانت الفقرة الثانية ذكرت بسط الله الرزق لمن يشاء، فإنّ الآية تأتي معلّلة لحجب الله التوسعة في الرزق على كل الخلق، وتأخير التعليل يشعر بوحدة المجموعة، وليدخل الرزق الحسي والمعنوي في التعليل، ولتكون الآية مقدمة للفقرة الرابعة كما سنرى. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي: لظلموا في الأرض لأن الغنى مبطرة مأشرة، أو لتكبّروا في الأرض وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. قال النسفي: أي: يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويقبض ويبسط، ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على من يبغي. ومن البغي بدون البسط فهو قليل، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب. وقال ابن كثير: أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، كما جاء في الحديث المروي «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».

تفسير الفقرة الرابعة في المجموعة الثانية

تفسير الفقرة الرابعة في المجموعة الثانية: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا فمن بعد يأس الناس من نزول المطر ينزّله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي: بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به الخصب قال ابن كثير: أي: يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية وَهُوَ الْوَلِيُّ أي: الذي يتولى عباده بإحسانه الْحَمِيدُ أي: المحمود على ذلك، يحمده أهل طاعته، قال ابن كثير: أي: هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود في جميع ما يقدره ويفعله. كلمة في السياق: 1 - جاء قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا بعد قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ فهذه الآية تعليل لقبض المطر. وقبض المطر نموذج لقبض الرزق. 2 - بدأت المجموعة الثانية بقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ ... ثم بعد نهاية الفقرة الأولى جاء قوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ... ثم جاءت الفقرة الثالثة مبدوءة: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ .. وفيها نموذج على لطف الله ثم جاءت الفقرة الرابعة مبدوءة بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا .. وفي هذه البداية نموذج على لطف الله- عزّ وجل-. وهكذا نجد أن الفقرة الثالثة والرابعة تخدمان في تبيان مظاهر من لطف الله- عزّ وجل- وذكر لطف الله- عزّ وجل- في سياق المجموعة دعوة لإقامة الكتاب والميزان دون خوف على رزق، وبهذا نعلم أن في المجموعة الثانية دعوة لإقامة شريعة الله بذكر كل ما يساعد على ذلك، وتفنيد كل ما يصدّ عن ذلك في سياق الحديث عن- الله عزّ وجل-. إذ كل الأمور منبثقة عن أصل الإيمان بالله ومعرفته، ومن ثم تنتهي المجموعة- كما سنرى- بذكر نموذجين من آياته- عزّ وجل- الدالة عليه، كل منهما مبدوء بقوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ ..

[سورة الشورى (42): آية 29]

ا- وَمِنْ آياتِهِ الدالة على عظمته وقدرته العظيمة، وسلطانه القاهر خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مع عظمهما وَما بَثَّ فِيهِما أي: وما ذرأ وفرّق في السموات والأرض مِنْ دابَّةٍ قد يكون في ذلك إشارة إلى وجود حياة في كواكب أخرى غير الأرض، وقد يكون المراد غير ذلك كما سنرى في الفوائد وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ أي: على جمع دواب الأرض والسماء. فإن كان المراد في الآية الإشارة إلى دوابّ في كواكب أخرى، فالآية إذن تشير إلى إمكانية جمع بعضهم ببعض، والمحاولات في عصرنا قائمة لاستكشاف الفضاء. وإن لم يكن الأمر كذلك فالآية تتحدّث عن قدرته- عزّ وجل- على جمعهم يوم القيامة. قال ابن كثير: أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر. فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق. وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ من غمّ أو ألم أو مكروه أو قحط أو فقر أو شدة أو سجن أو غير ذلك فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: فبجناية كسبتموها عقوبة لكم. قال ابن كثير: أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: بفائتين الله- عزّ وجل- وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي: متول بالرحمة وَلا نَصِيرٍ أي: ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حلّ بكم. نقل: [عن الألوسي حول قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ .. ] قال الألوسي: (وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية وَما أَصابَكُمْ الخ، قال- عليه الصلاة والسلام-: «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله- عزّ وجل- عنه أكثر» وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنهما- كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر. ورؤي على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي. وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إليّ أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي. والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له- كالأنبياء عليهم السلام- قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث «أشد الناس بلاء

كلمة في السياق

الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل: غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر). كلمة في السياق: في وقوع المصائب وفي كونها عقوبة على الذنوب دليل على أنّ الإنسان لا يعجز الله- عزّ وجل-، وفي ذلك دليل على قدرة الله على البعث، كما أن في خلق السموات والأرض دليلا على ذلك، وهذا درس في وجوب اتباع دين الله وإقامته خوفا من عقوبته في الدنيا بالمصائب، وخوفا من عقوبته في الآخرة. وهكذا نجد أن الآيات الثلاث الأخيرة خدمت السياق في أكثر من جانب، فكانت تعليلا لحبس الرزق وحبس المطر، وكانت تدليلا على مجئ اليوم الآخر الذي يجازى فيه المنحرفون عن أمر الله، ويكافأ فيه المقيمون لأمره، وكانت تحذيرا للمنحرفين عن أمر الله، سواء أكان انحرافهم كبيرا أو صغيرا. ثمّ بعد هذه الآيات الثلاث تأتي آيات أخرى مبدوءة بقوله تعالى وَمِنْ آياتِهِ تذكّر الإنسان بأنه في قبضته- عزّ وجل-، وتدل على كمال قدرته، وتدل على أن الإنسان لا يعجزه، وتدل على مظهر من مظاهر عقوبته على الذنب. ب- وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي: السفن الجاريات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي: كالجبال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي: سائرات على مهل وكأنّهن ثوابت بالنسبة لإحساس الإنسان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على بلائه شَكُورٍ لنعمائه. أو صبار على طاعته، شكور لنعمته. قال النسفي: أي لكل مؤمن مخلص، فالإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي: يهلكهن. والمعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها بِما كَسَبُوا من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب فلا يجازي عليها. وَيَعْلَمَ أي: لينتقم الله منهم وليعلم الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا أي: في إبطالها ودفعها ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: مهرب من عذابه، أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - من قوله تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ نعلم صلة هذه الآيات بما قبلها في النموذج السابق أي في قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ فالآية هذه نموذج على قدرة الله، وهي في الوقت نفسه مثال لما ذكر في النموذج الأول. 2 - نلاحظ أنّ الله- عزّ وجلّ- ذكر أنّ من حكمة عقوباته الدنيوية أن يعلم الذين يجادلون في آيات الله أنهم لا مهرب لهم من عذاب الله- عزّ وجل-، وفي ذلك دعوة لهم للعودة إلى شريعة الله، ولذلك صلته بالسياق. 3 - نلاحظ أن المجموعة الأولى في المقطع الثاني انتهت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وأن المجموعة الثانية في هذا المقطع انتهت بقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ... فالمجموعتان انتهتا بالكلام عن الذين يحاجّون ويجادلون، ولذلك صلته بموضوع إقامة دين الله، فالمجموعتان متكاملتان، إذ النقطة الرئيسية في سياق المجموعة الثانية أن منزل الكتاب هو الله- عزّ وجل-، وأن هذا الكتاب هو الصيغة الوحيدة للحق والعدل، وأن على الإنسان أن يقيم شرع الله- عزّ وجل-، وأن يترك شرع غيره. فإذا فعل حفّته رعاية الله في الدنيا والآخرة، وأنّ الانحراف عن شرع الله جزاؤه عقوبات الله في الدنيا والآخرة. فإذا أردنا أن نقول كلمة نلخّص فيها السياق العام للمقطع الثاني نقول: بدأ المقطع بذكر حكمة إنزال القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم بين أن شريعة الله تتضمن معنيين: إقامة دين الله، والاجتماع عليه. ثم بيّن الله- عزّ وجل- موقف المشركين وأهل الكتاب من هذا المعنى، ثم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله والاستقامة على أمره، ثمّ بيّن الله- عزّ وجلّ- ضياع وخسارة وعقوبة الصادّين عن دعوته. ثم جاءت المجموعة الثانية لتبيّن أن الحق والعدل هما صفتا هذا الكتاب، ثم سار السياق كما رأينا بما يخدم قضية التطبيق الدقيق للقرآن الكريم. والآن تأتي مجموعة ثالثة تتألف من ثلاث فقرات، تبيّن الفقرة الأولى منها صفات

المجموعة الثالثة من المقطع الثاني وهي الآيات (36 - 51)

الذين يستأهلون رضوان الله، وهم الذين يقيمون دين الله، ولا يتفرّقون فيه. 4 - وإذن فنحن الآن أمام موضوع من أهمّ الموضوعات التي يجب أن يعرفها كل مسلم، وهو موضوع جماعة المسلمين، ما هي صفاتها؟ وما هي خصائصها؟ إنّ الله عزّ وجلّ يعطينا الميزان الذي نتعرّف به على جماعة المسلمين لنلتزم بها، ونتحقق بأخلاقياتها. ولقد قدمت السورة لذلك بأمور كثيرة: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. إنّ الجماعة التي تقيم دين الله ولا تتفرّق فيه هي التي تتحقّق بمواصفات معيّنة، هي التي تذكرها الفقرة الأولى من المجموعة الثالثة، وأي صفة من هذه الصفات لا تظهر في الجماعة تجعلها غير مرشحة لإقامة دين الله، وتجعلها معرّضة للتفرق فيه. إن على المسلمين جميعا أن يكونوا جماعة واحدة وهذا هو الطريق لذلك: [المجموعة الثالثة من المقطع الثاني وهي الآيات (36 - 51)] تفسير الفقرة الأولى من المجموعة الثالثة: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن كثير: أي: مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنّما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي، فلا تقدّموا الفاني على الباقي، لكن من هم الذين يستأهلون هذا الثواب؟ لِلَّذِينَ آمَنُوا بالغيب وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فلا يتوكّلون على غيره وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ كالشرك وقذف المحصنات والفرار من الزحف، وغير ذلك من الموبقات وَالْفَواحِشَ أي: ما عظم قبحه وفحشه كالزنا واللواط وَإِذا ما غَضِبُوا في أمر دنيوي أو شخصي هُمْ يَغْفِرُونَ أي: سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن النّاس، وليس من سجيّتهم الانتقام من الناس إذا أساءوا لأشخاصهم وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي اتّبعوا رسله، وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره، فأقاموا دينه واجتمعوا عليه وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي: وأتموا الصلوات الخمس. وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ قال ابن كثير: أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه؛ ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها. وقال النسفي: أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم وَمِمَّا

[سورة الشورى (42): آية 39]

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي: يتصدّقون وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ أي: الظلم هُمْ يَنْتَصِرُونَ قال ابن كثير: أي فيهم قوة الانتصار ممّن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين، بل يقدرون على الانتقام ممّن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا واعفوا. أقول: إلا إذا كان الحزم أو العلم أو الحكم عدم العفو، وقال النسفي: أي هم ينتقمون ممن ظلمهم، أي: يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم، ولا يعتدون، وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق. وإنما حمدوا على الانتصار؛ لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حد الله فلم يسرف في القتل- إن كان ولي دم- فهو مطيع لله وكل مطيع محمود. ثمّ بيّن تعالى حدّ الانتصار فقال وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي: يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي: لا يضيع ذلك عنده كما صحّ ذلك في الحديث «وما زاد الله تعالى عبدا بعفو إلا عزّا» وهذا في الخصومات الشخصية بين مسلم ومسلم أو مسلم ومعاهد إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي: المعتدين وهم المبتدءون بالسيئة، وفسّر النسفي الظالمين هنا بقوله: الذين يبدءون الظلم، أو الذين يجاوزون حدّ الانتصار. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممّن ظلمهم، أي: ولمن أخذ حقه بعد ما ظلم فهؤلاء ما عليهم من سبيل للمعاقب، ولا للمعاتب، ولا للمعايب. قال النسفي: وفسّر السبيل بالتبعة والحجة. إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: إنما الحرج والعنت والعيب والعقاب والعتاب عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي: يبتدءونهم بالظلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون بالباطل أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: شديد موجع يوم القيامة، وقد فهم من الآيتين الأخيرتين ضمنا أن من خصائص المسلمين ألا يلوموا وألا يعاقبوا من انتصر بحق أو بعد ما ظلم وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ قال ابن كثير: أي صبر على الأذى وستر السيئة. وقال النسفي: ولمن صبر على الظلم والأذى وغفر ولم ينتصر إِنَّ ذلِكَ أي: الصبر والغفران معه لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قال النسفي: أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخّص في تركه. وقال ابن كثير: (قال سعيد بن جبير: يعني لمن حق الأمور التي أمر الله تعالى بها، أي: لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل).

نقول

نقول: 1 - [كلام صاحب الظلال عن الشورى كصفة من أهم صفات الجماعة المسلمة] قدّم صاحب الظلال للفقرة التي مرّت معنا بقوله: (وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها. ومع أن هذه الآيات مكية، نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ .. مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيّا للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليه أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة، بوصفها إفرازا طبيعيا للجماعة. كذلك نجد من صفة هذه الجماعة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. مع أن الأمر الذي كان صادرا للمسلمين في مكة هو أن يصبروا وألا يردوا العدوان بالعدوان؛ إلى أن صدر لهم أمر آخر بعد الهجرة وأذن لهم في القتال، وقيل لهم: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. وذكر هذه الصفة هنا في آيات مكية بصدد تصوير طابع الجماعة المسلمة يوحي بأنه صفة الانتصار من البغي صفة أساسية ثابتة؛ وأن الأمر الأول بالكف والصبر كان أمرا استثنائيا لظروف معينة. وأنه لما كان المقام هنا مقام عرض الصفات الأساسية للجماعة المسلمة ذكر منها هذه الصفة الأساسية الثابتة، ولو أن الآيات مكية، ولم يكن قد أذن لهم بعد في الانتصار من العدوان. وذكر هذه الصفات المميزة لطابع الجماعة المسلمة، المختارة لقيادة البشرية وإخراجها من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، ذكرها في سورة مكية وقبل أن تكون القيادة العملية في يدها فعلا، جدير بالتأمل. فهي الصفات التي يجب أن تقوم أولا، وأن تتحقق في الجماعة لكي تصبح بها صالحة للقيادة العملية. ومن ثم ينبغي أن نتدبرها طويلا .. ما هي؟ ما حقيقتها؟ وما قيمتها في حياة البشرية جميعا؟. إنها الإيمان، والتوكل، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والمغفرة عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والشورى الشاملة، والإنفاق مما رزق الله، والانتصار من البغي، والعفو، والإصلاح، والصبر). 2 - [كلام الألوسي وصاحب الظلال عن الشورى بمناسبة آية وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ .. ] وعند قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ قال الألوسي: (قد كانت الشورى بين النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الصحابة-

رضي الله تعالى عنهم- بعده- عليه الصلاة والسلام-، وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الرّدة وميراث الجد وعدد حدّ الخمر وغير ذلك. والمراد بالأحكام ما لم يكن لهم فيه نص شرعي فالشورى لا معنى لها، وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله- عزّ وجل- إلى آراء الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير. ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي- كرم الله تعالى وجهه- قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شئ قال: اجمعوا له العابدين من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد، وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا، فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة- مرفوعا-: «استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا». والشورى- على الوجه الذي ذكرناه- من جملة أسباب صلاح الأرض، ففي الحديث «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها». وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفساد الدين والدنيا أكثر من إصلاحها). وقال صاحب الظلال عند الآية نفسها: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ: والتعبير يجعل أمرهم كله شورى؛ ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة. وهو- كما قلنا- نص مكي، كان قبل قيام الدولة الإسلامية. فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين. إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد. والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية. والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية. ومن ثم كان طابع الجماعة في الشورى مبكرا، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشئون الحكم فيها. إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية، وهي من ألزم صفات القيادة. أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوبا في قالب حديدي، فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان؛ لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية. والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالا جامدة، وليست نصوصا حرفية، إنما هي-

3 - نقل عن صاحب الظلال بمناسبة آية والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون

قبل كل شئ- روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة. والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شئ .. وليس هذا كلاما عائما غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية. فهذه العقيدة- في أصولها الاعتقادية البحتة، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها- تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شئ له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية، ثم تجئ النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع، لمجرد تنظيمها لا لخلقها وإنشائها. ولكي يقوم أيّ شكل من أشكال النظم الإسلامية، لا بد قبلها من وجود مسلمين، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر. وإلا فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة، ولا تحقق نظاما يصح وصفه بأنه إسلامي .. ومتى وجد المسلمون حقا، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها، وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق) اه. 3 - [نقل عن صاحب الظلال بمناسبة آية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] وعند قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ قال صاحب الظلال: (وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف. فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة، صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم، وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل، وهي عزيزة بالله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ .. فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي، وأن تدفع العدوان. وإذا كانت هناك فترة اقتضت- لأسباب محلية في مكة، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة- أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصلية. ولقد كانت هناك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي. منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على

كلمة في السياق: حول علاقة الفقرتين الأولى والثانية من المجموعة الثالثة ببعضهما البعض

الجماعة. فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعا قبليا مخلخلا. ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه، ولم يقع إلا في الندرة أن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة، كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالبا. ولم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلم يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد. والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة. ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى. واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين. وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشّعب وحصر بني هاشم فيه. فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة، ونقضت هذا العهد الجائر. ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام. والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوافز الدائم، وإخضاعها لهدف، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب. مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم. ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق. فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في مكة، مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ...... ) اه. كلمة في السياق: [حول علاقة الفقرتين الأولى والثانية من المجموعة الثالثة ببعضهما البعض] بيّن الله- عزّ وجل- في الفقرة المارة أنّ متاع الدنيا قليل، ثمّ بيّن أن متاع الآخرة خير وأبقى لمن توفرت فيه مجموعة صفات. وقد تبيّن لنا من مجموع ما ذكر في الفقرة أن الطريق إلى الدنيا والآخرة هو إقامة دين الله. والاجتماع عليه. وقد حددت المجموعة

تفسير الفقرة الثانية من المجموعة الثالثة

مواصفات هؤلاء الذين يقيمون دين الله. ويجتمعون عليه. وبعد أنّ بيّن الله- عزّ وجل- ذلك، فإنّه- جل جلاله- يبيّن في الفقرة الثانية وضع الظالمين. تفسير الفقرة الثانية من المجموعة الثالثة: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي: فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه، وما له من أحد يمنعه من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة وَتَرَى الظَّالِمِينَ يوم القيامة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي: حين يرون العذاب يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ أي: رجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ أي: من طريق نفعله لنرجع ونؤمن وهيهات فلا عودة ولا رجوع وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي: على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي: متضائلين متقاصرين ممّا يلحقهم من الذلّ يَنْظُرُونَ إلى النار مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي: ضعيف بمسارقة. قال ابن كثير: أي ينظرون إليها مسارقة خوفا منها، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة، وما هو أعظم في نفوسهم، أجارنا الله من ذلك. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: يقولون يوم القيامة إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن كثير: أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذّتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفرّق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم، فخسروهم أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منه ولا محيد لهم عنه وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس له طريق إلى النجاة، أي: ليس له خلاص. كلمة في السياق: [الفقرة الثانية حول التشابه بين بدايتها ونهايتها] نلاحظ أن هذه الفقرة بدأت بقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وختمت بقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ، لاحظ التشابه بين البداية والنهاية. وبعد هذه الجولة الطويلة في المقطع، وكلها إقناع بضرورة الاستجابة لدين الله وشرعه، تأتي الآن فقرة تأمر بشكل مباشر بالاستجابة لشرع الله ودينه.

تفسير الفقرة الثالثة من المجموعة الثالثة

تفسير الفقرة الثالثة من المجموعة الثالثة: ج- اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أي: أجيبوه إلى كل ما دعاكم إليه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أي: يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا يردّه الله بعد ما حكم به، أو لا يقدر أحد على رده ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: إنكار، أي: ليس لكم مخلص من العذاب، ولا تقدروا أن تنكروا شيئا ممّا اقترفتموه ودوّن في صحائفكم، أو تستنكروا ما يفعل بكم فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الاستجابة لإقامة دين الله، وعن ترك الافتراق فيه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي: رقيبا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي: إلا أن تبلّغ، أي: إنما كلّفناك أن تبلّغهم رسالة الله إليهم وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي: نعمة وسعة، وأمنا وصحة، وأمثال ذلك فَرِحَ بِها أي: بطر بذلك وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: بلاء كالمرض والفقر والجدب والشدة والنقمة، وغير ذلك بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: بسبب معاصيهم فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي: يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها. قال ابن كثير: أي يجحد ما تقدّم من النّعم، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ودليل ذلك يَخْلُقُ ما يَشاءُ وعلامة ذلك يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً أي: يرزقه البنات فقط وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أي: يرزقه البنين فقط أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي: ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي: من هذا وهذا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي: لا يولد له. قال ابن كثير: (فجعل الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيما لا نسل له ولا ولد له إِنَّهُ عَلِيمٌ أي: بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام قَدِيرٌ أي: على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك، وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى- عليه الصلاة والسلام- وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي: دلالة لهم على قدرته- تعالى وتقدس- حيث خلق الخلق على أربعة أقسام: فآدم- عليه الصلاة والسلام- مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى، وحواء- عليها السلام- مخلوقة من ذكر بلا أنثى، وسائر الخلق سوى عيسى- عليه السلام- من ذكر وأنثى، وعيسى- عليه السلام- من أنثى بلا ذكر، فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم- عليهما الصلاة والسلام- ولهذا قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ فهذا المقام في

كلمة في السياق: حول علاقة بدايتي المقطعين الأول والثاني بالآية (50)

الآباء، والمقام الأول في الأبناء وكل منهما أربعة أقسام فسبحان العليم القدير). إِنَّهُ عَلِيمٌ بكل شئ قَدِيرٌ على كل شئ. قال النسفي مبيّنا صلة هذه الآية بما قبلها: (لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك أن له تعالى الملك، وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد، ويهب لعباده من الأولاد ما يشاء فيخص بعضا بالإناث وبعضا بالذكور، وبعضا بالصنفين جميعا، ويجعل البعض عقيما، والعقيم التي لا تلد، وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له، وقدم الإناث أولا على الذكور؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء، ذكر البلاء، ولما أخّر الذكور- وهم أحقاء بالتقديم- تدارك تأخيرهم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرّف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال: ذُكْراناً وَإِناثاً). كلمة في السياق: [حول علاقة بدايتي المقطعين الأول والثاني بالآية (50)] وإذ ذكر الله- عزّ وجل- في بداية المقطع الأول، وفي أوائل المقطع الثاني أنّه أوحى إلى محمد- عليه الصلاة والسلام- والنبيّين من قبله، فإنه الآن يذكر أنواع الوحي كنهاية للمقطعين السابقين، وصلة وصل مع بداية المقطع الثاني المبدوء بقوله تعالى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا فلنر الآية الأخيرة في المجموعة الثالثة وفي المقطع الثاني. وَما كانَ لِبَشَرٍ أي: وما صحّ لأحد من البشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أي: إلهاما، ومن ذلك رؤيا المنام أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي: يسمع كلاما من الله كما سمع موسى- عليه السلام- من غير أن يبصر السامع من يكلّمه، وليس المراد بالحجاب حجابا كالحجاب المعروف في حق الخلق، بل هو حجاب يحجب به السامع عن رؤية الله في الدنيا، ولا نخوض في شأنه، قال- عليه الصلاة والسلام-: «حجابه النّور» أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي: ملكا فَيُوحِيَ أي: الملك إلى الرسول أو النبي

كلمة في السياق: حول صلة المقطع الثاني بمحور السورة

بِإِذْنِهِ أي: بأمر الله ما يَشاءُ الله من الوحي. إِنَّهُ أي: إن الله عَلِيٌّ قاهر فلا يمانع حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله، فلا يعارض وبهذا انهى المقطع. كلمة في السياق: [حول صلة المقطع الثاني بمحور السورة] إن ارتباط آيات المقطع ببعضها، وارتباط مجموعاته ببعضها، كل ذلك قد ذكرناه أثناء عرضنا لمجموعات المقطع وفقراته وآياته. ويبقى أن نرى هنا صلة المقطع بمحور السورة. إن محور السورة هو الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة، وقد تعرض المقطع لإنزال هذا القرآن، ولكونه من عند الله، وذكر مواصفات أهل الآخرة: من إيمان وتوكل وصلاة وإنفاق. ولذلك صلاته بمقدمة سورة البقرة، فلقد نال قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ تفصيلا في سورة الشورى، كما نال قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ تفصيلا، ونال قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تفصيلا، ونال قوله تعالى. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تفصيلا، ولكنه تفصيل ليس كطريقة البشر في التفصيل بل هو تفصيل معجز. فأنت إذ تدرس السورة دراسة تفصيلية، ترى أنّك قد خرجت من السورة وقد ازدادت قضايا الاهتداء بالكتاب والإيمان والعمل وغيرها وضوحا، فازددت تمسكا وعملا، وزادتك بصيرة. وبهذا يكمل البناء شيئا فشيئا. الفوائد: 1 - [لماذا سميت مكة أم القرى؟] بمناسبة قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها قال ابن كثير: (وسميت مكة أمّ القرى؛ لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها، ومن أوجز ذلك وأدله ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه

2 - كلام ابن كثير عن الإشفاق من يوم القيامة بمناسبة آية والذين آمنوا مشفقون ..

سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا إني أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح). أقول: وهناك اتجاه عند المالكية يرى أن للمدينة فضلا على غيرها، وإنما ذكرناه هنا للإشارة إلى أنه لا يوجد إجماع على ما قاله ابن كثير. 2 - [كلام ابن كثير عن الإشفاق من يوم القيامة بمناسبة آية وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ قال ابن كثير: (وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان، والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه فقال: يا محمد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحوا من صوته «هاؤم» فقال له: متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» فقال: حب الله ورسوله، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت» فقوله في الحديث: «المرء مع من أحب» هذا متواتر لا محالة والغرض، أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها). 3 - [كلام ابن كثير عن مصير أول من ابتدع عبادة الأصنام بمناسبة الآية (21)] بمناسبة قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ قال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار» لأنه أول من سيّب السوائب، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة، وهو أول من فعل هذه الأشياء، وهو الذي حمل قريشا على عبادة الأصنام، لعنه الله وقبحه). 4 - [كلام ابن كثير عن معنى المودة في القربى بمناسبة آية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً .. ] بمناسبة قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال ابن كثير: (أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شرّكم عني وتذروني أبلّغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني. بما بيني وبينكم من القرابة. روى البخاري عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد ابن جبير: قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت (وفي رواية عجيب) إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. انفرد به البخاري، ورواه الإمام أحمد من طريق آخر به، وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن

مهران وغير واحد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- مثله، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم» وروى الإمام أحمد عن مجاهد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقربوا إليه بطاعته» وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله، وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول: إلا المودة في القربى أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد ابن جبير ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم. وقال السدي عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قرن الفتنة. فقال له علي بن الحسين- رضي الله عنه-: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم. قال: ما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم. وقال أبو إسحاق السبيعي: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال قربى النبي صلّى الله عليه وسلم. رواهما ابن جرير. ثم روى ابن جرير- أيضا- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، وكأنهم فخروا. فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما- شك عبد السلام، وهو أحد رواة الحديث: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال صلّى الله عليه وسلم: «ألم تكونوا ضلّالا فهداكم الله بي؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «أفلا تجيبوني» قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال صلّى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا في أيدينا لله ولرسوله قال فنزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وهكذا رواه ابن أبي حاتم بإسناده مثله أو قريبا منه وهو ضعيف. وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية، وذكر

نزولها في المدينة فيه نظر، لأن السورة مكية، وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ قال: «فاطمة وولدها رضي الله عنهما» وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل، وذكر نزول الآية في المدينة بعيد فإنها مكية، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة- رضي الله عنها- أولاد بالكلية. فإنها لم تتزوج بعلي- رضي الله عنه- إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري، ولا ننكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» وروى الإمام أحمد عن العباس بن عبد المطلب- رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، قال: فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله». ثم روى الإمام أحمد عن عبد المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي» وروى البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن أبي بكر- هو الصديق- رضي الله عنه قال: ارقبوا محمدا صلّى الله عليه وسلم في أهل بيته. وفي الصحيح أن الصديق- رضي الله عنه- قال لعلي- رضي الله عنه-: والله لقرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. وقال عمر بن الخطاب للعباس- رضي الله عنهما-: والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فحال الشيخين- رضي الله عنهما- هو الواجب على كل أحد أن يكون

5 - كلام النسفي عن لطف الله بعباده بمناسبة آية الله لطيف بعباده

كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين وروى الإمام أحمد رحمه الله .. عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه، لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فما حدّثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال رضي الله عنه: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما- بين مكة والمدينة- فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغّب فيه وقال صلّى الله عليه وسلم: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل جعفر وآل العباس- رضي الله عنهم-، قال: أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة؟ قال: نعم. وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حبان به وروى أبو عيسى الترمذي وعن زيد بن أرقم- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي. أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» تفرد بروايته ثم قال: هذا حديث حسن غريب وروى الترمذي أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: «يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» تفرد به الترمذي أيضا وقال حسن غريب. وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم. وروى الترمذي أيضا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم: «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي» ثم قال حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه). 5 - [كلام النسفي عن لطف الله بعباده بمناسبة آية اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ] بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ قال النسفي: (وقيل هو من

6 - كلام النسفي وابن كثير بمناسبة آية وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ..

لطف بالغوامض علمه، وعظم عن الجرائم حلمه، ومن ينشر المناقب ويستر المثالب، أو يعفو عمن يهفو، أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلفه الطاعة دون الطاقة). 6 - [كلام النسفي وابن كثير بمناسبة آية وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال النسفي: (والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما، والعزم على أن لا يعود، وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التفصي [أي: الاستحلال] على طريقه. وقال علي- رضي الله عنه-: هو اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وعن السدي: هو صدق العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب. وعن غيره: هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره. وعن سهل: هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد: هو الإعراض عما دون الله). وقال ابن كثير: (وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش» وقال همام بن الحارث: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها؟ قال: لا بأس به (أي بالزواج) وقرأ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الآية. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم). 7 - [كلام ابن كثير عن معنى الاستجابة والزيادة من فضل الله بمناسبة الآية (26)] بمناسبة قوله تعالى. وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن كثير: (قال السدي: يعني يستجيب لهم، وكذا قال ابن جرير: معناه يستجيب لهم الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم، وحكاه عن بعض

8 - كلام ابن كثير عن إنزال الغيث بمناسبة آية وهو الذي ينزل الغيث ..

النحاة وأنه جعلها كقوله- عزّ وجل-: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ثم روى ابن أبي حاتم عن سلمة بن سيرة قال: خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة والله إني لأرجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة، وذلك بأن أحدكم إذا عمل له- يعني أحدهم- عملا قال: أحسنت رحمك الله، أحسنت بارك الله فيك، ثم قرأ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه جعل قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ أي: هم الذين يستجيبون للحق، ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ والمعنى الأول أظهر لقوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك. ولهذا روى ابن أبي حاتم عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في قوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: «الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفا في الدنيا» وقال قتادة عن إبراهيم النخعي في قوله عزّ وجل: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال: يشفعون في إخوانهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: يشفعون في إخوان إخوانهم. 8 - [كلام ابن كثير عن إنزال الغيث بمناسبة آية وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا قال ابن كثير: (قال قتادة: ذكرنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس. فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم، ثم قرأ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي: هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله). 9 - [كلام المؤلف والنسفي عن احتمال وجود حياة على كواكب أخرى بمناسبة الآية (29)] رأينا ما يحتمله قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وقلنا: إنه يحتمل أن يكون في الآية إشارة إلى وجود حياة في كواكب أخرى، وإشارة إلى اجتماع سكان أرضنا بسكان هذه الكواكب إلا أنه احتمال. ومن ثم فإننا نذكر هنا كيف فهم المفسرون القدامى هذه الآية. قال ابن كثير: (يقول تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما أي: ذرأ فيهما، أي: في السموات والأرض مِنْ دابَّةٍ وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر

10 - كلام ابن كثير عن الصبر على البلاء بمناسبة آية وما أصابكم من مصيبة ..

الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم، ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء السموات والأرض وَهُوَ مع هذا كله عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين، وسائر الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق). وقال النسفي: (الدواب تكون في الأرض وحدها لكن يجوز أن ينسب الشئ إلى جميع المذكور- وإن كان ملتبسا ببعضه- كما يقال: بنو تميم فيهم شاعر مجيد وإنما هو في فخد من أفخاذهم، ومنه قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من الملح، ولا يبعد أن يخلق في السموات حيوانات يمشون فيها مشى الأناسي على الأرض، أو يكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي). أقول: في حالة اكتشاف حياة على ظهر كوكب آخر تكون الآية نصا في ذلك، وإلا ففي تأويلات ابن كثير والنسفي ما يكفي لفهمها. 10 - [كلام ابن كثير عن الصبر على البلاء بمناسبة آية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال ابن كثير: وفي الحديث الصحيح «والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها». وروى ابن جرير عن أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة نزلت فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر، فقال: «أرأيت ما رأيت مما تكره، فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخل مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة» قال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه، قال: والأول أصح وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عزّ وجل وحدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه» وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي سخيلة قال علي قال: رضي الله عنه

11 - كلام ابن كثير عن العفو عند المقدرة بمناسبة آية وإذا ما غضبوا هم يغفرون

فذكر نحوه مرفوعا. ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفا عن أبي جحيفة قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال فسألناه فتلا هذه الآية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال: «ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة» وروى الإمام أحمد عن معاوية- هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «ما من شئ يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفّر الله تعالى عنه به من سيئاته» وروى الإمام أحمد أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها» وروى ابن أبي حاتم عن الحسن- هو البصري- قال في قوله تبارك وتعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال: لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» وروى أيضا عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان قد ابتلى في جسده فقال له بعضهم: إنا لنبأس لك لما نرى فيك. قال: فلا تبتئس بما ترى، فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الآية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وحدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وقد ذهب بصري وأنا غلام؟ قال: فبذنوب والديك. وعن الضحاك قال: ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟! 11 - [كلام ابن كثير عن العفو عند المقدرة بمناسبة آية وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ قال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيح «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله» وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة: «ما له تربت يمينه» وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا). 12 - [كلام ابن كثير عن الشورى بمناسبة آية وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ] بمناسبة قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ قال ابن كثير: (أي: لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما

13 - كلام ابن كثير عن الانتصار من البغي بمناسبة آية والذين إذا أصابهم البغي ..

قال تبارك وتعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الآية ولهذا كان صلّى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر وهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنهم، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم). 13 - [كلام ابن كثير عن الانتصار من البغي بمناسبة آية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ قال ابن كثير: (أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه، وكما عفا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام، وكذلك عفوه صلّى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به، حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ صلّى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتا فانتهره فوضعه من يده، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه، وكذلك عفا صلّى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره عليه السلام، ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه، وكذلك عفوه صلّى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية- وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة- التي سمّت الذراع يوم خيبر- فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت فقال صلّى الله عليه وسلم «ما حملك على ذلك؟» قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك. فأطلقها عليه الصلاة والسلام، ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنهما قتلها به والأحاديث والآثار في هذه كثيرة جدا والله سبحانه وتعالى أعلم). 14 - [كلام ابن كثير عن الظلم وعاقبته بمناسبة آية إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قال ابن كثير: أي يبدءون الناس بالظلم كما جاء في الحديث الصحيح: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن واسع قال: قدمت مكة فإذا على الخندق قنطرة، فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب- وهو أمير البصرة- فقال: ما حاجتك؟ قلت: يا أبا عبد الله حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي، قال: ومن أخو بني عدي؟

15 - كلام ابن كثير عن الصبر والمغفرة بمناسبة آية ولمن صبر وغفر إن ذلك ..

قلت: العلاء بن زياد، استعمل صديقا له مرّة على عمل فكتب إليه: أما بعد، فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف، وبطنك خميص، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم، فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فقال مروان: صدق والله ونصح، ثم قال: حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت: حاجتي أن تلحقني بأهلي، قال: نعم. رواه بن أبي حاتم). 15 - [كلام ابن كثير عن الصبر والمغفرة بمناسبة آية وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن الفضيل بن عياض قال: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا، فقل: يا أخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله عزّ وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه، والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر ردّ عليه بعض قوله، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: «إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان- ثم قال- يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزّ وجل بها قلة» وكذا رواه أبو داود عن سعيد بن المسيب مرسلا، وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه). 16 - [مضمون رسالات الله جميعا من خلال آية فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ... نقول: إنّ هذه السورة بيّنت أنّ مضمون كل رسالات الله هو: إقامة الدين والاجتماع عليه أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ وقد ذكر الله عزّ وجل في هذه السورة كل ما يلزم لإقامة الدين وعدم التفرق فيه، ومن ذلك: الخصائص التي ينبغي أن تتوافر في كل مسلم وفي جماعة المسلمين. فإذا توافرت هذه الخصائص قام الإسلام، ووجد الاجتماع عليه، ولم توجد التفرقة فيه. وللتذكير بهذه الخصائص نجملها فيما يلي:

17 - كلام ابن كثير عن معنى كلمة"كفور" بمناسبة آية فإن الإنسان كفور

1 - الإيمان 2 - التوكل 3 - اجتناب الكبائر 4 - اجتناب الفواحش 5 - كظم الغيظ، وضبط الغضب، ومغفرة الإساءة 6 - الاستجابة لله عزّ وجل في كل شئ 7 - إقامة الصلاة 8 - الشورى والتحقق بها وممارستها عمليا في الصغير والكبير وعلى أي مستوى 9 - الإنفاق في سبيل الله 10 - الانتصار عند البغي 11 - عدم تجاوز العدل في الانتصار 12 - العفو عند المقدرة والصبر على الأذى. وقد تساءل ابن العربي: لم أثنى الله على المنتصرين إذا بغي عليهم في مقام، وحضّهم على الصبر والمغفرة في مقام. فذكر أن ذلك يختلف باختلاف الظالم. فإذا كان الظالم ليس من شيمته الظلم وأخطأ فهذا من الأفضل أن نتحمله، وإلا فالأفضل أن نقتص منه، ومن ثم فاعرف محل التخلق بما ورد في عن هذا وهذا في الآيات. 17 - [كلام ابن كثير عن معنى كلمة «كفور» بمناسبة آية فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ قال ابن كثير: (كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للنساء: «يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة: ولم يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت ما رأيت منك خيرا قط» وهذا حال أكثر النساء إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمؤمن كما قال صلّى الله عليه وسلم: «إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن»). 18 - [كلام ابن كثير عن مقامات الوحي بمناسبة آية وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ قال ابن كثير: (هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عزّ وجل وهو أنه تبارك وتعالى يقذف في روع النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عزّ وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» وقوله تعالى أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كما كلّم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها. وفي الصحيح أن رسول الله- صلّى الله عليه وآله وسلم- قال لجابر بن عبد الله- رضي الله عنهما-: «ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا» كذا جاء الحديث، وكان قد قتل يوم أحد ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا وقوله عزّ وجل أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ كما ينزل جبريل- عليه الصلاة والسلام- وغيره من الملائكة على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-).

المقطع الثالث والأخير ويمتد من الآية (52) إلى نهاية الآية (53) وهو خاتمة السورة وهذا هو

المقطع الثالث والأخير ويمتد من الآية (52) إلى نهاية الآية (53) وهو خاتمة السورة وهذا هو: 42/ 52 - 53 التفسير: وَكَذلِكَ أي: وكما أوحينا إلى الرسل من قبلك، أو كما وصفنا حالات الوحي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي: إيحاء كذلك رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني القرآن، قال النّسفي: يريد [أي بذكر الروح] ما أوحي إليه، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ قبل الوحي وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي: القرآن نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي: ممن يستحقون الهداية لعلم الله بهم وَإِنَّكَ لَتَهْدِي أي: لتدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: الإسلام صِراطِ اللَّهِ فهو الصراط المستقيم الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي: ترجع الأمور كلها إليه فيفصل في شأنها ويحكم فيها، وهو وعيد بالجحيم ووعد بالنعيم وبهذا انتهت السورة. قال صاحب الظلال: (وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي، وكان الوحي محورها الرئيسي. وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى؛ لتقرر وحدة الدين، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق؛ ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة؛ ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض؛ ولتبين

كلمة في السياق: حول العلاقة بين مقاطع السورة الثلاثة وعلاقة الأخير بالمحور

خصائص هذه العصبة وطابعها المميز، الذي تصلح به للقيادة، وتحمل به هذه الأمانة. الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم) .. كلمة في السياق: [حول العلاقة بين مقاطع السورة الثلاثة وعلاقة الأخير بالمحور] إن صلة المقطع بالآية التي قبله مباشرة واضحة، فالآية التي قبله ذكرت أنواع الوحي، وهذا المقطع تحدّث عن الوحي الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم. وصلة المقطع بالمقاطع السابقة عليه واضحة كذلك، لاحظ بدايات المقاطع الثلاثة: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ... وإذا كان المقطع الأول قد تحدّث عن ظاهرة الوحي. وإذا كان المقطع الثاني قد ذكر حكمة إنزال القرآن. فإن المقطع الثالث قد ذكر بعض خصائص هذا القرآن، وهو أنه روح تحيا به القلوب والأرواح والأنفس والمجتمعات والبشرية كلها، كما ذكر هذا المقطع دليلا على كون هذا القرآن من عند الله، بكون محمد صلّى الله عليه وسلم قبل نزول هذا القرآن عليه ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وبكون محمد صلّى الله عليه وسلم بعد هذا القرآن أصبح هاديا إلى صراط الله عزّ وجلّ وهو الإسلام، وبكون هذا القرآن نفسه نورا يهدي به الله من يشاء إلى الحق الخالص الكامل. ونلاحظ أن المقطع الأول ذكر ملك الله للسماوات والأرض، وكذلك المقطع الثاني، وكذلك المقطع الثالث صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وكأن السورة بهذا تنادي البشر المملوكين لله. أن هذا صراط ربكم ومالككم فاتبعوه. ولنر صلة المقطع الأخير بمحور السورة: تذكّر أنه قد جاء في محور السورة قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ .. وتذكّر أنّه قد جاء في المقطع الأخير قوله تعالى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ولذلك صلاته بمحور السورة، كما جاء في المقطع قوله

فائدة: حول الأمور التي تجتمع في المسلم الكامل

تعالى: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ولذلك صلاته بقوله تعالى من مقدمة سورة البقرة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ. فالصلة واضحة بين المقطع ومحور السورة في سورة البقرة. فهي تفصّل وتوضّح وتشرح ما استكنّ هناك، وكل ذلك ضمن السياق الخاصّ بها .. قلنا من قبل إن هناك تشابها بين سورة (طه) وسورة (الشورى)، وكان ذلك من العلامات التي دلتنا على محور سورة الشورى، وكتأكيد لهذا نقول: إن من مظاهر التشابه بين السورتين ما ختمت به كل من السورتين، فسورة (طه) ختمت بقوله تعالى فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى وسورة (الشورى) ختمت بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ. فائدة: [حول الأمور التي تجتمع في المسلم الكامل] قال تعالى في سورة الروم وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ومن هنا نفهم أن المسلم الكامل هو الذي اجتمع له علم صحيح وإيمان صادق. وقال تعالى في سورة الشورى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ دلّ ذلك على أن معرفة الكتاب، ومعرفة الإيمان، فضل من الله. ومن الجمع بين الآيتين نعلم أن المسلم مطالب بمعرفة الكتاب، وبمعرفة الإيمان، ومطالب بالعلم الواسع، وبالتحقق بالإيمان، وعلى المربين والدعاة أن يلاحظوا ذلك فيعلموا الكتاب، ويعلّموا العلوم التي تخدم فهم الكتاب، ويعلّموا الإيمان ويحققوا به، ففي ذلك صلاح النفس وفلاحها في الدنيا والآخرة. كلمة أخيرة في سورة الشورى: رأينا أنّ سورة الشورى تتألف من ثلاثة مقاطع متشابهة البدايات، ولو قلنا إنّ السورة تألفت من مقدمة ومقطع وخاتمة متشابهة البدايات والمعاني لم يكن ذلك بعيدا. فكل من المقدمة والمقطع والخاتمة تحدّث عن إنزال القرآن، وتحدث عن ملك الله للسماوات والأرض، وفي ذكر هذين المعنيين في المقاطع الثلاثة إشارة إلى ارتباط الوحي

بموضوع الملك، فالمالك الحق يأمر وينهى ويوجّه ويبيّن، فكيف إذا كانت مصلحة خلقه ومصلحة ملكه في ذلك، والله عزّ وجل منزّه أن يكون له مصلحة أو غرض أو منفعة في خلقه أو في أمره. ونلاحظ أن المقطع الأول في السورة بدئ بقوله تعالى: حم عسق* كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وأن المقطعين الآخرين بدئا بقوله تعالى: وَكَذلِكَ* مما يشير إلى أن بدايتي المقطعين الآخرين معطوفتان على بداية المقطع الأول، وذلك مظهر من مظاهر وحدة السورة. وفي هذه الكلمة الأخيرة عن السورة نحبّ أن نذكّر ببعض معانيها: 1 - إن من حكم إنزال القرآن الكبرى الإنذار بيوم القيامة وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ومن ثم فعلينا أن نلاحظ هذا المعنى في التعليم والوعظ والتربية؛ لأن القرآن ذكره وكأنه الحكمة الوحيدة. أقول هذا لأن الإنذار باليوم الآخر يكاد يكون معدوما في تعليم العلماء وخطب الخطباء، على حساب مواضيع أخرى لا ننكر أهميتها، ولكن يجب أن نعطي كل قضية حجمها. 2 - إن إقامة الإسلام وعدم التفرق فيه هو القاسم المشترك بين رسالات الله عزّ وجل، ومن ثم فهو أهم شئ في هذا الدين، فإقامة الإسلام والتجمع عليه ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل، والتعاون على تحقيق معنى إسلامي واجب وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. 3 - إنّه لا حقّ ولا عدل ولا حياة إلا بهذا الإسلام. فالإسلام وكتابه القرآن هو الصيغة الوحيدة للحق وللعدل، وبه وحده تكون حياة الإنسان الحقيقية. 4 - إنّ الإيمان والكتاب هما اللذان عليهما مدار السير، وحول ذلك وفي ذلك ينبغي أن تبذل الجهود. 5 - الخصائص المذكورة في السورة للجماعة المسلمة يجب أن نعطيها صيغتها العملية في حياتنا، لأنه لا جماعة للمسلمين بدونها، ولا إقامة للإسلام بدونها. هذه معان في السورة علينا أن ننتبه إليها انتباها كبيرا لتأثير ذلك على الفهم العام للمسلم، وعلى سلوكه وعلى تصوراته.

ونظن أن التصور العام عن السورة في سياقها الخاص والعام، وفي صلتها بمحورها وكيفية تفصيلها لهذا المحور كل ذلك أصبح واضحا. فلننتقل إلى سورة الزخرف والله المستعان وعليه الاتكال. ***

سورة الزخرف

سورة الزّخرف وهي السّورة الثالثة والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثانية من المجموعة الرابعة من قسم المثاني وآياتها تسع وثمانون آية وهي مكيّة وهي السّورة الرابعة من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلام الألوسي وصاحب الظلال في سورة الزخرف

[كلام الألوسي وصاحب الظلال في سورة الزخرف:] قال الألوسي في سورة الزخرف: (مكية كما روي عن ابن عباس، وحكى ابن عطية إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء، وقال مقاتل: إلا قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا فإنها نزلت ببيت المقدس، كذا في مجمع البيان، وفي الإتقان: نزلت بالسماء، وقيل: بالمدينة. وعدد آيها ثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره، ووجه مناسبة مفتتحها لمختتم ما قبلها ظاهر). وقال صاحب الظلال: (تعرض هذه السورة جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات، ومن جدال واعتراضات. وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس، وكيف تقرر- في ثنايا علاجها- حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كل زمان ومكان). كلمة في سورة الزخرف ومحورها: قلنا عن سورة يوسف إن محورها هو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وقد رأينا أن سورة يوسف بدأت بقوله تعالى: الر* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ .... لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ ... وختمت بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ* ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. ومن البداية والنهاية في سورة يوسف تشعر أن التفصيل انصب على معان بوجودها ينتفي الريب عن هذا القرآن، ويظهر عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، ومن ثم فالتفصيل للمحور كان لمعنى من معانيه، أو لإثبات معنى مرتبط به- وهو تبيان خصائص ما نزّل الله على عبده- بحيث ينتفي الريب، ويثبت الإعجاز بشكل محس لذي العقل واللب.

لاحظ الصلة بين قوله وتعالى في محور سورة يوسف من سورة البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وبين ما ذكره الله عزّ وجل في سورة يوسف: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .. تجد أن التفصيل مركّز على معنى مستكن في المحور. لاحظ الآن الصلة بين قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .. وبين بداية سورة الزخرف حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ فإنّك تلاحظ منذ الابتداء أن السورة تتحدث عن خصائص هذا القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم بما ينفي الريب والشك، كما تجد تشابها كاملا بين بداية سورة الزخرف وبداية سورة يوسف بما يؤكد وحدة المحور. تتألف سورة الزخرف من مقدمة هي ثلاث آيات: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ... ثم تأتي ثلاثة مقاطع كل مقطع مبدوء بقوله تعالى وَإِنَّهُ .. ، الأول: وَإِنَّهُ أي القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ والثاني: وَإِنَّهُ أي القرآن لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ .. الثالث وَإِنَّهُ أي القرآن- على رأي الحسن البصري وسعيد بن جبير- لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ... إنك تجد من بدايات المقاطع هذه أنّ الكلام منصب على خصائص هذا القرآن، وتجد فيها دعوة إلى الإيمان به، والتسليم له، والعمل به، فضلا عن نفي الريب عنه، فالسورة تخدم ما خدمته سورة يوسف. إن موضوع المحور لا يستدعي تفصيلا كبيرا. وإنما يستدعي تأكيدا لمضمونه، وتدليلا على كمال هذا القرآن وإعجازه، وتبيانا لخصائصه وظواهره. وهذا الذي نجده في سورتي يوسف والزخرف. وإذا كانت سورة الزخرف في سياقها العام تؤدي هذه الخدمة فإن لها سياقها الخاص الذي يؤدي خدمة أخرى. فكل آية وكل مجموعة تؤدي دورها على طريق الهداية.

مقدمة السورة ومقطعها الأول ويمتدان من الآية (1) إلى نهاية (43) وهذان هما

وكل ذلك تجده في السورة على كماله وتمامه. وسنرى أثناء عرض السورة صلتها بمحورها ووحدة مضمونها. مقدمة السورة ومقطعها الأول ويمتدان من الآية (1) إلى نهاية (43) وهذان هما: المقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 43/ 1 - 3 بداية المقطع 43/ 4 - 8 المجموعة الأولى 43/ 9 - 10

43/ 11 - 14 المجموعة الثانية 43/ 15 - 23

43/ 24 - 39

التفسير

43/ 40 - 43 التفسير: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ أي: البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ، لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ أي: أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا أي: بلغة العرب فصيحا بليغا واضحا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تفهمونه وتتدبرونه وتعملون به، فالعقل الشرعي: فهم صحيح لكتاب الله، وضبط للنفس عليه. هذه هي مقدمة السورة وفيها قسم ومقسم عليه. القسم بالكتاب، والجواب في شأن الكتاب. والتناسب واضح بين القسم والمقسم عليه كالتناسب بين البيان والفصاحة والعقل. قال النسفي: (والمبين البيّن للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم وأساليبهم، أو الواضح للمتدبرين، أو الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمّة في أبواب الديانة). قال الألوسي: (واستدل المعتزلة بالآية الأخيرة على أن القرآن مخلوق، وأطالوا الكلام في ذلك، وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولا نزاع فيها، وأنت تعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الاستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: أقسم الله عزّ وجل بالقرآن على أنه هو الذي جعله قرآنا عربيا من أجل أن يعقل الناس، وصلة ذلك بمحور السورة وهو وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا واضحة، فالله يقسم بالكتاب على أنه هو جاعل الكتاب على ما هو عليه من أجل أن يعقل الإنسان، فلا محلّ للريب. وبعد أن وصفه بهذه المقدمة بالإبانة والفصاحة والتسديد للعقل، يأتي المقطع الأول مبدوءا بالحديث عن القرآن. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. [المقطع الأول من السورة وهو الآيات (4 - 43)] فالمقطع إذن استمرار للمقدمة فلنره: وَإِنَّهُ أي: القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ أي: في اللوح المحفوظ لَدَيْنا أي: عندنا لَعَلِيٌّ أي: ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل. قال النسفي: أي في أعلى طبقات البلاغة، أو رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها حَكِيمٌ أي: ذو حكمة بالغة. قال ابن كثير: أي محكم برئ من اللبس والزيغ، وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله. أقول: وصف القرآن بالحكمة أوسع مدى بكثير من أيّ تعبير، فكما أنّ الحكمة في هذا الكون لا يستطيع البشر الإحاطة بها، فإن هذا القرآن لا يستطيع البشر أن يحيطوا بكنه حكمته المتعددة الجوانب والظواهر والمظاهر، وإنما يدركون بعضها. قال صاحب الظلال: (فهذا القرآن «عليّ» .. «حكيم» .. وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة، وإنه لكذلك! وكأنما فيه روح، روح ذات سمات وخصائص، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها. وهو في علوّه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه. وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان: عليّ حكيم). كلمة في السياق: وصفت بداية السورة القرآن بالإبانة والفصاحة والعلو والحكمة، وفي ذلك كله تدليل على أن هذا القرآن من عند الله. فإذا أضيف لذلك أن هذا القرآن هو وحده الذي به يعقل الإنسان وبدونه لا يعقل، فذلك دليل على أن ذاتا عليا فوق الذوات كلها في العلم والإحاطة والحكمة هي التي أنزلته، وكل ذلك مما ينفي الريب عنه، ولذلك

[سورة الزخرف (43): آية 5]

صلاته بمحور السورة، والآية التالية تزيد الأمر وضوحا: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ هذا يشير إلى سنة الله في الإرسال والتذكير، كما يشير إلى أنه مع كمال هذا القرآن فقد وجد إعراض عنه وريب فيه، ولهذا صلة بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ... فالسورة تبدأ بالحديث مع الذين يرتابون في هذا القرآن، مقيمة الحجة عليهم، مبيّنة أن الريب في القرآن سببه أمراض النفوس والقلوب، فلنر كيف سار السياق. بعد أن بيّن الله عزّ وجل شرف كتابه في الملأ الأعلى- كما قال ابن كثير- ليشرفه ويعظمه أهل الأرض قال تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ. أي: أفننحّي عنكم الذكر ونذوده عنكم صَفْحاً أي: إعراضا، فصار المعنى: أفنضرب عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم أَنْ أي: لأن كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي: مفرطين في الجهالة، مجاوزين الحد في الضلالة. والاستفهام في الآية إنكاري. قال النسفي: (إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم من إنزاله الكتاب وجعله قرآنا عربيا ليعقلوه وليعملوا بمواجبه) وبعد أن ذكر ابن كثير أقوال المفسرين في الآية قال: وقول قتادة لطيف المعنى جدا، وحاصله أنه يقول في معناه: أنه تعالى من نطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم، وهو القرآن. وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي من قدّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته، ثم قال جل وعلا مسليا لنبيّه صلّى الله عليه وسلم في تكذيب من كذّبه من قومه، وآمرا له بالصبر عليهم: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ أي: كثيرا من الرسل أرسلنا إلى من تقدّمك وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: يكذبونه ويسخرون به فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي فأهلكنا من هو أشدّ بطشا من هؤلاء المسرفين المكذبين لك. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ قال النسفي: (أي سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقّها أن تسير مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله ووعيد لهم).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: دلّت هذه الآيات الأربع على أنّ كفّار هذه الأمّة قابلوا هذا القرآن بالاستهزاء، وعلى أنّهم كانوا مسرفين في مواقفهم وأعمالهم، وأنهم يستحقون عذاب الاستئصال، إذ يكفرون بهذا القرآن الذي جعل الله فيه من الخصائص ما لا يحيط به البشر، فهو العلي في كل شئ، وهو الحكيم في كل شئ، وهو المبين الفصيح، ومع ذلك أعرضوا. ولما كان سبب هذا الموقف من القرآن ومن الوحي ومن الرسول صلّى الله عليه وسلم عقائدهم الفاسدة التي هي أصل الفساد، والتي جاء القرآن مصحّحا لها، فإنّ السورة تبدأ مناقشتهم في هذه العقائد، وتقيم الحجة عليهم، وهو درس كبير في التربية والدعوة أن تكتشف العلّة الحقيقية للمواقف الخاطئة وتهدّمها وتحطّمها لتعالج المواقف المتفرعة عنها. ونلاحظ فيما يأتي أن المقطع يناقش مجموعة قضايا، ومن خلال هذه المناقشة نرى كل خصائص القرآن المذكورة في بداية السورة: بيان القرآن، وفصاحته، وعلوّه، وحكمته. وسنعرض ما بقي من المقطع على مجموعات. تفسير المجموعة الأولى من المقطع الأول وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: ولئن سألت- يا محمد- هؤلاء المسرفين المستهزئين المشركين الكافرين بهذا القرآن الشاكين فيه مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ أي: ليعترفنّ بأنّ الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد. وموقف هؤلاء المشركين أقلّ سوءا من ملاحدة عصرنا الذين ينكرون وجود الخالق أصلا، مع أن ذلك يتنافى مع كل الحقائق العقلية والعلمية، كما دلّلنا على ذلك بتوسع في كتابنا (الله جل جلاله)، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل جوابهم اعتمد هذا الجواب ثم ذكرهم بفعله بهم الذي يقتضي منهم شكرا. وهم لا يفعلون إلا كفرا قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي: فراشا صالحا للحياة عليه، والاطمئنان فيه وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي: طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا في أسفاركم. قال ابن كثير: أي في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ قال ابن كثير: أي: بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم. قال النسفي:

[سورة الزخرف (43): آية 12]

أي بمقدار يسلم معه العباد وتحتاج إليه البلاد فَأَنْشَرْنا أي: فأحيينا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي: أرضا ميتة لا نبات فيها. ثمّ نبّه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها فقال كَذلِكَ تُخْرَجُونَ وبهذا قامت الحجة عليهم في شأن التوحيد، وفي شأن اليوم الآخر. ثم قال تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها قال ابن كثير: أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها. أقول: وكذلك في عالم الذرة وغيره مما يكتشفه الإنسان شيئا فشيئا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ أي: السفن وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي: ما تركبونه، قال ابن كثير عن الأنعام: أي ذللها لكم وسخّرها ويسّرها؛ لأكلكم لحومها، وشربكم ألبانها، وركوبكم ظهورها؛ ولهذا قال عزّ وجلّ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ قال ابن كثير: لتستووا متمكّنين مرتفعين على ظهوره أي: على ظهور هذا الجنس. قال النسفي: أي على ظهور ما تركبونه وهو الفلك والأنعام ثُمَّ تَذْكُرُوا بقلوبكم نِعْمَةَ رَبِّكُمْ أي: فيما سخّر لكم إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا بألسنتكم سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي: ذلّل لنا هذا المركوب وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي: مطيقين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: لراجعون في المعاد قال ابن كثير: (أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه يسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبّه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي .. وباللباس الدنيوي على الأخروي). نقل: قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً (وحقيقة جعل هذه الأرض مهدا للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب- لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا- والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن، وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشّف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان.

ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهدا لهذا الجنس- يجد فيها سبله للحياة- أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار، حتى صار مهدا لبني الإنسان. وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع، وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الإيدروجين والأكسوجين، واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة، وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء. ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة، ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها، فأفلت هواؤها كالقمر مثلا. وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض، فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر، وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض، ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها، أو تعسرت من ناحية، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقا، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحيانا بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا، ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لا نفجر الصدر والشرايين انفجارا. ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهدا وتذليل السبل فيها للحياة، أن الخالق العزيز العليم قدّر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له، ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذّرت هذه الحياة أو تعسّرت، فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا، ومنها أنّه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامّة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتمّ على سطحها، والاحتفاظ بجوها دائما في حالة تسمح للأحياء بالحياة، ومنها أنّه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها؛ ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان) أهـ.

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الأول

تفسير المجموعة الثانية من المقطع الأول بما مرّ أقام الله عزّ وجل الحجّة على وجوب شكره. وبعد أن أقام الحجة على ذلك تأتي الآن فقرتان تحدثاننا عما قابلوا به هذا من الكفر وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً قال النسفي: أي قالوا: الملائكة بنات الله فجعلوهم جزءا له وبعضا منه كما يكون الولد جزءا لوالده. أقول: وهذه الآية تردّ كل مذهب يقول بجزئية المخلوقات للخالق. كأن يقول قائل: إن هذا الكون هو جزء اللذات الإلهية، أو إن الذات الإلهية تكثفت فكان هذا الكون؛ لأن هذا كله يفيد الجزئية، وهي كفر بنص هذه الآية. وهو موضوع سنتعرض له في الفوائد. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ قال النسفي: أي لجحود للنعمة ظاهر جحوده لأن نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ قال النسفي: أي بل اتخذ، والهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم، حيث ادعوا أنه اختار لنفسه المنزلة الأدنى ولهم الأعلى. قال ابن كثير: (وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار) ثم ذكر تمام الإنكار فقال جلّت عظمته وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي شبها قال النسفي: لأنه إذا جعل الملائكة جزءا له وبعضا منه فقد جعله منه جنسه ومماثلا له؛ لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يعني أنهم نسبوا إليه هذا الجنس، ومن حالهم أنّ أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت اغتم واربدّ وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. قال ابن كثير: أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما بشّر به، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك. يقول تبارك وتعالى. فكيف تأنفون أنتم من ذلك وتنسبونه إلى الله عزّ وجل؟ ثم قال سبحانه أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي: يتربّى في الزينة والنّعمة وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي: ليس عنده قوة إقامة الحجة كالرجل. فتحصّل من السياق أنهم قد جمعوا في كفرهم أنواعا من الكفر، وذلك أنّهم نسبوا إلى الله الولد، ونسبوا إليه ما يعتبرونه أقلّ النوعين الذكر والأنثى، فأقاموه في أنفسهم المقام الأدنى، وارتضوا له ما لا يرتضون لأنفسهم، وجعلوهم من الملائكة المكرمين، فاستخفوا بهم إذ جعلوهم إناثا، قال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً والملائكة مخلوقات نورانية لا يوصفون بذكورة وأنوثة وخنوثة، ثمّ هم عباد لله، وكيف تجتمع العبودية لله، مع الولاد؟ قال تعالى منكرا عليهم ورادا أَشَهِدُوا

[سورة الزخرف (43): آية 20]

خَلْقَهُمْ قال النسفي: يعني أنّهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإنّ الله لم يضطرهم إلى علم ذلك، ولا تطرقوا إليه باستدلال، ولا أحاطوا به من خبر يوجب العلم، ولم يشاهدوا خلقهم حتى يخبروا عن المشاهدة سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على أنوثة الملائكة وبنوّتهم وَيُسْئَلُونَ عنها يوم القيامة قال ابن كثير: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي لو شاء الله منا أن نترك عبادة الملائكة لحال بيننا وبين ذلك، قال ابن كثير: أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي هي على صور الملائكة التي هي بنات الله. ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ .. أي: بصحة ما قالوه واحتجوا به إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون ويتقوّلون. وفي الفوائد كلام حول عبادة الملائكة في عصرنا. ملاحظات حول السياق: [حول صلة المجموعتين الأولى والثانية ببعضهما البعض] 1 - رأينا أن المجموعة الأولى من المقطع بدأت بقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وأن المجموعة الثانية بدأت بقوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً .. وقد ذكر النسفي الصلة بين المجموعتين فقال: (أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفنّ، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا). 2 - نلاحظ أنّه قد مرّ معنا ردّ على دعوى الكافرين أن الملائكة بنات الله في قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ، ثمّ تأتي بقية الردّ فهذه آية تقول: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ فهل الحرف (أم) هنا آت كمعادل للهمزة هناك؟ هذا أحد اتجاهين يذكرهما النسفي في الآية، وأيّا ما كان الأمر فالآية تأتي استكمالا للردّ عليهم، وخلاصة الردّ: أنّ ادّعاءهم هذا لا يقوم عليه دليل، لا من المشاهدة الحسية، ولا من الوحي السابق ثم يسير السياق في تبيان سبب ضلالتهم. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل القرآن أو من قبل قولهم هذا، أي: من قبل شركهم فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ أي: آخذون عاملون، وإذ لم يكن الأمر كذلك فليس لهم في عبادتهم غير الله عزّ وجل برهان ولا دليل ولا حجة بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي: على دين، فالأمة هنا من الأم وهو القصد. قال

[سورة الزخرف (43): آية 23]

النسفي: فالأمّة الطريقة التي تؤم أي تقصد وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ أي: آثار الآباء، أي وراءهم مُهْتَدُونَ وكذبوا فلا هداية لهم. وإنما هي دعوى منهم بلا دليل، والآية تفيد أنّه ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد. قال النسفي في الآية: (أي بل لا حجة لهم يتمسكون بها لا من حيث العيان ولا من حيث العقل، ولا من حيث السمع إلا قولهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة .. فقلّدناهم) قال تعالى وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ أي: نبيّ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها قال النسفي: أي متنعموها وهم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويعافون مشاقّ الدين وتكاليفه إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قال النسفي: وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم وبيان أن تقليد الآباء داء قديم قالَ أي: وأنت قل أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وإن جئتنا بما هو أهدى. قال ابن كثير: أي ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك؛ لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي: فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم بأنواع من العذاب، كما فصّله تبارك وتعالى في قصصهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قال ابن كثير: أي كيف بادوا وهلكوا، وكيف نجّى الله المؤمنين. وبعد أن ذكر الله عزّ وجل أنّ علّة هؤلاء هو تقليد الآباء بغير حجة ولا دليل ولا برهان يذكر لنا- فيما يأتي- نموذجا لموقف الإنسان الكامل المتحرر من التقليد الباطل للآباء، وذلك في شخصية إبراهيم عليه السلام وَإِذْ واذكر إذ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي: برئ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فإنني أعبده وحده فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي: يثبتني على الهداية وَجَعَلَها أي: وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: في ذريته فلا يزال فيهم من يوحّد الله ويدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قال النسفي: أي لعلّ من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم، والترجّي لإبراهيم.

قال صاحب الظلال: حول دور إبراهيم - عليه السلام - في إقرار كلمة التوحيد في الأرض

قال صاحب الظلال: [حول دور إبراهيم- عليه السلام- في إقرار كلمة التوحيد في الأرض] ولقد كان لإبراهيم- عليه السلام- أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده، عن طريق ذريته وعقبه. ولقد قام بها من بنيه رسل، كان منهم ثلاثة من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه- واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم، الذي جعل هذه الكلمة باقية في عقبه، يضل منهم عنها من يضل، ولكنها هي باقية لا تضيع، ثابتة لا تتزعزع، واضحة لا يتلبس بها الباطل لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه، ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه. ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم، ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم. عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وإدريس، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة، ويعيش بها ولها. فلما عرفتها على لسان إبراهيم عليه السلام ظلت متصلة في أعقابه، وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل، وأشبه أبنائه به: محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة، وتجعل لها أثرا في كل نشاط للإنسان وكل تصور. فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه، وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه. هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم. فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم، وملة إبراهيم. لقد بعد بهم العهد، ومتعهم الله جيلا بعد جيل، حتى طال عليهم العمر، ونسوا ملة إبراهيم عليه السلام، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية، فاختل في أيديهم كل ميزان: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ* وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا: هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ* وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (الزخرف: 29 - 31).

[سورة الزخرف (43): آية 29]

وبعد أن ذكر الله عزّ وجل النّموذج الكامل للموقف الحقّ من ضلال الآباء يعود السياق ليحدّثنا عن موقف المشركين من دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن أسباب اغترارهم. بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يعني أهل مكة، وهم المخاطبون الأوائل بهذا القرآن، وهم من عقب إبراهيم عليه السلام. أي: متّعهم الله بالمدّ في العمر والنّعمة، فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعّم واتّباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي: القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ أي: واضح الرسالة بما معه من الآيات وهو محمد صلّى الله عليه وسلم الذي هو من نسل إبراهيم عليه السلام، فلا عجب أن يحمل راية التوحيد ويدعو إليها بأمر الله ووحيه، ولكنّهم بدلا من أن يرجعوا إلى الحقّ كان موقفهم وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي: القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ قال ابن كثير: أي كابروه وعاندوه ودفعوه بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا. كلمة في السياق: وهكذا استقر السياق على موقفهم من القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ. فلنلق نظرة على ما مر معنا من السورة وعلى صلة ذلك بالمحور. بدأت السورة بقوله تعالى: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وهكذا بينت هذه الآيات بعض خصائص القرآن، ثمّ جاء بعد ذلك ما يفهم منه ضمنا موقفهم من القرآن: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ فعرفنا ضمنا أنّهم استهزءوا بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وسار السياق حتى وصل إلى قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ فعرفنا صراحة أنهم كفروا بهذا القرآن، ثمّ يأتي بعد ذلك أنهم يعترضون على الله في إنزاله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ويرون أن غيره أحق بذلك منه- وهو موضوع سيأتي-. وفي وسط الآيات التي مرّت ناقش الله عزّ وجل ما هم عليه من اعتقاد وعبادة، وأقام عليهم الحجة وذكر علّة موقفهم وهي التقليد. ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام في هذا السياق كنموذج على التحرر من التقليد الباطل، فأتمّ بذلك معالجة الاعتقاد الضال

[سورة الزخرف (43): آية 31]

الذي هو أصل البلاء. وفي ذلك كله نرى كيف أن القرآن في غاية البيان والوضوح، وفي غاية الفصاحة والبلاغة. وفي غاية العلو في إقامة الحجة، وفي غاية الحكمة في معالجة الباطل وتقرير الحق. فالسورة نموذج كامل على اتصاف القرآن بالخصائص التي ذكرتها بداية السورة. ومن ثم يتقرّر أنّ هذا القرآن لا ريب فيه، وأنّه من عند الله، ومن ثم ندرك الصلة بين السورة ومحورها من سورة البقرة وهو: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .. : فالقرآن منزل من عند الله لا شك في ذلك، والحجة قائمة، ومع ذلك يكفرون، وبدلا من أن يؤمنوا بالله والرسول والقرآن فإنهم يعترضون على الله في إنزاله القرآن، وهو المعنى الأول الذي ورد قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فلنر تتمة المقطع. وَقالُوا معترضين على الله الذي أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ مكة والطائف عَظِيمٍ أرادوا بالعظيم من كان ذا مال وجاه، ولم يعرفوا أن العظيم من كان عند الله عظيما، قال ابن كثير: أي هل كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف) وبعد أن ذكر ابن كثير أسماء مرشحيهم لهذا المنصب- في زعمهم كما سنذكرها في الفوائد- قال: والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان. قال الله تعالى وتبارك ردا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي: النبوة، والاستفهام للإنكار المتلبس بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة. قال ابن كثير: أي ليس الأمر مردودا إليهم بل إلى الله عزّ وجل، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا. ثم قال عزّ وجل مبيّنا أنّه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، فقال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ أي: ما يعيشون به، وهو أرزاقهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال النسفي: أي لم نجعل قسمة الأدون إليهم وهو الرزق فكيف النبوة؟. أو كما فضّلت البعض على البعض في الرزق فكذا أخصّ بالنّبوة من أشاء وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي: جعلنا البعض أغنياء وأقوياء وأسيادا والبعض غير ذلك. وجعلنا البعض أذكياء وعقلاء، والبعض غير ذلك، وهكذا. ثمّ بين الله عزّ وجل الحكمة في هذا التفاوت فقال

[سورة الزخرف (43): آية 33]

لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي: ليسخّر بعضهم بعضا في الأعمال؛ لاحتياج هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا. وفي كتابنا (الإسلام) عند الكلام عن نظام الملكية في الإسلام تحدثنا عن حكمة ذلك في الحياة فليراجع. إنّ النّاس لو كانوا متساوين في كل شئ لتهدّمت المصالح والمنافع؛ إذ الجميع في هذه الحالة صالحون للرئاسة، والجميع صالحون للسيادة، والجميع صالحون للقيادة، فيصبح الجسم البشري مجموعة رءوس. وكيف تقوم حياة الجسم البشري بلا قلب ولا أطراف ولا خدمات. وفي الحياة الاقتصادية لا بد أن يوجد التفاوت الناشئ عن التفاوت في الخلقة: فهذا نشيط، وهذا كسلان، وهذا بصير في أمر التجارة، وهذا لا يدرك من أمورها شيئا، ولو أنك وزعت الأموال على الناس بالتساوي ثم تركتهم يعملون سنة لوجدت التفاوت قد عاد، ولو أنك أرجعت الأمر إلى المساواة لتعطّل العمل؛ إذ عند ما نأخذ من النشيط لنعطي الكسلان، يزداد الكسلان كسلا ويترك النشيط العمل، ومن ثم كانت سنة الله التفاوت، ولكن شريعته عزّ وجل هي التي تعدّل هذا التفاوت فلا يشتط ولا يزداد بحيث تصبح رءوس الأموال بأيد قليلة، فالنظام الاقتصادي في الإسلام لا يبقي أحدا في المجتمع إلا وهو في حالة طيّبة، وبالإسلام لا تقوم في المجتمع علاقات ظالمة. كل هذا وغيره رتّبته الشريعة. ثم قال تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: النبوة، أو دين الله، وما يتبعه من الفوز في المآب خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا، وفي ذلك توجيه للمسلم ألّا تميل عينه عن الحق بسبب رفاهية الكافرين، ولا يعني هذا أنّ المجتمع الإسلامي لا يكون في حالة رفاهية، بل يعني أنه إذا وجدت الرفاهية في المجتمع الكافر فلا ينبغي أن تميل عين المسلم عن الحق من أجلها. وكذلك إذا وجد بعض المترفين في المجتمع الإسلامي. قال ابن كثير: (أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا) وفي هذا الذي قاله ابن كثير إشارة إلى أنّ الإنسان عليه أن يعتمد على الله ويتّكل عليه، وألّا يكون بما في يده أوثق منه ممّا في يد الله عزّ وجل. ولمّا قلّل الله عزّ وجل أمر الدنيا وحقّرها أردفه بما يقرّر حقارتها عنده فقال: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قال النسفي: أي ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه. وقال ابن كثير: أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لَجَعَلْنا لحقارة الدنيا عندنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ أي: سلالم ودرجا من فضة عَلَيْها

[سورة الزخرف (43): آية 34]

يَظْهَرُونَ أي: عليها يصعدون فيعلون السطوح. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً أي: أغلاقا على أبوابهم وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أي: جميع ذلك يكون من فضة وَزُخْرُفاً أي وذهبا وزينة. والمعنى: ولولا أن يصبح الناس كلهم كفارا لجعلنا للكفار سقفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها من فضة، وجعلنا لهم زخرفا أي زينة من كل شئ. دلّ هذا على أنّ ممّا يفتن المسلم عن دينه رؤيته الكافرين في حالة اقتصادية أجود، وهذا هو الذي نراه في عصرنا؛ إذ فتن كثير من المسلمين عن الإسلام بسبب رؤيتهم مجتمعات كافرة في حالة اقتصادية جيدة، بل أصبحوا يدعون إلى هذه الأنظمة الكافرة ويتبعونها من أجل الوصول إلى ما هم عليه، وقد أخطئوا مرّتين: مرة إذ استبدلوا الحقّ بالباطل، ومرة لتصورهم أن تطبيق الإسلام لا يوصل إلى الرّفاه أو إلى التقدّم المدني. كيف والله عزّ وجلّ وعد المتقين بأن يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، وفي كتابنا (الإسلام) بيان شاف لكل ما يتعلق بهذا الموضوع، ولنا في الفوائد عودة عليه. ثم قال تعالى بعد أن بيّن حقارة الدنيا عنده حتى ليعطيها الكافرين، لولا أن يفتتن المسلمون وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ أي: وما كلّ ذلك لَمَّا أي: إلا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: إنّما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أي: وثواب الآخرة عند الله لمن اتقى الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى. قال ابن كثير: أي وهي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد. نقول: [عن صاحب الظلال حول آية: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] 1 - بمناسبة قوله تعالى- حكاية عن قول الكافرين-: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال صاحب الظلال: (والله أعلم حيث يجعل رسالته، وقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولعله- سبحانه- لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سندا من خارج طبيعتها، ولا قوة من خارج حقيقتها، فاختار رجلا ميزته الكبرى .. الخلق .. وهو من طبيعة هذه الدعوة .. وسمته البارزة .. التجرد .. وهو من حقيقة هذه الدعوة .. ولم يختره زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب ثراء. كيلا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء. ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلي هذه الأرض ليست من حقيقتها في شئ. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة. ولكي

لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف). 2 - وفي تحليل طويل لردّ الله على هؤلاء يقول صاحب الظلال: ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء. راحوا يعترضون ذلك الاعتراض: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فرد عليهم القرآن مستنكرا هذا الاعتراض على رحمة الله، التي يختار لها من عباده من يشاء، وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء، مبيّنا لهم حقيقة القيم التي يعتزون بها، ووزنها الصحيح في ميزان الله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟! نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجبا! وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، ولا يحققون لأنفسهم رزقا، حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه، وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا. ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد، وظروف الحياة، وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة، ومن عصر لعصر، ومن مجتمع لمجتمع، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها. ولكن السمة البارزة الباقية فيه، والتي لم تتخلف أبدا- حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع- أنه متفاوت بين الأفراد. وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم. ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبدا. ولم يقع يوما- حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة- أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبدا وَرَفَعْنا

بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ .. والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور، وجميع البيئات، وجميع المجتمعات .. هي: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا .. ليسخّر بعضكم بعضا .. ودولاب الحياة حين يدور يسخّر بعض الناس لبعض حتما. وليس التسخير هو الاستعلاء .. استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد .. كلا! إن هذا معنى قريب ساذج، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية، وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجئ .. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخّر ليجمع المال، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي سخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة .. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء .. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والتفاوت في الأعمال والأرزاق .. وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية. وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضا سخريا!. وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود، الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع. وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد، والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل، والتفاوت في مدى إتقان هذا العمل. وهذا

التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخا مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة. ولبقيت أعمال كثيرة جدا لا تجد لها مقابلا من الكفايات، ولا تجد من يقوم بها- والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها. وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق .. هذه هي القاعدة .. أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد. على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم. وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله. وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة. ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا، ووراء ذلك رحمة الله. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ .. والله يختار لها من يشاء، ممن يعلم أنهم لها أهل. ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا، ولا صلة لها بقيم هذه الدنيا. فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة. ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار، وينالها الصالحون والطالحون. بينما يختص برحمته المختارين. وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقا على الكافرين به. ذلك إلا أن تكون فتنة للناس، تصدهم عن الإيمان بالله. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ* وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ. فهكذا، لولا أن يفتتن الناس- والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم- لجعل لمن يكفر بالرحمن- صاحب الرحمة الكبيرة العميقة- بيوتا سقفها من فضة، وسلالمها من ذهب، بيوتا ذات أبواب كثيرة. قصورا فيها سرر للاتكاء، وفيها زخرف للزينة .. رمزا لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن!. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ..

متاع زائل، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا. وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ .. وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم، فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى، ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى، ويميزهم على من يكفر بالرحمن، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!. وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيادي الأبرار منه خالية، أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه، ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار. وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئا من عرض هذه الحياة الدنيا، ويقيسون الرجال بما يملكون من رئاسة، أو بما يملكون من مال. يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى، ولا تشي باختيار. وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها، ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة، ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم واختياره. واطراح العظماء المتسلطين!. وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير، ولا تؤثر فيها تطورات الحياة، واختلاف النظم، وتعدد المذاهب، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها، ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي، الذي يجمع بين الثبات والتغير في صلب الحياة وفي أطوار الحياة، ويحسبون أن التطور والتغير يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور، وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته! فأما نحن- أصحاب العقيدة الإسلامية- فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير

كلمة في السياق: حول الصلة بين السورة ومحورها

متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات .. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال). كلمة في السياق: [حول الصلة بين السورة ومحورها] 1 - رأينا أن اعتراض الكافرين على الله عزّ وجل في إنزاله القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم، وعدم إنزاله على رجل عظيم ذي جاه ومال، قد جاء بعد إقامة الحجة على الكافرين في عقائدهم التي هي سبب البلاء. فكأنهم بعد إقامة الحجة عليهم اقتنعوا، ولكنهم لعدم تملك محمد صلّى الله عليه وسلم الجاه والمال لا يرونه أهلا لنزول القرآن عليه، أو لا يرونه أهلا للمتابعة. ومن ثمّ كان هذا البيان الذي رأيناه، فالله عزّ وجل أعلم حيث يجعل رسالته. واعتراضهم على الله في اصطفائه محمدا صلّى الله عليه وسلم محض جهل، فعطاء الدنيا لإنسان لا يعني شيئا، وليس دليلا على أن صاحبها صاحب فضل عند الله. وإذ بيّن الله عزّ وجل هذا كله- ففنّد عقائد الكافرين، وفنّد أقوالهم- فإنه فيما سيأتي سيبين عاقبة العمى عن كتابه كما سنرى. 2 - قلنا: إن محور سورة الزخرف من سورة البقرة هو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ والآيات المارة تشعر بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله، وشعروا بأن هذا القرآن من عند الله، ولكن كانوا يرون أن غير محمد صلّى الله عليه وسلم أحق به: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ لاحظ الصلة بين نَزَّلْنا في المحور وقولهم نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ وقد رد الله عزّ وجل اعتراضهم، والملاحظ أنه عزّ وجل في المحور قال فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ هناك وعظهم بعد إقامة الحجة، وسنرى كذلك هنا أنه سيعظهم بعد إقامة الحجة. وَمَنْ يَعْشُ قال ابن كثير: أي يتعامى ويتغافل ويعرض، وقال النسفي في معناها: ومن يتعام عن ذكره، أو يعرف أنه الحق ويتجاهل عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي: عن القرآن. قال ابن كثير: والعشا في العين ضعف بصرها والمراد هاهنا عشا البصيرة نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي: نسلطه عليه فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي: فهو معه في

[سورة الزخرف (43): آية 37]

الدنيا والآخرة يحمله في الدنيا على المعاصي، ويدخل معه النار يوم القيامة. قال النسفي: وفيه إشارة إلى أنّ من داوم عليه (أي: على الذكر) لم يقرنه الشيطان وَإِنَّهُمْ أي وإن الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ أي: ليمنعون العاشين عَنِ السَّبِيلِ أي: عن سبيل الهدى وَيَحْسَبُونَ أي: العاشون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فهم ضالون ويظنون أنهم على الهدى كحال أكثر الخلق كل منهم يرى أن ما هو عليه عين الهداية وهيهات حَتَّى إِذا جاءَنا أي: هذا العاشي قالَ لقرينه الشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي: المشرق والمغرب، أي: يا ليت بيني وبينك بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق فَبِئْسَ الْقَرِينُ الشيطان وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي: صحّ ظلمكم وكفركم، وتبيّن ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين، ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيّب القلب في الدنيا. قال ابن كثير: أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. وهكذا بيّن الله عزّ وجل عاقبة الغفلة والإعراض عن كتابه في الدنيا والآخرة. كلمة في السياق: [حول الصلة بين المقطعين الأول والثاني من السورة] قال تعالى في محور السورة من سورة البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وقد عرضت السورة أنّ الله عزّ وجل هو منزل هذا القرآن، وأقامت الحجة من خلال ذكر خصائص القرآن أنه لا شك فيه، ورأينا كيف عالجت السورة مواقف الكافرين من هذا القرآن، واستقر السياق على تبيان عقوبة العشا عنه في الدنيا والآخرة، والآن يتوجه الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن. ويستوعب هذا الخطاب بقية المقطع الأول وبداية المقطع الثاني. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي: الذين فقدوا سمع القبول. أي: الذين لا يستمعون للحق استماع قبول ففي آذانهم صمم عن سماع الحق أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي: الذين فقدوا البصر، والمراد به بصر البصيرة، ففي قلوبهم عمى لا يرون معه الحق وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن الحق فلا يعرفه، ولا يعرف طريقه، ولا يهتدي إليه. قال ابن

[سورة الزخرف (43): آية 41]

كثير: (أي: ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ولكنّ الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهو الحكم العدل» ثم قال تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي: نتوفينّك قبل أن ننصرك عليهم، ونشفي صدور المؤمنين منهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أشدّ الانتقام في الدنيا والآخرة. قال ابن كثير: أي: لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب الدنيوي قبل أن نتوفاك فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ أي: قادرون. أي: نحن قادرون على هذا وهذا فَاسْتَمْسِكْ أي: فتمسّك بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ وهو القرآن واعمل به إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: على الدين الذي لا عوج له. قال ابن كثير: (أي: خذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنّه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق، المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم المقيم). كلمة في السياق: تلاحظ أن السورة بعد أن أقامت الحجة على الكافرين في أن هذا القرآن من عند الله، وأنه لا ريب فيه، وأقامت الحجة على الكافرين في عقائدهم ومواقفهم، توجهت بالخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وممّا تضمّنه الخطاب أن هؤلاء المعرضين عن كتاب الله صمّ وعمي، ويستحقون العذاب، سواء كان ذلك في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو بعد مماته. ثم أصدر الله أمره لرسوله صلّى الله عليه وسلم بالاستمساك بهذا القرآن، وكان ذلك هو الجسر الذي يعود السياق به للحديث عن هذا القرآن، وخصائصه التي تقتضي الإيمان به، وعدم الريب، فقد رأينا أنّه بعد مقدّمة السورة جاء قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. والآن يأتي قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ. وكان الجسر الذي وصل بين نهاية المقطع السابق وبداية المقطع الجديد هو قوله تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مما يدلّ على أن السياق الرئيسي للسورة هو الكلام عن القرآن، مما يؤكد أن محور السورة هو ما ذكرناه وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .. والآيات الأخيرة بيّنت أن على صاحب الدعوة في كل حال أن يستمسك بالوحي الذي أنزل عليه، فالسورة تعالج الريب، وتعالج الكفر، وتوجّه صاحب الدعوة.

الفوائد حول آيات المقدمة والمقطع الأول

الفوائد [حول آيات المقدمة والمقطع الأول]: 1 - [ثناء قرآني على اللغة العربية] بدأت السورة بقوله تعالى: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فهل وصف الكتاب بالعربية تقرير لواقع؟ أو أنّ في ذلك معنى زائدا وهو وصفه بالفصاحة والبيان؟ وفي ذلك ثناء على اللغة العربية بأنها لغة الفصاحة والبيان. قال ابن كثير في معرض شرحه لكون الكتاب مبينا: لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس. وكلام ابن كثير هذا يشير إلى أن وصف القرآن بالعربية فيه معنى زائد على تقرير الواقع، وبالتالي فيه ثناء على هذه اللغة، ولا يدرك أحد ميزات هذه اللغة على بقية اللغات إلا بدراسة مستفيضة لفقهها وأسرارها مقارنة ببقية اللغات. 2 - [إثبات علو شأن القرآن وحكم مس المحدث له] عند قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ قال النسفي: وإن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، دليله قوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وسمّي (أي: اللوح المحفوظ) أم الكتاب؛ لأنّه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب، منه تنقل وتستنسخ .. (ووصف القرآن بالعلو) أي: في أعلى طبقات البلاغة .. وقال ابن كثير: وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله كما قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف، كما ورد به الحديث- إن صح- لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملإ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى، لأنه تنزيل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. 3 - [قصور المفسر لا يعني قصور القرآن نفسه] قلنا في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا): إن كل مفسّر للقرآن قد فسّر القرآن بثقافة عصره؛ بل بثقافته من ثقافة عصره، وبقدر قصور هذه الثقافة يقع الخطأ في التفسير، والعلة في القصور البشري وليس في القرآن علة- حاشاه وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- وكنموذج لما ذكرناه ننقل ما ذكره ابن كثير- على جلالة قدره وثقوب بصره- عند قوله تعالى في هذه السورة: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

4 - ما وصف الله به كتابه هو عين الحق في وصفه

الْأَرْضَ مَهْداً (مع أنها مخلوقة على تيار الماء) وهو قول ظاهر الخطأ لكنها ثقافة عصره، ولو كلّفنا الإنسان أن يحلّق فوق ثقافة عصره وهو بشر نكون قد كلفنا الإنسان فوق ما يطيقه. ومن هنا تظهر لك عظمة النص القرآني إذ تسع العصور، وتسبق اكتشافات الإنسان. 4 - [ما وصف الله به كتابه هو عين الحق في وصفه] إن الأعلم بخصائص القرآن هو منزل هذا القرآن، ومن ثم إذا أردنا أن نأخذ تصوّرا عن خصائص القرآن فإن أقصر طريق هو أن نتتبّع ما وصف به الله كتابه، وأن نفهمها حق الفهم. من ذلك أنّ القرآن أحسن الحديث، وأنه متشابه، وأنه مثان، وأنه مفصّل، وأنّه محكم، وأنّه مبين، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن المستقبل يخدمه ولا ينقضه ولا يبطله، وأنه عليّ، وأنه حكيم، وأنه ذكر، وأنه علم للساعة، وأنه اجتمع فيه الإحكام والتفصيل، وأنه هدى، وأنه بصائر للناس، وغير ذلك ممّا قصه الله علينا من خصائص كتابه، وفي كل خاصية من هذه الخواص نجد دليلا على أن هذا القرآن من عند الله. 5 - [ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة] بمناسبة قوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ عقد ابن كثير فصلا تحت عنوان (ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة) ننقل منه ما يلي: وروى الإمام أحمد عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليّا رضي الله عنه أتي بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى عليها قال: الحمد لله سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم حمد الله ثلاثا وكبّر ثلاثا، ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي، ثم ضحك فقلت له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال علي رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت، ثم ضحك فقلت: مم ضحكت يا رسول الله: فقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حسن صحيح. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ثم قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ

6 - كفر من زعم أن الكون هو تكثفات عن الروح الإلهية

وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ثم يقول: «اللهم إني أسألك في سفرى هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر واطو لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا» وكان صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إذا رجع إلى أهله قال «آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون» وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وروى الإمام أحمد عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما من بعير إلا في ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ما ركبتموها كما آمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عزّ وجل» أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف. (حديث آخر) في معناه روى أحمد عن أسامة بن زيد قال: أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله عزّ وجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم»). وذكر الألوسي بمناسبة الآية: (أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي مجلز قال: رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرّم وجههما رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال: أو بذلك أمرت؟ فقال: فكيف أقول؟ قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثمّ تقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى مُقْرِنِينَ ... (وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصّان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك، وذكر بعضهم أنه يقال إذا ركبت السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها .. إلى .. رَحِيمٌ ويقال عند النزول منها «اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»). 6 - [كفر من زعم أن الكون هو تكثفات عن الروح الإلهية] هناك اتجاه لبعض غلاة الصوفية، أن هذا الكون هو تكثفات الذات الإلهية. فالذات الإلهية تكثفت فكان هذا الكون، يقولون: إن أول تكثف كان هو الذات المحمدية، ومنه خلق هذا الكون، وإنني أجزم أن هذا القول كفر بصريح القرآن، وهو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ إذ إن قولهم ذاك يجعل محمدا صلّى الله عليه وسلم هو جزء الذات الإلهية، ويجعل الكون كذلك، تعالى الله عن ذلك، ونعوذ بالله من الضلال، وإن من أفظع طرق الضلال أن يقول الإنسان القول لمجرد

7 - كلام النسفي حول آية وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ..

احتمال من احتمالات الفهم دون أن يحقق هذا القول، ويفهمه على ضوء النصوص المحكمة. وإن هذا من الجهل العريض. لقد كان الصوفية الأوائل يقولون: إنه لتقع النكتة من كلام القوم في قلبي فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة. ثم صار بعض الصوفية يسجلون ما يقع في قلوبهم ويحملون النصوص عليه، ولم يجعل الله لقلب عصمة إلا لقلب رسول أو نبي فليتق الله امرؤ في هذه الأمّة ولا يتكلّمن إلا بعلم وتحقيق وضمن حدود الشريعة. 7 - [كلام النسفي حول آية وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ قال النسفي: (أي يكذبون ومعنى الآية عندنا أنهم أرادوا بالمشيئة الرضا، وقالوا لو لم يرض بذلك لعجّل عقوبتنا أو لمنعنا عن عبادتها منع قهر واضطرار، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك، فردّ الله تعالى عليهم بقوله: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ الآية، أو قالوا هذا القول استهزاء لا جدّا واعتقادا، فأكذبهم الله تعالى فيه، وجهّلهم حيث لم يقولوا عن اعتقاد كما قال مخبرا عنهم: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ (يس: 47) وهذا حق في الأصل، ولكن لما قالوا ذلك استهزاء كذّبهم الله بقوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (يس: 47) وكذلك قال الله تعالى: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (المنافقون: 1) ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (المنافقون: 1) لأنهم لم يقولوه عن اعتقاد وجعلوا المشيئة حجّة لهم فيما فعلوا باختيارهم وظنوا أن الله لا يعاقبهم على شئ فعلوه بمشيئته، وجعلوا أنفسهم معذورين في ذلك فرد الله عليهم. 8 - [كلام ابن كثير حول آية وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] بمناسبة قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال ابن كثير: (أي: هلا كان إنزال القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين؟ يعنون مكة والطائف. قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد، وقد ذكر غير واحد- منهم قتادة- أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي، وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي: يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عروة الثقفي، وعن مجاهد: يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي، وعنه أيضا: أنهم يعنون عتبة بن ربيعة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: جبارا من جبابرة قريش. وعنه رضي الله تعالى عنهما: أنهم يعنون الوليد بن المغيرة، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وعن مجاهد: يعنون عتبة ابن ربيعة بمكة وابن عبديا ليل بالطائف، وقال السدي عنوا بذلك الوليد بن المغيرة،

9 - كلام ابن كثير حول آية وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ..

وكنانة بن عبد عمرو بن عمير الثقفي، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان). 9 - [كلام ابن كثير حول آية وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا قال ابن كثير: (أي: إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي: يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها، كما ورد به الحديث الصحيح. وورد في حديث آخر: «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» أسنده البغوي عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروه، ورواه الطبراني عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا). 10 - [كلام ابن كثير حول آية وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ] بمناسبة قوله تعالى: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ قال ابن كثير: (أي: هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم، ولهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلّى الله عليه وسلم من نسائه، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟» ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». وفي الصحيحين أيضا وغيرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» وإنما خوّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، كما روى الترمذي وابن ماجه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا» قال الترمذي: حسن صحيح). 11 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ قال ابن كثير: (روى عبد الرزاق عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار فذلك حين يقول: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ). وننبه على أن هذا أثر.

12 - كلام ابن كثير حول آية فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ..

قال ابن كثير: (والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب، وإنما استعمل هاهنا تغليبا كما يقال: القمران والعمران والأبوان قاله ابن جرير وغيره) أقول: إن المغرب في حقنا مشرق في حق آخرين، فالمشرق والمغرب في حقنا هو مغرب ومشرق في حق آخرين، وهذا يعني أن بعد ما بين المشرق والمغرب في حقي هو بعد ما بين المشرق في حقي والمشرق في حق الآخر الذي تطلع عليه الشمس إذا غربت من عندي، ومن ثم فالتعبير بلفظ المشرقين فيه إشارة خفية إلى ما ذكرناه، وما قاله المفسرون فهم صحيح للنص ومطابق لاصطلاح العرب في الخطاب. 12 - [كلام ابن كثير حول آية فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ* أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قال ابن كثير: (أي: نحن قادرون على هذا وعلى هذا، ولم يقبض الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم حتى أقر عينه من أعدائه، وحكّمه في نواصيهم، وملكه ما تضمنته صياصيهم، هذا معنى قول السدي، واختاره ابن جرير وروى ابن جرير عن معمر قال: تلا قتادة: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال: ذهب النبي صلّى الله عليه وسلم وبقيت النقمة ولم ير الله تبارك وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى، ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلّى الله عليه وسلم، قال: وذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رؤي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عزّ وجل وذكر من رواية سعيد بن أبي عروة عن قتادة نحوه، ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا وفي الحديث: «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون»). ولننتقل إلى المقطع الثاني. *** المقطع الثاني ويمتدّ من الآية (44) إلى نهاية الآية (60) وهذا هو: 43/ 44

التفسير

43/ 45 - 60 التفسير: وَإِنَّهُ أي: القرآن لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أي: لشرف لك ولقومك، قاله ابن

[سورة الزخرف (43): آية 45]

عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه .. قال ابن كثير: (ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعلمهم بمقتضاه. وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلّص من المهاجرين السابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم) وقيل معناه: أي: لتذكير لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ قال ابن كثير: أي: عن هذا القرآن. وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقال النسفي: أي: وسوف تسألون عنه يوم القيامة، وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له، وعن شكركم هذه النعمة. ولنا في الفوائد عودة على هذه الآية وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ قال ابن كثير: أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد .. وقال النسفي: (ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء، وكفاه نظرا وفحصا نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمّهم وقيل له: سلهم. فلم يشكّ ولم يسأل، وقيل: معناه: سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين أي: التوراة والإنجيل، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء، ومعنى هذا السؤال التقريع لعبدة الأوثان أنهم على الباطل). كلمة في السياق: 1 - بدأ المقطع الثاني بهاتين الآيتين اللتين تلفتان النظر إلى بعض خصائص هذا القرآن في كونه شرفا للأمة التي نزل عليها. وفي دعوته إذ دعا إلى ما دعا إليه كل رسول، وهذا يقتضي ألا ترتاب فيه الأمة التي نزل عليها، بل تحمله حق الحمل، فكيف ترتاب فيه وقد تضمّن دعوة الرسل جميعا؟! كيف وهي ستسأل عنه يوم القيامة؟! 2 - للمفسرين قولان في تفسير كلمة (الذكر): أنّه بمعنى الشرف، وأنه بمعنى التذكير، وفي كل من القولين ذكر خاصية من خواصه تقتضي الإيمان به وعدم الريب.

[سورة الزخرف (43): آية 46]

فمن المحال أن يكون كتاب فيه مثل هذا التذكير بالله ورسله واليوم الآخر والحق على مثل هذا الكمال ويكون بشري المصدر. 3 - في تفسير القوم في الآية ثلاثة أقوال. فقول أنهم «قريش» بدليل إيراد الترمذي: في هذا المقام الحديث الذي رواه البخاري عن معاوية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين». وقول أنهم العرب؛ لأنهم قومه عليه الصلاة والسلام، ولسانه لسانهم. وقول أنهم الأمة أي: أمة الاستجابة. كما فسّر ذلك النسفي فقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (أي: ولأمتك) أي: كل من استجاب لهذا القرآن فقد ناله الشرف العظيم عند الله، وأيّا ما كان الأمر فإن الصلة ما بين الآيتين والمحور واضحة، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا من هذا القرآن الذي هو شرف لكم يا معشر قريش أو يا معشر العرب أو يا أيها الناس. إذ يخاطبكم الله أو الذي هو تذكير لكم بالحق كله. والذي سوف تسألون عنه والذي مضمونه الحق الذي هو دعوة الرسل جميعا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... فالصلة واضحة بين الآيتين ومحور السورة. 4 - يلاحظ أن الله عزّ وجل يقص علينا بعد مقدمة المقطع الثاني من نبأ موسى وفرعون، وصلة ذلك بقوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا .. واضحة، فالله عزّ وجل يقصّ علينا من نبأ هؤلاء المرسلين ليرينا أن دعوة الرسل السابقين جميعا هي دعوة هذا القرآن في التوحيد. وفي ذلك دليل من خلال المضمون على أن هذا القرآن من عند الله. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا الكثيرة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ من الأمراء والوزراء والقادة والأتباع والعامة فَقالَ موسى إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: رسول الله إليكم، ومن السياق نفهم أنهم طالبوه بإحضار البيّنة على دعواه، وإبراز الآية؛ بدليل قوله تعالى فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي: يسخرون منها ويهزءون بها ويسمّونها سحرا وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي: أعظم من صاحبتها، أي: أعظم من التي كانت قبلها في نقض العادة، والمراد بهذا الكلام: أنهن جميعا موصوفات بالكبر وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالطوفان

[سورة الزخرف (43): آية 49]

والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الزروع والأنفس والثمرات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الكفر إلى الإيمان، ومع ذلك لم يرجعوا. وَقالُوا في كل مرة سلط عليهم فيها عذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة، أو بعهده عندك وهو النبوة، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمّن اهتدى إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ أي: مؤمنون به، وفسّر ابن جرير الساحر بالعالم. قال ابن كثير: (وكان علماء زمانهم هم السحرة، ولم يكن السحر في زمانهم مذموما عندهم، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما هو تعظيم في زعمهم، ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل، وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه، هذا كقوله تبارك وتعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ* وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (الأعراف: 133: 135). فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: ينقضون العهد بالإيمان ولا يوفون به وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ أي: نادى بنفسه عظماء القبط. أو أمر مناديا فنادى، ويحتمل أنه عمّم تعميما، أو وزّع منشورا؛ إذ إن بعض أوراق البردي المكتشفة تذكر أن رعمسيس الثاني وزع منشورا- عثر على بعض نسخه- يدعو فيه إلى ألوهيته، ولكن هناك خلاف في أن رعمسيس الثاني هو فرعون موسى. قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ المتفرعة من النيل تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي: من تحت قصري أو بين يدي، أو من تحت سيطرتي، أي: في ملكي أَفَلا تُبْصِرُونَ أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك يعني: وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء. وقال النسفي: أي: أفلا تبصرون قوتي وضعف موسى، وغناي وفقره. وهكذا استدل الخاسر على أن الحق معه بوجود الجاه والغنى والرفاه، وهي حجة الكافرين وشبهة الضالّين وفتنة القاصرين، وقد ناقشها المقطع الأول كما رأينا مناقشة واسعة أَمْ أي: بل أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي ضعيف حقير وَلا يَكادُ يُبِينُ يعني: لا يكاد يفصح عن الكلام فهو عييّ فقير. ويحتمل أن

[سورة الزخرف (43): آية 53]

يكون أم بمعنى بل وهمزة الاستفهام فيكون المعنى: بل ثبت عندكم واستقر أني أنا خير من موسى الضعيف العييّ. قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون- لعنه الله- بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام، وقد كذب في قوله كذبا بيّنا واضحا، وسننقل في الفوائد ما قاله ابن كثير في إبطال كلام فرعون في حق موسى فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ الأسورة: هي ما يجعل في الأيدي من الحلي أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه قال ابن كثير: (نظر إلى الشكل الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم) وقال النسفي: (أراد بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق ذهب). أقول: هذا الذي قاله النسفي يحتمل، ويحتمل أنه أراد إنزال الأسورة عليه من باب المعجزات، وإعطاء الله عزّ وجل له الغنى والجاه العريض؛ بدليل اقتراحه إنزال الملائكة يمشون معه مقترنا بعضهم ببعض ليكونوا أعضاده وحاشيته وأنصاره وأعوانه فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ قال ابن كثير: أي: استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له وقال النسفي: أي: استفزهم بالقول واستنزلهم وعمل فيهم كلامه فأطاعوه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي: خارجين عن دين الله فَلَمَّا آسَفُونا أي: أغضبونا وأسخطونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ قال النسفي: ومعناه أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن نعجّل لهم عذابنا وانتقامنا وألّا نحلم عنهم فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي: سالفين لمثل من عمل بعملهم وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي: عبرة لمن بعدهم. قال النسفي: (أي: وحديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يضرب بهم الأمثال، ويقال مثلكم مثل قوم فرعون لِلْآخِرِينَ لمن يجئ بعدهم، ومعناه: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم ومثلا يحدثون به). كلمة في السياق: [حول تبيان المراد الرئيسي من الآيات وصلة بداية المقطع ببداية السورة والمحور] 1 - دلت الآيات أن مضمون دعوة رسل الله السابقين هو التوحيد، وأرتنا الآيات أنه مع كل الآيات كفر فرعون وقومه. وأنهم بذلك استحقوا العذاب، وبهذا أدّت الآيات أكثر من خدمة للسياق والمحور، فكانت نموذجا على مضمون رسالات الله،

[سورة الزخرف (43): آية 57]

وهذا هو المراد الرئيسي في سياقها بدليل سبقها بقوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. وكانت نموذجا على ما ورد في أول السورة: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ لاحظ الصلة بين هذه الآيات وما ورد هاهنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ثم لاحظ صلة بداية المقطع الثاني ببداية المقطع الأول: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ .. ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. وهكذا تجد كيف تتجسّد في السورة الخصائص التي ذكرت عن القرآن في كونه مبينا، وكونه عليا، وكونه حكيما، وكونه مذكرا. وأما صلة القصة بمحور السورة فمن أكثر من جهة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا مع أن مضمونه هو مضمون رسالات الله، ومع ملاحظة ما أصاب المكذبين بهذه الرسالات فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... 2 - وبعد قصة موسى عليه السلام وفرعون يأتي قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. لاحظ صلة ذلك ببداية المقطع وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. ولاحظ صلة ذلك ببداية السورة أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ وصلة ذلك في المحور وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .. فلنر الآيات: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا من قبل الكافرين في كونه عبد من دون الله، وذلك دليل في زعم الكافرين أنه في النار بناء على ما ورد في سورة الأنبياء أنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، فهذا عيسى يعبد من دون الله. فاستدلوا بذلك على أن القرآن ليس مستقيم العبارة وأنه .. وأنه .. وأنه .. وبنوا عليه: ما دام عيسى على رأي القرآن في النار- وليس ذلك معقولا- فآلهتهم ليست في النار، وبالتالي فالقرآن ليس صحيح المضمون. وسنرى في الفوائد عند ذكر سبب نزول هذه الآية، من الذي ضرب هذا المثل من الكافرين، وما قصة ذلك. والذي نذكره هنا هو أن المشركين بنوا على هذا

[سورة الزخرف (43): آية 58]

الموضوع الكثير، ورتبوا عليه ضرورة الثبات على كفرهم وصدودهم عن الحق، ومن ثم قال تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ أي: من هذا المثل يَصِدُّونَ أي: يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وضحكا. أو يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ قال النسفي: يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى؛ فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا، وأعاد ابن كثير الضمير (هو) على محمد صلّى الله عليه وسلم بمعنى أآلهتنا خير أم محمد تثبيتا لأنفسهم على الشرك، وإثارة لبعضهم بعضا على البقاء وعلى ما هم عليه ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي: ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول، لا لطلب الميز بين الحق والباطل، قال ابن كثير: أي: مراء وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية؛ لأنها لما لا يعقل، وهي قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ثم هي خطاب لقريش، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه، فتعيّن أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم ليسوا يعتقدون صحتها بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي: لداد شداد الخصومة دأبهم اللجاج إِنْ هُوَ أي: ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ كسائر العبيد أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي: وصيّرناه عيرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل قال ابن كثير: أي دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء. ثم قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لقدرتنا على عجائب الأمور لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي: لبدّلنا منكم يا رجال مَلائِكَةً يخلفونكم ومن ثم قال: فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي: كما يخلفكم أولادكم قال النسفي: أي: كما ولّدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميّزنا بالمقدرة الباهرة فلتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، والقديم متعال عن ذلك. وهذا الذي ذكرناه في تفسير الآية. هو أحد اتجاهين ذكرهما النسفي، وعلى هذا القول فالآية تدلّل على قدرة الله، وعلى انفراده بالوحدانية، وأن الملائكة وعيسى ليسوا إلا عبيدا لله. وعلى هذا فالآية تخدم السياق الخاص للمقطع الثاني، وتخدم ما ورد في المقطع الأول من كون الملائكة عبيدا لله. وأما القول الثاني في تفسير الآية فهو: ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلف بعضهم بعضا، وفي هذا تهديد لأهل الأرض بإهلاكهم وفيه تحذير لقريش من تماديها في مثل هذا الكفر، وجرأتهم عليه. وبهذا ينتهي المقطع.

كلمة في السياق العام والمقطع

كلمة في السياق العام والمقطع: 1 - لاحظنا أنّ المقطع الثاني بدأ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ* وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ وجاءت بعد ذلك قصة موسى وفرعون كنموذج على أنّ رسالات الله كلها دعت إلى التوحيد، ثم جاءت الآيات الأخيرة تناقش فكرة خاطئة تمسّك بها المشركون للبقاء على شركهم، وتردّ عليها، وتفنّدها، وبهذا قامت الحجة في المقطع على أنّ هذا القرآن من عند الله، إن من خلال خصائصه، أو من خلال مضمونه. 2 - نلاحظ أن المقطع الأول سار على الترتيب التالي: ا- ذكر بعض خصائص القرآن. ب- ثم ذكر سنة الله في الإرسال وموقف الخلق من الرسل. ج- ثم ناقش عقائد الكافرين. د- ثم توجّه إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ونلاحظ أن المقطع الثاني سار على نفس الترتيب تقريبا ما عدا القسم الأخير: ا- ذكر بعض خصائص القرآن. ب- ثم ذكر مضمون رسالة من رسالات الله عزّ وجل بما يخدم سياق المقطع، وبما يكون نموذجا لما ورد في الفقرة الثانية من المقطع الأول. ج- ثم ناقش شبهة من شبه المشركين وردّها، وختمت المناقشة بما يخدم قضية عبودية الملائكة التي تحدّث عنها المقطع الأول. إذا اتضح هذا نستطيع الآن أن نقول عن صلة السورة في المحور: إنّ محور السورة هو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .. وقد جاء هذا المحور في حيّز قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ومن ثم نلاحظ أن السورة تحدثت عن معرفة الله، وعمّا خلق الله للإنسان، وعن التوحيد، وعن نفي الشرك. وكل ذلك في سياق السورة الذي يخدم المحور مباشرة. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا من هذا القرآن الذي من خصائصه

فوائد حول آيات المقطع

البيان والعلو والحكمة والتذكير، والذي مضمونه التوحيد، وتصحيح العقائد، والذي يصدق كل رسل الله فيما بعثوا به فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. والآن يأتي مقطع جديد تشبه بدايته بداية المقطعين السابقين على أحد أوجه تفسير الآية الأولى منه؛ ومن ثم اعتبرناه مقطعا جديدا، أما على الوجهين الآخرين اللذين سنذكرهما، فإن ما أسميناه المقطع الثالث يكون استمرارا للمقطع الثاني، وتكون السورة على هذا مؤلفة من مقدمة ومقطعين، وسنرى تفصيل هذا كله إن شاء الله تعالى. فوائد [حول آيات المقطع]: 1 - [كلام صاحب الظلال حول آية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ] بمناسبة قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ. يقول صاحب الظلال: (ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين: أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير. أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك. وهذا ما حدث فعلا. فأما الرسول صلّى الله عليه وسلم فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربعمائة عام. ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحسّت اعتبرتهم على هامش الحياة. وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به. فلما أن تخلّوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!. وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلّت عن الأمانة: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ .. ). أقول: في هذه الآية تذكير للعرب الذين هم الآن أكثر شعوب المسلمين تركا

2 - كلام صاحب الظلال حول آية فاستخف قومه فأطاعوه ..

للإسلام وهجرا له. وجرأة عليه وعلى أهله. مع أنّه شرفهم ولولاه لم يشرفوا. وبدونه لا يبقى لهم شئ إلا الاحتقار والازدراء من قبل الشعوب، والعذاب والحساب في الآخرة، والتسليط عليهم في الدنيا، ومع كثرة الباحثين عن المجد للعرب بغير الإسلام، والمدّعين بأنّهم راغبون في إعادة مجدهم بطرق غير إسلامية. فإن العرب يزدادون ذلة. وصدق عمر بن الخطاب: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا به الله أذلنا الله». 2 - [كلام صاحب الظلال حول آية فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ .. قال صاحب الظلال: (واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين. ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ .. ). 3 - [كلام ابن كثير حول آية فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ قال ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: آسفونا: أسخطونا، وقال الضحاك عنه: أغضبونا، وهكذا قال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وسعيد بن حبير ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين وروى ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له» ثم تلا صلّى الله عليه وسلم قوله سبحانه: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وعن أبي طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله رضي عنه فذكر عنده موت الفجأة فقال: تخفيف على المؤمن، وحسرة على الكافر ثم قرأ رضي الله عنه فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجدت النقمة مع الغفلة يعني: قوله

4 - كلام ابن كثير حول آية ولما ضرب ابن مريم مثلا ..

تبارك وتعالى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.). 4 - [كلام ابن كثير حول آية وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ قال ابن كثير: (وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر ابن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (الآيات من سورة الأنبياء): ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» فأنزل الله عزّ وجل إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (الأنبياء: 101) أي: عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عزّ وجل فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكر من أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ الآيات (الأنبياء: 26) ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أي: يصدون عن أمرك بذلك من قوله). المقطع الثالث ويمتد من الآية (61) إلى نهاية الآية (89) أي: إلى نهاية السورة وهذا هو: 43/ 61

43/ 62 - 81

التفسير

43/ 82 - 89 التفسير: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الضمير في وَإِنَّهُ مختلف فيه. فالحسن البصري وسعيد ابن جبير أعاداه على القرآن، وابن إسحاق يرى أنه يعود على عيسى، ولكن من حيث إنه قد وجد فأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وغير ذلك من الأسقام. وقد استبعد ابن كثير هذين الاتجاهين ورجّح أن الضمير في عيسى عليه السلام، وأن المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة. قال ابن كثير: ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: أمارة ودليل على وقوع الساعة. قال مجاهد وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي: آية للساعة خروج عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة، وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضّحاك وغيرهم، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي: فلا تشكّن بها، أو لا تشكّوا فيها، إنها واقعة وكائنة لا محالة وَاتَّبِعُونِ قال النسفي: أي: واتبعوا هداي وشرعي، أو رسولي، أو هو أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقوله، وعلى هذا فالقائل إما الله عزّ وجل، وإما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأمر الله. هذا صِراطٌ

[سورة الزخرف (43): آية 62]

مُسْتَقِيمٌ أي: هذا الذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه: لا في العقائد، ولا في العبادات، ولا في الشرائع، ولا في الشعائر، ولا في غير ذلك وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي: عن الإيمان بالساعة، أو اتباع الحق إِنَّهُ أي: الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي: ظاهر العداوة وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ أي: بالمعجزات البيّنات الواضحات قالَ عيسى قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي: بالإنجيل أو بالنبوة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال ابن جرير: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله حسن جيد. فَاتَّقُوا اللَّهَ أي: فيما أمركم به وَأَطِيعُونِ فيما جئتكم به إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ هذا تمام كلام عيسى عليه السلام أي: أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده لا شريك له. فاعبدوه وحده، هذا صراط مستقيم. أي: عبادة الله وحده هي الصراط المستقيم فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي: من بين النّصارى. قال ابن كثير: (أي: اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه، منهم من يقرّ بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق، ومنهم من يدّعي أنّه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى عن قولهم علوا كبيرا) ولهذا قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وهو يوم القيامة. كلمة في السياق: 1 - [ترجيح أن الضمير في آية وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يعود على القرآن] رأينا أن أكثر المفسرين على أن الضمير في قوله تعالى وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ في المسيح عليه السلام، ورأينا أن هناك اثنين من كبار العلماء قالا: إن الضمير يعود على القرآن، ولا شك أنّ القرآن فيه علم الساعة، فقد تحدّث عن الساعة حديثا عجيبا، وعلى القراءة الثانية فإن نزوله كذلك علم على الساعة أي: أمارة من أماراتها. كيف والرسول صلّى الله عليه وسلم من علامات الساعة كما سنرى في سورة محمد صلّى الله عليه وسلم فعلى كلا القراءتين يمكن حمل الآية على القرآن، بل على القراءة الأولى وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الأولى أن نحمله على القرآن؛ لأن القرآن فيه علم الساعة حقا، ثم إن الخطاب توجّه بعد ذلك لهذه الأمة. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فالأليق إذن أن يكون الحديث عن القرآن. أما أن السياق في المسيح عليه السلام فهذه قضية فيها نظر؛ لأن الآية السابقة مباشرة على هذه الآية كانت حديثا عن

2، 3 - توضيح الصلة بين المقطع الثالث والمقطع الثاني

الملائكة وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ والحديث قبل ذلك عن المسيح كان في معرض الردّ على شبهة للكافرين نشأت بسبب فهم خاطئ لآية قرآنية، ومن ثم فإننا نرجّح رأي الحسن البصري وسعيد بن جبير في أن الضمير يعود للقرآن فيكون سياق السورة على الشكل التالى: بدأت السورة بمقدمة، ثم بحديث عن القرآن: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ .. ثمّ انتهى مقطع وجاء مقطع مبتدئا بالحديث عن القرآن: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ... ثم انتهى مقطع وجاء مقطع مبتدئا بالحديث عن القرآن: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ... فالمقطع الأول بدأ بذكر خاصيتين للقرآن: العلو، والحكمة. والمقطع الثاني بدأ بذكر خاصية للقرآن وهي التذكير. والمقطع الثالث بدأ بذكر خاصية للقرآن وهي كونه علما للساعة، ومن تأمل القرآن ورأى فيه الكلام الكثير عن الساعة، ودقائق ما يكون فيها وقبلها وبعدها. والتدليل عليها أيقن أن هذا القرآن من عند الله بلا شك ولا ريب. والآن فلنر سياق المقطع الثالث بعد أن رجحنا أن بدايته ما ذكرناه. [2، 3 - توضيح الصلة بين المقطع الثالث والمقطع الثاني] 2 - بدأ المقطع بذكر أن القرآن علم للساعة أي بذكر خاصية من خواص القرآن، ثم نهى عن الشك في الساعة، وأمر باتباع القرآن، ونهى أن يصدهم الشيطان عن هذا الاتّباع، وجعل اتّباع القرآن هو الصراط المستقيم. ثم بين أن الأمر بالاتباع والطاعة والعبادة هو دعوة عيسى عليه السلام، وهو الصراط المستقيم. فالكلام عن عيسى عليه السلام بيان لكون دعوة القرآن هي دعوة الرسل جميعا؛ فكما أن المقطع الثاني ذكر خاصية من خواص القرآن فكذلك المقطع الثالث. وكما أن المقطع الثاني ذكر نموذجا على كون دعوة الرسل واحدة بالكلام عن موسى عليه السلام. فإن المقطع الثالث ثنّى بذكر نموذج على كون دعوة الرسل واحدة في الكلام عن عيسى عليه السلام، وكما ذكر المقطع الثاني أن فرعون وقومه لم يقبلوا دعوة الله فعوقبوا بيّن المقطع الثالث أن قوم عيسى اختلفوا فاستحقوا العقاب.

4 - إبراز التشابه بين سورتي يوسف والزخرف

3 - نلاحظ أن الانتقال من المقطع الثاني إلى الثالث كان في غاية الربط إلى درجة أن أكثر المفسرين اعتبروا أن بداية المقطع الثالث كانت استمرارا لنهاية المقطع الثاني. 4 - [إبراز التشابه بين سورتي يوسف والزخرف] نلاحظ أن المقطع الأول بدأ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ثمّ جاءت تتمة المقطع الأول فكانت نموذجا على علو القرآن وحكمته. ونلاحظ أن المقطع الثاني بدأ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وكان في المقطع تذكير. فهو نموذج على كون القرآن ذكرا، ونلاحظ أن المقطع الثالث بدأ بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ونلاحظ أن الحديث عن الساعة يستغرق أكثره، ومن ثم يأتي بعد الآيات السابقة مباشرة قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ولو تذكرنا سورة يوسف فإننا نجد أن في خاتمتها هذه الآية أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ مما يشير إلى التشابه بين السورتين ويؤكد على وحدة محوريهما بالتالي، فلنمض في التفسير .. هَلْ يَنْظُرُونَ أي: هؤلاء المشركون المكذبون للرسل إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: فجأة أي: هل ينظرون إلا إتيان الساعة فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم قال ابن كثير: أي: فإنها كائنة لا محالة وواقعة، وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين، فإذا جاءت إنما تجئ وهم لا يشعرون بها، فحينئذ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم الْأَخِلَّاءُ أي: الأصحاب والأصدقاء والرفقاء والمتعاشرون يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أي: المؤمنين. قال النسفي: أي: تتقطّع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالّين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتا إلا خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ هذه الآية حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ الَّذِينَ آمَنُوا أي: صدّقوا بِآياتِنا أي: القرآن وَكانُوا مُسْلِمِينَ لله أي: منقادين له. كلمة في السياق: في هذه الآيات وما بعدها يعطينا الله صورة عن الساعة، وعما يكون فيها، وصلة

[سورة الزخرف (43): آية 70]

ذلك بسياق المقطع واضحة. فلنر الآن صلة ما مرّ كله وما يمرّ بمحور السورة: إنّ الربط بين السورة ومحورها- والله أعلم- على الشكل التالي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا من هذا القرآن الذي لا شكّ فيه لأنه مبين وعليّ وحكيم وذكر وعلم للساعة. فإن كنتم في ريب منه بعد هذا كله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .. وهذا السياق يحدّثنا أن المتقين وحدهم هم الذين لا يعادي بعضهم بعضا يوم القيامة. وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم الذين آمنوا بالقرآن فلم يرتابوا وكانوا مسلمين أي: منقادين لآياته مستسلمين لله فيها، وها هي ذي سورة الزخرف تبشّرهم، ثمّ تعود للحديث عن عذاب الكافرين. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي: يقال لهم ادخلوا الجنة أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ المؤمنات في الدنيا تُحْبَرُونَ أي: تسرون سرورا يظهر حباره، أي: أثره على وجوهكم، هذا تفسير النسفي. وفسّر ابن كثير الأزواج بالنظراء والله أعلم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ جمع صحفة. وهي نوع من أنواع أواني الطعام. مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ من ذهب أيضا والكوب نوع من أنواع آنية الشراب. قال النسفي: والكوب الكوز لا عروة له. وقال ابن كثير: وهي آنية الشراب أي: من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى وَفِيها أي: وفي الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ قال ابن كثير: أي: طيب الطعم والريح وحسن المنظر، وقال النسفي: وهذا حصر لأنواع النعم؛ لأنها إما مشتهيات في القلوب أو مستلذة في العيون. وَأَنْتُمْ فِيها أي: في الجنة خالِدُونَ أي: لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا، تم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: أي: أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدا عمله الجنة ولكن برحمة الله وفضله، وإنّما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ أي: من جميع الأنواع. مِنْها تَأْكُلُونَ أي: مهما اخترتم وأردتم و (من) في الآية للتبعيض. قال النسفي: (أي: لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في شجرها. فهي مزيّنة بالثمار أبدا .. ) وقال ابن كثير: (ولما ذكر الطعام

كلمة في السياق

والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النّعمة والغبطة). كلمة في السياق: قصّ الله عزّ وجل علينا في الآيات السابقة ما أعدّه للمتقين المؤمنين المسلمين في الجنة يوم القيامة. بعد أن تقوم الساعة، والآن يحدثنا عن حال أهل النار. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ أبدا لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي: لا يخفف عنهم ساعة واحدة ولا ينقص وَهُمْ فِيهِ أي: في العذاب مُبْلِسُونَ أي: آيسون من الفرج متحيّرون قال ابن كثير: أي آيسون من كل خير وَما ظَلَمْناهُمْ بالعذاب وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ قال ابن كثير: أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم فكذّبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد وَنادَوْا بعد أن أيسوا من فتور العذاب يا مالِكُ هو خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: ليمتنا أو ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه والمعنى: سل ربك أن يقضي علينا قالَ مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ قال ابن عباس: مكث ألف سنة ثم قال: إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها، ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم، وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال لَقَدْ جِئْناكُمْ أي: نحن الملائكة إذ هم رسل الله ومالك منهم بِالْحَقِّ أي: بيّناه لكم ووضّحناه وفسّرناه وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ قال النسفي: أي لا تقبلونه وتنفرون منه، لأن مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب. قال ابن كثير: أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظّمه، وتصدّ عن الحقّ وتأباه، وتبغض أهله فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة .. ) كلمة في السياق: بدأ المقطع بالكلام عن القرآن بقوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثم حدثنا الله عزّ وجل عن عيسى بما يؤكد أن دعوته هي دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم خاطب الله المشركين

[سورة الزخرف (43): آية 79]

بقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ .... ثم تحدّث عما يكون بعد الساعة للكافرين والمتقين: ثم يعود الكلام لمواجهة المشركين: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ... ذكّرهم بما يكون في الساعة، ثمّ أنذرهم أن كيدهم باطل، وأن أعمالهم مكتوبة فلنر الآيات اللاحقة: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً أي: أم أحكم المشركون أمرا من كيدهم ومكرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا كما أبرموا كيدهم، قال مجاهد: أرادوا كيد شرّ فكدناهم. دلّ ذلك على أن المشركين كانوا يتحيّلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه، فكادهم الله تعالى وردّ وبال كيدهم عليهم أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ أي: حديث أنفسهم وَنَجْواهُمْ أي: ما يتحدثونه فيما بينهم ويخفونه عن غيرهم؛ إذ يكيدون لمحمد صلّى الله عليه وسلم ويأثمون بَلى أي: نسمعها ونطّلع عليها وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ أي: الحفظة عندهم يَكْتُبُونَ ذلك قال ابن كثير: أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها. كلمة في السياق: أنذر الله- في هذا المقطع- الكافرين بالساعة، وحذّرهم أنّ عاقبة مكرهم ضدّ الإسلام عائدة عليهم، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم، كما بشر المتقين. ونلاحظ بعد ذلك أن أمرا مباشرا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوجّه. وعند ما ندرس الأمر وندرس ما بعده نجد أنّ له صلة بكل ما مرّ من السّورة. فكأن ما بقي من السورة هو خاتمتها التي تضئ على ما قبلها والتي هي محصلة لها، فقد رأينا أن السورة حدّثتنا عن كون المشركين يعتبرون أن الملائكة بنات الله، كما ورد في المقطع الأول، ورأينا أن المقطع الثاني حدثنا عن عبودية المسيح لله، ورأينا أن المقطع الثالث حدثنا عن اختلاف النصارى في شأن المسيح، وقد بيّن الله عزّ وجل الحق في هذه الشئون كلها. والآن يأمر الله عزّ وجل رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يعلن: قُلْ يا محمد إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قال ابن كثير: أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيد الله، مطيع لجميع ما يأمرني به، ليس

[سورة الزخرف (43): آية 82]

عندي استكبار ولا إباء عن عبادته، فلو فرض هذا لكان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى. والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا ... وقال السدي: أي ولو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولدا، ولكن لا ولد له وهو اختيار ابن جرير، وقال النسفي: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ وصح ذلك ببرهان فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فأنا أول من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد إليه، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض، والمراد نفي الولد وذلك أنه علّق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها). ثمّ نزّه الله عزّ وجل ذاته عن اتخاذ الولد فقال سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ قال ابن كثير: أي تعالى وتقدس وتنزّه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد، فإنه فرد أحد صمد، لا نظير له ولا كفء له ولا ولد له .. وقال النسفي: (أي هو رب السموات والأرض والعرش فلا يكون جسما، إذ لو كان جسما لم يقدر على خلقها، وإذا لم يكن جسما لا يكون له ولد؛ لأن التولد من صفة الأجسام) وبعد أن أمره الله أن يعلن هذا الإعلان وينزه الله هذا التنزيه بعد أن أقام عليهم الحجة في السورة أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم الأمر الثاني فَذَرْهُمْ فدعهم يَخُوضُوا في باطلهم وجهلهم وضلالهم. وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي: يوم القيامة أي: فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم. قال النسفي: (وهذا دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب .. ). كلمة في السياق: بدأت السورة بمقدمة ثم بالمقطع الأول. وبدأ المقطع الأول بمقدمة حول القرآن، ثم بين موقف الكافرين بشكل ضمني من هذا القرآن، ثم جاء قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. وقلنا هناك إن السياق اتجه إلى معالجة أصل المشكلة، وهي قضية العقيدة التي الأصل فيها معرفة الله، ونفي الشرك، وتأكيد التوحيد، وتوضيح قضية اليوم الآخر، وقد عالجها السياق كلها كما رأينا- وبعد المعالجة الطويلة يعود السياق الآن للتعريف بالله عزّ وجل، وينتهي هذا- مرّة أخرى- بقوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ وكأن ما ورد بين وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في

[سورة الزخرف (43): آية 84]

أول السورة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في آخر السورة- كل ذلك يعالج أصل القضية، قضية العقيدة الفاسدة التي تنبع عنها المواقف السيئة .. وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال ابن كثير: أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض، يعبده أهلها وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه وَهُوَ الْحَكِيمُ في أقواله وأفعاله الْعَلِيمُ بما كان ويكون وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قال ابن كثير: أي هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة، فسبحانه وتعالى عن الولد (وتبارك) أي: استقر له السلامة من العيوب والنقائص، لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمّة الأمور نقضا وإبراما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: علم وقتها أي: لا يجليها لوقتها إلا هو وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازي كلّا بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي: يدعونهم مِنْ دُونِهِ أي: من دون الله، أي: لا يملك شركاؤهم وآلهتهم الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، أي: لا يقدرون على الشفاعة لهم إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي: بكلمة التوحيد وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن الله ربهم حقا ويعتقدون ذلك فهؤلاء هم الذين يعطون الشفاعة. قال ابن كثير: (أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: المشركين مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لا الأصنام ولا الملائكة. قال ابن كثير: أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل، ولهذا قال تعالى فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: فكيف، أو من أين يصرفون عن التوحيد مع هذا الإقرار. كلمة في السياق: بعد أن عالجت السورة موضوع العقيدة- كما رأينا- وأقامت الحجة بعد الحجة على أن هذا القرآن من عند الله، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، تختتم السورة الآن بآيتين فيهما شكوى تعبّر عن حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كأثر عن عدم إيمان قومه، وفيها توجيه من الله عزّ وجل مما يشير إلى أن هؤلاء المشركين دأبهم دأب السابقين من أشباههم الذين كذّبوا الرسل والذين ذكرتهم السورة في بداياتها.

[سورة الزخرف (43): آية 88]

وَقِيلِهِ أي: وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم لله شاكيا يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ قال قتادة: هو قول نبيّكم صلّى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عزّ وجل قال تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي: عن المشركين أي فأعرض عن دعوتهم يائسا من إيمانهم وودّعهم وتاركهم وَقُلْ لهم سَلامٌ قال ابن كثير أي لا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ، ولكن تألّفهم واصفح عنهم قولا وفعلا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (هذا تهديد من الله تعالى لهم، ولهذا أحلّ بهم بأسه الذي لا يردّ، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب) أقول: وفي الآية تهديد بما سيرونه كذلك في اليوم الآخر. وبهذا انتهت السورة مرتبطا أوّلها بآخرها، محققا سياقها مجموعة أمور بآن واحد كما سنرى في الكلمة الأخيرة عن السورة مفصّلة في محورها تفصيلا زائدا على ما فصله غيرها كما فلننقل الآن بعض الفوائد المتعلّقة بالمقطع الثالث. فوائد [حول آيات المقطع الثالث وهي (61 - 89)]: 1 - [كلام صاحب الظلال حول آية وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ] رأينا أن أرجح الأقوال عند المفسرين في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أن المراد بالضمير عيسى عليه السلام، وأن نزوله في آخر الزمان علامة على الساعة، وعلم عنها. ونحن وإن رجّحنا أن يكون الضمير عائدا على القرآن إلا أن ذلك لا ينفي أن يكون نزول عيسى في آخر الزمان علامة على قيام الساعة، بل ذلك ثابت بأحاديث متواترة كما قال ابن كثير. وقد حقّق شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) وهو مع تحقيقه لا يبقي شبهة في تواتر نزول المسيح عليه السلام قبيل قيام الساعة. وبمناسبة هذه الآية يقول صاحب الظلال: (وقد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى- عليه السلام- إلى الأرض قبيل الساعة وهو ما تشير إليه الآية: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها، والقراءة الثانية وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ بمعنى أمارة وعلامة. وكلاهما قريب من قريب. عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من

2 - كلام الألوسي وصاحب الظلال حول آية قال قد جئتكم بالحكمة ..

الدنيا وما فيها» أخرجه مالك والشيخان وأبو داود. وعن جابر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة». أخرجه مسلم. وهو غيب من الغيب الذي حدّثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم، ومنكره بعد تواتره كافر بعد البيان أو قبله، لمن كان يعيش في دار الإسلام على خلاف بين العلماء هل يكفر بعد البيان أو قبل البيان بحكم أنه يعيش على أرض الإسلام فلا يعذر بالجهل. 2 - [كلام الألوسي وصاحب الظلال حول آية قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ .. ] بمناسبة قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال الألوسي في قوله تعالى: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها، ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلا، فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك، ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلا. فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانها أيضا كما يشير إليه قوله صلّى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم»). وقال صاحب الظلال: (ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعا ونحلا كثيرة، أهمها أربع فرق أو طوائف: طائفة الصدوقيين نسبة إلى «صدوق» وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان عليهما السلام. وحسب الشريعة لا بد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى. فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل. وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها، ينكرون «البدع» في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذّ الحياة؛ ولا يعترفون بأن هناك قيامة!. وطائفة الفريسيين، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين. ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات، وجحدهم للبعث والحساب. والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة. وكان المسيح- عليه السلام- ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان!.

3 - الأسس التي ينبني عليها اختيار الأصدقاء

وطائفة السامريين، وكانوا خليطا من اليهود والأشوريين، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة، مما يعتقد غيرهم بقداسته. وطائفة الآسين أو الأسينيين. وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم. وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع. فلما أن جاء المسيح- عليه السلام- بالتوحيد الذي أعلنه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس. ومما يؤثر عنه- عليه السلام- في هذا قوله عن هؤلاء: «إنهم يحزمون الأوقار، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم، ولا يمدون إليها إصبعا يزحزحونها، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم! يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم، ويستأثرون بالمتكإ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، ويبتغون التحيات في الأسواق، وأن يقال لهم: سيدي. سيدي. حيث يذهبون!». أو يخاطب هؤلاء فيقول: «أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل. إنكم تتقون ظاهر الكأس والصحفة، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة .. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. إنكم كالقبور المبيضة. خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة»). «عن كتاب عبقرية المسيح للعقاد». 3 - [الأسس التي ينبني عليها اختيار الأصدقاء] بمناسبة قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قال ابن كثير: (أي: كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عزّ وجل، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ

4 - كلام ابن كثير حول آية يطاف عليهم بصحاف من ذهب ..

بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (العنكبوت: 25). وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني. وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له: اذهب، فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا. قال: ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال: ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ، ونعم الصاحب، ونعم الخليل. وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك. ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك؛ اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت عليّ، قال: فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما. فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ، وبئس الصاحب، وبئس الخليل. رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة: صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين. وروى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته فيّ»). أقول: فليحاسب كل منا نفسه أن تكون له مودة وصداقة وصحبة لغير المتقين فضلا عن أن يكون عنده لغيرهم ولاء وطاعة. ولنحرص على الإخاء في الله فإنّه من أعظم القربات إلى الله. ولنحذر أن نضيع إخاء كسبناه؛ فذلك العجز الكبير، إن عقد الإخاء في الإسلام أبدي فلا تفرط فيه، يقول الإمام علي رضي الله عنه: (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من كسب منهم). 4 - [كلام ابن كثير حول آية يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ قال ابن كثير: (روى عبد الرزاق ... عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة

5 - كلام ابن كثير حول آية وتلك الجنة التي أورثتموها ..

لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله، شهوته في آخرها كشهوته في أولها، لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا»). 5 - [كلام ابن كثير حول آية وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة فيقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ فيكون له شكرا» قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة وذلك قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). 6 - [كلام صاحب الظلال حول الآيات (78 - 80)] بمناسبة قوله تعالى: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ* أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ* أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ قال صاحب الظلال: (وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه، لا عدم إدراك أنه الحق، ولا الشك في صدق الرسول الكريم؛ فما عهدوا عليه كذبا قط على الناس، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟. والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق، ولكنهم يكرهونه، لأنه يصادم أهواءهم، ويقف في طريق شهواتهم، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته! فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة!. لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت، العليم بما يسرون وما يمكرون: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً؟ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ* أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ .. فإصرارهم على الباطل في وجه الحق يقابله أمر الله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته. وتدبيرهم ومكرهم في الظلام يقابله علم الله بالسر والنجوى. والعاقبة معروفة

7 - عرض القراءات الواردة في قوله تعالى وقيله ...

حين يقف الخلق الضعاف القاصرون، أمام الخالق العزيز العليم). 7 - [عرض القراءات الواردة في قوله تعالى وَقِيلِهِ ... ] في قوله تعالى: وَقِيلِهِ ثلاث قراءات: الرفع والنصب والجر، وقراءة الرفع شاذة وقراءة حفص الجر، وعلى قراءة الجر فهناك من أعربها على أنها معطوفة على كلمة الساعة من قوله تعالى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فيكون التقدير: وعنده علم قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، وهناك اتجاه على أن الواو في. وَقِيلِهِ واو القسم فهي حرف جر، وقد ضعّفه الألوسي واعتمده صاحب الظلال قال صاحب الظلال في الآيتين الأخيرتين من السورة: (وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول صلّى الله عليه وسلم لربه. يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم. فيبرزه ويقسم به: وَقِيلِهِ. يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. وهو تعبير خاص ذو دلالة وإيحاء بمدى عمق هذا القول، ومدى الاستماع له. والعناية به والرعاية من الله سبحانه والاحتفال. ويجيب عليه- في رعاية- بتوجيه الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الصفح والإعراض. وعدم الاحتفال والمبالاة. والشعور بالطمأنينة. ومواجهة الأمر بالسلام في القلب والسماحة والرضاء. وذلك مع التحذير الملفوف للمعرضين المعاندين، مما ينتظرهم يوم ينكشف المستور: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ، وَقُلْ سَلامٌ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ .. ). كلمة أخيرة في سورة الزخرف: عرضنا سورة الزخرف على أنها مقدمة ومقاطع ثلاث، المقدّمة هي: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. والمقاطع الثلاثة كل منها مبدوء بقوله تعالى وَإِنَّهُ*: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ... ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وقد لاحظنا أن كلا من المقاطع الثلاثة بدأ بمقدمة، ثم جاء المقطع بعد ذلك متصلا بهذه المقدمة. بدأ المقطع الأول بقوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ* أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ

الْأَوَّلِينَ. ثم بدأ المقطع الأول يناقش عقائدهم ويقيم الحجة عليها لأنها علة المواقف، وناقش فيه أسباب موقفهم من القرآن. وبين أن علة هذه العقائد هي استمراريتهم على تقليد الآباء. وناقش مبدأ التقليد الفاسد، وضرب مثلا بإبراهيم عليه السلام في رفضه التقليد السيّئ. ثم ناقش اعتراضهم على إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم وردّه، وذكر عقوبة العمى عن كتاب الله عزّ وجل، ثم وجّه توجيهات لرسول عليه الصلاة والسلام، وكان من هذه التوجيهات أمره الاستمساك بوحي الله، مبينا له أنه على صراط مستقيم. ثم جاء المقطع الثاني مبتدئا بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ* وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. ثم عرض علينا قصة موسى وفرعون لنرى وحدة الرسالات وإجماعها على التوحيد، وناقش تكأة اتكأ عليها المشركون في تشبّثهم بشركهم بحجة بنوها على فهم خاطئ للقرآن. ثم جاء المقطع الثالث مبتدئا بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ثم جاءت قصة عيسى تبين أن مضمون الدعوتين واحد: ثم جاء حديث عن الساعة وما لأهل الجنة وأهل النار. ثم جاء حديث عن كيد الكافرين للدعوة. ثم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يفنّد أن يكون لله ولد كما ادعى النصارى أو ادعى بعض مشركي العرب إذ زعموا أن الملائكة بنات الله. ثم تحدث المقطع عن الله. وأقام الحجة عليهم بألسنتهم على أنه هو خالقهم. ثم ذكر المقطع شكوى الرسول صلّى الله عليه وسلم من عدم إيمانهم، ثم جاء توجيه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يفعله أمام عدم إيمانهم. وقد جاءت نهاية المقطع تصل بدايته بنهايته؛ إذ بداية المقطع تحدثت عن اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم، كما تحدثت على لسان المسيح عليه السلام عن كون العبادة لله هي الصراط المستقيم، وجاءت نهاية المقطع لتعمّق العبودية الخالصة لله من خلال الأسوة، ومن خلال التذكير بصفات الله عزّ وجل. ولنلاحظ الصلة بين بداية السورة ونهايتها: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ

الْأَوَّلِينَ في البداية، وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ* فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ في النهاية، وقد رأينا أثناء عرض كل مقطع صلة ذلك المقطع بمحور السورة. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. هذا ويمكن أن نوجّه السياق في السورة وجهة أخرى، فالملاحظ أنه قد جاء بعد عدة آيات في السورة قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ .. وقبل آيتين من آخرها جاء قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ. وقد اعتدنا في كثير من مقاطع السور أن نرى مقطعا مبدوءا ببداية ومنتهيا بنفس هذه البداية والمعنى هو الذي يحدد المسار، وهاهنا يمكن أن تتصور السورة على الشكل التالي. تبدأ السورة بمقدمة هي: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ* أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ* فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ. وبعد المقدّمة يأتي قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. وسارت السورة مصححة للعقائد التي هي سبب المواقف الخاطئة من الوحي والرسل، وتحدثت عن علة هذا كله أي: التقليد، وتحدثت عن أمّة رفضت فعوقبت، وتحدثت عن أمم اختلفت على أنبيائها فاستحقت عذاب الله في الآخرة، ثم وعظت وذكّرت، وأقامت الحجج حجة بعد حجة، وانتهى الحديث بمثل ما بدأ به. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ .. فكانت السورة بهذا مقطعا واحدا. ثم جاءت الخاتمة تبين أنه بعد هذا البيان كله لا يزال المشركون غير مؤمنين. وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ* فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

ولو أننا تحدثنا عن سياق السورة على أنها مقدمة ومقطع واحد وخاتمة فإنّه يترتب على ذلك أن يوجه السياق توجيها جديدا. وهذا مظهر آخر من مظاهر الإعجاز في القرآن. أنك تجد للسورة الواحدة أكثر من توجيه للسياق، وكل توجيه يعطيك معاني جديدة لا تتعارض، ولكنها تتساند فتتزايد بذلك مدلولات السورة. إن هذه السورة تكاد تكون مظهرا كاملا. لكون القرآن مبينا وعليّا وحكيما ومذكّرا وواعظا، ولا شك أن القرآن فيه قدر مشترك من كل هذه الخصائص في كل سورة منه. ولكن تبقى سورة أو مقطع نموذجا أعلى على وجود خاصية ما. وسترى في الكلمة الأخيرة عن مجموعة (الشورى والزخرف والدخان) التكامل بين هذه السور التي تشكل مجموعة واحدة. ومن ثم فلن نتعرض لهذا الموضوع هنا. ***

سورة الدخان

سورة الدّخان وهي السّورة الرابعة والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثالثة من المجموعة الرابعة من قسم المثاني وآياتها تسع وخمسون آية وهي مكيّة وهي السّورة الخامسة من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

بين يدي سورة الدخان: تقديم ابن كثير والألوسي وصاحب الظلال لسورة الدخان

بين يدي سورة الدخان: [تقديم ابن كثير والألوسي وصاحب الظلال لسورة الدخان] 1 - قدم ابن كثير لسورة الدخان بما يلي: (روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن أبي خثعم- وهو من رجال سنده- يضعف، قال عنه البخاري: منكر الحديث، ثم روى الترمذي عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام أبو المقدام يضعف والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين). 2 - وقال الألوسي عن سورة الدخان: (ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزّ وجل ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ وهنا نظيره فيما حكي عن أخيه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ وأيضا ذكر فيما تقدم فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ وهو قريب من قريب إلى غير ذلك، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود: الذاريات والطور. والنجم واقتربت. والرحمن، والواقعة، ونون، والحاقة. والمزمل، ولا أقسم بيوم القيامة. وهل أتى على الإنسان، والمرسلات. وعم يتساءلون، والنازعات. وعبس، وويل للمطففين. وإذا الشمس كورت، والدخان، وورد بفضلها أخبار). 3 - وقال صاحب الظلال في تقديمه للسورة: (يشبه إيقاع هذه السورة المكية، بفواصلها القصيرة، وقافيتها المتقاربة، وصورها العنيفة، وظلالها الموحية .. يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة. ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تشد إليه خيوطها جميعا. سواء في ذلك القصة، ومشهد القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة. فكلها وسائل

كلمة في سورة الدخان ومحورها

ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة، كما يبثها هذا القرآن في القلوب. *** إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها، في إيقاع سريع متواصل. تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع. وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض، والدنيا والآخرة، والجحيم والجنة، والماضي والحاضر، والغيب والشهادة، والموت والحياة، وسنن الخلق ونواميس الوجود .. فهي- على قصرها نسبيا- رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود ... ). كلمة في سورة الدخان ومحورها: رأينا من قبل أن الطاسينات كلها قد فصّلت محورا واحدا وهو قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ كل سورة منها فصّلت فيها نوع تفصيل، وذكرنا من قبل أن سورتي الزخرف والدخان تفصّلان في محور واحد. هو قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وقد دلنا على ذلك التشابه بين مطلع سورة يوسف ومطلع السورتين، مما يدل على وحدة المحور، كما دلنا على ذلك المضمون نفسه فلنلاحظ المعاني التالية: 1 - [وضوح التشابه بين سورة يوسف وسورتي الزخرف والدخان] بدأت سورة يوسف بقوله تعالى: الر* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وبدأت سورة الزخرف بقوله تعالى. حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ... وجاءت سورة الدخان مبتدأة بقوله تعالى. حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ... فالتشابه بين بداية السور الثلاث واضح، مما نستأنس به أن المحور واحد ... 2 - [أحد أوجه التشابه بين سورتي الدخان والبقرة] نلاحظ أنه بعد الآيات الأولى لسورة الدخان يأتي قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي

3 - الإشارة إلى أن سورة الدخان امتداد لسورة الزخرف

شَكٍّ يَلْعَبُونَ وصلة ذلك بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا .. لا تخفى. 3 - [الإشارة إلى أن سورة الدخان امتداد لسورة الزخرف] نلاحظ أن سورة الزخرف استقرت على قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ* فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ .. وفي سورة الدخان نلاحظ مجئ قوله تعالى. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ* رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ .. لاحظ قوله تعالى في سورة الزخرف لا يُؤْمِنُونَ. وفي سورة الدخان: إِنَّا مُؤْمِنُونَ بعد رؤية العذاب مما يشير إلى أن سورة الدخان استمرار لسورة الزخرف التي محورها ما رأيناه. 4 - [وجه آخر للتشابه بين سورتي الدخان والبقرة] نلاحظ أن السورة تبدأ بالكلام عن القرآن حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ وتنتهي بالكلام عن القرآن .. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ .. كما أن ذكر الشك والافتراء يتكرر فيها: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ. وهذا كله واضح الصلة بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... بعد هذه الملاحظات العامة التي لها علاقة بمحور السورة نقول إن السورة تتألف من مقدمة ومقطع واحد. المقدمة هي: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ والمقطع يمتد حتى نهاية السورة ويلاحظ أنه يبدأ بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ ... وتنتهي السورة بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ ومن ثمّ فبداية المقطع شبيهة بنهايته، والنهاية تدل على البداية. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ... فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ... والصلة بين المقطع والمقدمة، وصلة المقدمة والمقطع بالمحور، كل ذلك سنراه أثناء عرض السورة.

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (9) وهذه هي

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (9) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 44/ 1 - 9 التفسير: حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ أي: والقرآن الواضح الموضّح إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ هذا جواب القسم. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر .. وقال: ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النجعة، وسننقل كلامه كاملا في الفوائد إن شاء الله. قال النسفي: (والمباركة كثيرة الخير؛ لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة) إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب. قال ابن كثير: أي: معلّمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعا؛ لتقوم حجة الله على عباده فِيها أي: في ليلة القدر يُفْرَقُ أي: يفصل ويكتب كُلُّ أَمْرٍ من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجئ في السنة المقبلة حَكِيمٍ أي: ذي حكمة أي: مفعول على ما تقتضيه الحكمة. وقال ابن كثير: أي: محكم لا يغيّر

[سورة الدخان (44): آية 5]

ولا يبدّل، وقال: أي: في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها. وقال النسفي: في الآيتين الأخيرتين: (هما جملتان مستأنفتان فسّر بهما جواب القسم كأنه قيل: أنزلناه؛ لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أي: جميع ما يكون ويقدّره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه. أي: الأمر الذي يفرق في ليلة القدر أمرا من عند الله، وصف أمره في الآية السابقة بالحكمة، ثم زاده في هذه الآية جزالة وفخامة، بأن قال: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي: إنا أنزلنا القرآن؛ لأن من شأننا وسنتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم. ومن ثم قال رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وقد وصف الرحمة بالإرسال إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال ابن كثير: أي: الذي أنزل القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما .. إن كنتم متحققين باليقين. قال النسفي في معنى إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ: إنهم كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا فقيل لهم: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب، ثم قيل: إن هذا الرب هو السميع العليم، الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما، إن كان إقراركم عن علم وإيقان. فآمنوا أنه أرسل رسلا وأنزل كتبا. أقول: وهذا يفيد أن معرفة الله حق المعرفة تقتضي الجزم بأنه أرسل رسلا وأنزل كتبا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ومن كان هذا شأنه فلا يترك عباده بلا هداية ولا توجيه ولا إنذار ولا رسل .. نقل: [عن صاحب الظلال حول آية رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] بمناسبة قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قال صاحب الظلال: (وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق. وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل، لولا أنه واقع تراه العيون!.

كلمة في السياق

إن هذه العقيدة التي جاء بها القرآن- في تكاملها وتناسقها- جميلة في ذاتها جمالا يحب ويعشق؛ وتتعلق به القلوب! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح. فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق. الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها، ثم يجمعها، وينسقها، ويربطها كلها بالأصل الكبير). كلمة في السياق: نلاحظ مما مر أن الآيات بيّنت من خلال التعريف على الله وعلى أفعاله أنّ هذا القرآن كتابه. وأنه هو الذي أنزله، وأن هذه قضية حتمية تقتضيها حكمة الله وتدبيره لشئون هذا الكون، وتقتضيها رحمته وألوهيته وربوبيته. إن هذا كله يقتضي إرسالا وإنذارا، وهذا كله يؤكد أن هذا القرآن هو الذي أنزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي أن تكون هذه المسألة من المسلّمات والبديهيات. ولكن الواقع أن الكافرين في شك، ومن ثم قال تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. قال ابن كثير: يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون. أي قد جاءهم الحق واليقين. وهم يشكّون فيه ويمترون ولا يصدقون به. أقول: وهذا يشير إلى أن أصل معرفتهم بالله غير صحيح. وأن هذه المعرفة عندهم لا تخرج عن كونها كلمة على اللسان، وأن إقرارهم بوجود الله عزّ وجل وصفاته غير صادر عن علم وتيقّن، بل قول مخلوط بغفلة وبهزؤ ولعب ينتج عن ذلك شك بالقرآن وغيره من أمور الإيمان .. كلمة في السياق: [حول إبراز الصلة بين المقدمة والمقطع الوحيد والمحور] نلاحظ مما مر معنا في المقدمة. أنّ المقدمة أفهمتنا أن المعرفة الحقيقية لله تقتضي إيقانا بالقرآن وبالرسول؛ إلا أن الكافرين مع هذا كله يشكّون. والملاحظ أنّه لم يحدّد مضمون الشك مما يشير إلى أنه شك في كل القضايا الإيمانية: في الله وصفاته وأفعاله وفي القرآن والرسول، وأمام هذا الشك بعد هذا البيان لم يبق من فائدة ترجى من هؤلاء

المقطع الوحيد في السورة ويمتد من الآية (10) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (59) وهذا هو

الشاكّين. ومن ثمّ يأتي المقطع القادم مبدوءا بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ .. ومختوما بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ .. مما يشير إلى أنّ المستقبل وحده وفعل الله فيه هو وحده الذي يمكن أن يغيّر مواقفهم. مما يشير إلى أنّ من واجبات الداعية الارتقاب فإذا اتضح هذا فما هي صلة الآيات المارّة بالمحور؟. لو أنك دمجت بين معاني المقدمة وما ورد في المحور فإنك ستجد الصلة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا في ليلة القدر من هذا القرآن الذي إنزاله أثر حكمتنا ورحمتنا وأثر ألوهيتنا وربوبيّتنا، وأثر سنتنا في الإرسال والإنذار فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ولكنّهم مع هذا كله مرتابون شاكون في هذا القرآن وفي الرسول المنزل عليه، فيا أيها الرسول ارتقب ماذا سنفعل بهم. فالصلة بين المقدمة والمقطع الوحيد في السورة واضحة. والصلة بين المقدمة والمحور كذلك واضحة فلنر المقطع .. المقطع الوحيد في السورة ويمتد من الآية (10) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (59) وهذا هو: 44/ 10 - 19

44/ 20 - 48

التفسير

44/ 49 - 59 التفسير: فَارْتَقِبْ أي: فانتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي: ظاهر حاله لا يشك أحد في أنّه دخان يَغْشَى النَّاسَ أي: يشملهم ويلبسهم فيقولون: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم، ثم يدعون الله عزّ وجل رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: سنؤمن إن كشفت عنا العذاب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يتذكّرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان عند كشف العذاب؟. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: أنّى لهم الادّكار وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار، من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الآيات والبيّنات من الكتاب المعجز وغيره، فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأنه قد علّمه غيره من البشر ونسبوه إلى الجنون. قال ابن كثير: يقول: كيف لهم بالذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بيّن الرسالة والنذارة ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه. بل كذبوه وقالوا معلم مجنون. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زمانا قليلا إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي: إلى الكفر الذي كنتم فيه، أو إلى العذاب يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى أي: العظمى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم على أفعالهم. وهل الدخان والبطشة مضتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فالبطشة ما أصاب المشركين يوم بدر، والدخان ما أصابهم في سني القحط والجوع، حتى إن أحدهم كان ينظر إلى السماء

كلمة في السياق: حول إثبات جحود الكافرين المستمر حتى بعد ظهور أشراط الساعة

فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؟ أو أنهما سيأتيان؟ فيكون الدخان علامة من علامات الساعة، والبطشة الكبرى يوم القيامة؟ قولان للمفسرين على رأس القائلين بالأول ابن مسعود، وعلى رأس القائلين بالثاني ابن عباس، وقد رجّح ابن كثير قول ابن عباس وسننقل تحقيقه في الفوائد. كلمة في السياق: [حول إثبات جحود الكافرين المستمر حتى بعد ظهور أشراط الساعة] أمام الشك الذي عليه الكافرون واللعب الذي هو حالهم وشأنهم ودأبهم أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بالارتقاب، وهو أمر لكل مسلم، أن يرتقب أشراط الساعة والساعة. ومن السياق نفهم أنه حتى أشراط الساعة إذا ظهرت فإن هؤلاء لا يؤمنون بل يعدون بالإيمان. ثم إذا زالت الشدّة ينكصون، مما يشير إلى أن هؤلاء لم يعد منهم ولا فيهم فائدة ولا أمل، فالغفلة عندهم بلغت الغاية، ومن ثم فليس أمام المسلم إلا أن ينتظر عذابهم في الدنيا وفي الآخرة. وبعد أن وضّح الله عزّ وجل هذا فإنه يذكر من نبأ موسى وفرعون وقومهما ممّا يشير إلى وحدة موقف الكافرين في كل عصر، ويبشّر بالعاقبة رسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ أي: قبل هؤلاء الكافرين. قال النسفي: أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطنا. قَوْمَ فِرْعَوْنَ قال ابن كثير: يقول تعالى: ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر. وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على الله وعلى عباده المؤمنين، أو كريم في نفسه، حسيب، نسيب؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا من سراة قومه وكرامهم، والمراد به موسى عليه السلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي: قال موسى لفرعون وقومه: سلّموا إليّ عباد الله وهم بنوا إسرائيل، يقول: أدوهم إليّ وأرسلوهم معي إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ في رسالتي غير متّهم. قال ابن كثير: أي: مأمون على ما أبلغكموه. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي: لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه، أو لا تستكبروا على نبي الله. قال ابن كثير: أي: لا تستكبروا عن اتّباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: بحجة واضحة تدل على أني نبي، وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البيّنات والأدلة القاطعات وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي أن تقتلوني رجما بالحجارة ومعناه: أنّه عائذ بربه، متّكل على أنّه يعصمه منهم ومن كيدهم

[سورة الدخان (44): آية 21]

فهو غير مبال بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل، وفسّر بعضهم الرجم بالشتم، وفسّر ابن كثير الآية بقوله. (أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إليّ بسوء من قول أو فعل) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ قال ابن كثير: أي: لا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. وقال النسفي: (أي: إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن، فتنحوا عني، أو فخلوني كفافا لا لي ولا علي، ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك). قال ابن كثير: فلما طال مقامه صلّى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وأقام حجج الله تعالى عليهم وما زادهم ذلك إلا كفرا وعنادا، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي: فدعا ربه شاكيا قومه. بأن هؤلاء قوم مجرمون فعند ذلك أمره الله تعالى. أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله. فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي: سر بعبادي بني إسرائيل في الليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ دبّر الله أن تتقدّموا ويتّبعكم فرعون وجنوده فينجيكم ويغرقهم وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي: ساكنا قارا على حاله وهيئته، من انتصاب الماء، وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغيّر منه شيئا؛ ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. وقيل الرهو: الفجوة الواسعة: أي: اتركه مفتوحا على حاله منفرجا. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد خروجكم من البحر وقد كان ذلك كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ أي: بساتين وَعُيُونٍ أي: آبار وأنهار وَزُرُوعٍ من كل الأنواع وَمَقامٍ كَرِيمٍ وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة، وفسّر مجاهد وسعيد بن جبير المقام الكريم بالمنابر التي كانوا يخطبون عليها في الناس، أي كثيرا جدا من هذه الأشياء تركوه وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي: متنعمين. قال ابن كثير: أي: عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات، والحكم في البلاد، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة، وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير .. كَذلِكَ أي: الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ غيرهم. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ .. أي: لم ينظروا إلى وقت آخر، ولم يمهلوا. قال ابن كثير: أي: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا، ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم، ولنا عودة في الفوائد على هذا المقام وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ

[سورة الدخان (44): آية 31]

الْعَذابِ الْمُهِينِ أي: الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً أي: مستكبرا جبارا عنيدا مِنَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن كثير: أي: مسرف في أمره، سخيف الرأي على نفسه وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي: بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ أي: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا عَلَى الْعالَمِينَ قال النسفي: على عالمي زمانهم، وقال ابن كثير: على من هم بين ظهريه. وقال قتادة: اختيروا على أهل زمانهم ذلك وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ أي: الحجج والبراهين وخوارق العادات، كفلق البحر وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي: نعمة ظاهرة، أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون. كلمة في السياق: جاءت هذه الآيات كنموذج لفعل الله بالمكذبين، وفعل الله برسله والمؤمنين، وكمثل على أن دأب الكافرين في كل عصر: التكذيب والرفض والشك، مهما كثرت الآيات، وقامت الحجج وفي ذلك تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وبشارة لهم وتعليم لهم بواقع الحال، وبعد هذه الجولة عن السابقين يعود الكلام عن المشركين الذين يواجهون هذه الدعوة وتواجههم. إِنَّ هؤُلاءِ أي: المشركين الكافرين بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ أي: ما هي إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وليس الأمر كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم أن هناك موتة تعقبها حياة، فما ثم إلا الموتة الأولى والحياة الأولى. وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ احتجوا بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا قال ابن كثير: (وهذه حجة باطلة، وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في الدار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها، يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا، ثم قال تعالى متهددا لهم ومتوعدا لهم بأسه الذي لا يردّ، كما حلّ بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبّع (وهم سبأ) حيث أهلكهم الله عزّ وجل، وخرّب بلادهم، وشرّدهم في البلاد، ومزّقهم شذر مذر كما تقدّم ذلك في سورة سبأ .. ). قال تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ الحميري. وسنذكر تحقيق ابن كثير عنه في الفوائد ..

[سورة الدخان (44): آية 38]

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي: كافرين منكرين للبعث. دلّ هذا على أن إنكار المشركين للبعث يستحقون به الهلاك، وفي ذلك إنذار لهم وتحذير. وبعد هذا الإنذار والتحذير يقيم الله عليهم الحجة في هذا الشأن بقوله. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ فعلى مقتضى قولهم أنه لا بعث ولا حساب فإن السموات والأرض وما بينهما خلقت عبثا قال النسفي: (ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للفناء خاصة فيكون لعبا) وتعالى الله عن اللعب والعبث والباطل. قال تعالى: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي: بالجدّ ضدّ اللعب وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنه خلق لذلك، ومن ثم لا يؤمن بالبعث، ولو أنه علم تنزيه الله عن العبث، وعلم أن الله خالق السموات والأرض بالحقّ، لأيقن بالبعث والحساب ولكنّه لا يعلم، وبعد أن قامت الحجة على أن يوم القيامة آت لأن ذلك مقتضى خلق السموات والأرض بالحق، يحدثنا الله عزّ وجل عن هذا اليوم. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ بين المحق والمبطل أي: يوم القيامة. مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي وقت موعدهم كلهم، يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق. فيعذّب الكافرين، ويثيب المؤمنين يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى أي: ولي عَنْ مَوْلًى أي: عن ولي شَيْئاً أي: مهما كان قليلا. قال ابن كثير: أي: لا ينفع قريب قريبا. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصر من الخارج إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله. قال ابن كثير: أي: لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عزّ وجل بخلقه إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي: الغالب على أعدائه الرَّحِيمُ لأوليائه. ثم أخبر تعالى عمّا يعذّب به الكافرين الجاحدين للقائه فقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أي: الآثم في قوله وفعله واعتقاده، وهو الكافر، أي: ليس له طعام غيرها كَالْمُهْلِ أي: كعكر الزيت يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي: الماء الحار الذي انتهى غليانه أي: من حرارتها ورداءتها. خُذُوهُ أي: خذوا هذا الأثيم، والخطاب للملائكة قال ابن كثير: وقد ورد أنه تعالى: إذا قال للزبانية: خذوه ابتدره سبعون ألفا منهم فَاعْتِلُوهُ أي: فقودوه بعنف وغلظة قال ابن كثير: أي: سوقوه سحبا ودفعا في ظهره إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي: وسطها ومعظمها ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ قال ابن كثير: وقد تقدّم أنّ الملك يضربه بمقمعة من حديد فتفتح دماغه، ثم يصب الحميم على رأسه، فينزل في بدنه، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه. أعاذنا الله تعالى من ذلك. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي: قولوا له

[سورة الدخان (44): آية 50]

ذلك على وجه التهكم والتوبيخ. أي: لست بعزيز ولا كريم إِنَّ هذا العذاب أو هذا الأمر هو ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي: تشكّون. وهكذا استقر السياق على هذا المعنى. كلمة في السياق: [حول الصلة بين ما مر من السورة والمحور] رأينا أن مقدمة السورة انتهت بقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ثم جاء المقطع وسار حتى وصل إلى قوله تعالى: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ فتبيّن لنا أن المقطع نقلنا من معنى إلى معنى، حتى أرانا عاقبة الشاكين في نار جهنم. فلنر كيف كان تسلسل المعاني: بدأ المقطع بأمر الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم بالارتقاب لأشراط الساعة، والساعة ليري كيف سيكون حال الكافرين الشاكّين. ثم عرض علينا قصة موسى وفرعون، وفيها مجموعة قضايا، منها استحقاق المكذبين للرسل العذاب الدنيوي، ثم قصّ الله عزّ وجل علينا موقف هؤلاء الشاكين من اليوم الآخر، فأنذرهم وحذرهم باستحقاقهم الهلاك لذلك. ثم أقام عليهم الحجة، ثم حدّثنا عما يكون لهؤلاء الشاكين من عذاب يوم القيامة. وبهذا عرفنا أن علة الشك إنكار اليوم الآخر، وعرفنا أن الشاكين سينزل بهم العذاب قبيل يوم القيامة، وسيعذبون يوم القيامة، وأنهم في شكهم ليس لهم حجة ولا شبهة. هكذا سار السياق فما الصلة بين المحور وسياق المقطع؟ يمكن أن نقدّر الصلة بين المحور وبين ما مرّ معنا من المقطع على الشكل التالي: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ واعلموا أن عاقبة المرتابين كذا وكذا مما مرّ معنا، وأنت أيها الرسول انتظر ماذا سيحل بهم نتيجة شكّهم. وبعد أن حدثنا الله عن عاقبة الكافرين، يحدّثنا الله عزّ وجل عن المتقين المؤمنين الذين لا يشكّون. وإذا تذكرنا محور السورة وقول الله فيها: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ... وتذكّرنا أن ذلك يأتي بعده مباشرة قول الله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. فإننا نستطيع الربط بين الآيات القادمة والمحور وامتداداته.

[سورة الدخان (44): آية 51]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي في الآخرة وهو الجنة، وقد أمنوا فيها من الموت والخروج، ومن كل همّ وحزن، وجزع وتعب ونصب، ومن الشيطان وكيده، وسائر الآفات والمصائب، وسمّي المكان الذي فيه أمن بالأمين. لأنّه لا يخون صاحبه لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقي فيه من المكاره فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم، وشرب الحميم. يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها وَإِسْتَبْرَقٍ وهو ما فيه بريق، ولمعان من الحرير مُتَقابِلِينَ أي: في مجالسهم. وهو أتم للأنس. قال ابن كثير: أي: على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره كَذلِكَ أي: الأمر كذلك وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الحوراء: الشديدة سواد العين، والشديدة بياضها والعيناء: هي الواسعة العين. قال ابن كثير: أي: هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين يَدْعُونَ فِيها أي: يطلبون في الجنة بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ من الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار. قال ابن كثير: أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه، بل يحضر إليهم كلما أرادوا لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي: لا يذوقون في الجنة الموت البتة إلا الموتة الأولى، أي: سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا. قال ابن كثير: ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي: مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلّمهم ونجّاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم فحصل لهم المطلوب، ونجّاهم من المرهوب؛ ولهذا قال عزّ وجل: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: إنما كان هذا بفضله عليهم، وإحسانه إليهم. قال النسفي: تفضل منه لهم؛ لأنّ العبد لا يستحق على الله شيئا. كلمة في السياق: [حول الصلة بين ما مر من السورة وخاتمة السورة] لم يبق عندنا إلا آيتان في السورة هما فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ والملاحظ أن الانتقال تمّ مباشرة من الكلام عن عاقبة المتقين، إلى الكلام عن القرآن الذي بدأت بالكلام عنه مقدمة السورة، واستقرت على وجود الشك في قلوب الكافرين في شأنه، ثمّ سار السياق على التسلسل الذي رأيناه

[سورة الدخان (44): آية 58]

حتى وصلنا إلى هاتين الآيتين: آية تتحدث عن حكمة إنزال القرآن، وآية تكرر الأمر بالارتقاب، ومجئ الآية التي تتحدث عن القرآن بعد تلك الجولة يشير إلى أن الموضوع الرئيسي في السورة هو الكلام عن القرآن، وهذا يؤكد أن محور السورة هو ما ذكرناه إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا .. فلنر تفسير الآيتين الأخيرتين. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي: القرآن قال النسفي: وقد جرى ذكره في أول السورة بِلِسانِكَ قال ابن كثير: أي: إنّما يسّرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: يتعظون. قال ابن كثير: أي: يتفهمون ويعملون، ولما كان مع هذا الوضوح والبيان قد وجد في الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم مسلّيا له وواعدا له بالنصر ومتوعدا لمن كذّبه بالعطب والهلاك فَارْتَقِبْ أي: انتظر إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي: منتظرون ما يحل بك من الدوائر. قال ابن كثير: أي: فسيعملون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتّبعكم من المؤمنين. قال صاحب الظلال: (وهو ختام يلخص جو السورة وظلها. ويتناسق مع بدئها وخط سيرها. فقد بدأت بذكر الكتاب وتنزيله للإنذار والتذكير، وورد في سياقها ما ينتظر المكذبين يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ .. فجاء هذا الختام يذكرهم بنعمة الله في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي الذي يفهمونه ويدركون معانيه. ويخوفهم العاقبة والمصير، في تعبير ملفوف. ولكنه مخيف: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ). كلمة في السياق: [حول الأفكار التي عرضت في السورة] بدأ المقطع بالأمر بالارتقاب، وانتهى بالأمر بالارتقاب كموقف مقابل للشك الذي عليه الكافرون، والذين يستأهلون عليه العذاب في الدنيا والآخرة، بينما أهل الإيمان يستحقون النصرة في الدنيا والآخرة، وقد بيّنت السورة معاني تعمّق الإيمان بالقرآن، وتنفي الشك عنه، وتبيّن عاقبة الشك، وتبيّن الموقف الإيماني المقابل للشك. وفي الكلمة الأخيرة عن السورة زيادة بيان عن سياق السورة فلنذكر بعض الفوائد التي لها علاقة بالسورة.

فوائد حول آيات السورة

فوائد [حول آيات السورة]: 1 - [كلام ابن كثير والألوسي حول آية إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر كما قال عزّ وجل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (القدر: 1) وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة؛ فإن نصّ القرآن أنها في رمضان، والحديث الذي رواه عبد الله ابن صالح عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى» فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص). قال الألوسي: (ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها، أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة، وإجابة الدعوة، وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك، وتقدير الأرزاق، وفصل الأقضية كالآجال وغيرها. (والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها). أقول: بدأ الإنزال المنجم في رمضان كذلك. 2 - [تحقيق ابن كثير لتفسير آيتي الدخان والبطشة الكبرى] ذكرنا أن هناك اتجاهين للمفسرين في أمر الدخان والبطشة الكبرى المذكورين في سورة الدخان. ورأينا أن ابن مسعود يرى أن الدخان قد مر. وأن البطشة الكبرى هي ما كان يوم بدر، وأن ابن عباس يرى أن الدخان لم يأت، وهو من علامات الساعة. وأن البطشة الكبرى هي يوم القيامة. ورأي ابن عباس هو الذي رجحه ابن كثير: فلنر تحقيق ابن كثير. قال عند قوله تعالى فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. (قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق قال: دخلنا المسجد- يعني مسجد الكوفة- عند أبواب كندة فإذا رجل يقصّ على

أصحابه يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ تدرون ماذا الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا. ففزع فقعد وقال: إن الله عزّ وجل قال لنبيكم صلّى الله عليه وسلم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك: إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان. وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى صلّى الله عليه وسلم لهم فسقوا، فنزلت إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عزّ وجل يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ قال: يعني يوم بدر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا- وأن الدخان مضى- جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار ابن جرير. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن الأعرج في قوله عزّ وجل يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ قال: كان يوم فتح مكة، وهذا القول غريب جدا بل منكر. وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عرفة، ونحن نتذاكر الساعة فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس- أو تحشر الناس- تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا» تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه وفي الصحيحين أن

رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لابن صياد: «إني خبأت لك خبأ» قال: هو الدخ؟ فقال صلّى الله عليه وسلم له: «اخسأ فلن تعدو قدرك» قال: وخبأ له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشف على طريقة الكهّان بلسان الجان، وهم يقرظون العبارة، ولهذا قال: هو الدخ يعني الدخان، فعندها عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم مادته، وأنها شيطانية، فقال صلّى الله عليه وسلم «اخسأ فلن تعدو قدرك» ثم روى ابن جرير: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن أول الآيات الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا، والدخان» قال حذيفة رضي الله عنه: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ «يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره» وقال ابن جرير لو صح هذا الحدث لكان فاصلا، وإنما لم أشهد له بالصحة، لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روّادا- أحد رواة الحديث- عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا، قال: فقلت: أقرأته عليه؟ قال: لا. قال: فقلت له، أقرئ عليه وأنت حاضر؟ فقال: لا، فقلت: من أين جئت به؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي اسمعه منا فقرءوه عليّ ثم ذهبوا فحدثوا به عني أو كما قال، وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا فإنه موضوع بهذا السند وروى ابن جرير عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال» رواه الطبراني بإسناد جيد وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يهيج الناس بالدخان، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه». وروى بن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفذ» وروى ابن جرير من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي: المشوي على الرضف، وروى ابن جرير عن عبد الله ابن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال:

ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه، وإسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردوها بما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي: بيّن واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسره به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد وهكذا قوله تعالى يَغْشَى النَّاسَ أي: يتغشاهم ويعميهم، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه يَغْشَى النَّاسَ وقوله تعالى هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا كقوله عزّ وجل يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا* هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (الطور: 13، 14) أو يقول بعضهم لبعض ذلك، وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنعام: 27) وكذا قوله جل وعلا: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (إبراهيم: 44) وهكذا قال جل وعلا هاهنا: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بيّن الرسالة والنذارة ومع هذا تولّوا عنه وما وافقوه بل كذبوه، وقالوا معلّم مجنون، وهذا كقوله جلت عظمته يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (الفجر: 23) الآية كقوله عزّ وجل وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ* وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (سبأ: 51، 52) إلى آخر السورة). وقال ابن كثير في قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ: (فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وهو محتمل، والظاهر أن ذلك

3 - كلام ابن كثير حول آية فما بكت عليهم السماء والأرض ...

يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا، روى ابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول هي يوم القيامة، وهذا إسناد صحيح عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم). 3 - [كلام ابن كثير حول آية فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ... ] بمناسبة قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه» وتلا هذه الآية فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم، ورواه ابن أبي حاتم، وروى ابن جرير عن شريح ابن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ثم قال «إنهما لا يبكيان على الكافر» وروى ابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له: لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك، إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله في السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه ففقده بكي عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر الله عزّ وجل فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى الله عزّ وجل منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض» وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا. وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد

4 - كلام ابن كثير بمناسبة آية أهم خير أم قوم تبع

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يقال: تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد، وقال مجاهد أيضا: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا قال: فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال: أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل. وقال قتادة كانوا [أي: قوم فرعون] أهون على الله عزّ وجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض). 4 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ] بمناسبة قوله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ قال ابن كثير: (قال تعالى متهددا لهم ومتوعدا ومنذرا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبّع وهم سبأ، حيث أهلكهم الله عزّ وجل، وخرّب بلادهم وشرّدهم في البلاد، وفرقهم شذر مذر، كما تقدم ذلك في سورة سبأ، وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد، وكذلك هاهنا شبههم بأولئك، وقد كانوا عربا من قحطان، كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير- وهم سبأ- كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافرا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس. ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه، وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مرّ بالمدينة النبوية- وذلك في أيام الجاهلية- فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار، وجعلوا يقرونه بالليل، فاستحيا منهم وكفّ عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة، فنهياه عن ذلك أيضا وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملإ والوصائل والحبر، ثم كر راجعا إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهوّد معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام، فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن، وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة، وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة، أورد فيها أشياء

كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن، ثم ساق من طريق عبد الرزاق ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ ولا أدري، أتبّع كان لعينا أم لا؟ ولا أدري ذو القرنين نبيا كان أم ملكا؟» وقال غيره: «عزير أكان نبيا أم لا» وكذا رواه ابن أبي حاتم والدارقطني. تفرد به عبد الرزاق. ثم روى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «عزير لا أدري أنبيا كان أم لا؟ ولا أدري ألعين تبعا أم لا؟» ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكأنه- والله أعلم- كان كافرا ثم أسلم، وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملإ والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه ثم عاد إلى اليمن. وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار، وإليه المرجع في ذلك كله وإلى عبد الله بن سلام أيضا، وهو أثبت وأكبر وأعلم، وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبّع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبّعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى، كما ذكره في سورة سبأ. وقال سعيد بن جبير: كسا تبّع الكعبة، وكان سعيد ينهى عن سبه، وتبع هذا هو الأوسط واسمه أسعد أبو كريب بن ملكيكورب اليماني، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستة وعشرين سنة، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بنحو سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي آخر الزمان اسمه أحمد، قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في داره وهو: شهدت على أحمد أنه … رسول من الله باري النسم فلو مدّ عمري إلى عمره … لكنت وزيرا له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه … وفرجت عن صدره كل غم

5 - كلام ابن كثير بمناسبة آية ذق إنك أنت العزيز الكريم

وذكر ابن أبي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين وعند رأسيهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حيي وليس، وروي حي وتماضر، ابنتي تبّع ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وقد ذكرنا في سورة سبأ شعر سبأ في ذلك أيضا. قال قتادة: ذكر لنا أن كعبا كان يقول في تبّع: نعت الرجل الصالح ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، قال: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وروى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة يعني عمر بن جابر الحضرمي قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبوا تبّعا فإنه قد كان أسلم» ورواه الإمام أحمد في مسنده. وروى الطبراني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تسبوا تبّعا فإنه قد أسلم». وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدري تبع نبيا كان أم غير نبي؟» وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر: «لا أدري تبّع كان لعينا أم لا؟» فالله أعلم. ورواه ابن عساكر من طريق .. عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا. وروى عبد الرزاق: عن عطاء بن أبي رباح: لا تسبوا تبعا فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن سبه، والله تعالى أعلم). 5 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ] بمناسبة قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ قال ابن كثير: (وقد قال الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا جهل- لعنه الله- فقال: «إن الله تعالى أمرني أن أقول لك: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قال: فنزع ثوبه من يده وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، قال فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيّره بكلمته وأنزل ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. 6 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام. وروى عبد الرزاق عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا

7 - كلام ابن كثير بمناسبة آية فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم

تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا». رواه مسلم وروى أبو بكر ابن أبي داود السجستاني ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس، ويحيا فيها فلا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» وروى أبو القاسم الطبراني. عن جابر رضي الله عنه قال: سئل نبي الله صلّى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنة؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون» وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون»، وروى أبو بكر البزار في مسنده عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله هل ينام أهل الجنة؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لا، النوم أخو الموت» ثم قال: لا نعلم أحدا أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي، هكذا قال، وقد تقدم خلاف ذلك والله أعلم). 7 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] بمناسبة قوله تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قال ابن كثير: (أي: إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». 8 - [كلام النسفي بمناسبة آية إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ] عند قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ قال النسفي: (لأن في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والدقائق ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها .. ) وإنما نقلنا كلمة النسفي هنا لأن كلمته ذات دلالة في أن الترجمة للقرآن مستحيلة، وإنما تترجم معاني القرآن من خلال فهم المترجم، فكل ترجمة للقرآن إنما هي ترجمة لفهم المترجم لتفسير معاني القرآن. وشتان بين أي ترجمة مهما كانت وبين الأصل. كلمة أخيرة في سورة الدخان ومجموعتها: فصّلت سورة الدخان في المحور الذي فصّلت فيه سورة الزخرف، إلا أن كلا منهما فصّلت على طريقة خاصة بها:

فسورة الدخان دلّلت على أن هذا القرآن لا ريب فيه من خلال التعريف على الله وصفاته وأفعاله، إذ المعرفة الكاملة لهذا تدل حتما على أن القرآن لا ريب فيه، وإذ كانت المسألة كذلك فإن المرتابين في هذا القرآن ناس مرضى مرضا لا أمل في شفائه. ومع أن المسألة كذلك فقد نوقش هؤلاء المرتابون، أما سورة الزخرف فقد دلّلت على أن هذا القرآن لا ريب فيه، من خلال ذكر خصائص هذا القرآن، وذكر مضمونه، وأمّا سورة الشورى فقد فصّلت في الآيات الأولى من سورة البقرة، والتي منها قوله تعالى الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقد أكدت أن القرآن لا ريب فيه من خلال المضمون المشترك لرسالات الله، ومن خلال ظهور آثار أسماء الله عزّ وجل فيه، وهذا مظهر من مظاهر التكامل بين سور المجموعة الرابعة من قسم المثاني. ذكرت سورة الشورى أن مضمون رسالات الله هو إقامة دين الله، وعدم التفرق فيه، وذكرت خصائص الجماعة التي تستطيع إقامة دين الله والاجتماع عليه، وفي الزخرف رأينا خصائص هذا القرآن الذي يعرض دين الله ومضمونه الأعلى الحكيم، وكونه يشرّف حامليه، وأن فيه علم الساعة التي هي أعظم حدث يمرّ على هذا العالم. وفي ذلك تربية لحملة الإسلام أن يقيموه ولا يتفرقوا فيه، مع الاعتزاز به، وعدم الالتفات عنه، وعدم الاغترار بحال الكافرين، وما هم عليه. وتأتي سورة الدخان لتبين للمسلم الموقف السليم أمام شك الشاكين: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ. فهذا مظهر ثان من مظاهر التكامل بين سور المجموعة الرابعة. ومن مظاهر التكامل في السور الثلاث أن كلا من السور الثلاث ذكرت بعض خصائص القرآن، فسورة الشورى تذكر من خصائص القرآن: أنه منذر، وأنه الصيغة الوحيدة للحق والعدل، وأنه روح يحيا به الإنسان. وسورة الزخرف تذكر من خصائص القرآن: أنه عليّ، وأنه حكيم، وأنه ذكر، وأنه علم للساعة. وسورة الدخان تذكر من خصائص القرآن أنه مظهر من مظاهر رحمة الله عزّ وجل، وهكذا نجد المجموعة تتكامل مع بعضها فتؤدي بمجموعها خدمة متكاملة في نواح متعددة. وما ذكرناه نموذج على التكامل بين المجموعة وإلا فالأمر أوسع مما ذكرناه. ***

المجموعة الخامسة من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمى بقسم المثاني وتشمل سور: الجاثية، والأحقاف، ومحمد، والفتح، والحجرات، وق

المجموعة الخامسة من القسم الثالث من أقسام القرآن المسمّى بقسم المثاني وتشمل سور: الجاثية، والأحقاف، ومحمد، والفتح، والحجرات، وق

كلمة في المجموعة الخامسة من قسم المثاني

كلمة في المجموعة الخامسة من قسم المثاني تتألف هذه المجموعة من ست سور، وبها ينتهي قسم المثاني، وهي تفصّل- كالعادة- في محاور من سورة البقرة، ابتداء من الآيات الأولى منها، إلى آيات تأتي بعد ذلك، ونستطيع أن نقول إن المجموعتين الثالثة والرابعة هما بمثابة أساس ومقدمات لهذه المجموعة، وهذا يعطي هذه المجموعة أهمية خاصة، لأن فيها كلاما كثيرا عن الحركة الداخلية والخارجية للأمة الإسلامية. فلنبدأ عرض سور المجموعة لنتحدث عند كل سورة منها عن محورها وصلاتها بما قبلها وبما بعدها، وعن محلّها في مجموعتها. ***

سورة الجاثية

سورة الجاثية وهي السّورة الخامسة والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الأولى من المجموعة الخامسة من قسم المثاني وآياتها سبع وثلاثون آية وهي مكيّة وهي السّورة السادسة من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

بين يدي السورة: تقديم صاحب الظلال والألوسي للسورة

بين يدي السورة: [تقديم صاحب الظلال والألوسي للسورة] قال صاحب الظلال: (هذه السورة المكية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية. وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتباعهم للهوى اتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان. كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة، الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة، ويذكرهم عذابه، ويصور لهم ثوابه، ويقرر لهم سننه، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود. ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة، نرى فريقا من الناس مصرّا على الضلالة، مكابرا في الحق، شديد العناد، سيئ الأدب في حق الله وحق كلامه، ترسمه هذه الآيات؛ وتواجهه بما تستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم). وقال الألوسي في تقديمه لسورة الجاثية: (وتسمى سورة الشريعة، وسورة الدهر، كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها. وهي مكية. قال ابن عطية: بلا خلاف، وذكر الماوردي: إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي، وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في حم هل هي آية مستقلة أو لا؟ ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح). كلمة في سورة الجاثية ومحورها: نلاحظ من خلال التأمّل في سورة الجاثية أن محورها هو قوله تعالى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. تبدأ سورة الجاثية بمقدمة هي: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

ثم تأتي مجموعة تستمر حتى نهاية الآية (11) إذ تستقر على قوله تعالى: هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ. ثم تأتي مجموعة ثانية تستمر حتى نهاية الآية (20) إذ تستقر على قوله تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. ويمكن أن تعتبر هاتان المجموعتان هما المقطع الأول في السورة، ثم تسير السورة في المناقشة والعرض، وبيان مواقف الكافرين وآرائهم وأحوالهم وتفنيدها، والتذكير باليوم الآخر وما يكون فيه، ويستغرق ذلك مجموعتين: مجموعة تبدأ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ وتستمر حتى نهاية الآية (27). إذ تستقر على قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ. ومجموعة تبدأ بقوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتستمر حتى تستقر على قوله تعالى. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الآية (37). وهاتان المجموعتان تشكلان المقطع الثاني في السورة. ونلاحظ التشابه بين الآيتين اللتين استقرت عليهما المجموعتان اللتان تشكلان المقطع الأول، كما نلاحظ التشابه بين الآيتين اللتين استقرت عليهما المجموعتان اللتان تشكلان المقطع الثاني. ومن رؤيتنا للآيتين اللتين استقرت عليهما مجموعتا المقطع الأول. هذا أي: القرآن هُدىً، هذا أي: القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ندرك صلة السورة بالآية الأولى من مقدمة سورة البقرة .. الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... ومن رؤيتنا لقوله تعالى في المقطع الثاني. أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ .. الآية (23) ندرك صلة السورة بقوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .. وندرك سببا جديدا من أسباب الطبع

على القلوب كما سنرى. ومن ثم قلنا إن سورة الجاثية محورها الآيات السبع الأولى من سورة البقرة. وهاهنا نستطيع أن نسجّل ملاحظة هي: إن مقدمة سورة البقرة قد فصّلت فيها حتى الآن سور كثيرة: آل عمران .. ويونس .. والحجر .. وطه .. والأنبياء .. والعنكبوت. والروم. ولقمان .. والسجدة .. والصافات .. وص .. والزمر .. وغافر .. والشورى .. والجاثية .. ولكنّ كلا من هذه السور فصّل بشكل يكمّل تفصيل الأخرى وإن كان الجميع يفصّلون في المقدمة، وقد يكون تركيز سورة من هذه السور على آية من المقدمة، فتكون هي محورها، وقد تفصّل سورتان في آية واحدة ولكنّ كلا منهما تفصل في حيثية معينة من المحور، وهكذا يتنوّع التفصيل: تجد السورة التي تفصّل في الآية الأولى من مقدمة سورة البقرة كسورة يونس عليه السلام، وتجد السورة التي تفصّل في الآيات الخمسة الأولى من المقدمة كسورة آل عمران. ونجد السورة التي تفصّل في الآيتين التاليتين كالأنبياء من حيثية معينة، وتجد السورة التي تفصل في نفس الآيتين ولكن من حيثية أخرى كسورة ص وسورة غافر، وتجد السورة التي تفصل في الآيات السبع كالجاثية. وهكذا تجد الأنواع المتعددة للتفصيل لمقدمة سورة البقرة أو لبعضها بشكل عجيب. فإذا انتقلت إلى الآيات التي تأتي بعد المقدمة مباشرة تجد الشئ نفسه. فتجد سورة النساء تفصل في كلمة التقوى، وتجد سورة هود تفصل في كلمة العبادة، وتجد سورة الحج تفصّل في التقوى والعبادة والتوحيد، وتجد السور الثلاث تفصّل في آيتين فقط مما يأتي بعد المقدمة، ثم تجد سورة الأحزاب تفصّل في الآيات السبع التي تأتي بعد المقدمة من سورة البقرة. وهكذا تجد إبداعا في التفصيل والعرض لا يخطر على بال بشر. فكما أن مرجع الأشياء كلها في هذا الكون- وما أكثرها- إلى حوالي مائة عنصر منها تتركب مجموعة الأشياء التي يبدو أن كلا منها له ذاتيته المستقلة. وكما أن مجموع العناصر مرجعه إلى شيئين اثنين: إلكترونات وبروتونات، تتكاثر في الذرة الواحدة فيحدث عنصر جديد. فإنك تجد في القرآن الشئ نفسه، إذ تجد أن مجموعة سور القرآن تفصّل في معان موجودة في سورة واحدة، ولكنه تفصيل مدهش عجيب يتركب من هذا كله (114) سورة، نستطيع أن نستخرج من هذه المائة والأربع عشرة

سورة ملايين المواضيع الكاملة المتكاملة المبينة لأي قضية من قضايا الوجود وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ حتى إنك لتجد الجواب عن ملايين المسائل في التشريع والسلوك والاعتقاد، كلها في هذا القرآن وهذا بعض ما فيه. فسورة البقرة تشبه الالكترونات والبروتونات. وسور القرآن تشبه العناصر التي تتألف منها المادة. والمواضيع التي تنبثق عنها تشبه مركبات هذا الكون التي لا تتناهى. وهذا مظهر من مظاهر الوحدة التي تدل على الواحد. فكما سجلنا في كتابنا (الله جل جلاله) في ظاهرة الوحدة كيف أن في هذا الكون ما يدل على أن صانعه واحد، فإننا نسجل هنا كيف أن القرآن تظهر فيه هذه الوحدة، لكن الكون مخلوق، وهذا القرآن كلام الله .. فما يصدر عن الله تظهر فيه آثار صفاته وأسمائه، ومن ذلك وحدانيته، ومن خلال التأمل في القرآن الذي هو كلام الله الأزلي القديم، ومن خلال التأمّل في هذا الكون الذي هو خلق الله عزّ وجل ندرك ظهور الله لخلقه، وندرك بعض عظمة ربنا، وندرك بعض عظمة هذا القرآن، إنّ هذا القرآن أعظم من هذا الكون، لأن الكون خلقه والقرآن كلماته. نقول هذا بمناسبة الكلام عن سورة الجاثية؛ لأن المجموعتين الأوليين في سورة الجاثية تحدثاننا عن الكون لتستقر كل منهما على ذكر خاصية من خواص هذا القرآن، مما يشير إلى أن الله عزّ وجل أراد أن يلفت نظرنا إلى الصلة بين آياته في الكون، وآياته في القرآن. فلنر السورة. ***

المقدمة وتشمل الآيتين الأوليين من السورة وهاتان هما

المقدمة وتشمل الآيتين الأوليين من السورة وهاتان هما: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 45/ 1 - 2 التفسير: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ في انتقامه الْحَكِيمِ في تدبيره وأقواله وأفعاله. كلمة في السياق: [حول صلة المقدمة بسورة البقرة وبزمرة آل (حم)] هذه مقدمة السورة ونلاحظ أنها هي نفس مقدمة سورة الزمر مع زيادة حم، وهي تشعرنا بموضوع السورة، كما تشعرنا بأنها مظهر اسمي الله العزيز والحكيم من خلال عرض معانيها، فالله عزّ وجل له العزة وله الحكمة، وهذا القرآن مجلى أسمائه كلها. ومن ذلك: اسماه العزيز الحكيم، وهذه السورة مجلى لظهور هذين الاسمين بشكل كامل، ومن مظاهر عزّته أنه كلّف، وأنّه يحاسب، ومن مظاهر حكمته أنه خلق الكون على هذا الكمال، وأنزل القرآن على مثل هذا الكمال، فهو جلّ جلاله متصف بكمال العزة، ومتصف بكمال الحكمة، وسنرى في السورة هذا المعنى واضحا، وإذا كانت السورة تفصل في الآيات السبع الأولى لسورة البقرة التي بدايتها الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فإن بداية السورة يظهر فيها منذ البداية صلتها بهذا التفصيل، ولننتقل إلى المجموعة الأولى من المقطع الأول ..

المقطع الأول من السورة وهو الآيات (3 - 20)

[المقطع الأول من السورة وهو الآيات (3 - 20)] المجموعة الأولى من المقطع الأول وتمتد من الآية (3) إلى نهاية الآية (11) وهذه هي: 45/ 3 - 11 التفسير: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ أي: لدلالات على وجود الله وصفاته وأسمائه وأفعاله لِلْمُؤْمِنِينَ أما غير المؤمنين فإنهم في عمى عن رؤية الآيات. حددت هذه الآية أن المؤمنين وحدهم هم الذين يرون آيات الله في السموات والأرض، أو في خلق السموات والأرض، ثم قال تعالى. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُ

[سورة الجاثية (45): آية 5]

أي: ينشر ويخلق مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ في كتابنا (الله جل جلاله) ذكرنا كيف أن أول الظواهر التي تدل على وجود الله ظاهرة حدوث الكون. وذكرنا هناك من الأدلة العقلية والعلمية على ذلك ما يقطع دابر الشك. وذكرنا في الكتاب جملة من الظواهر، منها ظاهرة الحياة، ودلّلنا هناك على أن هذه الظاهرة المتمثلة في الإنسان وبقية الأحياء تدل على الله دلالة جازمة قاطعة، فليراجع الكتاب، وقد لفتت السورة النظر إلى ظاهرة الحدوث، ثم ثنّت بذكر ظاهرة الحياة، وبيّنت أن ظاهرة الحدوث تدرك بمجرد الإيمان، إلا أن ظاهرة الحياة تحتاج إلى يقين ثم قال تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ أي: من السحاب مِنْ رِزْقٍ أي: من مطر وسمّي المطر بالرزق لأنه سببه فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شئ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ قال ابن كثير: (أي: جنوبا وشمالا ودبورا وصبا، برية وبحرية، ليلية ونهارية، ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم) آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دلّ ذلك على أن من كان له عقل عرف في اختلاف الليل والنهار، وإنزال المطر وتصريف الرياح آيات تدل على الله ووجوده وأسمائه وصفاته. وقد أشارت الآية إلى معان من الحكمة يستدل بها ذو العقل على الله وأسمائه وصفاته ووجوده. وقد لاحظنا أن الآية الأخيرة ذكرت العقل، والتي قبلها ذكرت اليقين، والأولى ذكرت الإيمان، ونأخذ من ذلك أن هناك آيات في الكون تدرك بمجرد العقل يعبر بها الإنسان إلى الله، وآيات لا بد لإحساس القلب فيها من يقين، وآيات لا بد لإحساس القلب فيها من إيمان، ثم قال تعالى تِلْكَ قال النسفي: إشارة إلى الآيات المتقدمة، وقال ابن كثير: يعني: القرآن بما فيه من الحجج والبينات. أقول: الإشارة ترجع إلى نوعي الآيات الكونية والقرآنية بآن واحد. فههنا تتحد الآية القرآنية بالآية الكونية آياتُ اللَّهِ أي: دلالاته وحججه في الكون والقرآن. نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ قال ابن كثير: أي: متضمنة الحق من الحق فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: فإذا كانوا لا يؤمنون بالله ولا بآياته، ولا ينقادون لها، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون، وإذ تبين أنّ هؤلاء الذين لا يؤمنون لا يمنعهم من الإيمان شبهة ولا حجة- بل الحجج كلها قائمة عليهم- فإن الله عزّ وجل يقول مهددا لهم وواصفا إياهم: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أي: كذاب أَثِيمٍ أي: مبالغ في اقتراف الآثام. يَسْمَعُ هذا الكذاب الأثيم آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ أي: تقرأ ثُمَّ يُصِرُّ على

[سورة الجاثية (45): آية 9]

كفره وجحوده استكبارا وعنادا، ومن ثم قال تعالى: مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي: كأنه ما سمعها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابا أليما موجعا جزاء على استكباره عن الإيمان بالآيات، والإذعان لما تنطق به عن الحق، مزدريا لها، معجبا بما عنده وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أي: وإذا بلغه شئ من آياتنا سخر منه، قال ابن كثير: أي: إذا حفظ شيئا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي: مذل في مقابلة ما استهانوا بالقرآن واستهزءوا به. دلّ ذلك على أن المتصفين بالإثم والكذب، والمعرضين عن آيات الله، والمستهزئين بها هم الذين لا يؤمنون، فليس كفرهم أثرا عن موقف عقلي أو علمي، بل كفرهم أثر عن اتصافهم بأمراض متراكمة تحول بينهم وبين الإيمان، ويستحقون بذلك العذاب، وقد فسّر الله عزّ وجلّ العذاب الحاصل لهؤلاء يوم المعاد فقال: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي: من قدامهم جهنم قال ابن كثير: أي: كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من الأموال والأولاد شَيْئاً أي: من عذاب الله وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان والأنداد أَوْلِياءَ أي: آلهة ونصراء وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في جهنم. ثم قال تعالى: هذا هُدىً قال ابن كثير: يعني: القرآن وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي: بالقرآن لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ هو أشدّ العذاب أَلِيمٌ أي: مؤلم. قال صاحب الظلال في الآية الأخيرة: (إن حقيقة هذا القرآن أنه هدى. هدى خالص مصفى. هدى ممحّض لا يشوبه ضلال. فالذي يكفر بعد ذلك بالآيات- وهذه حقيقتها- يستحق ألم العذاب الذي يمثله توكيد معنى الشدة والإيلام. فالرجز هو العذاب الشديد. والعذاب الذي يهددون به هو عذاب من رجز أليم .. تكرار بعد تكرار وتوكيد بعد توكيد. يليق بمن يكفر بالهدى الخالص الممحض الصريح). وبهذا انتهت المجموعة الأولى من المقطع الأول. كلمة في السياق: [حول دور القرآن في الهداية وتوضيح الصلة بين السورة والمحور] 1 - في الآيات الأولى من المجموعة أرانا الله عزّ وجل مظاهر حكمته. وفي الآيات الأخيرة التي فيها وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أرانا الله مظاهر عزته، وفي ذلك تأكيد لما ذكرناه من أن القرآن مجلى أسماء الله كلها. وهذه السورة المصدّرة بذكر اسمين من أسمائه عزّ

وجل فيها مجلى لظهور هذين الاسمين بشكل كامل. 2 - بعد أن أرانا الله عزّ وجلّ مظاهر من آياته الكونية وآياته القرآنية، وبيّن أنّ سبب الكفر هو الأمراض القلبية والسلوكية، ذكر صفة من صفات كتابه- وهو كونه هُدىً- وبين عاقبة الكافرين به. 3 - وصف الله عزّ وجلّ كتابه بأنه هدى بعد أن دلّل على ذاته وصفاته وأسمائه في المجموعة، مما يشير إلى أن أظهر ما في القرآن من هداية هو دلالته على الله وصفاته وأسمائه. 4 - رأينا أن الكذب والإثم والكبر هي الأمراض الصارفة للإنسان عن الهداية، ومن ثم فإنّ تحرر الإنسان منها هو البداية الصحيحة للاهتداء بكتاب الله. 5 - لاحظ الصلة بين قوله تعالى: هذا هُدىً وبين قوله تعالى في المحور: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وبين قوله تعالى في السورة: لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وبين قوله تعالى في المحور: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ... وبين قوله تعالى في السورة: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ .. ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وبين قوله تعالى في المحور: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فالصلة بين المجموعة وبين محور السورة واضحة، وتفصيل السورة للمحور واضح. فالسورة فصلت في الأمراض التي تسبب ختم القلب، وفصّلت في التدليل على أن هذا القرآن هدى، وفصّلت في الطريق إلى الاهتداء وشروطه من عقل ويقين وإيمان. ولننتقل الآن إلى المجموعة الثانية من المقطع الأول، وهي تشبه المجموعة الأولى من حيث إنها تبدأ بجولة في هذا الكون، ثم تستقر على الكلام عن القرآن هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ...

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (12) إلى نهاية الآية (20) وهذه هي

المجموعة الثانية من المقطع الأول وتمتد من الآية (12) إلى نهاية الآية (20) وهذه هي: 45/ 12 - 20 التفسير: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي: السفن فِيهِ بِأَمْرِهِ أي: بإذنه وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في المتاجر والمكاسب، وبالغوص عن اللؤلؤ

[سورة الجاثية (45): آية 13]

والمرجان، واستخراج اللحم الطري وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية وغير ذلك. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: من الكواكب والشموس والأقمار، والجبال والبحار والأنهار وجميع ما تنتفعون به جَمِيعاً مِنْهُ قال ابن كثير: أي: الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه. أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك. قال النسفي: أي سخّر هذه الأشياء كائنة منه أي: حاصلة من عنده إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي: لدلالات على الله وصفاته وأسمائه لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ دلّ هذا على أن هذا النوع من الآيات يعرفه الإنسان بمجرد الفكر وفي كتابنا (الله جل جلاله) تحدثنا عن ظاهرة العناية في هذا الكون، إذ إن كل ما فيه وجد بشكل ما لصالح الإنسان، فمن تفكر في هذا المعنى آمن وشكر. وقد ذكرت هاتان الآيتان ظاهرة العناية، وإذا كان استيعاب هذا المعنى يقتضي شكرا وإيمانا بالله واليوم الآخر بآن واحد، فإن هذا لم يخلق عبثا، فإن الآيتين الآتيتين تتحدثان عما ينبغي أن يقابل به المؤمنون الكافرين وعن سنة الله في الحساب. قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي: لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه، أو للذين لا يؤمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم الفوز فيها، قل للمؤمنين أن يعفوا عن هؤلاء ويصفحوا. قال ابن كثير: (وكان هذا في ابتداء الإسلام، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين، وأهل الكتاب، ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثمّ لمّا أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد) ثم بيّن الله عزّ وجل الحكمة في هذا الأمر فقال: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال ابن كثير: (أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عزّ وجل يجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة) وقال النسفي: هذا تعليل الأمر بالمغفرة، أي: إنما أمروا بأن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة، وتنكير قَوْماً على المدح لهم، وكأنه قيل: ليجزي أيّما قوم قوما مخصوصين بصبرهم على أذى أعدائهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من الإحسان. هكذا فسّرها النسفي. وقال ابن كثير: أي: إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عزّ وجل يجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ولهذا قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي: لها الثواب وعليها العقاب ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فيجازيكم. قال ابن كثير: أي: تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه،

[سورة الجاثية (45): آية 16]

فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها، وإذ قرر الله عزّ وجل اقتضاء النعمة للشكر، واقتضاء الشكر والكفر للحساب والعقاب، وبعد أن أمر المؤمنين بالصفح عن الكافرين، وهذا في سياق إنزال الكتاب، فمن ثمّ يحدثنا الله عزّ وجل عن أن هذا الإنزال على محمد صلّى الله عليه وسلم ليس بدعا، وما تقابل به هذه الشريعة ليس جديدا، وما يحدث من اختلاف عليها ليس غريبا قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي: أي: التوراة وَالْحُكْمَ أي: الحكمة والفقه، أو فصل الخصومات بين الناس. وَالنُّبُوَّةَ فكان الأنبياء فيهم كثيرين وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي: مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي: على عالمي زمانهم وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ أي: آيات ومعجزات مِنَ الْأَمْرِ أي: من أمر الدين فَمَا اخْتَلَفُوا أي: فما وقع الخلاف بينهم في الدين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: إلا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم، وإنّما اختلفوا لبغي حدث بينهم، أي: لعداوة هي أثر عن ظلم وحسد بينهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ قال ابن كثير: أي: سيفصل الله بينهم بحكمه العدل، وهذا فيه تحذير لهذه الأمّة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم، ولهذا قال جل وعلا: ثُمَّ جَعَلْناكَ بعد اختلاف أهل الكتاب عَلى شَرِيعَةٍ أي: على طريقة ومنهاج مِنَ الْأَمْرِ أي: من أمر الدين فَاتَّبِعْها أي: فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج والدلائل وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال ودينهم المبني على هوى وبدعة إِنَّهُمْ أي: إن أهل الهوى والجهل لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: من العذاب وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ للمشاركة فيما بينهم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ وهم موالوه. قال النسفي: (وما أبين الفضل بين الولايتين) أي: ولاية الظالمين بعضهم لبعض، وولاية الله للمتقين، فكن أيها المسلم تقيا لتكون لله وليا، قال تعالى هذا أي: القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي: عيونا لقلوبهم ترى فيها الأشياء على حقيقتها. قال النسفي: (جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحا وحياة) ثم قال تعالى مكملا الحديث عن كتابه: وَهُدىً أي: من الضلال وَرَحْمَةٌ من العذاب لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: لمن آمن وأيقن. قال صاحب الظلال في الآية الأخيرة: (ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة. فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن

كلمة في المجموعة الثانية ومقطعها: حول أهمية القرآن للإنسان بعامة ولهذه الأمة بخاصة

الأمور. وهو بذاته هدى. وهو بذاته رحمة .. ولكن هذا كله يتوقف على اليقين. يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك، ولا يخالطها قلق. ولا تتسرب إليها ريبة. وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد. وعندئذ يبدو له الطريق واضحا، والأفق منيرا. والغاية محددة، والنهج مستقيما. وعندئذ يصبح هذا القرآن له نورا وهدى ورحمة بهذا اليقين .. ) وبهذا انتهت المجموعة الثانية والأخيرة من المقطع الأول. كلمة في المجموعة الثانية ومقطعها: [حول أهمية القرآن للإنسان بعامة ولهذه الأمة بخاصة] 1 - جاء قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها بعد الكلام عن موقف بني إسرائيل من شريعتهم. ثم جاء وصف القرآن بأنه بصائر وهدى ورحمة بعد ذلك، مما يشير إلى أن اتباع القرآن هو الواجب، وأن في هذا الاتباع الرؤية الصحيحة للأشياء، وأن فيه الرحمة والهداية. 2 - جاء قوله تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ .. بعد ذكر اختلافات بني إسرائيل، مما يشير إلى أن هذه الأمة إذا اختلفت فمعتصمها كتاب الله؛ فإنه الدليل وفيه الرحمة. 3 - بدأت المجموعة بذكر ظاهرة العناية وبنت عليها، ثم ذكرت ما أنزل الله على بني إسرائيل، وكيف كان موقفهم منه، ثم ذكرت ما أنزله الله على هذه الأمة، وألزمت به، ثم جاء وصف القرآن بما رأيناه، مما يشير إلى أن القرآن هو الذي يعطينا الرؤية الواضحة في محل الإنسان في الكون، وفي كل ما يختلف فيه الناس، وفي كل ما ينبغي فعله، وأن فيه الهدى في ذلك كله، وأن فيه الرحمة لمن اتصف بصفة اليقين. 4 - في محور السورة من سورة البقرة نجد قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .... وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وهاهنا نجد قوله تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالصلة بين الآية التي استقر عليها سياق المجموعة الثانية من السورة وبين المحور واضحة، فالقرآن بصيرة وهدى ورحمة لمن اتصف باليقين في أمر الآخرة، وغيرها من أركان الإيمان. 5 - عرضت علينا المجموعة مظاهر من الحكمة، ومظاهر من العزة، فمن مظاهر

المقطع الثاني من سورة الجاثية ويمتد من الآية (21) إلى نهاية الآية (37) أي: إلى نهاية السورة، وهذا هو

الحكمة: تسخير الله الكون والبحر للإنسان. ومن مظاهر العزة: مجازاة الإنسان، والفصل بين المختلفين في الشريعة، والمطالبة باتباع الشريعة، وتولي الله لأهل التقوى، وهذا يذكرنا بما قلناه من قبل أنّ السورة مظهر لا سمي الله العزيز الحكيم، اللذين بدأت بهما السورة. 6 - وهكذا نجد المقطع في مجموعتيه عمّق موضوع كون القرآن هدى، وذكر صفات من يهتدي به، وشروط هذه الهداية، وبيّن طبيعة الذين لا يهتدون. إنها طبيعة آثمة كاذبة مستكبرة باغية جاهلة متّبعة للهوى، أما الطبيعة المهتدية فمن خصائصها الإيمان، والعقل، والفكر، واليقين، والاتباع، والصدق، والطاعة، والإنصاف، والعلم. ومن ثم يأتي المقطع الثاني مبتدئا بموازنة بين أهل الإيمان والعمل الصالح، وبين أهل الإثم. وكنا ذكرنا أن المقطع الثاني يتألف من مجموعتين. إلا أنه لتداخل معاني المجموعتين تعرض المقطع كله عرضا واحدا فلنره: المقطع الثاني من سورة الجاثية ويمتد من الآية (21) إلى نهاية الآية (37) أي: إلى نهاية السورة، وهذا هو: 45/ 21 - 23

45/ 24 - 37

التفسير

التفسير: أَمْ حَسِبَ أي: بل أحسب الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أي: اكتسبوا المعاصي والكفر أَنْ نَجْعَلَهُمْ أي: أن نصيّرهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ أي: نساويهم بهم في الدنيا والآخرة ساءَ ما يَحْكُمُونَ قال ابن كثير. أي: ساء ما ظنوا بنا، وبعد لنا أن نساوي بين الأبرار والفجار، في الدار الآخرة، وفي هذه الدار، وقال النسفي: (أي: بئس ما يقضون إذا حسبوا أنهم كالمؤمنين، فليس من أقعد على بساط الموافقة، كمن أقعد على مقام المخالفة، بل نفرّق بينهم، فنعلي المؤمنين ونخزي الكافرين) ففي الآية إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على اقتراف السيئات، ومماتا حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة، وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة، وحيث عاش هؤلاء على برد اليقين، وعاش هؤلاء على قلق المعذبين الشاكّين الحائرين، وحيث عاش هؤلاء على الرعاية والرضا، وعاش هؤلاء بالإمهال والاغترار والأخذ واليأس وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: بالعدل، هذا تعليل لعدم استواء الفجّار والأبرار وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ومن ثم لا يستوي الأبرار والفجار. وبعد أن بيّن الله عزّ وجل عدم استواء الطرفين، أهل الهدى وأهل الضلال يحدثنا عن الذين يتبعون أهواءهم والذين نهى الله عن اتباعهم في آخر المقطع السابق بقوله: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فههنا يبيّن لنا أن من كان شأنه اتباع الهوى لا يهتدي: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال ابن كثير: أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا فعله، ومهما رآه قبيحا تركه، وقال النسفي: أي: هو مطاوع لهوى النفس، يتّبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: أضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك، أو أضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ. فلا يقبل وعظا وَقَلْبِهِ فلا يعتقد حقا وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فلا يبصر عبرة، فهو لا يسمع ما ينفعه في أمر دينه ودنياه وآخرته، ولا يعي شيئا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضئ

كلمة في السياق: حول تفصيل السورة لأسباب عقوبة الله للكافرين

بها، ولهذا قال تعالى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي: من بعد إضلال الله إياه أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتتعظون، فأصل الشر متابعة الهوى، والخير كله في مخالفته. كلمة في السياق: [حول تفصيل السورة لأسباب عقوبة الله للكافرين] رأينا قبل أن محور السورة هو الآيات السبع الأولى من سورة البقرة والتي فيها: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد رأينا في الآية التي مرّت معنا أن سبب هذا الختم هو اتباع الهوى، وقد رأينا كذلك في السورة من قبل سبب الضلال، من إفك، وإثم، واستكبار، فالسورة إذن تفصّل في أسباب عقوبة الله للكافرين، إذ يختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم، وتحدّد للمؤمنين موقفهم منهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ .. وتبين عدم استواء هؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة، وتبيّن ما لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة. وبعد أن بيّن الله عزّ وجل سبب ضلال الكفار- وهو اتباع الهوى- يعرض علينا شبهة من شبههم التي يتكئون عليها في كفرهم باليوم الآخر، وذلك هو علّة أمراضهم. وَقالُوا ما هِيَ أي: ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها نَمُوتُ وَنَحْيا أي: نموت نحن ونحيا ببقاء أولادنا، أو يموت بعض ويحيا بعض، أو نكون مواتا نطفا في الأصلاب، ونحيا بعد ذلك، أو يصيبنا الأمران: الموت والحياة، يريدون أنّه لا حياة إلا الحياة الدنيا وأن الموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة. ويشبه هذا القول قول القائلين بالتناسخ، إذ يقولون: إن الإنسان يموت، ثم تجعل روحه في موات فيحيا به وهكذا دواليك وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بإذن الله، وكانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، لذلك ترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: ما يقولون ذلك عن علم ويقين، ولكن عن ظنّ وتخمين إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي: يتوهمون ويتخيلون وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي: إذا استدل عليهم وبيّن لهم الحق، وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان

[سورة الجاثية (45): آية 26]

بعد فنائها وتفرقها ببيان القرآن الذي ما بعده بيان .. ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا، وهذه لغة الكافرين في كل زمان، يرفضون الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه لم يجئ ميت فيخبرنا، ونسوا أن كلام الرسول المعصوم، والقرآن المعجز أقوى وأثبت من كلام أي إنسان، حتى ولو عاد إلى الحياة من الموت، لأنه من يدرينا- حتى لو عاد إلى الحياة- أنه صادق، ولكنّ الرسول صلّى الله عليه وسلم قامت كل الأدلة على صدقه، والقرآن قامت كل الأدلة على أنه من عند الله الذي لا أصدق منه، وقد أخبرانا عن الآخرة، ولكنه العمى، وقد ردّ الله عزّ وجل عليهم بقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ .. ومن كان قادرا على ذلك كله كان قادرا على الإتيان بآبائكم ضرورة، فالذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى، ولكن سنّته أن يجمعكم إلى يوم القيامة، وليست سنته أن يعيدكم في الدنيا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعرفون قدرة الله على البعث، لإعراضهم عن التفكير في الدلائل، فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد. وبعد أن دلّل الله عزّ وجل على اليوم الآخر بقدرته على البداءة، يذكر دليلا ثانيا على ذلك، وهو مالكيته للأشياء كلها، ومن كان كذلك فهو قادر على أن يفعل ما شاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: ومن كان كذلك فهو القادر على كل شئ، والحاكم في كل شئ، ومن ثم فلا بد من يوم آخر، ثم عقّب على هذا المعنى واعظا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي: القيامة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وهم الكافرون بالله، الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات، والدلائل الواضحات وبعد أن أقام الله عزّ وجل الحجة أنذر: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي: جالسة على الركب من الهول والشدة والعظمة. قال ابن كثير: (ويقال: إن هذا إذا جئ بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي: إلى صحائف أعمالها فيقال لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. في الدنيا: قال ابن كثير: أي: تجازون بأعمالكم خيرها وشرها هذا كِتابُنا أي: الذي كتبته الملائكة عليكم يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أي: من غير زيادة ولا نقصان. أي: يشهد عليكم بما عملتم كاملا قال ابن كثير: أي: يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: نستكتب الملائكة أعمالكم .. قال النسفي: وليس ذلك بنقل من كتاب بل معناه نثبت

[سورة الجاثية (45): آية 30]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي: في جنته، وإنما يستحق ذلك من آمن قلبه وعملت جوارحه الأعمال الصالحة، وهي الخالصة الموافقة للشرع ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي: البيّن الواضح وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ في الدنيا فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي: كافرين وَإِذا قِيلَ لكم في الدنيا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالجزاء حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها أي: لا شك فيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي: ما ندري أي شئ هى الساعة أي: لا نعرفها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي: إن نتوهم وقوعها إلا توهما مرجوحا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي: بمتحققين وَبَدا لَهُمْ أي: وظهر لهؤلاء الكفار سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي: قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات وَحاقَ بِهِمْ أي: ونزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: من العذاب والنكال، أي: وأحاط بهم ما استهزءوا به من النكال والعذاب، أو ونزل بهم جزاء استهزائهم وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم، كما نسيتم لقاء يوم القيامة، فلم تعملوا له؛ لأنكم لم تصدقوا به. قال النسفي: أي: نترككم في العذاب كما تركتم عدّة لقاء يومكم، وهي الطاعة وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي: ومنزلكم النار وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونكم من بأس الله ذلِكُمْ أي: العذاب بِأَنَّكُمُ أي: بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي: إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا، تسخرون وتستهزءون بها وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: خدعتكم فاطمأننتم إليها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي: من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي: يرضوه. قال ابن كثير: أي: لا يطلب منهم العتبى، بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب. كلمة في السياق: [حول الفارق بين الكافرين والمؤمنين في الآخرة] بدأ المقطع كما رأينا بقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ وسار المقطع حتى استقر على بيان الفارق بين الكافرين والمؤمنين في الآخرة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

[سورة الجاثية (45): آية 36]

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا .. وقد رأينا فيما بين ذلك الأسباب الكبرى لاستحقاق الكافرين العذاب، وهي الاستهزاء بآيات الله، والاغترار بالدنيا، ولم يبق عندنا في المقطع والسورة إلا آيتان فلنرهما ثم نذكر محلهما في السياق: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال النسفي: أي: فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شئ من السموات والأرض والعالمين، فإن مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كل مربوب وَلَهُ الْكِبْرِياءُ أي: العظمة والمجد والسلطان فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: في انتقامه الذي لا يغالب ولا يمانع الْحَكِيمُ في أحكامه وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره. قال النسفي في الآية: أي: وكبّروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السموات والأرض. كلمة في المقطع والسياق: [حول الربط بين المقطعين الأول والثاني وصلة ذلك بالمحور] 1 - نلاحظ أن السورة بدأت بذكر اسمي الله العزيز الحكيم، وختمت بذكر اسمي الله العزيز الحكيم، وكما رأينا ظهور آثار هذين الاسمين في معاني المقطع الأول. فإن المقطع الثاني كذلك، تظهر فيه معاني الحكمة والعزة، إن في عدم المساواة بين المؤمنين والكافرين، أو في إقامة الحجج على الكافرين أو في ما أعده للمؤمنين والكافرين. 2 - نلاحظ أن السورة ختمت بذكر استحقاق الله للحمد، واتصافه بالكبرياء، وحكمة ذلك أن السورة ذكرت ما خلق الله عزّ وجل ممّا هو لصالح الإنسان، وذكرت عدل الله، وذكرت إنزاله هذا القرآن وبعض خصائصه، وذكرت ما أعدّ لأهل الجنة، ولأهل النار، وكل ذلك يقتضي من عباده حمدا، ويدلّ على كبريائه وعظمته ومجده. 3 - نلاحظ أن المقطع الثاني بنى على المقطع الأول، فالمقطع الأول ذكر خصائص للقرآن، وأقام الدليل عليها. وجاء المقطع الثاني ليبين نتائج الإيمان، ونتائج الكفر، وأسباب مواقف الكفر، وبعضا من هذه المواقف. ورد عليها، وصلة ذلك بالمحور وصلة واضحة. وفي الكلمة الأخيرة عن السورة زيادة بيان فلننقل الآن بعض الفوائد.

فوائد حول آيات السورة

فوائد [حول آيات السورة]: 1 - [كلام صاحب الظلال حول آية وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ .. ] عند قوله تعالى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قال صاحب الظلال: (والرزق قد يكون المقصود به هو الماء النازل من السماء. كما فهم منه القدماء. ولكن رزق السماء أوسع. فهذه الأشعة التي تنزل من السماء ليست أقل أثرا في إحياء الأرض من الماء، بل إنها لهي التي ينشأ عنها الماء بإذن الله. فحرارة الشمس هي التي تبخر الماء من البحار، فتتكاثف وتنزل أمطارا، وتجري عيونا وأنهارا؛ وتحيا بها الأرض بعد موتها. تحيا بالماء وتحيا بالحرارة والضياء سواء؟) 2 - [كلام الألوسي حول آية قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ] وعند قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ قال الألوسي: (أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم، فالرجاء مجاز عن التوقع، وكذا الأيام مجاز عن الوقائع، من قولهم: أيام العرب لوقائعها، وهو مجاز مشهور، وروي ذلك عن مجاهد. أو لا يأملون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها وقال بعضهم: لا نسخ؛ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش. وحكى النحاس، والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشترك بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به، فنزلت. وروي ذلك عن مقاتل، وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. نعم قيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع، فأرسل ابن أبيّ غلامه ليستقي فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، قعد على طرف البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضى الله تعالى عنه، فقال ابن أبي: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمّن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية؛ وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصا اليهودي قال لما أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً*: احتاج رب محمد، فسمع بذلك عمر رضي الله عنه فاشتمل سيفه، وخرج، فبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية.

3 - كلام صاحب الظلال حول آية ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ..

3 - [كلام صاحب الظلال حول آية ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها .. ] وعند قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال صاحب الظلال: (وهكذا يتمحض الأمر. فإما شريعة الله. وإما أهواء الذين لا يعلمون .. وليس هنالك من فرض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكّم الأهواء، فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون! والله- سبحانه- يحذر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يتّبع أهواء الذين لا يعلمون، فهم لا يغنون عنه من الله شيئا. وهم يتولون بعضهم بعضا. وهم لا يملكون أن يضروه شيئا حين يتولى بعضهم بعضا، لأن الله هو مولاه إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعيّن سبيل صاحب الدعوة وتحدده، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ .. إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف، وما عداها أهواء منبعها الجهل. وعلى صاحب الدعوة أن يتّبع الشريعة وحدها، ويدع الأهواء كلها. وعليه ألا ينحرف عن شئ من الشريعة إلى شئ من الأهواء. فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة. وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض. وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له، أو جنوحا عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه. ولكنهم أضعف من أن يؤذوه. والله ولي المتقين. وأين ولاية من ولاية؟ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضا؛ من صاحب شريعة يتولاه الله. ولي المتقين؟) 4 - [كلام الألوسي حول آية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ .. ] وعند قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ قال الألوسي: يستنبط منها تباين حالي المؤمن العاصي والمؤمن الطائع؛ ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى إنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. والطبراني، وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ الآية، لم يزل يكررها ويبكي حتى

5 - كلام ابن كثير حول آية وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ..

أصبح وهو عند المقام. وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمرّ بهذه الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ إلخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل ابن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت. وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها. ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين، وهذا منهم- والعياذ بالله تعالى- ضلال بعيد، وغرور ما عليه مزيد ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي: ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي). 5 - [كلام ابن كثير حول آية وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ قال ابن كثير: (أي: ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شئ إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا العقول، وكذبوا المنقول؛ ولهذا قالوا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ قال الله تعالى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي يتوهّمون ويتخيلون. فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب ليله ونهاره» وفي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر». وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال: عن سعد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ويسبون الدهر، فقال الله عزّ وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدى الأمر، أقلب الليل والنهار» وكذا رواه ابن أبي حاتم، ثم روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: يسبّ ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي، وروى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم

6 - كلام ابن كثير حول آية وترى كل أمة جاثية

يعطني وسبني عبدي، يقول: وا دهراه وأنا الدهر» قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله صلّى الله عليه وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنهم إنما سبّوا الله عزّ وجل، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سبّ الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال، هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث). 6 - [كلام ابن كثير حول آية وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً] في قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً قال ابن كثير: (أي: على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إذا جئ بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا بركبتيه حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ويقول نفسي نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي، وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول: لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك مريم التي ولدتني. قال مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري كل أمة جائية أي: على الركب. وقال عكرمة: جاثية متميزة على ناحيتها، وليس على الركب والأولى أولى. روى ابن أبي حاتم بسنده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم». وروى إسماعيل بن أبي رافع المديني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعا في حديث الصور فيتميز الناس وتجثو الأمم وهي التي يقول الله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة والله أعلم). 7 - [كلام ابن كثير حول آية إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: (أي: إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ثم قرأ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). 8 - [كلام ابن كثير حول آية نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا] بمناسبة قوله تعالى: نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قال ابن كثير: وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: «ألم أزوجك؟ ألم

9 - كلام ابن كثير حول آية وله الكبرياء في السماوات والأرض ..

أكرمك؟ ألم أسخّر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني»). 9 - [كلام ابن كثير حول آية وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. قال ابن كثير: (وقد ورد في الحديث الصحيح: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري» رواه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنحوه). كلمة أخيرة في سورة الجاثية: 1 - فصّلت السورة في الآيات السبع الأولى من سورة البقرة، أي: في موضوع المتقين والكافرين، فعرفنا كثيرا مما أجمل في أول سورة البقرة، وعرفنا كثيرا عن بعض الأمور التي ذكرت هناك بشكل تقريري. 2 - عرفنا بشكل دقيق أن ما سوى شريعة الله هو الهوى. جاء ذلك بعد ذكر اختلاف بني إسرائيل من بعد ما جاءهم العلم. مما يشير إلى أن كل خلاف في هذه الأمة سببه البغى، وسببه اتباع الهوى، وأن الحكم العدل هو في شريعة الله عزّ وجل، وفي ذلك درس كبير لمسلمي عصرنا الذين اختلفوا كثيرا وأهملوا كثيرا. 3 - عرفنا من السورة أن من خصائص هذا القرآن أنه بصائر للناس، أي: أنه عيون لقلوبهم يرون بها الأشياء على حقائقها، وبأحجامها، وفي ذلك درس كبير للمسلم ألّا يرى شيئا في هذا الوجود إلا بعين القرآن، وإن الذي لا يرى الناس والأشياء والأمور وكل شئ بهذه العين أعمى. إن كثيرين من الناس لا يرون الأمور السياسية بهذه العين، وإن كثيرين لا يرون الأمور الاقتصادية بهذه العين، وإن كثيرين لا يرون الأمور الاجتماعية بهذه العين، هؤلاء كلهم عميان على الحقيقة، إن المسلم الحق هو الذي يرى الأشياء كلها بنور القرآن. 4 - رأينا أن محور السورة هو الآيات السبع من أول سورة البقرة، وقد رأينا أن التفصيل انصب على قضية الاهتداء بالقرآن والكفر به، أكثر مما انصب على أي شئ آخر. ومن ثم فإن السورة بدأت بقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ

الْحَكِيمِ ثم ختمت المجموعة الأولى منها بقوله تعالى: هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ثم ختمت المجموعة الثانية بقوله تعالى: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ورأينا في المجموعة الأولى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ورأينا في المقطع الثاني: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ورأينا كذلك في المقطع الثاني ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ... 5 - مع أن السورة فصّلت في محورها كما رأينا، إلا أن سياقها الخاص ووحدتها كانا على غاية من التسلسل والوحدة، فبعد أن أوصلتنا المجموعة الأولى إلى حقيقة من خصائص القرآن، ثم أوصلتنا المجموعة الثانية إلى خصائص أخرى، وعرفتنا المجموعتان على المواقف الكافرة من هذا القرآن، انصبّ الكلام في المقطع الثاني على بيان عدم المساواة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وهكذا أدّت السورة دورها في السياق العام للقرآن الكريم، كما أدّت دورها في محلّها من مجموعتها وكلّ ذلك ضمن سياقها الخاص بها. ***

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف وهي السّورة السّادسة والأربعون بحسب الرسم القرآني وهي السّورة الثانية من المجموعة الخامسة من قسم المثاني وآياتها خمس وثلاثون آية وهي مكيّة وهي السّورة السّابعة والأخيرة من آل (حم)

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة الأحقاف ومحورها

كلمة في سورة الأحقاف ومحورها: يلاحظ أن هناك شبها بين سورة الأحقاف وسورتي فصّلت وهود؛ ففي سورة فصّلت يرد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ .... (الآية: 30). وفي سورة الأحقاف يرد قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .... (الآية: 13). وفي سورة فصّلت يرد قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ* إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .... (الآيتان: 13، 14) وفي سورة الأحقاف يرد قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .... (الآية: 21). وفي سورة فصّلت يرد قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. (الآية: 52) وفي سورة الأحقاف يرد قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ. (الآية: 10). وفي سورة هود يرد قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ (الآية: 112) وترد فيها قصص مجموعة رسل منهم هود، كلهم دعوا لعبادة الله وحده، وذلك يشبه ما ورد في سورة الأحقاف. ويرد في سورة هود قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ. (الآية: 13) ونجد في سورة الأحقاف قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. وفي سورة هود يرد قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (الآية: 17). وفي سورة الأحقاف نجد قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ*

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ* وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ. (الآيات: 10 - 12). وهذا كله يستأنس به على أن محور سورة الأحقاف هو نفسه محور سورتي هود وفصّلت، ولقد رأينا أنّ محور سورتي هود وفصّلت هو قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهاهنا نجد قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (الآيتان: 4، 5). فمحور السورة من سورة البقرة يدعو إلى عبادة الله وحده، وسورة الأحقاف تناقش من يعبد غيره. رأينا أن سورة الجاثية فصّلت في مقدمة سورة البقرة، ويأتي بعد مقدّمة سورة البقرة المقطع الأول من القسم الأول منها، وهو مقطع الطريقين الذي يبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. والملاحظ أن سورة الأحقاف تفصّل في ست آيات في هذا المقطع أي إلى قوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ تتألف سورة الأحقاف من مقدمة ومقطعين: المقدمة هي قوله تعالى: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ثمّ يأتي المقطع الأول وهو مبدوء بكلمة (قل) ومنته بقول تعالي وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ثمّ يأتي المقطع الثاني وهو مبدوء بكلمة (واذكر) ومنته بقوله تعالى فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ وسنرى وحدة السورة أثناء عرضها وصلتها بمحورها من سورة البقرة، وقد ذكر

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (3) وهذه هي

الألوسي وجه مناسبتها لما قبلها فقال: (ووجه اتصالها أنّه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد، وذمّ أهل الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد، ثمّ بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد) ولنبدأ عرض السورة: مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (3) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 46/ 1 - 3 التفسير: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ومن ثم فهو مجلى عزة الله وحكمته قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام، والحكمة في الأقوال والأفعال.) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ لا علي وجه العبث والباطل وَأَجَلٍ مُسَمًّى ينتهي إليه وهو يوم القيامة، أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص، وهذا يقتضي إنزال وحي وإرسال رسل؛ لتحدد للإنسان المسار الذي ينسجم به مع حكمة خلق الخلق، ومع مقتضى العبودية لله العزيز. ومن ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي: عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لا بد

46/ 6 - 15

كلمة في السياق

لكل مخلوق من انتهائه إليه مُعْرِضُونَ أي: لاهون عما يراد بهم، أي لا يؤمنون به ولا يهتمّون بالاستعداد له. قال ابن كثير: (وقد أنزل الله تعالى إليهم كتابا، وأرسل إليهم رسولا، وهم معرضون عن ذلك كله، أي وسيعلمون غبّ ذلك.) كلمة في السياق: قلنا إن سورة الأحقاف تفصّل في المقطع الآتي بعد مقدمة سورة البقرة، ولكنها قبل أن تنطلق لهذا التفصيل فإنّها تقدّم بذكر قضيتين تعرّضت لهما مقدمة سورة البقرة، فهي تذكّر بهما، ثمّ تصل إلى تفصيل ما بعد المقدمة: لقد ذكرت مقدّمة سورة الأحقاف بقوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فعرضت مقدمة سورة الأحقاف إلى أن القرآن من عند الله، وعرضت لإعراض الكافرين عنه، وها هي ذي تنطلق نحو مناقشة الذين يعبدون غير الله، ثم تناقش الذين لا يؤمنون بالقرآن، ثم تبشّر وتنذر، ثم تتحدث عن الفاسقين، ثمّ تذكّر وتعظ، فتفصّل في سيرها وعلى طريقتها- كما قلنا- في ست آيات من المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة فلنر المقطع الأول من سورة الأحقاف. المقطع الأول وتمتد من الآية (4) إلى نهاية الآية (20) وهذا هو: 46/ 4 - 5

التفسير

46/ 16 - 20 التفسير: قُلْ يا محمد لهؤلاء الكافرين المعرضين أَرَأَيْتُمْ أي: أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: أخبروني عن هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله من الأصنام والأنداد والشركاء أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي: أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض، أي: أي شئ خلقوا فيها إن كانوا آلهة أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: أم شاركوا في خلق السماوات فصار لهم شركة مع الله في الألوهية حتى عبدتموهم؟؟ فإذا لم يكن هذا ولا هذا فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به؟. من أرشدكم إلى هذا ومن دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شئ اقترحتموه من عند أنفسكم، ومن ثم قال ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي: من قبل هذا القرآن أنزله الله يشهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي: أو أدنى شئ

كلمة في السياق: حول مناقشة من لا يعبد الله وإقامة الحجة عليه

من علم أيا كان نوعه يشهد على أن هناك خالقا مع الله. حتى يصح أن يعبد معه، هاتوا دليلا بينا على هذا المسلك الذي سلكتموه من عقل أو نقل أو تجريب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن مع الله إلها آخر يعبد قال ابن كثير: أي لا دليل لكم- لا نقليا ولا عقليا- على ذلك. كلمة في السياق: [حول مناقشة من لا يعبد الله وإقامة الحجة عليه] لم يذكر الله عزّ وجل في مقدمة السورة موضوع العبادة بل قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ بينما جاء النقاش هنا منصبّا على عبادة غير الله، مما يدل على أن علة الكفر عبادة غير الله، وقد بين الله عزّ وجل في معرض نقض هذه العبادة أن العبادة لا تنبغي إلا للخالق، وليس هناك من دليل علمي أو نقلي يثبت أن مع الله خالقا، بل الدليل العلمي والنقلي على أن الله وحده هو الخالق، ومن ثم فإنه وحده يستحق العبادة، فليعبده الإنسان. وإذا تذكرنا أن محور السورة يبدأ بقوله تعالى في سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً إذا تذكرنا هذا عرفنا أن السورة بدأت تناقش من لا يعبد الله، وتقيم الحجة عليه، وقد رأينا كيف أن الحجة كانت قاطعة ومعجزة، ففي عصرنا ندرك أبعاد قوله تعالي أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ففي ذلك تحد كامل لكل كافر أن يستطيع أن يأتي بأدنى دليل علمي على أن غير الله قد خلق، فإذا كانت الكتب السماوية والعلم يشهدان أن الله هو الخالق، وأنه يجب أن يعبد وحده فكيف يفر الفارون من عبادته، وهاهنا نحب أن نسجّل فكرة، وهي أن الملحدين يدّعون أنهم علميون وعقليون، وكذبوا؛ فالإلحاد شرك من نوع جديد. فبدلا من أن يكون المشرك الوثني يعبد جزءا من الكون، فإن الملحدين خلعوا على مجموع الكون صفات الألوهية، من خلق ورزق وحكمة، وبدلا من أن يعبدوا أجزاء في الكون- كما فعل الوثني- عبدوا شهواتهم ونزواتهم وأهواءهم وآراءهم الفاسدة، ولنعد إلى التفسير: فبعد أن أقام الله عزّ وجل الحجة على المشركين بهذا الشكل القاطع المعجز الذي رأيناه يبيّن في الآيتين التاليتين أنه لا أضل من هؤلاء: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا أي: يعبده مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والأنداد والشركاء مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إن دعاه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ مع عدم استجابتهم

[سورة الأحقاف (46): آية 6]

عَنْ دُعائِهِمْ أي: عبادتهم غافِلُونَ أي: لا أضل ممن يدعو من دون الله شركاء، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عما يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجارة صم وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ يوم القيامة كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي: كانت هذه الأصنام لعبدتها عدوة وَكانُوا أي: الأصنام بِعِبادَتِهِمْ أي: بعبادة شركائهم كافِرِينَ أي: يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا فسيخذلونهم أحوج ما يكونون إليهم. قال النسفي: ومعنى الاستفهام في (من أضل) إنكار أن يكون في الضّلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأوثان، حيث يتركون دعاء السميع المجيب، القادر على كل شيء، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم، ولا قدرة له على استجابة أحد منهم، ما دامت الدنيا، وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا عليهم ضدا، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم، ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل (من) و (هم) ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة فذلك على طريقة التهكم بها وبعبدتها، ونحوه قوله تعالى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ (فاطر: 14). قال صاحب الظلال: [حول مناقشة من يدعون من دون الله آلهة أخرى] (وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة، وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن، فإن النص أوسع مدلولا وأطول أمدا من ذلك الواقع التاريخي. فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحدا في أي زمان وفي أي مكان؟ وكل أحد- كائنا من كان- لا يستجيب بشيء لمن يدعوه، ولا يملك أن يستجيب. وليس هناك إلا الله فعّال لما يريد .. إن الشرك ليس مقصورا على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى. فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان، أو ذوي جاه أو ذوي مال؛ ويرجون فيهم، ويتوجهون إليهم بالدعاء. وكلهم أعجز من أن يستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية. وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. ودعاؤهم شرك. والرجاء فيهم شرك. والخوف منهم شرك. ولكنه شرك خفى يزاوله الكثيرون وهم لا يشعرون.)

كلمة في السياق: حول صلة المقطع بالمقدمة وبمحور السورة

كلمة في السياق: [حول صلة المقطع بالمقدمة وبمحور السورة] رأينا في مقدمة السورة قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ثم جاء مباشرة بعد ذلك قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. مما يشير إلى أن علة كفر هؤلاء هو الشرك، وصلة ذلك في أوائل محور السورة واضحة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وبعد أن فنّد الله عزّ وجل ما هم عليه، وبيّن فظاعته، تأتي الآن آيات تعرض موقفهم من الإنذار، أي من الكتاب الذي أنذروا به، وتردّ على هذا الموقف. والسؤال الآن: ما صلة ذلك بمحور السورة؟. والجواب: إنه بعد الأمر بالعبادة، والنهي عن الشرك في محور السورة، جاء قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهاهنا يذكر الله عزّ وجل موقفهم من الكتاب ويقيم الحجة عليهم فيه. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي: واضحات مبيّنات قال ابن كثير: أي: تتلى عليهم حال بيانها ووضوحها وجلائها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا كبرا وعنادا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أي للقرآن حين جاءهم. قال النسفي: بادهوه الجحود ساعة أتاهم، وأول ما سمعوه، من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي: بل يقولون إن محمدا صلّى الله عليه وسلم اختلقه وأضافه إلى الله كذبا، والضمير للحق، والمراد به الآيات أي: القرآن، وصفوه بالسحر، ثم وصفوه بأنه مكذوب على الله اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلم من عند نفسه، والصيغة تفيد أنهم استقروا على الرأي الأخير، وأيّا ما كان فإن مرجع الوصف الأول إلى الثاني، ومن ثمّ ينصبّ الجواب عليه، وإذا كانت هذه القضية هي الأصل الذي يرتكز عليه كل كفر، فقد جاء الجواب عليها مفصلا، فأمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول ثلاثة أقوال في الردّ عليها، ومن ثم تتكرر كلمة (قل) ثلاث مرات في معرض الجواب: الجواب الأول: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن كثير: أي لو كذبت عليه

[سورة الأحقاف (46): آية 9]

وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك، لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض- لا أنتم ولا غيركم- أن يجيرني منه. فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه وأنا أعلم ذلك. هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: بما تسهبون فيه من القدح في وحي الله، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة، وفرية تارة أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالجحود والإنكار. قال النسفي: ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم. وقال ابن كثير: هذا تهديد لهم ووعيد أكيد وترهيب شديد. أقول: أمره بأن يرد عليهم بأن الله عزّ وجل يغار أن يفترى عليه، ويعاقب على ذلك، كما يغار أن يكذّب وحيه ورسوله، ومن ثم ففعل الله عزّ وجل بالفريقين يدل على من هو صاحب الحق. وقد حكم الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم فنصره وأيّده، ونشر دينه، وتوفاه وهو على أكمل حال، وفي ذلك دليل صدقه في رسالته، إذ لو ادعى الرسالة عن الله كذبا لغضب الله وعاقبه في الدنيا. ولا يقولن قائل: إن كثيرين تنتشر دعواتهم وهم غير مستقيمين، فالكلام عمن يدّعي أنّه رسول الله، فإن مثل هذا إن كان كاذبا يعاقبه الله في الدنيا. ثم ختم الله الآية بقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي: هو على مغفرته ورحمته يعاقب من كذب عليه. وفي ختم الآية بذلك دعوة لهم إلى التوبة والإنابة، وترغيب لهم بذلك. قال ابن كثير: أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب الله عليكم، وعفا عنكم، وغفر ورحم. هذا هو الجواب الأول على اتهام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنه افترى القرآن على الله من عند نفسه. فلنر الجواب الثاني. الجواب الثاني: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما كنت بديعا من الرسل. قال النسفي: (والمعنى لست بأول رسول فتنكروا نبوتي) وقال ابن كثير: أي لست بأول رسول طرق العالم، بل قد جاءت الرسل من قبلي، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني، وتستبعدون بعثتي إليكم، فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم). فإذا كان هذا هو الشأن، وكانت تظهر معي علامات النبوة وخصائصها فعلام تستنكرون الوحي الذي أنزله علي وأنا لا أدعي إلا العبودية له سبحانه، ولا أدعي مقاما فوق مقام البشر. ومن ثم أتمّ الله الحجة، آمرا رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي: وما أعلم ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان، أي في الدنيا قال ابن كثير: (قال الحسن البصري: أما في الآخرة فمعاذ الله،

[سورة الأحقاف (46): آية 10]

أي ألا يعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما الله فاعل به. وقد علم أنه في الجنة، ولكن قال لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا. أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير، وأنه لا يجوز غيره، ولا شك أن هذا هو اللائق به صلّى الله عليه وسلم فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم). إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي: إنما أتّبع ما ينزله الله عليّ من الوحي، فما أنا إلا عبد الله، منفذ لأمره، وذلك دليل على أنني صادق في دعوى الرسالة على الله، ومن ثمّ فأنا أكثركم التزاما بما أدعو إليه وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: مبين النذارة، أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل. أقام الله عليهم الحجة بأن رسوله صادق في هذه الآية بظهور خصائص الرسالة عليه، ومن جملة ذلك التواضع والالتزام الكامل بما يدعو إليه، والنذارة في أمر الآخرة. والآن يأتي الجواب الثالث على زعمهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن. الجواب الثالث: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ هذا القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ قال ابن كثير: أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله عليّ لأبلغكموه وقد كفرتم به وكذبتموه. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ قال النسفي: أي مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن، من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. فَآمَنَ قال ابن كثير: أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيّته وَاسْتَكْبَرْتُمْ أنتم عن اتباعه. قال ابن كثير: (وهذا الشاهد اسم جنس يعمّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره. فإن هذه الآية مكية.) وسنرى في الفوائد تحقيق ذلك، ثم ختم الله الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ دلّت هذه الجملة على جواب الشرط (إن) والتقدير إن كان القرآن من عند الله، وكفرتم به، ألستم ظالمين، وإذا كنتم ظالمين فإن الله عزّ وجل لا يهديكم لقيام الحجة عليكم، واستكباركم عن الخضوع لها، فأصبح معنى الآية كما قال النسفي: (والمعنى .. قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع

كلمة في السياق

شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله فآمن به، مع استكباركم عنه، وعن الإيمان به ألستم أضل الناس وأظلمهم؟!). أقول: دلّل هذا الجواب على أن القرآن ليس مفترى؛ بمطابقة معانيه لمعاني الكتب المنزلة من قبل، يشهد على ذلك علماء بني إسرائيل المنصفون، ولكن هذه الحجة جاءت في سياق وعظي آمرناه، فاجتمع في الآية الأخيرة الحجّة والأمر والنّهي والإنكار والتبيان والوعظ بآن واحد، لأنها مع كونها حجة جديدة وردا جديدا، فهي خاتمة للآيات التي ردت على اتهام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بافترائه هذا القرآن. كلمة في السياق: بعد أن أقام الله عزّ وجل الحجة على الكافرين في أن هذا القرآن من عنده، يعرض لنا موقفا آخر من مواقفهم تجاه القرآن، وهو موقف غاية في الكبر، إذ يستدلون على أن هذا القرآن ليس فيه خير بسبق المستضعفين إليه، وإيمانهم به، ثم يستدرجهم الكبر إلى اتهام جديد لهذا القرآن. ومن خلال هذا العرض نرى كيف أن السورة تلاحق كل ما يصرف عن العبادة لله التي توصّل إلى الاهتداء بكتاب الله، فلنر شبهة الكافرين الجديدة: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: عن الذين آمنوا فاللام هنا بمعنى عن لَوْ كانَ أي: القرآن خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي: ما سبقنا هؤلاء المستضعفون إليه. قال ابن كثير: يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا. رضي الله عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة، وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بيّنا، كما قال تبارك وتعالى وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا (الأنعام: 53) أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا، ولهذا قالوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وأمّا أهل السنّة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: (هو بدعة لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها) ثم قال تعالى عن هؤلاء المستكبرين وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي كذب متقادم أي كذب قديم، أي مأثور عن الناس الأقدمين. فاجتمع لهم بذلك انتقاص القرآن وأهله،

[سورة الأحقاف (46): آية 12]

وهذا دأب رافضي هدى الله في كل زمان ومكان، أنهم ينتقصون أهل الإيمان، وينتقصون مضمون القرآن. مرضا في العقل، وعمى في القلب. قال صاحب الظلال: (ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر. فكان هذا مغمزا في نظر الكبراء المستكبرين. وراحوا يقولون: لو كان هذا الدين خيرا ما كان هؤلاء أعرف منا به، ولا أسبق منا إليه. فنحن في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا، أعرف بالخير من هؤلاء. والأمر ليس كذلك. فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه. والخير الذي يحتويه. إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد صلّى الله عليه وسلم- كما كانوا يقولون- وفقدان المراكز الاجتماعية، والمنافع الاقتصادية، كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد، وما كان عليه الآباء والأجداد. فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف. إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق، وأن يستمعوا لصوت الفطرة، وأن يسلموا بالحجة. وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض، واختلاق المعاذير، والادعاء بالباطل على الحق وأهله. فهم لا يسلمون أبدا أنهم مخطئون؛ وهم يجعلون من ذواتهم محورا للحياة كلهم يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة: إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ. وقد ردّ الله عزّ وجل عليهم مبينا أن الكتاب القديم الذي أنزله- وهو التوراة- لم يكن كذبا، بل هو إمام ورحمة وهذا القرآن مصدق له، ومن ثم فهو إمام ورحمة، وبشير ونذير، وليس كما زعموه، والملاحظ أنهم هاهنا لم يوجهوا تهمة الكذب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل وجهوا الاتهام لمضمون القرآن، فانصب الردّ على ذلك، قال تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي: التوراة إِماماً وَرَحْمَةً أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، كما يؤتم بالإمام، ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه وَهذا أي: والقرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ أي: لما بين يديه من الكتب لِساناً عَرَبِيًّا أي: باللسان العربي، وأما مضمونه فموجود في الكتب السابقة. قال ابن كثير: (أي: فصيحا بيّنا واضحا) لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: لينذر هذا القرآن العربي الكافرين وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ أي: وليبشر المؤمنين المطيعين. فكتاب اجتمع له التصديق للكتب السابقة، والإعجاز والتبشير والإنذار، ليس من الإفك القديم، بل من الحق

كلمة في السياق: حول الربط بين آيات السورة وسورة البقرة

القديم، لأن الكتاب الذي يصدقه من قبله حق، بدليل ما فيه من الهدى والرحمة. كلمة في السياق: [حول الربط بين آيات السورة وسورة البقرة] بعد آية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا. من المحور، يأتي قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ. وها هي ذي الآية التي مرّت معنا من سورة الأحقاف تقول: لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ وها هي ذي الآية اللاحقة تذكر الذين يستحقون البشارة من هم؟ وماذا أعدّ لهم؟. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ فاعترفوا لله بالربوبية، وعلى أنفسهم بالعبودية ثُمَّ اسْتَقامُوا على أمره وشريعته فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي: فيما يستقبلونه أو في القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلّفوا أو عند الموت. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ دلّ ذلك على أن أعمالهم التي وفقهم الله إليها هي سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم. قال صاحب الظلال عند قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا: وقوله: رَبُّنَا اللَّهُ. إنما هي منهج كامل للحياة، يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه، وكل حركة وكل خالجة؛ ويقيم ميزانا للتفكير والشعور، وللناس والأشياء، وللأعمال والأحداث، وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود. رَبُّنَا اللَّهُ فله العبادة، وإليه الاتجاه. ومنه الخشية وعليه الاعتماد. رَبُّنَا اللَّهُ فلا حساب لأحد ولا لشئ سواه، ولا خوف ولا تطلّع لمن عداه. رَبُّنَا اللَّهُ فكل نشاط وكل تفكير وكل تقدير متجه إليه، منظور فيه إلى رضاه. رَبُّنَا اللَّهُ فلا احتكام إلا إليه، ولا سلطان إلا لشريعته، ولا اهتداء إلا بهداه. رَبُّنَا اللَّهُ فكل من في الوجود وكل ما في الوجود مرتبط بنا ونحن نلتقي به في صلتنا بالله.

كلمة في السياق

رَبُّنَا اللَّهُ منهج كامل على هذا النحو. لا كلمة تلفظها الشفاة، ولا عقيدة سلبية بعيدة عن واقعيات الحياة. ثُمَّ اسْتَقامُوا. وهذه أخرى. فالاستقامة والاطراد والثبات على هذا المنهج درجة بعد اتخاذ المنهج. استقامة النفس وطمأنينة القلب. استقامة المشاعر والخوالج، فلا تتأرجح ولا تضطرب ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات. وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة. واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار. وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات، وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك: رَبُّنَا اللَّهُ. منهج .. والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره. والذين يقسم الله لهم المعرفة والاستقامة هم الصفوة المختارة. وهؤلاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وفيم الخوف وفيم الحزن. والمنهج واصل. والاستقامة عليه ضمان الوصول؟). كلمة في السياق: مر معنا أن من مواصفات القرآن لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ وقد جاء بعد هذه الآية آيتان. تبشران المؤمنين المستقيمين على أمر الله، فكأنهما يعطياننا نموذجا على ما في هذا القرآن من تبشير، ودلتانا في الوقت نفسه على أن أصل الإحسان هو الاعتراف لله بالربوبية، والاستقامة على أمره، فخدمتا في تبيان الإحسان، والآن تأتي آيتان هما نموذج على تبشير هذا القرآن لأهل الإحسان، وفيهما نموذج على أنواع من الإحسان يأمر الله بها، ويدعو إليها، وبذلك تستكمل ذكر السورة أمهات مسائل العبادة لله، التي توصّل إلى التقوى، من اعتراف لله بالربوبية، واستقامة على أمره، وإحسان إلى الوالدين، ودعاء لله عزّ وجل، وإعلان الإسلام، وغير ذلك من المعاني، ثم تأتي آيات هي نموذج على الإنذار، وعرض لمظاهر من الظلم الكافر وأسبابه. فالسورة كما تربي على العبادة والتقوى، تطهّر من العصيان والفسوق، وتعمّق خلال ذلك موضوع الإيمان بالقرآن؛ لأنه الأساس. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً أي: ووصيناه أن يحسن لوالديه إحسانا.

[سورة الأحقاف (46): آية 16]

قال ابن كثير: أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا، من وحم وغثيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي: بمشقة أيضا من الطلق وشدته وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي فطامه عن الرضاع ثَلاثُونَ شَهْراً وفي الآية معان فقهية سنراها في الفوائد حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ بأن اكتهل واستوفى السنّ التي تستحكم فيها قوته وعقله. قال النسفي: ذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين، وعن قتادة ثلاث وثلاثون سنة، ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعون. وقال ابن كثير: أي: قوي وشب وارتجل وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ قال النسفي: المراد به نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ أي: في المستقبل وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: اجعل ذريتي موضعا للصلاح، ومظنة له، وذريته: نسله وعقبه إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من كل ذنب وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: المستسلمين المنقادين لأمرك. قال ابن كثير: وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدّد التوبة والإنابة إلى الله عزّ وجل، ويعزم عليها أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ قال ابن كثير: أي المتصفون بما ذكرنا، التائبون إلى الله، المنيبون إليه، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار، هم الذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، فنغفر لهم الكثير من الزلل، ونتقبّل منهم اليسير من العمل فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وقال ابن كثير: أي هم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند الله، كما وعد الله عزّ وجل من تاب إليه وأناب، ولهذا قال تعالى وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا بالكتب، وعلى لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام. ثم لما ذكر الله تعالى حال الدّاعين للوالدين، البارّين بهما، أي المحسنين بأنواع الإحسان، وما لهم عند الله من الفوز والنجاة، عطف بحال الأشقياء الظالمين، العاقين للوالدين فقال: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما التأفيف: صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنّه متضجر، ومعنى قول الفاجر الكافر: هذا التأفيف لكما خاصّة، ولأجلكما دون غيركما، فالفاجر أجرأ على والديه من كل الخلق، وهو أقسى عليهما من دون الخلق أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أبعث من الأرض وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ أي: مضت القرون مِنْ قَبْلِي ولم يبعث منهم

[سورة الأحقاف (46): آية 18]

أحد وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي: يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، ويقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ بالله وبالبعث وهو دعاء عليه في الظاهر، والمراد به الحث والتحريض على الإيمان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ أي: صدق فَيَقُولُ لهما ما هذا القول إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: إلا خرافاتهم وأباطيلهم. وقد كثر هذا النوع من الناس في عصرنا كثرة كبيرة، وقال تعالى منذرا ومبينا أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: قول الله بملء جهنم من أمثالهم فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: فى جملة أمم قد مضت من قبلهم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قال ابن كثير: أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا قال ابن كثير: أي: لكل عذاب بحسب عمله وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ قال ابن كثير: أي: لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها، وقد فهم النسفي أن الآية ترجع على كل من المؤمنين والكافرين وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ قال النسفي: عرضهم على النار تعذيبهم بها أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي: بالطيبات، أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا والمعنى: ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم، وقد ذهبتم به وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي: الهوان، أي الذل بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي: بسبب كبركم فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي: باستكباركم وفسقكم. قال ابن كثير: فجوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتّباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة، والخزي، والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله وبهذا انتهى المقطع الأول. كلمة في السياق: [حول أهم موضوعات السورة والصلة بين المقطعين الأول والثاني] 1 - رأينا في الآيات الأخيرة نموذجين: نموذجا للمحسنين الذين يستحقون البشرى، ونموذجا للظالمين الذين أنذرهم القرآن، والكلام عن الإحسان فرع الكلام عن العبادة لله التي ذكرت في بداية محور السورة؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسّر الإحساس بقوله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقد رأينا في الآيات أن الصفتين الجامعتين لأخلاق الكافرين هما: الاستكبار، والفسوق. الاستكبار عن عبادة

فوائد

الله، والفسوق عن أمره، فالسورة كما تعمّق معنى العبادة لله تحرر من الاستكبار عن هذه العبادة، والفسوق عن أمر الله فلنتذكر ما يلي: كنا أسمينا المقطع الذي يأتي بعد مقدّمة سورة البقرة بمقطع الطريقين، لأنه بيّن الطريق إلى التقوى، وبيّن الطريق إلى الكفر والفسوق والنفاق: إنه بعد آية وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من المحور يأتي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ لاحظ استقرار الآية السادسة من المقطع على كلمة (الفاسقين) ولاحظ ختم المقطع الأول هنا بكلمة (تفسقون) فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ. 2 - وإذا استكمل المقطع الأول الحجج، وبشر وأنذر، واستقر على موقف الكافرين من اليوم الآخر، واستغراقهم في الدنيا وشهواتها، وأنّ علة ذلك كله، الكبر والفسوق، فإن المقطع الثاني يأتي مذكّرا بقوم عاد، ومنذرا أن يصيب الكافرين ما أصابهم، كما يتحدّث عن إيمان نفر من الجن بمجرد سماعهم لهذا القرآن، مما يشير إلى أن هؤلاء أولى بهم أن يؤمنوا، ثم يقيم الحجة عليهم في موضوع اليوم الآخر، وينذرهم النار، ويختم المقطع بالأمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصبر، وصلة ذلك في المحور، وفي سياق السورة سنراه. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير حول آية وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي .. ] بمناسبة قوله تعالى حكاية عن رسوله صلّى الله عليه وسلم: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ قال ابن كثير: (فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء وهي امرأة من نسائهم أخبرته- وكانت بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم- قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك- أبا السائب- شهادتي عليك لقد أكرمك الله عزّ وجل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما يدريك

2 - كلام ابن كثير حول آية شهد شاهد من أهلها ..

أن الله تعالى أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت وأمي لا أدري، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» قالت: فقلت: والله لا أزكي أحدا بعده أبدا، وأحزنني ذلك فنمت، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذاك عمله» فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، وفي لفظ له «ما أدري وأنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يفعل به» وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها: فأحزنني ذلك، وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة إلا الذي نصّ الشارع على تعيينهم، كالعشرة، وابن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة، وعبد الله بن عمرو ابن حرام- والد جابر- والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم.). 2 - [كلام ابن كثير حول آية شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ قال ابن كثير: (وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهذه كقوله تبارك وتعالى: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (القصص: 53). وقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً* وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (الإسراء: 107 - 108) قال مسروق والشعبي: ليس بعبد الله بن سلام؛ هذه الآية مكية، وإسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم واختاره ابن جرير. وروى مالك عن عامر بن سعد عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال: وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ رواه البخاري ومسلم والنسائي). وذهب كثيرون إلى هذا، وعلى هذا الاتجاه فالآية مدنية. 3 - [كلام ابن كثير وصاحب الظلال حول آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً قال ابن كثير: (لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه عطف بالوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن، كقوله عزّ وجل: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً (الإسراء: 23) وقال جل جلاله أَنِ

اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (لقمان: 14) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال عزّ وجل هاهنا وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً أمرنا بالإحسان إليهما، والحنو عليهما، وروى أبو داود الطيالسي عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟ فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ونزلت هذه الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه من حديث شعبة بإسناد نحوه وأطول منه). وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً .. (فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائمة على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد، فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بدون حاجة إلى أي صفة أخرى كذلك. وهي وصية صادرة من خالق الإنسان، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا. فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها. والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس. فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان. وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول- صلّى الله عليه وسلم- الوصية بالإحسان إلى الوالدين. ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة، ولمناسبة حالات معينة. ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير. وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت- فضلا على الألم- بدون تردد. ودون انتظار عوض، ودون منّ ولا رغبة حتى في الشكران! أما الجيل الناشئ فقلما يتلفت إلى الخلف .. قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني. لأنه بدوره مندفع إلى الأمام، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه! وهكذا تمضي الحياة!. والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه، والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء. والطفل الذي يحرم من الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته- مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة- وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة، هو شعور الحب. فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته. ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد. وفي المحاضن

الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا. إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال، يتحاقدون فيما بينهم، على الأم الصناعية المشتركة، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد ولا تنمو بذرة الحب أبدا. كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية. وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي. فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال. فتنشأ شخصياتهم مخلخلة، ويحرمون ثبات الشخصية .. والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم. ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً، وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً، وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً .. وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً .. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه! ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة .. إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة. تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم. دائمة الامتصاص لمادة الحياة. والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير. ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير! وهذا كله قليل من كثير! ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة. ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش، وتمتد .. بينما هي تذوي وتموت!.

4 - كلام ابن كثير حول آية وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ...

ثم الرضاع والرعاية. حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية. وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد! وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو. فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد! فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية، مهما يفعل وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟ وصدق رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأله- صلّى الله عليه وسلم-: هل أديت حقها؟ فأجابه: «لا، ولا بزفرة واحدة». رواه أبو بكر البزار بإسناده). 4 - [كلام ابن كثير حول آية وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ... ] بمناسبة قوله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً قال ابن كثير: وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ (الآية: 14) وقوله تبارك وتعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (البقرة: 233) على أن أفل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال محمد بن إسحاق بن يسار عن يزيد بن عبد الله ابن قسيط عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت وما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط فيقضي الله سبحانه وتعالى فيّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فأتاه فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعت الله عزّ وجل يقول وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فلم نجده بقي إلا ستة أشهر قال: فقال عثمان رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا، عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها قال: فقال معمر: فو الله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة، بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه، قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة ما زالت تأكله حتى مات رواه ابن أبي حاتم وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عزّ وجل فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (الزخرف: 81). وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين؛ لأن الله تعالى يقول وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ

5 - كلام ابن كثير حول آية .. وبلغ أربعين سنة .. والحكمة في ذلك

ثَلاثُونَ شَهْراً. 5 - [كلام ابن كثير حول آية .. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .. والحكمة في ذلك] بمناسبة قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال ابن كثير: أي تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه، ويقال إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين، روى أبو بكر بن عياش عن القاسم بن عبد الرحمن قال قلت لمسروق: متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال: إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّعه الله تعالى في أهل بيته، وكتب في السماء أسير الله في أرضه» وقد روى هذا من غير هذا الوجه وهو في مسند الإمام أحمد. 6 - [كلام ابن كثير حول آية أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ .. ودعاء في الشكر] بمناسبة قوله تعالى حكاية عن المؤمن الذي بلغ الأربعين أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال ابن كثير: (وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد «اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها، وأتممها علينا»). 7 - [كلام ابن كثير حول آية أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الروح الأمين عليه الصلاة والسلام قال «يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فيقتص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة» قال فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا قال: قلت: فإن ذهبت الحسنة قال أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله وزاد عن الروح الأمين. قال: قال الرب

8 - كلام ابن كثير حول آية والذي قال لوالديه أف لكما ..

جل جلاله: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره، وهو حديث غريب وإسناده جيد لا بأس به: وروى ابن أبي حاتم عن يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال لي يوما: لقد شهدت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ قال: والله، عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم قالها ثلاثا، قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه؟ قال آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه). 8 - [كلام ابن كثير حول آية وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما .. ] بمناسبة قوله تعالى وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما قال ابن كثير: (وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وفي صحة هذا نظر والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، قاله ابن جريج، وقال: آخرون: عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وهذا أيضا قول السدي، وإنما هذا عام في كل من عقّ والديه وكذّب بالحق فقال لوالديه: أفّ لكما عقهما، وروى ابن أبي حاتم عن إسماعيل بن أبي خالد أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أفّ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أباك قال: وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبت ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان، ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب

9 - كلام ابن كثير حول آية ويوم يعرض الذين كفروا على النار ..

حجرتها فجعل يكلمها حتى انصرف. وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر فقال: عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئا، فقال: خذوه فدخل بيت عائشة رضي الله عنها فلم يقدروا عليه فقال مروان إن هذا الذي أنزل فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله عزّ وجل فينا شيئا من القرآن إلا أن الله تعالى أنزل عذري. (طريق أخرى) روى النسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الآية فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنهما فقالت: كذب مروان، والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله). 9 - [كلام ابن كثير حول آية وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها .. قال ابن كثير: (تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب وتنزه عنهم. ويقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم- وبّخهم وقرعهم- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها وقال أبو مجلز: ليفقدنّ أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا. *** المقطع الثانى ويستمر من الآية (21) إلى نهاية الآية (35) وهذا هو: 46/ 21

46/ 22 - 32

التفسير

46/ 33 - 35 التفسير: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ أي: هودا إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ في جنوبي الجزيرة العربية وسنرى تحقيقه في الفوائد وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي: من قبل هود ومن خلف هود قال ابن كثير: يعنى وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قال النسفي: والمعنى: واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم، وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك قالُوا أي: قوم هود أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا أي: لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا أي: عن عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعيدك. قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم وقوعه .. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت مجئ العذاب عِنْدَ اللَّهِ ولا علم لي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم. وقال ابن كثير: أي الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل ذلك بكم، وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ أي: الذى هو شأني أن أبلّغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي: لا تعقلون ولا تفهمون. قال النسفي: أي ولكنكم جاهلون لا تعلمون أن الرسل بعثوا منذرين، لا مقترحين ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه فَلَمَّا رَأَوْهُ أي: العذاب عارِضاً

[سورة الأحقاف (46): آية 25]

العارض هو السحاب الذي يعرض في أفق السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا قال ابن كثير: أي لما رأوا العذاب مستقبلهم اعتقدوا أنه عارض ممطر ففرحوا واستبشروا به، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. قالَ هود على رأي النسفي. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب أي هو العذاب الذي قلتم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ثم فسر العذاب بقوله رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ أي: تخرّب كُلَّ شَيْءٍ من بلادهم مما من شأنه الخراب بِأَمْرِ رَبِّها أي: بإذن ربها أي رب الريح فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي: قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية. كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي: من أجرم مثل جرمهم. قال ابن كثير: (أي هذا حكمنا فيمن كذّب رسلنا وخالف أمرنا وهو تحذير لكل مجرم. كلمة في السياق: [حول علاقة قصة هود بسياق السورة] جاءت هذه القصة في سياق السورة التي تدعو إلى عبادة الله وحده، فبينت أن رسول الله- هود عليه السلام- دعا إلى عبادة الله وحده، فليس محمد صلّى الله عليه وسلم ببدع من الرسل، ولا دعوته ببدع من دعوات الله، كما جاءت في سياق الكلام عن الفسوق والاستكبار. فأنذرت عاقبة ذلك العذاب العاجل في الدنيا، وبينت على لسان هود عليه السلام أن الجهل هو الذي يجرئ الإنسان على ردّ دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولما كان قوم محمد عليه الصلاة والسلام يعبدون غير الله، ويردّون دعوته مع قيام الحجة عليهم، فقد اتجه الخطاب إليهم ليحذّرهم الله عزّ وجل أن يصيبهم ما أصاب المجرمين السابقين. وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ أي: ما مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ قال ابن كثير: يقول تعالى: (ولقد مكنا الأمم السابقة في الدنيا من الأموال والأولاد، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه) وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً أي: آلات الإدراك والفهم فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي: أيّ شئ من الإغناء مهما كان قليلا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي: ينكرونها وهذا تعليل لإهلاكهم وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قال ابن كثير: (أي: وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذّبون به، ويستعبدون وقوعه. أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة)

[سورة الأحقاف (46): آية 27]

وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى نحو حجر ثمود، وقرى قوم لوط. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي: كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا. قال ابن كثير: (وقد أهلك الله الأمم المكذّبة بالرسل ممّا حولها «أي: مكة» كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن. وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكانت في طريقهم وممرّهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضا) فَلَوْلا أي: فهلّا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً القربان: ما تقرّب به إلى الله. والمعنى: فهلّا نصرهم الذين اتخذوهم شفعاء متقربا بهم إلى الله حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قال ابن كثير: (أي: فهل نصروهم عند احتياجهم إليهم). بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: بل غابوا عن نصرتهم. قال ابن كثير: أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم. وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أي: كذبهم وَما كانُوا يَفْتَرُونَ قال ابن كثير: أي وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها. كلمة في السياق: [حول علاقة موقف الجن من القرآن بسياق السورة] جاءت هذه الآيات تعليقا على قصّة قوم هود، وبناء عليها فكانت هي والقصة بمثابة إنذار للكافرين الذين يرفضون دعوة الله وعبادته، ويستكبرون عنها ويفسقون عن أمر الله، وبعد هذه الصفحة من الإنذار يعرض الله علينا قصة نفر من الجن أسلموا بمجرد سماعهم للقرآن، وخرجوا دعاة، وفي ذلك درس في التلقّي الصحيح والسليم عن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، وفي ذلك تأنيب ضمني لقريش، فإنه إذا كان الجن يقفون مثل هذا الموقف من القرآن فما بالهم هم؟ كما إن في ذلك إيناسا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ يريه الله ثمرات إنذاره أنها لا تضيع، فإذا لم يستجب له قومه فإنه لا يعدم مستجيبا. وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً أي: أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك، والنفر: دون العشرة مِنَ الْجِنِّ قال النسفي: (جن نصيبين) وسنرى تحقيق ابن كثير حول هذا الموضوع يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ منه عليه الصلاة والسلام فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: الرسول صلّى الله عليه وسلم أو القرآن. أي فلما كانوا منه بحيث يسمعون قالُوا أي: قال

[سورة الأحقاف (46): آية 30]

بعضهم لبعض أَنْصِتُوا أي: اسكتوا مستمعين قال ابن كثير: وهذا أدب منهم فَلَمَّا قُضِيَ أي: فلما فرغ النبي صلّى الله عليه وسلم من القراءة وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ إياهم، أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى قال ابن كثير: (ولم يذكروا عيسى؛ لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى، وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلّى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه، عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال: بخ بخ هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتنى أكون فيها جذعا). مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي: إلى الله تعالى أو إلى الحق الذي هو ضدّ الباطل في الاعتقاد والإخبار وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ في الأعمال يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أي: محمدا صلّى الله عليه وسلم وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي: يغفر لكم ذنوبكم وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي: ويقيكم من العذاب الشديد الألم وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ لأن الله لا ينجي منه مهرب، بل قدرته شاملة ومحيطة وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي لا يجيركم منه أحد أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال ابن كثير: هذا مقام تهديد وترهيب، فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفودا وفودا ... كلمة في السياق: في قصة عاد وما جاء بعدها، وفي قصة وفد الجن ووعظهم. انصبّ الإنذار على عذاب الدنيا، والآن يأتي وعظ وإنذار بعذاب الآخرة، وبين يدي ذلك يقيم الله الحجة على مجئ اليوم الآخر. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي: ولم يكرثه خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة بِقادِرٍ

[سورة الأحقاف (46): آية 34]

عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى الجواب بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على البعث وعلى غيره وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي: يقال لهم ذلك قالُوا بَلى وَرَبِّنا فهناك لا يسعهم إلا الاعتراف قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: بسبب كفركم في الدنيا. كلمة في السياق: [حول الربط بين نهايتي المقطعين الأول والثاني وبين مقدمة السورة وأواسطها وأواخرها] 1 - ختم المقطع الأول بقوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ وقبل نهاية السورة بآية ورد قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فبعد جولة من الأمثلة والمذكرات والمواعظ يعود السياق ليستقر على الموقف الذي يناسب المواقف الظالمة. 2 - جاء في المقطع الأول تبشير وإنذار، وكان الإنذار هو المتأخر، فجاء المقطع الثاني استمرارا للإنذار الوارد في نهاية المقطع الأول. 3 - نلاحظ أن السورة بدأت بمقدمة هي: حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ .. ثم بدأت السورة تأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأوامر الداعية الموجهة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ... قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ... قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ .. وَاذْكُرْ أَخا عادٍ ... وبعد هذه الأوامر كلها في إقامة الحجة والإنذار، يصدر الأمر الأخير لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصبر كموقف أخير. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أي: أولو الجدّ والثبات والصبر مِنَ الرُّسُلِ وهم المذكورون في سورتي الأحزاب والشورى: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى

نقل: عن صاحب الظلال حول آية فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ..

ابن مريم. وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل فتكون (من) في قوله (مِنَ الرُّسُلِ) لبيان الجنس وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي: إنهم يستقصرون حينئذ مدّة لبثهم في الدنيا حتى ليحسبوها ساعة من نهار بَلاغٌ أي: هذا بلاغ. أي: هذا الذي وعظتم به فيه كفاية في الموعظة، أو هذا تبليغ من الرسول: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي: لا يهلك على الله إلا هالك، وهذا من عدله عزّ وجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب. قال النسفي: (أو المعنى: فلن يهلك بعذاب الله إلا القوم الفاسقون، أي المشركون الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه). [نقل: عن صاحب الظلال حول آية فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .. ] قال صاحب الظلال في عرضه لهذه الآية: (ألا إنه لطريق شاق. طريق هذه الدعوة. وطريق مرير. حتى لتحتاج نفس كنفس محمد- صلّى الله عليه وسلم- في تجردها وانقطاعها للدعوة، وفي ثباتها وصلابتها، وفي صفائها وشفافيتها، تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين. نعم. وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة، وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر. وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ .. تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية .. ثم تطمين: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ .. إنه أمد قصير. ساعة من نهار. وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة. وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار .. ثم يلاقون المصير المحتوم. ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم. وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم: بَلاغٌ. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ .. لا. وما الله يريد ظلما للعباد. لا. وليصبر الداعية على ما يلقاه. فما هي إلا ساعة من نهار ثم يكون ما يكون .. ) وبهذه الآية انتهت السورة. ***

كلمة في السياق: حول موضوعات السورة الهامة

كلمة في السياق: [حول موضوعات السورة الهامة] 1 - نلاحظ أن السورة أمرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقول وأن يذكّر وأن يصبر. فالقول فيه الحجة العقلية، والتذكير فيه الإثارة العاطفية، والصبر لا بد منه لقطف ثمرات الأجر. 2 - نلاحظ أن كلمة الفسوق هي التي انتهى بها المقطع الأول والثاني. بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ مما يشير إلى أن من المواضيع الرئيسية للسورة موضوع الفسوق عن أمر الله. ولهذا صلته بقوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من محور السورة في سورة البقرة. فوائد: 1 - [كلام ابن كثير بمناسبة آية وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال ابن كثير: (وهو هود عليه الصلاة والسلام بعثه الله عزّ وجل إلى عاد الأولى، وكانوا يسكنون الأحقاف (جمع حقف) وهو الجبل من الرمل قاله ابن زيد، وقال عكرمة: الأحقاف الجبل والغار، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأحقاف واد بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار، وقال قتادة: ذكر لنا أن عادا كانوا حيّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر. روى ابن ماجه (باب إذا دعا فليبدأ بنفسه). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يرحمنا الله وأخا عاد». 2 - [رواية عن قصة عاد يرويها ابن كثير] بمناسبة الكلام عن عاد في سورة الأحقاف قال ابن كثير: (وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدا من غرائب الحديث. وأفراده: روى الإمام أحمد: عن الحارث البكري قال خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت بها المدينة فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال رضي الله عنه متقلدا السيف بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو

ابن العاص وجها قال: فجلست، فدخل منزله- أو قال: رحله- فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فسلمت فقال صلّى الله عليه وسلم: «هل كان بينكم وبين تميم شئ؟» قلت: نعم وكانت لنا الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك، فها هي بالباب، فأذن لها فدخلت فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك؟ قال: قلت: إن مثلي ما قال الأول: معزى حملت حتفها، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد قال لي «وما وافد عاد؟» وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وفدا لهم يقال له قيل، فمرّ بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها خذها رمددا رمادا، لا تبقي من عاد أحدا. قال فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا، قال أبو وائل: وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد. ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وروى الإمام أحمد عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم وقالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب وقالوا: هذا عارض ممطرنا» وأخرجاه من حديث ابن وهب. (طريق أخرى) روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول «اللهم إني أعوذ بك من شر عاقبته» فإن كشفه الله تعالى حمد الله عزّ وجل وإن أمطرنا قال: «اللهم صيبا نافعا». (طريق أخرى) روى مسلم في صحيحه عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» قالت وإذا تخيلت السماء تغير

3 - تحقيق ابن كثير لحادثة مجئ الجن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سري عنه فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما فتح علي عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ثم أرسلت عليهم من البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا: هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا وكان أهل البوادي فيها فألقي أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا، قال: عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب والله سبحانه وتعالى أعلم». 3 - [تحقيق ابن كثير لحادثة مجئ الجن إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم] بمناسبة قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ذكر ابن كثير تحقيقا حول مجئ الجنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا هو: روى الإمام أحمد عن الزبير وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ قال بنخلة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال سفيان: ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض تفرد به أحمد وسيأتى من رواية ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين وروى الإمام أحمد والإمام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل النبوة): عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم، فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شئ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا يا قومنا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (الجن: 1، 2) وأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ (الجن: 1) وإنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه، وأخرجه مسلم ورواه الترمذي والنسائي في التفسير وروى الإمام أحمد أيضا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما

قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوا حقا وما زادوا باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبثّ جنوده فإذا بالنبي صلّى الله عليه وسلم بين جبلي نخلة، فأتوه، فأخبروه فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض، ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما، وقال الترمذي حسن صحيح، وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بمثل هذا السياق بطوله وهكذا قال الحسن البصرى: إنه صلّى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظى قصة خروج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عزّ وجل، وإبائهم عليه، فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى عدو بعيد يتجهمني، أم إلى صديق قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» قال فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين، وهذا صحيح ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، وخروجه صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره والله أعلم. قال أبو بكر بن أبي شيبة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا قال: صه وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله عزّ وجل وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ إلى ضَلالٍ مُبِينٍ فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج، كما ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار، مما سنوردها هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعا عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: سألت

(ذكر الرواية عنه بذلك)

مسروقا من آذن النبي صلّى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال حدثني أبوك- يعنى ابن مسعود رضي الله عنه- أنه آذنته بهم شجرة، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي: أعلمته باجتماعهم والله أعلم، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات والله أعلم، روى الحافظ البيهقي: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزّ وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (ذكر الرواية عنه بذلك) روى الإمام أحمد عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح- أو قال في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا يا رسول الله فذكروا له الذي كانوا فيه فقال «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي سألوه الزاد، قال عامر سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال: «كل عظم ذكر اسم الله في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم- قال- فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه. وروى مسلم أيضا: عن عامر قال سألت علقمة هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن؟! قال: فقال علقمة أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل: استطير؟ اغتيل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله فقدناك، فطلبناك، فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم». (طريق

أخرى) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن الزهري عن عبيد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون». (طريق أخرى) فيها: إنه كان معه ليلة الجن، روى ابن جرير رحمه الله عن أبي عثمان ابن شبة الخزاعي- وكان من أهل الشام- قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل» فلم يحضر منهم أحد غيري قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطّا ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط، ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز ثم أتاني فقال: «ما فعل الرهط؟» قلت: هم أولئك يا رسول الله، فأعطاهم عظما وروثا زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه البيهقي في الدلائل، وإسحاق بن راهويه، والحافظ أبو نعيم. (طريق أخرى) روى أبو نعيم حدثنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا فخطّ لي خطا فقال «كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت منها هلكت» فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة (طريق أخرى) روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن قال: أجل، قال: فكيف كان؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطّ عليه خطا وقال «لا تبرح منها» فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذعر ثلاث مرات، حتى إذا كان قريبا من الصبح أتاني النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «أنمت!» فقلت: لا والله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تهرعهم بعصاك تقول: «اجلسوا» فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم» ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «هل رأيت شيئا؟» قلت: نعم رأيت رجالا سوادا مستثفرين ثيابا بياضا قال صلّى الله عليه وسلم: «أولئك جن نصيبين سألوني المتاع- والمتاع: الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة فقلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا روثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة». (طريق أخرى) روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:

«إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتون الليلة أقرأ عليهم القرآن» فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخطّ لي خطا وأجلسني فيه وقال لي: «لا تخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمّة فقال: «إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء» قال: فلما أصبحت قلت لأعلمنّ حيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا. (طريق أخرى) روى البيهقي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخطّ لي خطا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أرحلهم عنك فقال: إني لن يجيرني من الله أحد. (طريق أخرى) روى الإمام أحمد: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان ليلة الجن قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم «أمعك ماء؟» قلت: ليس معي ماء ولكن معي إداوة فيها نبيذ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «تمرة طيبة وماء طهور» ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن زيد به (طريق أخرى) روى الإمام أحمد عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: إنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا عبد الله أمعك ماء؟» قال معي نبيذ في إداوة قال صلّى الله عليه وسلم: «اصبب علي» فتوضأ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا عبد الله شراب وطهور» تفرد به أحمد من هذا الوجه وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه به. (طريق أخرى) روى الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن فلما انصرف تنفّس فقلت ما شأنك؟ قال: «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» هكذا رأيته في المسند مختصرا، وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه (دلائل النبوة) فقال: عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن فتنفس، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت: استخلف قال: «من؟» قلت: أبا بكر، قال: فسكت ثم مضى ساعة فتنفّس، فقلت: ما شأنك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت: استخلف قال: «من؟» قلت: عمر فسكت، ثم مضى ساعة ثم تنفّس، فقلت: ما شأنك؟ قال: «نعيت إلي نفسي» قلت: فاستخلف، قال صلّى الله عليه وسلم: «من؟ قلت: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال صلّى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين» وهو حديث غريب جدا، وأحرى به أن لا يكون محفوظا، وبتقدير صحته، فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى، فإن في ذلك

الوقت كان في آخر الأمر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا نزلت سورة النصر إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه، كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، ووافقه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عليه، وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها والله أعلم، وقد رواه أبو نعيم أيضا عن الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف وهذا إسناد غريب وسياق عجيب (طريق أخرى) روى الإمام أحمد: عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطّ حوله فكان أحدهم مثل سواد النحل وقال: «لا تبرح مكانك فأقرأهم كتاب الله» فلما رأى المرعى قال: كأنهم هؤلاء، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أمعك ماء؟» قلت: لا، قال: «أمعك نبيذ؟» قلت: نعم، فتوضأ به (طريق أخرى مرسلة) روى ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ قال: هم اثنا عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل فقال صلّى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه: «أنظرني حتى آتيك» وخطّ عليه خطّا وقال «لا تبرح حتى آتيك» فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب فذكر قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم يبرح، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة». (طريق أخرى مرسلة أيضا) قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني؟» فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل: يا رسول الله إن ذلك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل، قال: فدخل النبي صلّى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخطّ عليه وخطّ على ابن مسعود رضي الله عنه خطّا ليثبته بذلك، قال: فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلّى الله عليه وسلم، ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلّى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا فتلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عزّ وجل، وشرع الله تعالى لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت. وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله

عنه، وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيدا منه ولم يخرج مع النبي صلّى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة، هذه طريقة البيهقي. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلّى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد وهي عند مسلم، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى- والله أعلم- كما روى ابن أبي حاتم في تفسير قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ من حديث ابن جريج قال: عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجنّ نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجنّ نصيبين، وتأوله البيهقي على أنه يقول: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلّى الله عليه وسلم إلى الجن، وهو محتمل على بعد والله أعلم. وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن سعيد بن عمرو قال كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته فأدركه يوما فقال: «من هذا؟» قال: أنا أبو هريرة قال صلّى الله عليه وسلم: «ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة» فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت: يا رسول الله ما بال العظم والروثة؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاما» أخرجه البخاري في صحيحه، فهذا يدل- مع ما تقدم- على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك. وقد روي عن ابن عباس غير ما روي عنه أولا من وجه جيد فروى ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. فهذا يدل على أنه قد روى القصتين. وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج عن مجاهد وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ الآية قال: كانوا سبعة نفر: ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، وكانت أسماؤهم حسى وحسى ومنسى وساصر وناصر والأرد وبيان والأحتم، وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم: بنو الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا، وهم كانوا عامة جنود إبليس وروى سفيان الثورى عن ابن مسعود رضي الله عنه: كانوا تسعة، أحدهم زوبعة أتوه في أصل نخلة، وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة، وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان وقيل: كانوا ثلاثمائة وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا. فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلّى الله عليه وسلم، ومما يدل

على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشئ قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مرّ به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليّ بالرجل، فدعي له فقال له ذلك فقال ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق جاءتنى أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها … ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها قال عمر رضي الله عنه: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري، وقد رواه البيهقي، ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح، وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه، وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه والله أعلم، وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه، وهذا الرجل هو سواد بن قارب، وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه، فمن أراده فليأخذه من ثم، ولله الحمد والمنة. وقال البيهقي: حديث سواد بن قارب ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح، عن البراء رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال فقلت: يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب؟ قال: فقال له عمر رضي الله عنه: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا، فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب. قال: فقال له عمر رضي الله عنه يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد رضي الله عنه: فإني كنت نازلا بالهند وكان لي رئي من الجن، قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءنى في منامي ذلك قال: قم، فافهم، واعقل، إن كنت تعقل قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ

يقول. عجبت للجن وتحساسها … وشدها العيس بأحلامها تهوي إلى مكة تبغي الهدى … ما خيّر الجن كأنحاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم … واسم بعينيك إلى راسها قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال: يا سواد بن قارب إن الله عزّ وجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتطلابها … وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى … ليس قداماها كأذنابها فانهض إلى الصفوة من هاشم … واسم بعينيك إلى قابها فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال: عجبت للجن وتخبارها … وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى … ليس ذوو الشر كأخيارها فانهض إلى الصفوة من هاشم … ما مؤمنو الجن ككفارها قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة- يعني مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك» قال: قلت يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه مني، قال صلّى الله عليه وسلم «قل يا سواد» فقلت: أتاني رئي بعد ليل وهجعة … ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة … أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمّرت عن ساقي الإزار ووسطت … بي الدعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره … وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة … إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل … وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة … سواك بمغن عن سواد بن قارب

قال: فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي: «أفلحت يا سواد»، فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عزّ وجل من الجن. ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلّى الله عليه وسلم بعد ما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) عن عمرو بن غيلان الثقفي قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له: حدّثت أنك كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن. قال: أجل، قلت: حدثني كيف كان شأنه! فقال: إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه وتركت فلم يأخذني أحد منهم، فمرّ بي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «من هذا؟» فقلت: أنا ابن مسعود، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما أخذك أحد يعشيك؟» فقلت: لا، قال صلّى الله عليه وسلم: «فانطلق لعلي أجد لك شيئا» قال: فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها فتركني قائما ودخل إلى أهله، ثم خرجت الجارية فقالت: يا ابن مسعود إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك. فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية فقالت: أجب رسول الله فأتبعتها وأنا أرجو العشاء، حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتنطلق أنت معي حيث انطلقت؟» قلت: ما شاء الله، فأعادها علي ثلاث مرات كل ذلك أقول: ما شاء الله، فانطلق وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد، فخطّ صلّى الله عليه وسلم بعصاه خطّا ثم قال: «اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك» ثم انطلق يمشي وأنا انظر إليه خلال النخل، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء، ففرقت فقلت ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإني أظنّ أنّ هوازن مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلم ليقتلوه، فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس، فذكرت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه، فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول «اجلسوا» فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح، ثم ثاروا وذهبوا فأتاني، رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «أنمت بعدي؟» فقلت: لا ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس، حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلم ليقتلوه، فقال: «لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم، فهل رأيت من شئ منهم؟» فقلت: رأيت رجالا سودا مستثفرين بثياب بيض؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أولئك وفد جنّ نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل،

أو روثة أو بعرة» قلت: فما يغني عنهم ذلك؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة» وهذا إسناد غريب جدا، ولكن فيه رجل مبهم لم يسم، والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟ فأسكت القوم ثلاثا فمرّ بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدنية كلها وأفضينا إلى أرض برازا فإذا رجال طوال كأنهم الرماح، مستثفرين بثيابهم من بين أرجلهم، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم وهذا حديث غريب والله أعلم. ومما يتعلق بوفود الجنّ ما رواه أبو نعيم عن حصين بن عمر: أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج، حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض ينفح منه ريح المسك، فقلت لأصحابي: امضوا فلست ببارح حتى انظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية قال: فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء، فلففتها فيها، ثم نحيتها عن الطريق، فدفنتها وأدركت أصحابي في المتعشى. قال: فو الله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب، فقالت: واحدة منهنّ: أيكم دفن عمرا؟ قلنا: ومن عمرو؟ قالت: أيكم دفن الحية؟ قال: فقلت: أنا، قالت: أما والله لقد دفنت صواما قواما يأمر بما أنزل الله تعالى، ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام، قال الرجل: فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة فأنبأته بأمر الحية فقال: صدقت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة» وهذا حديث غريب جدا، والله أعلم، قال أبو نعيم: وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه، وروى عبد الله بن أحمد الظهراني عن صفوان ابن المعطل- هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة- وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستمعون القرآن، وروى أبو نعيم عن معاذ بن معمر قال: كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا، ثم قتل أحدهما الآخر، قال: فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة، وإذ ينفح من بعضها ريح المسك، فجعلت أشمها واحدة واحدة، حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة،

نقل: عن صاحب الظلال حول موضوع الجن

فلففتها في عمامتي ودفنتها، فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد: يا عبد الله لقد هديت، هذان حيان من الجن بنو شعيبان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت، واستشهد الذي دفنته، وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فقال عثمان لذلك الرجل: إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا، وإن كنت كاذبا فعليك كذبك). فهم بعضهم من النصوص التي ذكرت بمناسبة الكلام عن جنّ نصيبين أن كل عظم هو غذاء للجن إلى قيام الساعة، وكل روث هو علف لدوابهم، والذي فهمته من النصوص أنّ ذلك كان معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكرامة لجنّ نصيبين فقط. [نقل: عن صاحب الظلال حول موضوع الجن] وقد تحدّث صاحب الظلال حديثا مسهبا عن الجن بمناسبة ذكرهم في السورة فقال: (إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي- صلّى الله عليه وسلم- وحكاية ما قالوا وما فعلوا .. هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن، ولتقرير وقوع الحادث. ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يسمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق، كما يلفظه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران، مستعدون للهدى وللضلال .. وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة؛ فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله- سبحانه- ثبوتا. ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني. إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا. ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار نعرف منها القليل ونجهل منها الكثير. وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق. تارة بذواتها. وتارة بصفاتها. وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا. ونحن ما نزال في أول الطريق. طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا، ويعيش أبناؤنا وأحفادنا، على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة. هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه! وما عرفناه اليوم- ونحن في أول الطريق- يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن. ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شئ من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا!

ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية، المعدّة للخلافة في هذه الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخّره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره، ولتكون لنا ذلولا، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض .. ولا نتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها .. مهما امتد بنا الأجل- ومهما سحر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره- لا تتعدى تلك الدائرة. دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض. وفق حكمة الله وتقديره. وسنكشف كثيرا، وسنعرف كثيرا، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة. وفي حدود قول الله- سبحانه- وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 85). قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه. وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود؛ ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ (لقمان: 27). فليس لنا- والحالة هذه- أن نجزم بوجود شئ أو نفيه. وبتصوره أو عدم تصوره. من عالم الغيب المجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة. ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلا عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا! وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا. وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده، لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض. فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى. عن طريق كلامه- لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا- فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم. نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها. لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة. وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار! ومن هذا النص القرآني. ومن نصوص سورة الجن. والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه. ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن. ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث. نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن .. ولا زيادة .. هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن. مخلوق من النار. لقول إبليس في الحديث عن آدم: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (ص: 76) .. وإبليس من

4 - كلام ابن كثير حول قوله تعالى فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين

الجن لقول الله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (الكهف: 50) .. فأصله من أصل الجن. وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر. منها خلقته من نار، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس، لقوله تعالى عن إبليس- وهو من الجن-: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ (الأعراف: 27) .. وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس. للقول السابق: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ .. وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي- لا ندري أين- لقوله تعالى: لآدم وإبليس معا: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (البقرة: 36) .. والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها. وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (الجن: 8 - 9) .. وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم- غير عباد الله- للنصوص السابقة، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين: قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (ص: 83 - 84) .. وغير هذا من النصوص المماثلة. ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة. وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به. وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً* وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (الآية: 14 - 15) .. وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الإيمان، بعد ما وجدوه في نفوسهم، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد. 4 - [كلام ابن كثير حول قوله تعالى فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ] بمناسبة قوله تعالى عن الجن: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قال ابن كثير: (وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل ولا شك أن الجن لم يبعث الله تعالى منهم رسولا لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى (يوسف: 109) وقال عزّ وجل وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ (الفرقان: 20) وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ (الحديد: 26) فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته فأما قوله تبارك وتعالى في

5 - كلام ابن كثير حول آية يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم

سورة الأنعام يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (الأنعام: 115) فالمراد من مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما وهو الإنس كقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (الرحمن: 22) أي: أحدهما). 5 - [كلام ابن كثير حول آية يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ] بمناسبة قوله تعالى على لسان الجن عن القرآن. يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ قال ابن كثير: (فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب، فخبره صدق وطلبه عدل عدلا كما قال تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا (الأنعام: 115) وقال سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ (الصف: 9) فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ في الاعتقادات وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي: في العمليات). 6 - [كلام ابن كثير حول آية أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى على لسان الجن في قولهم لأقوامهم أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال ابن كثير: (فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم، ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ. 7 - [كلام ابن كثير حول آية فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .. ] بمناسبة قوله تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ قال ابن كثير: (وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال وأشهرها: أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلّى الله عليه وسلم قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل فتكون (من) في قوله من الرسل لبيان الجنس والله أعلم، وقد روى ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها: ظل رسول الله صلّى الله عليه وسلم صائما ثم طواه، ثم ظل صائما ثم طواه، ثم ظل صائما ثم قال: «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله». ***

كلمة أخيرة في سورة الأحقاف وزمرة آل حم

كلمة أخيرة في سورة الأحقاف وزمرة آل حم: سورة الأحقاف هي آخر سورة من زمرة آل حم، وقد اشتركت آل حم كلها في كونها تحدثت عن القرآن الكريم، وعن مظاهر من إعجازه، وناقشت الكافرين فيه، ودار تفصيلها بين مقدمة سورة البقرة، والمقطع الأول منها، ومن ثم فقد كانت كلها تبني إما في الأساس، وإما في الطريق، ومن ثم فإن دراستها تشكل جزءا كبيرا من فقه الأساس، وفقه الطريق، وكانت سورة الأحقاف هي السورة السابعة فيها والأخيرة، وقد فصّلت كما رأينا في الطريقين: طريق الإيمان، وطريق الفسوق، فعمّقت قضية الاهتداء بالقرآن، وعمّقت قضية العبادة لله وحده، وحذّرت وأنذرت، وبشّرت ووعدت وأوعدت، وناقشت وأقامت الحجة، وخاطبت النفس والعقل، وكان لها سياقها الخاص، وأدت دورها في خدمة السياق القرآني العام، وبيّنت في الطريق إلى التقوى والطريق إلى الفسوق ومن ثم فقد انتهت بقوله تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ، ولننتقل إلى سورة القتال وهي السورة الثالثة من المجموعة الخامسة في قسم الثاني. ***

سورة محمد

سورة محمّد وهي السّورة السّابعة والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الثالثة من المجموعة الخامسة من قسم المثاني وآياتها ثمان وثلاثون آية وهي مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم

بين يدي سورة محمد صلى الله عليه وسلم: تقديم الألوسي وصاحب الظلال للسورة

بين يدي سورة محمد صلّى الله عليه وسلم: [تقديم الألوسي وصاحب الظلال للسورة] قال الألوسى في تقديمه لهذه السورة: (وتسمى سورة القتال، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلى آخره، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليه وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله، وأنت أحب بلاد الله تعالى إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلّى الله عليه وسلم- أعني ما نزل في سفر الهجرة- من المكي اصطلاحا، كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام، وعدة آيها أربعون في البصري، وثمان وثلاثون في الكوفي، وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما، والخلاف في قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها وقوله تعالى: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها، واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكان متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة، آخذا بعضه بعنق بعض، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة مدنية، ولها اسم آخر. (وهو) سورة القتال. وهو اسم حقيقي لها. فالقتال هو موضوعها. والقتال هو العنصر البارز فيها. والقتال في صورها وظلالها. والقتال في جرسها وإيقاعها. القتال موضوعها. فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا، وتمجيد للذين آمنوا، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين ووليّ للآخرين، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه. فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ. وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا، أمر صريح للذين آمنوا بخوض

الحرب ضدهم. في صيغة رنانة قوية، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها. ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال، وتشجيع عليه، وتكريم للاستشهاد فيه، ووعد من الله بإكرام الشهداء، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها* ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ. كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول صلّى الله عليه وسلم: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ. ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة. فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات، وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ. كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن، ولبن لم يتغير طعمه، وخمر لذة للشاربين، وعسل مصفى، في وفر وفيض .. في صورة أنهار جارية .. ذلك مع شتى الثمرات، ومع المغفرة والرضوان. ثم سؤال: أهؤلاء كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ؟. فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين. أعقبها في السورة جولة مع المنافقين، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها

من القبائل في تلك الفترة، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود، وضعف مركز المنافقين (كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب). والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها. ظلال الهجوم والقتال. منذ أول إشارة. فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه، ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: ماذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً؟ فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟. ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال- وهم يتظاهرون بالإيمان- والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ! فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ!. ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات. ويرذل اتجاهاتهم، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن: فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؟ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. ويفضحهم في توليهم للشيطان، وفي تآمرهم مع اليهود، ويهددهم بالعذاب عدا الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي، الذي يدمجون أنفسهم فيه، وهم ليسوا منه، وهم يكيدون له: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ* وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ.

وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ- مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى - لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ. وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ .. وتحضيض لهم على الثبات عند القتال: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ. وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها. وحضّ على البذل الذي يسره الله، ولم يجعله استئصالا للمال كله، رأفة بهم، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ* إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ. وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال، وبالبذل في القتال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ .. *** إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها؛ يظللها جو القتال، وتتسم بطابعه في كل فقراتها. وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة: أَعْمالَهُمْ.* بالَهُمْ.* أَمْثالَهُمْ.* أَهْواءَهُمْ.* أَمْعاءَهُمْ ... وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء: أَوْزارَها. أَمْثالُها. أَقْفالُها ... وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها .. فالقتال أو القتل

كلمة في سورة القتال ومحورها

يقول عنه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ .. والتقتيل والأسر يصوره بشدة: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ .. والدعاء على الكافرين يجئ في لفظ قاس: فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ .. وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلا ولفظا: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها .. وصورة العذاب في النار تجئ في هذا المشهد: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ .. وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجئ في مشهد كذلك عنيف: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ! .. حتى تحذير المؤمنين من التولي يجئ في تهديد نهائي حاسم: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ... وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال .. ). كلمة في سورة القتال ومحورها: فصّلت سورة الأحقاف في الآيات الست التي تأتي بعد مقدمة سورة البقرة، والتي تنتهي بقوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وقد لاحظنا أنّ كلا من مقطعيها ينتهي بكلمة الفسوق بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ .. بعد الآيات الست التي تأتي بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وبعد سورة الأحقاف تأتي سورة القتال وهي مبدوءة بكلمة (الذين). الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ فكما كانت الآية (27) في سورة البقرة شرحا للفسوق فإن سورة القتال تشرح الفسوق، وتشرح ما يقابله، وتبيّن لأهل الإيمان ماذا عليهم أن يفعلوا تجاه الفسوق وأهله. وشرح الفسوق في سورة البقرة جاء امتدادا للآية السادسة من السورة نفسها، ولذلك فإن الآيات الأولى من سورة القتال لها صلات كبيرة في كل من الآيتين السادسة والعشرين، والسابعة والعشرين من سورة البقرة: قال تعالى في سورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا

أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وقد بدأت سورة القتال بقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ. لاحظ الاشتراك في المعاني بين آيتي سورة البقرة وهذه الآيات الثلاث من بداية سورة القتال، لاحظ وجود كلمة (الضلال) في الجهتين، ولاحظ ذكر الأمثال في الجهتين، ولاحظ ورود كلمة (الحق) في الجهتين، ولاحظ الصلة بين الصد عن سبيل الله في ابتداء سورة القتال، وبين الإفساد في الأرض في سورة البقرة. ثمّ لاحظ ما يلي: يرد في سورة القتال قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. يرد في سورة القتال قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فهذه الصلات الظاهرة بين ما ذكرناه وبين آية سورة البقرة ترجّح أنّ هذه الآية هي محور السورة. إذا صحّ أن هذه الآية هي محور سورة القتال، فإن سورة القتال إذن تفصّل في محور سورة المائدة، ومن ثم نجد تشابها بين آيات في سورة المائدة وآيات في سورة القتال: ففي سورة المائدة يرد قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ .... وفي سورة القتال يرد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ

لَهُمُ الْهُدَى .. ويرد قوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. وكنا ذكرنا من قبل أن سورة المائدة تحرّر من المعاني التي إذا وجدت لا يكون اهتداء بكتاب الله ولا إيمان، فهي تكمّل عمل سورة النساء؛ إذ تدل على الطريق: فواحدة تدل على الطريق، وأخرى تحذّر من منعرجات الطريق، وكما أن في سورتي النساء والمائدة من التكامل ما رأيناه، فإن بين سورتي الأحقاف والقتال من التكامل ما يشبه ذلك. وأثناء الكلام عن سورة البقرة قلنا: إن قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. دخل فيه الكافرون والمنافقون الذين تحدّثت عنهم مقدمة سورة البقرة، وفي سورة القتال نجد كلاما عن الكافرين الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... *. ونجد كلاما عن المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. ذكرنا من قبل أن السورة التي تفصّل محورا من سورة البقرة تفصّل عادة في هذا المحور، وفي امتدادات معانيه في سورة البقرة، أو في بعض امتدادات معانيه: وإن من امتدادات معاني آية الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ .. في سورة البقرة آيات القتال والإنفاق الأولى في سورة البقرة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ .. وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. ولذلك نجد في سورة القتال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ .. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، لا بدّ أن يقاتلوا، ومن امتدادات المحور آيات القتال الثانية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .. وسنرى كذلك صلة سورة القتال بذلك.

فالسورة إذن تفصّل في محورها وارتباطاته وامتدادات معانيه، وتأخذ محلّها في مجموعتها، وفي قسمها كما سنرى، وتتكامل مع السورة التي تأتي قبلها، ومع السورة التي تأتي بعدها. ومن مظاهر التكامل بين سورة القتال وما قبلها أن سورة الأحقاف عالجت الفسوق نظريا أي من حيث مقارعته الحجة وأمثال ذلك، وأما سورة القتال فترسم الطريق العملي لمقارعته ومجادلته بالقتال والجهاد، ومن ثم تجد اشتراكها مع سورة المائدة في النداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. * الذي لم يرد معنا أبدا منذ سورة الأحزاب التي فصّلت في محوري سورتي النساء والمائدة كما رأينا .. وسنرى شيئا عن تكامل السورة وما بعدها فيما بعد. تتألف سورة القتال من مقدمة ومقطعين، وكل من المقطعين مبدوء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... *. ***

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (6) وهذه هي

مقدمة السورة وتمتدّ من الآية (1) إلى نهاية الآية (6) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 47/ 1 - 6 التفسير: الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وآياته وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: عن الإسلام أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء قال النسفي: (أي أبطلها وأحبطها، وحقيقته: جعلها حثالة ضائعة ليس لها من يتقبّلها ويثيب عليها كالضالّة من الإبل، وأعمالهم: ما عملوه في كفرهم من صلة الأرحام وإطعام الطعام، أو ما عملوه من الكيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين والصدّ عن سبيل الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادات لشرع الله

[سورة محمد (47): آية 3]

جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ قال ابن كثير: عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلّى الله عليه وسلم قال النسفي: وهو القرآن، وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلم من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه وَهُوَ أي: القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي: وأصلح حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين، وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد ذلِكَ أي: إضلال أعمال أحد الفريقين؛ وتكفير سيئات الثاني بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ قال ابن كثير: أي إنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار وأصلحنا شئونهم؛ لأن الذين كفروا اتّبعوا الباطل، أي اختاروا الباطل على الحق وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ وهو القرآن والمعنى: أنّ إضلال أعمال أحد الفريقين، وتكفير سيئات الثاني، وإصلاح باله كائن بسبب اتباع أولئك الباطل الذي لا حقيقة له، واتباع هؤلاء الحق الذي هو القرآن كَذلِكَ أي: مثل ذلك الضرب يَضْرِبُ اللَّهُ أي: يبيّن الله لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ قال ابن كثير: أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم، أو إنما يضرب الله مثل الفريقين لأجل الناس ليعتبروا به. قال النسفي: وقد جعل اتّباع الباطل مثلا لعمل الكافرين، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، أو جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز الأبرار. كلمة في السياق: في الآية التي سبقت محور السورة من سورة البقرة بيّن الله عزّ وجل أنّ هناك فريقين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فهناك مؤمنون بأنّ القرآن حق، وهناك كافرون، ثم قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فهناك ضالون ومهتدون، ثم بيّن من هم هؤلاء الضالّون: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ومرجع صفات الفاسقين إلى الكفر والصدّ عن سبيل الله، ومن ثم فإن الآيات الثلاث التي مرت معنا في سورة القتال ذكرت أن هناك فريقين: فريقا كافرا صادا عن سبيل

ملاحظة

الله، وفريقا مؤمنا عاملا بالإسلام، مؤمنا بالقرآن الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن الكافرين يتّبعون الباطل، وأن المؤمنين يتّبعون الحق من الله أي القرآن، وأن سنّة الله أن يضل أعمال الكافرين، وأن يكفّر سيئات المؤمنين، ويصلح لهم ضمائرهم، وأن في هذا وهذا مثلين للناس ليختاروا. ومن ثم فإن الآيات الثلاث الأولى من سورة القتال هي عرض جديد لما تضمّنه محور السورة من سورة البقرة، مع زيادة تفصيل في مكافأة كل من الفريقين، فإذا استقر هذا فإن الآيات اللاحقة من المقدمة تأمر أهل الإيمان بقتال أهل الكفر والطغيان بعد أن بيّنت حالهم وحال المؤمنين، وضربت لذلك الأمثال، وكأن تبيان حال الفريقين جاء لتبيان حكمة الأمر بالقتال، فما عليه المؤمنون من خير وحق، وما عليه الكافرون من شر وباطل، هو الموجب لفريضة قتال المؤمنين للكافرين، ومن ثم فإننا نلاحظ أن الآيات اللاحقة تبدأ بقوله تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ .. فالابتداء بالفاء هنا إشارة إلى أن ما مر هو سبب الأمر بالقتال. ملاحظة: في الآية التي سبقت آية المحور من سورة البقرة ورد قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما .. وورد قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. وهاهنا ورد قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ لاحظ الاشتراك في كلمة (المثل) في مقدمة السورة هنا، وفي الآية السابقة على آية المحور هناك. فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أي: بسبب ما مرّ، فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضربوا الرقاب ضربا، والمراد بضرب الرقاب القتل قال ابن كثير: أي: إذا واجهتموهم فاحصدوهم بالسيوف حصدا (وهو إرشاد للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين) حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي: فالجئوا إلى الأسر والاعتقال فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ أي: بعد أن تأسروهم وَإِمَّا فِداءً أي: وإما أن تقبلوا الفداء قال ابن كثير: ثم أنتم بعد

[سورة محمد (47): آية 5]

انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيّرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه. أقول: وفي الآية اختلافات فقهية سنذكرها في الفوائد. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي: أثقالها أي حتى تنتهي الحرب بينكم وبينهم بصورة من صور انتهاء الحرب الإسلامية، كما سنذكر ذلك في الفوائد. ذلِكَ أي: الأمر ذلك وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي: لانتقم منهم بغير قتال ببعض أسباب الهلاك كالخسف أو الرجفة، أو غير ذلك وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي: ولكن أمركم بالقتال ليبلو بعضكم ببعض، أي: المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين، وتمحيقا للكافرين. قال ابن كثير: (أي: ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ويبلو أخباركم .. ). وهذا يفيد أنّه لا بدّ من بذل الجهد لنصرة الإسلام، وفي الآية ردّ على القاعدين عن نصرة دين الله بحجة أنّ الله ينصر دينه، ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال تعالى وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ قال ابن كثير: أي لن يذهبها بل يكثّرها وينمّيها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه. سَيَهْدِيهِمْ أي: إلى الجنة وَيُصْلِحُ بالَهُمْ قال ابن كثير: أي أمرهم وحالهم وقال النسفي: أي يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي: عرّفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجون أن يسألوا، أو طيّبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة. كلمة في السياق: [المقدمة حول موضوعاتها وعلاقة السورة بأوامر القتال في سورة البقرة] 1 - وهكذا قد عرّفتنا المقدمة على الأسباب التي من أجلها شرع الله الجهاد، وبيّنت لنا الطريق العمليّ لذلك، وهو الإثخان في القتل، وعدم اللجوء إلى الأسر والاعتقال إلا بعد هذا الإثخان، وأنه بعد الأسر والاعتقال يجوز للمسلمين المنّ أو الفداء، على خلافات بين الفقهاء سنراها في الفوائد. كما بيّن لنا تعالى حكمة عدم انتصاره المباشر من الكافرين أحيانا، وذلك من أجل أن يختبر إيمان المؤمنين هل يجاهدون في سبيله أم لا؟، وبيّن لنا بماذا يكافئ من يقتل في سبيله من هداية إلى الجنة، وإصلاح بال، فلا يقلقون على شئ في البرزخ، أو يوم القيامة، كما يدخلهم الجنة وقد طيبها لهم.

الفوائد حول آيات المقدمة

فالمقدمة إذن ذكرت خصائص الفريقين، وذكرت فرضية القتال على المؤمنين، وإذ كان هذا القتال ينبغي أن يكون خالصا لوجه الله، وفي سبيله، فليقاتل المسلمون، وليطمئنوا إلى نصر الله، ومن ثم بدأ المقطع الأول بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. 2 - قلنا إنّ من امتدادات محور السورة في سورة البقرة قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. لقد فسّرت آيات سورة القتال كثيرا من أوامر القتال في سورة البقرة فبينت أن الفتنة هي الصدّ عن سبيل الله، وبيّنت كيف ينبغي أن نقاتل، فعرّفتنا أن علينا أن نثخن أولا في الأرض. وإذا صح ربطنا بين سورة القتال وآيات القتال الأولى في سورة البقرة، فهذا يرجح التفسير الذي يفسّر قوله تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا بأنّ كلّ الكافرين مقاتلون وعلينا أن نقاتلهم، وأنّ الاعتداء في الآية لا يراد به البدء في القتال، وإنما يراد به تجاوز ما شرعه الله في القتال. الفوائد [حول آيات المقدمة]: 1 - [كلام ابن كثير حول الآية (4) وحديث عن الجهاد والأسارى] بمناسبة قوله تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن كثير: (والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر؛ فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء، والتقليل من القتل يومئذ فقال ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيّرة بين مفاداة الأسير والمنّ عليه منسوخة بقوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية، رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وآخرون وهم الأكثرون: ليست بمنسوخة، ثم قال بعضهم: إنما الإمام مخيّر بين المنّ على الأسير، ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله وقال آخرون منهم:

بل له أن يقتله إن شاء لحديث: قتل النبي صلّى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قال له: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: إن تقتل تقتل ذا دم وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل وتعط منه ما شئت. وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال: الإمام مخيّر بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضا، وهذه المسألة محررة في علم الفروع. وقوله عزّ وجل حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكأنه أخذه من قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال». وروى الإمام أحمد عن جبير بن نفير قال: إن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني سيبت الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، وقلت لا قتال، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم «الآن جاء القتال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به وروى أبو القاسم البغوي عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: لما فتح على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتح فقالوا: يا رسول الله سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها قالوا: لا قتال، قال: «كذبوا الآن جاء القتال لا يزال الله تعالى يزيغ قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعقد دار المسلمين بالشام» وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به، والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم، وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب وقال قتادة: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها حتى لا يبقى شرك، وهذا قوله تعالى وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ثم قال بعضهم: حتى تضع الحرب أوزارها أي أوزار المحاربين، وهم المشركون، بأن يتوبوا إلى الله عزّ وجل، وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى). وبمناسبة قوله تعالى: إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ. قال صاحب الظلال: (والإثخان: شدة التقتيل، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع. وعندئذ- لا قبله- يؤسر من استأسر ويشد وثاقه. فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر.

2، 3 - كلام ابن كثير عن جزاء الشهيد عند الله ومنزلته في الجنة

وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف- كما رأى معظم المفسرين- بين مدلول هذه الآية، وبين مدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر. والتقتيل كان أولى. وذلك حيث يقول تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته؛ وبعد ذلك يكون الأسر. والحكمة ظاهرة؛ لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال. وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة. وكانت الكثرة للمشركين. وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك. والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع). [2، 3 - كلام ابن كثير عن جزاء الشهيد عند الله ومنزلته في الجنة] 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ قال ابن كثير: (أي لن يذهبها؛ بل يكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي- رجل كانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يعطى الشهيد ست خصال. عند أول قطرة من دمه تكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان» تفرد به أحمد رحمه الله. (حديث آخر) روى أحمد أيضا عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصّع بالدر والياقوت، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه» وقد أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل شئ إلا الدين» وروى من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته» ورواه أبو داود، والأحاديث في فضل

المقطع الأول ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (32) وهذا هو

الشهيد كثيرة جدا). 3 - وبمناسبة قوله تعالى عن الشهداء: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ قال ابن كثير: (أي عرفهم بها وهداهم إليها قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا، وروى مالك عن زيد بن أسلم نحو هذا، وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل بن حيان: بلغنا أن الملك الذي كان وكلّ بحفظه عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شئ أعطاه الله تعالى في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزلة في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه، ذكره ابن أبي حاتم رحمه الله. وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزلة الذي كان في الدنيا»). *** المقطع الأول ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (32) وهذا هو: 47/ 7 - 11

47/ 12 - 20

التفسير

47/ 21 - 32 التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلم يَنْصُرْكُمْ أي: على عدوكم ويفتح لكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي: في مواطن الحرب، أو على محجة الإسلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ التعس: العثور أي فعثورا لهم وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أحبطها وأضلها ذلِكَ أي: التعس والضلال للكافرين بِأَنَّهُمْ

[سورة محمد (47): آية 10]

كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: بسبب كراهتهم القرآن قال ابن كثير: أي لا يريدونه ولا يحبونه فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها فلم يقبلها أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي: أفلم يسر هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكافرين دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: أهلكهم هلاك استئصال أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم ونجّى المؤمنين من بين أظهرهم وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي: أمثال تلك الهلكة ذلِكَ أي: نصر المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي: وليّهم وناصرهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ أي لا ناصر لهم قال النسفي: فإن الله تعالى مولى العباد جميعا من جهة الاختراع، ومالك التصرف فيهم، ومولى المؤمنين خاصة من جهة النصرة .. كلمة في السياق: [حول علاقة ما مر من السورة بالمحور] بيّن الله عزّ وجل للمؤمنين أنّه ينصرهم إن نصروه، وبين ماذا يستحق منه الكافرون وسبب استحقاقهم، ثم لفت نظر الكافرين إلى انتقامه من الأمم السابقة، وذلك نوع من أنواع النصر للمؤمنين، وعلّل لذلك بأن سبب ما ينزل بالكافرين هو ولايته سبحانه وتعالى للمؤمنين، وأن الكافرين لا مولى لهم. وبعد أن بيّن الله عزّ وجل هذا النوع من أنواع النصرة للمؤمنين يحدّثنا الآن عن نوع آخر. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ جزاء على إيمانهم وعملهم الصالح وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي: يتمتعون بمتاع الحياة الدنيا أياما قلائل وَيَأْكُلُونَ غافلين غير متفكرين في العاقبة كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النّحر والذّبح وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي منزلهم ومقامهم يوم القيامة جزاء على أن لم يكن لهم همة إلا في متاع الدنيا، وطعامها وشرابها، ليس لهم همة إلا في ذلك وأمثاله وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: وكم من قرية، أي وكثير من القرى هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي: مكة، وأي وكم من قرية أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ أي: فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم. قال ابن كثير: (وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو سيد الرسل،

[سورة محمد (47): آية 14]

وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عزّ وجل قد أهلك الأمم الذين كذّبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشدّ قوة من هؤلاء، فما ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة، فإن العذاب يوفّر على الكافرين به في معادهم) وفي ختم الآية يقول تعالى فَلا ناصِرَ لَهُمْ دليل على ما قلناه أن السياق يعرض علينا نماذج من نصر الله لأنبيائه وأوليائه، ثم قال تعالى أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ قال ابن كثير: أي على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من كفر وصدّ عن سبيل الله وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي: ليس هؤلاء كهؤلاء، فليس المؤمن العامل كالكافر الفاجر العامل السوء المتّبع الهوى مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: صفتها العجيبة الشأن الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي: غير متغيّر اللون والريح والطعم وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ كما تتغيّر ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها قال ابن كثير: بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ أي: لذيذ لِلشَّارِبِينَ قال ابن كثير: أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل. قال النسفي: وما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل، ولا خمار ولا صداع، ولا آفة من آفات الخمر وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: وهو في غاية الصفاء، وحسن اللون والطعم والريح، لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره وَلَهُمْ فِيها أي: في الجنة مع هذا كله مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ هذا مثل الجنة وأهلها فهل هذا كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ قال ابن كثير: أي أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم في الجنة كمن هو خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء، وليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات وَسُقُوا ماءً حَمِيماً أي: حارا شديد الحر لا يستطاع فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أي: قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء عياذا بالله تعالى من ذلك. كلمة في السياق: 1 - مرّ معنا أكثر من نموذج على أنواع النصر للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأكثر من نموذج على خسران الكافرين في الدنيا والآخرة، فهناك النصر باستئصال الكافرين،

[سورة محمد (47): آية 16]

والنصر بإدخال الكافرين النار، هذا مع إنجاء المؤمنين، وإدخالهم الجنة، وهذا كله مع نصرة الله إياهم إن قاتلوا أعداءه. 2 - وصف الكافرون فيما مرّ من السورة بأنهم متبعو الهوى، سيّئوا العمل، لا همّ لهم إلا متاع الدنيا، وأكل الشهوات، وهم مع هذا كارهون للقرآن، متّبعون للباطل، صادّون عن سبيل الله، كافرون، وفي ذلك كله تفصيل لمعنى الفسوق، وتفصيل لقوله تعالى في المحور: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والسورة في سياقها الرئيسى تفصّل في هذا الشأن، ولكنها خلال ذلك تؤدي خدمات أخرى، إذ تبيّن أن هؤلاء يجب أن يقاتلوا، وأنّ عاقبتهم الخذلان والخسران، وأن النّصر في القتال لأهل الإيمان، كما أن النصر في الدنيا والآخرة لهم. 3 - في دعوة الله الكافرين للسير في الأرض، والنظر في عاقبة المكذبين السابقين دعوة لأن يعلموا أنهم مغلوبون؛ لأن ذلك جاء في أثر وعد الله المؤمنين بالنصر. 4 - وبعد ما مرّ يحدثنا الله عزّ وجل عن صنف من الكافرين هم المنافقون، ثم يحدّثنا عن نوع آخر من أنواع نصرة المؤمنين، وتثبيتهم في زيادتهم الهدى، وإعطائهم التقوى. وَمِنْهُمْ أي: ومن الناس، أو من الكافرين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ممن يحضر مجلسك، ويسمع قولك حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الصحابة ماذا قالَ آنِفاً أي: ماذا قال الساعة؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يعقلون، ولا يفهمون وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح، وليس لهم مقصد إلّا اتباع الهوى. كلمة في السياق: 1 - ما صلة هذه الآية بسياق السورة؟ هل لأن السورة تحدثنا عن الفاسقين، جاء ذكر هؤلاء المنافقين في سياقها، لأنهم نوع من الفاسقين، أم لأن السورة تحدثنا عمن استحقوا أن يقاتلوا، فجاءت الآية تذكّرنا أن هؤلاء ممن يستحقون القتال؟ الظاهر أن ذلك كله مراد.

[سورة محمد (47): آية 17]

2 - يلاحظ أن السورة تتحدث عن المؤمنين والكافرين بشكل متناوب، وقد حدثتنا الآية عن نوع من الكافرين هم المنافقون، ويعقب ذلك الآن حديث عن المؤمنين. وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى الله بسلوك الطريق المؤدي إلى ذلك زادَهُمْ هُدىً أي: زادهم الله هدى كرما منه، أي زادهم بصيرة وعلما، أو زادهم انشراح صدر وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي: أعانهم عليها وحقّقهم بها. كلمة في السياق: [حول تعميق فهم موضوع الإيمان والفسوق] بدأ المقطع بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وقد رأينا نماذج من نصرة الله للمؤمنين، وقد حدّثنا الله عزّ وجل في الآية المارّة عن نموذج من النصر، وهو تثبيت الإيمان الذي يعطيه الله عزّ وجل لمن اهتدى فالآيتان الأخيرتان تعمّقان فهم موضوع الإيمان والفسوق، وتعمّقان فهم موضوع الصراع بين أهل الإيمان والفسوق، وتبينان عمق الهوة بين الطرفين. ثمّ يذكّر الله عزّ وجلّ الكافرين والمنافقين بالساعة: فَهَلْ يَنْظُرُونَ: أي فهل ينتظرون إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي: فهل ينتظرون إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي: علاماتها، أي أمارات اقترابها، ومن جملة ذلك مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي الفوائد تتمة الكلام عن هذا المقام فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ قال ابن كثير: (أي: فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك). كلمة في السياق: [حول تلخيص أفكار الآيات السابقة] بدأ المقطع بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، ثم بيّن المقطع نماذج من نصرة الله أولياءه، وتثبيتهم، وذكّر الكافرين

[سورة محمد (47): آية 19]

والمنافقين- أي الفاسقين جميعا- ووعظهم، والآن يتوجّه الخطاب للقائد المكلّف بالقتال. فَاعْلَمْ أَنَّهُ أي: أن الشأن لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال النسفي: والمعنى: فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، وعلى التواضع وهضم النفس، باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في معايشكم ومتاجركم وَمَثْواكُمْ أي: ويعلم حيث تستقرون في منازلكم، أو متقلّبكم في حياتكم ومثواكم في القبور، أو متقلّبكم في أعمالكم ومثواكم في الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى وأن يستغفر، واختار ابن كثير القول الأول قال: أي: يعلم تصرّفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم. كلمة في السياق: [في أن التوحيد والاستغفار من شروط النصر] من السياق نعرف أن التوحيد الخالص والاستغفار للنفس وللمؤمنين هما من شروط النصر، ومن أدب المسلم المجاهد، وبدونهما لا يكون جهاد في سبيل الله، إذ لا جهاد تحت راية التوحيد ولا جهاد إلا إلا بجماعة، ولا جماعة إلا برحمة، ومن مظاهر الرحمة الاستغفار لبعضنا بعضا، ثم إن الأمر بالاستغفار في هذا السياق فيه إشعار بأن الذنب معوّق عن النّصر، فبقدر ما يوجد توحيد واستغفار يكون نصر الله قريبا، ثم يحدثنا الله عزّ وجل عن طائفة تتحمّس للقتال حتى إذا افترض جبنت عنه. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فيها ذكر الجهاد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي: مبيّنة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال، أي مشتملة على حكم القتال بدليل ما يأتي وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: أمر فيها بالجهاد رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ من فزعهم ورعبهم، وجبنهم من لقاء الأعداء، أي تشخص أبصارهم جبنا وجزعا كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت قال تعالى مشجّعا لهم ومرشدا فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قال ابن كثير: أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي في الحالة الراهنة فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جدّ الحال وحضر القتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ في

كلمة في السياق: حول علامات النفاق وآداب القتال

الإيمان والطاعة، وإخلاص النيّة لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ عند الله من كراهة الجهاد وتركه. كلمة في السياق: [حول علامات النفاق وآداب القتال] دلّنا النص على أن من علامات النفاق خوف الجهاد، والرغبة عنه، والفرار من تكاليفه، كما دلّنا على أن أدب المسلم استقبال الأمر بالجهاد بالطاعة والكلمة المستقيمة، ثم بالمزاولة العملية له إذا جاء حينه، مع الصدق مع الله في ذلك، وهكذا عرفنا من سياق السورة: أن قتال أعداء الله واجب، وعرفنا علّة ذلك وحكمته، وعرفنا أن الله ناصرنا إن نصرناه، وعرفنا أن من آداب القتال: الإثخان، وإخلاص النية لله، والتوحيد الخالص، والاستغفار، وتلقي أمر القتال بالطاعة، والكلمة الطيبة، والصدق مع الله إذا جاء، وكل ذلك عرفناه من خلال عرض خصائص الإيمان، ومواصفات الفسوق، ومن السياق عرفنا أن وجود كفر وإيمان يقتضي قتالا، ومن ثم فرضه الله، ثم تأتي آيتان تبينان ماذا يعني ترك القتال؟ وما عقوبة ذلك؟ ثمّ تأتي آية تحضّ على تدبّر القرآن، ممّا يفهم منه أن تدبّر القرآن هو الطريق لوجود المقاتل: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ قال ابن كثير: أي: عن الجهاد ونكلتم عنه أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ قال ابن كثير: (أي أن تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء، وتقطّعون الأرحام). أُولئِكَ أي: الذين يفعلون هذا الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي: أبعدهم من رحمته فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الموعظة وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عن إبصارهم طريق الهدى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فيعقلون أحكامه وحكمها فيفهمون ويعملون أَمْ أي: بل عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها قال النسفي: وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تتفتح نحو الدين، والختم هو الطبع. قال ابن كثير: أي بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شئ من معانيه.

كلمة في السياق: حول مهمة الجهاد وعلاقة الآيات بمحور السورة

كلمة في السياق: [حول مهمة الجهاد وعلاقة الآيات بمحور السورة] 1 - دلّت هذه الآيات على أن ترك الجهاد يؤدي إلى أن يصبح المسلمون مفسدين في الأرض، مقطّعين لأرحامهم، وأنهم يستحقون بذلك إثم المفسدين القاطعين، من لعنة وعمى قلب، وأن ذلك سببه عدم التدبّر في كتاب الله، والأقفال على القلوب. 2 - رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقد رأينا في الآيات الأخيرة أن ترك الجهاد يصل بنا إلى أن نكون من هؤلاء، وأن علة ذلك إن كان هو عدم تدبّر كتاب الله، أو وجود الأقفال على القلوب. ثمّ يأتي في السورة كلام عن المرتدين، وعلّة ردّتهم مما يشير إلى أنّ الردّة أثر من آثار ترك الجهاد، كما يشير إلى نوع آخر من أنواع الفسوق، ويعطينا صورة من صور نقض الميثاق الوارد ذكره في محور السورة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: من الإسلام إلى الجاهلية. قال ابن كثير: أي فارقوا ورجعوا إلى الكفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى أي: من بعد ما اتّضح الحق لهم وهو الإسلام الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي: زيّن لهم ذلك وحسّنه وَأَمْلى لَهُمْ أي: مدّ لهم في الآمال والأماني فغرّهم وخدعهم ذلِكَ أي: سبب ردّتهم بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي: قالوا للكافرين الصادّين عن سبيل الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فبقولهم هذا حكم الله عزّ وجلّ عليهم بالردة، فكيف بمن قال لأئمة الكفر والضلال في عصرنا سنطيعكم في الأمر؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي: ما يسرونه وما يخفونه، فالله مطّلع عليه وعالم به فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ أي: كيف حالهم وماذا يعملون وما حيلتهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، وتعاصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ذلِكَ أي: الإهانة والتعذيب لهم عند قبض أرواحهم بِأَنَّهُمُ أي: بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ في طاعة الكافرين وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ في السير في طاعة الله وموالاة المؤمنين فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها فلم يقبلها ولم تنفعهم بعد أن ارتدوا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - [السورة تفصل في آيات القتال من سورة البقرة] في آيات القتال الثانية في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ يرد قوله تعالى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وهاهنا يرد ذكر الردة وحبوط العمل إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا ... فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ مما يشير إلى أن من امتدادات معاني المحور آيات القتال الثانية، وأن سورة القتال تفصّل في ذلك كله: 2 - [الآيات تعطينا نموذجا على مضمون من مضامين الفسوق في المجتمع] جاءت هذه الآيات بعد آيات الإعراض عن الجهاد الذي بسببه يترتب فساد في الأرض وتقطيع أرحام، فأخذنا بذلك نموذجا على مضمون من مضامين الفسوق في المجتمع الإسلامي وعلله: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ كهؤلاء المرتدين. وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ كهؤلاء الذين والوا الكافرين في الإفساد في الأرض. 3 - [طاعة الكافرين باب من أبواب الردة] بدأ المقطع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. جاءت بداية المقطع هذه في سياق أمر الله المؤمنين بالقتال، مما يشير إلى أن الأصل هو القتال بين أولياء الله وأعدائه، والآيات الأخيرة تعرض لنا نموذجا حكم الله على أصحابه بالردة لأنهم قلبوا الأمر، فبدلا من أن يجاهدوا أعداء الله فقد أعطوهم الطاعة، لاحظ أنه قد ورد في بداية المقطع قوله تعالى تعليلا لتعس الكافرين ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ وفي الآيات الأخيرة ذكر الله عزّ وجل سبب الردة فقال ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي: للذين ذكرهم الله في بداية المقطع سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وهذا باب من أبواب الردة، ولجه الكثيرون في عصرنا- كما ذكرنا ذلك في مقدمة كتابنا جند الله ثقافة وأخلاقا- فأعطوا الطاعة لأنواع من الكافرين. 4 - [صلة الآيات بسياق السورة القريب وبسياق المقطع] بناء على ما مرّ نستطيع أن نحدّد صلة الآيات الأخيرة بسياق السورة القريب وسياق المقطع فنقول: كأثر عن ترك الجهاد تنشأ قطيعة الأرحام، والإفساد في الأرض، وتقوم الردة. إذ ما لم تكن حركة ضد أعداء الله، فسيتحرك أعداء الله ليفتنوا المسلمين: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا هذه

5 - الأمراض الخمسة التي تنشأ في المجتمع الإسلامي وأسبابها

صلة الآيات بسياق السورة القريب. وأما صلتها بسياق المقطع، فإنها تتحدث عن وضع معكوس لا يجوز، فبدلا من أن ينصر المسلم الله بمعاداة من يكره تنزيله، نجد مسلمين يطيعون من يكره تنزيل الله ويوالونهم، كهؤلاء المرتدين. 5 - [الأمراض الخمسة التي تنشأ في المجتمع الإسلامي وأسبابها] وبما ذكر في الآيات الأخيرة يكون المقطع قد أشار إلى خمسة أمراض تنشأ في المجتمع الإسلامي وعلّل لوجود كل: 1 - عدم الفقه للحق وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ... 2 - عدم التجاوب مع الجهاد رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .... 3، 4 - قطيعة الرحم، والإفساد في الأرض كأثر عن ترك الجهاد 5 - إعطاء الطاعة للكافرين، وكل ذلك أثر عن أمراض القلب. ومن ثمّ تحدثنا الآيتان اللاحقتان عن مرضى القلوب وعن سنّة الله في كشف أضغانهم وطريق ذلك. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي: أحقادهم قال النسفي: والمعنى: أظنّ المنافقون أن الله تعالى لا يبرز بغضهم وعداوتهم للمؤمنين؟ وقال ابن كثير: (أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعبادة المؤمنين؟ بل سيوضّح أمرهم ويجلّيه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة، فبيّن فيها فضائحهم، وما يعتمدون من الأفعال الدالة على نفاقهم، ولهذا كانت تسمّى الفاضحة، والأضغان: جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله، والقائمين بنصره، ثمّ بيّن الله عزّ وجلّ طريق كشف المنافقين، وهو إما سيماهم، وإما لحن قولهم وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي: ولو نشاء لعرّفناكهم ودللناك عليهم فلعرفتهم كشفا بعلاماتهم التي تظهر على سيما وجوههم كأثر من انعكاس ظلام قلوبهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ أي: في نحوه وأسلوبه من فحوى كلامهم، لأنهم لا يقدرون على كتمان ما في أنفسهم. قال ابن كثير: (أي فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول). أقول: لعل المراد بلحن القول فلتات اللسان، فالإنسان يحرص أن يكون كلامه فصيحا فيخطئ ويلحن، وهؤلاء يحرصون على أن لا تعبر ألسنتهم في قلوبهم فيخطئون، فيظهر على ألسنتهم خلاف ما يريدون مما يؤدي إلى انكشافهم، وقد علّق الله عزّ وجل

كلمة في السياق: عن طريقة كشف أحقاد المنافقين من خلال كلامهم ومواقفهم

كشفهم بسيماهم على مشيئته، ولكنه جزم بتعريفهم من خلال فلتات ألسنتهم، ومن ثم فإن الطريق المؤكّد لمعرفة النفاق هو فلتات الألسن. كلمة في السياق: [عن طريقة كشف أحقاد المنافقين من خلال كلامهم ومواقفهم] جاء الكلام عن سنة الله في كشف أحقاد المنافقين، وعن طريق ذلك بعد أن ذكر لنا أربعة نماذج من كلامهم ومواقفهم: ا- قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً سخرية وانصراف قلب أثناء كلام النبي. ب- وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. ج- فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. د- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. فالمنافق يدل عليه كلامه إذا حضر جلسة وعظ، ويدل عليه كلامه إذا صدر أمر بجهاد، ويدل عليه تركه للجهاد، وإفساده في الأرض، وقطيعة رحمه، ويدل عليه إعطاؤه الطاعة للكافرين، فمجيء الآيتين الأخيرتين كان بعد أن ذكر الله نماذج من لحن القول الذي به نعرف المنافقين. ثمّ تأتي آية تعرّفنا بنصّها على المؤمن الصادق، وتعرفنا بمفهومها على المنافق، هذه الآية تذكر أن الله يبتلي المسلمين بمواقف ومعان فيظهر كأثر عن ذلك المجاهد الصابر والمنافق الفاجر: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ قال النسفي: بالقتال إعلاما لا استعلاما، أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العدل حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على الجهاد وآثاره ولأوائه وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ قال النسفي: أي: أسراركم قال ابن كثير: وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب، فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنه في مثل هذا: إلا لنعلم، أي لنرى. كلمة في السياق: [حول صلتها بالسياق القريب والعام للسورة وبالمقطع] 1 - بينت هذه الآية طريقا يكشف الله عزّ وجل به المنافقين، وهو الاختبارات

والابتلاءات التي يمحص بها الصف الإسلامي فيتميز بها المجاهد الصابر عن غيره، نسأل الله عزّ وجل أن يجعلنا من أهل طاعته، ومن هذا المعنى نعرف صلة الآية بسياق السورة القريب. 2 - وأما صلتها بمقطعها فقد بدأ المقطع بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ فالمقطع بدأ بوعد الله بالنصر لمن نصره، وفي هذه الآية يبين الله تعالى أن من سنته ابتلاء المؤمنين وامتحانهم ليتميّز المؤمن المجاهد الصابر، وفي ذلك تعليل لما يحدث أحيانا من إبطاء النصر أو من تسليط العدو. 3 - وأما صلة الآية بسياق السورة فإن الله عزّ وجل بعد أن ذكر في مقدمة السورة فريضة القتال قال وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وهذه الآية جاءت لتبين حكمة الابتلاء، وهي أن يظهر الله من هو المؤمن المجاهد الصادق في الظاهر والباطن. 4 - في قوله تعالى وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ معنى أبعد مما ذكرناه ونقلناه عن النّسفي في تفسيره الأخبار بالأسرار، فالأخبار فيها معنى الأحاديث التي هي أثر عن عمل، ففيها إشارة إلى أن من حكم الابتلاء إخراج القدوة، وعلى هذا فحكمة الاختبار إظهار المجاهد المؤمن الصابر القدوة. 5 - من نظرة شاملة نلقيها على مجموع السور التي فصّلت محور سورة القتال، كالمائدة والرعد والأحزاب نجد أن هذه السور- وإن فصّلت محورا واحدا- فإن كلا منها فصّلته بشكل جديد. 6 - بدأ المقطع بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وقد ذكر الله بعد ذلك نماذج على هذا النصر: نصرته المؤمنين بإنجائهم وإهلاك عدوهم، ونصرة الله إيّاهم بإدخالهم الجنة، ونصرة الله إياهم بزيادة هدايتهم، وإعطائهم تقواهم، وفي الآيات الأخيرة رأينا مظهرا آخر من مظاهر النصر، وهو كشف الله لهم المنافقين، وتحقيقهم بصفات ترفعهم عند الله، وبعد هذا كله تأتي آية يختتم بها المقطع.

[سورة محمد (47): آية 32]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: عن دينه ودعوته وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي: عادوه وعاندوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى أي: من بعد ما ظهر لهم أنه الحق وعرفوا الرسول صلّى الله عليه وسلم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وإنما يضر من يفعل ذلك نفسه ويخسرها يوم معادها وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أي: سيبطلها قال ابن كثير: (فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقّبه بردته مثقال بعوضة من خير، بل يحبطه ويمحقه بالكلية، كما أن الحسنات يذهبن السيئات). كلمة في السياق: [حول نوعي الكافرين ووجوب قتالهم هم والمرتدين] - ظاهر من كلام ابن كثير أنه يعتبر الآية الأخيرة في المرتدين، وهذا واضح من مجئ الآية في سياق الكلام عن المرتدين، ومن قوله تعالى فيها مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى ومن ثم نفهم أنّ هناك نوعين من الكافرين: نوعا ذكرهم الله عزّ وجل في بداية المقطع وهم الكفار الأصليون: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، ونوعا ذكرهم الله عزّ وجل في نهاية المقطع وهم المرتدون: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ. ويلاحظ أن الأوّلين أضل أعمالهم، وأن الآخرين أحبط أعمالهم. وفي قوله تعالى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً عن المرتدين وفي مجئ الكلام عنهم في سياق المقطع المبدوء بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ما يشير أن الله ناصر جنده على الكافرين والمرتدين بآن واحد. - يلاحظ أن الله عزّ وجل تحدث عن المرتدين بما تحدث به عن الكافرين الأصليين في أول السورة، فأول آية في السورة قال الله عزّ وجل فيها: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وهاهنا قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ. ومن ثم نفهم أنه كما تجب محاربة الكافرين الذين ذكروا في أول السورة والإثخان فيهم، كذلك يجب قتال المرتدين؛ بل هم أولى لأنهم الأقرب. وبهذا انتهى المقطع

فوائد حول آيات المقطع الأول وهي (7 - 32)

الأول في السورة، مرتبطا أوله بآخره، ومرتبطا أوله وآخره بمقدمة السورة وقد رأينا ذلك وقد بقي معنا من السورة مقطع واحد هو بمثابة الخاتمة للسورة. فوائد [حول آيات المقطع الأول وهي (7 - 32)]: 1 - [كلام ابن كثير حول آية .. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ قال ابن كثير: (كقوله عزّ وجل وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال تعالى وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ كما جاء في الحديث «من بلّغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة»). 2 - [كلام ابن كثير عن تعاسة الكافرين بمناسبة آية وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ قال ابن كثير: (عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» أي فلا شفاه الله عزّ وجل»). 3 - [كلام ابن كثير عن ولاية الله للمؤمنين بمناسبة آية ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا .. ] بمناسبة قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ قال ابن كثير: (ولهذا لما قام أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب وقال: أما هؤلاء فقد هلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله، بل أبقى الله تعالى لك ما يسوؤك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم ذهب يرتجز ويقول* اعل هبل اعل هبل* فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه»، فقالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال صلّى الله عليه وسلم قولوا «الله أعلى وأجل»، ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ألا تجيبوه»؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا «الله مولانا ولا مولى لكم»). 4 - [كلام ابن كثير عن نزع البركة من متاع الكافرين بمناسبة آية وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ قال ابن كثير: (أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام هضما

5 - كلام ابن كثير عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة بمناسبة آية وكأين من قرية ..

وقضما، وليس لهم همة إلا في ذلك ولهذا ثبت في الصحيح «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء»). 5 - [كلام ابن كثير عن حب الرسول صلّى الله عليه وسلم لمكة بمناسبة آية وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار، وأتاه فالتفت إلى مكة وقال «أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية فأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ). 6 - [كلام ابن كثير عما أعد الله للمؤمنين في الجنة بمناسبة آية مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ .. ] عند قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ .. قال ابن كثير: (قال عكرمة مَثَلُ الْجَنَّةِ أي: نعتها فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة: يعني غير متغير، وقال قتادة والضحاك وعطاء الخراساني غير متفق، والعرب تقول: أسن الماء، إذا تغير ريحه، وفي حديث مرفوع أو رده ابن أبي حاتم: غير آسن يعني الصافي الذي لا كدر فيه، وروى ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أي: بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة وفي حديث مرفوع «لم يخرج من ضروع الماشية» وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وفي حديث مرفوع «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى أي: وهو في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح وفي حديث مرفوع «لم يخرج من بطون النحل» وروى الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد» ورواه الترمذي في صفة الجنة، وقال حسن صحيح. وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة، ثم تصدع بعد أنهارا»، وفي الصحيح: «إذا سألتم تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه

7 - كلام ابن كثير عن أشراط الساعة بمناسبة آية فهل ينظرون إلا الساعة ..

تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن». وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن عاصم بن لقيط قال: إن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة؟ قال صلّى الله عليه وسلم «على أنهار عسل مصفى، وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله، وأزواج مطهرة» قلت يا رسول الله أو لنا فيها أزواج مصلحات؟ قال: «الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم، غير أن لا توالد» وروى أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض، والله إنها لتجرى سائحة على وجه الأرض حافاتها قباب اللؤلؤ، وطينها المسك الأذفر. وقد رواه أبو بكر ابن مردويه مرفوعا. وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كقوله عزّ وجل يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ وقوله تبارك وتعالى فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وقوله سبحانه وتعالى وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي: مع ذلك كله). 7 - [كلام ابن كثير عن أشراط الساعة بمناسبة آية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها قال ابن كثير: (أي أمارات اقترابها كقوله تبارك سبحانه وتعالى: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ وكقوله جلت عظمته: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وكقوله تبارك وتعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقوله جل وعلا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فبعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى به الدين، وأقام به الحجة على العالمين. وقد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله كما هو مبسوط في موضعه. وقال الحسن البصري: بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وهو كما قال، ولهذا جاء في أسمائه صلّى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي. وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها: «بعثت أنا والساعة كهاتين»). 8 - [كلام ابن كثير والنسفي عن الاستغفار بمناسبة آية فَاعْلَمْ أَنَّهُ .. وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قال النسفي: (والمعنى فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك، وفي شرح

9 - كلام ابن كثير عن الإفساد في الأرض وقطع الأرحام بمناسبة الآيتين (22، 23)

التأويلات جاز أن يكون له ذنب فأمره بالاستغفار، ولكننا لا نعلمه، غير أن ذنب الأنبياء ترك الأفضل دون مباشرة القبيح، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر). وقال ابن كثير: (وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول «اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي، وجدي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي». وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة «اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت» وفي الصحيح أنه قال: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وروى الإمام أحمد عن عاصم الأحول قال: سمعت عبد الله بن سرخس قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأكلت معه من طعامه فقلت غفر الله لك يا رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم «ولك» فقلت: أستغفر لك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم ولكم» وقرأ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثم نظرت إلى بعض كتفه الأيمن- أو كتفه الأيسر شعبة الذي شك- فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن عاصم الأحول به، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما فإن إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون» وفي الأثر المروي «قال إبليس: وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله عزّ وجل: وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا»). 9 - [كلام ابن كثير عن الإفساد في الأرض وقطع الأرحام بمناسبة الآيتين (22، 23)] بمناسبة قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ قال ابن كثير: (هذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام هو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال، وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي

صلّى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن عزّ وجل فقال: مه فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى قال: فذاك لك» قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرءوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به. وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أحرى أن يعجّل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة: «من البغي وقطيعة الرحم» ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وروى الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من سرّه النسأ في الأجل، والزيادة في الرزق فليصل رحمه» تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيح. وروى أحمد أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي ذوى أرحام: أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «لا إذن تتركون جميعا، ولكن جد بالفضل، وصلهم فإنه لن يزال معك ظهير من الله عزّ وجل ما كنت على ذلك». تفرد به أحمد من هذا الوجه وله شاهد من وجه آخر. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ؛ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها «رواه البخاري. وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «توضع الرحم يوم القيامة لها حجبة كحجبة المغزل تكلّم بلسان طلق ذلق فتقطع من قطعها، وتصل من وصلها». وروى الإمام أحمد عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء. والرحم شجنة من الرحمن، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته» وقد رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح. وروى الإمام أحمد عن إبراهيم بن عبد الله بن فارض أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو مريض فقال له عبد الرحمن رضي الله عنه: وصلتك رحم، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجل: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن يصلها أصله ومن

10 - كلام ابن كثير عن تدبر القرآن بمناسبة آية أفلا يتدبرون القرآن ..

يقطعها فأبته- أو قال- من بتها أبته» تفرد به أحمد من هذا الوجه. ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه، والأحاديث في هذا كثيرة جدا. وروى الظهراني عن أبي عمر البصري عن سليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وبه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ظهر القول، وخزن العمل، وائتلفت الألسنة، وتباغضت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» والأحاديث في هذا كثيرة والله أعلم»). 10 - [كلام ابن كثير عن تدبر القرآن بمناسبة آية أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ .. ] بمناسبة قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به). 11 - [كلام ابن كثير عن المنافقين وصفاتهم بمناسبة آية وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ .. ] وبمناسبة قوله تعالى عن المنافقين: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ قال ابن كثير: (أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وفي الحديث «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيرا فخير وإن شرا فشر»: وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. روى الإمام أحمد: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم- ثم قال- قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان- حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال- إن فيكم أو منكم- منافقين فاتقوا الله» قال: فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه فقال: ما لك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: بعدا لك سائر اليوم). ***

المقطع الثاني ويمتد من الآية (33) إلى نهاية الآية (38) أي إلى نهاية السورة وهذا هو

المقطع الثاني ويمتد من الآية (33) إلى نهاية الآية (38) أي إلى نهاية السورة وهذا هو: 47/ 33 - 38 التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بطاعة كتابه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بطاعة شخصه في حياته وطاعة سنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قال ابن كثير: أي بالردة، وقال النسفي: (بالنفاق والرياء) والسياق يدل لكلام ابن كثير، وإن كان النفاق والرياء مبطلين للعمل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: عن دينه وشريعته ودعوته ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنه تعالى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..

كلمة في السياق: حول عاقبة الموت على الكفر وتلخيص عام لأفكار السورة

كلمة في السياق: [حول عاقبة الموت على الكفر وتلخيص عام لأفكار السورة] 1 - بعد أن أمر الله عزّ وجل المؤمنين بطاعة الله والرسول صلّى الله عليه وسلم وعدم إبطال العمل، بيّن عاقبة الموت على الكفر، والصدّ عن سبيل الله، بأنه لا يرافقه مغفرة أبدا فليحذر المسلم من الردة، وإذا ارتد فليتب، ومن ثم نعلم صلة الآيتين بما قبلهما مباشرة، فبعد أن تحدث الله عزّ وجل عن الردة وأهلها، والنفاق وأهله، أمر الله عزّ وجل بطاعة الله ورسوله، ونهى عن الردة، وبين عاقبة الموت على الكفر بأنه لا مغفرة معه، وذكر حبوط العمل من قبل. 2 - بدأت السورة بذكر الكافرين والمؤمنين، ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين ووعدتهم بالنصر. ثم سارت حتى جاء المقطع الثاني مبتدئا بالأمر بالطاعة لله والرسول، والنهي عن الردة فصار تلخيص السورة: قاتلوا الكافرين، وانصروا الله، وأطيعوا الله ورسوله، ولا ترتدوا عن الإسلام، وكل ذلك له صلة بموضوع القتال، ومن ثم يأتي الآن بيان حول الحالة الوحيدة التي يجوز فيها الدعوة إلى السلم، وهذه الحالة الوحيدة جاءت في صيغة تبيّن أن الأصل هو القتال بين الصف المسلم والكافر. فَلا تَهِنُوا أي: فلا تضعفوا ولا تذلوا للعدو قال ابن كثير: أي لا تضعفوا عن الأعداء وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أي: المسالمة والصلح. قال ابن كثير: أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم، وكثرة عددكم وعددكم ولهذا قال فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قال ابن كثير: أي في حال علوكم على عدوكم، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين صدّه كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك. قال الألوسي: (واستدل الكيّا بهذا النهي على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة وعلى تحريم ترك الجهاد إلا عند العجز) ثم قال تعالى وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي: بالنصرة قال ابن كثير: فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على

[سورة محمد (47): آية 36]

الأعداء وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي: ولن ينقصكم أجر أعمالكم قال ابن كثير: أي ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها، ولا ينقصكم منها شيئا. أقول: أي لن يفعل بكم ما يفعله بالمرتدين من إحباط العمل. ثمّ يأتي كلام متعدد جوانب الاتصال في السورة، فمما يصرف عن القتال: الدنيا والاستغراق فيها؛ ولذلك يأتي حديث عنها، ومما يحتاجه القتال: الإنفاق؛ ولذلك يأتي حديث عنه، ومما له علاقة بالجهاد في سبيل الله: أن يحمل لواءه شعب؛ ومن ثم يأتي حديث عن ذلك. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي: حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله فهي تنقضي في أسرع مدة، وفي ذلك تحقير لأمر الدنيا، وتهوين لشأنها، ومجئ هذا المعنى في هذا السياق يفيد النهي عن أن تكون الدنيا سببا في الكفر، أو في الردة، أو في ترك الجهاد. ثم قال تعالى وَإِنْ تُؤْمِنُوا بأركان الإيمان وَتَتَّقُوا الله بفعل الأمر وترك النهي يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي: ثواب إيمانكم وتقواكم وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي: لا يسألكم إياها جميعا، بل غيضا من فيض قال ابن كثير: (أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء؛ ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم) ثمّ بيّن حكمة ذلك فقال إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ أي: فيستأصلها بالمطالبة بها كلها تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ الله بذلك أو البخل أَضْغانَكُمْ أي: أحقادكم، وفي ذلك درس بليغ للذين يشتغلون في الجهاد ألّا يكلّفوا الناس الكثير من الأموال، فإنّ عاقبة ذلك البخل والعداوة من الناس، وفي ذلك درس آخر وهو أنه مما يمتحن به الإنسان ليعرف ما في قلبه من نفاق مطالبته بالكثير من المال، وفي ذلك درس جديد في معرفة المنافق من لحن قوله، وبعد أن يبيّن الله عزّ وجل سنته في قضية الإنفاق، وأنه لا يطالب بما يستأصل الأموال، أعلم أنّ المسلمين مدعوون للإنفاق؛ لأن الجهاد يحتاج إلى مال، فقال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال النسفي: هي النفقة في الغزو أو الزكاة فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ قال ابن كثير: أي لا يجيب إلى ذلك وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ قال ابن كثير: (أي إنما نقص نفسه من الأجر وإنّما يعود وبال ذلك عليه)

كلمة في السياق

وقد فهم النسفي أنّ الآية تدليل على المعنى الذي ورد قبلها فقال: كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء؛ أنكم تدعون إلى ربع العشر فمنكم من يبخل. أقول: والظاهر أن الآية أوسع من أن يكون المراد بها الدعوة إلى الزكوات وحدها، بدليل أنها آتية في سياق الجهاد وَاللَّهُ الْغَنِيُّ أي: عن كل ما سواه، وكلّ شئ فقير إليه دائما وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه، قال النسفي: (أي إنّه لا يأمر بذلك لحاجته إليه؛ لأنه غني عن الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب) ثم قال تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا قال النسفي: (أي وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم والإنفاق في سبيله. أقول: وإن تعرضوا أيها العرب عن الجهاد ولوازمه يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يحملون هذا الدين ويقومون برفع لوائه ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ بل أطوع لله منكم. وقد رأينا سنة الله هذه تتكرر خلال التاريخ، فلا يتخلى شعب عن حمل هذا الإسلام حتى يحمله شعب آخر. كلمة في السياق: تحدثنا أثناء عرض المقطع الثاني عن سياق المقطع، وصلة المقطع بما قبله، وصلته بسياق السورة عامة، ورأينا تحذير الله هذا الشعب العربي أن يتولى عن حمل دينه، وإن صلة ذلك بمحور السورة واضحة، فالله عزّ وجل يحذّر هذا الشعب أن يكون من الفاسقين الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ بالردة وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ بقطيعة الرحم وترك موالاة المؤمنين وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بتطبيق شرع غير شرعه، وللأسف فإن هذا الشعب فعل هذا كله فارتد، وقطع الرحم، وأفسد في الأرض، لقد فعل هذا كله ونحن نرى هذا واضحا، ومن ثم فلا بد من جهد لإعادة الأمر إلى نصابه، ونرجو ألا يكون ذلك بعيدا، ولنا عودة على السورة وسياقها ومحلها في الكلمة الأخيرة عنها فلننقل الآن بعض الفوائد. فوائد [حول آيات المقطع الثاني]: 1 - [كلام ابن كثير والألوسي عن مبطلات الأعمال بمناسبة آية .. وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد بن نصر المروزي في

2 - كلام ابن كثير عن آية وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم .. وحديث عن تولي الفرس لواء الإسلام

كتاب الصلاة عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا- معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- نرى أنه ليس شئ من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات، والفواحش حتى نزل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها). وعند هذه الآية قال الألوسي: (قيل: إن بني أسد أسلموا، وقالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منّوا بذلك، فنزلت فيهم هذه، وقوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ومن هنا قيل المعنى: لا تبطلوا أعمالكم بالمنّ بالإسلام، وعن ابن عباس: بالرياء والسمعة، وعنه أيضا: بالشك والنفاق، وقيل: بالعجب، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وقيل: المراد بالأعمال الصدقات أي تبطلوها بالمن والأذى، وقيل: لا تبطلوا طاعاتكم بمعاصيكم، أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة أنه قال في الآية: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى). أقول: قد استدلّ فقهاء الحنفية بقوله تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ على أنّه من دخل في شئ من العبادات المشروعة فعليه إتمامها، ولا يصح له إبطالها، فمن تلبّس بصلاة نافلة فقد وجب عليه الإتمام، وإذا أبطلها فعليه قضاؤها، ومن تلبّس بصوم نافلة فعليه الإتمام، وإذا أفطر وجب عليه القضاء، ومن تلبّس بحج نافلة، فعليه الإتمام، وإذا نقضه فعليه القضاء. 2 - [كلام ابن كثير عن آية وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ .. وحديث عن تولّي الفرس لواء الإسلام] عند قوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ثم قال: «هذا

كلمة أخيرة في سورة القتال

وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم والله أعلم). أقول: في الآية معجزة غيبية، فقد أخبرت عن غيب، ووقع كما أخبرت به، فقد تولى العرب عن حمل الإسلام أو ضعفوا، فقيض الله لهذا الإسلام من يحمله، فلا يكاد لواء الإسلام يميل حتى يرفعه شعب حتى عصرنا هذا. كلمة أخيرة في سورة القتال: 1 - [تبيان الصلة بين سورتي القتال والبقرة] تحدّثت مقدمة سورة البقرة عن متقين وكافرين ومنافقين، ثمّ جاء المقطع الأول من القسم الأول من أقسام سورة البقرة فسمّى الكافرين والمنافقين بالفاسقين، ودمج الكلام عنهم بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ثمّ سار سياق سورة البقرة حتى وصل إلى فقرة تتحدث عن القتال والإنفاق، ثم سار السياق حتى وصل إلى آيات تتحدث عن الإنفاق والقتال، وجاءت سورة القتال لتفصّل في ذلك كله، فعرفنا فيها ضرورة القتال وحكمته. 2 - [إبراز مظهر من مظاهر التكامل بين مجموعات قسم المثاني] يتألف قسم المثاني من خمس مجموعات: الأولى والخامسة فيها تفصّل في أعماق سورة البقرة زيادة على تفصيلها في الآيات الأولى، أما الثلاث التي جاءت في الوسط فقد اقتصر تفصيلها على الآيات الأولى من سورة البقرة، مما يشير إلى أهمية الوضوح، وإقامة الحجة في الأساسيات، ولقد تحدّثت سورة الأحزاب وسورة القتال عن القتال وهما تفصلان في محور واحد، وكلاهما أشار إلى قتال المنافقين مع الكافرين، ومن خلال ذلك نجد مظهرا من مظاهر التكامل بين مجموعات قسم المثاني، ومظهرا من مظاهر الوحدة القرآنية. 3 - [وضوح التكامل بين سور المجموعة الخامسة من قسم المثاني] سنرى أن التكامل كذلك حاصل بين سور المجموعة الخامسة من قسم المثاني فسور الجاثية، والأحقاف، والقتال هي المقدمات المتلاحقة لسور الفتح، والحجرات، وقاف. 4 - [ذكر مثال على أن للسورة وحدتها وسياقها] رأينا كيف أن للسورة وحدتها وسياقها، ويكفي هنا أن نذكر ما يدلّ على هذه الوحدة من خلال مثال واحد:

5 - معرفة بعض أسرار الوحدة القرآنية من خلال سورة القتال

بدأت السورة بآيات أوصلت إلى قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ... ثمّ سارت حتى قاربت الختام فقالت: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. ثمّ استقرت على قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فإن توليتم عن الجهاد، وحمل راية الإسلام، وقتال الكافرين والمنافقين، فسيحمل الراية شعب آخر. 5 - [معرفة بعض أسرار الوحدة القرآنية من خلال سورة القتال] قلنا إن سورة القتال فصّلت في محورها، وفي ارتباطاته وامتدادات معانيه، ولو أننا جمعنا الآيات التي أصابها تفصيل من سورة البقرة، وربطناها ببعضها، ووقفنا عند كل آية منها، لرأينا عجبا، ولطال بنا المقام، ونكتفي بضرب أمثلة: ا- في الآية التي سبقت محور السورة ورد قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وقد رأينا في سورة البقرة نفسها من يستحق الإضلال، وذكرت سورة القتال من يستحق الهداية فقالت وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ فعرفنا سرا من أسرار الهداية، فالتقوى هبة من الله تكون مكافأة على الاهتداء، والاهتداء يحتاج إلى جهد إيجابي ذكرته سورة العنكبوت، وملخص ذلك أن الهداية تكون أثرا عن المجاهدة في ذات الله وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا والهداية يكافئ الله عليها بالتقوى، من هذا المثال تدرك الصلات بين سور قسم المثاني، وبين القسم وبقية القرآن. ب- تحدّثت السورة عن الصدّ عن سبيل الله، وعن الكفر والنفاق، وعن الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، وكل ذلك تفصيل مباشر للمحور. ج- لا يوقف الإفساد في الأرض إلا القتال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ومن ثم كانت آيات القتال في سورة البقرة امتدادا لآية المحور، وقد فصلت فيها: فمن آيات القتال في سورة البقرة: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وفي سورة القتال قال تعالى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ .... وفي آيات القتال في سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. وفي سورة القتال قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ

6 - الدروس المستفادة من السورة

ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ .. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. هذه أمثلة على تفصيل سورة القتال لمحورها وارتباطاته وامتدادات معانيه، منها نعرف بعض أسرار الوحدة القرآنية. 6 - [الدروس المستفادة من السورة] ومن السورة عرفنا أن الأمة الإسلامية لا تقف من الفسوق موقفا سلبيا؛ بل تقف منه موقفا إيجابيا بالقتال وباستكمال أسباب النصر، وأن سنة الله أن شعبا من شعوب العالم سيحمل لواء الجهاد أبدا، وأن الشعب العربي هو الشعب الأصيل في التكليف، فإذا تولى قيّض الله شعبا آخر. وعرفنا من السورة أن الإثخان في الفاسقين سواء كان فسقهم أصليا أو فسقهم بسبب الردة هو الطريق الرئيسي، وأن كل فساد في المجتمع الإسلامي سببه ترك الجهاد وعدم الإثخان، وفي ذلك تفصيل لطريقة استئصال الفسوق والسيطرة عليه داخليا وخارجيا. ومن السورة عرفنا أنه يمكن أن تكون هدنة مع الكافرين ولكن لا ننسى أن هذا يوجب علينا أن نسارع إلى الخلاص من القصور، ويجب أن نضع في حسابنا دائما أن إصلاح الداخل مقدمة للعمل الخارجي، لأن حفظ رأس المال مقدم على الرغبة في الربح. ***

سورة الفتح

سورة الفتح وهي السّورة الثامنة والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الرابعة من المجموعة الخامسة من قسم المثاني وآياتها تسع وعشرون آية وهي مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

بين يدي سورة الفتح وتقديم الألوسي

بين يدي سورة الفتح [وتقديم الألوسي]: قال الألوسي في تقديمه لسورة الفتح: (نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح، أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود، والنسائي، وجماعة عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم- أي: عام ست بعد الهجرة- وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة، فأقام بها بضعة عشر يوما، وقيل: عشرين يوما، ثم قفل عليه الصلاة والسلام، فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى، فأخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وفي حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود، وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلّى الله عليه وسلم من الحديبية أيضا، وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان، ونقل ذلك عن البقاعي، وضجنان- بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس- جبل قرب مكة، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة، ومثل ذلك يعدّ مدنيا على المشهور، وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار، والمكي ما نزل قبل الهجرة، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها- كما قال الجلال السيوطي- نواحيها- كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية، وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة؛ والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها- كما قال أيضا- نواحيها كأحد. وبدر وسلع فلا، بل يعدّ على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع، ولا يخفى حسن وضعها هنا، لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال، وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه، وقد ذكر أيضا في الأولى الأمر بالاستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة، وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف، وكنى عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها، وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك والله أعلم.

كلمة في سورة الفتح ومحورها

كلمة في سورة الفتح ومحورها: - رأينا أن محور سورة القتال هو قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقد فصّلت سورة القتال هذا المحور، وامتدادات معانيه، وخاصة في شئون القتال والإنفاق، وقد رأينا صلة ذلك كله بسورة البقرة. ولو أنك مضيت في سورة البقرة تبحث عن محور لسورة الفتح فإنك ستجده في أوائل القسم الثالث من أقسام سورة البقرة، وبالتحديد في قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة: 213: 214) لاحظ ما يلي: 1 - جاء في آيتي المحور قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ويرد في سورة الفتح قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. 2 - ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ويرد في سورة الفتح قوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. 3 - ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ويرد في سورة الفتح قوله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... 4 - ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ويرد في سورة الفتح قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ... وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً. 5 - ويأتي في آيتي المحور قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ويرد في سورة

نقول عن صاحب الظلال حول أسباب النزول

الفتح قوله تعالى فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ... 6 - وفيما بعد آيتي المحور تأتي آية عن الإنفاق، ثم آية عن القتال، ثم قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ .. (البقرة: 217) ويرد في سورة الفتح كلام عن المسجد الحرام لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ .. ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ .. فالصلات واضحة بين المحور وارتباطاته وبين سورة الفتح. لقد جاءت سورة الفتح تبيّن كيف ينزل الله نصره على رسله والمؤمنين، وتبيّن الخصائص التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون حتى ينالهم نصر الله، فهي تكمّل ما جاء في سورة القتال، هناك يأتي قوله تعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وهاهنا يأتي قوله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً هناك يرد قوله تعالى فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وهاهنا هدنة لها أسبابها. وهكذا يتكامل الكلام في المجموعة الخامسة من قسم المثاني. تتألف سورة الفتح من مقطعين، كل منهما مبدوء بقوله تعالى: إِنَّا. المقطع الأول ويستمر من أول السورة حتى نهاية الآية (7)، ويبدأ بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. والمقطع الثاني ويستمر إلى نهاية السورة، ويبدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... نقول [عن صاحب الظلال] حول أسباب النزول: قال صاحب الظلال: لقد أري رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلّقين رءوسهم ومقصّرين. وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية، ويضعون السلاح فيها، ويستعظمون القتال في أيامها. والصدّ عن المسجد الحرام. حتى

أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا، ولا يصدّه عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن؛ وصدوا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أرى فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- هذه الرؤيا. وحدّث بها أصحابه- رضوان الله عليهم- فاستبشروا بها وفرحوا. ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد، ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم. قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بالمدينة شهر رمضان، وشوالا (بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك) وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب؛ ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب؛ وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظّما له. قال: وكان جابر بن عبد الله- فيما بلغني- يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة. قال الزهري: وخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- حتى إذا كان بعسفان (¬1) لقيه بشر بن سفيان الكعبي. فقال: يا رسول الله! هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل (¬2)، قد لبسوا جلود النمور؛ وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم (¬3). قال: فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة (¬4). ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم ¬

_ (¬1) عسفان: موضع بين مكة والمدينة على مرحلتين من مكة. (¬2) العوذة: التي لم تلد، والمطافيل: ذوات الأطفال، وهذا يقتضي أن يكون النص العوذ والمطافيل. (¬3) كراع الغميم: دار أمام عسفان بثمانية أميال. (¬4) السالفة: صفحة العنق، يعني: أو أقتل. فإنها لا تنفرد إلا بالقتل.

بها؟». قال ابن اسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله. قال: فسلك بهم طريقا وعرا أجرل (¬1) بين شعاب. فلما خرجوا منه- وقد شق ذلك على المسلمين- وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه». فقالوا ذلك. فقال: «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها» (¬2). قال ابن شهاب الزهري: فأمر رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين» بين ظهري الحمض (¬3) في طريق على ثنية المرار، مهبط الحديبية (¬4) من أسفل مكة؛ قال: فسلك الجيش ذلك الطريق. فلما رأت خيل قريش قترة (¬5) الجيش، قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس: خلأت الناقة (¬6). فقال: «ما خلأت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» - (وفي رواية البخاري: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها). ثم قال للناس: «انزلوا» قيل له: يا رسول الله، ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه. فنزل في قليب (¬7) من تلك القلب، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء .. فلما اطمأن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي، في رجال من خزاعة، فكلّموه، وسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت، ومعظما لحرمته. ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان؛ فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمدا. إن محمدا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم وجبهوهم، وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالا. فو الله ¬

_ (¬1) أجرل: كثير الحجارة. (¬2) يشير- صلّى الله عليه وسلم- إلى ما جاء في القرآن الكريم: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .... (¬3) الحمض: ما ملح من النبات وهو هنا اسم موضع. (¬4) قرية بينها وبين مكة مرحلة واحدة. (¬5) قترة الجيش: غباره. (¬6) خلأت: كما تقول للدابة حرنت. ولا يقال خلأت إلا للناقة. (¬7) القليب: منخفض يحفظ بعض ماء المطر حين ينزل ..

لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدّث بذلك عنا العرب. وكانت خزاعة عيبة نصح (¬1) رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة. ثم بعثوا إليه مكرز ابن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي. فلما رآه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- مقبلا قال: «هذا رجل غادر». فلما انتهى إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وكلمه، قال له رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- نحوا مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش، فأخبرهم بما قال له رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان. وكان يومئذ سيد الأحابيش (¬2)، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- قال: «إن هذا من قوم يتألهون- يعني يتعبدون- فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه». فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- إعظاما لما رأى. فقال لهم ذلك. فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك! قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك. وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصدّ عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قال: فقالوا له: مه. كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. قال الزهري: ثم بعثوا إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ. وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد (وكان نسبه لأمه في بني عبد شمس) وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم .. فخرج حتى جاء رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فجلس بين يديه. ثم قال: يا محمد. أجمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم (¬3)؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال: وأبو بكر خلف رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- قاعد. فزجره (¬4) وقال: أنحن ¬

_ (¬1) أي وعاء نصح. والمقصود أنهم ناصحون مخلصون. وقد دخلوا في عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- كما سيجئ. (¬2) الأحابيش جمع حبشي بضم الحاء وسكون الباء نسبة إلى مكان في البادية. (¬3) بيضة الرجل: أهله وقبيلته. وتفضها أي: تكسرها. وهي كناية عن تحطيمها. (¬4) في الرواية جملة نستبعد صدورها على لسان أبي بكر رضي الله عنه في أدبه وعفة لسانه.

ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة». قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها. ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وهو يكلمه. قال: والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- في الحديد. قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك قال: فيقول عروة: ويحك! ما أفظّك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة». قال: أي غدر (¬1). وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف؛ فتهايج الحيان من ثقيف: بنو مالك رهط المقتولين. والأحلاف رهط المغيرة. فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية. وأصلح ذلك الأمر. قال ابن إسحاق: قال الزهري: فكلمه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بنحو مما كلم أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا. فقام من عند رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وقد رأى ما يصنع به أصحابه: لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه؛ وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه؛ ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا. فروا رأيكم. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له: الثعلب. ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن عكرمة مولى ابن عباس (عن ابن عباس) أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم- أو خمسين رجلا- وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. فأخذوا أخذا، فأتي بهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بالحجارة والنبل. ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلّغ عنه أشراف قريش ما جاء له. فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من ¬

_ (¬1) أي: يا غادر.

بني عدي بن كعب أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها. ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني. عثمان بن عفان. فدعا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته. قال ابن إسحاق: فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها؛ فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلّغهم عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ما أرسله به؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- قال: حين بلغه أن عثمان قد قتل-: «لا نبرح حتى نناجز القوم». فدعا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون بايعهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر. فبايع رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني انظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها (أي: لصق بها)، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل. قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، عمن حدثه بإسناد له، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر، أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى. قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وقالوا له: ايت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- مقبلا قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل». فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- تكلم فأطال الكلام. وتراجعا. ثم جرى بينهما الصلح. فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي

الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه (¬1)، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني». قال: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلّمت به، حتى رجوت أن يكون خيرا! قال: ثم دعا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب- رضوان الله عليه- فقال: «اكتب باسم الله الرحمن الرحيم» قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- «اكتب باسمك اللهم» فكتبها. ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. قال: فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة (¬2). وأنه لا إسلال ولا إغلال (¬3)، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه- فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم- وأنك ترجع عنك عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها. فبينا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-، وقد كان أصحاب رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فلما رأى ¬

_ (¬1) الزم غرزه: أي: التزم طريقه. وأصله وضع القدم في الركاب موضع قدمه. (¬2) أي: تكف عنا ونكف عنك. والأصل أن بيننا وعاء مقفلا فاستعاره لهذا المعنى. (¬3) الإسلال: السرقة الخفية، والإغلال: الخيانة.

سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد، قد لجت (¬1) القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: «صدقت» فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله. وإنا لا نغدر بهم». قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه. قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال: فضنّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية (¬2) فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص (وهو يومئذ مشرك) وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة. قال الزهري: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال: فو الله ما قام منهم رجل، حتى قال- صلّى الله عليه وسلم- ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل- صلّى الله عليه وسلم- على أم سلمة- رضي الله عنها- فذكر لها ما لقى من الناس. قالت (أم سلمة) - رضي الله عنها-: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعوا حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فلم يكلّم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال: رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: «يرحم الله المحلّقين». قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلّقين». قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلّقين». قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: ¬

_ (¬1) لجت القضية: انعقدت وانتهى أمرها. (¬2) روي عن أبي جندل أن الذي منعه حرصه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا الضن بأبيه!.

المقطع الأول: ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (7) وهذا هو

«والمقصرين». فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: «لم يشكوا» .. قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- من وجهه ذلك قافلا. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح. وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن مجمع بن حارثة الأنصاري- رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن. قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله- صلّى الله عليه وآله وسلم- فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» .. قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال- صلّى الله عليه وسلم-: «7 ي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» .. وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- في سفر. قال: فسألته عن شئ ثلاث مرات فلم يرد عليّ. قال: فقلت ثكلتك أمك يا ابن الخطاب. ألححت- كررت- على رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ثلاث مرات، فلم يرد عليك! قال: فركبت راحلتي، فحركت بعيري، فتقدمت، مخافة أن يكون نزل فيّ شئ. قال: فإذا أنا بمناد يا عمر. قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شئ. قال: فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «نزل عليّ البارحة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» .. ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله .. ولنبدأ عرض السورة: المقطع الأول: ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (7) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 48/ 1 - 3

التفسير

48/ 4 - 7 التفسير: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي: بيّنا ظاهرا. قال ابن كثير: والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي: يسرنا لك هذا الفتح ليكون سببا لغفران الذنب اللاحق والسابق وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ في الدنيا والآخرة بإعلاء دينك وفتح البلاد على يديك وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً قال ابن كثير: أي بما يشرعه الله من الشرع العظيم، والدين القويم. أقول: قد يكون المعنى: ويهديك صراطا مستقيما في المواقف، كما هداك إليه في الأقوال والأفعال وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي: قويا منيعا لا ذلّ بعده. ***

فائدة حول الفوائد التي تحققت من صلح الحديبية

فائدة [حول الفوائد التي تحققت من صلح الحديبية] جعل الله عزّ وجلّ صلح الحديبية فتحا ظاهرا، ورتّب عليه غفران الذنب السابق واللاحق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإتمام النعمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والهداية إلى الصراط المستقيم والنصر، كل ذلك رتّبه على هذا الصلح فلماذا كان هذا؟ لقد أقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الصلح تعظيما لحرمة بيت الله، فكافأه الله عزّ وجل بأن جعل هذا الصلح سببا لمغفرة ذنبه السابق واللاحق، وسببا لإتمام نعمته عليه بإظهار دينه وإعلائه فكان الصلح سببا لانتشار الإسلام إذ حميت الدعوة إليه بلا عوائق، وأرسل الرسول صلّى الله عليه وسلم الرسل إلى الملوك، وتفرّغ لإنهاء سلطان اليهود في الجزيرة العربية، وقويت قاعدة الإسلام، كما كان سببا لانتصارات مقبلة على اليهود وعلى قريش نفسها، فلم يكن فتح مكة إلا أثرا عن صلح الحديبية كما هو معروف تاريخيا، وهكذا كافأ الله رسوله صلّى الله عليه وسلم هذه المكافآت كلها ببركة تعظيمه لبيت الله، مع أن بيت الله كان تحت سلطان الكافرين. قال ابن كثير: ولما كان (أي: رسول الله صلّى الله عليه وسلم) أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة: «حبسها حابس الفيل»، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظّمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً قال ابن كثير: أي بسبب خضوعك لأمر الله عزّ وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله عزّ وجل إلا رفعه الله تعالى» وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (ما عاقبت أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه) كان لهذا الصلح هذه الآثار المباركة، مع أن كل الصحابة لم يكونوا متحمّسين له، ولم يكونوا مرتاحين حين عقده، بدليل أن أحدا منهم لم يحلق عند ما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتحلل حتى أبو بكر، وفي ذلك درس كبير لهذه الأمة في أن رعاية الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم- فوق كل رعاية، وأن العمل الذي يقصد فيه وجه الله وطاعته

[سورة الفتح (48): آية 4]

يجعل الله فيه من الآثار المباركة ما لا تخطر على بال، مهما ظن الناس أن في هذا العمل انكسارا أو انحسارا أو تراجعا أو ذلا، كما نظر عمر إلى المعاهدة على أنها إعطاء الدنية في دين الله عزّ وجل، وفي تسمية الله المعاهدة فتحا درس كبير للمسلمين في أن الفتح ليس فقط في العمل العسكري، بل قد يكون في العمل السياسي، حتى الذي ظاهره تراجع أو ذلة. ولنعد إلى التفسير. *** هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي: الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن كثير: (وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيمانا مع إيمانهم .. ) ومن ثم قال تعالى لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي: ليزدادوا يقينا إلى يقينهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ منه الجند الحسي ومنه الجند الغيبي، ومنه الجند المعنوي، ومن جنوده السكينة التي ينزلها الله على من يشاء من عباده وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يسخّر ما يشاء فيما شاء حَكِيماً في أفعاله وأقواله وشرعه، وفي هذه الآية منّة جديدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أنزل السكينة على المؤمنين في أكثر من موقف، وفي أشدّ اللحظات حراجة، ومن ذلك عند ما أحسوا بهزة نفسية نتيجة المعاهدة، ومع ذلك أطاعوا ونفّذوا، ثم بيّن الله عزّ وجل حكمته في الفتح، وفي إنزال السكينة وهي كما سجّلتها الآيتان اللاحقتان: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي: ماكثين فيها أبدا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي: خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويستر، ويرحم ويشكر وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وأي فوز أعظم من الفوز بدخول الجنة والزحزحة من النار وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ قال ابن كثير: (أي يتهمون الله تعالى في حكمه، ويظنون بالرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية) وقال النسفي (والمراد ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول صلّى الله عليه وسلم- والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهرا) ولهذا قال تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي: ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم

[سورة الفتح (48): آية 7]

ودائر عليهم، والسوء: الهلاك والدمار وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ أي: أبعدهم من رحمته وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً أي: وساءت جهنم مصيرا، ثم قال عزّ وجل مذكرا بقدرته على الانتقام من الأعداء- أعداء الإسلام- من الكفرة والمنافقين وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيدفع كيد من عادى نبيه صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بما شاء منها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي: غالبا فلا يرد بأسه حَكِيماً فيما يدبّر. ذكر جنده مرتين: المرة الأولى في معرض تأييده للمؤمنين، ثم ذكرهم هاهنا في معرض قدرته على الكافرين، وبهذا انتهى المقطع الأول الذي هو بمثابة مدخل إلى السورة. كلمة في السياق: جاء المقطع الأول بمثابة مدخل ومقدمة للسورة، فقد ذكر الله عزّ وجل فيه عنايته برسوله صلّى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين في أمر دنياهم وأخراهم، وذكر فيه نصره لهم وهدايته إياهم، وتحدّث فيه عن جنود السموات والأرض التي تأتمر بأمره عزّ وجل، وهي ملك له، وذلك بين يدي المقطع الذي يبدأ بتبيان مهمات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وواجبات المؤمنين تجاهه. *** فوائد [حول آيات المقطع الأول] 1 - [نقل عن الألوسي وصاحب الظلال حول تبيان مظاهر الفتح في صلح الحديبية] قال الألوسي: (وقد خفي ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بيّنه عليه الصلاة والسلام. أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما هذا بفتح، ولقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا، وعكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالحديبية، ورد رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك فقال: «بئس الكلام هذا؛ بل هو أعظم الفتح. لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم، ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟

أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون» قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا). وقال صاحب الظلال مبينا بعض مظاهر الفتح في صلح الحديبية: (فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا وكان هذا هو الفتح؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة كان فتحا في الدعوة. يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا؛ فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلّم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه. ولقد دخل في تينك السنتين (بين صلح الحديبية وفتح مكة) مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديبية- في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله- ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف. وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وكان فتحا في الأرض. فقد أمن المسلمون شر قريش، فاتجه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي- بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة- وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام. وقد فتحها الله على المسلمين، وغنموا منها غنائم ضخمة، جعلها رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فيمن حضر الحديبية دون سواهم. وكان فتحا في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها. يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه: «سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن الكريم): ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق. بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده، أو بالأحرى من أعظمها. فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما، واعتبرت النبي والمسلمين أندادا لها، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة، وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع؛ لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة. ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة، والذين كانوا

2 - تقديم ابن كثير لسورة الفتح

متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر، وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون. بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه. ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي- صلّى الله عليه وسلم- فيما فعل، وأيده فيه القرآن، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه. إذ قووا في عيون القبائل، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتا وشأنهم ضآلة، وإذ صار العرب يفدون على النبي- صلّى الله عليه وسلم- من أنحاء قاصية، وإذ تمكّن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها، وكان في ذلك النهاية الحاسمة، إذ جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا .. ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك- إلى جانب هذا كله- فتح آخر. فتح في النفوس والقلوب، تصوره بيعة الرضوان، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن. ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ .. الخ. فهذا فتح في تاريخ الدعوات، له حسابه، وله دلالته، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ. 2 - [تقديم ابن كثير لسورة الفتح] قدّم ابن كثير لسورة الفتح بقوله: (نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه- كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى- فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عزّ وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية؛ كنا مع

3 - كلام ابن كثير عن تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بغفران الذنوب

رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا .. ) 3 - [كلام ابن كثير عن تشريف النبي صلّى الله عليه وسلم بغفران الذنوب] بمناسبة قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن مجمع بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أي رسول الله أو فتح هو؟ قال صلّى الله عليه وسلم «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» قسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهما، ورواه أبو داود في الجهاد وروى ابن جرير عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم نائم قال: فقلنا: أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «افعلوا ما كنتم تفعلون، وكذلك يفعل من نام أو نسي» قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به وروى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبدا شكورا؟» أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به. وروى ابن أبي حاتم عن قتادة عن أنس قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه- أو قال

4 - كلام ابن كثير عن تفاضل الإيمان في القلوب بمناسبة آية ليزدادوا إيمانا ..

ساقاه- فقيل له أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال «أفلا أكون عبدا شكورا» غريب من هذا الوجه. فقوله سبحانه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي: بينا ظاهرا، والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان، وقوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو صلّى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر، والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو صلّى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: «حبسها حابس الفيل»، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي: في الدنيا والآخرة). 4 - [كلام ابن كثير عن تفاضل الإيمان في القلوب بمناسبة آية لِيَزْدادُوا إِيماناً .. ] بمناسبة قوله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قال ابن كثير: (وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب) وقال الألوسي عند قوله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي: يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها، على أن الإيمان الثابت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة تجدده وازدياده، فاستعير له ذلك ورشح بكلمة مع، وقيل: ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن أول ما أتاهم به النبي صلّى الله عليه وسلم التوحيد، ثم الصلاة والزكاة، ثم الحج والجهاد، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومن قال: الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه- أي الإيمان المركب من ذلك وغيره- يزيد وينقص، ولم يحتج في الآية إلى تأويل، بل جعلها دليلا له، وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص، ونقل ذلك عن الشافعي ومالك، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة

المقطع الثاني ويمتد من الآية (8) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (29) وهذا هو

الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم، وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى، منها الآية المذكورة، ومنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قلنا: يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار»، ومنها ما روي عن عمر، وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به». المقطع الثاني ويمتد من الآية (8) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (29) وهذا هو: 48/ 8 - 10 الفقرة الأولى المجموعة الأولى من الفقرة الأولى 48/ 11 - 12

48/ 13 - 14 المجموعة الثانية من الفقرة الأولى 48/ 15 المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى 48/ 16 - 17 الفقرة الثانية المجموعة الأولى من الفقرة الثانية

48/ 18 - 23 المجموعة الثانية من الفقرة الثانية 48/ 24 - 26

التفسير

الفقرة الثالثة 48/ 27 - 29 التفسير: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً قال ابن كثير: أي على الخلق، وقال النسفي: أي تشهد على أمتك يوم القيامة. أقول: وأمته كل الخلق لأنه مرسل إلى الثقلين جميعا الإنس والجن وَمُبَشِّراً أي: للمؤمنين بالجنة وَنَذِيراً أي: للكافرين من النار لِتُؤْمِنُوا أيها الخلق جميعا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: لتصدقوا بالله وبأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَتُعَزِّرُوهُ أي: وتقووه بالنصر، أي: وتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ من التوقير أي: وتعظموه وتحترموه وتجلّوه وَتُسَبِّحُوهُ قال ابن كثير: أي تسبحون الله بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي: أول النهار وآخره، أي صلاة الفجر والصلوات

[سورة الفتح (48): آية 10]

الأربع، والنسفي يرى أن الضمائر كلها ترجع إلى الله وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ فتعزير الله تعزير دينه ورسوله، وتوقير الله تعظيمه، وتسبيحه تنزيهه، قال: (ومن فرّق الضمائر فجعل الأوّلين للنبي صلّى الله عليه وسلم فقد أبعد) ثم قال تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم تشريفا له وتكريما وتعظيما إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي: إن عقد الميثاق مع الرسول صلّى الله عليه وسلم كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، وفي ذلك تشريف عظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ أقامه الله عزّ وجل هذا المقام يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ قال ابن كثير: (أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وسلم) فَمَنْ نَكَثَ أي: نقض العهد ولم يف بالبيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه قال ابن كثير: أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث والله غني عنه وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي: ثوابا جزيلا، أي: الجنة. فائدة [حول قراءة كلمة (عليه) بضم الهاء وكسرها] (قرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء كما هو الشائع، وضمها حفص هنا، قيل: وجه الضم إنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه، ووجه الكسر رعاية الياء، وكذا في إليه وفيه، وكذا فيما إذا كان قبلها كسرة نحو به، ومررت بغلامه لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام، وأيضا إبقاء ما كان على ما كان ملائم للوفاء بالعهد وإبقائه وعدم نقضه). كلمة في السياق: [المقطع الثاني] 1 - جاء قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً بين جملتين من المعاني، كلها تفيد كرامة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الله، فقد سبق ذلك المقطع الأول بمعانيه، وجاء بعد ذلك أن بيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي بيعة لله، وهذا كله يدفع لتحقيق الواجب نحو الله، ونحو رسوله صلّى الله عليه وسلم من إيمان وتعزير وتوقير ..

الفقرة الأولى من المقطع الثاني

2 - في محور السورة ورد قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وهاهنا ذكر أن محمدا صلّى الله عليه وسلم شاهد وبشير ونذير، وذكر مع ذلك ماذا يترتب على ذلك من واجبات نحو الله. ونحو رسوله صلّى الله عليه وسلم كأثر عن ذلك. 3 - تأتي الآن فقرة تتألف من ثلاث مجموعات. وهي تتحدّث عن المخلفين كنموذج على طائفة لم تقم بحق الله وحق رسوله صلّى الله عليه وسلم، ثم تأتي فقرة تتحدّث عمّن قام بحق ذلك، ثمّ تأتي فقرة ثالثة، فالمقطع الثاني يتألف من ثلاث فقرات سنراها. 4 - في سورة الأحزاب ذكر الله عزّ وجل وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً، وهاهنا يذكر الله عزّ وجلّ الفتح، ولذلك صلاته بمحور السورة: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وهذا مظهر من مظاهر التكامل في مجموعات قسم المثاني. 5 - إذا كانت سورة الفتح هي التي تبيّن كيف يتنزل نصر الله على العصبة المؤمنة فإنها في الوقت نفسه تذكر الصفات التي يجب أن تتوافر في العصبة المؤمنة، كما تذكر لنا أنواعا من الناس يسقطون بين يدي النصر، وتبين لنا كيف ينبغي أن يعامل هؤلاء فيما بعد فلنلاحظ ذلك ونحن نقرأ تفسير السورة. ومما مرّ نعرف أن نقطة الانطلاق نحو النصر هي التعبئة الشاملة للمعركة الحاسمة والبيعة على القتال. *** الفقرة الأولى من المقطع الثاني تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى سَيَقُولُ لَكَ إذا رجعت من الحديبية الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ هم الذين خلفوا عن الحديبية شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا اعتلّوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنه ليس لهم من يقوم بأشغالهم فَاسْتَغْفِرْ لَنا أي: ليغفر الله لنا تخلّفنا عنك يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ هذا تكذيب من الله لهم في اعتذارهم، فليس الذي خلّفهم ما يقولون، وإنما هو الشك في الله والنفاق، وطلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة. قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم، وتركوا

[سورة الفتح (48): آية 12]

المسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذروا بشغلهم بذلك، وسألوا أن يستغفر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد بل على وجه التقية والمصانعة؛ ولهذا قال تعالى يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟) وقال النسفي عن هؤلاء: (هم الذين خلّفوا عن الحديبية وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، وأحرم هو صلّى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا: يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه فيقاتلهم، وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة) قال تعالى مخاطبا هؤلاء المنافقين: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي: ما يضركم من قتل أو هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً من غنيمة وظفر أو غير ذلك قال ابن كثير: أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم، وإن صانعتمونا ونافقتمونا، ولهذا قال تعالى بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خوفا من الضر، ورغبة في النفع فبيّن الله عزّ وجل أن الضر بيده، والنفع بيده في كل حال، فلا ينفعهم بقاء إن أراد إضرارهم، ولا يضرهم ذهاب إن أراد نفعهم. ثم بيّن الله عزّ وجل السبب الحقيقي لتخلفهم، وأنه ليس ما اعتذروا به، فقال بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً قال ابن كثير: أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق .. اعتقدتم أنهم (أي: الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه) يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم، ولا يرجع منهم مخبر وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي: وزين الشيطان لكم هذا المعنى وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ أي: اعتقدتم الاعتقاد الشرير السيئ من علو الكفر وظهور الفساد وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أي: فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم، لا خير فيكم، أو هلكى عند الله، مستحقين لسخطه وعقابه وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: من لم يجتمع له الإيمان بالله والإيمان برسوله صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً أي: نارا تسعر، دلّ ذلك على أن هؤلاء كافرون وإن أظهروا خلاف ذلك. قال: ابن كثير في الآية: (أي من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله تعالى، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف

[سورة الفتح (48): آية 14]

ما هو عليه في نفس الأمر) ثم ختم الله عزّ وجل هذه المجموعة بقوله وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فالخلق كلهم ملكه، فعليهم أن لا يخرجوا عن أمره، وعليهم أن ينصروا رسوله صلّى الله عليه وسلم، ويجلوه ويؤمنوا به، إذ الجميع مفتقرون لله، ناصيتهم بيده، وكل شئ فله ومنه، وإذ كان هو المالك المطلق التصرف يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي: يغفر ويعذب بمشيئته وحكمته، ومن مظاهر حكمته المغفرة للمؤمنين والتعذيب للكافرين وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي: لمن تاب إليه وأناب وخضع لديه، وفي ذلك دعوة للخلق للعبودية الخالصة له، والتوبة والإنابة إليه. كلمة في السياق: [المجموعة الأولى حول ذكر نموذج على ظن السوء عند المنافقين، وعن ثمن النصر] 1 - ورد في هذه المجموعة قوله تعالى وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً وقد جاء في المقطع الأول قوله تعالى وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فما جاء في هذه المجموعة هو نموذج على ظن السوء الذي عليه المنافقون والذي ورد في المقطع الأول. 2 - إن النصر يحتاج إلى تعبئة، والتعبئة هي المحك الرئيسي لإيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، فمن أراد النصر بدون أن يدفع ثمنه فهو مخطئ. 3 - في هذه المجموعة أرانا الله تعالى عزّ وجل موقف أهل النفاق من التعبئة والنفير، إذا أحسّوا بالخطر، وفي المجموعة التالية سنرى كيف أنهم يندفعون إذا شمّوا رائحة المكاسب والمغانم. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ أي: إلى غنائم، والمراد بذلك خروج المسلمين إلى خيبر ليخضعوها لكلمة الله، وكان في ذلك غنائم محققة بوعد الله الذي سنراه في هذه السورة، ومن ثم

كلمة في السياق: حول عرض الله في الآيات السابقة لوجهين للمنافقين

قال تعالى لِتَأْخُذُوها أي: لتأخذوا غنائمها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أي: دعونا نسير معكم، فهم الآن يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم لثقتهم أن المغنم حاصل، ولكنهم يتخلفون عند ما يظنون غير ذلك يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي: يريدون بذهابهم إلى خيبر أن يغيّروا موعد الله لأهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا، ثم قال تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم أن لا يأذن لهم في ذلك قال تعالى قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا أي: إلى خيبر كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية دون غيرهم. قال ابن كثير: أي وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أي: لم يأمركم الله به بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة فهم دائما سيّئو الظن بالله ورسوله والمؤمنين. قال تعالى بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي ليس الأمر كما زعموا ولكن لا فهم لهم، وقد دلّت الآية على أن الذين يستحقون المغانم هم الذين يتحملون المغارم، وفي هذا درس كبير للمسلمين، فكثيرا ما دفعوا المغارم وأعطوا غيرهم المغانم، يدفعون الدم ويسمحون لغيرهم أن يقطف الثمرة. كلمة في السياق: [حول عرض الله في الآيات السابقة لوجهين للمنافقين] عرضت لنا هذه المجموعة الوجه الثاني للمنافقين، وفي كل من المجموعتين الأولى والثانية رأينا أن المنافقين لا يؤمنون بالله ورسوله، ولا ينصرون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يوقرونه ولا يعظمونه؛ ومن ثم فهم لا يحققون الحكمة التي من أجلها بعث الله رسوله صلّى الله عليه وسلم. وبعد أن عرض الله عزّ وجل هذين الوجهين للمنافقين وأرانا صورتهم، تأتي الآن مجموعة تفتح لهؤلاء المنافقين طريق التوبة، وتدلهم على ما يصححون به المسار. تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ أي: الذين تخلّفوا عن الحديبية سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال النسفي: (يعني بني حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه؛ لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا

[سورة الفتح (48): آية 17]

الإسلام أو السيف). وقد وصف الله هؤلاء بقوله تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فدلّ ذلك على أن المراد بهؤلاء هم العرب؛ لأن العرب وحدهم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ففي الآية إخبار عن غيب وقع بعد ذلك، ثم قال تعالى فَإِنْ تُطِيعُوا أي: تستجيبوا وتنفروا في الجهاد، وتؤدوا الذي عليكم فيه يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الجنة. قال النسفي: وفي الآية دلالة على صحة خلافة الشيخين حيث وعدهم الثواب على طاعة الداعي عند دعوته بقوله فَإِنْ تُطِيعُوا من دعاكم إلى قتاله يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً فوجب أن يكون الداعي مفترض الطاعة، ثم قال تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: زمن الحديبية حيث دعيتم فتخلفتم يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أي: في الآخرة، ثم ذكر الله تعالى الأعذار التي تبيح ترك الجهاد، فمنها لازم: كالعمى والعرج، وعارض: كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فصاحبه في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ، أما إذا كان مريضا مرضا لا يبرأ فهو من أصحاب الأعذار اللازمة. وقد ذكر الله عزّ وجل الأعذار التي يباح بها ترك الجهاد في هذا السياق للبيان بأن هؤلاء لا يطالبون بالاستجابة لدعوة الجهاد فقال تعالى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ قال النسفي: نفى الحرج عن ذوي العاهات في التخلف عن الغزو وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الجهاد وغيره يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يعرض عن الطاعة فينكل عن الجهاد وغيره، ويقبل على المعاش على حساب الطاعة يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً قال ابن كثير: في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار، وبهذا انتهت الفقرة الأولى من المقطع الثاني. كلمة في السياق: [حول الربط بين الفقرة الأولى وفاتحة المقطع والفقرة الثانية] 1 - تحدثت هذه الفقرة في مجموعاتها الثلاث عن المنافقين، وفتحت الطريق العملي لهم من أجل أن يتوبوا، وهو الجهاد الشاق الذي لا طمع فيه، فالتخلف عن التعبئة نفاق، والخلاص من النفاق يحتاج إلى مشاركة في تعبئة، وصلة ذلك بفاتحة المقطع واضحة لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ ... 2 - جاء في المقطع الأول قوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ..

الفقرة الثانية من المقطع الثاني

وختمت هذه الفقرة بقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ .. فدلّ ذلك على أن دخول الجنة منوط بالطاعة في أمر الجهاد وغيره. 3 - عرضت علينا الفقرة التي مرّت معنا صفات نموذج من الناس لم يؤمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينصره ولم ينصر دين الله، والآن تأتي فقرة تحدّثنا عن نموذج آخر، نموذج حقّق قول الله تعالى عزّ وجل: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. 4 - ورد في فواتح هذا المقطع قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ .. وها هي هذه الفقرة تبدأ بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... *** الفقرة الثانية من المقطع الثاني تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ هي بيعة الرضوان وسميت بذلك لهذه الآية. قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ قال النسفي: من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه وقال ابن كثير: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: وهي الطمأنينة وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً أي: فكافأهم على الخير الذي في قلوبهم بالسكينة في قلوبهم، والفتح والنصر القريب في الدنيا، وفسر ابن كثير الفتح القريب بقوله: وهو ما أجرى الله عزّ وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتّصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها قال النسفي (هي مغانم خيبر، وكانت أرضا ذات عقار وأموال فقسّمها عليهم) ويفهم من كلام ابن كثير السابق أنها أعمّ من ذلك وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي:

[سورة الفتح (48): آية 20]

منيعا فلا يغلب حَكِيماً فيما يحكم فلا يعارض وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها قال النسفي: هي ما أصابوه مع النبي صلّى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة، وقال ابن كثير: يعني: فتح خيبر فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ قال الألوسي: «فكأنه قيل: فعجّل لكم هذه المغانم، وعجّل لكم مغانم أخرى وهي مغانم هوازن في غزوة حنين وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قال ابن كثير: أي: لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال، وكذلك كفّ أيدي الناس عنكم، الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم وَلِتَكُونَ أي: هذه الكفّة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في كل زمان ومكان، أي عبرة يعرفون بها أنهم من الله عزّ وجل بمكان، وأنه ضامن نصرتهم والفتح عليهم. قال ابن كثير: أي يعتبرون بذلك، فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العالم بعواقب الأمور، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً قال ابن كثير: أي بسبب انقيادكم لأمره، واتباعكم طاعته، وموافقتكم رسوله صلّى الله عليه وسلم، وقال النسفي: (ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أي: ووعدكم مغانم أخرى لم تقدروا عليها حتى الآن، أو لم تكونوا لتقدروا عليها لولا توفيق الله عزّ وجل، ومن ثم قال قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها قال النسفي: أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي: قادرا، وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها، فاختار ابن جرير أنها فتح مكة، وقال ابن أبي ليلى والحسن البصري: هي فارس والروم، وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وقال ابن عباس: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم، قال ابن كثير في الآية: (أي وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها قد يسرها الله عليكم، وأحاط بها لكم. فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون) ثم قال تعالى وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي: لغلبوا وانهزموا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يلي أمرهم وَلا نَصِيراً ينصرهم. قال ابن كثير في الآية: يقول عزّ وجل مبشرا لعباده المؤمنين بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولا نهزم جيش الكفر فارّا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا، لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ أي: مضت مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي: تغييرا قال ابن كثير: أي هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر، فرفع الحق،

كلمة في السياق: حول نموذج للمطيعين ومظاهر ثواب المبايعين الصادقين وصلة الفقرة الثانية بالمقطع الأول

ووضع الباطل، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين، نصرهم على أعدائه من المشركين، مع قلة عدة المسلمين وعددهم، وكثرة المشركين وعددهم. كلمة في السياق: [حول نموذج للمطيعين ومظاهر ثواب المبايعين الصادقين وصلة الفقرة الثانية بالمقطع الأول] 1 - نلاحظ أن الفقرة الأولى في هذا المقطع ختمت بقوله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ثم جاء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ .. فالفقرة الثانية تحدثنا عن نموذج لهؤلاء المطيعين لله ورسوله صلّى الله عليه وسلم المستحقين للجنات. 2 - بدأ المقطع الثاني بقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا* إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وقد جاءت الفقرة الأولى فأرتنا النموذج المنافق الذي لم يعط الرسالة حقها وإن ادعى أنه مع المؤمنين، ثم جاءت الفقرة الثانية فحدّثتنا عن النموذج القائم بحق الرسالة من إيمان ونصرة وتعظيم، من خلال الكلام عن الذين بايعوا بيعة الرضوان، فكانوا نموذجا حقا للمبايعين الصادقين، وأرانا الله عزّ وجل ماذا أثابهم في الدنيا على هذا: 1 - إنزال السكينة عليهم 2 - الفتح القريب 3 - المغانم الكثيرة التي منها المعجّل، وهو ما سيعطيه إياهم في خيبر، ومنها ما بعد ذلك 4 - كف أيدي الناس عنهم، فلم يؤذوا في أنفسهم ولم يؤذ أهلوهم في المدينة المنورة. 5 - الهداية إلى الصراط المستقيم، وفي ذلك بشارة لهم أنهم سيوفقون إلى العمل بالإسلام حتى يموتوا عليه. 6 - الغنائم التي لم تكن تخطر ببالهم أنهم يقدرون عليها مما سيفتحه الله عليهم فيما بعد من فارس والروم وغيرهما. 7 - البشارة لهم في كل معركة أنهم منصورون، وفي ذلك تزكية لهم بأنهم يستحقون

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

النصر الرباني، لتوفر شروط ذلك فيهم، وهذا كله ببركات هذه البيعة الصادقة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إيمانا به، وقياما بحق نصرته، وتوقيرا له، أي تحقيقا لما يطالب الله به عباده من قيام بحق رسالته. 3 - نلاحظ أنه قد مرّ معنا في المقطع الأول قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ .. وأنه قد جاء في هذه الفقرة قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ لاحظ ورود كلمة (السكينة) في الآيتين، فكأن الفقرة تفصّل في تبيان الوقت الذي أنزلت فيه السكينة التي تحدث عنها المقطع الأول، وهو عقب البيعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على عدم الفرار، أو على الموت في سبيل الله، وذلك موقف أحوج ما يكون فيه الإنسان للطمأنينة؛ إذ يقرر أن يموت، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة الفقرة هذه بالمقطع الأول. كما نلاحظ أن المقطع الأول ورد فيه قوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً .. كما ورد فيه وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً .. ونلاحظ أنه قد ورد في هذه الفقرة قوله تعالى وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً مما يشير إلى أن بعض ما أكرم الله به رسوله صلّى الله عليه وسلم- مما نصت عليه أوائل السورة- قد أشرك الله فيه المؤمنين. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ أي: أيدي أهل مكة عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ أي: عن أهل مكة يعني قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة بعد ما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك يوم الحديبية بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي: أقدركم وسلّطكم وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قال ابن كثير: (هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكفّ أيدي المؤمنين عن المشركين، فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلا من الفريقين، وأوجد بينهم صلحا فيه خيرة للمؤمنين، وعاقبته لهم في الدنيا والآخرة). هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: هم الكفار الذين استغرقهم الكفر وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: منعوكم عن العمرة لله في المسجد الحرام وَالْهَدْيَ هو ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام مَعْكُوفاً أي: محبوسا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي:

[سورة الفتح (48): آية 26]

مكانه الذي يحل فيه نحره. قال ابن كثير: أي وصدّوا الهدي أن يصل إلى محله وهذا من بغيهم وعنادهم، وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي بيانه وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ بمكة أي: بين أظهر أهلها ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم، خيفة على أنفسهم من قومهم، ومن ثم قال تعالى لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ أي: إثم وغرامة. قال النسفي: أي إثم وشدة .. وهو الكفارة إذا قتله خطأ. وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والإثم إذا قصد بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم. قال النسفي: والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة والمعنى: أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم، فقيل: ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كفّ أيديكم عنهم). وباختصار: أي لولا هؤلاء لسلطناكم عليهم فقتلتموهم، وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل، فكففنا أيديكم عنهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قال ابن كثير: أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام. وقال النسفي: وقوله لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ تعليل لما دلّت عليه الآية وسيقت له من كف الأيدي عن أهل مكة والمنع عن قتلهم صونا من بين أظهرهم من المؤمنين كأنه قال: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم). لَوْ تَزَيَّلُوا أي: لو تميّز الكافرون من المؤمنين الذين بين أظهرهم. قال النسفي: أي: لو تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي: من أهل مكة عَذاباً أَلِيماً قال ابن كثير: أي لسلّطناكم عليهم، فلقتلتموهم قتلا ذريعا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ أي: الأنفة حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ أي: أنفتها التي هي أثر الجهل، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم. وحالوا بينهم وبين البيت فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ المراد بالسكينة هنا الطمأنينة والوقار والحلم، وهو ما قابلوا به حمية المشركين في المواقف التي رأيناها وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي: كلمة التوحيد التي هي عماد التقوى، والتي تجعل صاحبها لا يتحرك إلا أثرا عنها وَكانُوا أي: المؤمنون أَحَقَّ بِها من غيرهم وَأَهْلَها بتأهيل الله إياهم وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيجري الأمور على مصالحها، أي هو عليم بمن

كلمة في السياق: حول تأييد الله لأهل الإيمان وأن التوفيق بسبب استقرار كلمة التوحيد في القلوب

يستحق الخير ممن يستحق الشر. كلمة في السياق: [حول تأييد الله لأهل الإيمان وأن التوفيق بسبب استقرار كلمة التوحيد في القلوب] 1 - منّ الله على المؤمنين في المجموعة الأولى بأن كفّ أيدي الناس عنهم، وبيّن في هذه المجموعة أن الكفّ كان من الطرفين، وذلك لحكمة هي عصمة دم المؤمنين الذين يكتمون إيمانهم بمكة، فالمسلمون كفّوا أيديهم مع إقدار الله إياهم على استئصال الكافرين من أجل هؤلاء، وكان من أثر ذلك كف أيدي الكافرين عن المسلمين، فكانت المصلحة كاملة فيما حدث، وذلك كله من مظاهر تأييد الله لأهل الإيمان والإسلام، فالمجموعة فصلت في معنى موجود في المجموعة السابقة عليها، كما أوضحت معنى عاما نراه في السورة كلها، وهو رعاية الله لأهل الإيمان، وفعله من أجلهم. 2 - رأينا في المجموعة كيف أن الكافرين لا يؤمنون بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلم ولا يوقرون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يعظمونه ولا ينصرونه، فالمجموعة إذن ترينا نموذجا آخر من الناس الذين لا يؤدون حق الله في إقامة حقوق رسوله صلّى الله عليه وسلم وهم الكافرون، وذلك يدلنا على صلة المجموعة في مقدمة المقطع. 3 - رأينا في المجموعة قوله تعالى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها فهذا موطن آخر من مواطن إنزال السكينة على المؤمنين التي تحدث عنها المقطع الأول من السورة، وهي مرحلة المفاوضات، وما أعقبها من هزة عنيفة في الأنفس، فمنّ الله على المؤمنين بتجاوز ذلك كله، بفضل استقرار كلمة التوحيد في قلوبهم، وتحققهم بمعناها ومقتضاها، وحملهم إياها حق الحمل، وهذا يشير إلى أن المسلمين قاموا بحق الرسالة حق القيام، وبسبب هذا كان الله يوفقهم في المواقف كلها ويعصمهم. ***

تفسير الفقرة الثالثة من المقطع الثاني

تفسير الفقرة الثالثة من المقطع الثاني لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أي: صدقه في رؤياه ولم يكذبه بِالْحَقِّ قال النسفي: أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق، أي بالحكمة البالغة، وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ قال ابن كثير: هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من باب الاستثناء في شئ آمِنِينَ أي: في حال دخولكم مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أي: منكم من يحلق جميع شعره، ومنكم من يقصره لا تَخافُونَ قال ابن كثير: فأثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد، وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا قال ابن كثير: أي فعلم الله عزّ وجل من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلم فَتْحاً قَرِيباً قال ابن كثير: وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين، وقال النسفي: وهو فتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود، وقد كان ذلك كله، فهذه الآية من معجزات القرآن، وقصة الرؤيا التي ذكرتها الآية كما قال ابن كثير: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شئ، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟» قال: لا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنك آتيه ومطوف به» وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه أيضا حذو القذة بالقذة كلمة في السياق: [حول تدليلها على إحاطة علم الله] جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فكان فيها تدليل على إحاطة علم الله، ومن ثم ورد فيها قوله تعالى فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا وفي هذا

[سورة الفتح (48): آية 28]

السياق الذي يرى فيه الإنسان بشكل قطعي من خلال السورة إحاطة علم الله، ورعاية الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ويرى فيه علم الله المحيط بالزمان والمكان وكل شئ، ويرى فيه صنع الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم: يقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى قال النسفي: بالتوحيد وَدِينِ الْحَقِّ قال النسفي: أي الإسلام وقال ابن كثير: أي بالعلم النافع والعمل الصالح. فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قال ابن كثير: أي على أهل جميع الأديان في سائر أهل الأرض من عرب وعجم، وصليبيين ومشركين وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعد به كائن، وقد كان ذلك، وسيكون كما سنرى في الفوائد. كلمة في السياق: 1 - جاءت هذه البشارة بعد مقدمات كثيرة في السورة تناسب هذه البشارة، وذلك درس عظيم من دروس هذه السورة، فإن الأمل بنصر الله وانتصار الإسلام يدفع المسلم إلى أقصى حدود العمل، ويفجّر طاقاته في بذل الجهد، على خلاف ما لو لم يكن هناك أمل. وهذا موضوع غاب عن كثير من العلماء والربانيين، فأصبح كلامهم كله يأسا يعتقدونه، ويربون المسلمين عليه، فأي جهل هذا، وأي هلاك! قال عليه الصلاة والسلام: «من قال هلك المسلمون فهو أهلكهم». 2 - رأينا صلة الآية السابقة بما قبلها مباشرة، وأما صلتها بمقدمة مقطعها فواضحة: فقد بدأ المقطع بقوله سبحانه إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً .. وتأتي هذه الآية لتصف مضمون الرسالة، وتبشر بانتصار هذا الدين. 3 - وأما صلتها بالمقطع الأول فواضحة كذلك، فالسورة بدأت بقوله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ومن حادثة الحديبية التي هي نموذج على النصر تنتقل السورة من معنى إلى معنى يؤكّد التوفيق المتلاحق لأهل هذا الدين حتى تستقر السورة على البشارة العظيمة بالانتصار العام الشامل لهذا الدين، وبعد هذا كله تأتي آية هي خاتمة السورة، تتحدث عن خصائص هذه الأمة، وعن خصائص الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.

[سورة الفتح (48): آية 29]

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ هذا هو وصفه أنه رسول الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أي: أصحابه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ قال ابن كثير: (وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار، رحيما برا بالأخيار، غضوبا عبوسا في وجه الكافر، ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن)، وقال النسفي: (وبلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه). تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي: راكعين ساجدين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً قال ابن كثير: وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عزّ وجل، والاحتساب عند الله جزيل الثواب وهو الجنة المشتملة على فضل الله عزّ وجل، وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر من الاحتساب سِيماهُمْ أي: علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قال ابن عباس: يعني السمت الحسن، وقال مجاهد وغيره: يعني الخشوع والتواضع، وقال السدي: الصلاة تحسّن وجوههم ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ أي: ذلك المذكور هو صفتهم في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: فراخه فَآزَرَهُ أي: فقوّاه وشدّه فَاسْتَغْلَظَ أي: شبّ وطال، فانتقل من الرّقة إلى الغلظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي: فاستقام على قصبه، والسوق جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يتعجبون من قوته قال ابن كثير: (أي فكذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع) وقال النسفي: وهذا مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام، وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قام وحده ثم قوّاه الله تعالى بمن آمن معه، كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتولد منها حتى يعجب الزّراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قال ابن كثير: (ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه- في رواية عنه- بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك، والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض بمساويهم كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً لذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً أي: ثوابا جزيلا ورزقا كريما قال ابن كثير: (ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدّل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله

كلمة في السياق

عنهم فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة). وقال النسفي: (هذه الآية ترد قول الروافض أنهم كفروا بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون أن لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته). كلمة في السياق: 1 - ما صلة هذه الآية بما قبلها؟ في الآية التي قبلها كان الحديث عن ظهور الإسلام على الدين كله، وفي هذه الآية كان حديث عن كيفية هذا الظهور كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى .. فالآية تبيّن كيفية نمو هذا الإسلام، كما تبين الآية خصائص الذين سيقومون بهذا الدور، من رحمة بالمؤمنين، وشدة على الكافرين، وركوع وسجود، وإخلاص وإيمان وعمل صالح. 2 - وأما صلة الآية الأخيرة بمقطعها فإن بداية المقطع هي: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا والآية الأخيرة تذكر خصائص رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمستجيبين له، كما تذكر البشارة برسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته في التوراة والإنجيل، فرسالته عليه الصلاة والسلام ممهد لها من قبل في رسالات الله. 3 - وأما صلة الآية بالمقطع الأول فهي أن المقطع الأول تحدّث عن فعل الله برسوله صلّى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وما أعد الله للمؤمنين من جنات. والآية الأخيرة تحدثنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين، وعن وعد الله لهم بالمغفرة والأجر العظيم. 4 - وأما صلة الآية بالمحور حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فمن حيث إنها تصف حال الرسول صلّى الله عليه وسلم ومن معه، وتصف الحال التي بها ينالون النصر. فوائد [حول السورة:] 1 - [كلام ابن كثير عن البيعة بمناسبة آية إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ .. ] بمناسبة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ قال ابن كثير: (روى عبد الملك بن هشام النحوي عن الشعبي قال: إن أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي، وروى أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدى عن

الشعبي قال دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى البيعة فكان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال: ابسط يدك أبايعك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «علام تبايعني؟» فقال أبو سنان رضي الله عنه: على ما في نفسك، هذا أبو سنان بن وهب الأسدي رضي الله عنه. وروى البخاري عن نافع رضي الله عنه قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر رضي الله عنهما أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر رضي الله عنه يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر رضي الله عنه لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله رضي الله عنه ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر رضي الله عنهما. وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلّى الله عليه وسلم فقال- يعني عمر رضي الله عنه- يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه فخرج فبايع. وقد أسنده البيهقي، وقال الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه، وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه. وروى مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلّى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة قال: ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال يزيد: قلت: يا أبا سلمة، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت، وروى البخاري أيضا عن سلمة رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت فقال صلّى الله عليه وسلم «يا سلمة، ألا تبايع؟» قلت: قد بايعت، قال صلّى الله عليه وسلم: «أقبل فبايع» فدنوت فبايعته، قلت: علام بايعته يا سلمة؟ قال: على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر، وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم أنهم بايعوه على الموت. وروى البيهقي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قدمت الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على جباها- يعني الركى- فإما دعا وإما بصق فيها

فجاشت فسقينا واستقينا، قال: ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة، فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط الناس قال صلّى الله عليه وسلم: «بايعني يا سلمة» قال: قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس قال صلّى الله عليه وسلم «وأيضا» قال ورآني رسول الله صلّى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني جحفة أو درقة، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا تبايع يا سلمة؟» قال: قلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم، قال صلّى الله عليه وسلم: «وأيضا» فبايعته الثالثة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا سلمة أين جحفتك أو درقتك التي أعطيتك؟» قال: قلت يا رسول الله لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «إنك كالذي قال الأول اللهم ابغني حبيبا هو أحب إليّ من نفسي» قال: ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا، قال: وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أسقي فرسه وأجنبه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا في بعض، أتيت شجرة فكشحت شوكها، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قتل ابن زنيم، فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت: والذي كرم وجه محمد صلّى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده، حتى وقفنا بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناؤه» فعفا عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنزل الله عزّ وجل وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآية. وهكذا رواه مسلم وثبت في الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال فانطلقنا من قابل حاجين فخفي علينا مكانها، فإن كان بينت لكم فأنتم أعلم، وروى أبو بكر الحميدي عن جابر رضي الله عنه قال: لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له الجد بن قيس مختبئا تحت إبط بعيره رواه مسلم، وروى الحميدي أيضا حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابرا رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فقال لنا رسول

الله صلّى الله عليه وسلم: «أنتم خير أهل الأرض اليوم» قال جابر رضي الله عنه: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة، قال سفيان: إنهم اختلفوا في موضعها. أخرجاه من حديث سفيان، وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وروى ابن أبي حاتم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر» قال: فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره، فقلنا: تعال فبايع قال: لأن أصيب بعيري أحب إلى من أن أبايع. وروى عبد الله بن أحمد عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال «من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل» فكان أول من صعد خيل بني الخزرج، ثم تبادر الناس بعد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلى من أن يستغفر لي صاحبكم، فإذا هو رجل ينشد ضالة، رواه مسلم. وقال ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها «لا يدخل النار- إن شاء الله تعالى- من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد» قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة رضي الله عنها وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد قال تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (مريم: 72) رواه مسلم، وفيه أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: إن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كذبت لا يدخلها، فإنه قد شهد بدرا والحديبية» ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً كما قال عزّ وجل في الآية الأخرى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وقال ابن كثير: (وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قريبا من هذا السياق، وزاد في سياقه أن قريشا بعثوا- وعندهم عثمان رضي الله عنه- سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين، وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل، ونادى منادي

2 - كلام الألوسي عن البيعة بمناسبة آية لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ..

رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأمر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا، فسار المسلمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا أبدا، فأرعب ذلك المشركين، وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح). 2 - [كلام الألوسي عن البيعة بمناسبة آية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ .. ] وبمناسبة قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قال الألوسي عن هذه البيعة: (استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شئ، ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال، ويكفي فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر. ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت: بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (مريم: 71) فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (مريم: 72) وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم: «أنتم خير أهل الأرض» فينبغي لكل من يدّعي الإسلام حبهم، وتعظيمهم، والرضا عنهم، وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وعثمان منهم؛ بل كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه- كما قال أنس- خيرا من أيديهم لأنفسهم). 3 - [كلام ابن كثير عن كفاية الله للمؤمنين شر القتال بمناسبة الآية (24)] بمناسبة قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة بالسلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأخذوا، قال عفان: فعفا عنهم ونزلت هذه الآية وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ورواه مسلم وأبو داود في سننه، والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما. وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهيل بن عمرو بن يديه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ سهيل بيده وقال ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: اكتب باسمك اللهم- وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة. فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد

4 - كلام صاحب الظلال حول آية ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ..

ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله» فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخذ بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا؟. فقالوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآية ورواه النسائي. 4 - [كلام صاحب الظلال حول آية وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ .. ] وبمناسبة قوله تعالى: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً* سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا .. قال صاحب الظلال: (وهكذا يربط نصرهم وهزيمة الكفار بسنته الكونية الثابتة التي لا تتبدل. فأية سكينة؟ وأية ثقة؟ وأي تثبيت يجده أولئك المؤمنون في أنفسهم وهم يسمعون من الله أن نصرهم وهزيمة أعدائهم سنة من سننه الجارية في هذا الوجود؟. وهي سنة دائمة لا تتبدل. ولكنها قد تتأخر إلى أجل. ولأسباب قد تتعلق باستواء المؤمنين على طريقهم، واستقامتهم الاستقامة التي يعرفها الله لهم. أو تتعلق بتهيئة الجو الذي يولد فيه النصر للمؤمنين والهزيمة للكافرين، لتكون له قيمته وأثره. أو لغير هذا ولذلك مما يعلمه الله. ولكن السنة لا تتخلف. والله أصدق القائلين: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا). 5 - [كلام ابن كثير عن حمية الجاهلية بمناسبة آية إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ .. ] بمناسبة قوله تعالى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها قال ابن كثير: (وقوله عزّ وجل إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وذلك حين أبوا أن يكتبوابسم الله الرحمن الرحيم، وأبوا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وهي قول لا إله إلا الله كما قال ابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد عن الطفيل- يعني ابن أبيّ بن كعب- عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: «لا إله إلا الله» وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه، وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجل» وأنزل

6، 7 - كلام ابن كثير عما أعقب صلح الحديبية ورواية أحاديث هذا الصلح

الله عزّ وجل في كتابه وذكر قوما فقال إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (الصافات: 35) وقال جل ثناؤه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله فاستكبروا عنها، واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قضية المدة، وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم. وقال مجاهد: كلمة التقوى: الإخلاص، وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، وعن المسور وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وروى الثوري عن علي رضي الله عنه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: لا إله إلا الله والله أكبر، وكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى، وقال سعيد بن جبير وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: لا إله إلا الله والجهاد في سبيله. وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وقال قتادة وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: لا إله إلا الله وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وكان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها). [6، 7 - كلام ابن كثير عما أعقب صلح الحديبية ورواية أحاديث هذا الصلح] 6 - مما أعقب صلح الحديبية ما ذكره ابن كثير: (ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عزّ وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلّق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت منه ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني انظر إليه فأمكنه منه، فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رآه «لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر

حرب لو كان معه أحد» فلما سمع بذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم إليهم، وأنزل الله عزّ وجل وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ حتى بلغ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله، ولم يقروا باسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت وهكذا ساقه البخاري). 7 - قال ابن كثير راويا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره لرددته، وفي رواية فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه) وروى ابن كثير: (وقال الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: إن قريشا صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلم وفيهم سهيل بن عمرو فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «اكتب من محمد رسول الله» قال: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اكتب من محمد بن عبد الله» واشترطوا على النبي صلّى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقال يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله» رواه مسلم. وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي رضي الله عنه: «اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» قالوا: لم نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «امح يا علي اللهم إنك تعلم إني رسولك، امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه» قالوا: نعم، ورواه أبو داود، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل، فلما صدّت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها).

8 - كلام ابن كثير عن تحقق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة آية لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ..

8 - [كلام ابن كثير عن تحقق رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلم بمناسبة آية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ .. ] بمناسبة قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ قال ابن كثير: (وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذي الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه، بعضها عنوة وبعضها صلحا- وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع- فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر ابن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة- كما هو مقرر في موضعه- ثم رجع إلى المدينة. فلما كان ذي القعدة من سنة سبع خرج صلّى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة فلبى وسار أصحابه يلبون، فلما كان صلّى الله عليه وسلم قريبا من مر الظهران بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال يا محمد ما عرفناك تنقض العهد؟، فقال صلّى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال عليه الصلاة والسلام: «لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج» فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرجت رءوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظا وحنقا، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطريق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصارى آخذ زمام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقودها وهو يقول: باسم الذي محمد رسوله … باسم الذي لا دين إلا دينه اليوم نضربكم على تأويله … كما ضربناكم على تنزيله

ويذهل الخليل عن خليله … قد أنزل الرحمن في تنزيله خلوا بني الكفار عن سبيله … ضربا وتنزيل الهام عن مقيله في صحف تتلى على رسوله … بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله فهذا مجموع من روايات متفرقة. (وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف، فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة، قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم» فجمعوا له وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا، وحشا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع صلّى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: «لا يرى القوم فيكم غميزة» فاستلم الركن، ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنّة، قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع. وروى أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها سوءا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة؛ ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. أخرجاه في الصحيحين). وفي لفظ قدم النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم، قال البخاري وزاد ابن سلمة- يعني حماد بن سلمة- عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال: «ارملوا ليري المشركين قوتهم والمشركون

9 - كلام صاحب الظلال بمناسبة آية هو الذي أرسل رسوله ..

من قبل قعيقعان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنما سعى النبي صلّى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته. ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وروى أيضا عن إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم انفرد به البخاري دون مسلم، وروى البخاري أيضا: عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلّى الله عليه وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج صلّى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم أيضا. وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقرّ بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن اكتب محمد بن عبد الله قال صلّى الله عليه وسلم «أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» ثم قال صلّى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «امح رسول الله» قال رضي الله عنه: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها» فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه، تنادي: يا عم يا عم، فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم، فقال علي رضي الله عنه: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر رضي الله عنه: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد رضي الله عنه: ابنة أخي فقضى بها النبي صلّى الله عليه وسلم لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله عنه: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي» وقال صلّى الله عليه وسلم لزيد رضي الله عنه: «أنت أخونا ومولانا» قال علي رضي الله عنه: ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه؟ قال صلّى الله عليه وسلم «إنها ابنة أخي من الرضاعة» تفرد به من هذا الوجه. 9 - [كلام صاحب الظلال بمناسبة آية هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ

عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قال صاحب الظلال: (فلقد ظهر دين الحق، لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان. ظهر في إمبراطورية كسرى كلها، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر، وظهر في الهند وفي الصين، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها، وفي جزر الهند الشرقية (أندونسيا) .. وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي. وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله- حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض. وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان. أجل ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله، من حيث هو دين. فهو الدين القوي بذاته، القوي بطبيعته، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصيلة؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح، وحاجات العمران والتقدم، وحاجات البيئات المتنوعة، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب! وما من صاحب دين غير الإسلام ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة .. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً .. فوعد الله قد تحقق في الصور السياسية الظاهرة قبل مضي قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية. ووعد الله ما يزال متحققا في الصورة الموضوعية الثابتة؛ وما يزال هذا الدين ظاهرا على الدين كله في حقيقته. بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادرا على العمل والقيادة، وفي جميع الأحوال. ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم! فغير أهله يدركونها ويخشونها، ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب!). أقول: لقد جاءت نصوص كثيرة تدلّ على انتصار سياسي عالمي للإسلام ستصبح فيه أزمة العالم كله بيد المسلمين، ولقد نقلنا بعض هذه النصوص في تفسير سورة براءة، وهذا الانتصار كائن قبل نزول المسيح عليه السّلام بزمن كثير، كما يبدو- والله أعلم- والتحقيق الواسع لهذا الموضوع سيكون في كتابنا (الأساس في السنة وفقهها) وما يجري الآن في العالم يدل على أننا أصبحنا قريبين من مرحلة تشبه مرحلة المدّ الأول، وفي الحديث الشريف «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره».

10 - كلام ابن كثير عن صفات المؤمنين بمناسبة آية محمد رسول الله والذين معه ..

10 - [كلام ابن كثير عن صفات المؤمنين بمناسبة آية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ قال ابن كثير: (كما قال عزّ وجل فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (التوبة: 54) وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار، رحيما برّا بالأخيار، غضوبا عبوسا في وجه الكافر، ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (التوبة: 123) وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر» وقال صلّى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك صلّى الله عليه وسلم بين أصابعه، كلا الحديثين في الصحيح. أقول: في سورة المائدة ذكرت مواصفات الجماعة التي تقف في وجه الردة وتستأهل الغلبة والنصر، ومجئ آية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... في سياق سورة الفتح يشعر بأن ما ذكرته هذه الآية هو مواصفات الجماعة التي تستأهل الرعاية والنصرة والغلبة، فلنتدبر الآية، وليحاول المسلم أن يأخذ حظّه مما ورد فيها، ولتحاول الطائفة القائمة بالحق أن تأخذ بحظها من ذلك الإيمان، والعمل الصالح، والوحدة والتلاحم والتفاني، ووضاءة الوجوه من العبادة، والركوع والسجود، والرحمة بالمؤمنين، والشدّة على الكافرين. ومجئ هذه الآية بعد قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ... يشعر أن وجود من هذا شأنهم هو الطريق إلى انتصار الإسلام، ولقد تحقق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما ورد في الآية، وعلى أتباعه- عليه الصلاة والسلام- أن يفعلوا ليكون لهم شرف المعيّة له صلّى الله عليه وسلم، فلئن فاتتهم معيّة الجسد فلا تفوتهم معيّة الاقتداء والتحقيق والتخلق، وإن في الآية لردا على من أغفلوا الصراع مع الكفر وتناسوه. 11 - [تفسير ابن كثير لكلمة «سيماهم» بمناسبة آية سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قال ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: سيماهم في وجوههم

12 - حديث في النهي عن سب الصحابة بمناسبة آية وعد الله الذين آمنوا ..

يعني السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع. وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قال: الخشوع، قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال السدي: الصلاة تحسّن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقد أسنده ابن ماجه في سننه عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه» والغرض أن الشئ الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عزّ وجل ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وروى أبو القاسم الطبراني عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر» العزرمي- وهو من رجال السند- متروك. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أنّ أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان». وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة» ورواه أبو داود. فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم). 12 - [حديث في النهي عن سب الصحابة بمناسبة آية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا .. ] بمناسبة قوله تعالى عن الصحابة وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً روى ابن كثير: (قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»).

13 - أين التوراة الحقيقة؟

13 - [أين التوراة الحقيقة؟] قال الله عزّ وجل واصفاً رسوله والمؤمنين مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ فدلّ هذا على أن الرسول صلّى الله عليه وسلم وأمته موصوفون في التوراة بهذه الصفات، ولكن أين التوراة الحقيقية؟ إن التوراة الحالية محرّفة متناقضة، تدل على نفسها بنفسها أنها ليست التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، كما برهنا على ذلك في كتابنا (من أجل خطوة إلى الإمام) ومع أن التوراة الحالية كذلك فلا زال فيها بقايا من البشارات برسولنا عليه الصلاة والسلام ذكرناها في كتابنا (الرّسول صلّى الله عليه وسلم)، ولأن التوراة الحالية تمزج ما هو من سيرة موسى عليه السلام، بما هو وحي، بما هو حكاية. وبما أن هذه الأسفار كتبت بعد مئات السنين من وفاة موسى عليه السلام، وبما أنها حصيلة دمج لمجموعة روايات- كما نقلنا ذلك في هذا التفسير- فإننا لا نطمع أن نجد شيئا على أصله فيها. ولقد تتبّعنا عبارات هذه الأسفار فوجدنا في بعضها ما يشير إلى بعض ما ذكره القرآن هنا، ولكن بشكل مفرق من مثل (أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه .. ) تثنية 18 (يجلب الربّ عليك أمّة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النّسر، أمة لا تفهم لسانها، أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد) تثنية 28 (تهلّلوا أيها الأمم شعبه؛ لأنه ينتقم بدم عبيده، ويرد نقمة على أضراره، ويصفح عن أرضه عن شعبه) تثنية 32 وهذا الأخير يشبه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. 14 - [أين الإنجيل الحقيقي؟] قال تعالى وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وقد فتّشت في ما يسمى بالأناجيل الحالية والتي هي مجموعة روايات متناقضة، والتي تقيم الحجة بمضمونها على نفسها، أنها ليست ذات ما بشر به المسيح، فرأيت النص التالي يمكن أن يكون أصل ما أشار إليه القرآن: في الإصحاح الثالث عشر من إنجيل متى على لسان المسيح عليه السلام: (قدّم لهم مثلا آخر قائلا: يشبه ملكوت السموات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور؛ ولكن متى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرة حتى إن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها). كلمة أخيرة في سورة الفتح: بدأت السورة بمقدمة سمّت صلح الحديبية فتحا مبينا، وذكرت حكمة الله في هذا

الفتح، وأنها إرادة الله برسوله: المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر، ثم ذكرت إنزال السكينة على المؤمنين قبل الصلح وبعده، وأن حكمة ذلك زيادة الإيمان في قلوبهم من أجل أن تكون النتيجة إدخال المؤمنين الجنة، وتعذيب الكافرين في النار. وهكذا قدّمت السورة هذه المعاني الإجمالية ليعرف منذ البداية أن ما حدث يوم الحديبية كان فتحا، وأن عاقبته بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وبالنسبة للمؤمنين هي الخير كله. وبعد هذه المقدمة يعرض الله عزّ وجل المسألة من بدايتها: فالبداية أن الله أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلم وجعل مهمته الشهادة على الخلق، والتبشير والإنذار، وأن على الخلق أن يؤمنوا بالله ورسوله، وأن ينصروا رسوله صلّى الله عليه وسلم، وأن يعظموه، وأن ينزهوا الله عزّ وجل، وأن بيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما هي بيعة لله عزّ وجل، فماذا كان موقف الناس من هذه المعاني قبيل صلح الحديبية وأثناءه: أما المنافقون فقد تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ البداية، وأمّا المؤمنون الصادقون فساروا معه، ولما اقتضى الأمر بيعة على الموت أو عدم الفرار بايعوا مطمئنين، فكافأهم الله بإنزال السكينة، وفتح خيبر، وغير ذلك. ومن جملة ذلك تحقيق رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطواف حول البيت في عام لاحق، وأما الكافرون والمنافقون فكانت مواقفهم خلال ذلك في غاية الجهل والتناقض، ثم بشر الله عزّ وجل بإظهار دينه على الأديان كلها، ثم ذكر خصائص رسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يستأهلون هذا النصر، ويستأهلون معه المغفرة والجنة. هذه أمهات من المعاني في السورة عرض الله عزّ وجل لنا فيها صلح الحديبية، وما رتّبه عليه وأسماه فتحا، فأعطى بذلك المسلمين درسا خالدا من دروس القرآن، وكلها خوالد. فالقرآن الكريم يسجل لنا كل ما هو خالد تحتاجه الأمة الإسلامية أفرادا، وجماعة في سيرها خلال العصور، ومن ثم تجده سجّل كثيرا من مواقف السيرة التي من هذا النوع في الحرب أو في السلم، فسجّل لنا مواقف متعددة في قضايا الجهاد من خلال عرضه لغزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحروبه الرئيسية، وسجل لنا هاهنا موقفا ترتب عليه معاهدة وصلح، وهو موقف قد تحتاجه الأمة الإسلامية في سيرها الطويل كثيرا، والملاحظ أن سورة القتال السابقة على سورة الفتح ذكرت شيئا عن المسالمة والمصالحة، وأنها جائزة في بعض الحالات، وقد جاءت سورة الفتح لتعرض علينا نموذجا على أن الهدنة والصلح قد يترتب عليهما من المنافع والمصالح للمسلمين أضعافا مضاعفة، بل قد

لا يكون في لحظة من اللحظات أية مصالح في الحرب. من هذه الصلة بين سورة القتال والفتح نعرف كيف أن السور في القسم الواحد يكمّل بعضها بعضا، سنحاول تفصيل هذا الموضوع في الكلام عن قسم المثاني بعد أن ننتهي من عرضه. ومن خلال عرض ما مر فصلت السورة في قضايا تتعلّق بالإيمان والتقوى وأخلاق الجماعة المؤمنة، وفصّلت في الكفر وأخلاقه ودوافع أهله، وفصّلت في النفاق وأخلاق أهله ودوافعهم، وفصّلت في كيفية تعامل الجماعة المسلمة مع المنافقين، وفصّلت في سنن الله في عملية الصراع بين الكفر والإيمان، وفيما ينبغي أن يلاحظه المسلمون في عملية الصراع، ومن أهم ذلك حماية أرواح المؤمنين المخالطين للكافرين، كما فصّلت في خصائص الجماعة الإسلامية في تعاطفها مع بعضها وفي شدتها على الكافرين، وفي إقبالها على الله بالعبادة، وإخلاصها له في النية، كما فصّلت فيما تقتضيه عملية الإيمان من نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتعظيمه. ومما ينبغي أن نتذكره أنه لا يكفي أن يقول قائل آمنت بالله ورسوله، بل لا بد أن يرافق ذلك نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بنصرة شخصه في حياته، ونصرة شريعته ودينه، وأن يرافق ذلك توقير وتعظيم لشخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وأن يرافق ذلك تنزيه لله عزّ وجل، وأن يضم المسلمين فيما بينهم صف واحد يمتاز بالرحمة فيما بينه، والشدة على العدو الكافر، ويمتاز بالصلاة والعبادة، والترقّي والإيمان والعمل الصالح، والصراع المتواصل لنشر الإسلام حتى يعمّ الإسلام العالم. وقد رأينا صلة سورة الفتح بمحور السورة من البقرة وكيف أنها تفصله وتضرب الأمثال على تحققه؛ فقد جاء في المحور فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وهاهنا ذكر ما يترتب على ذلك من إيمان ونصرة وتوقير وتعظيم وتسبيح وبيعة. وفي المحور ذكر فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهاهنا ذكر كيفية الهداية، وذكر بعض أسبابها وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ومن السياق نعلم أن هذه الهداية هي أثر الحركة الجهادية المخلصة، وأثر الطاعة الراشدة، والمحور ذكر أن النصر يكون بعد البأساء والضراء والزلزال، وكان فتح الحديبية بعد ذلك كله.

والمحور ذكر حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ والسورة فصّلت في صفات الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين إذا قالوا ذلك كان الجواب: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. ***

سورة الحجرات

سورة الحجرات وهي السّورة التاسعة والأربعون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة الخامسة من المجموعة الخامسة من قسم المثاني، وآياتها ثماني عشرة آية وهي مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

نقول: تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة الحجرات

نقول: [تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة الحجرات] قال الألوسي في تقديمه لسورة الحجرات: (مدنية كما قال الحسن، وقتادة، وعكرمة، وغيرهم، وفي مجمع البيان عن ابن عباس إلا آية وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ولعل من يعتبر ما أخرجه الحاكم في مستدركه، والبيهقي في الدلائل، والبزار في مسنده من طريق الأعمش عن علقمة عن عبد الله قال: ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* أنزل، فبالمدينة، وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ* فبمكة يقول بمكية. ما استثني، والحق أن هذا ليس بمطرد. وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية، وهي ثماني عشرة آية بالإجماع، ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام، وتلك فيها قتال الكفار، وهذه فيها قتال البغاة، وتلك ختمت بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا، وتلك تضمنت تشريفات له صلى الله تعالى عليه وسلم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة والسلام، وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر، لأنه عزّ وجل ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ثم قال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الخ فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض الشئ مما ينبغي أن ينهى عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال صاحب الظلال: (هذه السورة، التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود والإنسانية. حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية وآمادا بعيدة؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات! وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة. لعالم رفيع كريم نظيف سليم؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم، والتي تكفل قيامه أولا، وصيانته أخيرا .. عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله .. عالم نقي القلب، نظيف المشاعر، عف اللسان، وقبل ذلك عف السريرة .. عالم له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره. أدب في هواجس ضميره، وفي حركات

كلمة في سورة الحجرات ومحورها

جوارحه. وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته. وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه، وهو يتجه ويتحرك إلى الله .. ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم. بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق. كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها. بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالأفراد؛ وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق.). كلمة في سورة الحجرات ومحورها: جاء المقطع الثاني من سورة الفتح ليحدد مهمات الرسول، وواجبات المرسل إليهم، ولذلك فقد بدأ بقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفتح: 8) وقد جالت سورة الفتح جولات في واجبات المرسل إليهم، وهذه سورة الحجرات تكمّل، ولذلك فإنها تبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ فسورة الحجرات تكمّل سورة الفتح في تبيان واجبات المرسل إليهم. تنتهي سورة الفتح بقوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ .... (الآية: 29) وتأتي سورة الحجرات لتذكر أدب العلاقة بين المؤمنين ورسولهم، وبين المؤمنين مع بعضهم إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... وهذا مظهر آخر من مظاهر تكامل سورة الحجرات مع سورة الفتح. وعلى ذلك فسورة الحجرات تتكامل مع مجموعتها وتكمّلها. فسورة الجاثية عمّقت معنى الاهتداء بكتاب الله، وسورة الأحقاف عمّقت معنى التوحيد، وسورة القتال بيّنت أن الأصل هو القتال بين أهل الفسوق وأهل الإيمان،

وسورة الفتح بيّنت أن معارك المسلمين منصورة، وسورة الحجرات بيّنت أدب السير، وأدب الجماعة المسلمة في حركتها نحو الهدف، وستأتي سورة (قاف) لتعظ وتذكّر باليوم الآخر، فذلك هو الهدف؛ وذلك هو الذي يضبط المسار. ولأن سورة الحجرات مع سورة الفتح في مجموعة واحدة فإنّ محورها من سورة البقرة يأتي بعد محورها عادة، أو يكون المحور متحدا، وبالتّأمّل لسورة الحجرات وسورة براءة ندرك أن بينهما صلة: لقد ختمت سورة براءة بقوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (الآية: 128) وهذه سورة الحجرات تقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ولقد جاء في سورة براءة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (الآية: 119) وجاء في سورة الحجرات تفسير للصادقين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وجاء في سورة براءة قوله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ... (الآية: 97) وورد في سورة الحجرات قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا .... ومن قبل قلنا إن سورة الأنفال وبراءة لهما حكم السورة الواحدة ذات المحور الواحد، وقد بدأت سورة الأنفال بقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ .. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وقد جاء في سورة الحجرات قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. هذه الصلات بين سورة الحجرات وبين سورتي الأنفال وبراءة ترشح أن يكون محور سورة الحجرات هو محور سورتي الأنفال وبراءة، وعلى هذا فإن محور سورة الحجرات هو الآيات الثلاث: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الآيات 216 - 218). ومما يجعلنا نستأنس أن هذه الآيات هي محور سورة الحجرات أنها جاءت بعد محور سورة الفتح وفيما بينها وبين سورة الحجرات صلات: فقد جاء في هذه الآيات قوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ولذلك صلاته بقوله تعالى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وقد جاء في هذه الآيات قوله تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولذلك صلاته بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ويكثر ورود اسمي الله الغفور الرحيم في السورة، وهما الاسمان اللذان ختمت بهما الآيات الثلاث: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فإذا صح أن محور سورة الحجرات هو هذه الآيات الثلاث فإن هذا يفيد أن سورة الحجرات تحدّد للصف المجاهد آدابه وسلوكه وأخلاقياته، وآفاق قتاله الإنساني، ولأمر ما جاء في هذه السورة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا. ولقد جاءت آيات المحور في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومن ثم فسورة الحجرات تحدّد معاني من الإسلام يجب الدخول فيها، ومجاهل من طريق الشيطان لا يجوز للمسلم أن يقربها، فهي دستور المجاهد، ومن ثم فهي دستور المسلم الحق.

الفقرة الأولى وتتألف من آية واحدة وهذه هي

تتألف السورة من مقطع واحد ذي فقرات واضحة المعالم وسنعرضها فقرة فقرة. *** الفقرة الأولى وتتألف من آية واحدة وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 49/ 1 التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال ابن كثير: (أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلّى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن «بم تحكم؟» قال: بكتاب الله تعالى، قال صلّى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد؟» قال: بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال صلّى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد؟» قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلّى الله عليه وسلم». وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، والغرض منه أنه أخّر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدّمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله

كلمة في السياق

عنهما لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقال العوفي عنه: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، وقال مجاهد لا تفتاتوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه، وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. وقال سفيان الثوري لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بقول ولا فعل، وقال الحسن البصري لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال لا تدعوا قبل الإمام، وقال قتادة: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا لو صح كذا وكذا فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه). أقول: وهناك قراءة صحيحة بفتح التاء والمعنى لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله أي كونوا دائما وراء الكتاب والسنة، ولا تتقدّموا أمام الكتاب والسنة بقول أو رأي أو فعل، ثم تستتبعوا الكتاب والسنة لذلك، بل استنطقوا الكتاب والسند في كل شئ وسيروا على هدى ذلك، والخلاصة أن الآية تنهى نهيا جازما عن التقدم على الكتاب والسنة بشيء، وعن الإقدام على أمر من الأمور دون معرفة هدي الكتاب والسنة فيه وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما تفعلون وتتركون، وفيما أمر الله ونهى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما تقولون عَلِيمٌ بما تعملون وحق مثله أن يتقى، وألا يتقدم عليه وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلم بأمر، فصار معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله في أي شأن من الشئون قولا أو فعلا، واتقوا الله أن تفعلوا شيئا من ذلك إن الله سميع عليم. كلمة في السياق: 1 - قلنا إن محور سورة الحجرات هي الآية التي ذكرت فريضة القتال، والآيتان بعدها، ومن هذا نقول: إن من آداب المعركة الالتزام بالكتاب والسنة والتقوى، وهذا يرشح للالتزام بأوامر القيادة الراشدة. 2 - جاءت آية القتال في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، وعدم اتباع خطوات الشيطان، وقد ظهر أثر ذلك في هذه السورة، فمن أول مظاهر الإسلام الاستسلام لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، والسير وراء الكتاب والسنة، ومن أول مظاهر اتباع خطوات الشيطان متابعة الهوى في معصية الله ورسوله. 3 - قلنا: إن محور السورة يبدأ بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (2) إلى نهاية الآية (5) وهذه هي

يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة: 216) والصلة واضحة بين آية المحور وآية السورة؛ فهناك أشياء يكرهها الإنسان وفيها الخير؛ ولذلك يأمر بها الله، وهناك أشياء يحبها الإنسان وفيها الشر ولذلك فإن الله ينهى عنها، وعلى الإنسان أن يلتزم بالأمر والنهي، وأن يستسلم، ولقد ختمت آية المحور بقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وختمت الآية الأولى في السورة بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. 4 - جاء قوله تعالى لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بعد سورة الفتح التي سجّلت صلح الحديبية الذي خفيت حكمته على الجميع ما عدا رسوله صلّى الله عليه وسلم، فكان التقديم لهذا النهي بتلك الحادثة بمثابة البرهان والدليل والحجة عليها. 5 - وقد جاء في سورة الفتح قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ .. وجاء هذا النهي هاهنا ليبين لنا أدب الإيمان بالله وبالرسول صلّى الله عليه وسلم وهو عدم التقدّم عليهما بشيء. *** الفقرة الثانية وتمتد من الآية (2) إلى نهاية الآية (5) وهذه هي: 49/ 2 - 5

التفسير

التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال النسفي: أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته لديكم واضحة) وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. قال النسفي: (أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر، أو لا تقولوا له: يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم) وقال النسفي: (لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص، أعني: الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها) وقال ابن كثير: (نهى من الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطبه بسكينة ووقار وتعظيم) قال ابن كثير: (يكره رفع الصوت عند قبره صلّى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه محترم حيا وفي قبره صلّى الله عليه وسلم دائما) ثم قال تعالى معللا للنهي عن رفع الصوت أو الجهر له بالقول كجهر البعض للبعض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي: انتهوا عمّا نهيتم عنه، خشية حبوط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بذلك، قال ابن كثير: (أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك؛ فيغضب الله تعالى لغضبه؛ فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري) وقال الألوسي (وقال أبو حيان: إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحيط معه العمل حقيقة، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلّى الله عليه وسلم، وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك كأنه قيل: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التكلف البارد، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدو، أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولّى المسلمون يوم حنين: «ناد أصحاب السمرة» فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة، وكان رجلا صيتا).

[سورة الحجرات (49): آية 3]

ثمّ ندب الله تعالى إلى خفض الصوت وحث على ذلك وأرشد إليه، ورغّب فيه، فقال إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ أي: يخفضون أصواتهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي: في مجلسه تعظيما له عليه الصلاة والسلام أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال ابن كثير: أي: أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا وقال النسفي: والمعنى: أخلصها للتقوى من قولهم: امتحن الذهب وفتنه إذا أذابه فخلّص إبريزه من خبثه ونقّاه، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ مكافأة لهم على أدبهم والصيغة تدلّ- كما قال النسفي- على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ يا محمد مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ وهي بيوت نسائه عليه الصلاة والسلام فعل أجلاف الناس أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ لو كان فيهم عقل ما تصرّفوا هذا التصرف، وسنرى في الفوائد أسباب نزول الآيات قال النسفي: (وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، منها التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها التعريف باللام دون الإضافة، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك، فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلّى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا لينبه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغا) ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا قال النسفي: الصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ قال النسفي: (أفاد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم) لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: لكان الصبر خيرا لهم في دينهم قال ابن كثير: أي: (لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة) ثم قال جل ثناؤه داعيا لهم إلى التوبة والإنابة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.

كلمة في السياق: حول علاقتها بالفقرة الأولى وبسورة الفتح وبمحور السورة

كلمة في السياق: [حول علاقتها بالفقرة الأولى وبسورة الفتح وبمحور السورة] 1 - ذكرت الفقرة الأولى في السورة أدبا من آداب المعاملة مع الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، وذكرت الفقرة الثانية أدبا آخر من آداب المعاملة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالصلة واضحة بين الفقرة الأولى والثانية. 2 - جاء في سورة الفتح قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ... وهذه الفقرة حدّثتنا عن كيفية توقير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتعظيمه. 3 - الآية الثانية في محور السورة من سورة البقرة هي قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ... وقد جاء في تلك الآية قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لاحظ ورود كلمة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في المحور، وورود قوله تعالى في الفقرة أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ. إن الصراع مع أعداء الله قد يوصل بعض الناس إلى إساءة الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كأن يقول القائل ولماذا نحمّل أنفسنا كل هذه المشاقّ من أجل دين رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فجاءت هذه الفقرة تعرّفنا على خطورة إساءة الأدب معه عليه الصلاة والسلام حيا وميتا. 4 - إن محور السورة آت في سياق الأمر بالدخول في الإسلام، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان، ومن مبادئ الإسلام الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن خطوات الشيطان إساءة الأدب معه عليه الصلاة والسلام. 5 - قلنا إن السورة مرتبطة بمحور له صلة بموضوع القتال، والقتال يصبغ أصحابه بنوع من القسوة التي تصل إلى الجلافة والفظاظة؛ ولذلك أدّب الله المسلمين، وأدّب المجاهدين في أن يتعاملوا مع قائدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكامل الأدب، وهذا يرشح أن على المسلمين عامّة، وعلى المجاهدين خاصة أن يتعاملوا مع قياداتهم الرّاشدة بمثل هذا. ***

الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (6) إلى الآية (10) وهذه هي

الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (6) إلى الآية (10) وهذه هي: 49/ 6 - 10 التفسير يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ أي: بخبر فَتَبَيَّنُوا أي: فتوثقوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه، قال النسفي: (وفي الآية دلالة على قبول خبر الواحد العدل؛ لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التخصيص به عن الفائدة) وقال ابن كثير: (يأمر الله تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذبا أو مخطئا، فيكون الحاكم

[سورة الحجرات (49): آية 7]

بقوله قد اقتفى وراءه وقد نهى الله عزّ وجل عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال) قال الألوسي: (والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروءة بناء على مقابلته بالعدل، وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل) ثم بين تعالى الحكمة في الأمر بالتثبت في خبر الفاسق فقال: أَنْ تُصِيبُوا أي: لئلا تصيبوا قَوْماً بِجَهالَةٍ يعني: جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة فَتُصْبِحُوا أي: فتصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ قال النسفي: الندم: ضرب من الغم، وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ قال ابن كثير: (أي اعلموا أنّ بين أظهركم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعظّموه ووقّروه وتأدّبوا معه وانقادوا لأمره؛ فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم) ثم بين تعالى أن رأيهم في كثير من الأمور ليس لصالحهم فقال لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: حبّبه إلى نفوسكم وحسّنه في قلوبكم وَكَرَّهَ أي: وبغّض إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وهو الجحود وَالْفُسُوقَ وهو الخروج عن أمر الله تعالى، قال النسفي: وهو الخروج عن محبة الإيمان بركوب الكبائر وَالْعِصْيانَ وهي جميع المعاصي، قال النسفي: وهو ترك الانقياد لما أمر به الشارع، وقال الألوسي: الامتناع عن الانقياد أُولئِكَ أي: المتصفون بما مرّ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: الذين قد آتاهم الله رشدهم، قال النسفي: (يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة، والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرّشادة وهي الصخرة) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً قال ابن كثير: أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أمر تعالى بالإصلاح بين الفئتين المقتتلتين من المؤمنين، وسمّاهم مؤمنين مع الاقتتال فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى قال النسفي: بالاستكالة والظلم وإباء الصلح فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي:

[سورة الحجرات (49): آية 10]

حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم وتسمع للحق وتطيعه، وأمر الله هو المذكور في كتابه من الصلح، وزوال الشحناء، قال النسفي: وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت، فإذا كفّت وقبضت عن الحرب أيديها تركت فَإِنْ فاءَتْ أي: رجعت عن البغي إلى أمر الله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أي: بالإنصاف وَأَقْسِطُوا قال ابن كثير: أي واعدلوا بينهما فيما كان أصاب بعضهم بالقسط أي بالعدل، وقال النسفي: وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال النسفي: (هذا تقرير لما ألزمه الله من تولّي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها، ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولادا لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك) فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ يعني: الفئتين المقتتلتين وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في جميع أموركم فالتقوى تحمل على التواصل والائتلاف لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ دلّ ذلك على أن رحمة الله ينالها الأتقياء، قال ابن كثير: وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتّقاه. نقول: [1، 2 - عن الألوسي لتفسير كلمة «الفاسق» وحول آية .. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما .. ] 1 - قال الألوسي: (ثم اعلم أن الفاسق قسمان: فاسق غير متأوّل وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره، وفاسق متأول كالجبري والقدري، ويقال له المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية، ومنهم الشافعي، والقاضي، ومنهم من قبلهما، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه، بل هو أمارة الصدق؛ لأن موقعه فيه تعمقه في الدين، والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصدّه عنه، إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية وكذا من اعتقد بحجية الإلهام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «نحن نحكم بالظاهر» وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلم فاحترازه من الكذب عليه صلّى الله عليه وسلم أولى، إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيبا أو ترهيبا كالكرامية، أو ترويجا لمذهبه كابن الراوندي، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث؛ لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى التّقول، فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة. ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية

تقتضيه، والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها، والعام يحتمل التخصيص، ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود، والحديث خص منه خبر الكافر. وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو أمارة الكذب لا ما هو أمارة الصدق فافهم، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا، لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب، وحد الشافعي- عليه الرحمة- شارب النبيذ، ليس لأنه فاسق، بل لزجره لظهور التحريم عنده، ولذا قال: أحدّه وأقبل شهادته، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ). 2 - قال الألوسي: (والخطاب في قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب، فيجب الإصلاح، ويجب قتال الباغية ما قاتلت، وإذا كفّت وقبضت عن الحرب تركت، وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره حكمها إذا تولت، قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد، هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسّم فيؤها» وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صير إلى مقاتلتهما، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما- وكلتاهما عند أنفسهما محقة- فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة، والبراهين القاطعة، واطلاعهما على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج، ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه، فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية- إن كانت لازم قبل المقاتلة، وقيل: الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي، فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد، فقد أخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما وجدت في نفسي من شئ ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني: وَإِنْ طائِفَتانِ إلخ إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى- يعني بها معاوية ومن معه الباغين- على علي كرم الله تعالى وجهه، وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد؛ احتجاجا بأن عليا كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد، والحق أن ذلك ليس على إطلاقه؛ بل

3 - عن صاحب الظلال حول آية إنما المؤمنون إخوة

إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد، وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجعل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين). 3 - [عن صاحب الظلال حول آية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ: (ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة. وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة. وهو إجراء صارم وحازم كذلك. ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه، وألا يقتل أسير، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة وألقى السلاح، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة؛ لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم، وإنما هو ردهم إلى الصف، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية. والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة، وأنه إذا بويع لإمام، وجب قتل الثاني واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام. وعلى هذه الأصل قام الإمام علي- رضي الله عنه- بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقد تخلّف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر- رضي الله عنهم- إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة. وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص: (ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك). والاحتمال الأول أرجح، تدل عليه بعض أقوالهم المروية. كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام. ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات- بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة- فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد إذا خرج هؤلاء البغاة عليه، أو إذا بغت طائفة في إمامته دون خروج عليه. وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية. بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال. وواضح أن هذا النظام- نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله- نظام له السبق من

كلمة في السياق: حول صلة خاتمة الفقرة الثالثة بالآية الثالثة من المحور، وبعض موضوعات الفقرة

حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق. وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلق به نقص أو قصور .. ولكن البشرية البائسة تظلع وتعرج، وتكبو وتتعثر. وأمامها الطريق الواضح الممهّد المستقيم!). كلمة في السياق: [حول صلة خاتمة الفقرة الثالثة بالآية الثالثة من المحور، وبعض موضوعات الفقرة] 1 - الآية الثالثة من آيات المحور هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ في هذه الآية ذكر الله عزّ وجل صفات من يرجون رحمته، وقد ختمت الفقرة التي مرّت معنا بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هناك ذكر من يرجو رحمته وهاهنا ذكر من يستحقّ رحمته. 2 - جاءت آيات المحور في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان، وجاءت هذه الفقرة لتذكر بعض أحكام الإسلام لتلتزم، وبعض خطوات الشيطان لتجتنب. 3 - آيات المحور تتحدّث عن القتال، وبعض أحكامه، وفي هذه الفقرة ذكرت الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى اقتتال المؤمنين، وماذا علينا أن نفعل إذا وجد اقتتال بين المؤمنين. 4 - تحدّثت سورة الفتح عن صفة الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ .. (الآية: 29) وجاءت هذه الفقرة والفقرتان بعدها لتتحدّث عما به تدوم الألفة وتستحق الرحمة وعما ينافي أخلاقية أهل الإيمان في علاقاتهم ببعضهم. 5 - تعتمد الحرب- إلى حد كبير- على دقّة المعلومات، وسلامة القرار، والأناة في التعامل، وكلّ هذه المعاني تضمّنتها الفقرة، وهذا مظهر من مظاهر ارتباط السورة بمحورها.

توضيح الصلات بين معاني الفقرة الثالثة

6 - لا جيش بلا انضباط وطاعة، ولا نجاح في معركة إلا في انضباط وطاعة، والجيش الإسلامي يحتاج إلى إيمان وتقوى وطاعة، وقد جمع هذا كله قوله تعالى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ والآن لنعرض بالتفصيل للصلات بين معاني الفقرة: [توضيح الصلات بين معاني الفقرة الثالثة] 1 - ما الصلة بين قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وبين قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ؟ الصلات متعدّدة: أ- إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يبني على خبر الفاسق، بينما يوجد ناس يبنون عليه، فلو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أطاعهم في مثل ذلك لترتب على ذلك وجود أنواع من الحرج والعنت، وفي ذلك توجيه للمسلمين في عدم البناء على خبر الفاسق. ب- وقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أعطى معنى زائدا على مجرد البناء على خبر الفاسق، وهو أنه ليس كل اقتراح يتقدم به فرد فيه مصلحة للأمة، بل كثير من الأمور لو أطاع فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأفراد لترتب على ذلك حرج، وفي ذلك توجيه للأفراد أن يعرفوا حدود اقتراحاتهم، وهذا شئ تعاني منه الجماعات الإسلامية في كل عصر، إذ نرى إنسانا متحمسا أو غير متحمس يقترح الاقتراح، ويقف عنده، ولو أخذت الجماعة المسلمة به لترتّب على ذلك عنت كبير، ومن ثم أدّب الله عزّ وجل المسلمين على الخضوع لرأي رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رفض اقتراحا، ومن ثم جاء بعد قوله تعالى لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فالقسم الأخير من الآية يشير إلى أن الراشدين من أبناء الأمة المسلمة يخضعون لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولقراره، ولو خالف ذلك اقتراحاتهم، ورغباتهم؛ لأن الخضوع هو الذي يتفق مع الإيمان، ولأن غيره كفر وفسوق وعصيان، ومع تقرير هذا المعنى فقد قرر هذا الجزء من الآية حقيقة هي: أن الله عزّ وجل- فضلا منه ونعمة- يحبب الإيمان ويزينه في قلوب المؤمنين، ويكرّه الكفر والفسوق والعصيان، وبهذا نعرف الصلات بين المعاني التي وجدت في الآيات الثلاث الأولى من الفقرة. 2 - وما الصلة بين ما ورد في الآيات الثلاث الأولى وبين قوله تعالى بعد ذلك

الفقرتان الرابعة والخامسة وتشملان الآيتين (11) و (12) وهاتان هما

وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... ؟ الظاهر أن خبر الفاسق له علاقة بهذا الموضوع، ففي كثير من الأحيان يكون لخبر الفاسق دور في اقتتال المؤمنين، ولذلك فقد سبق الكلام عنه ليحذر، ثم من الملاحظ أن الآيتين الأخيرتين جاءتا بعد قوله تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فكان بمثابة التمهيد للإصلاح ولقبوله. 3 - نلاحظ أن الله عزّ وجل عند ما ذكر الحكمة في عدم الأخذ بقول الفاسق قال أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وفي الآية الأخيرة قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وهذا يؤكد أنّ لذكر خبر الفاسق صلة بذكر الخصومة والاقتتال بين المؤمنين. وما الصلة بين الفقرة الثالثة والفقرتين الأولى والثانية؟ إن الصلات بين هذه الفقرات متعدّدة، ومن أظهر الصلات أن الفقرات الثلاث تتحدّث عن الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه. ولذلك صلته بما ورد في سورة الفتح وَتُوَقِّرُوهُ. 4 - نلاحظ أن الفقرة الثالثة انتهت بقوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ونلاحظ أنه بعد هذه الآية تأتي فقرتان تربيان على كل ما يعمّق الأخوة الإيمانية وتبعدان عن كل ما يجرحها أو يعكرها. *** الفقرتان الرابعة والخامسة وتشملان الآيتين (11) و (12) وهاتان هما:

التفسير

49/ 11 - 12 التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي: لا يستهزئ رجال من رجال بدليل ما يأتي، والمراد بذلك النهي عن احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام قال ابن كثير: (فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له) عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ هذه علة النهي. قال النسفي: (والمعنى: وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر، إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر، ولا علم لهم بالسرائر، والذي يوزن عند الله خلوص الضمائر، فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا، أو أنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله) وكما يحرم هذا في حق الرجال يحرم في حق النساء، كما يحرم في حق النساء مع الرجال والرجال مع النساء وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ هذا هو الأدب الأول في الفقرة الرابعة وهو ألا يسخر مؤمن من مؤمن، ثم ذكر الله عزّ وجل الأدب الثاني: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا يطعن بعضكم على بعض. قال النسفي: (أي لا تطعنوا أهل دينكم، واللمز: الطعن والضرب باللسان ... ، والمؤمنون كنفس واحدة، فإذا عاب المؤمن مؤمنا فكأنما عاب نفسه، وقيل معناه: لا تفعلوا ما تلمّزون به؛ لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة) ثم ذكر الله عزّ وجل الأدب الثالث في هذه الفقرة فقال: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التنابز بالألقاب التداعي بها. قال النسفي: (والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له، فأما ما يحبه فلا بأس به) بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي: بئس الصفة والاسم الفسوق بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه، أي بئس أن تستبدلوا اسم الإيمان بأن كان

[سورة الحجرات (49): آية 12]

اسم أحدكم مؤمنا باسم الفسوق، بأن يصبح الواحد منكم اسمه فاسق بفعله ما يسمى به فاسقا، دل ذلك على أن هذه الأشياء الثلاثة التي ذكرتها الآية تجعل صاحبها فاسقا، وهي الاستهزاء والطعن والتنابز بالألقاب جدا أو هزلا، ثم قال تعالى وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهي عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ دلّ ذلك على أن الثلاثة المذكورة فسوق عن أمر الله، وظلم للخلق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قال ابن كثير: (يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن وهو التهمة والتخوّن للأهل والأقارب والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليتجنب كثير منه احتياطا) قال النسفي: (والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة) قال الزجاج: (هو ظنك بأهل الخير سوءا فأما أهل الفسق، فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم) وقد يكون المعنى: احترزوا من الكثير من الظن ليقع المتحرز عن البعض الذي فيه إثم، والإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب وَلا تَجَسَّسُوا أي: لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم، يقال: تجسّس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه قال ابن كثير: وَلا تَجَسَّسُوا أي: على بعضكم بعضا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيه نهي عن الغيبة وقد فسرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوله: «ذكرك أخاك بما يكره» قال النسفي: الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب .. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً قال النسفي: وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ... قال ابن كثير: (أي كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوا ذاك شرا فإن عقوبته أشد من هذا) وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، ولم يقتصر النص على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الأخ حتى جعل ميتا، وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي) ولما قررهم بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقّب ذلك بقوله فَكَرِهْتُمُوهُ قال النسفي: (أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل، فيتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين) أقول: ما أندر في الناس من لا يغتاب نسأل الله العافية. قال الألوسي: (وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الخ كما قال أبو حيان وفصّله بقوله: جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن، ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه وَلا تَجَسَّسُوا ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم، فهذه أمور ثلاثة مترتبة: ظن، فعلم بالتجسس، فاغتياب) وَاتَّقُوا اللَّهَ أي:

ملاحظة: حول موضوع الغيبة

فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ أي البليغ في قبول التوبة على من تاب إليه رَحِيمٌ لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال النسفي: (أي) واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه، فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين. قال الألوسي: (وقال ابن حجر عليه الرحمة: إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم، لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في وَمَنْ لَمْ يَتُبْ لتقاربهما؛ ولما بدئت الثانية بالأمر في اجْتَنِبُوا ختمت به في وَاتَّقُوا اللَّهَ الخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَتُبْ الخ أن ما فيها أفحش؛ لأنه إيذاء في الحضرة بالسخرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي؛ إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا. انتهى، فلا تغفل). ملاحظة: [حول موضوع الغيبة] قوله تعالى وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيه نهي عن أن يغتاب المؤمنون بعضهم بعضا، وبهذه المناسبة تبحث- عادة- غيبة الكافر؛ ولذلك قال الألوسي عند شرحه لهذه الآية: وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال: هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل: الإيذاء؛ وتنقيص خلق الله تعالى، وتضييع الوقت بما لا يعني. والأولى تقتضي التحريم، والثانية الكراهة، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء، لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله. وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من سمّع يهوديا أو نصرانيا فله النار» ومعني سمّعه أسمعه ما يؤذيه، ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى، وتكره على الثانية، وخلاف الأولى على الثالثة، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي، وإلا فكالمسلم؛ وأما ذكره ببدعته فليس مكروها) كلمة في السياق: 1 - جاءت هاتان الآيتان بعد قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... لتحرما على المسلمين كل ما يؤدي إلى خدش، أو إضعاف، أو إزالة هذه الأخوة، ومما يؤكد

الفقرة السادسة وتتألف من آية واحدة هي الآية (13) وهذه هي

ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما مباشرة مجئ قوله تعالى فيهما أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فمجيء كلمة الأخ هنا، ومجيء كلمة الإخاء قبل ذلك يؤكد أن تعميق معنى الإخاء الإسلامي بتحريم ما يخدشه هو سرّ السياق. 2 - جاءت هاتان الآيتان في سورة الحجرات التي تفصّل في محور آيات القتال الثانية في سورة البقرة، فذكرتها ستة من خوارم الأخوة: الاستهزاء، الطعن، التنابز بالألقاب، سوء الظن، التجسس، الغيبة، وكلّها أمور تنتشر عادة في أي تجمّع بشري، وخاصة بين العسكريين، ولذلك فقد طهّر الله الصف الإسلامي منها، وطهّر الصف الجهادي من أرجاسها. 3 - وإذ كان محور سورة الحجرات آتيا في سياق الدخول في الإسلام كله، وترك اتباع خطوات الشيطان، فقد جاءت الآيتان تبيّنان أحكاما إسلامية، وتذكران بعض خطوات الشيطان لتجتنب. 4 - ختمت سورة الفتح بآية جاء فيها: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ وإن مما يتنافى مع التراحم وجود هذه الأخلاق التي ذكرتها الآيتان، وإن مما يضعف نمو الأمة الإسلامية وجود هذه الأخلاق. 5 - وبعد أن حذّرنا الله عزّ وجل من أخلاق تتنافى مع مبدأ الإخاء الإسلامي فإنّه يذكّرنا بمبدإ الإخاء الإنساني في آية تقرّر وحدة أصل البشرية، وفي ذلك ترسيخ لترك الأخلاق التي نهت عنها الآيتان. الفقرة السادسة وتتألف من آية واحدة هي الآية (13) وهذه هي: 49/ 13

التفسير

التفسير: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى أي: من آدم وحواء. قال النسفي: فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشعب: أعم من القبيلة، والقبيلة: أعم من الفصيلة والعشيرة كما سنرى لِتَعارَفُوا قال النسفي: أي إنما رتّبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض، فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدّعوا التفاضل في الأنساب، قال الألوسي: أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا، فتصلوا الأرحام، وتبينوا الأنساب والتوارث، لا لتفاخروا بالآباء والقبائل ... وقال ابن جني (أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه) ثم بين الله تعالى الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره، ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قال ابن كثير: أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب وقال: يقول تعالى مخبرا للناس أنّه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبا وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك، وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل ... فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهم السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله، ومتابعة رسوله صلّى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا منبها على تساويهم في البشرية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي: بكرم القلوب وتقواها خَبِيرٌ بهمّ النفوس في هواها قال ابن كثير: أي عليم بكم خبير بأموركم فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضّل من يشاء على من يشاء وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله. [نقل عن صاحب الظلال حول الآية:] قال صاحب الظلال في عرضه لهذه الآية: (يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تفرقوا ولا

كلمة في السياق: الآية (13) حول الصلة بينها وبين ما قبلها وعلامتها بسياق السورة وبمحورها

تتخاصموا ولا تذهبوا بددا. يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم .. من ذكر وأنثى. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله، إنما هنالك ميزان وحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ .. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة. وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان. وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت، وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام! وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها؛ ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله .. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.) كلمة في السياق: [الآية (13) حول الصلة بينها وبين ما قبلها وعلامتها بسياق السورة وبمحورها] 1 - جاءت هذه الآية بعد الآيتين اللتين نهتا عن السخرية والاستهزاء والطعن واللمز وسوء الظن والغيبة؛ لتقرر أن الله عزّ وجل جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتفاخروا، ولا لينظر بعضهم إلى بعض باحتقار وازدراء، ولا ليطعن بعضهم ببعض، فالصلة بينها وبين ما قبلها واضحة.

الفقرة السابعة وتمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (18) أي: إلى نهاية السورة وهذه هي

2 - ومجئ هذه الآية في سياق السورة التي تفصل في موضوع أخلاقيات المجاهدين معجزة مستقلة، يعرف ذلك كل ذي بصر بما جرى في القرون الأخيرة، حيث نمت فكرة القوميات، فبالغت فيها أقوام حتى قطعت أواصر الدين، وبالغت فيها أمم فأصبحت تنظر إلى غيرها من الشعوب باحتقار، وبالغت فيها أمم حتى قاتلت من سواها لتكون لها العزة والقتال في الإسلام ليس لمثل هذا، فإن تكون الإنسانية شعوبا فهذا لا ينبغي أن يؤدي إلى قتال، وإنما للقتال أسبابه الأخرى. 3 - جاء محور سورة الحجرات مسبوقا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومسبوقا بقوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وقد ظهرت آثار ذلك في سورة الحجرات، لأنّه كما قلنا: السورة تفصّل في محورها، وفي ارتباطاته، وامتدادات معانيه، ولذلك فقد قرّرت آية سورة الحجرات قاعدة إسلامية لا يكون المسلم مسلما إذا لم يسلّم بها، كما أكّدت وحدة الإنسانية في الأصل، وأعطتنا الميزان الوحيد الذي على أساسه يكون التفاضل عند الله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ولننتقل إلى الفقرة السابعة. الفقرة السابعة وتمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (18) أي: إلى نهاية السورة وهذه هي: 49/ 14 - 16

كلمة في السياق

49/ 17 - 18 كلمة في السياق: 1 - عماد التقوى الإيمان، ولقد قال تعالى في سورة الفتح وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها (الآية: 26) ولقد كان الخطاب في سورة الحجرات منصبا في الغالب لأهل الإيمان، وجاء في سورة الحجرات قوله تعالى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وبين تعالى في آية يا أَيُّهَا النَّاسُ أن الأكرم عند الله هو الأتقى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وإذا كان للإيمان هذا الوزن عند الله فسيوجد من يدّعون- وخاصة في البيئات التي يغلب عليها الجهل- وسيوجد من يمنّون على أهل الإسلام بالاستجابة، فجاءت الفقرة الأخيرة في سورة الحجرات لتنقض الدعاوى، وتردّ التطاول والمنّ، ولتعطي الميزان الحقيقي للإيمان. 2 - الآية الثالثة من آيات محور سورة الحجرات هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولقد جاءت هذه الفقرة من سورة الحجرات لتؤكد أن الإيمان الحقيقي هو ما اجتمع لصاحبه يقين وجهاد بالمال والنفس، فالفقرة تفصّل في مضمون الإيمان الحقيقي، وتردّ الدعاوى فيه. 3 - جاءت آيات المحور في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله، وقد يعلن الإنسان الدخول في الإسلام، ولا زال بين قلبه وبين حقيقة الإسلام بعد، فجاءت هذه الآيات لتقول للداخلين في الإسلام: لا تمنّوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدخولكم في الإسلام، ولتبين أن عليهم أن يرتقوا إلى مقام الإيمان، ولتبين لهم حقيقة الإيمان. 4 - والحديث عن الأعراب في سورة الحجرات مكمّل للحديث عن الأعراب في سورة الفتح، وهذا مظهر من مظاهر التكامل بين سور المجموعة في هذا القسم، كما أن الحديث عن الأعراب هنا مكمّل للحديث عن الأعراب في سورة براءة التي فصّلت في المحور نفسه الذي فصّلت فيه سورة الحجرات.

التفسير

التفسير: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال ابن كثير: يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادّعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي: لم تصلوا إلى مقام الإيمان الحقيقى وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي: دخلنا في الإسلام، وخرجنا من أن نكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: (أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد، فدلّ هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدّبوا في ذلك .. ) وقال: إنهم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يحصل لهم بعد، فأدّبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد .. ثم قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً أي: لا ينقصكم من أجوركم شيئا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر الذنوب رَحِيمٌ بهدايتهم للتوبة عن العيوب، وبعد أن ردّ الله عزّ وجل على هؤلاء دعواهم الإيمان عرّف الإيمان الحقيقي من خلال وصفه للمؤمنين الصادقين فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ قال ابن كثير: أي إنما المؤمنون الكمّل الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي: لم يشكّوا ولا تزلزلوا؛ بل يثبتون على حالة واحدة وهي التصديق المخلص. قال النسفي: (والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا فيه، ولا اتّهام لما صدقوه ... ) واستعمال حرف العطف (ثم) في هذا المقام يشعر أن الإيمان في قلوبهم مستقر في الأزمنة المتراخية المتطاولة مع كونه غضا جديدا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن كثير: أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي: الذين إيمانهم إيمان صدق وحق. قال صاحب الظلال في هذه الآية: (فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله. التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور. والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. فالقلب متى تذوّق حلاوة هذا الإيمان، واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق في خارج القلب. وفي واقع الحياة. في دنيا الناس. يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة. ولا يطيق الصبر على

[سورة الحجرات (49): آية 16]

المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله؛ لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة. ومن هنا كان هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس. فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن. يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه؛ ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس. والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني، وواقعه العملي. وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف. فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله، حتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. الصادقون في عقيدتهم. الصادقون حين يقولون: إنهم مؤمنون. فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة، فالإيمان لا يتحقق. والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون). وبتطبيقنا هذا الميزان الذي ورد في الآية على كل من يقول إنه مسلم نجد أن كثيرين ممن يدّعون الإيمان تشبه دعواهم دعوة الأعراب، ويبدو أن كثيرين من الناس حتى بعد ذكر ميزان الإيمان سيجادلون وسيدّعون، وسيبررون تركهم للجهاد بالمال والنفس، مع رغبتهم بالاحتفاظ باسم الصلاح والصدق والإيمان، ومن ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ» قال النسفي: أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم، وقال ابن كثير: أي أتخبرونه بما في ضمائركم وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومن ذلك علمه بالإيمان والإخلاص وغير ذلك، ثم بيّن تعالى أن من جملة ما يفعله هؤلاء الذين يدّعون مقاما لم يصلوا إليه أنهم يمنّون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدخولهم في الإسلام، مما يشير إلى أنّ المنّ بالدخول في الإسلام يرافق عدم تمكن الإيمان يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أي: يمنّ هؤلاء الأعراب عليك أَنْ أَسْلَمُوا أي: بأن أسلموا، أي: بإسلامهم. قال النسفي: والمنّ: ذكر الأيادي تعريضا للشكر، يقول الله تعالى ردا عليهم قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فإنّ نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي: بل لله المنّة عليكم بأن- أو لأن- هداكم للإيمان إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في ادّعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم، ثم كرر تعالى بهذه المناسبة الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات، ومن ذلك صدق الصادقين فقال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ

كلمة في السياق

وَالْأَرْضِ ومن ذلك نياتكم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فليس غائبا عليه عملكم. قال النسفي: (يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم، ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه منه شئ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، وهو علّام الغيوب؟). كلمة في السياق: 1 - رأينا أنه بعد أن قرر الله عزّ وجل أن التفاضل عند الله في التقوى جاءت الفقرة الأخيرة، مما يشير إلى أنه بعد أن تقررت هذه القاعدة في المجتمع الإسلامي سيوجد ناس يدّعون الفضل في مقاماتها، وقد قطع الله عزّ وجل الطريق على هؤلاء بأن بيّن ميزان الإيمان، وأعطانا علامة على فساد دعوى الإيمان، وهي وجود المنّ بدخول الإسلام من قبل هؤلاء المدّعين. فهذا مظهر صلة الفقرة الأخيرة بما قبلها مباشرة. 2 - من الربط بين الفقرة ومحور السورة وارتباطاته وامتداداته نعلم أن الجهاد الإسلامي يحتاج إلى إيمان قلبي يقيني، وأنّه لا يصح أن يرافقه المنّ على الله ورسوله والمؤمنين، كما أنّه لا ينبغي أن ترافقه دعاوى التحقق بمقامات الإسلام دون التحقق بها. الفوائد [حول آيات السورة]: 1 - [كلام ابن كثير عن الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمناسبة الآية (2)] بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ قال ابن كثير: (وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وروى البخاري عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلّى الله عليه وسلم حين قدم ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر رضي الله: عنهما ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ

2 - كلام الألوسي عن خفض الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة الآية (3)

كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ قال ابن الزبير رضي الله عنهما: مما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه- يعني أبا بكر رضي الله عنه- انفرد به دون مسلم. ثم روى البخاري عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله ابن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه بل أمّر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى انقضت الآية وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ الآية وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا. وروى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر؛ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله فهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: «اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة» تفرد به البخاري من هذا الوجه .. ) وقال ابن كثير: (وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا) وقال ابن كثير بمناسبة قوله تعالى أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (كما جاء في الصحيح «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض»). 2 - [كلام الألوسي عن خفض الصوت عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلم بمناسبة الآية (3)] بمناسبة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال الألوسي: (واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلّى الله عليه وسلم، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حرمته

3 - كلام ابن كثير عن أنواع القلوب بمناسبة آية أولئك الذين امتحن الله قلوبهم ..

ميتا كحرمته حيا. وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقا؛ لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى). 3 - [كلام ابن كثير عن أنواع القلوب بمناسبة آية أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد في كتاب (الزهد) عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) .. أقول وقد دلت الآية على أن القلوب تفتن، فمنها ما يسقط، ومنها ما ينجح، ويشهد لذلك الحديث الصحيح: «تعرض الفتن على القلوب عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» رواه مسلم، وقد دلّت الآية على أن من علامات نجاح القلب أدب الإنسان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتعظيمه. 4 - [كلام ابن كثير عن الذين نادوا النبي صلّى الله عليه وسلم من وراء الحجرات بمناسبة الآية (4)] في سبب نزول قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ قال ابن كثير: (وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد، روى الإمام أحمد عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، يا محمد، وفي رواية يا رسول الله، فلم يجبه، فقال: يا رسول الله إن حمدي لزين وإن ذمي لشين، فقال: «ذاك الله عزّ وجل» وروى ابن جرير عن البراء في قوله تبارك وتعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ قال: جاء رجل إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن حمدي زين وذمي شين، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ذاك الله عزّ وجل» وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلا. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب وهما عند الحجاج جالسان فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد نزلت في قومك بني تميم إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ قال: فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قالوا أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد، وروى ابن أبي

5 - كلام ابن كثير عن نزول آية .. إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ..

حاتم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه، قال فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرة النبي صلّى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ قال: فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأذني فمدها فجعل يقول «لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد لقد صدق الله قولك يا زيد» ورواه ابن جرير). 5 - [كلام ابن كثير عن نزول آية .. إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا .. ] في سبب نزول قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا قال ابن كثير: وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق وهو الحارث بن أبي ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها. روى الإمام أحمد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول ولم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق (أي: خاف) فرجع حتى أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا إليك. قال ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله. قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:

6 - حكم سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصد أو بغير قصد

«منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟» قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال فنزلت الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ إلى قوله حَكِيمٌ. 6 - [حكم سوء الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقصد أو بغير قصد] في سورة البقرة ورد قوله تعالى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ... (البقرة: 217) وقال تعالى في سورة الحجرات: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ومن ذكر حبوط العمل في الآيتين ندرك أن سوء الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقارب الردة إن لم يكن بقصد، وأما إن كان بقصد فهو الردة عينها. 7 - [كلام ابن كثير عن تزيين الإيمان في القلوب بمناسبة آية وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «الإسلام علانية والإيمان في القلب» قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول: «التقوى هاهنا التقوى هاهنا»). (وروى الإمام أحمد عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «استووا حتى أثني على ربي عزّ وجل» فصاروا خلفه صفوفا فقال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق» ورواه النسائي في اليوم والليلة عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به .. وفي الحديث المرفوع. «من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن».

8 - كلام ابن كثير عن سبب نزول آية وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ..

8 - [كلام ابن كثير عن سبب نزول آية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا .. ] بمناسبة قوله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال ابن كثير: (وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم، وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فكان كما قال صلّى الله عليه وسلم أصلح الله- تعالى- به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة). وقال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قلت: يا رسول الله هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه». وروى الإمام أحمد عن معتمر قال: سمعت أبي يحدث أن أنسا رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي صلّى الله عليه وسلم وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون- وهي أرض سبخة- فلما انطلق النبي صلّى الله عليه وسلم إليه قال: «إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك» فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، قال فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ورواه البخاري في الصلح عن مسدد ومسلم في المغازي وذكر سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر بالصلح بينهما. وقال السدي: كان رجل من الأنصار يقال له عمران كانت له امرأة تدعى أم زبد، وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليه أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها، وأن الرجل كان قد خرج فاستعان أهل الرجل فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله تعالى). 9 - [كلام ابن كثير عن المقسطين بمناسبة آية فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ .. ] بمناسبة قوله تعالى فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ روى ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي

10 - كلام ابن كثير عن الأخوة في الله بمناسبة آية إنما المؤمنون إخوة ..

الرحمن عزّ وجل بما أقسطوا في الدنيا» ورواه النسائي بإسناد جيد قوي، رجاله على شرط الصحيح. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور عن يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به). 10 - [كلام ابن كثير عن الأخوة في الله بمناسبة آية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ .. ] بمناسبة قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال ابن كثير: (أي الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» وفي الصحيح «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» وفي الصحيح أيضا «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله» والأحاديث في هذا كثيرة. وفي الصحيح «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» وفي الصحيح أيضا «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه صلّى الله عليه وسلم. وروى أحمد عن أبي حازم قال: سمعت سهيل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده). أقول: واستعمال لفظة (إنما) التي تفيد الحصر يفهم منه أنه لا أخوة حقيقية إلا بين أهل الإيمان، وأنه لا إخوة بين غيرهم. 11 - [كلام ابن كثير عن الكبر بمناسبة آية لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ .. ] بمناسبة قوله تعالى لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ... قال ابن كثير: كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال «الكبر بطر الحق وغمص الناس- ويروى- وغمط الناس». 12 - [كلام ابن كثير عن التنابز بالألقاب] في سبب نزول قوله تعالى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ورواه أبو داود. 13 - [كلام ابن كثير وصاحب الظلال عن حقوق المسلم على أخيه المسلم] بمناسبة قوله تعالى اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا قال ابن كثير: (وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا.

وروى أبو عبد الله بن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا» تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه، وروى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدبروا وكونوا عباد الله إخوانا» رواه البخاري. وروى سفيان بن عيينة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن» فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض» وروى أبو داود عن زيد رضي الله عنه قال: أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شئ نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وروى الإمام أحمد عن دجين كاتب عقبة قال: قلت: إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم قال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دجين فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها» ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه، وروى سفيان الثوري عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس. أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها، ورواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري به. وروى أبو داود أيضا عن جبير بن نفير وكثيّر بن مرة وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» وَلا تَجَسَّسُوا أي: على بعضكم بعضا والتجسس غالبا يطلق في الشر، ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير كما

قال عزّ وجل إخبارا عن يعقوب أنه قال يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشئ. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمّع على أبوابهم. والتدابر: الصرم رواه ابن أبي حاتم عنه). قال صاحب الظلال عند قوله تعالى وَلا تَجَسَّسُوا .. (والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات، والاطلاع على السوءات. والقرآن يقاوم هذا العمل الدنئ من الناحية الأخلاقية، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوءاتهم. وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب. ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا. فهو مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية. إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال. ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرر- مهما يكن- لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات. حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس. فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم. وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم. وليس لأحد أن يظن أو يتوقع- أو حتى يعرف- أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة. قال سفيان الثوري عن راشد بن سعد عن معاوية بن أبي سفيان، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء- رضي الله عنه-: كلمة سمعها معاوية- رضي الله عنه- من رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- نفعه الله تعالى بها. فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد، تحت أي ذريعة أو ستار. فأين هذا المدى البعيد؟ وأين هذا الأفق السامق؟ وأين ما يتعاجب به أشد الأمم

14 - كلام ابن كثير عن الغيبة بمناسبة آية ولا يغتب بعضكم بعضا

ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربعمائة عام؟). أقول: يرى الكثيرون من المشتغلين بالسياسة أن أجهزة المخابرات شئ لا بد منه للدولة الحديثة، فماذا تفعل الدولة الإسلامية في هذا العصر؟ والجواب: إن رصد العدو لا يدخل في النهي عن التجسس، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعث الأرصاد والعيون على قريش، وإنما المنهي عنه التجسس على المسلمين، والذي يغني عن أجهزة المخابرات في الدولة الإسلامية وعي المسلم، وتلاحمه مع إمامه وحكومته، وإخباره لها إذا أحس بخيانة أو خطر على الأمن، كما ينوب عن ذلك بعض الإجراءات الاحتراسية، وجهاز أمني مقيد بضوابط الشرع لا حرج في وجوده. 14 - [كلام ابن كثير عن الغيبة بمناسبة آية وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً] وبمناسبة قوله تعالى وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قال ابن كثير: (وقوله تعالى وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيه نهي عن الغيبة وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلّى الله عليه وسلم «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلّى الله عليه وسلم «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» ورواه الترمذي وقال حسن صحيح، ورواه ابن جرير. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد: تعني قصيرة، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنسانا فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» ورواه الترمذي. والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحته مصلحة كما في الجرح والتعديل، والنصيحة كقوله صلّى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة» وكقوله صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» وكذا ما جرى مجرى ذلك، ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد؛ ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت، كما قال عزّ وجل أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ أي: كما تكرهون هذا طبعا، فاكرهوا ذاك شرعا، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منه كما قال صلّى الله عليه وسلم في العائد في هبته «كالكلب يقئ ثم يرجع في قيئه» وقد قال: «ليس لنا مثل السوء» وثبت في

الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلّى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» ورواه الترمذي وقال: حسن غريب وعن الأعمش عن سعيد بن عبيد الله بن جريج عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم. فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته». ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. روى أبو داود عن المسور أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كسا ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد .. وروى الحافظ أبو يعلى عن عم لأبي هريرة: أن ماعزا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه حتى قالها أربعا، فلما كان في الخامسة قال «زنيت؟» قال: نعم قال «وتدري ما الزنا؟» قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلال، قال: «ما تريد إلى هذا القول؟» قال: أريد أن تطهرني قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والعصا في البئر؟» قال: نعم يا رسول الله قال فأمر برجمه فرجم فسمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، ثم سار النبي صلّى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار. قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال صلّى الله عليه وسلم: فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» إسناد صحيح.

15 - كلام ابن كثير والنسفي والمؤلف حول آية .. إن أكرمكم عند الله أتقاكم ..

وقال ابن كثير: (قال الجمهور من العلماء طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه وقال آخرون لا يشترط أن يتحلله؛ فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته لتكون تلك بتلك، كما روى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله بن المبارك به بنحوه. وروى أبو داود أيضا عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من حرمته إلا نصره الله عزّ وجل في مواطن يحب فيها نصرته» تفرد به أبو داود). 15 - [كلام ابن كثير والنسفي والمؤلف حول آية .. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قال ابن كثير: وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، روى البخاري عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: «فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: «فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا: نعم قال: «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان، ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به. (حديث آخر)، روى مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ورواه ابن ماجه (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله» تفرد به أحمد رحمه الله (حديث آخر) وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن حبيب بن خراش العصري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول

«المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى» (حديث آخر) روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان». ثم قال: لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه (حديث آخر) روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخا في المسجد حتى نزل صلّى الله عليه وسلم على أيدي الرجال فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: «يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقي كريم على الله تعالى. ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى، إن الله عزّ وجل يقول يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم» هكذا رواه عبد بن حميد (حديث آخر) روى الإمام أحمد، عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن أنسابكم هذه ليست بمنسبة على أحد، كلكم بنو آدم طف الصاع لم تمنعوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذيا بخيلا فاحشا» وقد رواه ابن جرير عن ابن لهيعة به ولفظه: «الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملئوه. إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وليس هو في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت: قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال صلّى الله عليه وسلم «خير الناس أقراهم وأتقاهم لله عزّ وجل، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم» (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم شئ من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى. تفرد به أحمد). وبمناسبة الآية المذكورة قال النسفي: (الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التى عليها العرب: وهي الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل. خزيمة الشعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة،

وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعوب؛ لأن القبائل تشعبت منها). وبمناسبة هذه الآية أقول: لقد حددت الآية الحكمة من خلق الله عزّ وجل الناس شعوبا وقبائل بأنها التعارف، وهذا يقرر واقعا أن هناك شعوبا وقبائل، ويلغي أن يكون لشعب فضل عند الله بسبب كونه شعب كذا أو قبيلة كذا، وإنما الفضل عند الله ميزانه التقوى، فالناس يتفاوتون عند الله بقدر تفاوتهم في تقواهم، ولا تنفي الآية أن يكون لشعب ميزة أو خصائص، ولكن هذه الميزة والخصائص بسبب من استعداد هذا الشعب للتقوى، والتزامه بها، فالله عزّ وجل قال عن بني إسرائيل وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (الدخان: 32) أي: على عالمي زمانهم؛ وذلك بسبب استعدادهم الأعلى في زمانهم للتقوى، وبسبب من كونهم أكثر الناس التزاما بما أنزل عليهم في زمانهم، والله عزّ وجل اختار العرب- وقريش من العرب- لحمل رسالته الأخيرة الخاتمة بسبب استعدادهم الأعلى لذلك، فشرّفهم بالرسالة فقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (الزخرف: 44) وبسبب علمه تعالى أنهم أكثر الناس التزاما بهذه الرسالة، وقدرة على حملها، ومن ثم حذّرهم في حال توليهم أنّه سيستبدل لحمل رسالته غيرهم وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (محمد: 38) وبهذه المناسبة نحب أن نسجل بعض المعاني التي لها علاقة بحكمة اختيار العرب لحمل الرسالة، وحكمة اختصاص قريش بين العرب بالخلافة. إن الشعب العربي يملك طاقة نفسية هائلة، هذه الطاقة النفسية الهائلة إن أحسن تهذيبها وتوجيهها فعلت الكثير، وإلا كانت أداة دمار وتدمير، تحطم بعضها. فهي تشبه ماء السيل إن أحسن حبسه ووضعه وراء السدود أمكن الاستفادة منه، وإلا كان أداة دمار، هذه الطاقة النفسية الضخمة عند العرب التي لم يهذبها إلا الإسلام، وعند ما هذّبها فعلت ما فعلت. قد تكون هذه الطاقة النفسية الهائلة فيها سر اختيار الله للعرب لحمل رسالته، وقد تكون الحكمة في جانب آخر، فكل الشعوب عندها استعداد للتفاعل مع الإسلام، ولكن قد يكون العرب ساعة نزول القرآن عليهم هم أكثر الشعوب استعدادا للتفاعل الكامل الأعلى بكل جانب من جوانب الإسلام، فاختارهم الله لرسالته لعلمه بذلك اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (الأنعام: 124) وقريش هي أكثر العرب استعدادا لحمل هذا الدين والتفاعل معه؛ ومن ثم نلاحظ أن أرقى الخلق في الإسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا من قريش: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو عبيدة

16 - كلام ابن كثير والمؤلف عن تعريف الإيمان والإسلام

وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة والزبير ... وقد يكون لهذا المعنى جعل الله الخلافة في قريش؛ لأن القرشي يمتلك من الخصائص ما يجعله أكثر الخلق استعدادا لحمل هذا الدين وفهمه والتفاعل معه، ولكن هذا شئ، والفخر والاستعلاء على الخلق واحتقارهم وازدراءهم شئ آخر. والخلاصة: أن الكرامة عند الله بالتقوى، وعليها مدار التفاضل بين الأفراد والشعوب، وقد يصطفي الله تعالى فردا أو شعبا لحكمة مرتبطة بالتقوى، وذلك شرف لأصحابه، وعلى الآخرين أن يعترفوا به، دون أن يترتب على ذلك فخر دنيوي أو كبر قلبي، وهذا شئ وأن الشعوب والقبائل وجدت كذلك لتتعارف شئ آخر. 16 - [كلام ابن كثير والمؤلف عن تعريف الإيمان والإسلام] بمناسبة قوله تعالى قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ قال ابن كثير: (وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه. وروى الإمام أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا، فقال سعد رضي الله عنه: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا وهو مؤمن فقال صلّى الله عليه وسلم: «أو مسلم». حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «أو مسلم؟» ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به. فقد فرق النبي صلّى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير). وبمناسبة هذه الآية نقول: إن الإسلام الكامل هو الإيمان الكامل ولا فرق، لأن الإيمان الكامل يدخل فيه تصديق القلب وتصديق الجوارح بالعمل، والإسلام الكامل يدخل فيه إسلام القلب لله بالإيمان وإسلام الجوارح بالعمل، ومن ثم نلاحظ أن قوله

17 - كلام ابن كثير عن أنواع المؤمنين في الدنيا

تعالى في سورة الذاريات فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (الآية: 30، 31) قد جعل الإيمان هو عين الإسلام. أما إذا أريد بالإسلام عمل الجوارح، وبالإيمان تصديق القلب، فعندئذ يكون الإسلام شيئا والإيمان شيئا آخر، كما ورد في حديث جبريل .. قال «أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ... قال فأخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه .. » ففي هذا الحديث الإسلام شئ والإيمان شئ آخر، وإن كان بينهما ارتباط في الواقع والحقيقة، وآية الحجرات أشارت إلى هذا التمايز بين الإسلام والإيمان، وبينت في الوقت نفسه أن الطريق إلى الإيمان القلبي هو عمل الجوارح، إذ قالت وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وهذا أصل كبير في التربية الإسلامية؛ فالقلب البشري يموت أو تسيطر عليه الغفلة، وطريق إحيائه العمل بالإسلام من ذكر وقراءة قرآن، وصلاة وإنفاق وصوم وحج، وغير ذلك من أعمال الإسلام، وبذلك ينتقل القلب من طور إلى طور آخر، حتى يصل إلى الإيمان الكامل، وإذا تأملت هذا الحديث تصل إلى هذه النتيجة: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط عليه غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثمّ أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح والدّم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» أخرجه أحمد وجوّد إسناده ابن كثير. إذا أدركت هذه المعاني كلها تدرك معنى قوله تعالى وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فالإيمان لم يدخل بعد وهو على وشك الدخول إذا استمر العمل بالإسلام. 17 - [كلام ابن كثير عن أنواع المؤمنين في الدنيا] بمناسبة قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قال ابن كثير (وروى الإمام أحمد .. عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عزّ وجل).

18 - كلام ابن كثير عن النهي عن المن بالدخول في الإسلام

18 - [كلام ابن كثير عن النهي عن المن بالدخول في الإسلام] بمناسبة قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم» ونزلت هذه الآية يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد ابن جبير غير هذا الحديث. كلمة أخيرة حول سورة الحجرات: سورة الحجرات سورة الآداب الإسلامية، فقد وجهت المسلم نحو مجموعة كبيرة من الآداب: 1 - عدم التقدم بين يدي الكتاب والسنة برأي أو قول أو فعل. 2 - خفض الصوت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 3 - معاملة الرسول صلّى الله عليه وسلم بكمال الأدب، وعدم رفع حجاب الكلفة معه. 4 - عدم نداء رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن كان في بيته وانتظاره حتى يخرج. 5 - امتحان خبر الفاسق وعدم التسرع في البناء عليه. 6 - عدم فرض الرأي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 7 - الإصلاح بين المؤمنين. 8 - رد الباغي عن ظلمه ولو بالقتال إن أصر على الظلم. 9 - العدل في الإصلاح. 10 - إعطاء المؤمنين الإخاء. 11 - ترك السخرية بأهل الإيمان. 12 - ترك طعن أهل الإيمان. 13 - ترك التنابز بالألقاب. 14 - اجتناب الظن السيئ بأهل الخير بدون مبرر. 15 - ترك التجسس وخاصة على أهل الحق لأهل الباطل. 16 - ترك الغيبة الكامل. 17 - ترك التفاخر في الأحساب والأنساب والقوميات. 18 - النهي عن ادعاء الإيمان. 19 - الصدق مع الله بتحقيق الإيمان وإقامة الجهاد. 20 - عدم المن بالدخول في الإسلام، ورؤية المن لله ورسوله صلّى الله عليه وسلم في ذلك. فالسورة التي عرضت هذه الآداب كلها هي سورة الآداب، ومن ثم فإن دراستها ودراسة حيثيات هذه الآداب مهمة جدا. ومن الملاحظات الرئيسية التي نلاحظها في سورة الحجرات أنها علّمتنا أصول التعامل في دوائر ثلاث: دائرة التعامل مع القيادة العليا للمسلمين متمثلة في رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

ودائرة التعامل مع أبناء هذه الأمة المسلمة، ودائرة التعامل مع البشرية كلها، كما أنها حددت في الوقت نفسه للقيادة جوانب ينبغي أن تلتزمها، ولا شك أن هذه الدروس دروس ينبغي أن تلتزم وتطبق في كل عصر، فيأخذ ورّاث النبوة حظّهم من التطبيق، ويأخذ المؤمنون حظهم من التطبيق في التأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مع شخصه، ومع سنته، وفي الكلام عنه، ومع وراثه عليه الصلاة والسلام، كما يأخذ المؤمنون حظهم من التطبيق في التعامل مع بعضهم بعضا. إن هذا القرآن الذي دلّ الإنسان على طريق الهدى دلّه من جملة ما دله على الطريق الذي يكون به المسلم هو الإنسان الأعلى في هذا الوجود، تطلعات وأخلاقا وقيما ومبادئ وأهدافا، وكما ربّاه على الكمال في الأخلاق الفردية، ربّاه على الكمال في الأخلاق الجماعية، بحيث يكون عضوا كاملا في أمة كاملة، كما ربّى هذه الأمة على الكمال في كل شئ، وعند ما نجد في عصرنا روح الفردية عند بعض المسلمين عاتية، وعند ما نرى عجز بعض المسلمين عن التعامل مع بعضهم الآخر، وعند ما نرى تطلعات المسلم قاصرة وأهدافه غامضة، وتفاعله مع الإسلام جزئيا، وعند ما لا نرى المسلمين جميعا أمة واحدة تتحرك حركة واحدة، وتتجه اتجاها واحدا، عند ما لا نرى هذا كله ندرك البعد الكبير بين ما كلّفنا به وبين واقعنا. وقد حاولنا خلال عرضنا للسورة أن نذكر وحدتها، وأن نذكر صلتها بما قبلها، وأن نبيّن الروابط التي تربطها مع محورها. وقد يكون من المناسب قبل الانتقال إلى سورة (قاف) أن نعيد إلى الأذهان بعض مظاهر الارتباط، بين سورة الحجرات وسورة الفتح، لنبقى متذكرين الصلات الخاصة التي تربط بين سور هذه المجموعة. إننا لا نبالغ إذا قلنا إن سورة الحجرات قد ذكرت الطريق العملي لتحقيق المعاني الواردة في سورة الفتح، فقد ورد في سورة الفتح مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (الآية: 29) وسورة الحجرات توجه المؤمنين في الطريق لتحقيق ذلك، فتنهاهم عن الغيبة والتجسس، واللمز والتنابز بالألقاب، لأن هذه المعاني كلها تتنافى مع التراحم. وسورة الفتح تعرضت لقصة الحديبية التي حدث فيها نوع من الاعتراض الصامت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتوقيعه الصلح، وتأتي سورة

الحجرات لتقول في بدايتها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... وسورة الفتح تعرضت لموضوع توقير رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتأتي سورة الحجرات لتنهى عن رفع الصوت لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... وسورة الفتح بشّرت بانتصار عالمي للإسلام، وهذا يقتضي أن تكون قضية الإخاء الإسلامي واضحة، وقضية الصلة بين الشعوب واضحة، ومن ثم نجد في سورة الحجرات إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ونجد يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ... وسورة الفتح بيّنت أن الجهاد والمشاركة فيه ميزان من موازين الإيمان، وتأتي سورة الحجرات لتعرّف الإيمان، وتذكر الجهاد كجزء منه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وفيما ذكرناه كفاية لتوضيح هذه القضية، ونخرج من ذلك بوضوح كامل لموضوع تكامل سور المجموعة الواحدة، ولموضوع أن كل مجموعة تفصّل في سورة البقرة إنما تضيف معاني جديدة. ***

سورة ق

سورة ق وهي السّورة الخمسون بحسب الرّسم القرآني وهي السّورة السّادسة من المجموعة الخامسة من قسم المثاني، وآياتها خمس وأربعون آية وهي مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه ربّنا تقبّل منّا، إنّك أنت السّميع العليم

كلمة في سورة (ق) ومحورها

كلمة في سورة (ق) ومحورها: يرجّح ابن كثير أن قسم المفصّل يبدأ بسورة (ق) ويفند كل قول آخر، وهذا كلامه: (هذه السورة هي أول الحزب المفصّل على الصحيح، وقيل من الحجرات. وأما ما يقوله العوام إنه من (عمّ) فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم. والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصّل ما رواه أبو داود في سننه (باب تحزيب القرآن) ثم قال: قال عبد الله بن سعيد: حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في وفد ثقيف قال: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له قال مسدد- وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ثقيف- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قال أبو سعيد: قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام فأكثر ما يحدثنا صلّى الله عليه وسلم ما لقي من قومه قريش، ثم يقول صلّى الله عليه وسلم «لا أساء وكنا مستضعفين مستذلين» قال مسدد بمكة «فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالا بيننا وبينهم، ندال عليهم ويدالون علينا» فلما كانت ليلة أبطأ عنا صلّى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة قال صلّى الله عليه وسلم: «إنه طرأ على حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف يحزّبون القرآن فقالوا: ثلاث وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصّل وحده، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ورواه الإمام أحمد، إذا علم هذا فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدها سورة ق. بيانه: (ثلاث) البقرة وآل عمران والنساء (وخمس) المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة (وسبع) يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل (وتسع) سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان (وأحد عشرة) الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس (وثلاث عشرة) الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات، ثم بعد ذلك الحزب المفصّل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فتعيّن أن أوله سورة ق، وهو الذي قلناه ولله الحمد والمنّة). أقول: الذي أذهب إليه في هذا الموضوع أن سورة الذاريات هي بداية قسم

المفصّل، وأن سورة (ق) ينتهي بها قسم المثاني، والذي دعاني إلى هذا القول استقرائي لمعاني القرآن وأسلوبه، فقد رأينا في سورة الصافات أنها كانت بداية لمجموعة، وهي مبدوءة بقسم مباشر وَالصَّافَّاتِ فهي تشبه سورة وَالذَّارِياتِ ومن ثم قلنا: إن سورة الذاريات بداية مجموعة، وبداية قسم، وسنرى في المفصّل بشكل واضح أنه حيث جاء القسم بشكل مباشر فذلك علامة على بداية مجموعة لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ... وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ... وَالسَّماءِ ... وَالْفَجْرِ ... وَالتِّينِ ... وَالْعَصْرِ ... فهذا أول شئ دعانا إلى اعتبار الذاريات هي بداية قسم المفصّل، ثم لاحظنا من قبل أن سورة الشورى مبدوءة بقوله تعالى حم عسق مما يشير إلى أن سورة (ق) مشدودة إلى هذا القسم الذي فيه سورة الشورى، فهي ألصق بقسم المثاني، وهذا معنى ثان دعانا إلى هذا القول وهو أنّ سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني، وليست بداية قسم المفصّل. ومن كلام العرب (قلت لها قفي فقالت قاف) أي وقفت فعبّر بالحرف عن الكلمة، وهذا البيت مشهور عند العرب، والوقوف يتضمن معنى نهاية السير، ولا نستبعد أن يكون ختم قسم المثاني بحرف (قاف) يتضمن إشارة إلى أن سورة (ق) نهاية سير قسم المثاني، وهذا معنى آخر نستأنس به على أن سورة (ق) نهاية قسم، وقد ذكر ابن كثير أن أحد الأقوال الضعيفة في (ق) أنه إشارة إلى كلمة وهو قول مردود، ولذلك فقد استأنست به استئناسا قال ابن كثير: (وقيل المراد قضي الأمر والله، وأن قوله جل ثناؤه ق دلت على المحذوف من بقية الكلمة كقول الشاعر* قلت لها قفي فقالت ق* وفي هذا التفسير نظر لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟). وقد استأنست استئناسا بأصل الفكرة أن يكون في الحرف قاف إشارة إلى معنى الوقوف، خاصة والعرب استعملته في ذلك. وأهم من كل ما ذكرته في الاستدلال على أن سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني، وليست بداية قسم المفصّل هو معناها ومحلها وصلتها بما قبلها، وتفصيلها لمحور يأتي في أعماق سورة البقرة بينما تفصّل سورة الذاريات في مقدمة سورة البقرة بشكل واضح كما سنرى، مما يؤكد أن سورة الذاريات بداية قسم، وأن سورة (ق) نهاية قسم. فإذا اتضحت هذه المعاني وعرفنا كما ذكرنا من قبل وكما سنذكر في ابتداء الكلام عن المفصّل أنّ القضية اجتهادية، بدليل كثرة الأقوال فيها، مما يشير إلى أن ما ورد في الموضوع ليس حاسما فإن ما ذهبنا إليه له وجهه، مع ملاحظة أن الدليل الوحيد الذي

ذكره ابن كثير يمكن أن يوجّه لصالح ما ذهبنا إليه، فمن المعلوم أن عثمان رضي الله عنه لم يذكر هو والصحابة الذين نسخوا المصحف (بسم الله الرحمن الرحيم) بين سورة الأنفال وسورة براءة لمظنة أنهما سورة واحدة، وقد رأينا في أول التفسير ما ذكره ابن كثير في تفسير السبع الطوال عن سعيد بن جبير قال: (هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس) فلم يذكر هنا الأنفال ولا براءة مع أن براءة أطول من سورة يونس، كل ذلك يجعلنا نتصوّر أن الأثر الذي استدل به ابن كثير في الاستشهاد على أن سورة (ق) بداية قسم المفصّل يمكن أن يكون لصالحنا، فإذا اعتبرنا أن سورة الأنفال وبراءة في تقييم بعض الصحابة سورة واحدة فهذا يعني أن سورة (ق) هي نهاية قسم المثاني، وأن سورة الذاريات هي بداية قسم المفصّل. إن ابن كثير جعل الأنفال وبراءة سورتين، وجعل سورة يونس في ورد اليوم الثالث، فاحتمال أن تكون سورة يونس من ورد اليوم الثاني، وبراءة والأنفال سورة واحدة احتمال قائم، وهو لصالح ما اجتهدنا إليه، هذا ونحب أن نلفت نظر القارئ إلى أن ذكر أسماء السور في اليوم الأول والثاني والثالث .... هو من فعل ابن كثير وليس مذكورا في نص الأثر، فالأثر اكتفى بالقول: ثلاث وخمس وسبع، فلمّا فصّلها ابن كثير خرجت معه سورة (ق) على أنها بداية المفصّل، أما إذا نظرنا إلى واقع الأمر في عصر الصحابة من احتمال بعضهم كون الأنفال وبراءة سورة واحدة، ومن عدم عدّ بعضهم الأنفال وبراءة في السبع الطول، فكل ذلك يجعلنا نقول إن الأثر يحتمل أن يكون لصالح قولنا، فإذا أضفنا إلى هذه المعاني التي استأنسنا بها لقولنا فإن الراجح أن يكون قولنا هو الصحيح، والله أعلم. وهذا قول أضيفه إلى مجموعة أقوال في قضية خلافية، وفي ظني أن له وجهه الأقوى، وليس هناك نص عن الصحابة أنّ بداية المفصّل هو الحجرات أو قاف، وإنما المنقول عنهم هو ما ذكرناه، وهو محتمل لما ذهبنا إليه، ولما ذهب إليه ابن كثير، وهو ليس نصا في الموضوع، وإلا لقطع الخلاف، والخلاف لم ينقطع من قبل. إن سورة (ق) وهي خاتمة قسم المثاني تجد فيها من كل مجموعة من مجموعات قسم المثاني روحا ونفسا وأثرا وصلات وروابط وهذه أمثلة: - جاء في سورة سبأ من المجموعة الأولى من قسم المثاني قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ

لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (الآية: 9) وجاء في سورة (يس) من المجموعة الأولى قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ (الآية: 11) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. - وجاء في سورة (ص) من المجموعة الثانية من قسم المثاني قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (الآية: 1، 2). وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ (الآية: 4). وتجد في سورة قاف قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. - وجاء في سورة (فصّلت) من المجموعة الثالثة من قسم المثاني قوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... (الآية: 9). وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... (الآية: 10). فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ (الآية: 12). وتجد هنا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. - وجاء في سورة الشورى من المجموعة الرابعة من قسم المثاني قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (الآية: 14). وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. - وجاء في سورة الأحقاف من المجموعة الخامسة- التي هي مجموعة قاف نفسها- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ... (الآية: 33) وتجد هاهنا قوله تعالى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فسورة قاف التي هي خاتمة قسم المثاني ترتبط بقسمها رباطا وثيقا وتختمه بما تتكامل هي معه ويتكامل معها. ولذلك فقد اشتملت على أنواع من التذكير كان بسببها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخصها بالتلاوة في المجامع الكبار

كالعيد والجمع. قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في العيد؟ قال: بقاف واقتربت) ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به، وفي رواية لمسلم عن أبي واقد قال سألني عمر رضي الله عنه فذكره (حديث آخر) وروى أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت: لقد كان تنّورنا وتنور النبي صلّى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس رواه مسلم من حديث ابن إسحاق به، وروى أبو داود عن ابنة الحارث بن النعمان قالت: ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب بها كل يوم جمعة وكان تنّورنا وتنور رسول الله صلّى الله عليه وسلم واحدا، وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة به. والقصد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب والله أعلم). لقد جاءت سورة (قاف) على هذه الشاكلة من قوة التذكير والوعظ كخاتمة لقسمها- قسم المثاني- لترفع الهمم للأخذ به ولتهيّج على التطبيق الرفيع، خاصّة وقد سبقت بسور الحجرات والفتح والقتال، وفيها جميعا تكليفات قتالية وتكليفات شاقة، إلا على الموفّقين. عند ما تفتّش عن محور لسورة قاف يأتي بعد محور سورة الحجرات من سورة البقرة فإنك تجده في آخر آية من القسم الثالث من سورة البقرة وهي: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الآية: 284) لاحظ صلة هذه الآية بما جاء في سورة (قاف) من خلال هذه المقارنة: جاء في هذه الآية قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وجاء في الآية التالية لآية المحور قوله تعالى: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (الآية: 285) وتجد في سورة (قاف) قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ

تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة ق

وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. [تقديم الألوسي وصاحب الظلال لسورة ق] وسنرى أثناء عرضنا للسورة صلاتها بمحورها. ولننقل هاهنا بعض ما قالوه فيها: قال الألوسي في تقديمه لهذه السورة: (وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك، وفي التحرير عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية فهي مدنية نزلت في اليهود، وآيها خمس وأربعون بالإجماع، ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا، ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث؛ افتتح عزّ وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك، وكان صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة؛ وفي رواية ابن ماجه وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت، وأخرج أبو داود، والبيهقي، وابن ماجه، وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت: «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا من فيّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس» وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد» وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة (قاف): (كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة- فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها- وفي الجماعات الحافلة .. وإن لها لشأنا .. إنها سورة .. ، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة

الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة. في كل وقت وفي كل حال. وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة، وتهز النفس هزا، وترجها رجا، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب! وذلك كله إلى صور الحياة؛ وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض، وفي الماء والنبت، وفي الثمر والطلع .. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .. وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال، إشعاعا مباشرا للحس والضمير). وبعد فإن السورة تتألف من مقدمة وثلاث فقرات: المقدمة تعرض علينا موقفا للكافرين، والفقرات الثلاث تردّ على هذا الموقف: أما المقدمة فهي قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ثم تأتي فقرات ثلاث: الأولى منها مبدوءة بكلمة (قد) والأخريان مبدوءتان بكلمة (ولقد) وكل من الفقرات الثلاث يرد على موقف الكافرين الذي ذكرته المقدمة: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ (الآية: 4) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (الآية: 16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (الآية: 38). ولنبدأ عرض السورة.

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (3) وهذه هي مع البسملة

مقدمة السورة وتمتدّ من الآية (1) إلى نهاية الآية (3) وهذه هي مع البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 50/ 1 - 3 التفسير: ق قال ابن كثير: حرف من أحرف الهجاء المذكورة في أوائل السورة كقوله تعالى ص ون والم* وحم* وطس ونحو ذلك قاله مجاهد وغيره وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي: الكريم العظيم، قال النسفي: والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب، ومن أحاط علما بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس. قال ابن كثير: واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ وفي هذا نظر، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم، وهو إثبات النبوة، وإثبات المعاد، وتقريره وتحقيقه، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ* بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ وهكذا قال هاهنا ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. بَلْ عَجِبُوا أي: بل عجب الكافرون أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ قال ابن كثير: أي تعجّبوا من إرسال رسول إليهم من البشر وقال النسفي: (أي: محمد صلّى الله عليه وسلم) وفي النصّ كما قال النسفي: إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه، خائفا أن ينالهم مكروه، وإذا علم أن مخوفا أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف؟ ثم بيّن تعالى محل عجبهم بقوله فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً هذا إخبار من الله عزّ وجل عن تعجبهم من المعاد، واستبعادهم لوقوعه، يقولون: أإذا

كلمة في السياق

متنا وبلينا وتقطّعت الأوصال منا، وصرنا ترابا، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟! ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي: مستبعد مستنكر، أي: بعيد من الوهم والعادة وقال ابن كثير: أي بعيد الوقوع، والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه. كلمة في السياق: 1 - جاءت مقدمة السورة لتعرض علينا موقف الكافرين من النذير ومن البعث وستأتي بقية السورة في فقراتها الثلاث لتردّ على ذلك. 2 - قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الآية: 284) هذه الآية تذكر الحساب وهو ما أنذر به الله عزّ وجل عباده بواسطة رسوله، وقد ذكرت مقدمة سورة (قاف) تعجّب الكافرين من إرسال النذير، ومن نذارته بالبعث، فالصلة بين المحور وبين مقدمة السورة قائمة، وسنرى أن الردود على عجب الكافرين تنصب على إثبات صفة القدرة لله عزّ وجل للوصول إلى أن الله عزّ وجل لا يعجزه أن يبعث عباده، ولهذا صلته بقوله تعالى في المحور وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. *** الفقرة الأولى في السورة وتتضمّن الردّ الأول وتمتدّ من الآية (4) إلى نهاية الآية (15) وهذه هي: 50/ 4 - 6

التفسير

50/ 7 - 15 التفسير: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ قال ابن كثير: (أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك، ولا يخفى علينا أين تفرّقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت) أقول: وليس المراد بالأرض هنا التربة فقط؛ بل الأرض بمجموعها جوا وسطحا، فإن الميت إذا تحلّل فللتراب منه حظّ، وللهواء منه حظ، وكل ذلك أرض، فعند ما يقال: الأرض يعني الأرض بجملتها، ويدخل في الأرض بجملتها غلافها الجوي، قال النسفي: (هذا ردّ لاستبعادهم الرجع؛ لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا) وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ قال ابن كثير: (أي حافظ لذلك، فالعلم شامل، والكتاب أيضا فيه كل الأشياء مضبوطة). والمراد بذلك اللوح المحفوظ فإنه حافظ لما أودعه وكتب فيه، ومن كان هذا علمه وهذا كتابه فكيف يتعجّب من قدرته على بعث الإنسان وإن صار ترابا. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ دلّت كلمة (بل) هنا كما قال النسفي: (على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر، وقيل الحق القرآن وقيل الإخبار بالبعث) أقول: وعلى أي فإنّ العلة الرئيسية التي تتفرع عنها العلل كلها هي المسارعة في تكذيب الحق قال تعالى فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: مضطرب مختلف

[سورة ق (50): آية 6]

ملتبس، قال ابن كثير: (أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل) أقول: وقد دلّت الآية على أن الله عزّ وجل يعاقب المكذبين بالحق بجعلهم في اضطراب يشمل المواقف والآراء والفرد والجماعة، فهو عقاب تلقائي آني دنيوي ينزل بالمكذبين بالحق. أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها قال ابن كثير: يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ... وقال النسفي: (دلّهم على قدرته على البعث فقال أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها بالنيّرات وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ من فتوق وشقوق أي: إنها سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل). ثم قال تعالى وَالْأَرْضَ مَدَدْناها قال ابن كثير: وسّعناها وفرشناها وقال النسفي: أي دحوناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ قال ابن كثير: (وهي الجبال لئلا تميد وتضطرب) وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي: صنف بَهِيجٍ أي: حسن المنظر يبتهج به لحسنه، أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع تَبْصِرَةً وَذِكْرى أي: لتبصروا به وتتذكروا لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي: راجع إلى ربه متفكّر في بدائع خلقه، قال ابن كثير: أي ومشاهدة خلق السموات والأرض، وما جعل الله فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب، أي: خاضع خائف وجل رجّاع إلى الله عزّ وجل. كلمة في السياق: رأينا من كلام النسفي ومن كلام ابن كثير أن هذه الفقرة لفتت النظر إلى قدرة الله، لتدلل من خلال ذلك على أن استبعاد البعث من قبل الكافرين في غير محله، فإن الله عزّ وجل الذي هذه آثار قدرته لا يعجزه ما استبعد الكافرون وقوعه وهو البعث، وقد بيّنت الآيات أن هذه المظاهر إنما تبصّر وتذكّر من اجتمع له صفتان: العبودية لله، والإنابة إلى الله، فهؤلاء هم الذين يرون في ذلك ما يستدلون به استدلالا صحيحا على ما بعث به الرسل من حق، وعلى ما أنذروا به من حساب.

[سورة ق (50): آية 9]

وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ أي: من السحاب ماءً مُبارَكاً قال ابن كثير: أي نافعا، وقال النسفي: أي كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ أي: بهذا المطر جَنَّاتٍ أي: حدائق من بساتين ونحوها وَحَبَّ الْحَصِيدِ قال ابن كثير: وهو الزروع الذي يراد لحبه وادّخاره، قال النسفي: أي وحبّ الزرع ممّا شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي: طوالا شاهقات لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أي: منضود أي بعضه فوق بعض لكثرة الطلع وتراكمه، أو لكثرة ما فيه من الثمر، والطلع: هو كل ما يطلع من ثمر النخيل رِزْقاً لِلْعِبادِ أي: للخلق أي أنبتنا هذا كله بالمطر رزقا للعباد وَأَحْيَيْنا بِهِ أي: بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أي: قد جف نباتها كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي: كما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم، لأن إحياء الأموات كإحياء الموات، قال ابن كثير: (هذا مثال البعث بعد الموت والهلاك كذلك يحيي الله الموتى، وهذا شاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث). أكملت هذه الآيات إقامة الحجة، إذ عرضت نماذج على قدرة الله، ثمّ صبّ ذلك كله في التدليل على البعث، ثمّ عاد السياق عن التكذيب: فلقد ذكرت السورة من قبل: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وها هي ذي السّورة تحدّثنا عن أن تكذيبهم ليس بدعا كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل الكافرين المكذّبين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم محمد قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ قال النسفي: (هو بئر لم تطو، وهم قوم باليمامة ... ) أي بنجد وفي القصيم من نجد بلدة اسمها الرس فقد تكون هي وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وقومه وَإِخْوانُ لُوطٍ وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور، وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة بكفرهم وطغيانهم، ومخالفتهم الحق وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قال ابن كثير: وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام وَقَوْمُ تُبَّعٍ قال النسفي: هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه، وسمي به لكثرة تبعه قال ابن كثير: وهو اليماني وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى من إعادته هاهنا ولله الحمد والشكر كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ قال ابن كثير: أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذّبوا رسولهم، ومن كذّب رسولا فكأنما كذّب جميع الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ أي: وجب وحلّ وعيدي. وهذا فيه تسلية

[سورة ق (50): آية 15]

لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتهديد لهم. قال ابن كثير: أي فحقّ عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم، فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذّب أولئك. جاءت هذه الآيات تنذر المكذبين الذين كذّبوا بالحق لما جاءهم أن يصيبهم ما أصاب أشباههم ونظراءهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا، فبعد إقامة الحجة جاء الإنذار والوعظ، وقد بقيت عندنا آية واحدة من الفقرة تصبّ على موضوع البعث بشكل مباشر. وإنما ذكر التكذيب بالحق كله في بداية الفقرة، لأنه الأصل الذي انبثق عنه ذاك الفرع الخبيث، وهو استبعاد اليوم الآخر. فلنر خاتمة الفقرة التي تنهي الردّ الأول على المكذبين بالحق والمكذبين باليوم الآخر: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ قال ابن كثير: أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك عن الإعادة، قال النسفي: والهمزة للإنكار، أي إنا لم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني؟ والاعتراف بذلك اعتراف بالإعادة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي: خلط وشبهة مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ بعد الموت. قال النسفي: قد لبّس عليهم الشيطان وحيّرهم، وذلك تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح، وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. قال ابن كثير: وقد تقدم في الصحيح: «يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يقول: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته». كلمة في السياق: [حول الصلة بين الفقرة الأولى والمقدمة وعلاقة الفقرة الثانية بالمحور] 1 - سجّلت مقدّمة السورة تعجّب الكافرين من مجئ النذير، ومن نذارته بالبعث، ثمّ جاء ردّ سريع على استبعاد البعث بقوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ثمّ ذكرت الفقرة أن علّة مواقفهم الأولى هي تكذيبهم بالحق، ثمّ لفتت نظرهم إلى ما به تقوم الحجة عليهم بالبعث، ثمّ بينت أن

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (16) إلى نهاية الآية (37) وهذه هي

تكذيبهم ليس بدعا في تاريخ البشر، ثمّ أقامت عليهم الحجة بالإنشاء الأول. فالصلات بين الفقرة الأولى والمقدمة صلات كبيرة وواضحة. 2 - ثمّ إن الصلات بين الفقرة الأولى على أشدها: فالآية الثانية في الفقرة هي بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ والآية الأخيرة في الفقرة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ .... 3 - لاحظ كذلك الصلة بين قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وبين قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ .... 4 - قلنا إن محور سورة (ق) هو: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذه الآية تذكر أنّ ثمّة حسابا، وأن الله قادر عليه وعلى غيره، وقد جاءت الفقرة الأولى لتدلل على الأصل وهو مجيء اليوم الآخر، وتدلل على قدرة الله عليه وعلى غيره، لتوصلنا إلى الفقرة الثانية التي تحدّثنا عن خلق الإنسان، وعن علم الله بوساوس نفسه، ثمّ لتحدثنا عن رحلة الإنسان حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. فالفقرة الثانية تصب في تفصيل المحور مع بقائها مشدودة لسياق السورة الخاص في كونها إحدى فقرات ثلاث تردّ على موقف للكافرين، سجلته مقدّمة سورة (ق). *** الفقرة الثانية وتمتد من الآية (16) إلى نهاية الآية (37) وهذه هي: 50/ 16 - 21

التفسير

50/ 22 - 37 التفسير: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الوسوسة الصوت الخفي، ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه، وعلمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر). وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الحبل: العرق، والوريد: عرق في باطن العنق إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد. قال ابن كثير: أي مترصد، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان. قال النسفي: (والمعني: إنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس ولا شئ أخفى منه،

[سورة ق (50): آية 18]

وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به، إيذانا بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات، وإنما ذلك لحكمة، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما، وعرض صحائف العمل يوم القيامة من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي: ما يتكلم به وما يرمي به من فمه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي: حافظ عَتِيدٌ حاضر، وهذا وصف لكل من الملكين، وليس كما فهم بعضهم أن اسم الواحد منهم رقيب، والثاني عتيد. قال النسفي: (ثم قيل يكتبان كل شئ حتى أنينه في مرضه، وقيل لا يكتبان إلا ما فيه أجر أو وزر) ورجّح ابن كثير الأول ثم قال النسفي: (وقيل إن الملكين لا يجتنبانه إلا عند الغائط والجماع) أقول: ولكنهما يعلمان حتى في حالة مفارقته ما يقول ويفعل ويكتبانه، ولنا عودة على هذا في الفوائد وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي: شدته الذاهبة بالعقل بِالْحَقِّ أي: بحقيقة الأمر أو بالحكمة أو باليقين ذلِكَ أي: الموت ما كُنْتَ مِنْهُ أيها الإنسان تَحِيدُ أي: تنفر وتهزب، والمعنى: وجاءت- أيها الإنسان- سكرة الموت بالحق، أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، وهذا هو الذي كنت تفرّ منه، قال ابن كثير: (واختلف المفسرون في المخاطب .. فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو، وقيل الكافر، وقيل غير ذلك) قال النسفي في الآية: لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بقدرته وعلمه، أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي وهو قوله وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ... وَنُفِخَ فِي الصُّورِ قال النسفي: يعني نفخة البعث ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي: وقت ذلك النفخ يوم الوعيد الذي أوعده الله عزّ وجل خلقه وحذّرهم إياه وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ قال ابن كثير: أي ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله، هذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا النازل بك اليوم، أي: يقال له ذلك فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي: فأزلنا غفلتك بما تشاهده فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي: قوي. قال ابن كثير: لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة، لكن لا ينفعهم ذلك، وقال النسفي: (جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله، أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فيبصر ما لم

[سورة ق (50): آية 23]

يبصره من الحق، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديدا لتيقظه) واختلف المفسرون بالمراد في الآية على ثلاثة أقوال، رجّح ابن كثير أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر؛ لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة، والدنيا كالمنام، وهذا اختيار ابن جرير. قال ابن كثير: الخطاب مع الإنسان من حيث هو وَقالَ قَرِينُهُ قال النسفي: الجمهور على أنه الملك الكاتب الشهيد عليه، وقال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن الملك الموكل بعمل ابن آدم أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي: معد محضر بلا زيادة أو نقصان) والمراد بذلك ديوان الأعمال. قال ابن كثير: فعند ذلك يحكم الله في الخليقة بالعدل فيقول أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ بالنعم والمنعم عَنِيدٍ أي: معاند مجانب للحق معاد لأهله، معارض له بالباطل مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي: كثير المنع للمال عن حقوقه، أو منّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله، أي: لا يؤدي ما عليه من الحقوق ولا برّ فيه ولا صلة ولا صدقة مُعْتَدٍ أي: ظالم متخط للحق مُرِيبٍ أي: شاكّ في الله، وفي دينه الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي: أشرك بالله فعبد معه غيره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أي: في نار جهنم، والخطاب في قوله تعالى أَلْقِيا في أول الآيات الثلاث وفَأَلْقِياهُ في آخرها للملكين السائق والشهيد. قال ابن كثير: والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد فالسائق أحضره إلى عرضة الحساب، فلمّا أدى الشهيد عليه أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم، وبئس المصير قالَ قَرِينُهُ القرين هنا هو الشيطان الذي وكّل به قولا واحدا رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: ما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى. قال ابن كثير: أي بل كان هو في نفسه ضالا قابلا للباطل معاندا للحق قالَ الله عزّ وجل لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ قال ابن كثير: يقول الله عزّ وجل (هذا) للإنسي وقرينه من الجن، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى فيقول الإنسي: يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، ويقول الشيطان: ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد عن منهج الحق، فيقول الرب عزّ وجل لهما: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي: عندي وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين. قال النسفي: أي لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب فلا فائدة في اختصامكم، ولا طائل تحته، وقد أوعداكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجة عليّ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ

[سورة ق (50): آية 30]

لَدَيَّ أي: لا تطمعوا أن أبدّل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فلا أعذب عبدا بغير ذنب قال ابن كثير: أي لست أعذب أحدا بذنب أحد، ولكن لا أعذّب أحدا إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة هل امتلأت، وذلك لأنه تبارك وتعالى وعدها أن سيملؤها من الجنّة والناس أجمعين، فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى وهي تقول: هل من مزيد؟ أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا الظاهر من سياق الآية وعليه تدل الأحاديث). قال النسفي: وهذا على تحقيق القول من جهنم، وهو غير مستنكر كإنطاق الجوارح، والسؤال لتوبيخ الكفرة، لعلمه تعالى بأنها امتلأت أم لا وَأُزْلِفَتِ أي: أدنيت وقرّبت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قال النسفي: أي مكانا غير بعيد هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ أي: رجّاع تائب مفلح حَفِيظٍ أي: حافظ لحدود الله، أو حفيظ لعهده مع الله قال ابن كثير: أي يحفظ العهد فلا ينقصه ولا ينكثه مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ قال ابن كثير: أي من خاف الله في سرّه حيث لا يراه أحد إلا الله عزّ وجل، كقوله صلّى الله عليه وسلم «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. قال ابن كثير: أي ولقي الله عزّ وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه، خاضع لديه. وقال النسفي: أي راجع إلى الله، وقيل بسريرة مرضيّة، وعقيدة صحيحة. ادْخُلُوها أي: الجنة بِسَلامٍ أي: سالمين من زوال النعم وحلول النقم. قال قتادة: سلموا من عذاب الله عزّ وجل، وسلّم عليهم ملائكة الله ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي: يخلدون في الجنة فلا يموتون أبدا، ولا يظمئون أبدا، ولا يبغون حولا لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي: مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم وَلَدَيْنا مَزِيدٌ على ما يشتهون. قال النسفي: والجمهور على أنه رؤية الله تعالى بلا كيف. وبعد هذه الجولة في مشاهد اليوم الآخر يعود السياق لينذر بعذاب الله في الدنيا. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي: قبل المكذبين من هذه الأمة مِنْ قَرْنٍ من القرون الذين كذّبوا الرسل هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي: كانوا أكثر منهم وأشدّ قوة فهم أشد من هؤلاء قوة وسطوة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي: فبسبب من قوتهم نقّبوا في

[سورة ق (50): آية 37]

البلاد، أي ضربوا في الأرض وساروا في البلاد، يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم بها هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: هل من مهرب من الله، أو الموت. قال ابن كثير: (أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره، وهل نفعهم ما جمعوه، وردّ عنهم عذاب الله إذ جاءهم لمّا كذبوا الرسل، فأنتم أيضا لا مفرّ لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص إذا أراد الله أن يعذبكم). وبعد أن ذكّر الله عزّ وجل الإنسان بما أمامه يوم القيامة، وأنذره بطشه في الدنيا تأتي الآن آية تختتم بها الفقرة، تبيّن أنّ هذه المواعظ والمذكّرات لا يستفيد منها إلا أحد اثنين: صاحب قلب حي، أو إنسان متأمّل يصغي إليها ويتدبّرها. إِنَّ فِي ذلِكَ أي: المذكور في هذه الفقرة لَذِكْرى أي: لعبرة أي: تذكرة وموعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي: واع؛ لأنه من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب به، أو قلب حي؛ لأن القلب الميت لا يسمع عن الله أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي: أو أصغى وهو حاضر الذهن؛ لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب؛ وبهذا انتهت الفقرة الثانية: كلمة في السياق: 1 - جاءت الفقرة الأولى فذكّرت بعلم الله وقدرته وانتقامه قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ... كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ... كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ وجاءت الفقرة الثانية فذكّرت بعلم الله وقدرته وانتقامه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ... وكل ذلك في سياق الردّ على الكافرين في إنكارهم البعث والنذير. 2 - قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقد جاءت الفقرة الثانية فذكّرتنا بعلم الله بما في الأنفس، وعرضت علينا صورة عن الحشر والنشر والحساب ومن يربح ومن يخسر.

الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (38) إلى نهاية الآية (45) وهي خاتمة السورة، وهذه هي

3 - سبقت آية المحور بآيات الدين والربا وآيات الإنفاق، وقد تحدّثت الفقرة التي مرّت معنا عن الذين يمنعون الخير مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. 4 - وقد جاء بعد آية المحور قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وقد بينت الفقرة من يستحق النجاح هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ولذلك صلاته بالآية الآتية بعد المحور، والسورة بمجموعها تتحدّث عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولننتقل إلى عرض الفقرة الثالثة. *** الفقرة الثالثة وتمتدّ من الآية (38) إلى نهاية الآية (45) وهي خاتمة السورة، وهذه هي: 50/ 38 - 45 التفسير: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ

[سورة ق (50): آية 39]

أي: من إعياء ولا تعب ولا نصب، لا كما قال اليهود عليهم لعنة الله أنه استراح في اليوم السابع، وهو موضوع سنعرض له في الفوائد قال ابن كثير: (فيه تقرير للمعاد، لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأخرى) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ قال النسفي: أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث، فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: وسبّح حامدا ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ الفجر وَقَبْلَ الْغُرُوبِ الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ العشاء، أو التهجد وَأَدْبارَ السُّجُودِ التسبيح في آثار الصلوات وَاسْتَمِعْ أي: لما أخبرك به من حال يوم القيامة يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ أي: إسرافيل مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ أي: النفخة الثانية بِالْحَقِّ قال ابن كثير: يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور والأجداث ومن حيث هم. أقامت هذه الآيات الحجة وأمرت الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بالصبر، والصلاة، والتسبيح في أدبار الصلوات، وتذكر اليوم الآخر، ثمّ تأتي بعد ذلك ثلاث آيات تلخص، وتعظ، وتأمر بالبلاغ، وتحدّد من يستفيد من البلاغ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نحيي الخلق ونميتهم في الدنيا وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي: مصيرهم يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ أي: تتصدّع الأرض فتخرج الموتى سِراعاً أي: مسرعين ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي: هيّن سهل قال ابن كثير: أي تلك إعادة سهلة علينا يسيرة لدينا نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي: فيك وفينا، تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهولنّك ذلك وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي: وما أنت بمجبرهم على الإيمان، إنما أنت مبلّغ، ولنا عودة على هذا فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ قال ابن كثير: أي بلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده، ويرجو وعده. وقال النسفي: كقوله إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها لأنه لا ينفع (أي: التذكير) إلا فيه.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقد جاءت هذه الفقرة لتذكّرنا بالله وبمظاهر قدرته وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. 2 - تختتم الآية التالية لآية المحور بقوله تعالى: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وقد قرّرت هذه الفقرة أن المصير إلى الله وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ وهذا وذلك من مظاهر ارتباط الفقرة بمحور السورة. 3 - أقامت هذه الفقرة الحجة على منكري البعث، وعلى الكافرين بالحق، ورسمت الطريق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان أن يصبروا، وأن يعبدوا، وأن يبلّغوا. فوائد [حول السورة]: 1 - [ردود ابن كثير على من زعم أن المراد ب (ق) جبل اسمه (قاف)] لابن كثير تحقيقات رفيعة في ردّ الأقوال الباطلة ذات الأصول الغريبة، ومن ذلك رده اللطيف على من زعم أن المراد ب (ق) جبل اسمه قاف محيط بالعالم، وهو كلام باطل عجيب، إذ واضح لكل متأمل أن قاف حرف كبقية الأحرف التي ابتدأت بها سور قرآنية. قال ابن كثير: (وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا (ق) جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا- والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتريت في هذه الأمة- مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل والله أعلم. وقد أكثر كثير من السلف من

2 - كلام ابن كثير عن الخواطر النفسية بمناسبة آية .. ما توسوس به نفسه ..

المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ولله الحمد والمنة). 2 - [كلام ابن كثير عن الخواطر النفسية بمناسبة آية .. ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ قال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل». 3 - [كلام ابن كثير عن قرب الملائكة من الإنسان بمناسبة آية وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قال ابن كثير: (وقوله عزّ وجل وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع تعالى الله وتقدّس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ كما قال في المحتضر وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ يعني: ملائكته، وكما قال تبارك وتعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عزّ وجل، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه باقتدار الله جل وعلا لهم على ذلك، فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق؛ ولهذا قال تعالى هاهنا إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يعني: الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. 4 - [كلام ابن كثير عن كيفية كتابة أقوال الإنسان بمناسبة آية ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ.] بمناسبة قوله تعالى ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قال ابن كثير: (وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شئ من الكلام. وهو قول الحسن وقتادة، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب. كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما. على قولين، وظاهر الآية: الأول لعموم قوله تبارك وتعالى ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وروى الإمام أحمد عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عزّ وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح وله شاهد في الصحيح،

5 - كلام ابن كثير عن الموت بمناسبة آية وجاءت سكرة الموت بالحق ..

وقال الأحنف بن قيس: صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها، وإن أبى كتبها. رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا ما مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة فعند ذلك يقول تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ثم يقول: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وذلك قوله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شئ حتى الأنين، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله). 5 - [كلام ابن كثير عن الموت بمناسبة آية وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ .. ] بمناسبة قوله تعالى وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ قال ابن كثير: (وقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الأرض بدين فجاء يسعى حتى إذا أعيا وأسهر دخل جحره، وقالت له الأرض يا ثعلب ديني، فخرج وله حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات» ومضمون هذا المثل كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت). 6 - [كلام ابن كثير عن جهنم بمناسبة آية أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ .. ] بمناسبة قوله تعالى أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ... قال ابن كثير: (وقد تقدم في الحديث أن عنقا من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق: إني وكّلت بثلاثة، بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، وبالمصورين، ثم تنطوي عليهم. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال «يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن

7 - كلام ابن كثير عن حجم الجنة والنار بمناسبة آية يوم نقول لجهنم ..

جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير نفس، فتطوى عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم»). 7 - [كلام ابن كثير عن حجم الجنة والنار بمناسبة آية يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ .. ] بمناسبة قوله تعالى يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قال ابن كثير: (روى البخاري عند تفسير هذه الآية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها فتقول قط» وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة» ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه، ورواه أبان العطار وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه (حديث آخر) قال البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه- رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان-: يقال لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط. (طريق أخرى) روى البخاري عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله عزّ وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول: قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عزّ وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله عزّ وجل ينشئ لها خلقا آخر). 8 - [تفسير ابن كثير لكلمة «الأواب الحفيظ» في الآية (32)] بمناسبة قوله تعالى هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ قال ابن كثير: (وقال عبيد بن عمير: الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلسا فيقوم حتى يستغفر الله عزّ وجل). 9 - [كلام ابن كثير عن نعيم الجنة بمناسبة آية لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها .. ] بمناسبة قوله تعالى لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال ابن كثير: (وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: «إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا» وروى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة» ورواه الترمذي

10 - كلام النسفي عن موضوع البحث عن الآثار

وابن ماجه وقال الترمذي: حسن غريب، وزاد: كما اشتهى. وقوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ كقوله عزّ وجل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عزّ وجل وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: يظهر لهم الرب عزّ وجل في كل جمعة، وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعا فقال في مسنده عن عبيد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ما هذه؟» فقال: هذه الجمعة فضّلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع: اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا جبريل وما يوم المزيد؟» قال عليه السلام: إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر من ذهب، مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب. فيقول الله عزّ وجل: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم علي ما تمنيتم، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة. هكذا أورده الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الجمعة من الأم، وله طريق عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقد أورد ابن جرير هذا الحديث من رواية عثمان بن عمير عن أنس رضي الله عنه بأبسط من هذا). 10 - [كلام النسفي عن موضوع البحث عن الآثار] رأينا تفسير قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ولكن هناك قراءة أخرى بكسر قاف (فنقبوا) وعندئذ تصبح الكلمة فعل أمر، قال النسفي: والتنقيب التنقير عن الأمر، والبحث والطلب، وإنما أشرنا إلى هذه القراءة؛ لأن فيها أمرا بالبحث عن الآثار، والأمر في هذه الحالة للإباحة. 11 - [عرض لأكاذيب التوراة المحرفة في المدة التي خلقت فيها السماوات والأرض] بمناسبة قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

12 - كلام ابن كثير عن التسبيح بمناسبة آية ومن الليل فسبحه ..

وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ نقول: إن التوراة الحالية المحرفة طافحة بذكر أن الله عزّ وجل خلق الخلق في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، وهو في زعمهم يوم السبت، ويعللون بأن تحريم يوم السبت عليهم تلك علته، وهو كلام مردود باطل؛ لأن التعب نقص، والله عزّ وجل منزّه عن كل نقص، تقول التوراة المحرفة: (فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأنّه فيه استراح) سفر التكوين الإصحاح الثاني. إنك عند ما ترى مثل هذا الضلال، وترى قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ تدرك كم هي نعمة الله عظيمة علينا بهذا القرآن. 12 - [كلام ابن كثير عن التسبيح بمناسبة آية وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ .. ] وبمناسبة قوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال ابن كثير: (قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو التسبيح بعد الصلاة. ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «وما ذلك؟» قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال صلّى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبّحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين» قال فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى وَأَدْبارَ السُّجُودِ هما الركعتان بعد المغرب وروي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم). أقول: ويحتمل أن يكون المراد بتسبيح الليل القيام فيه والتهجد، ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يداوم على قيام الليل. 13 - [كلام ابن كثير عن أهوال يوم القيامة بمناسبة آية يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ .. ] بمناسبة قوله تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً قال ابن كثير: (وذلك أن الله عزّ وجل ينزل مطرا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور، وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور، فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول الله عزّ وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل

14 - فائدة حول كلمة (جبار) وإبراز معناها في موضعها

روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فترجع كل روح إلى جسدها فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ، وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعا مبادرين إلى أمر الله عزّ وجل مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (القمر: 8) وقال الله تعالى يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 52) وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنا أول من تنشق عنه الأرض»). 14 - [فائدة حول كلمة (جبار) وإبراز معناها في موضعها] بمناسبة قوله تعالى وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أقول: إن الجبار هو الذي يبطش في هوى نفسه، أما من يبطش بأمر الشرع فليس جبارا، ومن ثم فلا تنافي بين قوله تعالى وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ وبين فريضة الجهاد، وقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للكافرين. كلمة أخيرة في سورة ق ومجموعتها: عالجت سورة (ق) كما رأينا موضوع العجب من البعث، وموضوع التكذيب بالحق، وهما الموضوعان اللذان يجابههما المسلم في حركته، ومن ثم ندرك صلة سورة (ق) بمجموعتها، فإذا كانت سورة الفتح قد بينت من جملة ما بينت خصائص الجماعة المسلمة ووعدت بانتصارها، وجاءت سورة الحجرات لتبني هذه الجماعة بما يكافئ مهمتها، فإن سورة (ق) عالجت العقبتين الرئيسيتين اللتين سيصادفهما صاحب الدعوة الأول، والجماعة الإسلامية معه، وهما عقبتا: التكذيب، والعجب من مضمون الرسالة، وهذا معنى من معاني سورة (ق)، ومظهر من مظاهر التكامل ما بين سورة (ق) ومجموعتها. وبتحديد السورة خصائص أهل النار أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ وبتحديد الخاصية الأولى للإنسان الذي هو مظنّة التذكّر بكتاب الله، وهي الخوف من وعيد الله فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ بتحديد السورة هذه المعاني أعطت المسلم بصرا فيمن يخصه بالتذكير، وفيمن ييأس منه، وفي ذلك إعطاء بصيرة لهذه الأمة في حركتها الدائبة نحو إعلاء كلمة الله التي وعد الله بها، هذا مع وجوب إقامة الحجة على الجميع،

كلمة في قسم المثاني

ولكن أن تعرف أين تلقي بذارك، فذلك مهم، وهذا معنى آخر من معاني السورة، ومظهر من مظاهر التكامل بين سورة قاف ومجموعتها. وفي قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ إعطاء درس بليغ للقائمين بأمر الدعوة، أن يعملوا على إحياء القلوب كنقطة بداية، وأن يكونوا قادرين على اجتذاب الأسماع إليهم، وطريق إحياء القلوب معروف: وهو الذكر، والمذاكرة، والفكر، وطريق اجتذاب الأسماع لله أن تحسن كيف تخاطب الإنسان، هذه مهمتنا، وما علينا إذا رفض الآخرون، وفي ذلك درس جديد، ومظهر من مظاهر التكامل ما بين سور المجموعة الخامسة. وإذا كانت سورة الفتح حددت خصائص أهل الإيمان، وجاءت سورة الحجرات فأمرت ونهت، فأكملت بيان الخصائص، فإن سورة (ق) عند ما تبيّن خصائص أهل الجنة: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أو عند ما تأمر بالموقف المكافئ للكفر فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ* وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ* وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ... أو عند ما تقول: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إن سورة (ق) عند ما يكون فيها هذا كله تكمّل ما ذكرته سورة الفتح، وسورة الحجرات، من بناء لخصائص الجماعة المسلمة وأفرادها، وهكذا نجد في هذه المجموعة من قسم المثاني نموذجا على التكامل بين سور المجموعة الواحدة من مجموعات القسم الواحد. كلمة في قسم المثاني: رأينا أن قسم المثاني يتألف من خمس مجموعات، وقد رأينا أن كل مجموعة من مجموعاته تتكامل مع بعضها، وأن مجموعاته كذلك تتكامل مع بعضها. ولو أننا أردنا أن نضرب الأمثلة على التكامل بين سور قسم المثاني، أو بين مجموعاته لطال بنا المقام، فلنكتف ببعض الأمثلة: ورد في المجموعة الأولى من قسم المثاني في سورة العنكبوت حديث عن الامتحان، وعن النصر، وورد في هذه المجموعة كلام عن الزلزال في سورة

كلمة في الأقسام الثلاثة التي مرت معنا

الأحزاب، ثمّ جاءت سورة سبأ وفاطر ويس فتكاملت بذلك معاني المجموعة الأولى، ثمّ جاءت مجموعة ثانية فيها سورتا: الصافات وص فأكملت معاني في المجموعة الأولى، ثمّ انطلق قسم المثاني انطلاقة جديدة، فجاءت مجموعتان هما مجموعة الزمر والشورى فأقامتا الحجة في شأن هذا القرآن، ثمّ جاءت المجموعة الخامسة فتحدثت عن نصر، وعن قتال، وختمت بسورة (ق) التي تشبه إلى حدّ بعيد سورة (ص). ولو أننا نظرنا إلى المحاور التي فصّلتها سور قسم المثاني فإننا نجد أنّ كثيرا من هذه السور فصّلت محاور واحدة، وهذا سبب من أسباب تسمية هذا القسم بقسم المثاني. وقد رأينا أن المجموعة من مجموعات قسم المثاني يبدأ تفصيلها بأوائل سورة البقرة، ثم تنطلق، ثم تأتي المجموعة الثانية لتبدأ البداءة نفسها، ثمّ تنطلق، وهكذا أعطانا قسم المثاني خمسة تفصيلات جديدة لمعان في سورة البقرة، على ترتيب ورودها في السورة، وإن لم يكن ترتيبا متلاصقا وهذا سبب آخر من أسباب تسمية هذا القسم بالمثاني- والله أعلم-. كلمة في الأقسام الثلاثة التي مرّت معنا: رأينا أن القرآن يتألف من أربعة أقسام: قسم الطول، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصّل، وقد مرّ معنا تفسير الأقسام الثلاثة، ولم يبق معنا إلا قسم المفصّل. وقد رأينا أن قسم الطول يتألف من سورة البقرة ومجموعة واحدة، وقد رأينا أن قسم المئين يتألف من ثلاث مجموعات، وأن قسم المثاني يتألف من خمس مجموعات، وعلى هذا فإنه قد مرّ معنا- حتى الآن- سورة البقرة وتسع مجموعات، كل مجموعة تفصّل في محاور من سورة البقرة، ابتداء من أولها إلى محور ما فيها، وهكذا تفعل كل مجموعة. وقد رأينا أن السورة عند ما تفصّل في محور فإنها تفصل فيه وفي امتداداته وارتباطاته، ولذلك فإن المجموعات- ولو لم تفصّل في كل آية من سورة البقرة على حدة- فإنها

فصّلت في مجموع معاني سورة البقرة أكثر من مرة، وفي كل مرّة تعطينا جديدا. وقد رأينا أن الآيات الأولى من سورة البقرة نالها من التفصيل أكثر من غيرها، لأنها تتحدّث عن الأساس والطريق. وسيأتي معنا قسم المفصّل، وسنرى أن مجموعاته كثيرة، وهكذا نجد أن تفصيلا طويلا ووحيدا لسورة البقرة جاء في القسم الأول، وأن تفصيلات متوسطة ومتعددة جاءت في القسم الثاني، وأن تفصيلات أخصر وأكثر عددا جاءت في القسم الثالث، وأن تفصيلات كثيرة وقصيرة ستأتي في القسم الرابع- قسم المفصّل- فلنره. ***

قسم المفصل

القسم الرابع من أقسام القرآن قسم المفصل ويتضمن السور من بداية سورة الذاريات إلى نهاية المصحف

كلمة في قسم المفصل

كلمة في قسم المفصل: (عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بطولى الطوليين» رواه البخاري وأحمد والنسائي. بمناسبة هذا الحديث قال الشوكاني في تفسير المفصل: قال في الضياء: (هو من سورة محمد إلى آخر القرآن، وذكر في القاموس أقوالا عشرة من الحجرات إلى آخره، أو من الجاثية، أو القتال، أو قاف، أو الصافات، أو الصف، أو تبارك، أو إنا فتحنا لك، أو سبح اسم ربك الأعلى، أو الضحى، ونسب بعض هذه الأقوال إلى من قال بها، قال: وسمي مفصلا لكثرة الفصول بين سورة أو لقلة المنسوخ). وطولى الطوليين الواردة في الأثر: الأعراف، والثانية: الأنعام. قال في الفتح: الطوليين الأعراف والأنعام في قول، وتسميتهما بالطوليين إنما هو لعرف فيهما، لا أنهما أطول من غيرهما ... وبمناسبة الحديث الشريف: «وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال: ما رأيت رجلا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان لإمام كان في المدينة، قال سليمان: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الآخرتين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل» رواه أحمد والنسائي. بمناسبة هذا الحديث قال الشوكاني: (ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل) قد تقدم في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالقراءة بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وهذه السور من أوساط المفصل، وزاد مسلم أنه أمره بقراءة اقرأ باسم ربك الذي خلق، وزاد عبد الرزاق الضحى، وفي رواية للحميدي بزيادة والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، وقد عرفت أن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء، وثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة العشاء بالشمس وضحاها ونحوها من السور. أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه من حديث بريدة وأنه قرأ فيها ب (والتين والزيتون) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث البراء، وأنه قرأ ب (إذا السماء انشقت) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة) اه. كلام الشوكاني في تفسير وسط المفصل وقال الشرنبلالي في مراقي الفلاح: (والمفصل هو السبع السابع (أي: من القرآن) قيل أوله- عند الأكثرين- من سورة الحجرات، وقيل من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، أو من الفتح، أو من (ق)، فالطوال من مبدئه إلى

البروج، وأوساطه منها إلى (لم يكن)، وقصاره منها إلى آخره، وقيل طواله من الحجرات إلى عبس، وأوساطه من كورت إلى الضحى، والباقي قصاره). وقال الشرنبلالي: (وسمي المفصل به لكثرة فصوله، وقيل لقلة المنسوخ فيه). وفسر الطحاوي كثرة الفصول بقوله: (أي: لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة) وقال في تفسير قلة المنسوخ فيه بقوله: (فهو من التفصيل بمعنى الإحكام وعدم التغيير). ... مما نقلناه ندرك أن اسم المفصل للسبع السابع من القرآن متعارف عليه بين الصحابة وبين الفقهاء خلال العصور، كما ندرك أن تحديده قضية خلافية، وقد رأينا في بداية تفسيرنا لسورة (ق) أن ابن كثير يرجح أن ابتداءه من سورة (ق). وقلنا هناك: إننا نرجح أن يكون ابتداؤه من سورة الذاريات، وذكرنا لماذا رجحنا ذلك، ولاحظنا مما نقلناه هنا أن هناك اتفاقا بين المؤلفين على أنه سمي مفصلا لأحد سببين: إما لكثرة فصوله، أو لقلة المنسوخ فيه، ورأينا أن الطحاوي ضعف القول الثاني إذ قال قبله: (وقيل لقلة المنسوخ فيه) وإنما تستعمل كلمة (قبل) للتدليل على ضعف القول، فيبقى القول الأول هو القول المرجح عند الطحاوي من أنه سمي مفصلا لكثرة فصوله، وفسر كثرة الفصول بكثرة الفصل بين سوره بالبسملة. أقول: وهو وجه مما تحتمله كلمة كثرة الفصول، إذ ما قبل المفصل يوجد خمسون سورة بما في ذلك سورة الفاتحة، بينما توجد من الذاريات حتى نهاية القرآن أربعة وستون سورة، إلا أنني أحتمل أن يكون الشارح الذي شرح المفصل بكثرة الفصول أراد (الفصل) بالمعنى الاصطلاحي عند العلماء؛ فإنه المتبادر إلى الذهن عند ما يقال الفصول، إذ هي جمع فصل والفصل في اصطلاح العلماء قديما وحديثا هو: ما دون الباب في تقسيمات المؤلفين، فقد اصطلحوا على أن الكتاب أعم من الباب، والباب أعم من الفصل، والذي أرجحه أن الشارح الأول إنما أراد بالفصل ما اصطلحوا عليه، والذي يرجح هذا أن المتأمل للمفصل يحس بشكل واضح بتعدد فصوله من خلال تعدد أنواع البدايات للسور، ومن خلال التشابه بين بداية وبداية، ومن ثم فإنني أفهم بأن المراد بالفصل هو ما أسميته في هذا التفسير باسم المجموعة، وإن لم يكن واضحا عند السابقين هذا التحديد الدقيق لمعنى الفصل في المفصل، فالذي أراه

في هذا الموضوع أن تسمية المفصل تسمية مأثورة، وقد فسر السابقون الكلمة بكثرة الفصول لمعنى غامض أحسوه في هذا القسم، هذا المعنى الغامض هو الذي تفسره هذه الطريقة التي اعتمدتها في تقسيم القرآن إلى أقسام، وكل قسم يضم مجموعات، كل مجموعة تشكل فصلا من فصول هذا القرآن، وسمي هذا القسم الرابع من القرآن (بالمفصل) لكثرة هذه المجموعات فيه، وكما قلنا من قبل فإن ما مر معنا قبل المفصل كان سورة البقرة وتسع مجموعات، بينما نجد أن المفصل وحده كما سنرى خمس عشرة مجموعة، يضم سور كل مجموعة إلى بعضها أنها تفصل في البقرة من بدايتها إلى نقطة فيها، ثم تأتي المجموعة الثانية والثالثة وهكذا لتفصل كل منها تفصيلا جديدا. ... وعند ما نعرض مجموعات المفصل سنذكر عند كل مجموعة الأسباب التي حملتنا على اعتبارها مجموعة، وقد رأينا فيما مر طريقتنا في التدليل على القسم وعلى المجموعات، ولا شك أن ما مر معنا من قبل يشكل بالنسبة للمرحلة القادمة من التفسير نقاط علام، فقد رأينا مثلا أن السور المبدوءة بقسم تشكل بداية مجموعة، وسنرى بدايات جديدة لمجموعات في هذا القسم، والذي نحب أن نذكر به بهذه المناسبة هو: ... إنك تلاحظ أن سورا كثيرة في هذا القسم مبدوءة بقسم، ثم يأتي بعد القسم أو الأقسام سورة أو سور، ثم يظهر القسم مرة ثانية، وأحيانا تجد بعد القسم سورا تتشابه بداياتها، وأحيانا تجد بداية تتكرر، ولكن فيما بين البداية والبداية سور ليست مبدوءة بهذه البداية، كما ترى ذلك في زمرة المسبحات، إن ذلك كله يلفت النظر للبحث عن قاعدة كلية تنتظم هذه الدورة، وإننا نتصور أن ما اتجهنا إليه في هذا التفسير كان هو التفسير لهذه الظاهرة وأمثالها، والمعاني مع بعض نقاط العلام التي نستأنس بها هي التي تقدم الدليل على صحة السير. ... يتألف هذا القسم من خمس عشرة مجموعة. وكل مجموعة تفصل في معان من سورة البقرة من بدايتها إلى شئ منها، وكل سورة في مجموعة لها محورها من سورة البقرة، فهي تفصل في هذا المحور، وفي امتداده في سورة البقرة، وهو شئ قد رأيناه كثيرا، ورأينا الدليل عليه مرة بعد مرة.

وسنرى أن عامة محاور سور هذه المجموعات تفصل في مقدمة سورة البقرة والمقطعين الأولين من القسم الأول منها، وهذا يشير إلى أهمية هذه المعاني بالنسبة لمجموع المعاني القرآنية، حتى اقتضت في كل مجموعة من هذا القسم تفصيلا على كثرة المجموعات، كما أنها قد فصلت في كل مجموعة من قسم المثاني، أو قسم المئين، أو قسم الطوال. .. ولنبدأ عرض مجموعات هذا القسم. ***

المجموعة الأولى من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الأولى من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: الذاريات، والطور، والنجم، والقمر، والرحمن، والواقعة

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الأولى من قسم المفصل تتألف المجموعة الأولى من قسم المفصل من سور ست هي: الذاريات، والطور، والنجم، والقمر، والرحمن، والواقعة. وقد دلنا على بدايتها ونهايتها أنها مبدوءة بسور ثلاث تبدأ بالقسم: (الذاريات، والطور، والنجم) وأنها تنتهي بسورة مبدوءة ب (إذا) هي سورة الواقعة إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وسنرى في هذا القسم أن أكثر من مجموعة تنتهي بسورة بدايتها (إذا). فمثلا سنرى أن سورة إِذا زُلْزِلَتِ نهاية مجموعة؛ بدليل أن ما بعدها سورة مبدوءة بقسم وَالْعادِياتِ ضَبْحاً وتلك علامة على بداية مجموعة، ثم إنه بعد سورة الواقعة تأتي سورة الحديد، وهي بداية لزمرة المسبحات، ومن مجئ كلمة (سبح- يسبح) في هذه الزمرة، ومجئ سورة أو سور بعدها، ثم العودة إليها، ما يشير إلى أن السور التي تبدأ بكلمة (سبح- يسبح) هي بداية مجموعة، وسنرى ذلك من خلال المعاني. فمن خلال السور المبدوءة بالقسم، ومن السورة المبدوءة ب (إذا)، ومن خلال أن ما بعد سورة الواقعة بداية مجموعة، عرفنا بداية هذه المجموعة ونهايتها. ... وقد مرت معنا من قبل سورة الصافات مبدوءة بقسم، ورأينا أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة، ورأينا سورة الأنبياء وبدايتها قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وهي تفصل في قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وفي هذه المجموعة تأتي سور ثلاث مبدوءة بقسم، ثم تأتي بعدها سورة بدايتها تشبه بداية سورة الأنبياء اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ومضمونها أن النذر لم تنفع الكافرين؛ لذلك كانت لازمتها فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ*. وهذا يشير إلى أن السور الأربع الأولى في هذه المجموعة تفصل في مقدمة سورة البقرة. وبعد مقدمة سورة البقرة تأتي آيات تدعو إلى توحيد الله وعبادته؛ شكرا على آلائه، وتتحدى الكافرين في أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وتذكر ما أعده الله للكافرين من عذاب، وتبشر المؤمنين، وتقيم الحجة على الكافرين، وذلك في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة. وتأتي سورة الرحمن والواقعة فتفصلان في هذا كله، لذلك كانت لازمة سورة الرحمن: فَبِأَيِ

والخلاصة

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* وصلة ذلك بقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً ... لا تخفى، وتأتي بعد ذلك سورة الواقعة لتفصل في أصناف الناس يوم القيامة، وتقيم الحجة على الكافرين وصلة ذلك بقوله تعالى ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لا تخفى. والخلاصة: إن ما مر معنا من قبل يساعدنا كثيرا على تحديد أن هذه السور الست تشكل مجموعة متكاملة، فإن السور الثلاث الأولى منها مبدوءة بقسم وَالذَّارِياتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وذلك علامة على أنها تفصل في الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة، كما فصلت زمرة الم* العنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة في هذه المقدمة. وكما فصلت سورة الأنبياء المبدوءة ب اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فإن سورة القمر مبدوءة ب اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ تفصل في المحور نفسه، وعلى هذا فالسور الأوائل الأربعة من هذه المجموعة تفصل في مقدمة سورة البقرة. وتأتي سورة الرحمن والواقعة لتفصلا فيما بعد المقدمة من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً فسورة الرحمن التي تبدأ بقوله تعالى الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ ... تفصل في التعريف على صنع الخالق، وسورة الواقعة تكمل التفصيل لذات المقطع. وسنرى تفصيلات ذلك وأدلته بشكل موسع أثناء الكلام عن السور ومحاورها. ... ونلاحظ أن سورا كثيرة قد تفصل في محور واحد، ولكنا نجد أن كل سورة تفصل بشكل جديد، وعلى طريقة عرض جديدة، وفيها- فيما يتعلق بالتفصيل- شئ جديد، ولها جرسها الخاص، وتأثيرها الخاص، وذلك بعض مظاهر الإعجاز. وسنرى في هذه المجموعة بشكل بارز صلة أوائل السورة اللاحقة بأواخر السورة السابقة، وهو شئ ركز عليه الذين تكلموا عن الوحدة القرآنية من قبل، فكتب في ذلك

السيوطي وغيره، وليس هناك من مجموعة في القرآن تظهر فيها هذه الصلات بوضوح كهذه المجموعة والتي بعدها. ففي هذه المجموعة نجد مثلا أن سورة الطور تنتهي بقوله تعالى: وَإِدْبارَ النُّجُومِ، وأن سورة النجم بعدها تبدأ بقوله تعالى: وَالنَّجْمِ ونجد أن آخر سورة في هذه المجموعة- وهي سورة الواقعة- تنتهي بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وأن سورة الحديد بعدها تبدأ بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ولقد رأينا من قبل كيف أن سورة الفاتحة كانت فقرتها الثالثة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... ثم جاء أول سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ولقد تنبه بعض المفسرين لهذا الضرب من الصلات حتى كتبوا فيه كتبا. ولنبدأ عرض سور المجموعة الأولى من قسم المفصل. ***

سورة الذاريات

سورة الذاريات وهي السورة الحادية والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم المفصل، وآياتها ستون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي السورة

بين يدي السورة: 1 - قدم الألوسي لسورة الذاريات بقوله: (مكية كما روي عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما- ولم يحك في ذلك خلاف- وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد، ومناسبتها لسورة (ق) أنها لما ختمت بذكر البعث، واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق، وأن الجزاء لواقع، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل). 2 - ومن تقديم صاحب الظلال لسورة الذاريات نقتطف ما يلي: (هذه السورة ذات جو خاص. فهي تبدأ بذكر قوى أربعة ... من أمر الله .. في لفظ مبهم الدلالة، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر. يقسم الله- تعالى- على أمر: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً* فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً* إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ. والذاريات. والحاملات. والجاريات. والمقسمات .. مدلولاتها ليست متعارفة، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل. ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة. وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ. يقسم بها الله تعالى على أمر: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. لا استقرار له ولا تناسق فيه، قائم على التخرصات والظنون، لا على العلم واليقين. هذه السورة: بافتتاحها على هذا النحو، ثم بسياقها كله، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله .. ربط القلب البشري بالسماء؛ وتعليقه بغيب الله المكنون؛ وتخليصه من أوهاق الأرض، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله، والانطلاق إليه جملة، والفرار إليه كلية، استجابة لقوله في السورة: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ .. وتحقيقا لإرادته في عباده: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره، وتطمين النفس من جهته، وتعليق

كلمة في سورة الذاريات ومحورها

القلب بالسماء في شأنه، لا بالأرض وأسبابها القريبة. وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها. إما مباشرة كقوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ .. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ .. وإما تعريضا- كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال-: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ .. ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه). كلمة في سورة الذاريات ومحورها: إذا كانت سورة القمر تفصل- بما لا يقبل الجدل على حسب نظريتنا- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... فإن السور الثلاث: الذاريات والطور والنجم تفصل في قوله تعالى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ومن ثم نجد بشكل بارز في السور الثلاث كلاما عن التقوى والمتقين، ففي سورة الذاريات- وهي محل الكلام هنا- نجد قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ* كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وصلة ذلك بقوله تعالى من سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ واضحة. ونجد في سورة الذاريات: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ .... وصلة ذلك بقوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ .... واضحة. ذكرنا هذين المثالين لصلتهما الواضحة بمحور السورة الذي حددناه وذكرناه، وإلا فالسورة كلها تصب في تفصيل المحور كما سنرى. تتألف سورة الذاريات من مقدمة، ومقطع واحد، وخاتمة. المقدمة ست آيات، والخاتمة خمس آيات، والمقطع يتألف من فقرتين، وتتألف الفقرة الثانية من عدة مجموعات. ***

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (6) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) التفسير: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً: فالذاريات هي الرياح سميت كذلك لأنها تذرو التراب وغيره فَالْحامِلاتِ وِقْراً: المراد بالحاملات: السحاب، وسميت كذلك لأنها تحمل المطر، والوقر: الثقل فَالْجارِياتِ يُسْراً: قال ابن كثير: فأما الجاريات يسرا فالمشهور عن الجمهور أنها السفن تجري يسرا في الماء، جريا سهلا. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً: قال النسفي: (الملائكة؛ لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك، أو تتولى تقسيم أمر العباد ... ) وفي الآيات الأربع قسم من الله عزّ وجل على وقوع المعاد إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ أي: لخبر صدق، أي: لوعد صادق، والموعود البعث، ويحتمل أن يكون المراد الوعيد فيكون المعنى: إن وعيد الله صادق، قال الألوسي: أي: إن الذي توعدونه أو توعدون به، وَإِنَّ الدِّينَ وهو الحساب والجزاء على الأعمال. لَواقِعٌ أي: لكائن لا محالة. أقسم تعالى بالرياح، فبالسحاب الذي تسوقه، فبالفلك التي تجريها بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتيارات البحر ومنافعها وغير ذلك على صدق وعده في شأن اليوم الآخر، وعلى كينونة الحساب والجزاء. كلمة في السياق: قلنا إن محور سورة الذاريات هو الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، وقد

المقطع

ختمت الآيات الخمس الأولى بقوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في هذا النص مدح وبشارة لأهل الايمان بالفلاح، وذلك وعد من الله عزّ وجل لهم، وقد جاءت مقدمة سورة الذاريات وفيها قسم على أن وعد الله للمؤمنين صادق، وأن الجزاء على الأعمال كائن، وصلة ذلك بمحور السورة لا تخفى، وهذه الآيات تشكل مقدمة السورة؛ فهي مدخل للمعاني التى ستأتي بعدها، والتي تفصل في موعود الله عزّ وجل لأهل التقوى، وعقاب الله للذين لا يتحققون بالتقوى. [المقطع] الفقرة الأولى من المقطع وتمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (23) وهذه هي: [سورة الذاريات (51): الآيات 7 الى 23] وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

التفسير

التفسير: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي: ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، أو ذات الطرائق الحسنة، أو ذات النجوم، أو ذات المجرات مجرة بعد مجرة. قال النسفي: (هذا قسم آخر) وجوابه: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ قال ابن كثير: (أي: إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف، أي: مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع)، وعلى هذا القول الذي يفيد أن الخطاب للمشركين، فالآية تبين أن الكافرين إذ كفروا لا يمكن أن يجتمعوا على شئ؛ لأن الحق وحده هو الذي يمكن أن يجتمع عليه الخلق. وقال قتادة: إن الخطاب في الآية للناس جميعا، واختلافهم هو في كون بعضهم مؤمنين بالقرآن وبعضهم غير مؤمنين، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ: قال الحسن البصري: يصرف عن هذا القرآن من كذب به، قال النسفي: (أي: يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم، أو يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، أي: علم الله فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ قال ابن عباس: أي: لعن المرتابون، قال ابن كثير: (وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في خطبته: هلك المرتابون، وقال قتادة: الخراصون أهل الغرة والظنون)، قال الألوسي في قوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي: الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصل الخرص: الظن والتخمين، ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له، وقال الراغب: حقيقة ذلك أن كل مقول عن ظن وتخمين يقال له: خرص، سواء كان مطابقا للشئ أو مخالفا له من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا، وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ الآية انتهى. وفيه بحث. وحقيقة القتل معروفة، والمراد- بقتل- الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي، وعن ابن عباس في تفسيره باللعن قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك). الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي: في جهل يغمرهم ساهُونَ أي: غافلون عما أمروا به، قال ابن كثير: قال ابن عباس رضي الله عنه وغير واحد: أي: في الكفر والشك غافلون لاهون. يَسْئَلُونَ فيقولون: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ

[سورة الذاريات (51): آية 13]

أي: متى يوم الجزاء وتقديره: أيان وقوع يوم الدين، قال ابن كثير: (وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا) قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ: أي: يحرقون ويعذبون ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي: حريقكم وعذابكم، قال الألوسي: (وأصل الفتن: إذابة الجوهر ليظهر غشه، ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك) قال النسفي: (أي: تقول لهم خزنة النار ذوقوا عذابكم وإحراقكم) هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ في الدنيا أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا، هذا حال أحد الشقين المختلفين الشق المصروف المرتاب، المغمور بالجهل والغفلة، المستبعد لليوم الآخر، وأما الجانب الآخر وهم المتقون فهذه حالهم. إِنَّ الْمُتَّقِينَ في معادهم فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ بخلاف ما عليه أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلال آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي: قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به. قال ابن كثير: (فالمتقون في حال كونهم في الجنان والعيون آخذين ما آتاهم ربهم من النعيم والسرور والغبطة) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي: قبل دخول الجنة في الدنيا مُحْسِنِينَ أي: قد أحسنوا العمل، قال ابن كثير: (ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل، والهجوع: النوم، فهؤلاء هجوعهم قليل في ليلهم) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال النسفي: وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم (فما أكثر غفلة الغافلين) والسحر: السدس الأخير من الليل. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ أي: لمن يسأل لحاجته وَالْمَحْرُومِ أي: الذي يتعرض ولا يسأل حياء. قال ابن كثير: لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة، وفسر ابن كثير الحق بأنه: جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم. وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ قال النسفي: (تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها، وهي مجزأة: فمن سهل، ومن جبل، وصلبة، ورخوة، وسبخة، وفيها عيون متفجرة، ومعادن، ودواب منبثة مختلفة الصور والأشكال، متباينة الهيئات والأفعال). لِلْمُوقِنِينَ قال النسفي: أي للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي الواضح الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيقانا على إيقانهم). وَفِي أَنْفُسِكُمْ قال النسفي: (أي في حال ابتدائها وتنقلها

[سورة الذاريات (51): آية 22]

من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة، والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها. دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعظم من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا منها شئ جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل فتبارك الله أحسن الخالقين، وما قيل إن التقدير أفلا تبصرون في أنفسكم ضعيف؛ لأنه يفضي إلى تقديم ما في حيز الاستفهام على حرف الاستفهام). أَفَلا تُبْصِرُونَ أي: أفلا تنظرون نظر من يعتبر وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي: في المطر؛ لأنه سبب الأقوات وَما تُوعَدُونَ قال النسفي: أي: الجنة، فهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقال: أو أراد أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى كله مقدور مكتوب في السماء، والتفسير الأول هو الذي اقتصر عليه ابن كثير. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ أي: الموعود لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي: مثل نطقكم، قال ابن كثير: (يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه فلا تشكوا فيه، كما أنكم لا تشكون في نطقكم حين تنطقون)، قال الألوسي في قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (أي مثل نطقكم، كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك، وهذا كقول الناس إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع). كلمة في السياق: 1 - إن فهم قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ* إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يتوقف عليه شئ كثير في فهم السياق الخاص والعام للسورة، لقد رأينا أن قتادة ذكر أن الخطاب في هذا النص للكافرين، وأن الضمير في كلمة (عنه) يعود إلى القرآن، وأن القول المختلف هو: في القرآن، وعلى هذا القول فإن السياق يقرر اختلاف الكافرين في القرآن، وانصرافهم عنه، وإذ يتقرر ذلك فإن الله عزّ وجل يبين استحقاق الكافرين المرتابين الجاهلين الغافلين للقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. وأما المتقون فإن لهم الجنات والعيون بسبب إحسانهم الموصوف في السورة. وصلة ذلك بمحور السورة واضح، من حيث إن محور السورة هو قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ

الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، إذ المجموعة تتحدث عن اضطراب قول الكافرين في القرآن، وانصرافهم عنه، وعن شكهم وعن غفلتهم وعن جهلهم، كما تحدثت عن تفصيلات في موضوع الصلاة والإنفاق، وما يستحق أصحاب ذلك عند الله، وأما صلة مقدمة السورة بهذه الفقرة فمن حيث إن المقدمة قررت مجئ اليوم الآخر، والفقرة الأولى بينت اختلاف الناس في القرآن الذي يتحدث عن اليوم الآخر، فانقسم الناس- كأثر عن ذلك- إلى قسمين: كافر وتقي، هذا ما جزاؤه؟ وهذا ما جزاؤه؟. وواضح أن الربط بين المقدمة والفقرة الأولى كان على اتجاه قتادة في تفسير قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ في أن الضمير في (عنه) يعود إلى القرآن، أما النسفي فإنه يربط بين آيات الفقرة الأولى وآيات المقدمة بما يلي: (أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد، ثم قال: يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو مأفوك). وعلى هذا القول فالفقرة من بدايتها تتحدث عن اليوم الآخر، واختلاف الناس فيه، وانصراف بعض الناس عنه، وما يستحقون بسبب ريبهم وشكهم وغفلتهم واستبعادهم وقوعه من عقاب، بينما المتقون المحسنون يستحقون الثواب، وإذ يتقرر ذلك فإن الله عزّ وجل يذكر المؤمنين بالآخرة بآياته التي يرونها في الأرض وفي الأنفس، مما يستدلون به على هذا اليوم الآخر، وبهذا تعرف صلة قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ... بما قبله من سياق السورة، وعلى هذا: فالفقرة الأولى كالمقدمة في كونها تتحدث عن اليوم الآخر، وما للمؤمنين به العاملين له من أجر، وما على الكافرين به من وزر، وماذا في الكون والأنفس من آيات تدل على اليوم الآخر، وعلى هذا فالصلة بين ما مر من آيات السورة واضحة، والصلة بين السورة وبين محور السورة واضحة؛ فمحور السورة الذي يصف المتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تفصل فيه هذه الآيات، فقد فصلت الآيات في صفات المتقين، وبينت أن أهل اليقين بالآخرة يرون في الأرض وفي أنفسهم من الآيات الكثير الكثير.

هذان مذهبان في فهم آيات الفقرة الأولى، قد عرفناهما وعرفنا معهما صلة آياتها بمقدمة السورة وبمحورها، وعندي اتجاه آخر أعرضه فيما يلي: 2 - إن من حمل قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ على اختلافهم في القرآن لا دليل له من السياق، لأن القرآن لم يذكر في السياق أصلا، ومن قال: إن القول المختلف هو في شأن اليوم الآخر فله وجهه؛ لأن المقدمة تتحدث عن اليوم الآخر، ولكن إرجاع الضمير في (عنه) إلى اليوم الآخر بعيد؛ لأن الظاهر أن الضمير يعود على القول المختلف، لا على اليوم الآخر المذكور في المقدمة، ولذلك لم يطمئن قلبي لهذين التفسيرين، ومن ثم فإنني أفهم الآيات على الشكل التالي: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ أيها الكافرون لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي: متناقض مضطرب لأنكم على باطل، والباطل مضطرب متناقض، ولا يجمع الناس إلا الحق، والقرآن هو الحق أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يؤفك كأثر عن القول المختلف المضطرب من أفك، إن عقوبة التناقض والاضطراب في القول أن يصرف الله بعض الناس، ولكن يصرفهم عن أي شئ؟ هنا يبقى الإطلاق على إطلاقه أي: يصرفهم عن القرآن والإيمان، فصار المعنى: بسبب هذا القول المختلف: يصرف من صرف عن الحق في شأن القرآن واليوم الآخر، فإذا عرف ماذا يترتب على القول المختلف من انصراف عن الحق كله يأتي قوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ* يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ* ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ. فبين بهذه الآيات ما يستحقه المرتابون الغافلون المستبعدون لليوم الآخر، أي: الذين صفاتهم عكس صفات المتقين، فالمتقون كما وصفتهم أوائل سورة البقرة لا يرتابون في القرآن، ولا يرتابون في الغيب، ولا يرتابون في الوحي، ولا يرتابون في اليوم الآخر، وهؤلاء عكس ذلك تماما، فإذا اتضح ما لهؤلاء من عذاب، ذكر الله عزّ وجل المتقين المحسنين بما يعطينا زيادة تفصيل على أوصافهم في سورة البقرة، وبما يفسر فلاحهم فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ* كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ .... وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة وبسياق السورة واضح على ما ذكرناه، فإذا وصل السياق إلى ذلك يكون قد استقر في القلب والعقل أن الحال الصحيح هو حال المؤمنين المتقين المحسنين العاملين للآخرة الموقنين بها، ومن

الفقرة الثانية

ثم يبين الله عزّ وجل أن هؤلاء الموقنين بالآخرة، تشهد لهم أنواع الآيات، ولذلك قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ* فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ. 3 - نلاحظ أن مقدمة سورة الذاريات ورد فيها قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وقد جاء في الفقرة الأولى قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ* فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ونلاحظ أن السورة تختم بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، وهكذا نجد موضوع وعد الله باليوم الآخر يتردد في أوائل السورة ووسطها ونهايتها، مما يشير إلى أن موضوع اليوم الآخر هو المعنى الرئيسي في السورة، فمحور السورة الأخص هو: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وإن كانت السورة تتعرض لما هو أوسع من ذلك مما له علاقة بالمحور. 4 - عرضنا ما مر من السورة على أنه مقدمة وفقرة، والواقع أن الفقرة اللاحقة مرتبطة ارتباطا كاملا بالفقرة الأولى؛ لأن قصة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام الآتية قصصهم كلها آتية في سياق عرض آيات من آيات الله للموقنين كما سنرى، فهي امتداد للفقرة الأولى، ولذلك قلنا إن الفقرتين تشكلان مقطعا واحدا. 5 - نلاحظ أن الخطاب في المجموعة اللاحقة يتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ كما أن محور السورة يتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ... وهي ملاحظة نسجلها لمجرد الإشعار بوجود الصلات الكثيرة بين سورة الذاريات ومحورها من سورة البقرة. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (24) إلى نهاية الآية (55) وهذه هي: المجموعة الأولى من الفقرة الثانية [سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 37] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية [سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 40] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية [سورة الذاريات (51): الآيات 41 الى 42] وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) المجموعة الرابعة من الفقرة الثانية [سورة الذاريات (51): الآيات 43 الى 45] وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)

المجموعة الخامسة من الفقرة الثانية

المجموعة الخامسة من الفقرة الثانية [سورة الذاريات (51): آية 46] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) المجموعة السادسة من الفقرة الثانية [سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 55] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ملاحظة في السياق: نلاحظ أن قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام- وهي القصة الأولى في السياق- منتهية بقوله تعالى: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ مما يشير إلى أن السياق يتحدث عن آيات أخرى للموقنين غير الآيات التي تحدثت عنها نهاية الفقرة الأولى، وسنرى أن القصص اللاحقة كلها من هذا النوع، وعلى هذا النسق. تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ أي: ضيوف إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ قال ابن كثير: (أي الذين أرصد لهم الكرامة، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب

[سورة الذاريات (51): آية 25]

الضيافة للنزيل) وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل، وقال النسفي: الضيف للواحد والجماعة .. وجعلهم ضيفا؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام، أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وعند النسفي أن تسميتهم بالمكرمين لأنهم عند الله كذلك، أو لأن إبراهيم عليه السلام خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم بالقرى. وابتداء الآية بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عرفه بالوحي، ذكره النسفي. وذكر النسفي صلة قصة إبراهيم عليه السلام بما قبلها فقال: (وانتظامها بما قبلها باعتبار أنه عزّ وجل قال: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وقال في آخر هذه القصة: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً). اهـ. ثم حدثنا الله عزّ وجل عما جرى بين إبراهيم عليه السلام وضيوفه فقال: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي: على إبراهيم عليه السلام فَقالُوا سَلاماً أي: نسلم عليك سلاما قالَ سَلامٌ أي: عليكم سلام، وفي هذا المقام يذكر المفسرون قضية مرتبطة بالنحو حول أيهما أقوى، سلام الملائكة أو سلام إبراهيم؟ فيقولون: إن رد إبراهيم عليه السلام كان بصيغة الرفع، بينما سلامهم كان بصيغة النصب، فرد إبراهيم أبلغ في التحية. قال النسفي: والعدول إلى الرفع للدلالة على إثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذا بأدب الله، وهذا أيضا من إكرامه لهم، وقال ابن كثير: الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم ... فالخليل اختار الأفضل. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قال النسفي: أي: أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي: انسل خفية في سرعة، قال النسفي: فذهب إليهم (أي: إلى أهله) في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يكفه ... فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي: من خيار ماله فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ليأكلوا فلم يأكلوا قالَ أَلا تَأْكُلُونَ أنكر عليهم ترك الأكل، أو حثهم عليه، قال ابن كثير: تلطف في العبارة وعرض حسن، وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم ولم يأمرهم أمرا يشق على مسامعهم بصيغة الجزم بل قال أَلا تَأْكُلُونَ؟ على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل: اليوم إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل. فلما رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام خاف قال تعالى: فَأَوْجَسَ أي: أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً قال

[سورة الذاريات (51): آية 29]

النسفي: (أي: خوفا؛ لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك) قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ بعد أن أعلموه أنهم رسل الله، والمبشر به إسحاق عليه السلام، والبشارة تضمنت شيئين أن المبشر به سيكبر ويعطى العلم فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي: في صيحة فَصَكَّتْ وَجْهَها أي: فلطمت ببسط يديها وجهها، وقيل فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: أنا عجوز عقيم، فكيف ألد؟ قالُوا أي: الملائكة كَذلِكَ أي: مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به قالَ رَبُّكِ أي: إنما نخبرك عن الله تعالى، والله قادر على ما تستبعدين إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في فعله الْعَلِيمُ فلا يخفى عليه شئ، قال ابن كثير: أي: عليم بما تستحقون من الكرامة حكيم في أقواله وأفعاله قالَ إبراهيم فَما خَطْبُكُمْ أي: فما شأنكم وما طلبتكم وفيم أرسلتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ وإنما سألهم لعلمه أنهم لا ينزلون إلا بأمر الله رسلا في بعض الأمور، فأحب أن يعلم هل أرسلوا بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أولهما قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي: قوم لوط لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي: حجارة السجيل، والسجيل في الأصل: طين طبخ كما يطبخ الآجر حتى صار في صلابة الحجارة مُسَوَّمَةً أي: معلمة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن كثير: أي: مكتبة عنده بأسمائهم كل حجر عليه اسم صاحبه. قال النسفي: سماهم مسرفين كما سماهم عادين لإسرافهم وعدوانهم في عملهم، حيث لم يقتنعوا بما أبيح لهم فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي: في القرية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: لوطا عليه السلام ومن آمن به فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: غير أهل بيت وهم أهل بيت لوط سوى امرأته، قال النسفي: (وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد، لأن الملائكة سموهم مؤمنين ومسلمين هنا) ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد وَتَرَكْنا فِيها قال النسفي: (أي: في قراهم) آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي: علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم قال ابن كثير: (أي: جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال، وحجارة السجيل، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة، ففي ذلك عبرة للمؤمنين الذين يخافون العذاب الأليم) أقول: يفهم من كلام ابن كثير أن البحر الميت تشكل على أثر ما حل بقرى لوط، قد يكون الأمر كذلك، وقد يكون البحر موجودا من قبل، وعلى أثر الخسف الذي حصل لقرى لوط، امتد رواقه حتى غمرها، والأمر يحتاج إلى تحقيقات متعددة لترجيح أحد هذين

كلمة في السياق

الاحتمالين، والقرآن لم ينص صراحة على هذا الموضوع. كلمة في السياق: 1 - رأينا أن النسفي قال عن هذه القصة وصلتها بما قبلها ما يلي: (واتصالها بما قبلها باعتبار أنه تعالى قال وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وقال في آخر هذه القصة وَتَرَكْنا فِيها آيَةً فالسياق إذن يعرض علينا آية جديدة، وفي قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وفي قوله تعالى وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ ما يشير إلى أن الموقنين هم الذين يخافون العذاب الأليم، وهؤلاء هم المؤمنون حقا باليوم الآخر، كما ذكر محور السورة وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. 2 - الملاحظ أنه بعد قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام تأتي الآن أربع مجموعات: مجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَفِي مُوسى .... ومجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَفِي عادٍ .... ومجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَفِي ثَمُودَ .... ومجموعة مبدوءة بقوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ ... .. والنسفي يرى أن هذه المجموعات معطوفة على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وعلى هذا فإن السياق يكون على الشكل التالي: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ .... وفي ما فعله الله بقوم لوط آية، وفي قصة عاد آية، وفي قصة لوط آية، وفي قصة نوح وقومه آية، وكل هذه الآيات يراها الموقنون الذين يخافون العذاب الأليم، فيدفعهم ذلك إلى القيام بحق الله عزّ وجل رجاء موعوده. 3 - الملاحظ أن قوله تعالى وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ لم يأت قبله ما يشعر بأنه معطوف عليه، فهل في الأقسام السابقة عليه ما له علاقة بهذا الموضوع، كأن يكون في قوله تعالى وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً* فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً إشعار بأن هذه آيات للموقنين، وفي قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إشعار بأن هذه آيات للموقنين، ثم جاء قوله تعالى وَفِي الْأَرْضِ

آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ معطوف على ما ذكر في هذه الأقسام من مضمون وجود الآية فيها، فيكون السياق على الشكل التالي: في الرياح، والسحاب، والسفن، وتقسيم الأرزاق، ومجرات السماء، آيات للموقنين باليوم الآخر، وفي الأرض كذلك آيات، وفي قصة قوم لوط آية، وفي قصة موسى مع فرعون آية، وفي قصة عاد آية، وفي قصة ثمود آية، وفي قصة قوم نوح آية، وفي بناء السماء وسعتها آية، وفي تمهيد الأرض آية، وكلها تدل على الله، ويأتي بعد ذلك قوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ... ودل السياق على أن من اجتمع له اليقين باليوم الآخر، والخوف من عذاب الله كان تقيا، وعكسه من كان خراصا ساهيا، ومن ثم بدأت السورة بتأكيد مجئ اليوم الآخر، ودلت على المزالق التي تبعد عن هذا الإيمان. 4 - فالسورة تفصل في صفات الموقنين باليوم الآخر، كما تؤكد وقوع ما وعد الله عزّ وجل به في أوائل سورة البقرة أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وكل ذلك من ضمن سياق السورة الخاص الذي سيتضح لنا شيئا فشيئا. 5 - بعد قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ يأتي قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ* فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ وصلة ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وصلته بما قبل ذلك في السورة وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ واضحة؛ إذ الآيتان توضحان أن رزقكم عند الله فلا تبخلوا؛ وأن جزاءكم عند الله فلا تبخلوا، وجاء هذا بعد ذكر آيات الله في الأرض وفي الأنفس ليزداد اليقين بالله وقدرته. وفيما بين قوله تعالى وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ... وما بين المعطوف عليها بقوله تعالى وَفِي مُوسى ... جاء قوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ... لتكون القصة مؤدية أكثر من خدمة، ففيها كلام عن القيام بحق الضيوف، وهو نوع إنفاق، وفيها كلام عن قدرة الله التي تعطي العقيم نسلا، وفيها تحذير من المخالفة، وذلك كله يخدم في أكثر من اتجاه: إن في تفصيل المحور، أو في

تفسير المجموعة الثانية

سياق السورة الخاص، إذا اتضح هذا كله فلننتقل إلى تفسير ما تبقى من مجموعات الفقرة. تفسير المجموعة الثانية وَفِي مُوسى قال النسفي: معطوف على وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أو على قوله تعالى وَتَرَكْنا فِيها آيَةً ... فالتقدير إذن: وفي موسى آية: إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال النسفي: أي بحجة ظاهرة وهي اليد والعصا وقال ابن كثير: أي بدليل باهر وحجة قاطعة فَتَوَلَّى أي: فأعرض فرعون بِرُكْنِهِ قال النسفي: (أي بما كان يتقوى به من جنوده وملكه، والركن: ما يركن إليه الإنسان من مال وجند) قال ابن كثير: (أي فأعرض فرعون عما جاء به موسى من الحق المبين استكبارا وعنادا) وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال ابن كثير: أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا أو مجنونا فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ أي: هو من كان يتعزز به، ويتكبر بسببه فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فألقيناهم في البحر وَهُوَ أي: فرعون مُلِيمٌ أي: وهو ملوم كافر جاحد معاند قال النسفي: (أي آت بما يلام عليه من كفره وعناده). تفسير المجموعة الثالثة وَفِي عادٍ آية إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ أي: المفسدة التي لا تنتج شيئا قال النسفي: (هي التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ قال ابن كثير: أي مما تفسده الريح إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي: كالشئ الهالك البالي، وقد فسر النسفي الرميم بقوله: هو كل ما رم، أي: بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، والمعنى: ما تترك من شئ هبت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا أهلكته. تفسير المجموعة الرابعة وَفِي ثَمُودَ قال النسفي: (آية أيضا) إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ قال ابن جرير: يعني إلى وقت فناء آجالكم. وقال النسفي: تفسيره قوله تعالى تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قال ابن كثير: وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي: فاستكبروا

[سورة الذاريات (51): آية 45]

عن امتثال أمر ربهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي: العذاب، قال النسفي: وكل عذاب مهلك: صاعقة وَهُمْ يَنْظُرُونَ قال النسفي: لأنها كانت نهارا يعاينونها فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي: من هرب ولا نهوض وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه قال النسفي: (أي) ممتنعين من العذاب، أو لم يمكنهم مقابلتنا بالعذاب لأن معنى الانتصار المقابلة. تفسير المجموعة الخامسة وَقَوْمَ نُوحٍ قال النسفي: أي: وفي قوم نوح آية مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي: كافرين. كلمة في السياق: بعد أن عرض الله عزّ وجل علينا هذه النماذج من آياته المعطوفة على آياته في الأرض والأنفس، يعرض علينا ثلاث آيات أخرى ليست معطوفة على ما قبلها في الإعراب، ولكنها من حيث المعنى استمرار لعرض الآيات. تفسير المجموعة السادسة وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي: بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ هذه السماء باطراد، فهي دائما في توسع أو قد جعلناها واسعة، وفي الآية معجزة كونية سنراها في الفوائد وَالْأَرْضَ فَرَشْناها قال ابن كثير: أي: جعلناها فراشا للمخلوقات، وقال النسفي: أي: بسطناها ومهدناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وهذه معجزة كونية أخرى سنراها في الفوائد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال ابن كثير: أي: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له، وقال النسفي: أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج لتتذكروا؛ فتعرفوا الخالق وتعبدوه فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ قال النسفي: (أي: من الشرك إلى الإيمان بالله، أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، أو مما سواه إليه) وقال ابن كثير: أي: الجئوا إليه واعتمدوا في أموركم عليه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: واضح النذارة وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي: لا تشركوا به شيئا إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ قال النسفي: (التكرير للتوكيد، والإطالة في الوعيد أبلغ).

تفسير المجموعة السابعة

ومجئ قوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ* وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... بعد ذكر عدد من آيات الله يفيد أن رؤية الآيات تقتضي الفرار إلى الله، وعدم الشرك به، أي: تفيد أنه يترتب على فهمنا لهذه الآيات ووجودها أن نفر إلى الله، ولا نشرك به، ولكن من من الناس يفعل ذلك؟ لا شك أن القليل وحده هو الذي يفعل ذلك، والكثير الكثير يرفض النذارة، ومن ثم تأتي المجموعة السابعة: تفسير المجموعة السابعة كَذلِكَ أي: كتكذيب هؤلاء لك، ورفضهم نذارتك، وتسميتك ساحرا أو مجنونا ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: من قبل هؤلاء الكافرين من أمتك مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فلغة الكفر في كل العصور واحدة، قال الله عزّ وجل أَتَواصَوْا بِهِ أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول، حتى قالوه جميعا، متفقين عليه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان، والطغيان هو الحامل عليه فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: فأعرض عنهم قال النسفي: (أي) فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا عنادا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ قال النسفي: فلا لوم عليك في إعراضك عنهم بعد ما بلغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة وَذَكِّرْ قال النسفي: وعظ بالقرآن فَإِنَّ الذِّكْرى أي: التذكير تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ قال النسفي: بأن تزيد في عملهم، وقال ابن كثير: أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة. فبعد أن رتب الله عزّ وجل على رؤية الآيات ضرورة الفرار إليه وترك الشرك، تحدث عن إعراض الكافرين، وأمر بناء على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عنهم، وأن يذكر المؤمنين، ثم تأتي بعد ذلك خاتمة السورة. خاتمة السورة وتمتد من الآية (56) إلى نهاية الآية (60) وهذه هي: [سورة الذاريات (51): الآيات 56 الى 60] وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

التفسير

التفسير: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال ابن كثير: أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم. وقال ابن جريج: (أي) إلا ليعرفوني. أقول: فمن لم يعرفه ولم يعبده فإنه يكون قد عطل الحكمة التي من أجلها خلق، وقد جاءت هذه الآية بعد ما عرض الله عزّ وجل علينا من آياته ما يشير إلى أن آيات الله في الكون وفي التاريخ تقتضي معرفة له، وتقتضي عبادة، ثم قال تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: ما خلقتهم ليرزقوني، ولا ليرزقوا أنفسهم، أو يرزقوا واحدا من عبادي وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ سبحانه وتعالى، فهو المنزه عن كل افتقار إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لخلقه ذُو الْقُوَّةِ أي: ذو القدرة الكاملة الْمَتِينُ أي: الشديد القوة ... فإذا كان الأمر كذلك فإن الذي لا يعبده ظالم، ومن ثم فإنه يستحق العذاب في الدنيا والآخرة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: لم يعبدوا الله ولم يقبلوا نذارة رسوله ذَنُوباً أي: نصيبا من عذاب الله مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي: مثل نصيب أصحابهم ونظائرهم من القرون المهلكة فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي: بنزول العذاب، قال ابن كثير: (أي فلا يستعجلون ذلك، فإنه واقع لا محالة) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ قال ابن كثير: (يعني: يوم القيامة) وهل (يوعد) في الآية آتية من الوعد، أو الوعيد؟ قولان في الآية. وقد رجح الألوسي في كلمة (توعدون) الآتية في أوائل السورة أنها من الوعيد، وقد استأنس لذلك بختام سورة (ق) فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أن السورة بدأت بقوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ* وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ونلاحظ أن السورة تنتهي بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ونلاحظ أنه ورد في الفقرة الأولى

قوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ونلاحظ أن فيما قبل الآية الأخيرة من السورة ورد قوله تعالى فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ونلاحظ أنه في نهاية الفقرة الأولى ورد قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ وفي أواخر السورة جاء قوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ مما يدل على ارتباط أول السورة بآخرها، وأوائل السورة وأواخرها بأواسطها. 2 - لنعرض ملخصا لسير السورة: بدأت السورة بتقرير أن وعد الله في شأن الآخرة صدق، وأن محاسبة الناس ومجازاتهم واقعة، ثم بين تناقض أقوال الناس التي يترتب عليها صرفهم عن الحق، ثم تحدث عن الشاكين الغافلين المستبعدين لليوم الآخر وما لهم عند الله عزّ وجل، ثم بين ما للمتقين جزاء إحسانهم، وما هو الإحسان، ثم عرضت السورة آيات الله في الآفاق والأنفس والتاريخ، ثم رتبت على ذلك أن دعت الناس إلى الفرار إلى الله وتوحيده، وبينت أن حكمة خلق الخلق هي عبادة الله، وحذرت الرافضين والكافرين من عذاب الله في الدنيا والآخرة، ولأن كثيرين من الناس يحول بينهم وبين عبادة الله طلب الرزق، فقد بين الله عزّ وجل أن الرزق مضمون، وحتى لا يتوهم متوهم أن لله مصلحة في الأمر بالعبادة قال: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. 3 - خدمت السورة محورها من سورة البقرة بأن بينت حال المرتابين وأسباب ريبهم، وفصلت في صفات المتقين، وفصلت في الأساس الذي تنبثق عنه العبادة، والفرار إلى الله عزّ وجل وهو يتمثل في آيات الله التي تدل عليه، وفي اليوم الآخر، وفي الخوف من عذاب الله في الدنيا، وهذه المعاني هي أرضية التقوى، والملاحظ أنه قد أصاب كلا من آيات المحور شئ من التفصيل من الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إلى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إلى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إلى وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إلى أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فقد فصلت السورة في هذه المعاني على تفاوت في التفصيل، وفصلت في الأرضية التي تقوم عليها هذه المعاني، وفي الكلمة الأخيرة عن السورة زيادة بيان فلننقل بعض الفوائد:

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً* فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ... قال ابن كثير: (قال شعبة بن الحجاج ... عن أبي الطفيل أنه سمع عليا رضي الله عنه، وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكواء فقال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى وَالذَّارِياتِ ذَرْواً؟ قال علي رضي الله عنه: الريح، قال فَالْحامِلاتِ وِقْراً؟ قال رضي الله عنه: السحاب، قال فَالْجارِياتِ يُسْراً؟ قال رضي الله عنه: السفن، قال فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً؟ قال رضي الله عنه: الملائكة). 2 - عند قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من ورائكم الكذاب المضل، وإن رأسه من ورائه حبكا حبكا» يعني بالحبك: الجعودة، وعن أبي صالح ذاتِ الْحُبُكِ الشدة، وقال خصيف ذاتِ الْحُبُكِ ذات الصفاقة، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري ذاتِ الْحُبُكِ حبكت بالنجوم). أقول: من مثل هذه الأقوال يمكن أن نفهم أن المراد بالحبك في الآية المجرات. 3 - بمناسبة قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قال ابن كثير: (وقال الحسن البصري كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر، حتى كان الاستغفار بسحر، وقال قتادة: قال الأحنف بن قيس: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ كانوا لا ينامون إلا قليلا، ثم يقول: لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، مكذبون بكتاب الله وبرسل الله، مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال رجل من بني تميم لأبي: يا أبا أسامة: صفة

لا أجدها فينا، ذكر الله تعالى قوما فقال: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم، فقال له أبي رضي الله عنه طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائما والناس نيام» وقال معمر في قوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ: كان الزهري والحسن يقولان: كانوا كثيرا من الليل ما يصلون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ما ينامون). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال ابن كثير: (وقال مجاهد وغير واحد: يصلون، وقال آخرون: قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الأسحار، كما قال تبارك وتعالى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: «هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر». وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قالوا: أخرهم إلى وقت السحر). 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ قال ابن كثير: (أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم، أما السائل فمعروف، وهو الذي يبتدئ بالسؤال وله حق، كما روى الإمام أحمد ... عن فاطمة بنت الحسين ابن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق وإن جاء على فرس» ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به. ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروي من حديث الهرماس بن زياد مرفوعا، وأما المحروم

فقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: هو المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم، يعني: لا سهم له في بيت المال، ولا كسب له، ولا حرفة يتقوت منها، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه، وقال الضحاك: هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب، قضى الله تعالى له ذلك، وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من الصحابة رضي الله عنهم: هذا المحروم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وعطاء بن أبي رباح: المحروم: المحارف، وقال قتادة والزهري: المحروم: الذي لا يسأل الناس شيئا. قال الزهري: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه» وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر، وقال سعيد بن جبير: هو الذي يجئ وقد قسم المغنم فيرضخ له. وقال محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رضي الله عنه كتف شاة فرمى بها إليه، وقال: يقولون: إنه المحروم، وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم، واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان، وقد ذهب ماله، سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها. وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا، فجاءه قوم لم يشهدوا الغنيمة فنزلت هذه الآية وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وهذا يقتضي أن هذه مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية شاملة لما بعدها). 6 - بمناسبة قوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قال ابن كثير: (روى مسدد عن الحسن البصري قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» ورواه ابن جرير- بسنده- عن الحسن مرسلا). 7 - من مظاهر إعجاز القرآن عدم اختلافه، ومن ذلك أنك تجد سورة تبرز معنى، فتأتي سورة أخرى فتتحدث عنه، ومن الربط بين المعنيين تستشعر أن مثل هذه الدقة يستحيل أن تكون في كتاب بشري، فمثلا في قصة إبراهيم- في سورة الذاريات- يوجد قوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ قال ابن كثير: أي في

صرخة عظيمة ورنة، وقال الله عزّ وجل في سورة هود: قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ... فالصرة الواردة في سورة الذاريات يفسرها ما ذكر الله عزّ وجل على لسانها في سورة هود على رأي ابن عباس ومجاهد وعكرمة وكثيرين من المفسرين. 8 - نادرا من الناس من يحسن التفريق بين ماهية الإسلام، وماهية الإيمان؛ لأن النصوص الواردة في ذلك متعددة، ولا يحسن كل إنسان توجيهها، قال تعالى في سورة الذاريات: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فههنا الإسلام هو الإيمان، بينما رأينا في سورة الحجرات قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ... فههنا تفريق بين الإسلام والإيمان، فكيف يجمع بين ما ورد في سورة الحجرات، وما ورد في سورة الذاريات؟ أقول: الإسلام الكامل والإيمان الكامل مترادفان، لأن الإيمان الكامل ما وقر في القلب وصدقه العمل، والإسلام الكامل إسلام القلب والجوارح لله بدينه وشريعته، وقد يوجد- أحيانا- تصديق ولا عمل، وقد يوجد عمل والإيمان الذوقي غير مستقر، وقد يوجد عمل ولا إيمان، ومن ثم يختلف في هذه الصور مفهوم الإيمان عن مفهوم الإسلام، وقد عبر ابن كثير عما ذكرناه تعبيرا لطيفا فقال بمناسبة آيتي سورة الذاريات: (احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين، وهذا الاستدلال ضعيف، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال). 9 - بمناسبة الكلام عن عاد وهلاكها بالريح العقيم قال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور»). 10 - بمناسبة قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ نقول: إن من القفزات العلمية الكبيرة في تاريخ العلوم الكونية نظريات أينشتاين اليهودي، الذي طرح- لأول مرة في تاريخ البشرية- نظرية عن سعة الكون لم يسبق إليها، حتى صار بعضهم يطلق كلمة الكون الأينشتايني للتعبير عن الكون الواسع، ومع كلامه عن سعة الكون كان يقول: إن الكون ثابت الأبعاد، ثم كان أن صنعت المجاهر الضخمة

فأكدت سعة الكون بما لم يكن يخطر على قلب بشر من قبل، ولكن تبين أن الكون في حالة توسع مطرد، فقد لوحظ من خلال الرصد أن مجرات الكون تنطلق بعيدا عن مركز الكون بسرعة هائلة، ولقد قالوا: إن النظرية الوحيدة من نظريات أينشتاين التي نقضها العلماء هي نظريته في ثبات الكون (راجع العدد الذي يتحدث عن أينشتاين من سلسلة اقرأ) والملاحظ أن قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ قد استعمل فيه اسم الفاعل (موسع) واسم الفاعل في اللغة العربية يفيد- في بعض الحالات- الاستمرار، ومن ثم فإن الآية هنا تشير إلى سعة الكون من ناحية، كما تشير إلى موضوع تمدد الكون وتوسعه المطرد، وفي ذلك ما فيه من إعجاز وسع به هذا القرآن الزمان والمكان، فالذين يريدون أن يعطلوا العمل بهذا القرآن بسبب تقدم العلوم عليهم أن يراجعوا أنفسهم قبل فوات الأوان. 11 - بمناسبة قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال ابن كثير: (أي جميع المخلوقات: أزواج، سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات، ولهذا قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له). أقول: في عصرنا اتضح معنى الزوجية بشكل أوسع حتى شمل الحيوان والنبات والجماد والمجرات، فما من ذرة إلا وعنصر الزوجية فيها موجود، والآية قالت: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ فكان فيما اكتشفه الإنسان حتى الآن في هذا الموضوع معجزة من معجزات القرآن. 12 - إن على الدعاة إلى الله أن يفطنوا إلى دقائق في التربية والدعوة تعرضها علينا نصوص الكتاب والسنة، لأن التفطن لذلك يختصر لنا الطريق، فمثلا ختمت سورة (ق) بقوله تعالى فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فالذي لا يخاف وعيد الله له خطاب آخر، أما الذي يخاف وعيد الله، فيكفي أن نذكره بالقرآن، حتى يثوب، ومن ثم فعلى المؤمنين أن يذكر بعضهم بعضا بالقرآن إذا رأوا انحرافا من أنفسهم عنه، وفي قوله تعالى في سورة الذاريات: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ما يدل على أن التذكير لا بد أن ينتفع به المؤمن، ومن ثم فلا يصح أن يقول أحد منا: لا فائدة من الكلام فيسكت، سواء مع إخوانه، أو مع المسلمين، فالمسلمون بفضل الله لا زال

في قلوبهم إيمان، والذين قبلوا حمل دعوة الله هم مظنة الخير، وعلى الواحد منا أن يذكر حيثما وجد فرصة، فلا بد أن تترك الذكرى أثرها في نفس المؤمن إن لم يكن حالا فمآلا، إن من أخطر أمراض المسلمين أن ينتشر بينهم الشعور بأنه لا فائدة من التذكير أو العمل. إن على كل مسلم أن يرث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة التذكير لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ورسولنا عليه الصلاة والسلام أمرنا بالتبليغ، والناس أمامنا قسمان: مؤمنون وكافرون، والكافرون قسمان: قسم ليس لوعيد الله في قلبه محل، وقسم لا زال لوعيد الله في قلبه محل، فأما المؤمن فلا شك أن الذكرى تنفعه، وأما من كان في قلبه محل لوعيد الله فربما انتفع بالتذكير في القرآن، هذا عمر كان كافرا فأسلم على أثر قراءته لشئ من القرآن، كما تذكر بعض الروايات، وأما من ليس في قلبه محل للخوف من وعيد الله، فهذا نقطة البداية في حقه أن تقيم عليه الحجة بوجود الله ثم تسير. 13 - بمناسبة قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال صاحب الظلال: (إن معنى العبادة- التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى- أوسع وأشمل من مجرد الشعائر؛ وإن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا. وإن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين: الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا. عبدا يعبد. وربا يعبد. وأن ليس وراء ذلك شئ؛ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود؛ وإلا رب واحد والكل له عبيد. والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر؛ ومن كل معنى غير معنى التعبد لله. بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة؛ ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله .. كلها عبادة؛ وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها؛ وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شئ لله

كلمة أخيرة في سورة الذاريات

دون سواه) أ. هـ. مع تصرف بسيط. 14 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن ربه عزّ وجل-: «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن غريب. وقد روى الإمام أحمد عن سلام بن شرحبيل سمعت حبة وسوأة ابني خالد يقولان: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء- وقال أبو معاوية يصلح شيئا- فأعناه عليه، فلما فرغ دعا لنا وقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رءوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة، ثم يعطيه الله ويرزقه»). كلمة أخيرة في سورة الذاريات: 1 - في هذا الكون مظاهر من الإبداع والجمال لا تتناهى؛ لأن الله عزّ وجل من أسمائه البديع، فهو بديع السموات والأرض، وفي هذا القرآن مظاهر من الإبداع لا تتناهى؛ لأنه كلام الله البديع. إنك لتجد الإبداع في كل شئ في هذا القرآن: في العرض، والأسلوب، والتفصيل، والكلمة، والآية، والمعنى، والجرس، والسياق، وتأمل سورة الذاريات لتجد مظاهر الإبداع لا تتناهى، وذلك شأن القرآن كله. 2 - بدأت السورة بالحديث عن اليوم الآخر، لتصل إلى الحديث عن آيات الله التي لا يعرفها إلا من أيقن باليوم الآخر، لتصل إلى ضرورة الفرار إلى الله الذي لا يفعله إلا من عرف آيات الله في الكون والأنفس والتاريخ، ومن مثل هذا تجد الترابط بين معاني السورة على أشده. 3 - وقد تحدث محور السورة من سورة البقرة عن المتقين، وفصلت سورة الذاريات في التقوى وأسبابها، وعاقبة أهلها، ودلت على الطريق إليها. 4 - وقد جاءت سورة الذاريات بعد سورة (ق) التي انتهت بذكر التذكير والوعيد، قال تعالى في سورة (ق): فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ،

وها هي ذي سورة الذاريات تبدأ بالوعيد وتنتهي بالوعيد: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ هذه بداية السورة، وهذه نهايتها: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، وفي سياق سورة الذاريات جاء قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، فما بين معانى سورة الذاريات، وما بين خاتمة سورة (ق) روابط كثيرة. إنك عند ما تتأمل صلات سورة الذاريات بما قبلها، وصلاتها بما بعدها، وصلاتها بمحورها من سورة البقرة، ثم إذا تأملت سياقها الخاص، وما حوته من معجزات، ثم وثم، فإنك تجد مظاهر من الإبداع والإعجاز لا تتناهى. ***

سورة الطور

سورة الطور وهي السورة الثانية والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الأولى من قسم المفصل وآياتها تسع وأربعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الطور

بين يدي سورة الطور: 1 - قال الألوسي في تقديمه لسورة الطور: ((مكية) كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، ولم نقف على استثناء شئ منها، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي، وثمان وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الحجازي، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد، وقال الجلال السيوطي: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع، فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك). 2 - وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير في القلب البشري. ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه. ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان .. حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام! وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة، والمعنى والمدلول، والصور والظلال، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء. ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام!). كلمة في سورة الطور ومحورها: تبدأ السورة بمقدمة تتحدث عن مجئ يوم القيامة، وبعض ما يحدث فيه، وتعرض أنواعا من العذاب الذي ينزل بالمكذبين، ثم تتحدث عن المتقين وما لهم، وعما استحقوا بسببه هذا النعيم المقيم، ثم تأمر السورة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير، وترد على مطاعن الكافرين وتصوراتهم، ثم تسير السورة حتى تنتهي بالأمر بالصبر والتسبيح بحمد الله، وككل سورة من سور القرآن فإن للسورة سياقها الخاص بها، ثم هي في الوقت نفسه تفصل في محورها من سورة البقرة، وهو الآيات الأولى منها: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ

هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فهي تكمل البناء الذي بدأته سورة الذاريات، فلئن كانت سورة الذاريات قد أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير، وبينت أن الذكرى تنفع المؤمنين، فهذه تأمره بالتذكير المطلق، وتحدد له معالم يناقش بها الكافرين، وإذا كانت سورة الذاريات قد ذكرت الحكمة من خلق الخلق وهي العبادة، فهذه السورة تأمر بأنواع من العبادة، وإذا كانت سورة الذاريات قد وصفت المتقين بأنهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، فهذه السورة تأمر بالتسبيح بحمد الله في قيام الليل، وعند الأسحار، وإذا كانت سورة الذاريات أجملت في تفصيل نعيم أهل الجنة، وبما استحقوا هذا النعيم، فإن سورة الطور تفصل في ذلك، كما أنها تفصل في عذاب الكافرين، وفي ما استحقوه، وكل ذلك يأتي ضمن سياق السورة الخاص: فالسورة تبدأ بالقسم على أن عذاب الله آت، وتبين كيف يعذب الكافرون وينعم المتقون، وإذا كان أمام الإنسان ما أمامه، فليذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان، وليناقش الكافرين، وإذا كان الكفار مع وجود الآيات يكفرون، فليتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصيرهم، وليصبر، وليسبح بحمد الله في ليله ونهاره. إن فلاح المتقين يظهر في شيئين: في الخلاص من العذاب، وفي تذوق النعيم، والسورة تبين هذا وهذا، ولقد ركزت سورة الذاريات على الصلاة والإنفاق من صفات المتقين، وتركز سورة الطور على الإيمان من صفات المتقين: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وركزت على الخوف والعبادة كطريقي نجاة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ. وهكذا نجد تفصيلا بشكل ما للآيات الأولى من سورة البقرة: سواء في ذلك قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فسورة الطور تناقش الذين لا يهتدون بكتاب الله: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ. - أو قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فسورة الطور تبين عذاب المكذبين، وتناقشهم، وتبين أن كل النعيم الذي يناله المتقون هم وذرياتهم بسبب الإيمان.

- أو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. فسورة الطور تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر، وهو الذي أنزل عليه القرآن فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ* أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ* أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ* أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ... ، وتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن أن يقابل مواقف الكافرين والمكذبين: فَذَرْهُمْ ... وَاصْبِرْ .... - أو قوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. فسورة الطور تذكر أن سبب النجاة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. - أو قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فسورة الطور تبين مظاهر فلاحهم، وأي فلاح أكبر من الفوز بالجنة، والخلاص من النار. وكما أن سورة الطور تفصل بشكل رئيسي في الآيات الأولى لمقدمة سورة البقرة، فهي تفصل في ارتباطات هذه الآيات وفي امتداداتها. فالسور الثلاث: الذاريات، والطور، والنجم، تفصل بشكل رئيسي في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، وسورة القمر بعد ذلك تفصل بشكل رئيسي في الآيتين السادسة والسابعة من مقدمة سورة البقرة، ولكن كلا من هذه السور تفصل في ارتباطات محورها وفي امتداداته، ولذلك فإن كلا من السور الأربع تتحدث عن الكافرين والمتقين، كما أن السور الثلاث فيها أوامر بالعبادة التي هي إحدى المعاني البارزة في المقطع الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة. ... ولقد قلنا من قبل إن السورة وهي تفصل في محورها، تشد إلى هذا المحور من معاني سورة البقرة ما هو ألصق به، أو ما هو الألصق بمعنى من معانيه، فمع رؤيتنا سورا كثيرة تفصل في محور واحد، ففي كل مرة نجد تفصيلا جديدا، ونجد ربطا للمحور على طريقة جديدة. ... ومع أن لسورة الطور سياقها، ومع أنها تفصل في محورها، فإن لها صلاتها بما قبلها وما بعدها، وخاصة في أواخر السورة التي سبقتها، فالملاحظ أن سورة

الذاريات ختمت بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ بينما نجد سورة الطور مبدوءة بالكلام عن عذاب الله الواقع بالكافرين: وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ* إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ* يَوْمَ ... فنهاية سورة الذاريات تذكر الويل للكافرين من اليوم الموعود، وبداية سورة الطور فيها قسم على وقوع هذا اليوم، وهي في الوقت نفسه تذكر الويل: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ* يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً* فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ* يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا* هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ* أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ لاحظ قوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هذا وتذكر أنه في أواخر سورة الذاريات جاء قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وها هي ذي سورة الطور فيها: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. ... إن هذا المظهر من مظاهر التكامل بين سور القرآن، وهو مظهر من مظاهر وحدة المجموعة الواحدة من سور القسم، والأمر أوسع من هذا بكثير، إنه القرآن الذي لا تنقضي عجائبه. هذا وتتألف سورة الطور من ثلاث مجموعات وسنعرض كل مجموعة على حدة. ***

المجموعة الأولى من سورة الطور

المجموعة الأولى من سورة الطور وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (16) وهي مقدمة السورة وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52): الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) التفسير: وَالطُّورِ قال ابن كثير: (هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى ... وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا، وإنما يقال له جبل) وهل المراد به هنا جبل بعينه؟ قال النسفي: (هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بمدين). وَكِتابٍ مَسْطُورٍ قال ابن كثير: (قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا، ولهذا قال تعالى: فِي رَقٍّ قال النسفي: هو الصحيفة، أو الجلد الذي يكتب فيه مَنْشُورٍ أي: مفتوح لا ختم عليه، أو لائح لا خفاء فيه، لأنه لا باطل فيه، ولا يخشى أن يكتشف فيه الباطل حتى يكتم، أو يخفى، فلا ينشر وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ قال النسفي: (وهو بيت في السماء حيال الكعبة، وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة ... وقيل الكعبة لكونها معمورة بالحجاج

[سورة الطور (52): آية 5]

والعمار) ولنا عودة إلى الموضوع في الفوائد. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ قال النسفي: أي السماء أو العرش وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي: المملوء، أو الموقد، قال ابن كثير: (وقال قتادة: المسجور: المملوء واختاره ابن جرير) ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الفوائد إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه، أي لواقع بالكافرين، أي لنازل بهم ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي: لا يمنعه مانع قال ابن كثير: (أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك) فصار معنى الآيتين: إن عذاب ربك لواقع غير مدفوع، ثم بين متى يكون ذلك فقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي: تضطرب اضطرابا شديدا. قال النسفي: (أي تدور كالرحى مضطربة) ولنا عودة إلى هذا في الفوائد وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً قال النسفي: (أي في الهواء كالسحاب؛ لأنها تصير هباء منثورا) وقال ابن كثير: أي تذهب فتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال ابن كثير: أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي: الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل والكذب يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا قال ابن كثير: أي يوقفون ويساقون إلى نار جهنم دفعا، قال النسفي: والدع الدفع العنيف هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي: في الدنيا، قال ابن كثير: أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا أَفَسِحْرٌ هذا كما كنتم تقولون عنه في الدنيا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه وهو النار، كما كنتم عميا عن خبر الوحي في الدنيا، وهذا تقريع وتوبيخ اصْلَوْها قال ابن كثير: أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي: سواء عليكم الأمران الصبر وعدمه، قال ابن كثير: (أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها، أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها، ولا خلاص لكم منها) وعلل لاستواء الصبر وعدمه بقوله إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: أي ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله، وعلل النسفي لاستواء الحالين بقوله: (لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء، ولا عاقبة له، ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع). كلمة في السياق: ما مر معنا هو مقدمة السورة التي أنذرت الكافرين المكذبين باليوم الآخر

المجموعة الثانية

واستعملت لهذا الإنذار أشد أنواع التوكيد، وذلك لإيجاد الاستعداد للتقوى، ومن ثم تأتي المجموعة الثانية لتتحدث عن المتقين. المجموعة الثانية وتمتد من الآية (17) إلى نهاية الآية (28) وهذه هي: [سورة الطور (52): الآيات 17 الى 28] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) التفسير: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ وهذا ضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال ابن كثير: (أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك) وقال

[سورة الطور (52): آية 19]

النسفي: (أي متلذذين بما آتاهم ربهم) وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ قال ابن كثير: (أي وقد نجاهم من عذاب النار وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها، مع ما أضيف إليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ويقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا، وهو الذي لا تنغيص فيه مُتَّكِئِينَ أي: في حال أكلهم وشربهم عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ قال النسفي: أي موصول بعضها ببعض. قال ابن كثير: أي وجوه بعضهم إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي: وقرناهم بحور عظام الأعين حسانها. قال ابن كثير: (أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حسانا من الحور العين) والحور: جمع حوراء، والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين حسنتها وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ أي: أولادهم بِإِيمانٍ هذا شرط، أما بدون الإيمان فليس إلا النار أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي: يلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء وَما أَلَتْناهُمْ أي: وما نقصناهم مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي: من ثواب عملهم من شئ، قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك). كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي: مرهون، فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به، قال ابن كثير: أي: (مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبا أو ابنا)، قال ابن كثير: (لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد) وَأَمْدَدْناهُمْ أي: وزودناهم في وقت بعد وقت بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وإن لم يقترحوا، قال ابن كثير: (أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى، مما يستطاب ويشتهى) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي: خمرا أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم، بتناول هذا الكأس من يد هذا، وهذا من يد هذا لا لَغْوٌ فِيها أي: في شربها وَلا تَأْثِيمٌ قال ابن كثير: (أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم، أي فحش،

[سورة الطور (52): آية 24]

كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا)، وقال النسفي: (أي لا يجري بينهم ما يلغي، يعني: لا يجري بينهم باطل، ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف، من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ أي: مملوكون لَهُمْ أي: مخصوصون بهم كَأَنَّهُمْ من بياضهم وصفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي: محفوظ في الصدف؛ لأنه رطب أحسن وأصفى، أو مخزون؛ لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة، قال ابن كثير: (هذا إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم، وحسن ملابسهم) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي: يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله، قال ابن كثير: (أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي: إنا كنا في الدنيا في أهلنا أرقاء القلوب من خشية الله، أو خائفين من نزع الإيمان، وفوت الأمان، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات، قال ابن كثير: (أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرحمة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ السموم في الأصل: هي الريح الحارة التي تدخل المسام، فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه، يعنون في الدنيا نَدْعُوهُ قال النسفي: (أي نعبده ولا نعبد غيره)، وقال ابن كثير: (أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤلنا) إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي: المحسن الرَّحِيمُ أي: العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب، وإذا سئل أجاب. وبهذا انتهت المجموعة الثانية. كلمة في السياق: 1 - في المجموعة الأولى عرض الله عزّ وجل علينا حال الكافرين في الدنيا: التكذيب، والخوض، واللعب، وفي المجموعة الثانية عرض الله عزّ وجل علينا حال المتقين في الدنيا: الإشفاق من عذاب الله، والعبادة لله، والدعاء له، وفي المجموعة الأولى عرض الله ما أعده للكافرين من عذاب، وفي المجموعة الثانية عرض الله عزّ وجل ما أعده لأهل التقوى من ثواب وجزاء.

المجموعة الثالثة

2 - نلاحظ أن سورة الذاريات ذكرت من خصائص المتقين الإحسان، وقيام الليل، والاستغفار في الأسحار، والإنفاق في سبيل الله، وفي سورة الطور عرضت السورة من خصائص المتقين الإشفاق من عذاب الله، والدعاء. والإشفاق من عذاب الله أثر عن الإيمان بالغيب، وهكذا نجد سورة الطور تفصل في محور السورة من سورة البقرة بشكل يكمل تفصيل سورة الذاريات. 3 - بعد عرض ما للكافرين من عذاب، وما للمتقين من ثواب، وأسباب ذلك، تأتي الآن مجموعة ثالثة تطالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير والصبر والتسبيح، وفي المجموعة مناقشة شاملة للكافرين الذين يتنكبون طريق التقوى، فيكذبون ويخوضون ويلعبون ويرتابون، فلنر المجموعة الثالثة والأخيرة في السورة. *** المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (29) إلى نهاية الآية (49) أي: إلى نهاية السورة وهذه هي: [سورة الطور (52): الآيات 29 الى 49] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)

ملاحظة في السياق

ملاحظة في السياق: 1 - نلاحظ أن المجموعة تتوجه بالخطاب إلى الذي أنزل عليه القرآن، فتأمره بالتذكير، وتنفي عنه التهم، وتناقش الكافرين مناقشة شاملة، ثم تأمره بعد إقامة الحجة بالصبر، والتسبيح بحمد الله، وصلة ذلك بمجموعتي السورة السابقتين واضحة، فهي مناقشة للمكذبين، وتثبيت للمتقين. 2 - تبدأ المجموعة بقوله تعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ... فلننتبه إلى ما يلي: استقر القسم الثالث من أقسام القرآن على قوله تعالى في سورة (ق) فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وفي سورة الذاريات جاء قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وفي سورة الطور يأتي قوله تعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ... ثم تأتي المناقشة الشاملة، ومن هذا التكامل نرى الصلات المتشابكة بين السور المتعاقبة، فبعد أن بينت سورة (ق) من يستأهل التذكير، وبينت سورة الذاريات انتفاع المؤمنين به، تأتي سورة الطور لتأمر بالتذكير، وتعلم طريق إقامة الحجة، وذلك يفيد أنه لا بد من إقامة الحجة على الكافرين، وهذا مظهر من مظاهر التكامل بين سور القرآن. 3 - قلنا إن السور الثلاث (الذاريات، والطور، والنجم) تفصل في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، التي مضمونها التقوى، وقد رأينا كيف أن سورة

التفسير

الذاريات أعطتنا في التقوى تفصيلا، وجاءت سورة الطور فأعطتنا تفصيلا، وستأتي سورة النجم لتعطينا تفصيلا، ومع التفصيل فإن سياق السور الثلاث يربي على التقوى بالمواعظ، وإقامة الحجة، ويهدم كل ما يحول دونها. 4 - في سورة الطور عرض الله عزّ وجل علينا حال الكافرين يوم القيامة فكان في ذلك ترهيب يدفع نحو التقوى، ثم كان في المجموعة الثانية ترغيب يدفع نحو التقوى، وتأتي المجموعة الثالثة لتهدم كل تكأة يتّكأ عليها الكافرون في هروبهم من التقوى، ولتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبغي فعله للتحقق بالتقوى، وما ينبغي فعله في مقابل مواقف الكافرين. 5 - في الآيات الخمس الأولى من مقدمة سورة البقرة نجد خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والملاحظ أن الخطاب في المجموعة الثالثة يتوجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ثم يسير السياق ليقول: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ لاحظ الصلة بين الآيات وآية المحور. التفسير: فَذَكِّرْ قال النسفي: (أي فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم)، وقال ابن كثير: يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي: برحمته إياك وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ كما زعموا أي لست- بحمد الله- بكاهن كما يتقول الجهلة من الكفار، والكاهن: هو الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من جند السماء، ولا بمجنون: وهو الفاقد العقل. والكهانة والصرع هما التفسيران اللذان يفسر بهما الكافرون ظاهرة الوحي وما يرافقها، وهو تفسير مردود علميا وعقليا؛ فالكهانة لا يصدر عنها مثل هذا القرآن، والصرع ظاهرة مرضية لا يرافقها انبثاق نص كالنص القرآني، وأنواع المجنون الأخرى وغيبوباتها كلها ظواهر مرضية، لا ينبثق عنها ما كان يترتب على ظاهرة الوحي من معان من شأن الغيوب، والهداية، والعلوم والقرآن، ولكون ما قالوه ظاهر البطلان فقد نفاه النص القرآني دون أن يتوقف عنده؛ مما يشير إلى أنه لا يحتاج إلى تدليل. ولما كان التفسير الثالث لظاهرة القرآن عند الكافرين هو أن

[سورة الطور (52): آية 30]

يكون محمد صلى الله عليه وسلم شاعرا متقولا على الله فإن الآية اللاحقة تتحدث عن ذلك أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي: حوادث الدهر، أي ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، قال ابن كثير: (والمنون: الموت، يقولون: ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه). ملاحظة: يلاحظ أن الحرف (أم) يتكرر إحدى عشرة مرة في هذه المجموعة، وهو يفيد كما قال النسفي: (وأم في أوائل هذه الآيات منقطعة بمعنى بل والهمزة) فهي تعرض أقوالهم بصيغة فيها إنكار عليهم، وتكاد تكون الآيات مستقصية لكل أقوال الكافرين قديما وحديثا، ولمواقفهم وتصوراتهم التي تصرفهم عن الإيمان. ... ولنعد إلى السياق: فبعد أن ذكر الله عزّ وجل تربصهم الموت برسوله صلى الله عليه وسلم رد عليهم بقوله: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي: فإني أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، قال ابن كثير: في الآية: (أي انتظروا فإني منتظر معكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة) ثم قال تعالى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي: عقولهم بِهذا أي: بهذا القول المتناقض، وهو قولهم: كاهن ومجنون وشاعر، قال ابن كثير: أي أعقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي: بل هم قوم طاغون، أي مجاوزون الحد في العناد، مع ظهور الحق لهم، قال ابن كثير: (أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك) فليست أقوالهم هذه أثرا عن عقل؛ بل هي أثر عن طغيان نفس، ثم جمع الله حصيلة أقوالهم السابقة ورد عليهم بما يهدمها. إن حصيلة أقوالهم السابقة هي أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اختلق القرآن من عند نفسه، ونسبه إلى الله عزّ وجل، والجواب: أن الأمر لو كان كذلك لما صعب على أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، أما والبشر جميعا عاجزون عن ذلك فليس الأمر كما زعموه أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي: اختلقه وافتراه محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، يعنون القرآن، قال تعالى: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ قال ابن كثير: أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة، وقال النسفي: (هذا رد عليهم، أي ليس الأمر كما زعموا بل (لا يؤمنون)، فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع

[سورة الطور (52): آية 34]

علمهم ببطلان قولهم، وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه، وما محمد إلا واحد من العرب) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ أي: مختلق مِثْلِهِ أي: مثل القرآن إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه، لأنه بلسانهم وهم فصحاء، قال ابن كثير: (أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله). ... قال صاحب الظلال: (إن في هذا القرآن سرا خاصا، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها. إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير. وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن. يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا، ولكنه على كل حال موجود. وهذا العنصر الذي ينسكب في الحس، يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم إنها هي وشئ آخر وراءها غير محدود؟!. ذلك سر مودع في كل نص قرآني، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء ... ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله: في التصور الكامل الصحيح الذي ينشئه في الحس والقلب والعقل. وفي الطريقة التي يتبعها القرآن لبناء هذا التصور الكامل الصحيح في الإدراك البشري. وهو يخاطب الفطرة خطابا خاصا غير معهود مثله في كلام البشر أجمعين؛ وهو يقلب القلب من جميع جوانبه ومن جميع مداخله، ويعالجه علاج الخبير بكل زاوية وكل سر فيه. وفي الشمول والتوازن والتناسق بين توجيهاته كلها، والاستواء على أفق واحد فيها كلها. مما لا يعهد إطلاقا في أعمال البشر التي لا تستقر على حال واحدة، ولا تستقيم على مستوى واحد، ولا تحيط هكذا بجميع الجوانب، ولا تملك التوازن المطلق الذي لا زيادة فيه ولا نقص، ولا تفريط فيه ولا إفراط، والتناسق المطلق الذي لا تعارض

[سورة الطور (52): آية 35]

فيه ولا تصادم سواء في ذلك الأصول والفروع. فهذه الظواهر المدركة ... وأمثالها ... مع ذلك السر الخافي الذي لا سبيل إلى إنكاره ... مما يسبغ على هذا الكتاب سمة الإعجاز المطلق في جميع العصور. وهي مسألة لا يماري فيها إنسان يحترم حسه، ويحترم نفسه، ويحترم الحقيقة التي تطالعه بقوة وعمق ووضوح، حيثما واجه هذا القرآن بقلب سليم ... فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ). ... رأينا أن الأقوال السابقة للكافرين في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، سببها الطغيان والكفر، وإذ يتقرر هذا يعرض الله عزّ وجل بقية أقوالهم ومواقفهم التي هي كفر وأثر عن الطغيان، ومن ثم يختم عرض هذه الأقوال بقوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ مما يفيد أن كفرهم قد وصل إلى حد نسيان الله حتى في حالة معاينة العذاب، فهم لا يرون في ذلك إلا ظاهرة من ظواهر الكون، وقد عرض الله عزّ وجل هذه الأقوال بصيغة الإنكار عليهم؛ مما يدل على بطلانها بديهة. ... أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ قال ابن كثير: (أي أوجدوا من غير موجد، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا)، وقال النسفي: (أي أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم من غير شئ، أي من غير مقدر؟ أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق، وقيل أخلقوا من أجل لا شئ فلا جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فهم الأرباب، ومن ثم فلا يعبدون خالقهما بَلْ لا يُوقِنُونَ هذه هي علة مواقفهم أنهم لا يتدبرون فيصلون إلى اليقين، فيبنون عليه البناء الصحيح. ... قال ابن كثير بين يدي هاتين الآيتين: (هذا المقام في إثبات الربوبية، وتوحيد الألوهية).

[سورة الطور (52): آية 37]

أقول: وفي ختم الآيتين السابقتين بقوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ التي تشير من خلال اتجاهنا في هذا التفسير إلى قوله تعالى في محور السورة وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ نفهم أن الموضوع مرتبط بقضية اليوم الآخر، فإن عدم يقينهم باليوم الآخر أو أوصلهم إلى مواقف تجعلهم يقولون إنهم خلقوا من غير شئ، أو هم الخالقون لأنفسهم، أو الخالقون للسماوات والأرض، ومن ثم يتكبرون عن العبادة والتقوى، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعاملون ويتكلمون كأنهم أرباب، وهذا الذي نراه في عصرنا على أشده، إذ نرى الإنسان الكافر يعتبر نفسه غير مكلف، وغير مسئول أمام الله، ويتعامل ويتكلم كأنه رب، وفي قوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ إشارة إلى أن هؤلاء عندهم ريب، وهذا يحول بينهم وبين التقوى، إذ شرط التقوى عدم الريب في أمور بعينها، كما ورد في المحور: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ولنعد إلى السياق: ... أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ قال النسفي: (أي) من النبوة والرزق وغيرهما؛ فيخصوا من شاءوا بما شاءوا. وقال ابن كثير: أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن. أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ قال النسفي: (أي) الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على مشيئتهم، وقال ابن كثير: (أي المحاسبون للخلائق، ليس الأمر كذلك؛ بل الله عزّ وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد). أقول: وعلى هذا فالآية فيها إنكار على اعتراضهم على الله، واستغنائهم عنه وادعائهم العملي أو النظري أنهم أرباب- وهو محور الفلسفة الوجودية في عصرنا- وإذا كان الأمر في كل ما مر ليس كما قالوا، وإذ كانوا هم أنفسهم لا يجرءون أن يدعوا ذلك دعوى نظرية كلامية، فلم يبق لانصرافهم عن التقوى والعبادة مبرر، فهل لهم مبررات أخرى؟ وإذا كانت فما هي؟ هذا ما ستذكره الآيات اللاحقة: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ منصوب يرتقون به إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ كلام الملائكة، وما يوحى إليهم من علم الغيب؛ فيتصرفون بناء على ذلك على خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب وحي آخر عن الله فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي:

[سورة الطور (52): آية 39]

بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم، فإذا لم يكن ذلك موجودا فما عليهم إلا أن يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن، قال ابن كثير في الآية: (أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، وليس لهم سبيل إلى ذلك، فليسوا على شئ ولا لهم دليل)، ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، وجعلهم الملائكة إناثا، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث ... أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ قال النسفي: سفه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون، وهم حكماء عند أنفسهم. أقول: في ذكر هذا المعنى هنا تدليل على فساد اتجاهاتهم المنكرة، التي لا أصول لها من عقل أو نقل، وفي ذلك ردع لهم لينزجروا عما هم فيه، ويقبلوا على ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقوى وعبادة، ثم قال تعالى: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على التبليغ والإنذار فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ فزهدهم ذلك في اتباعك، وإذ كنت لا تسألهم أجرا على الهداية، فأي حجة لهم في انصرافهم؟ قال النسفي: (المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه)، والمثقل: هو من يحمل ما يشق عليه أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ قال النسفي: أي اللوح المحفوظ. فَهُمْ يَكْتُبُونَ قال النسفي: (أي ما فيه حتى يقولوا لا نبعث، وإن بعثنا لم نعذب) أي وبالتالي فهم لا يعملون للآخرة أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً قال ابن كثير: يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الدين غرور الناس، وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي: هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم، ويحيق بهم مكرهم ... أو هم المغلوبون في الكيد، أي إذا كان مجرد الكيد هو السبب في مواقفهم فحتى هذا سيعود وباله عليهم، فما فائدة سيرهم في طريقهم وتنكبهم عن طريق التقوى؟ أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ قال النسفي: (أي يمنعهم من عذاب الله) قال ابن كثير: وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ قال ابن كثير: (نزه الله عزّ وجل نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون) ثم قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً أي: قطعة مِنَ السَّماءِ ساقِطاً عليهم يعذبون به يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ أي: ركم بعضه على بعض، فهو متراكم قال النسفي: يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب مركوم يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب، قال ابن كثير: (وهذا كقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا

[سورة الطور (52): الآيات 45 إلى 46]

بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أقول: وهذا يفيد أنهم وصلوا إلى درجة من الطغيان والكفران ما عادوا معه ينتفعون بشيء، ومن ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَذَرْهُمْ قال ابن كثير: أي دعهم يا محمد حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ وذلك يوم القيامة، عند النفخة الأولى، نفخة الصعق يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: لهؤلاء الكافرين المشركين عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي: قبل ذلك في الدار الدنيا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قال ابن كثير: (أي: نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب؛ لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم؛ بل إذا جلي عنهم عادوا إلى أسوأ مما كانوا، كما جاء في بعض الأحاديث: «إن المنافق إذا مرض وعوفي، مثله في ذلك كمثل البعير لا يدري فيما عقلوه، ولا فيما أرسلوه» وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني. قال الله تعالى: يا عبدي، كم أعاقبك وأنت لا تدري). كلمة في السياق: رأينا أن المجموعة الأولى في السورة تحدثت عن ما أعد الله من عذاب للكافرين، وأن المجموعة الثانية تحدثت عن المتقين وعما أعد الله لهم، وجاءت المجموعة الثالثة فأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير، وبينت له معالم إقامة الحجة، ثم تأتي بعد ذلك أوامر معطوفة على الأمر بالتذكير، مما يشير إلى أن التذكير ينبغي أن ترافقه معان بعينها. بدأت المجموعة بقوله تعالى: فَذَكِّرْ والآن يأتي قوله تعالى: وَاصْبِرْ ... فلنر ذلك: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ قال النسفي: (أي بإمهالهم وبما يلحقك فيه من المشقة) فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي: برعايتنا، قال النسفي: أي بحيث نراك ونكلؤك. وقال ابن كثير: (أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس). قال صاحب الظلال في قوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا: (ويا له من تعبير! ويا له من تصوير! ويا له من تقدير! إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان. هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله. حتى بين التعبيرات المشابهة.

[سورة الطور (52): آية 49]

لقد قيل لموسى عليه السلام: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى ... وقيل له: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ... وقيل له: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. وكلها تعبيرات تدل على مقامات رفيعة. ولكنه قيل لمحمد- صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وهو تعبير فيه إعزاز خاص، وأنس خاص. وهو يلقي ظلا فريدا أرق وأشف من كل ظل ... ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص. فحسبنا أن نشير إلى ظلاله، وأن نعيش في هذه الظلال). ... وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: للصلاة، أو من أي مكان قمت، أو من منامك وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قال ابن كثير: أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي: وإذا أدبرت النجوم آخر الليل فسبحه قال النسفي: (أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت) والمراد أن يقول: سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات، وقيل التسبيح: الصلاة إذا قام من نومه وَمِنَ اللَّيْلِ صلاة العشاءين وَإِدْبارَ النُّجُومِ صلاة الفجر. كلمة في السياق: 1 - دلت الآيتان الأخيرتان بسبب كونهما معطوفتين على قوله تعالى: فَذَكِّرْ على أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر وعبادة، وخص بالذكر التسبيح بحمد الله في الصلاة وغيرها، لما يتركه ذلك في النفس من تسليم، والملاحظ أن الذين يشتغلون بالدعوة إلى الله دون أن تكون لهم أورادهم لا يستطيعون الاستمرار، وإذا استمروا فإنتاجهم قليل، فلا بد أن يجتمع للداعية التذكير والصبر والعبادة. 2 - نلاحظ أن السورة تألفت من ثلاث مجموعات واضحة التمايز، وواضحة الصلات، وكلها تخدم قضية التقوى، التي هي المضمون الرئيسي لمحور السورة من سورة البقرة. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لتفسير سورة الطور بما يلي: (قال مالك: عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه. أخرجاه من طريق مالك، وروى البخاري عن زينب

بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ قال ابن كثير: (ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته السماء السابعة: «ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم» يعني: يتعبدون فيه، ويطوفون به، كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، ولهذا وجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور، لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة والله أعلم. وروى ابن جرير عن خالد ابن عرعرة أن رجلا قال لعلي: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدا. وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري، وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ثم رواه ابن جرير عن عاصم عن علي ابن ربيعة قال: سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور؟ قال: مسجد في السماء يقال له الضراح، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا. ورواه من حديث أبي الطفيل عن علي بمثله. وقال العوفي عن ابن عباس: هو بيت حذاء العرش، تعمره الملائكة يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون إليه. وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف. وقال قتادة والربيع بن أنس والسدي: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «هل تدرون ما البيت المعمور؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قال ابن كثير: (وقال الجمهور هو هذا البحر، واختلف في معنى قوله: المسجور فقال بعضهم: المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا كقوله: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي: أضرمت فتصير نارا تتأجج، محيطة بأهل الموقف. ورواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب، وروي

عن ابن عباس، وبه يقول سعيد بن جبير ومجاهد وعبيد الله بن عمير وغيرهم، وقال العلاء ابن بدر: إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء، ولا يسقى به زرع، وكذلك البحار يوم القيامة، كذا رواه عنه ابن أبي حاتم، وعن سعيد بن جبير وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ يعني: المرسل، وقال قتادة: المسجور المملوء، واختاره ابن جرير، ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء، وقيل المراد به الفارغ). أقول: قوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ يفسره قوله تعالى في سورة التكوير وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وكلام بعض المفسرين يدل على أن ذلك يكون قبيل نفخة الصعق، وإنما ذكرت هذا لأن كلام ابن كثير هنا في قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ يوحي بأن هذا التسجير سيكون في الموقف، فأردت أن أبين أن هذه القضية خلافية بين المفسرين، ومن ثم فالقسم بالبحر المسجور إما أن يكون به حاليا إذ هو مملوء ماء، أو بالبحر إذ تحدث له حالة قبيل يوم القيامة فيصبح نارا تتأجج. 4 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ قال ابن كثير: (قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا: خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ وَالطُّورِ حتى بلغ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليا ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه، وروى الإمام أبو عبيد في فضائل القرآن عن الحسن أن عمر قرأ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فربا لها ربوة أعيد منها عشرين يوما). 5 - بمناسبة قوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ قال صاحب الظلال: (وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة، وتصوراتهم المهلهلة؛ وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة، وهي لعب لا جد فيه، لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء، غير قاصد إلى شاطئ أو هدف، سوى الخوض واللعب! ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي ... وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة

- سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم- في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله ... إن سائر التصورات- حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني- تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة. تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي- وبخاصة في القرآن- عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا. يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد؛ لأنه يطالعها بالحقيقة الأصلية العميقة فيها، ويفسر لها الوجود وعلاقتها به، كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه. وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة؛ وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه وهم يحاولون تفسير هذا الوجود وارتباطاته؛ كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة ... وأمامي التصور القرآني يبدو واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا، لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء. وهذا طبيعي، فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته ... أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله. والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة! إنه عبث، وخلط، وخوض، حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة المطابقة، التي يعرضها القرآن على الناس، فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة. المستحيلة الاكتمال والنضوج!). 6 - بمناسبة قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ قال ابن كثير: (وقال ابن أبي حاتم حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه». وعن ثابت قال: بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه، وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن من قبل ذلك فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ... قال ابن كثير: (روى الثوري عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم

عينه ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به، وكذا رواه ابن جرير، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا فذكره ثم قال: وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفا. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا. وروى الحافظ الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فقال: إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به» وقرأ ابن عباس: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ... الآية. وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية يقول: والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة وأولادهم الصغار تلحق بهم، وهذا راجع إلى التفسير الأول، فإن ذلك مفسر أصرح من هذا، وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد، وهو اختيار ابن جرير). 8 - بمناسبة قوله تعالى عن خمر الآخرة: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ... قال ابن كثير: (قال ابن عباس: اللغو: الباطل، والتأثيم: الكذب. وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون، وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها كما تقدم، فنفى عنها صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة، المتضمن هذيانا وفحشا، وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها فقال: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ* لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ وقال هاهنا: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ. 9 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ... إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن مسروق عن عائشة أنها قرأت

هذه الآية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فقالت: اللهم من علينا وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش: في الصلاة؟ قال: نعم). 10 - بمناسبة قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قال ابن كثير: (روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنه: إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق، وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). 11 - عند قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ قال ابن كثير: (روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟ كاد قلبي أن يطير، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به، وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركا، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك). 12 - بمناسبة قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال ابن كثير: (وسبح بحمد ربك، قال الضحاك: أي إلى الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما، وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال رب اغفر لي- أو قال ثم دعا- استجيب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» وأخرجه البخاري في

صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد ابن مسلم به، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال: من كل مجلس، وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال: إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك. وروى ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيرا، وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له، وروى عبد الرزاق في جامعه عن أبي عثمان الفقير أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. قال معمر: وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس، وهذا مرسل وقد وردت أحاديث مسندة من طرق يقوي بعضها بعضا بذلك، فمن ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك» رواه الترمذي وهذا لفظه، والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: إسناده على شرط مسلم إلا أن البخاري علله. قلت: علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم، ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ورواه أبو داود واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج ابن دينار عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى، قال: «كفارة لما يكون في المجلس» وقد روي مرسلا عن أبي العالية فالله أعلم، وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء، وروي مرسلا أيضا فالله أعلم. وكذا رواه أبو داود عن عبد الله ابن عمرو أنه قال: «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم بهن كما يختم بالخاتم: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من

كلمة أخيرة في سورة الطور

حديث أم المؤمنين عائشة وصححه ومن رواية ابن مطعم، ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم). 13 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِدْبارَ النُّجُومِ قال ابن كثير: (قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سبلان عن أبي هريرة مرفوعا «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» يعني ركعتي الفجر رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب أحمد القول بوجوبهما وهو ضعيف لحديث «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرهما؟ قال: «لا إلا أن تطوع» وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر، وفي لفظ لمسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»). كلمة أخيرة في سورة الطور: 1 - ذكرت سورة الطور صفتين من صفات المتقين هما: الإشفاق من عذاب الله، والدعاء، وذلك نوع تفصيل لمحورها من سورة البقرة. 2 - أمرت سورة الطور رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي أنزل عليه القرآن بالتذكير، والصبر، والتسبيح، وبذلك نعرف أن بناء التقوى يحتاج إلى دعوة وإقامة حجة، كما يحتاج من الداعية إلى صبر وعبادة، ولذلك صلة بالمحور. 3 - وقد رأينا من قبل صلة أواخر سورة الذاريات ببداية سورة الطور، والملاحظ أن سورة الطور تنتهي بذكر النجوم وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ وأن سورة النجم تبدأ بقوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، والمجموعة الثالثة من سورة الطور تتوجه بالخطاب للنذير فَذَكِّرْ وَاصْبِرْ وَسَبِّحْ وتأتي سورة النجم لتعمق الثقة بالنذير وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى فالصلات بين سورة الطور وما قبلها وما بعدها قائمة. 4 - ومع هذا كله فإن لسورة الطور وحدتها وسياقها الخاص، فقد تحدثت السورة في مجموعتيها الأولى والثانية، عما أعده الله للكافرين والمتقين، ثم أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذكر ليقيم الحجة على الكافرين، ولينير الطريق للمتقين، ولما كان

التذكير يحتاج إلى صبر وإلى تسبيح فقد انتهت السورة بالأمر بذلك. 5 - قلنا: إن السور الثلاث: الذاريات والطور والنجم كلها تفصل في محور واحد، وسنرى كيف أن كلا منها قد فصل بما يكمل تفصيل الآخرين، وقد أشرنا عدة إشارات إلى الصلات بين سورة الذاريات والطور، وهاهنا نضيف: لقد وردت في سورة الذاريات: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ فالكافرون أقوالهم مختلفة، متناقضة، وبسبب هذه الأقوال فإن المصروفين يصرفون عن الحق، والملاحظ أن سورة الطور فصلت في أقوالهم المتناقضة التي بسببها يصرف المصروفون عن الحق: وهي الزعم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم كاهن، أو مجنون، أو شاعر، فهذه اتجاهات متناقضة، وكل منها يصرف بسببه عن الإيمان بعض الناس، وهناك آخرون يرون لأنفسهم عقولا يطغون بسببها، فهذا وضع آخر يصرف بسببه المصرفون، وهناك ناس يزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه، وبسبب ذلك يصرفون عن الحق، وهناك آخرون غافلون عمن خلقهم وعمن خلق الخلق، وبعضهم لا يرى أن لهذا الكون خالقا، فبسبب ذلك يصرفون عن الحق، وهناك آخرون غافلون عن العناية المحيطة بهم فبسبب ذلك يصرفون عن الحق، وهناك ناس تعميهم السيطرة والسلطان فيصرفون بسبب ذلك عن الحق، وهناك ناس يصرفون عن الحق بسبب غفلتهم عن الوحي، وهناك ناس يصرفون عن الحق بسبب تصورات خاطئة في موضوع الألوهية، وهناك ناس يصرفون عن الحق بسبب الحقد والكيد للإسلام وأهله، كل ذلك ذكر في سورة الطور، وله صلة بما ذكر في سورة الذاريات، ولكنه جاء في سياق سورة الطور، ليقيم الحجة على كل أصناف الكافرين، وجاء بصيغة التذكير انسجاما مع السياق فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ* أَمْ يَقُولُونَ ... أَمْ تَأْمُرُهُمْ .... ... فالتكامل بين سور المجموعة قائم، وسيتضح معنا هذا الموضوع كلما سرنا في عرض سور المجموعة، فلنر سورة النجم. ***

سورة النجم

سورة النجم وهي السورة الثالثة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الأولى من قسم المفصل وآياتها اثنتان وستون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة النجم

[قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة النجم:] قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة النجم: (هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية، منغمة، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة. ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة، ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع؛ وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه، إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني، مثل ذلك قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ... فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن. ولو قال: ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية. ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة. ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة. ومثلها كلمة (إذن) في وزن الآيتين بعدها: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى! فكلمة (إذن) ضرورية للوزن. وإن كانت- مع هذا- تؤدي غرضا فنيا في العبارة ... وهكذا). كلمة في سورة النجم ومحورها: في سورة الذاريات ورد قوله تعالى في وصف المتقين: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ* كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وفي سورة الطور ورد قوله تعالى في وصف المتقين: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ وفي سورة النجم يرد قوله تعالى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ثم يأتي قوله تعالى معرفا المحسنين: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى. في السورتين السابقتين ذكر ما عليه المتقون، وفي سورة النجم يذكر ما يجتنبه المتقون، وفي ذلك مظهر من مظاهر التكامل بين السور الثلاث التي تفصل في محور واحد، ونلاحظ أن ما فصلته سورة الذاريات في قضية المتقين عرضته بما يربي عليه، وما فصلته سورة الطور عرضته بما يحقق فيه، وما تفصله سورة النجم تعرضه بما يدفع نحوه، والمحور واحد، وكل سورة تضيف إلى البناء شيئا جديدا، وتضعه ضمن سياق يحمل عليه ويحقق فيه.

لقد رأينا سورة (طه) من قبل، ورأينا أن محورها هو الآيات الأولى من سورة البقرة وهو نفسه محور سورة النجم والسورتين قبلها، ولذلك فإننا نجد معاني مشتركة بين سورة (طه) وسورة (النجم)، ففي سورة (طه) يحدثنا الله عزّ وجل عن موسى بقوله: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وفي سورة النجم يحدثنا الله عزّ وجل عن محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وتختتم سورة (طه) بقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى وفي سورة النجم يرد قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى. ... ورأينا سورة الروم من قبل، ورأينا أن محورها كذلك هو الآيات الأولى من سورة البقرة فهو محور سورة النجم نفسه، ونلاحظ أن هناك معاني مشتركة بين سورة الروم وسورة النجم، ومن ذلك أننا نرى في سورة الروم قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ونجد في سورة النجم قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا* ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... وهذا كله يؤكد أن محور سورة النجم هو الآيات الأولى من البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ... ونلاحظ أن السور الثلاث: الذاريات والطور والنجم كل منها تحدث عن شئ من عالم الغيب، وكل منها تحدث عن اليوم الآخر، والسورتان الأخيرتان ناقشتا الكافرين نقاشا طويلا، رأينا ذلك في سورة الطور، وسنراه في سورة النجم، وذلك مظهر من مظاهر التكامل في السور الثلاث، ومظهر من مظاهر الارتباط بالمحور، لأن الإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر من أركان التقوى، ومن أمهات ما ذكر في آيات سورة البقرة الأولى.

المجموعة الأولى وهي مقدمة السورة

تتألف سورة النجم من ثلاث مجموعات واضحة المعالم: المجموعة الأولى وتمتد حتى نهاية الآية (18). المجموعة الثانية وتمتد حتى نهاية الآية (32). المجموعة الثالثة وتمتد حتى نهاية السورة، أي: حتى نهاية الآية (62). فلنر تفسير السورة. ... المجموعة الأولى وهي مقدمة السورة وتمتد حتى نهاية الآية (18) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النجم (53): الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)

التفسير

التفسير: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أي: إذا رمي به الشياطين، أو إذا انفجر فتناثر كما يحدث لبعض النجوم مما سنراه في الفوائد، أو النجم إذا انتثر يوم القيامة ما ضَلَّ عن الحق صاحِبُكُمْ أي: محمد صلى الله عليه وسلم وَما غَوى في اتباع الباطل، قال ابن كثير: (هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد، تابع للحق، ليس بضال، والضال هو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم)، والغاوي: هو العالم بالحق، المنحرف عنه قصدا إلى غيره، فنزه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى، وعن مشابهة اليهود في كونهم يعلمون الشئ ويكتمونه، ويعملون بخلافه، فهو- صلاة الله وسلامه عليه، وما بعثه الله به من الشرع العظيم- في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد، ولهذا قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى قال ابن كثير: (أي ما يقول قولا عن هوى وغرض) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى قال ابن كثير: أي إنما ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان، وقال النسفي: (أي وما آتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي: علم محمدا صلى الله عليه وسلم ملك شديد قواه وهو جبريل عليه السلام عند الجمهور ذُو مِرَّةٍ أي: ذو قوة، أو ذو منظر حسن فَاسْتَوى قال ابن كثير: يعني جبريل، قال النسفي: (أي فاستقام على صورة نفسه الحقيقية ... وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق ... ) ومن ثم قال: وَهُوَ أي: جبريل عليه السلام بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي: أفق السماء ثُمَّ دَنا جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَدَلَّى أي: فزاد في القرب؛ إذ التدلي هو النزول بقرب الشئ فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أي: مقدار قوسين عربيتين، قال ابن كثير: أي فاقترب جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي بقدرهما إذا مدا ... أَوْ أَدْنى أي: أو أقرب على تقديركم قال ابن كثير: (قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ... ) فَأَوْحى جبريل إِلى عَبْدِهِ أي: إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أَوْحى قال النسفي: تفخيم للوحي الذي أوحي إليه ما كَذَبَ الْفُؤادُ أي: فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رَأى أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل، يعني: أنه رآه بعينه، وعرفه بقلبه، ولم يشك في ما رآه أَفَتُمارُونَهُ أي:

[سورة النجم (53): آية 13]

أفتجادلونه عَلى ما يَرى أي: على الذي يراه، قال الألوسي: (أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة) وَلَقَدْ رَآهُ أي ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام نَزْلَةً أُخْرى أي: مرة أخرى أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورته فرآه عليها، والأولى كانت في الأرض، والثانية كانت ليلة المعراج عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى الجمهور على أنها شجرة في السماء السابعة، والمنتهى: بمعنى موضع الانتهاء، أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها، وقيل لم يجاوزها أحد ... وقيل تنتهي إليها أرواح الشهداء عِنْدَها أي: عند السدرة جَنَّةُ الْمَأْوى أي: الجنة التي يصير إليها المتقون، وقيل: تأوي إليها أرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى أي: رأى جبريل إذ يغشى السدرة ما يغشى، قال النسفي: (وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلاله أشياء لا يحيط بها الوصف ... ) قال ابن كثير: قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان لا أدرى ما هي؟ وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال: فراش من ذهب ... وقال ابن كثير: وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبر جدا فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى ربه بقلبه ما زاغَ الْبَصَرُ أي: بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ما ذهب يمينا ولا شمالا، قال النسفي: أي ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها وَما طَغى أي: وما جاوز ما أمر برؤيته. قال ابن كثير: وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي ... لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي لقد رأى من آيات ربه الآيات التي هي كبراها وعظماها حين رقي به إلى السماء، فأري عجائب الملكوت. وبهذا انتهت المجموعة الأولى من السورة وفي الفوائد كلام عن بعض ما اختلف فيه منها. كلمة في السياق: أكدت المجموعة الأولى من السورة- وهي مقدمة السورة- عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوحي، وأمر رؤية الغيب، وأمر السلوك، وأكدت رؤيته لعالم الغيب الذي يدعو إليه، واستهجنت المجموعة أن يجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر يراه، وهو

المجموعة الثانية

الصادق الأمين، الثابت القلب، الثابت البصر، وفي ذلك نفي للتهمة عن الوحي وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأكيد لوجود عالم الغيب، وفي كل ذلك تفصيل للمرتكزات التي تقوم عليها التقوى التي هي إيمان واتباع كتاب، ولذلك صلاته بمحور السورة من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فصلة ما مر من سورة النجم بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ لا تخفى. وبعد أن أكدت المجموعة الأولى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمة الوحي، وأكدت أن مضمون الرسالة حق، واستهجنت أن يمارى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يراه تأتي الآن المجموعة الثانية، لتناقش المشركين في ما هم عليه، وتدعو إلى الالتزام بمضمون رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتبدأ المجموعة بمناقشتهم في أمر اللات والعزى ومناة، وفي قولهم: إن الملائكة بنات الله- تعالى الله عن ذلك-، بعد أن قدمت لذلك بالكلام عن محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رأى من الغيب؛ فرأى الملائكة، ورأى ما رأى من أمر السماء مما أفاد من الابتداء أن قوله هو الحق، وقولهم هو الباطل، لأنه لا يستند إلى رؤية أو علم، بل هو محض الظن، فلنر المجموعة الثانية: ... المجموعة الثانية وتمتد من الآية (19) إلى نهاية الآية (32) وهذه هي: [سورة النجم (53): الآيات 19 الى 32] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

التفسير

التفسير: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ قال ابن كثير: وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف، ومن تابعها يفتخرون بها على من عداهم من أخيار العرب بعد قريش وَالْعُزَّى قال ابن كثير: وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال ابن كثير: وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة المكرمة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة ... قال ابن كثير: (وقد كانت بجزيرة العرب، وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة، التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها) وفي الآية

[سورة النجم (53): آية 21]

تقريع للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام، قال النسفي في تفسير الآية: (أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله عزّ وجل، هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة؟) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي: جائرة. قال النسفي: (كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله، مع وأدهم البنات، وكراهتهم لهن فقيل لهم ذلك) وقال ابن كثير: (أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لأنفسكم الذكور، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت قِسْمَةٌ ضِيزى أي: جورا وباطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟) ثم قال تعالى منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب، والافتراء، والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة إِنْ هِيَ أي: ما الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شئ منها، وأشد منافاة لها سَمَّيْتُمُوها أي: سميتم بها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي: من تلقاء أنفسكم ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: من حجة إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي: إلا توهم أن ما هم عليه حق وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي: وما تشتهيه أنفسهم. قال ابن كثير: أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم ورياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى قال النسفي: أي الرسول والكتاب فتركوه ولم يعملوا به، وقال النسفي: أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به، ولا انقادوا له أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي: أبل للإنسان ما تمنى، والاستفهام للإنكار أي ليس للإنسان ما تمنى. قال ابن كثير: (أي ليس كل من تمنى خيرا حصل له ... ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال، ولا كل من ود شيئا يحصل له) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى قال ابن كثير: أي إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والآخرة، والمتصرف في الدنيا والآخرة، فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) فإذا كان هذا شأن الله، وإذا كان شأن الإنسان العجز عن تحقيق أمنياته فلا ينبغي أن يكون الإنسان إلا عبدا لله وحده وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى قال ابن كثير: (فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين فكيف ترجون- أيها الجاهلون-

[سورة النجم (53): آية 27]

شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها؛ بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهى عن ذلك جميع كتبه؟) وقال النسفي: (يعني أن أمر الشفاعة ضيق، فإن الملائكة مع قربهم وكثرتهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم شيئا قط، ولا تنفع إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلا لأن يشفع له، فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم). إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي: ليسمون كل واحد منهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى لأنهم إذا قالوا: الملائكة بنات الله، فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ قال ابن كثير: أي ليس لهم علم صحيح بصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وفي العقائد لا بد من القطع واليقين وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي: لا يجدي شيئا ولا يقوم أبدا مقام الحق، قال النسفي: أي إنما يعرف الحق الذي هو حقيقة الشئ وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم. كلمة في السياق: نلاحظ في ما مر معنا من المجموعة الثانية أن الله عزّ وجل أقام الحجة على المشركين، وبين أن ما هم فيه مبني على ظن، وأن الظن لا تبنى عليه العقائد، فهدم بذلك كل أساس تقوم عليه العقائد الباطلة وما يبني عليها البانون من تصورات فاسدة، كدعوى أن الملائكة بنات الله، وما بنوا عليه من شفاعة الملائكة لهم؛ لأنهم عبدوهم، وكما أقام الله الحجة على المشركين في دعواهم وما بنوا عليها، بين سبحانه أنه وحده الإله، والرب، والمالك المطلق، والمتصرف المطلق، وبعد أن استقرت هذه المعاني يصدر الله عزّ وجل أمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن هذه شأنه. ... فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي: فأعرض عمن رأيته معرضا عن ذكر الله، أي: القرآن، قال ابن كثير: أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا فهي همه، ومبلغ علمه، وهذا شأن أكثر الخلق ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي: الدنيا وما فيها وشئونها منتهى علمهم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي: هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازيهما، قال ابن كثير: (أي هو الخالق لجميع المخلوقات، والعالم بمصالح عباده،

كلمة في السياق

وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته، وهو العادل الذي لا يجور أبدا، لا في شرعه ولا في قدره). كلمة في السياق: وهكذا عرفنا أن أصل كل شر هو عدم الإيمان بالآخرة، وأن أصل الإعراض عن اتباع كتاب الله هو طلب الدنيا، وجعلها الهدف الوحيد، كما عرفنا أن كل ما مر معنا من مواقف خاطئة سببها ذلك الأصل، لأن كل الأدلة والحقائق والعلوم تثبت المضمون الذي جاءت به دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتثبت أن الرسول حق، والقرآن حق، وصلة ذلك كله بمحور السورة من سورة البقرة واضح: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... فما يعرض أحد عن هذا الهدى إلا الكفرة، ولا كفر إلا بسبب اتباع الظن، وجعل الدنيا المطلب الوحيد، ومن ثم قال تعالى في هذا المحور عن القرآن: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ... ثم يختم الله عزّ وجل المجموعة الثانية بتبيان حكمة اليوم الآخر، ويعرفنا على أهل التقوى وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذا يقتضي تحقيق العدل، لأن شأن الملك أن يحقق العدل في ملكه، وإذ كان الله عزّ وجل مالكا للسماوات والأرض فهذا يقتضي تحقيق العدل في هذا الملك، ومن ثم قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي: بعقاب أعمالهم وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. قال النسفي: (والمعنى: أن الله عزّ وجل إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت ليجزي المحسن من المكلفين والمسئ منهم؛ إذ الملك أهل لنصر الأولياء وقهر الأعداء) وقد يكون المعنى: أن الله عزّ وجل لم يعط ملكه لأحد من خلقه، وجعل نفسه المالك الوحيد ليجازي المسئ بإساءته، والمحسن بإحسانه، ثم فسر تعالى من هم المحسنون الذين يستحقون الجنة فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ أي: الكبائر من الإثم، والكبائر من الذنوب: التي يكبر عقابها وَالْفَواحِشَ أي: ويجتنبون ما فحش من الكبائر، كأنه قال: الذين يجتنبون الكبائر عامة والفواحش منها خاصة، قال النسفي: (الكبائر: ما أوعد الله عليه النار، والفواحش: ما شرع فيها

كلمة في السياق

الحد) قال الألوسي في سياق كلامه عن الكبائر: (واعتمد الواحدي أنها لا حد لها يحصرها فقال: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به؛ وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه، رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم. والصلاة الوسطى. وليلة القدر. وساعة الإجابة، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط، وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعد، فعن ابن عباس: أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ. وقيل هي سبع، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه، وعطاء، وعبيد بن عمير، واستدل له بما في الصحيحين: «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق. وأكل مال اليتيم. وأكل الربا. والتولي يوم الزحف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: أربع، وعن ابن مسعود: ثلاث، وفي رواية أخرى: عشرة، وقال شيخ الإسلام العلائي: المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك). ثم قال تعالى: إِلَّا اللَّمَمَ أي: إلا الصغائر، قال النسفي: وهو كالنظرة والقبلة واللمسة والغمزة، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الفوائد إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن كثير: أي رحمته وسعت كل شئ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بإنشاء أبيكم آدم منها، أو بإنشائكم من ترابها في الأصل حتى صرتم غذاء فنطفا وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ الأجنة: جمع جنين فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي: فلا تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي: فاكتفوا بعلمه عن علم الناس، وبجزائه عن ثناء الناس، قال النسفي: (أي فلا تنسبوها- أي: أنفسكم- إلى زكاء العمل). كلمة في السياق: ذكرت الآيتان الأخيرتان تعريفا للمتقين، كما نهت الآية الأخيرة عن تزكية النفس

المجموعة الثالثة

فأخذنا بذلك تفصيلا جديدا لموضوع التقوى، وما تقتضيه، بما كمل لنا صورة المتقين التي وردت في سورتي الذاريات والطور، وبما فصل في محور السورة من سورة البقرة، وكل ذلك ضمن السياق الخاص للسورة الذي أثبت العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللوحي المنزل إليه، وأنه الحق الذي لا مرية فيه، ثم بين أن ما عليه الكافرون مستندهم فيه الظن فقط، ومن ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، ثم بين تعالى أن من مظاهر حكمته مجازاة المسئ ومكافأة المحسن، وعرف لنا المحسن، وطالب الإنسان ألا يزكي نفسه، وإذ بين لنا فيما مر من السورة أن الناس قسمان: مسيئون ومحسنون، طلاب دنيا وطلاب أخرى، متقون وكافرون، مقبلون ومعرضون، تأتي الآن المجموعة الثالثة والأخيرة في السورة لتحدثنا عن هؤلاء المعرضين وتناقشهم. ... المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (33) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (62) وهذه هي: [سورة النجم (53): الآيات 33 الى 62] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

التفسير

التفسير: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي: أعرض عن الإيمان وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أي: قطع عطيته وأمسك، قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرا فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل. ... كلمة في السياق: رأينا في أواخر المجموعة الثانية أن حكمة الله عزّ وجل تقتضي مجازاة المسئ، ومكافاة المحسن، وقد رأينا تعريفا للمحسن هناك، وتبتدئ هذه المجموعة بالكلام عن المسئ، وقد ذكرت الآيتان اللتان مرتا معنا من المجموعة الثالثة أن من صفات المسئ: إعراضه عن الإيمان، وإعطاءه القليل وإمساكه، فهو بخيل في طريق الله، وبعد أن عرضت علينا المجموعة الثالثة هاتين الصفتين للمسيئين تبدأ المجموعة فتناقش هذا النوع من الناس فلنر المناقشة: ... أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى قال ابن كثير: (أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عيانا؟ أي ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة

كلمة في السياق

والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا ... ) وقال النسفي في الآية: (أي فهو يعلم أن ما ضمنه من عذاب الله حق) أقول: إن الآية تفيد في سياقها أن هذا الإنسان المعرض عن الإيمان المانع للعطاء لا يجوز له ذلك، فهو لم يطلع على الغيب، ولم ير هذا الغيب حتى يبني موقفه على ضوء ذلك، فإذا بنى موقفه على مجرد الجهل في شأن الغيب، فذلك دليل انطماس بصيرته، خاصة وأن الذي يدعوه إلى الإيمان والإنفاق هو عالم الغيب. كلمة في السياق: من خلال المناقشة في شأن الإنفاق وارتباطه بالإعراض عن هداية الله نرى صلة المجموعة بمحور السورة ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فالمؤمن بالغيب استجاب فصلى وأنفق واهتدى بكتاب الله، وهذا أعرض فبخل. ... ثم قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى أي: أم لم يخبر بما في توراة موسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي: بلغ جميع ما أمر بتبليغه، وعمل به، فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أقواله وأحواله وأفعاله، قال ابن كثير: ثم شرع تعالى يبين ما كان- أو جاء- في صحف إبراهيم وموسى فقال: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: إنه لا تحمل نفس آثمة أثم نفس أخرى. قال ابن كثير: أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شئ من الذنوب، فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد وَأَنْ أي: وأنه لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى قال النسفي: (أي إلا سعيه، وهذه أيضا مما في صحف إبراهيم وموسى) وقال ابن كثير: (أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه) ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الفوائد وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي: يوم القيامة ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي: الأوفر وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال ابن كثير: أي المعاد يوم القيامة. قال النسفي: هذا كله في الصحف الأولى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى قال ابن كثير: أي خلق في عباده الضحك والبكاء، وسببيهما، وهما مختلفان وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي: الذي يميت ويحيي وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ

[سورة النجم (53): آية 47]

الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي: إذا تدفق في الرحم وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى قال ابن كثير: أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة أي الإحياء بعد الموت وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي: وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت على ألا تخرجه من يدك، قال ابن كثير: أي ملك عباده المال، وجعله لهم قنية، مقيما عندهم لا يحتاجون إلى بيعه ... وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى قال ابن كثير: هو هذا النجم الذي يقال له مرزم الجوزاء، كانت طائفة من العرب يعبدونه، قال النسفي: (فأعلم الله أنه رب معبودهم هذا) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى قال النسفي: (هم قوم هود، وعاد الأخرى إرم) ولم يفرق ابن كثير بين عاد هود وعاد إرم فهم شئ واحد عنده وَثَمُودَ فَما أَبْقى أي: وأهلك ثمود فما أبقاهم، قال ابن كثير: أي دمرهم فلم يبق منه أحدا وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين في السورة إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي: أشد تمردا من الذين من بعدهم وَالْمُؤْتَفِكَةَ قال النسفي: (أي والقرى التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت وهم قوم لوط) أَهْوى قال ابن كثير: (يعني حدائق لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها) أي: رفعها إلى السماء ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها فَغَشَّاها ما غَشَّى قال النسفي: أي ألبسها ما غشى، تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي: تتشكك، قال ابن كثير: (أي ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري أي تشك، قاله قتادة: وهو اختيار ابن جرير) فالآلاء: النعم، والامتراء والتماري: الشك والتشكك، والخطاب للإنسان. كلمة في السياق: 1 - الظاهر من السياق أنه من قوله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ... إلى قوله تعالى: فَغَشَّاها ما غَشَّى أن كل ذلك موجود في صحف إبراهيم وموسى، وعلى هذا فإن السياق بعد أن عرض علينا حال الإنسان المعرض عن الإيمان والبخيل في الإنفاق خاطبه خطابين: الأول: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى والثاني هو: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ثم عرض علينا بعض ما هو موجود في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، وهذا يعني أن الإنسان ما دام لم يعرف الغيب، وما دام قد نبئ بهذا القرآن بما في صحف إبراهيم وموسى فإنه

[سورة النجم (53): آية 56]

لا ينبغي له أن يكفر أو يبخل، وإذ استقرت الحجة عليه، خوطب بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي: تتشكك، قال النسفي في الآية: (فبأي آلاء ربك أيها المخاطب تتشكك بما أولاك من النعم، أو بما كفاك من النقم، أو بأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وربوبيته تتشكك) فلا تؤمن ولا تنفق، وعلى هذا فالمجموعة بدأت بالحديث عن الإنسان المعرض البخيل، وأقامت عليه الحجة بجهله، وبما هو موجود في رسالات الله، ثم أنكرت عليه تشككه بنعم الله التي تقتضي إيمانا وعطاء بينما هو يكفر ويمنع. 2 - رأينا أن محور السورة هو الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة، والتي فيها: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ونلاحظ هنا: أنه قد جاء قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي: تتشكك، ثم جاء بعدها مباشرة هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى وسنرى أن الإشارة في (هذا) إما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى القرآن، وكل ذلك يخدم قضية الإيمان واليقين، وصلة ذلك بمحور السورة الداعي إلى الاهتداء بالقرآن، والإيمان بالغيب، والإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا تخفى، ولنعد إلى التفسير: ... فبعد أن قامت الحجة على هذا المعرض يأتي قوله تعالى: هذا أي: الرسول أو القرآن نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي: من جنسها أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي: اقتربت القريبة وهي القيامة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي: ليس لها من دون الله نفس كاشفة، أي: قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى، غير أنه لا يكشفها، أو ليس لها نفس مبينة حتى تقوم أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ أي: القرآن تَعْجَبُونَ منكرين في زعمكم أن يكون صحيحا، وهذا إنكار على المشركين في استماعهم القرآن، وإعراضهم عنه وتلهيهم وَتَضْحَكُونَ أي: منه استهزاء وسخرية وَلا تَبْكُونَ خشوعا كما يفعل الموقنون وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي: مغنون، أو غافلون، أو لاهون لاعبون، أو معرضون، ثم قال تعالى آمرا عباده بالسجود له والعبادة فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا قال ابن كثير: أي: فاخضعوا له، وأخلصوا، ووحدوه .... ...

كلمة في السياق

قال صاحب الظلال في تعليقه على قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا: (وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق، وفي هذه الظلال، وبعد هذا التمهيد الطويل، الذي ترتعش له القلوب: ومن ثم سجدوا. سجدوا وهم مشركون. وهم يمارون في الوحي والقرآن. وهم يجادلون في الله والرسول! سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول- صلى الله عليه وسلم- يتلو هذه السورة عليهم. وفيهم المسلمون والمشركون. ويسجد فيسجد الجميع- مسلمين ومشركين- لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن؛ ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان ... ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون! بهذا تواترت الروايات. ثم افترقت في تعليل هذا الحادث الغريب. وما هو في الحقيقة بالغريب. فهو تأثير هذا القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب!). أقول: هذا هو التعليل المناسب لسجود المشركين عند ما سمعوا هذه السورة فترتب على ذلك عودة بعض مهاجري الحبشة، لا كما زعم بعضهم من قصة الغرانيق الباطلة سندا ومعنى. كلمة في السياق: 1 - بعد أن أقام الله عزّ وجل الحجة على المعرض البخيل قال تعالى: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى مبينا أن هذا القرآن من جنس ما أنزل على الرسل السابقين، ثم أنذر بقرب الساعة، ثم أنكر على الكافرين تعجبهم من القرآن واستهزاءهم به، وعدم خشوعهم وإعراضهم وغفلتهم، ثم أمر بالسجود له تعالى والعبادة، وهكذا اجتمعت الحجج والإنذارات لتبعد الإنسان عن الإعراض والبخل، ولتوصله إلى الخضوع والسجود، وهكذا تعاونت مجموعات السورة لتربي على الاهتداء بكتاب الله، والإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق، والإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، والإيمان بالآخرة، وتبيان أن الأتقياء هم المفلحون المجازون بالجنة، كل هذه المعاني عرضتها السورة في مجموعاتها الثلاث، فكانت تفصيلا لمحور السورة من سورة البقرة، ولعله من المفيد أن نلاحظ صلة قوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ... بقوله تعالى في محور السورة وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

فوائد

بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ كما أنه من المفيد أن نلاحظ كيف أن تفصيل المحور اقتضى أن يشد إلى هذا المحور الأمر بالعبادة الآتي في سورة البقرة بعد المقدمة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. إن الأمر بالسجود والعبادة دعوة للصلاة، وإن الإنكار على البخلاء دعوة إلى الإنفاق، والحديث عن صحف إبراهيم وموسى حديث عما أنزل على الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والحديث عن القرآن دعوة إلى الإيمان به، والكلام عما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب دعوة إلى الإيمان بالغيب، فالسورة فصلت في محورها كله ضمن سياقها الخاص بها، وأكملت في الوقت نفسه ما ورد في سورتي الذاريات والطور. 2 - يلاحظ أن السورة انتهت بقوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ ... وأن السورة اللاحقة مبدوءة بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ... فالصلة واضحة بين نهاية السورة وبداية السورة اللاحقة. فوائد: 1 - قدم ابن كثير لتفسير سورة النجم بهذا الحديث: (روى البخاري عن عبد الله قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) قال: فسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف، وقد رواه البخاري أيضا في مواضع، ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن أبي إسحاق به، وقوله في الممتنع أنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل؛ فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى نقول: رأينا الاتجاهات المتعددة في تفسير هذه الآية، ولا نرجح واحدا منها، غير أننا نذكر أن علم الفلك الحديث سجل ظاهرتين تحدثان للنجوم: ظاهرة انفجار نجم، وظاهرة انتهائه، كما أنه قد تجمع لدى الإنسان عن ظاهرة النيازك التي تصطدم بجو الأرض فتحدث الشهب الكثير، والشهب لا تخرج عن كونها قطعا منفصلة عن نجوم، وبكل من هذه الظواهر يمكن أن تفسر الآية، كما يمكن أن تفسر بأن المراد بها جنس النجم إذا انتهى يوم القيامة، فيكون قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى يشبه قوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وأمثال هاتين الآيتين. 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى

قال النسفي: (ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد، وقررهم عليه، كان كالوحي لا نطقا عن الهوى) وقال ابن كثير: (أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان كما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليدخل الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين- أو مثل أحد الحيين- ربيعة ومضر» فقال رجل: يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر قال: «إنما أقول ما أقول». وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو وقال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق» ورواه أبو داود. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه» ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا أقول إلا حقا» قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: «إني لا أقول إلا حقا»). 4 - في فهم قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى يثور جدال عنيف حول رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه يوم الإسراء والمعراج، وكل من المختلفين يحاول أن يستدل بالآيات على النفي أو الإثبات، والذي أراه أن هذه الآيات لا تصلح شاهدا لهذا الموضوع، بل هي في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية، وعلى هذا فموضوع الرؤية ينبغي أن يبحث على أنه موضوع مستقل عن هذه الآيات، وقد نقل ابن كثير الكثير من الروايات المتعلقة بالآيات، وكثيرا من وجهات النظر فيها، وقد اعتمدنا في صلب التفسير ما اعتمده، وهاهنا ننقل بعض ما ذكره في هذا المقام قال: (وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقرأ)، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيها مرارا ليتردى من رءوس الجبال، فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء يا محمد أنت رسول الله حقا، وأنا جبريل، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق، فاقترب منه وأوحى إليه عن الله عزّ وجل ما أمره به، فعرف عند ذلك عظمة الملك

الذي جاءه بالرسالة، وجلالة قدره، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه). (وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قال: رأى جبريل عليه السلام). (وروى الإمام أحمد عن عبد الله أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم). (وروى البخاري عن الشيباني قال: سألت زرا عن قوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح. وروى ابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، فعلى ما ذكرناه يكون قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى معناه: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، أو أوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى). (وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود في هذه الآية وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت» وهذا إسناد جيد قوي. وروى أحمد أيضا عن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق: يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به عليم. إسناده حسن أيضا. وروى الإمام أحمد أيضا سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح» سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني، قال: فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب. وهذا أيضا إسناد جيد). (فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عزّ وجل» فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد ... عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة- أحسبه يعني في النوم- فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قال: قلت لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي- أو قال نحري- فعلمت ما في السموات

وما في الأرض ثم قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت نعم يختصمون في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات؟ قال: قلت المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: قل يا محمد إذا صليت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون، قال والدرجات: بذل الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام»). أقول: كما نقل ابن كثير هذه الروايات نقل الروايات التي تفيد رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لله، ونقل الروايات التي فسر فيها بعضهم آيات النجم على أنها تفيد رؤية الله عزّ وجل وناقشها، والذي ينشرح له الصدر هو ما ذكرناه من أن آيات سورة النجم لا تفيد إلا رؤية جبريل، ثم ينظر في الروايات المثبتة للرؤية على حدة فإن كانت تقوم بها الحجة فقد ثبتت الرؤية بها، والقضية خلافية منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وقد أثبتها بعض كبار علمائهم كابن عباس رضي الله عنهما، ونفاها بعض كبار علمائهم كعائشة رضي الله عنها. 5 - بمناسبة قوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى- وهي في السماء السابعة- إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا: «أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر الله لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات» انفرد به مسلم). 6 - بمناسبة قوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى نقول: إن المتأمل لحادثة الإسراء والمعراج وما ذكره الله عزّ وجل فيهما من قوله في سورة الإسراء لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ومن قوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يرى أن الحكمة في هذه الرحلة هي أن يطلع الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على بعض أمر الغيب، ليكون ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهدا من قبله، وهو الصادق الأمين، فتقوم الحجة على الخلق، ويزداد المؤمنون اطمئنانا، ومن ملاحظة قوله تعالى لموسى عليه

السلام: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى * اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ ... نحس أن الله عزّ وجل أرى موسى من آياته الكبرى عند ما كلفه بمجابهة فرعون ليكون أكثر اطمئنانا في هذه المجابهة، ورسولنا عليه الصلاة والسلام أراه الله من آياته الكبرى قبيل الهجرة التي ستعقبها المجابهة الكبرى مع العرب والعالم ليكون أكثر اطمئنانا. 7 - بمناسبة قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال ابن كثير: (وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم (الله) فقالوا: اللات يعنون مؤنثة منه- تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا اللات بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في الجاهلية السويق فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (اللات والعزى) قال: كان اللات رجلا يلت السويق سويق الحاج. قال ابن جرير: وكذا العزى من (العزيز) وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق» فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية، كما روى النسائي عن سعد ابن أبي وقاص قال: حلفت باللات والعزى فقال لي أصحابي: بئس ما قلت قلت هجرا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، وانفث عن شمالك ثلاثا وتعوذ من الشيطان الرجيم ثم لا تعد» وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وروى البخاري عن عائشة نحوه، وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها. قال ابن إسحاق في السيرة، وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت- وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة- لها سدنة

وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده، فكانت لقريش، ولبني كنانة العزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. (قلت): بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك … إني رأيت الله قد أهانك قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب. (قلت): وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها وجعل مكانها مسجدا بالطائف، قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها، ويقال علي بن أبي طالب، قال: وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. (قلت): وكان يقال لها الكعبة اليمانية التي بمكة الكعبة الشامية، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه، قال: وكانت قيس لطي ومن يليها بجبل طي بين سلمى وأجا، قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرسوب والمخزم، فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما سيفا علي، قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له رئام وذكر أنه كان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه، وهدما البيت، قال ابن إسحاق: وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب ابن سعد حين هدمها في الإسلام: ولقد شددت على رضاء شدة … فتركتها قفرا بقاع أسمحا قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل: ولقد سئمت من الحياة وطولها … وعمرت من عدد السنين مئينا مائة حدتها بعدها مائتان لي … وعمرت من عدد الشهور سنينا هل ما بقى إلا كما قد فاتنا … يوم يمر وليلة تحدونا

قال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة: بين الخورنق والسدير وبارق … والبيت ذو الكعبات من سنداد ولهذا قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى). 8 - بمناسبة قوله تعالى: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» تفرد به أحمد). 9 - بمناسبة قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً قال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»). 10 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا»). 11 - بمناسبة قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذب» أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به. وروى ابن جرير عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العينين النظر، وزنا الفم التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللمم. وكذا قال مسروق والشعبي، وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: إِلَّا اللَّمَمَ قال: القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

إِلَّا اللَّمَمَ إلا ما سلف، وكذا قال زيد بن أسلم، وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال في هذه الآية إِلَّا اللَّمَمَ قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه قال الشاعر: إن تغفر اللهم تغفر جما … وأي عبد لك ما ألما؟ وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: إِلَّا اللَّمَمَ قال: الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه، وقال وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون: إن تغفر اللهم تغفر جما … وأي عبد لك ما ألما؟ وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا روى ابن جرير عن ابن عباس الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تغفر اللهم تغفر جما … وأي عبد لك ما ألما؟ وهكذا رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب، وروى ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قال: اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فذلك الإلمام. وحدثنا ابن بشار عن الحسن في قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود. وعن الحسن في قول الله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو الرجل يصيب اللمة من الزنا، واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وروى ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس إِلَّا اللَّمَمَ يلم بها في الحين قلت: الزنا؟ قال: الزنا ثم يتوب، وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اللمم الذي يلم المرة. وقال السدي قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال لقد أعانك ملك كريم. حكاه البغوي). 12 - بمناسبة قوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى قال ابن كثير: (كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وروى مسلم في صحيحة عن محمد بن عمرو بن عطاء قال:

سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا بم نسميها؟ قال: «سموها زينب» وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك قطعت عنق صاحبك- مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك» وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وروى الإمام أحمد عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب. ورواه مسلم وأبو داود). أقول: المدح والتزكية لهما حالات فالكراهة ليست هي الصورة الوحيدة. 13 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال ابن كثير: (وروى الترمذي في جامعه عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجل أنه قال: «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» وروى ابن أبي حاتم رحمه الله عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كل ما أصبح وأمسى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» حتى ختم الآية. ورواه ابن جرير). 14 - في أكثر من كتاب للعقاد أبرز القيمة الكبرى لقوله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فهي علامة كبيرة على أن هذا الدين دين الله، فالبيئة العربية التي تقول بالثأر الظالم من كل إنسان له صلة بالقاتل لا يمكن أن ينبثق عنها مثل هذا النص، فإن يوجد مثل هذا في القرآن فذلك علامة على أنه من عند الله، وأن تتحدد مسئولية الإنسان عن أعماله وحدها فذلك تصحيح لمسار الفكر البشري على امتداد الزمان والمكان، وهو بذلك يشكل قاعدة من قواعد الخلود لهذا الدين الذي به يرجح على كل دين من خلال هذه القاعدة فقط فضلا عن غيرها. (راجع كتاب مطلع النور للعقاد).

15 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى قال ابن كثير: (ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما. وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به» فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ الآية، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا»). أقول: وفي وصول ثواب التلاوة إلى الأموات خلاف بين كثير من العلماء حتى ألفت في ذلك كتب. قال الألوسي: (وفي الأذكار للنووي عليه الرحمة: المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه- كوهبت ثواب ما قرأته لفلان- بقلبه كفى). 16 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: «يا بني أود إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار» وذكر البغوي من رواية أبي جعفر عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال: لا فكرة في الرب. قال البغوي وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا: «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة» وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: «يأتي الشيطان

أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته» والحديث الآخر الذي في السنن: «تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن الله تعالى خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة ثلاثمائة سنة» أو كما قال). 17 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى قال صاحب الظلال: (وهي الحقيقة الهائلة الواقعة المتكررة في كل لحظة. فينساها الإنسان لتكرارها أمام عينيه، وهي أعجب من كل عجيبة تبدعها شطحات الخيال! نطفة تمنى ... تراق ... إفراز من إفرازات هذا الجسد الإنساني الكثيرة كالعرق والدمع والمخاط! فإذا هي بعد فترة مقدورة في تدبير الله ... إذا هي ماذا؟ إذا هي إنسان! وإذا هذا الإنسان ذكر وأنثى! كيف؟ كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن- لولا وقوعها- تخطر على الخيال؟ وأين كان هذا الإنسان المركب الشديد التركيب، المعقد الشديد التعقيد؟ أين كان كامنا في النقطة المراقة من تلك النطفة. بل في واحد من ملايين من أجزائها الكثيرة؟ أين كان كامنا بعظمه ولحمه وجلده، وعروقه وشعره وأظافره. وسماته وشياته وملامحه. وخلائقه وطباعه واستعداداته؟! أين في هذه الخلية الميكروسكوبية السابحة هي وملايين من أمثالها في النقطة الواحدة من تلك النطفة التي تمنى؟! وأين على وجه التخصيص كانت خصائص الذكر وخصائص الأنثى في تلك الخلية. تلك التي انبثقت وأعلنت عن نفسها في الجنين في نهاية المطاف؟! وأي قلب بشري يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة، ثم يتمالك أو يتماسك. فضلا على أن يجحد ويتبجح، ويقول: إنها وقعت هكذا والسلام! وسارت في طريقها هكذا والسلام! واهتدت إلى خطها المرسوم هكذا والسلام! أو يتعالم فيقول: إنها سارت هذه السيرة بحكم ما ركب فيها من استعداد لإعادة نوعها، شأنها شأن سائر الأحياء المزودة بهذا الاستعداد! فهذا التفسير يحتاج بدوره إلى تفسير). يقول الدكتور الطبيب خالص كنجو في كتابه (الطب محراب للإيمان): (إن عدد الصبغيات في كل خلية إنسانية هي 23 زوجا، ويختص من هذه الأزواج زوج واحد فقط في تصميم الأنوثة أو الرجولة بكل الأبعاد في كيان الإنسان العضوي والنفسي، إن مفتاح الذكورة والأنوثة موجود في هذا الزوج من الصبغيات. ولقد لوحظ أن هذا الزوج متجانس في الأنثى، فهما من شكل واحد، ورمز لهما

بحرف (XX) في حين أن هذا الزوج في الذكر متغاير ورمز لهما بالرمز (YX) وعند الانقسام يصبح أحد الأشكال الأربعة في كل خلية أي: إما (X) أو (X) أو (X) أو (Y) أو بالأصح شكلان فقط هما (X) : و. (Y) ثم ماذا يحدث بعد ذلك. إن البويضات تحمل صبغيا واحدا فقط ومن شكل واحد (X) بينما تحمل النطف عند الرجل شكلان من الصبغيات صبغي (X) وصبغي. (Y) والآن لعل الأمر أصبح واضحا في تحديد الجنس، فالنطفة هي المسئولة عن تحديد الجنس؛ لأنها تحمل الأشكال المتغايرة من الصبغيات الجنسية، فإذا حملت نطفة صبغيا اجتمعت نطفة من نوع (X) مع البويضة ذات النوع (X) كان المخلوق أنثى، وإليك بيانا موضحا: نطفة G (Y) بويضة - (X) ذكر. (YX) نطفة G (X) بويضة - (X) أنثى. (XX) وهذا ما ذكره القرآن قبل أربعة عشر قرنا حين أرجع مسئولية تحديد الجنس إلى مني الرجل ... وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى). 18 - وبمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ننقل ما قاله صاحب الظلال في (الشعرى) قال: (والشعرى نجم أثقل من الشمس بعشرين مرة، ونوره خمسون ضعف نور الشمس. وهي أبعد من الشمس بمليون ضعف بعد الشمس عنا. وقد كان هناك من يعبد هذا النجم. وكان هناك من يرصده كنجم ذي شأن. فتقرير أن الله هو رب الشعرى له مكانه في السورة التي تبدأ بالقسم بالنجم إذا هوى؛ ونتحدث عن الرحلة إلى الملأ الأعلى؛ كما تستهدف تقرير عقيدة التوحيد، ونفي عقيدة الشرك الواهية المتهافتة). (وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير. ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى. ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها. ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء). 19 - بمناسبة قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ قال ابن كثير: (والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى

كلمة أخيرة في سور النجم والذاريات والطور

وقوعه فيمن أنذرهم كما قال: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ وفي الحديث: «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئا، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عريانا مسرعا وهو مناسب لقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي: اقتربت القريبة، يعني: يوم القيامة، كما قال في أول السورة التي بعدها: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وروى الإمام أحمد عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» وقال أبو حازم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال أبو نضرة: لا أعلم إلا عن سهل بن سعد- قال: «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال: «مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان» ثم قال: «مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم» ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ذلك» وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان). 20 - بمناسبة قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا قال ابن كثير: (روى البخاري عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم، وروى الإمام أحمد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه. وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به). كلمة أخيرة في سور النجم والذاريات والطور: هذه السور الثلاث فصلت في الآيات الأولى من سورة البقرة أي في قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ففصلت في كون هذا القرآن لا ريب فيه، وفصلت في أن الهداية فيه، وأقامت الحجة على الريب والجحود، وفصلت في موضوع الإيمان بالغيب، فعرضت جوانب من الغيب،

وعرضت بعض آثار الإيمان بالغيب، وفصلت في موضوع الصلاة والإنفاق، وفصلت في موضوع الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل من قبله، وفصلت في موضوع الإيقان بالآخرة، فعرضت جوانب من عوالم الآخرة، وأقامت الحجة على الكافرين فيها، وحذرت وأنذرت وذكرت طرفا من مظاهر الفلاح للمتقين، وطرفا من مظاهر الخسران للكافرين، وفصلت في قضية التقوى والطريق إليها وخصائص أهلها، وكل ذلك قد رأيناه تفصيلا، ومع كون السور أدت دورها في التفصيل للمحور، فقد كان لكل سورة سياقها الخاص بها، فهي من ناحية وحدة متكاملة، كما أنها جزء من وحدة متكاملة في هذا القرآن، وقد رأينا أن أواخر كل سورة منها متصل بأوائل السورة اللاحقة، وقد رأينا كيف أن سورة النجم انتهت بقوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ... وكيف أن سورة القمر تبتدئ بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وصلة ذلك ببعضه بعضا لا تخفى، فلنر سورة القمر التي تفصل في الآيتين اللاحقتين للآيات التي فصلتها السور الثلاث من أول سورة البقرة. ***

سورة القمر

سورة القمر وهي السورة الرابعة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الأولى من قسم المفصل، وآياتها خمس وخمسون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة القمر

[قال صاحب الظلال في تقديمه لسورة القمر] قدم صاحب الظلال لسورة القمر بقوله: (هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة. وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ * ... ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ *). (فإذا انتهت الحلقة وبدءوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا ... وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق. فيطل المشهد الأخير في السورة. وإذا هو جو آخر، ذو ظلال أخرى. وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة. إنه مشهد المتقين: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. في وسط ذلك الهول الراجف، والفزع المزلزل، والعذاب المهين للمكذبين: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من مصير؟). كلمة في سورة القمر ومحورها: من تشابه بداية سورة القمر وسورة الأنبياء نستأنس أن محور السورتين واحد، فسورة الأنبياء ابتدأت بقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وسورة القمر ابتدأت بقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ومن دراسة مضمون سورة القمر نعرف أن محورها هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو نفسه محور سورة الأنبياء لاحظ بعض آيات سورة القمر: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (آية: 2). فَما تُغْنِ النُّذُرُ (آية: 5). كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (آية: 18).

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (آية: 23). كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (آية: 33). وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ* كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (الآيتان: 41، 42). ومن تأمل هذه الآيات وجد صلتها بقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* واضحة، والحقيقة أن السورة كلها- تقريبا- حديث عن الإنذار، والتكذيب، وعدم استفادة الكافرين من الإنذار، وجزائهم في الدنيا والآخرة، وهذا كله يؤكد صلة السورة بالمحور الذي ذكرناه. ... وقد رأينا أن آخر سورة النجم كان: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ... والملاحظ أن سورة القمر تبدأ بالكلام عن اقتراب الساعة، وتتحدث عن مجموعة من النذر الأولى، كما تتحدث عن القرآن فتتكرر بها اللازمة وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* وهكذا نجد أن سورة القمر ترتبط بالمعاني التي ذكرت في أواخر سورة النجم، وبذلك نرى أن هذا القرآن تتعانق سوره، وتتعانق زمره، وتتعانق معانيه بهذا الشكل المعجز العجيب، الذي لا يخطر على قلب بشر، فضلا عن أن يستطيعه بشر. ولنبدأ عرض سورة القمر، فإن وضوح صلتها بمحورها لا يستدعي منا وقوفا طويلا وسنعرض السورة على ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: وتمتد حتى نهاية الآية: (8). المجموعة الثانية: وتمتد حتى نهاية الآية: (42). المجموعة الثالثة: وتمتد حتى نهاية الآية: (55). والمجموعات الثلاث تتعانق معانيها مع كونها تفصل في محور السورة من سورة البقرة. ...

المجموعة الأولى

المجموعة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (8) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القمر (54): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) التفسير: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي: قربت القيامة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ نصفين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آية للناس، قال ابن كثير: (قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة) ولنا عودة إلى هذين الموضوعين في الفوائد. وَإِنْ يَرَوْا أي: وإن ير الكافرون آيَةً أي دليلا وحجة وبرهانا يدل على صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُوا أي عن الإيمان. قال ابن كثير: (أي لا ينقادون له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم) وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قال النسفي: (أي محكم قوي ... أو دائم مطرد، أو مار ذاهب يزول ولا يبقى) ولم يذكر ابن كثير إلا الثالث فقال: (أي ذاهب، وقاله مجاهد وقتادة وغيرهما: أي باطل مضمحل لا دوام له) وأرجح أن يكون المراد بالاستمرار ظاهره أي الدوام والاطراد، فكأنهم أرادوا أن يقولوا أن ما يظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة كونية مستمرة هي من باب السحر، وليست خارقة معجزة من الله تدل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله وَكَذَّبُوا النبي صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوا

[سورة القمر (54): آية 4]

أَهْواءَهُمْ أي: ما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره قال ابن كثير: أي كذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ قال قتادة: معناه أن الخير واقع بأهل الخير، والشر واقع بأهل الشر، أي: في النهاية، وقال ابن جريج: أي مستقر بأهله، أي وكل أمر مستقر بأهله في النهاية على ما يقتضيه هذا الأمر من نهايات خيرة أو شريرة في الدنيا والآخرة، ولا شك أن استقرار الأمور استقرارا كاملا على ما تقتضيه إنما يكون في الآخرة، ومن ثم فسر مجاهد استقرار الأمور بأنه يوم القيامة، فكأن لكل أمر مسرى يسير فيه حتى يستقر في نهاية مصبه، قال النسفي: وقيل: كل أمر من أمرهم واقع مستقر، أي سيثبت ويستقر عند ظهور العقاب والثواب وَلَقَدْ جاءَهُمْ أي: هؤلاء الكافرين مِنَ الْأَنْباءِ أي: من القرآن المودع أنباء القرون الخالية، أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي: ما فيه ازدجار عن الكفر، قال ابن كثير: أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي إلى التكذيب حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي: جاءتهم حكمة بالغة نهاية الصواب، أو حكمة بالغة من الله إليهم، وأي حكمة تبلغ ما تبلغه الحكمة الموجودة في القرآن لمن عقل وتدبر، ولكن هؤلاء وصلوا إلى حالة من الكفر ما عادت تنفع معهم الحكمة، ولا الآية، ولا الإنذار، قال تعالى: فَما تُغْنِ النُّذُرُ قال النسفي: والنذر جمع نذير وهم الرسل أو المنذر به (أي: وهو القرآن) أو النذر ... بمعنى الإنذار. أقول: والواقع أن هؤلاء وصلوا إلى حالة لا القرآن يؤثر فيهم، ولا موعظة الرسول تؤثر فيهم، ولا إنذارات الله العملية تؤثر فيهم. قال ابن كثير: (يعني: أي شئ تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه، فمن الذي يهديه من بعد الله؟). كلمة في السياق: رأينا في ما مر معنا من الآيات كيف أن ناسا من الكفار وصلوا إلى درجة من الكفر أصبحوا معها لا يستفيدون من رؤية المعجزات، ولا يستفيدون من زجر القرآن وقصصه وحكمته، ولا من أي إنذار آخر، وصلة ذلك بقوله تعالى في محور السورة واضحة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ومما مر نستطيع أن نتلمس صفات هؤلاء الذين لا ينفع معهم الإنذار، وقد ذكرت الآيات صفتين: التكذيب، واتباع الهوى وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ومن ثم

[سورة القمر (54): آية 6]

نعلم أن الله ختم على قلوبهم كما ورد في المحور، إنما هو عقوبة لهم بسبب مما جنته أيديهم خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وأمام عدم نفع الإنذارات بهؤلاء كما ذكرت الآيات المارة معنا من سورة القمر، وأمام استواء الإنذار وعدمه في حقهم كما ذكرته آيتا المحور، فإن الله عزّ وجل يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قال ابن كثير: يقول تعالى: فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون هذا سحر مستمر، أعرض عنهم وانتظرهم يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ قال ابن كثير: أي إلى شئ منكر فظيع، وهو موقف الحساب، وما فيه من البلاء، بل والزلازل والأهوال، وقال النسفي: (أي منكر فظيع تنكره النفوس، لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة) وقال النسفي: والداعي إسرافيل عليه السلام خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ أي: يوم يخرجون خشعا أبصارهم، أي: ذليلة أبصارهم، وقال النسفي: وخشوع الأبصار كناية عن الذلة، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي: من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي: في كثرتهم وانتشارهم في كل جهة، قال ابن كثير: أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق؛ ولهذا قال: مُهْطِعِينَ أي: مسرعين إِلَى الدَّاعِ أي: لا يخالفون ولا يتأخرون، قال النسفي: أي مسرعين مادي أعناقهم إليه يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي: صعب شديد، وبهذا انتهت المجموعة الأولى. كلمة في السياق: 1 - رأينا أنه أمام عدم غناء الإنذار للكافرين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عنهم، وأن ينتظر فيهم عقاب الله يوم القيامة، ومن المجموعة عرفنا أن هؤلاء هم الذين اجتمع لهم التكذيب واتباع الهوى، أي أصبح التكذيب واتباع الهوى خلقين لهم، أمثال هؤلاء لا ينفع فيهم الإنذار، ولكن هل كل كافر تأصل فيه هذان الخلقان على الكمال والتمام، حتى لم يعد ينفع فيه الإنذار؟ الجواب لا، ومن ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، وإقامة الحجة على الخلق أجمعين، ومن هنا نعلم سر إيمان بعض الكافرين؟ ذلك لأنه لا زال في قلوبهم بقية من الفطرة، ولم يصلوا في التعقيد إلى الذروة، وقد أبرزنا هذه المعاني في أول سورة الأنبياء، ولهذه الأسباب كلها نعلم لم أقام الله الحجج الكثيرة على الكافرين، ولم ناقش مواقفهم كلها في هذا القرآن؟.

المجموعة الثانية

2 - نلاحظ أن القرآن الكريم مع تقريره أن نوعا من الكفار لن يستفيدوا من الإنذار فإنه قد أنذر، ولذلك حكمته، ومن حكمة ذلك إقامة الحجة، ومن حكمة ذلك أنه قد يتسلل إلى المؤمنين بعض من أخلاق الكافرين، وقد يؤمن كافر لم يصل إلى الحضيض في أخلاق الكافرين، فتأتي هذه الآيات مربية للثاني، ومطهرة للأول. 3 - نلاحظ أن الآيات أفهمتنا أن في القرآن كفاية في الإنذار وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن هو النذير الكافي المستمر إلى يوم القيامة، كما نلاحظ أن الآيات وصفت القرآن بالحكمة البالغة، مما نفهم منه أنه لا أحكم من هذا القرآن أسلوبا وأحكاما وخطابا، ومن ثم فكل من يشتغل بقضية الدعوة إلى الله فعليه أن يركز على ربط الإنسان بالقرآن. 4 - نلاحظ أن المجموعة الآتية تحدثنا عن مجموعة أمم كذبت فعوقبت، وصلة ذلك في المجموعة الأولى واضحة، فالمجموعة الأولى ورد فيها قوله تعالى: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وتأتي المجموعة الثانية لترينا نماذج من المكذبين السابقين، وعقوبتهم في الدنيا قبل الآخرة، كما ورد في المجموعة الأولى قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ وتأتي المجموعة الثانية لتقص علينا من قصص السابقين ما فيه مزدجر فلنر المجموعة الثانية. ... المجموعة الثانية وتمتد من الآية (9) إلى الآية (42) وهذه هي: [سورة القمر (54): الآيات 9 الى 42] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

التفسير

التفسير تفسير الفقرة الأولى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قال ابن كثير: (أي قبل قومك يا محمد) قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا أي: نوحا عليه السلام، والملاحظ أن كلمة التكذيب وردت مرتين في الآية، قال النسفي معللا لذلك: ومعنى تكرار التكذيب أنهم كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل، فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل، جاحدين للنبوة رأسا، كذبوا نوحا عليه السلام، لأنه من جملة الرسل وَقالُوا مَجْنُونٌ لم يكتفوا أن صرحوا له بالتكذيب بل اتهموه بالجنون، وزادوا على ذلك أن زجروه قال تعالى: وَازْدُجِرَ قال النسفي: (أي زجر عن أداء الرسالة بالشتم، وهدد بالقتل) قال ابن كثير: (وقيل وازدجر أي انتهروه وزجروه وتوعدوه لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن) ويحتمل أن يكون وَازْدُجِرَ تتمة لوصفهم إياه بالجنون، أي قالوا: هو مجنون، وقد ازدجرته الجن، وتخبطته، وذهبت بلبه وهو قول مجاهد، والأول أولى فَدَعا نوح عليه السلام رَبَّهُ أَنِّي أي: بأني مَغْلُوبٌ أي: غلبني قومي فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ أي: فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم. قال ابن كثير في الآية: (أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك) قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي: منصب في كثرة وتتابع وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي: وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر قال ابن كثير: (أي نبعث جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا) فَالْتَقَى الْماءُ أي: من السحاب والعيون المتفجرة من الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: أمر مقدر، أي على حال قدرها الله كيف شاء، أو على أمر قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون وهو هلاك قوم نوح بالطوفان وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ أي: على سفينة، والدسر:

[سورة القمر (54): آية 14]

جمع دسار وهو المسمار تَجْرِي أي: السفينة بِأَعْيُنِنا قال النسفي: (أي بمرأى منا، أو بحفظنا أو ... محفوظة منا) وقال ابن كثير: (أي بأمرنا وبمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا) جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي: فعلنا ذلك جزاء لنوح قال النسفي: جعله مكفورا لأن النبي نعمة من الله ورحمة ... فكان نوح نعمة مكفورة. وقال ابن كثير: (فعلنا ذلك جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارا لنوح) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً قال قتادة: أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة. أقول: وقد ذكرت إذاعة- سمعتها- أن الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض الآن قد صورت على جبل أرارات في الاتحاد السوفياتي ما هو مظنة أن يكون بقية سفينة نوح، وذكرت الإذاعة أن عاملا من أرمينيا من قبل استطاع أن يصل إلى ذلك المكان، ويأخذ صورا لبقايا السفينة، بالتعاون مع آخرين، إلا أن الحكومة السوفياتية طمست الموضوع، وحين مراجعة هذه السطور ذكرت الإذاعات والصحف أن أحد رواد الفضاء يحاول محاولته الثانية للوصول إلى ما يعتبر مظنة بقية سفينة نوح على جبل أرارات، فإذا صح هذا يكون ما فهمه قتادة هو المتعين أن تحمل عليه الآية، ولم يطمئن لذلك ابن كثير: ومن ثم وجه الآية وجهة أخرى مضمونها: أن المراد بذلك جنس السفن، أي ولقد تركنا جنس السفن آية تذكركم بسفينة نوح فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: فهل من يتذكر ويتعظ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي: وانذاراتي، قال ابن كثير: أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي، ولم يتعظ بما جاءت به نذري، وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ قال ابن كثير: أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: فهل من متعظ يتعظ، وقال ابن كثير: أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟، وقال محمد بن كعب القرظي: (أي فهل من منزجر عن المعاصي) وأخرج البخاري عن مطر الوراق قوله في تفسير الآية: (أي فهل من طالب علم فيعان عليه). كلمة في السياق: 1 - ختم القصة بقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يفيد أن تكذيب القرآن كتكذيب رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، ويستحق المكذبون به ما استحق أولئك من العذاب، يؤيد هذا المعنى مجئ قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ* حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ فإذا صح هذا الاتجاه

تفسير الفقرة الثانية

فإن مجئ قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ بعد كل قصة من قصص السابقين في السورة- ما عدا القصة الأخيرة- ويفيد أن تذكروا ولا تكذبوا فيصيبكم ما أصابهم، فالحجة قائمة عليكم، والقرآن ميسر لكم لتتذكروا به، فلا تعرضوا عنه، ولا تكذبوه، واتعظوا بمواعظه، والتزموا أمره ونهيه. 2 - في ما قصه الله عزّ وجل علينا من شأن قوم نوح نموذج على تكذيب الكافرين لرسلهم، ونموذج على عدم انتفاعهم بالإنذار، ونموذج على نصرة الله رسله، ونموذج على عقوبة الله في الدنيا لمن كذب رسله، وفي ذلك موعظة لأهل الإيمان، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودروس للخلق جميعا، وما يقال هنا يقال في كل قصة سترد معنا في المجموعة الثانية. 3 - إن صلة الآيات المارة معنا والتي ستمر من المجموعة الثانية بقوله تعالى في المحور: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ واضحة، فالمجموعة تقدم لنا نماذج على عدم انتفاع الكافرين بالإنذار، وعلى نماذج من العذاب العظيم لهم في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر. ... تفسير الفقرة الثانية: كَذَّبَتْ عادٌ أي: قوم هود فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي: انذاراتي لهم بالعذاب قبل نزوله، أو انذاراتي في تعذيبهم لمن بعدهم إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي: باردة أو شديدة الصوت قال ابن كثير: وهي الباردة الشديدة البرد فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي: في يوم شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ أي: دائم الشر عليهم، فقد استمر حتى أهلكهم قال ابن كثير: (أي مستمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي) تَنْزِعُ الريح النَّاسَ أي: تقلعهم عن أماكنهم، وتنزعهم وتكبهم، وتدق رقابهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي: كأنهم أصول نخل منقلع عن مغارسه، قال النسفي: وشبهوا بأعجاز النخل؛ لأن الريح كانت تقطع رءوسهم فتبقي أجسادا بلا رءوس فيتساقطون على الأرض أمواتا، وهم جثث طوال كأنهم أعجاز نخل، وهي أصولها بلا فروع، وقال ابن كثير: وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار، ثم تنكسه على أم رأسه، فيسقط إلى

[سورة القمر (54): آية 21]

الأرض فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كان العذاب والله شديدا والإنذارات صادقة وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي: سهلناه ليتذكر الناس فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: فهل من متذكر يتوب، أو يثوب، أو يتعظ، أو يعرف فيعمل. كلمة في السياق: وهذه أمة أخرى لم تقبل إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها؛ فعذبت بالرياح العاتية فاستؤصلت، وقد ختمت قصتها كما ختمت القصة قبلها بقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ومن هذا الختام نفهم أن هذا القرآن نذير، وأن على الناس أن يتذكروا به ويتعظوا، لا أن يعرضوا ويكذبوا، وأنهم على شفا العذاب إن لم يفعلوا. تفسير الفقرة الثالثة: كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي: قوم صالح بِالنُّذُرِ أي: بالمنذرين أو بالإنذارات فَقالُوا أي: قوم صالح عن صالح أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ أي: أنتبع منا واحدا قال ابن كثير: (يقولون: لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا) إِنَّا إِذاً أي: إن اتبعنا واحدا منا لَفِي ضَلالٍ أي: خطأ وبعد عن الصواب وَسُعُرٍ أي: ونيران، أو وجنون، ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم فقالوا أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي: أأنزل عليه الوحي من بيننا، وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة، ثم رموه بالكذب فقالوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي: بطر متكبر، حمله بطره وطلبه التعظم علينا ادعاء ذلك، قال ابن كثير في تفسير الأشر: (أي متجاوز في حد الكذب) قال الله عزّ وجل: سَيَعْلَمُونَ غَداً أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي: أصالح أم من كذبه إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ أي: امتحانا لهم وابتلاء، أي: إنا باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا؛ اختبارا لهم فَارْتَقِبْهُمْ أي: فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ أي: على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري، فإن العاقبة لك، والنصر في الدنيا والآخرة، قال ابن كثير: أخرج الله تعالى لهم ناقة عظيمة عشراء من صخرة صماء طبع ما سألوا؛ لتكون حجة لله عليهم في تصديق صالح عليه السلام

[سورة القمر (54): آية 28]

فيما جاءهم به وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي: يوم لهم ويوم للناقة، أي مقسوم بينهم وبين الناقة، لها شرب يوم ولهم شرب يوم، فالعطاء يقتضي مقابلا إلا إذا شاء الله غير ذلك كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي محضور: يحضر القوم الشرب يوما، وتحضر الناقة يوما، وقال مجاهد: إذا غابت حضروا الماء، وإذا جاءت حضروا اللبن فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قال المفسرون هو عاقر الناقة واسمه قدار بن سالف وهو أحيمر ثمود فَتَعاطى أي: فأخذ بالأسباب المؤدية، قال النسفي: أي فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث ... أو فتعاطى السيف فَعَقَرَ أي: فعقر الناقة أي نحرها. والآية تدل على أنهم جميعا كانوا راضين بالنحر، لأنه كان بناء على أمرهم، أو على رضاهم فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي: وانذاراتي؟ كان العذاب شديدا والإنذارات صادقة إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً في اليوم الرابع من عقرها، كما ورد في سورة هود فَكانُوا كأثر عن الصيحة كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي: فبادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات، والهشيم: الشجر اليابس المتهشم المتكسر، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة، وما يحتظر بها عادة ييبس بطول الزمان، وتطؤه البهائم، فيتحطم ويتهشم، فأصبح قوم صالح بالصيحة كذلك فما أشده من عذاب وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: فهل من متعظ يفر إلى الله خشية عقابه في الدنيا والآخرة، فيؤمن بهذا القرآن، ويقبل عليه حفظا وتلاوة وعملا. كلمة في السياق: رأينا في قصة ثمود نموذجا جديدا على تكذيب المرسلين، ورأينا فيها نموذجا جديدا من عذاب الله ينزل بأمة، ففي قصة نوح كان عذاب الاستئصال بواسطة الطوفان، وفي قصة عاد كان عذاب الاستئصال بواسطة الريح، وفي قصة ثمود كان عذاب الاستئصال بواسطة الصيحة، وقد أرانا الله عزّ وجل في قصة نوح ما رافق التكذيب من رمي بالجنون، وما رافقه من زجر لنوح، ولم نر في قصة عاد سوى التكذيب، ورأينا في قصة ثمود ما رافق التكذيب من مكر، وفي ذكر التكذيب فقط في قصة عاد ما يشير إلى أن التكذيب وحده كاف لعذاب الاستئصال، وفي ذكر شئ آخر مع التكذيب في قصتي نوح وصالح عليهما السلام إشارة إلى أن هذا النوع من الكلام كلام دائم في تاريخ الكفر فالرمي بالجنون للداعية، وانتهاره وزجره، واتهام الدعاة بالبطر وطلب الزعامة

تفسير الفقرة الرابعة

مع التكذيب لغة نراها في كل زمان ومكان، وهي أثر عن الكفر، والحصيلة لهذا كله هو استواء الإنذار وعدمه عند هؤلاء، وذلك هو التفصيل لمحور السورة الرئيسي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ .... ... تفسير الفقرة الرابعة: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ أي: بالمرسلين، أو بالإنذارات إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً قال ابن كثير: وهي الحجارة، وقال النسفي: (أي ريحا تحصبهم بالحجارة أي ترميهم بها) إِلَّا آلَ لُوطٍ أي: هو وابنتاه، قال ابن كثير: ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته، فأصابها ما أصاب قومها، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي: بسحر من الأسحار نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي: هذا الإنجاء إنعاما من عندنا على لوط وآله كَذلِكَ أي: مثل ذلك الإنجاء نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمة الله بإيمانه وطاعته وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بَطْشَتَنا أي: أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي: فكذبوا بالنذر متشككين وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي: طلبوا منه الفاحشة من أضيافه الملائكة، وهم يظنونهم بشرا كما مر معنا تفصيل ذلك في سورتي هود والحجر فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي: أعميناهم فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي: فقلت لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي وانذاراتي وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي: أول النهار عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي: لا محيد لهم عنه، ولا انفكاك لهم منه، قال النسفي: (أي ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ عند ما أذاقهم العمى قال ذوقوا عذابي ونذر، وعند ما صبحهم بالعذاب قال لهم ذلك، لأن العذاب كان متنوعا متعددا، فقرعهم عند إنزاله كل نوع بهذا القول وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فيتعظ فلا يفعل ما فعله المعذبون من تكذيب وعصيان. ... كلمة في السياق: رأينا في الفقرة الرابعة نموذجا جديدا على أمة كذبت ولم تنفعها الإنذارات، ورأينا

تفسير الفقرة الخامسة

ما رافق تكذيبها من عصيان، ورأينا نوعا جديدا من العذاب عوقبت به، وصلة ذلك بسياق السورة الخاص، وبمحور السورة لا تخفى فلا نطيل، والملاحظ أن قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قد تكرر أربع مرات وراء القصص الأربع، وفي ذلك قال النسفي: (وفائدة تكرير فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وهذا حكم التكرير في قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* عند كل نعمة عدها، وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* عند كل آية أوردها، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان). تفسير الفقرة الخامسة: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ أي: الرسل أو الإنذارات كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها أي: بالآيات التسع فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ أي: لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شئ. قال ابن كثير: (فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبر ولا عين ولا أثر). كلمة في السياق: 1 - ذكرت القصة الخامسة- باختصار- نموذجا جديدا على أمة أنذرت فكذبت فأهلكت، وبهذا تمت المجموعة الثانية، بعد أن ضربت لنا نماذج على أمم كذبت فأهلكت، ونماذج على أنواع من الهلاك، وتأتي الآن المجموعة الثالثة والأخيرة في السورة، وفيها خطاب لكفار هذه الأمة أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ... ، فالمجموعة الثالثة إذن استمرار للمجموعة الثانية. 2 - بدأت السورة بالكلام عن كفار هذه الأمة ومواقفهم، وذلك في مجموعتها الأولى، وثنت بذكر مكذبي الأمم السابقة وما أصابهم عقوبة لهم، ثم تأتي المجموعة الثالثة لتناقش هؤلاء الكافرين. 3 - المجموعة الأولى عرضت مواقف كفار هذه الأمة، ولم تناقشهم، والمجموعة الثانية عرضت مواقف الأمم السابقة، وذكرت بالقرآن، ثم تأتي المجموعة الثالثة لتناقش كفار هذه الأمة، وتنذرهم، وتبشر المتقين:

المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (43) حتى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (55) وهذه هي: [سورة القمر (54): الآيات 43 الى 55] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) التفسير: أَكُفَّارُكُمْ يا من بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يعني: من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل، وكفرهم بالكتب، يعني: أن كفاركم مثل أولئك بل شر منهم، ومن ثم فليحذروا ما أصاب أولئك أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي: أم أنزلت عليكم براءة في الكتب المتقدمة، أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله؛ فأمنتم بتلك البراءة. قال ابن كثير: أي أم معكم من الله براءة أن لا ينالكم عذاب ولا نكال أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ أي: جماعة أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ أي: ممتنع لا نرام ولا نضام. قال ابن كثير: أي يعتقدون أنهم يناصرون بعضهم بعضا، وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ أي: جمع أهل مكة وهم أول من بلغتهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: الأدبار، أي ينصرفون منهزمين. قال النسفي: يعني يوم بدر، وهذه من علامات النبوة. قال ابن كثير: (أي سيتفرق شملهم ويغلبون) قال الألوسي:

[سورة القمر (54): آية 46]

(أخرج ابن أبي حاتم. والطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وقال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر، وفي الدر المنثور: أخرج البخاري عن عائشة قالت: «نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ») فكان في الآية معجزة غيبية إذ أنها أخبرت عن شئ ثم وقع. ... حصرت الآيات الثلاث العوامل التي يمكن أن تكون سببا في أمن المشركين من عذاب الله بثلاثة أشياء: 1 - خيرية هؤلاء على أولئك. 2 - أو أخذهم أمانا من الله في الكتب السابقة. 3 - أو تصورهم أن جمعهم سيغني عنهم. وإذ كان السببان الأولان منتفيين فقد بقي الثالث، وقد أخبرهم الله عزّ وجل أن هذا الثالث سوف يؤتون من قبله إذ يهزمون، وكأن الآيات تحدد نوع العذاب الذي سينزله الله عزّ وجل بكفار قريش المكذبين الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عذاب الخزي والهزيمة، والقتل في الدنيا، وقد كان ذلك يوم بدر، فكانت معجزة تحتوي في طياتها ذكر نموذج آخر من نماذج تعذيب الله عزّ وجل للمكذبين رسله، فقد أنذر أنه ستحل بقريش الهزيمة، وقد كان ذلك، وفي الآيات بشارة مستمرة لهذه الأمة، ثم بين تعالى أن عذاب يوم القيامة أشد فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي: موعد عذابهم زائدا على عذاب بدر وَالسَّاعَةُ أَدْهى أي: أشد من موقف بدر وَأَمَرُّ أي: وأمر مذاقا من عذاب الدنيا وأشد، والداهية: هي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه. ... وهكذا عرفنا الله عزّ وجل على ما يستحقه المكذبون الأوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، وللكافرين من هذه الأمة في كل عصر عذابهم، إذ لهم نفس لغة الأوائل، وبعد هذا كله يحدثنا الله عزّ وجل في خاتمة السورة عن الطرفين المتقابلين: المجرمين والمتقين، وبذلك ينهي السورة:

[سورة القمر (54): آية 47]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ قال النسفي: عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ أي ونيران في الآخرة، أو في هلاك ونيران في الآخرة، وابن كثير يرى أن الضلال والسعر للكافرين في الدنيا، قال: يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق، وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي: يجرون فيها على وجوههم. قال ابن كثير: أي لما كانوا في سعر وشك وتردد، أورثهم ذلك النار، ولما كانوا ضلالا يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي: ذوقوا مس سقر لكم، أي: ذوقوا عذابها، وسقر: علم لجهنم إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي: إنا خلقنا كل شئ بقدر، أي بتقدير سابق، أو خلقنا كل شئ مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ، معلوما قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه، فإذا كانت الكلمة مشتقة من التقدير، فالمراد بذلك إقامة الحجة على الكافرين بمجيء يوم القيامة، وإذا كانت مشتقة من القدر فالآية تنذر الكافرين أن يخافوا الله، ثم قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي: وما أمرنا إلا كلمة واحدة، أي: وما أمرنا لشئ نريد تكوينه إلا أن نقول له: كن فيكون كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي: على قدر ما يلمح أحدكم ببصره، والتشبيه للتقريب، وقيل المراد بأمرنا القيامة، فإذا كان المراد أمر الله في الدنيا فإن السياق يفيد أن قدرة الله عزّ وجل التي خلقت الأشياء كلها، والتي هذا شأنها تصل إليكم إذا أرادت تعذيبكم، وإذا كان المراد أمر الآخرة فإن الآيات تدلل على أن الساعة آتية لا ريب فيها من خلال عرض مظاهر قدرة الله، وذكر الآية اللاحقة يرجح الأول قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي: أشباهكم في الكفر من الأمم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: متعظ. كلمة في السياق: 1 - يلاحظ أن الآيات الأخيرة استقرت على قوله تعالى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وهي الكلمة التي جاءت وراء القصص الأربع من المجموعة الثانية وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فكأن ما مر معنا في الآيات الأخيرة نموذج آخر على كون القرآن ذكرا بما عرضه فيها، ومن ثم طالبت الآية الأخيرة بالادكار، فإذا تأملنا ما بين آخر مرة ذكرت فيها فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وما بين ورودها الأخير هذا فإننا نجد أنه قد جاء ذكر أخذ فرعون وآله، ومخاطبة كفار هذه الأمة بما يستحقون في الدنيا والآخرة،

[سورة القمر (54): آية 52]

وذكر حال أهل الكفر وعذابهم في الدنيا والآخرة، وذكر قدرة الله على الخلق وفعله في إهلاك السابقين، وأعقب ذلك المطالبة بالادكار، مما يدل على أن هذه كلها مذكرات. 2 - لاحظنا أن قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ* وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ جاء في سياق يمكن أن يستدل به على مجئ اليوم الآخر، كما يمكن أن يستدل به على الله، وأنه قادر على أن يعذب المجرمين؛ ومن ثم جاء بعدها وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وبعد أن استقر هذا بين الله عزّ وجل أن أعمالهم كلها محصية عليهم، وفي ذلك تتمة الإنذار والتذكير: ... وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي: في دواوين الحفظة. قال ابن كثير: أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي: من الأعمال ومن كل ما هو كائن مُسْتَطَرٌ أي مسطور في اللوح المحفوظ، هذا تفسير النسفي للآية، وأما ابن كثير: فيراها في الكلام عن صحف الملائكة، قال: (أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) وبذلك استكمل الإنذار. ... وبعد هذا الإنذار المتواصل في السورة تختتم السورة بآيتين فيهما تبشير للمتقين؛ تحقيقا لسنة القرآن في الإنذار والتبشير، وفي ختم السورة بهاتين الآيتين دعوة للناس جميعا أن يكونوا من أهل التقوى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أي: وأنهار. قال ابن كثير: أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال، والسعر والسحب في النار على وجوههم، مع التوبيخ والتقريع والتهديد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي: في مكان مرضي. قال ابن كثير: (أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده وإحسانه عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي: عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون) وفائدة التنكير في اسمي الجلالة أن يعلم أن لا شئ إلا وهو تحت ملكه وقدرته، وهو على كل شئ قدير. ... قال صاحب الظلال: (وعند هذا الإيقاع الهادئ، في هذا الظل الآمن. تنتهي

كلمة في السياق

السورة التي حفلت حلقاتها بالفزع والكرب والأخذ والتدمير. فإذا للظل الآن والإيقاع الهادئ طعم وروح أعمق وأروح ... وهذه هي التربية الكاملة. تربية العليم الحكيم بمسارب النفوس ومداخل القلوب. وهذا هو التقدير الدقيق لخالق كل شئ بقدر، وهو اللطيف الخبير). كلمة في السياق: 1 - قد يتساءل متسائل أن السور الأربعة من هذه المجموعة ذكرت المتقين، فلماذا اعتبرتم محور الذاريات والطور والنجم الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، ومحور سورة القمر الآيتين التاليتين لذلك؟ نقول: إن المعاني هي التي قادتنا لذلك، ثم إن سورة القمر ذكرت المتقين، ولكن لم تضف تعريفا جديدا لهم، أو معنى جديدا في التقوى، وإنما ذكرت ما للمتقين فقط، بينما السور الثلاث السابقة أعطتنا مضمونا للتقوى أو تعريفا أو تفصيلا. 2 - نلاحظ أن السورة فصلت في محورها تفصيلا جديدا زائدا على تفصيل سور سابقة، وقد رأينا من خلالها بوضوح كيف أن نوعا من الكفار لا يؤثر فيهم الإنذار، كما رأينا صورا من العذاب العظيم للكافرين، وذلك هو محور السورة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. 3 - يلاحظ أن نهاية السورة هي قوله تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ وأن بداية السورة اللاحقة سورة الرحمن الرَّحْمنُ فالصلة بين نهاية السورة وبداية ما بعدها واضحة. ولننقل بعض الفوائد المتعلقة ببعض آيات السورة. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير للكلام عن سورة القمر بقوله: (قد تقدم في حديث أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة). 2 - بمناسبة قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ

وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ وقد وردت الأحاديث بذلك. روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب، فلم يبق منها إلا سف يسير فقال: «والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه» وما نرى من الشمس إلا يسيرا. (حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره) روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال: «ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى» وروى الإمام أحمد عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى. أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة ابن دينار. وروى الإمام أحمد عن وهب السوائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني» وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى. وروى الإمام أحمد عن إسماعيل بن عبيد الله قال: قدم أنس بن مالك على الوليد ابن عبد الملك فسأله ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنتم والساعة كهاتين» تفرد به أحمد رحمه الله وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه. وروى الإمام أحمد عن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا، والله لتملؤنه أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام» وذكر تمام الحديث. انفرد به مسلم. وروى أبو جعفر بن جرير عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق. فقلت لأبي أيستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال، ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة فقال: ألا إن الله عزّ وجل يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ألا وإن الدنيا قد

(ذكر الأحاديث الواردة في ذلك)

آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال ابن كثير: قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: «خمس قد مضين: الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر» وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. (ذكر الأحاديث الواردة في ذلك) (رواية أنس بن مالك): روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين فقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ورواه مسلم عن محمد بن رافع، وروى البخاري عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما. وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدب، ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي ويحيى القطان وغيرهما. (رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه): قال الإمام أحمد ... عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير، وكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل. ورواه البيهقي أيضا من طرق إبراهيم ابن طهمان. (رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما): روى البخاري عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر بن نصر. وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا. (رواية عبد الله بن عمر): روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال

النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد» وهكذا رواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح. (رواية عبد الله بن مسعود): روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» وهكذا رواه البخاري ومسلم، وروى ابن جرير عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر، فأخذت فرقة خلف الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا اشهدوا» روى البخاري عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة قال فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال فجاء السفار فقالوا ذلك، وروى البيهقي عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، قال: فسئل السفار، قال: وقدموا من كل وجهة فقالوا: رأينا. ورواه ابن جرير من حديث المغيرة به وزاد فأنزل الله عزّ وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ثم روى ابن جرير عن محمد- هو ابن سيرين- قال: نبئت أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: لقد انشق القمر. وروى ابن جرير أيضا عن الأسود عن عبد الله قال: لقد رأيت الجبل من فرج القمر حيث انشق. ورواه الإمام أحمد عن الأسود عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر، وقال ليث عن مجاهد انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «اشهد يا أبا بكر» فقال المشركون: سحر القمر حتى انشق). قال صاحب الظلال معلقا على حادثة انشقاق القمر: (فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة. وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه؛ ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه؛ فلا بد أن يكون قد وقع فعلا بصورة يتعذر معها التكذيب، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات، لو وجدوا منفذا للتكذيب. وكل ما روي عنهم أنهم قالوا: سحرنا! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر، فعرفوا أنه ليس بسحر؛ فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه).

4 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* قال النسفي: (وقيل (أي في معنى الآية) ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه فهل من طالب لحفظه ليعان عليه) وقال ابن كثير: أي سهلنا حفظه ويسرنا معناه، لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وقال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا قال مجاهد: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ* يعني: هونا قراءته. وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن. وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزّ وجل. (قلت): ومن تيسيره تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف». أقول: ذكرت هذه الآية خاصية من خواص هذا القرآن الكثيرة، وهي أن القرآن مع كونه تحدث عن كل شئ فإنه يقرؤه العامي ويستشعر أنه يفهمه، وأعظم الناس علما وثقافة يقرؤه ويستشعر أنه يفهمه، وهذا يأخذ منه على قدره، وهذا يأخذ منه على قدره، ومن تأمل هذه الظاهرة وحدها أيقن أن هذا القرآن من عند الله، لأن أحدا ما لا يقدر على مثل ذلك من البشر. 5 - رأينا كيف أن قوم صالح كان من كلامهم: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ وهذا يدلنا على أن من أخلاق الكافرين رفض تسليم القياد للقيادة الراشدة، وهذه قضية يجب أن يلاحظها المسلم في ذاته، بأن يجعل ذاته تسلم لأهل الحق في القيادة حقهم، فالقيادة والطاعة والولاء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام يكون حق الطاعة في المعروف لمن قدمه الصف الراشد للقيادة من خلال الشورى، وللمسألة صور ولكل صورة أحكامها، وعلى الأمير الراشد أن يقود الناس بالكتاب والسنة، فعن الشورى تنبثق القيادة، والقيادة تقيم الكتاب والسنة، وتستشير في أمر المسلمين أهل شوراهم لاتخاذ القرار السليم، والمسلم مكلف أن يطيع أميره في المعروف، وهكذا تلتقي في هذه الشريعة أجود ما تحكم به العقول دون ما تصبو إليه النزوات، وذلك من فضل الله على العالمين أن هدى الناس إلى ما فيه رشادهم في كل شئ. 6 - بمناسبة قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ نقول: إن نغمة (بالوحدة يكون كل شئ) بوحدة الشعب، أو بوحدة الأمة، بصرف النظر عن

الإيمان والكفر، نغمة قديمة، حتى لقد ظن كافرون أن بالوحدة لا تطالهم يد الله وهيهات، ونحن مكلفون بالإسلام، والإسلام فرض علينا أن نكون أمة واحدة، فهذا فرع هذا عند المسلم. 7 - بمناسبة قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال ابن كثير: (روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ* بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: نزلت سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال: قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فعرفت تأويلها يومئذ. وروى البخاري عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين فقالت: نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ هكذا رواه هاهنا مختصرا، ورواه في فضائل القرآن مطولا ولم يخرجه مسلم). 8 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال ابن كثير: (ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية- وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات- على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث وكيع عن سفيان الثوري به. وروى البزار عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ما نزلت هذه الآيات إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ* يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ إلا في أهل القدر. وروى ابن أبي حاتم عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ

خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال: «نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله». وحدثنا الحسن بن عرفة- بسنده- عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال أو قد فعلوها! قلت: نعم، قال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين، وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر مرفوع عن عبد الله بن عباس قال: قيل له إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه- وهو أعمى-، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس! قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه. ولئن وقعت رقبته في يدى لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا» ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة. وروى الإمام أحمد عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه عبد الله بن عمر إنه بلغني أنك تكلمت في شئ من القدر، فإياك أن تكتب إلى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر» ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به. وروى أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه، وروى أحمد عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في هذه الأمة مسخ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صخر حميد بن زياد به وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وروى الإمام أحمد عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شئ بقدر حتى العجز والكيس» ورواه مسلم منفردا به من حديث مالك. وفي الحديث الصحيح: «استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان» وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك؛

جفت الأقلام وطويت الصحف» وروى الإمام أحمد عن أيوب بن زياد حدثني عبادة ابن الولد بن عبادة حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار. ورواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال: حسن صحيح غريب. وروى سفيان الثوري عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره» وكذا رواه الترمذي، ورواه من حديث أبي داود الطيالسى عن علي فذكره وقال: هذا عندي أصح، وكذا رواه ابن ماجه عن ربعي عن علي به، وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» زاد ابن وهب: «وكان عرشه على الماء» ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب). أقول: قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ يحتمل وجهين: أن يكون القدر بمعنى المقدر، فيكون المراد هو المعنى المشهور الذي يذكر مع القضاء، قال الألوسي: (وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف) وجوز أن يكون المعنى إنا كل شئ خلقناه مقدرا محكما مستوفى فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً، وبين المعنى الأول والمعنى الثاني نوع تلازم، وعلى ضوء هذا التلازم تكلم صاحب الظلال عن هذه الآية فقال رحمه الله: (إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة لا شئ جزاف. لا شئ عبث. لا شئ مصادفة. لا شئ ارتجال. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ كل شئ ... كل صغير وكل كبير. كل ناطق

وكل صامت. كل متحرك وكل ساكن. كل ماض وكل حاضر. كل معلوم وكل مجهول. كل شئ ... خلقناه بقدر. قدر يحدد حقيقته. ويحدد صفته. ويحدد مقداره. ويحدد زمانه. ويحدد مكانه. ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء. وتأثيره في كيان هذا الوجود. وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة، مصداقها هذا الوجود كله. حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود، ويتجاوب معه، ويتلقى عنه، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقا دقيقا. كل شئ فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق. الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود. ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل، ويطيقه العقل البشري، ويملك معرفته عن هذا الطريق. ووراء هذا القدر يبقى دائما ما هو أعظم وأكمل، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق المخلوق كل شئ فيه بقدر. ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له ... وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها. فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها ... ثم يتحقق هذا الذي فرضوه. وبدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام، في هذا الفضاء الهائل، بهذه النسب المقدرة، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب! ووصل في إدراك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يؤدي بالحياة كلها، أو لا يسمح أصلا بقيامها. فحجم هذه الأرض، وكتلتها، وبعدها عن الشمس وكتلة هذه الشمس، ودرجة حرارتها. وميل الأرض على محورها بهذا القدر. وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس. وبعد القمر عن الأرض. وحجمه وكتلته. وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض ... إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديرا، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شئ؛ ولكانت هي النهاية

المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض! ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط التي تضبط الحياة؛ وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها؛ وبين بعضها وبعض ... إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية. فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء، وعوامل الموت والفناء في البيئة وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائما بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها. وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف المهيأة للأحياء- في وقت ما- لإعالتهم وإعاشتهم! ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شئ من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض. (إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار. ولو كانت مع عمرها الطويل، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان. وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض! بغاث الطير أكثرها فراخا … وأم الصقر مقلات نزور وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث! والذبابة تبيض ملائين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس- وأولها الإنسان- مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن عجلة التوازن التي لا تختل، في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر، فكان هذا الذي نراه! والميكروبات- وهي أكثر الأحياء عددا، وأسرعها تكاثرا، وأشدها فتكا- وهي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرا- تموت بملايين الملايين من

البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء! وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح. وقوة البطش سلاح. وبينهما ألوان وأنواع ... الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها. والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام! والخنفساء- وهي قليلة الحيلة- مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء! والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس! وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء. وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام ... الإنسان والحيوان والطير وأدنى أنواع الأحياء سواء. البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذي منها حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه) (¬1). (والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلا أبيض مائلا إلى الاصفرار. ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض. وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين. ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوما بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي لتر ونصف ¬

_ (¬1) من كتاب: الله والعلم الحديث للأستاذ عبد الرزاق نوفل ص 46 - 47.

في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات. ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوما بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو) (¬1). وتتبع الأجهزة المختلفة في تكوين الإنسان، ووظائفها، وطريقة عملها، ودور كل منها في المحافظة على حياته وصحته ... يكشف عن العجب العجاب في دقة التقدير وكمال التدبير. ويرينا يد الله وهي تدبر أمر كل فرد. بل كل عضو. بل كل خلية من خلاياه. وعين الله عليه تكلؤه وترعاه. ولن نستطيع هنا أن نفصل هذه العجائب فنكتفي بإشارة سريعة إلى التقدير الدقيق في جهاز واحد من هذه الأجهزة: جهاز الغدد الصم «تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتركيبات الكيماوية الضرورية، والتي يبلغ من قوتها أن جزءا من ألف بليون جزء منها تحدث آثارا خطيرة في جسم الإنسان. وهي مرتبة بحيث إن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى. وكل ما كان يعرف عن هذه الإفرازات أنها معقدة التركيب تعقيدا مدهشا، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفا عاما في الجسم، يبلغ حد الخطورة. إذا دام هذا الاختلال وقتا قصيرا» (¬2). أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته ... «زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها والتغلب عليها، بأنياب قاطعة، وأسنان حادة، وأضراس صلبة. ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها، فلأرجلها عضلات قوية، سلحت بأظافر ومخالب حادة، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام» (¬3). فأما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي، فهي تختلف فيما زودت به. «وقد صممت أجهزتها بما يتناسب مع البيئة، فأفواهها واسعة نسبيا؛ وقد ¬

_ (¬1) من كتاب: الله والعلم الحديث للأستاذ عبد الرزاق نوفل ص 47 - 48. (¬2) المصدر السابق ص 51 - 52. (¬3) المصدر السابق: ص 71 - 72.

تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة. وبدلا منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاصمة قاطعة؛ فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات. وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة للهضم، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش، وهو مخزن له، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة. يذهب الطعام إلى تجويف يسمى «القلنسوة». ثم يرجع إلى الفم، فيمضغ ثانية مضغا جيدا، حيث يذهب الطعام إلى تجويف ثالث يسمى «أم التلافيف»، ثم إلى رابع يسمى «الإنفحة» وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان، إذ كثيرا ما يكون هدفا لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي. ويقول العلم إن عملية الاجترار ضرورية بل حيوية، إذ أن العشب من النباتات العسرة الهضم، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جدا، فلو لم يكن مجترا، وبمعدته مخزن خاص، لضاع وقت طويل في الرعي يكاد يكون يوما بأكمله دون أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ، إنما سرعة الأكل، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئا من التخمر؛ ليبدأ المضغ والطحن والبلع، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وغذاء وحسن هضم. فسبحان المدبر» (¬1). «والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم. بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء. وعلى جانب المنقار زوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش. «أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض. بينما منقار البجعة مثلا طويل طولا ملحوظا، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد. إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي». «ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات ¬

_ (¬1) من كتاب الله والعلم الحديث للأستاذ عبد الرزاق نوفل: ص 72 - 73.

والديدان، التي غالبا ما تكون تحت سطح الأرض. ويقول العلم: إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره». «وأما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب. فلما لم يعط أسنانا فقد خلقت له حويصلة وقانصة تهضم الطعام. ويلتقط الطير مواد صلبة وحصي لتساعد القانصة على هضم الطعام» (¬1). ويطول بنا الاستعراض، ونخرج على منهج هذه الظلال، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو، فنسرع الخطى إلى «الأميبا» وهي ذات الخلية الواحدة، لنرى يد الله معها. وعينه عليها. وهو يقدر لها أمرها تقديرا. «والأميبا كائن حي دقيق الحجم، يعيش في البرك والمستنقعات، أو على الأحجار الراسبة في القاع. ولا يرى بالعين إطلاقا وهو يرى بالمجاهر، كتلة هلامية، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات. فعند ما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد، تستعملها كالأقدام للسير بها إلى المكان المرغوب. ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة. وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين، وتفرز عليه عصارة هاضمة، فتتغذى بالمفيد منها، أما الباقي فتطرده من جسمها! وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء ... فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين، يعيش ويتحرك، ويتغذى ويتنفس، ويخرج فضلاته! فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين، ليكون كل قسم حيوانا جديدا». «وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير. والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (¬2). على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير. إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها. كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد، ككل نفس يخرج من صدر! إن هذا النفس مقدر في وقته، مقدر في مكانه، مقدر في ظروفه كلها، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون، ¬

_ (¬1) من كتاب الله والعلم الحديث للأستاذ عبد الرزاق نوفل: ص 73 - 74. (¬2) المصدر السابق: ص 101 - 102.

محسوب حسابه في التناسق الكوني، كالأحداث العظام الضخام! وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء. إنه هو الآخر قائم هناك بقدر. وهو يؤدى وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان، وهذه النملة الساربة. وهذه الهباءة الطائرة. وهذه الخلية السابحة في الماء. كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء! تقدير في الزمان، وتقدير في المكان، وتقدير في المقدار، وتقدير في الصورة. وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال. من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه لم يكن إلا حادثا شخصيا فرديا؟ إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه، فيأخذوه فيلقوه في الجب- ولا يقتلوه- لتلتقطه السيارة. لتبيعه في مصر. لينشأ في قصر العزيز. لتراوده امرأة العزيز عن نفسه. ليستعلي على الإغراء. ليلقى في السجن ... لماذا؟ ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك. ليفسر لهما الرؤيا ... لماذا؟ إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب! ويقف ناس من الناس يسألون: لماذا؟ لماذا يا رب يتعذب يوسف؟ لماذا يا رب يتعذب يعقوب؟ لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن؟ ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم المنوع الأشكال؟ لماذا؟ ... ولأول مرة تجئ أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب. لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة! ثم ماذا؟ ثم ليستقدم أبويه وإخوته. ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل. ليضطهدهم فرعون. لينشأ من بينهم موسى- وما صاحب حياته من تقدير وتدبير- لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه! ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن إلا حادثا شخصيا فرديا؟ إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر، ليأخذ منها هاجر، لتلد له إسماعيل. ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت الحرام. لينشأ محمد- صلى الله عليه وسلم- من نسل إبراهيم- عليه السلام- في هذه الجزيرة. أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام ... ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام! إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد. لكل حادث. ولكل نشأة. ولكل مصير. ووراء كل نقطة، وكل خطوة، وكل تبديل أو تغيير.

كلمة أخيرة في سورة القمر

إنه قدر الله النافذ، الشامل، الدقيق، العميق. وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب، ولا يرون طرفه البعيد. وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير، فتخفى عليهم حكمة التدبير. فيستعجلون ويقترحون. وقد يسخطون. أو يتطاولون! والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شئ بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق، وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق). 9 - بمناسبة قوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا» ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر. ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي ويحك يا سعيد ابن مسلم لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان: لا تحقرن من الذنوب صغيرا … إن الصغير غدا يعود كبيرا إن الصغير ولو تقادم عهده … عند الإله مسطر تسطيرا فازجر هواك عن البطالة لا تكن … صعب القياد وشمرن تشميرا إن المحب إذا أحب إلهه … طار الفؤاد وألهم التفكيرا فاسأل هدايتك الإله بنية … فكفى بربك هاديا ونصيرا 10 - بمناسبة قوله تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» انفرد بإخراجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة بإسناده مثله). كلمة أخيرة في سورة القمر: فصلت سورة القمر في صفات الكافرين الذين وصلوا إلى حالة يستوي معهم فيها

الإنذار وعدمه، كما فصلت في ضرب الأمثلة على وجود هذا النوع من الكافرين في كل العصور، وبينت ما يستحقه هؤلاء وأمثالهم في الدنيا والآخرة، ثم استقرت على ما يصل آخر سورة القمر بأول سورة الرحمن، كما رأينا، وهكذا وجدنا أن للسورة سياقها الخاص الذي يفصل بما يخدم السياق القرآني العام، بالشكل الذي تقع فيه السورة ضمن مجموعتها، وبحيث ترتبط أول سورة القمر بآخر سورة النجم، ويرتبط أول سورة الرحمن بآخر سورة القمر، وكل ذلك قد رأينا تفصيلاته. فلنبدأ عرض سورة الرحمن. ***

سورة الرحمن

سورة الرحمن وهي السورة الخامسة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة من المجموعة الأولى من قسم المفصل، وآياتها ثمان وسبعون آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الرحمن

بين يدي سورة الرحمن: قال الألوسي في تقديمه لسورة الرحمن: (وسميت في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك (وهي مكية) في قول الجمهور، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير. وعائشة رضي الله تعالى عنهم. وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة، وحكي ذلك عن مقاتل، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا، وحكى أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي، وسبع وسبعون في الحجازي، وست وسبعون في البصري. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي: أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ ثم وصف عزّ وجل حال المجرمين فِي سَقَرَ؛ وحال المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى شدتها، ثم وصف النار وأهلها، ولذا قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ولم يقل الكافرون، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ، ثم وصف الجنة وأهلها، ولذا قال تعالى فيهم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن، أو أطاع، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل؛ ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها؛ وقال أبو حيان في ذلك: أنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سقر، ومقر المتقين في جنات ونهر عند مليك مقتدر ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب، إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار، ولما أبرز قوله سبحانه: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل: الرَّحْمنُ الخ،

والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة، أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عزّ وجل، وبين عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم، ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك، عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية، وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها، وهذا التكرار أحلى من السكر إذا تكرر، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى: التكرار في سورة (الرحمن) إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا: على أن ليس عدلا من كليب … إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب … إذا رجف العضاه من الدبور على أن ليس عدلا من كليب … إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب … إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب … إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب … غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلا من كليب … إذا ما خار جاش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول؛ ثم قال: وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها) ومما ذكره الألوسي من وجوه المناسبة بين سورة الرحمن وسورة القمر: أن كلا منهما قد افتتحت بذكر معجزة، فسورة القمر افتتحت بذكر معجزة انشقاق القمر، وسورة الرحمن افتتحت بذكر معجزة القرآن. وقدم ابن كثير بين يدي تفسير سورة الرحمن هذه النصوص: (روى الإمام أحمد عن عاصم عن زر أن رجلا قال: كيف تعرف هذا الحرف من ماء غير آسن أو أسن؟

فقال: كل القرآن قد قرأت؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال: أهذا كهذ الشعر لا أبا لك؟ قد علمت قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين من أول المفصل، وكان أول مفصل ابن مسعود الرَّحْمنُ، وروى أبو عيسى الترمذي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم ورواه الحافظ أبو بكر البزار. وروى أبو جعفر بن جرير عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال: «ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ما أتيت على قول الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ * إلا قالت الجن: لا بشيء من نعم ربنا نكذب» ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك به ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة الرحمن: (هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ. إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير، وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة. في جميل صنعه، وإبداع خلقه؛ وفي فيض نعمائه؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم ... وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين: الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء، في ساحة الوجود، على مشهد من كل موجود، مع تحديهما- إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله- تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ويجعل الكون كله معرضا لها، وساحة الآخرة كذلك. ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله، وفي إيقاع فواصلها ... تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى، وامتداد التصويت إلى بعيد؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير التوقف والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار ... الرحمن ... كلمة واحدة. مبتدأ مفردا ... الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة، وفي رنتها الإعلان، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن).

كلمة في سورة الرحمن ومحورها

كلمة في سورة الرحمن ومحورها: بعد مقدمة سورة البقرة يأتي القسم الأول منها: وبدايته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والذي نهايته: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً ... وكنا ذكرنا من قبل أن القسم الأول من سورة البقرة ختم بنفس المعاني التي ابتدأ بها، ومن ملاحظة البداية والنهاية علمنا أن الله عزّ وجل عرفنا فيه على ذاته، وطالبنا بعبادته وحده من خلال تذكيرنا بخلقنا وما خلق لنا. وسورة الرحمن إنما هي تذكير بذلك كله، فمحورها الآيتان الآتيتان بعد مقدمة سورة البقرة، وامتداد هاتين الآيتين في سورة البقرة مما فيه تذكير بالخلق والنعمة. .. لاحظ ما يلي: - في آيتي سورة البقرة: ... الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وفي سورة الرحمن: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ وفي آيتي سورة البقرة: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وفي سورة الرحمن: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ* وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ* فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ. - ومن امتدادات آيتي سورة البقرة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وفي سورة الرحمن تفصيل ذلك. - ومن امتدادات الآيتين قصة خلق الإنسان الموجودة في مقطع آدم عليه السلام، وفي سورة الرحمن تفصيل ذلك: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ* وَخَلَقَ

الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. - ومن امتدادات الآيتين قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وتبدأ سورة الرحمن بذكر اسم الله الرحمن الرَّحْمنُ ثم ترينا مظاهر رحمته. - ويأتي بعد قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ في سورة البقرة آية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويأتي في سورة الرحمن تفصيل لذلك رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. وتختم السورة بالتبشير والإنذار كما جاء بعد آيتي المحور من سورة البقرة: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ فلقد ختمت سورة الرحمن بالكلام عن النار وعن الجنات، وثمارها وأنهارها وحورها وغير ذلك، ولكن هذه المعاني في سورة الرحمن مصاغة صياغة جديدة، ومبني عليها ما يقتضيه البناء مع تفصيلات وزيادات وضمن سياق خاص للسورة. فالسورة لها سياقها الخاص بها، وهي تفصل في محورها، وتأخذ محلها بين مجموعتها. ... وآيتا المحور في البقرة بدأتا بنداء الناس، ومن المعلوم أنه كما إن الإنس مكلفون فالجن مكلفون، وجاءت سورة الرحمن لتوجه الخطاب للإنس والجن. ... وقد ذكر في سورة الذاريات وسورة النجم الإحسان، وسنرى في سورة الرحمن قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ورأينا في سورة الطور أن الإشفاق خلق من أخلاق المتقين، ونجد في سورة الرحمن قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وهذا مظهر من مظاهر تكامل سور المجموعة، وسيتضح لنا محل سورة الرحمن

ومحورها بشكل أوسع عند عرض تفسيرها. تتألف السورة من ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى: وهي مقدمة السورة وتمتد إلى نهاية الآية (13). المجموعة الثانية: وتمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (36). المجموعة الثالثة: وتمتد من الآية (37) إلى نهاية الآية (78) أي: إلى نهاية السورة. فلنبدأ عرض السورة. ***

المجموعة الأولى وهي مقدمة السورة

المجموعة الأولى وهي مقدمة السورة: وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (13) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) التفسير: الرَّحْمنُ الله المتصف ببالغ الرحمة عَلَّمَ الْقُرْآنَ الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم فيسر حفظه وفهمه على من رحمه، وقدمه في الذكر لأنه أعظم نعمه على هذا الإنسان. قال النسفي: (عدد الله عزّ وجل آلاءه، فأراد أن يقدم أول شئ ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وصنوف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها، وهو إنعامه بالقرآن، وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علما بوحيه وكتبه، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الصحيح الفصيح المعرب عما في الضمير، والرحمن مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة،

[سورة الرحمن (55): الآيات 3 إلى 4]

وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التمديد كما تقول زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد ما تنكر من إحسانه). خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ قال الحسن البصري: يعني النطق، ورجح ابن كثير ذلك فقال: (لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها). أقول: وفي كتابنا: (الرسول صلى الله عليه وسلم) بينا في مقدمته أن الإنسان مخلوق متفرد، ومن جملة تفرده تفرده بالبيان، فكل الحيوانات لا تخرج إلا أصواتا مبهمة، ومن يخرج حرفا كالببغاء يخرجه محاكاة، أما الإنسان فإنه يخرج أصواتا مبهمة، ويخرج ثمانية وعشرين حرفا تتركب منها مليارات المليارات من الكلمات في كل لغات العالم، والملاحظ هاهنا أن خلق الإنسان ذكره الله عزّ وجل بين تعليمين: تعليمه القرآن، وتعليمه البيان، وفي ذلك إشارة إلى أن ميزة الإنسان الأساسية استعداده للعلم، وتقديمه ذكر القرآن يفيد أن أعظم ما يتعلمه الإنسان القرآن، والتصريح بخلق الله الإنسان رد على من يزعم أن إنساننا الحالي لم يكن بخلق الله المباشر. وبعد ما مر تبدأ السورة تعرض علينا تتمة آلاء الله على الإنسان الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي: بحساب معلوم، وتقدير سوي، وفي ذلك منافع للناس لا تحصى: منها أنه لولا ذلك لما أمكنت الحياة أصلا، ومنها أن يعلم الإنسان- بواسطة ذلك- عدد السنين والحساب. قال ابن كثير: (أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب) وَالنَّجْمُ أي: النبات الذي لا ساق له وَالشَّجَرُ النبات الذي له ساق يَسْجُدانِ قال النسفي: (أي ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده ... ) وفي ذكر أن الشمس والقمر بحسبان، وذكر سجود النبات لله تعالى تناسب وتقارب، قال النسفي: (وبيان التناسب أن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل. وإن السماء والأرض لا تزالان قرينتين، وإن جري الشمس والقمر بحسبان، من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر). أقول: وفي المن على البشر بسجود النبات لله وانقياده له تبيان أن لهذا الانقياد علاقته بانتظام حياة الإنسان؛ إذ لولا انتظام حياة النبات على سنن واحدة لما أمكنت حياة اقتصادية منتظمة في الحياة البشرية ولا غيرها وَالسَّماءَ رَفَعَها أي: جعلها مرفوعة عن الأرض، وفي ذلك إبعاد للخطر عن الأرض وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال ابن كثير: يعني العدل، وقال

[سورة الرحمن (55): آية 8]

النسفي: (أي كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها ... وقال: أي خلقه موضوعا على الأرض حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وعطائهم) أقول: وفي ذكر وضع الميزان بعد ذكر رفع السماء إشارة إلى أن من جملة الموازين، موازين اكتشاف أبعاد السماء، والموازين التي يزن بها الإنسان أبعاد الزمان والمكان، وفي ذكر الميزان في هذا السياق إشارة إلى أن الميزان من نعم الله الجليلة التي تعدل المنن الكبرى الأخرى على البشرية، وفي هذا السياق يأتي الأمر التكليفي الوحيد في هذه السورة أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي: ألا تتجاوزوا العدل في الميزان. قال ابن كثير: أي خلق السموات والأرض بالعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي: وأقيموا وزنكم بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي: ولا تنقصوه، قال ابن كثير: أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط. قال النسفي: (أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ أي: للخلق أي جعلها بحيث تلائمهم وتناسبهم قال ابن كثير: (أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات؛ لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها) وقد فسر الوضع للأنام بالآيتين التاليتين: فِيها فاكِهَةٌ أي: ما يتفكه به من فواكه مختلفة الألوان والطعوم والروائح وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الأكمام هي أوعية الثمر، أو كل ما يكم أي يغطى من ليفه وسعفه وغير ذلك، قال النسفي: (وكله (أي: النخل) منتفع به، كما ينتفع بالمكموم من ثمره، وجماره، وجذوعه) قال ابن كثير: (أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطبا ويابسا) وكما جعل في الأرض الفاكهة والنخل، جعل فيها الحب والريحان للطعام والجمال وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ العصف: هو ورق الزرع أو التبن وَالرَّيْحانُ الذي يشم أي فجعل لكم ما تتفكهون به وما تقتاتون وما تتلذذون بمنظره ورائحته، وذلك كله من مظاهر جعل الأرض موضوعة للأنام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما أي: نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تُكَذِّبانِ فلا تعبدان ولا تتقيان، قال ابن كثير: (أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها). أقول: وإذ كان الأمر كذلك فعليكم أن تشكروا خالقها وموجدها، وذلك بعبادته وتقواه.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - قلنا إن محور سورة الرحمن من سورة البقرة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فلنر صلة ما مر بنا من سورة الرحمن بهاتين الآيتين: - جاء في سورة الرحمن قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ ولذلك صلته بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. - وجاء في سورة الرحمن قوله تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ولذلك صلته بقوله تعالى في المحور الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً. - وجاء في سورة الرحمن قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالسَّماءَ رَفَعَها ولذلك صلته بقوله تعالى في المحور وَالسَّماءَ بِناءً. - وجاء في سورة الرحمن قوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ ولذلك صلته بقوله تعالى في المحور وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ. 2 - دعا المحور إلى عبادة الله، وإلى توحيده، وإلى تقواه معللا لذلك بالخلق والرزق والنعم، فخلق الإنسان، والعناية به، والرعاية له، ورزقه، كل ذلك يقتضي شكرا بالعبادة والتقوى والتوحيد، وسورة الرحمن تذكر الإنسان والجان بالنعم التي ينبغي أن تستخرج منهما الشكر، وتعاتبهما على التكذيب، ومن ثم فهمنا أن قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيه دعوة ضمنية للعبادة والتقوى والتوحيد التي هي أركان الشكر لله عزّ وجل. ...

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية وتمتد من الآية (14) حتى نهاية الآية (36) وهذه هي: [سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 36] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) التفسير: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ أي: من طين يابس له صلصلة كَالْفَخَّارِ

[سورة الرحمن (55): آية 15]

أي: كالطين المطبوخ بالنار، وهو الخزف، قال النسفي: ولا اختلاف في هذا وفي قوله: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ*، مِنْ طِينٍ لازِبٍ، مِنْ تُرابٍ* لاتفاقها في المعنى؛ لأنه يفيد أنه خلقه من تراب، ثم جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا. أقول: وفي ذكر خلقه من صلصال نفي صريح لزعم من زعم أن جنس الإنسان الحالي قد تطور عن خلق آخر وَخَلَقَ الْجَانَّ أي: أبا الجان مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ المارج من النار هو طرف لهبها. قال النسفي: هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه، وقيل: المختلط بسواد النار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما يا معشر الجن والإنس تُكَذِّبانِ فلا تشكران فتعبدان وتتقيان وهو الخالق لكما. كلمة في السياق: بعد أن أجمل في أول السورة خلق الإنسان، ذكر هنا بالتفصيل من أي شئ خلق الإنسان والجان، مذكرا بنعمته في ذلك، منكرا على من يكذب نعمه ولا يعمل بما تقتضيه، وصلة ذلك بالمحور واضحة، فالمحور يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهاهنا ذكر بدء الخلق، مع الإنكار على من يجحد النعم؛ فلا يعمل بما تقتضيه من شكر، والشكر عبادة وتقوى وتوحيد. ... رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ في كل لحظة يوجد شروق وغروب، فحين تغرب الشمس على إنسان تشرق على آخر، ففي لحظة واحدة يكون شروق وغروب، ومن ثم تحدث الله عزّ وجل عن أنه رب المشارق والمغارب، وتحدث عن أنه رب المشرق والمغرب، وهاهنا ذكر أنه رب المشرقين ورب المغربين، لأن الإنسان يستطيع أن يدرك تلقائيا مشرقين ومغربين، فحيث ما تشرق الشمس عليه يكون غروب على غيره، وحيث ما تغرب الشمس عنه يكون شروق على غيره وغروب عليه، والتذكير بأنه رب المشرقين ورب المغربين تذكير بنعمة الليل والنهار اللذين هما من أجل النعم. قال ابن كثير: ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا الله وتتقياه مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسلهما قال ابن كثير: والمراد بقوله البحرين: الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس. أقول: وفي قوله تعالى: مَرَجَ يوجد معنى الجعل مع الإرسال، ومن ثم قال: يَلْتَقِيانِ أي: يلتقي البحر المالح

[سورة الرحمن (55): آية 20]

بالبحر العذب، وكأن مجموع المياه العذبة في العالم تشكل بحرا، وهذا البحر مرجعه في النهاية إلى البحر الملح بَيْنَهُما أي: بين البحر العذب والملح بَرْزَخٌ أي: حاجز لا يَبْغِيانِ أي لا يتجاوزان حديهما، قال ابن كثير: (أي وجعل بينهما برزخا وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه، أقول: ولعل الحاجز بينهما هو عالم الأسباب الذي يجعل ماء البحر يتبخر وحده بلا ملح، وحيلولة اليابسة دون امتداد ماء البحر، ووجود قوانين المد والجزر التي لها صلة بمكان القمر من مجموع الأرض، فالبحران يلتقيان في حال، وبينهما برزخ في حال، وفي ذلك كله من المصالح لخلق الله الكثير، فلو كان البحر العذب لا يلتقي مع البحر المالح لجف المالح على المدى البعيد، ولأنتن البحر العذب وغمر اليابسة في العالم، ولتعذرت الحياة على الأرض، ومن ثم قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا، ثم حدثنا تعالى عن نعمة أخرى من نعمه في البحرين فقال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أي: يخرج من مجموعهما اللؤلؤ والمرجان، واللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: إما صغار الدر، وإما نوع آخر من الجواهر أحمر اللون. قال النسفي: (وإنما قال منهما وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشئ الواحد جاز أن يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر، ولكن من بعضه، وتقول: خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله). وفي ذكر اللؤلؤ والمرجان اللذين لهما علاقة بقضية الزينة والجمال لفت نظر إلى دقائق من النعم الجمالية، أودعها الله في هذا الكون، ليرينا تكامل النعم علينا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران فتعبدان وتتقيان، ثم ذكر نعمة أخرى على الإنسان مرتبطة بالبحار فقال: وَلَهُ الْجَوارِ يعني: السفن التي تجري الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ أي: المصنوعات في البحر كَالْأَعْلامِ أي: كالجبال الطويلة في كبرها، وفي هذه الآية أكثر من معجزة قرآنية سنراها في الفوائد، والآية تذكر بتسخير الله الأشياء للإنسان، حتى استطاع أن يصنع منها مثل هذه السفن العظيمة التي تخدم مصالحه الكبيرة في هذا العالم، من نقل وانتقال وجلب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي: كل من على الأرض من الأحياء ميت، وليس المراد بالفناء الانعدام بالكلية كما فهمه بعض الجهلة وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ أي: ذو العظمة والسلطان وَالْإِكْرامِ أي: وذو الإكرام وذو الإحسان. قال

[سورة الرحمن (55): آية 28]

ابن كثير: (نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة أنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف) وقد فسر ابن عباس الجلال والإكرام بالعظمة والكبرياء، وفي الفناء نعم كثيرة. قال النسفي: (النعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم والسرور). أقول: ولولا الموت لتعذرت الحياة، فلو أن ذبابتين اثنتين تتوالدان بلا موت خلال خمس سنوات لشكلتا طبقة من الذباب حول الكرة الأرضية سمكها خمس سنتيمتر. قال ابن كثير: (ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا). ... في ذكر خلق الإنسان والجان في هذه المجموعة صلة بالمحور في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وفي ذكر المشارق والمغارب، والبحرين: العذب والمالح، واللؤلؤ والمرجان، والسفن والموت، صلة بالمحور في قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ... فكل هذه الأشياء لها صلة بكون الأرض فراشا وطيئا للإنسان، فالصلة واضحة بين ما مر معنا من المجموعة، وبين ما ذكرنا من محور السورة ثم قال تعالى: ... يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال النسفي: (أي كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم) كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي: كل وقت وحين يحدث أمورا، أو يجدد أحوالا. قال ابن كثير: (وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات، وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن ... ). أقول: فالآية تدل على افتقار خلقه إليه، وعلى إعطائه لخلقه، وإمداده لهم، وذلك من إنعامه، ومن ثم قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا. ...

[سورة الرحمن (55): آية 31]

في آخر آيتي المحور ورد قوله تعالى بعد أن عدد نعمه: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... تصريح بأن الخلق كلهم عند الاحتياج إليه موحدون، فصلة ذلك بمحور السورة واضحة، ومن ثم فإنكاره جل جلاله على من يكذب من الإنس والجن بعد ذكره سؤال الخلق كلهم له إنكار على شرك من أشرك، وعلى من لم يعبده ويتقه، وبعد أن عرض الله عزّ وجل آلاءه التي تقتضي توحيده وعبادته وشكره، وأنكر وعجب ممن يكذب بها فلا يعمل بما تقتضيه تبدأ السورة بالإنذار، ثم تثني بالتبشير، تبدأ بالترهيب أولا، ثم بالترغيب، لتحمل الإنسان على التوحيد والعبادة والتقوى، أي: على الشكر. ويبدأ الترهيب بالإنذار فتنتهي به المجموعة الثانية، ثم تأتي المجموعة الثالثة فترهب وترغب في أمر الآخرة فلنر تتمة المجموعة الثانية. ... سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أي: أيها الإنس والجن. قال النسفي: (مستعار من قول الرجل لمن يتهدده سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه، والمراد: التوفر على النكاية فيه، والانتقام منه). قال ابن كثير: قال الضحاك: هذا وعيد. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران ولا تعبدان ولا تتقيان، كأنه لا حساب ولا عقاب، ولا رب محاسب يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أي: تخرجوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا أي: فاخرجوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي: لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان منا نعطيه لكم يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ أي: لهب مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ أي: ودخان، وعن مجاهد أنه النحاس المعروف كمعدن فَلا تَنْتَصِرانِ إذا لم نعطكم سلطان النفوذ، ومن ثم نلاحظ أن رواد الفضاء في عصرنا يلاحظ في تركيب بذلاتهم وملابسهم الخارجية، وفي تركيب الغلاف الخارجي للمركبات الفضائية أن تكون قادرة على تحمل الشهب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران من علمكم قضية النفوذ من أقطار السموات والأرض، ولنا عودة إلى هذه المعاني في الفوائد، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية في الآخرة، وليس الأمر كذلك، فالسياق لا يدل عليه، والآية كما أنها تدل على النفوذ المقيد فإنها تدل على العجز عن النفوذ المطلق، وفي ذلك تذكير للإنسان بعبوديته، ومحدوديته التي تقتضي منه الخضوع بالعبادة، والتقوى لله رب العالمين، ومن ثم كان المعنيان الأخيران فيهما طابع التهديد والوعيد، والتذكير

المجموعة الثالثة

الذي يهيج على العبادة والتقوى، ومن هذا التذكير الذي فيه تهييج ينتقل السياق إلى الحديث عن ما يكون يوم القيامة، وعن مآل الكافرين والمتقين، وعما أعد الله لهؤلاء وهؤلاء، وفي ذلك ترغيب وترهيب يوصلان إلى العبادة والتقوى ويهيجان عليهما فلنر المجموعة الثالثة. المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (37) إلى نهاية الآية (78) أي: إلى نهاية السورة وهذه هي: [سورة الرحمن (55): الآيات 37 الى 78] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)

التفسير

التفسير: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي: يوم القيامة، أي: انفك بعضها عن بعض لقيام الساعة فَكانَتْ وَرْدَةً أي: فصارت كلون الورد الأحمر كَالدِّهانِ الذي يدهن فيه. قال ابن كثير: أي تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران في الدنيا بأن تعبدا وتتقيا في الدنيا قبل مجئ ذلك اليوم. ملاحظة في السياق: نلاحظ أن قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ جاء في أوائل السورة بعد ذكر نعم الله، وجاء في أواخر المجموعة الثانية بعد ذكر ما فيه وعيد وتذكير بالعبودية، ويأتي هاهنا في معرض الكلام عن يوم القيامة، وما أعد الله فيه للمجرمين، ثم تأتي بعد ذلك في سياق نعم الله في الآخرة على المتقين؛ مما يدل على أن هذه الآية تتكرر

[سورة الرحمن (55): آية 39]

لتستخرج الشكر الذي هو العبادة والتقوى من خلال التذكير بالنعمة، ومن خلال الترهيب، ومن خلال الترغيب، ومن خلال الإنذار والتبشير، ففي كل مرة تأتي لتستخرج الشكر من خلال معنى جديد، ومن خلال إتيان المكلف من جانب من الجوانب التي تستخرج شكره. ... فَيَوْمَئِذٍ أي: فيوم تنشق السماء لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ أي: ولا جن، قال النسفي: (فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال هاشم ويراد ولده، والتقدير لا يسأل إنس ولا جان عن ذنبه، والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أن ذلك يوم طويل، وفيه مواطن، فيسألون في موطن، ولا يسألون في آخر، وقال قتادة: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقيل لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، ولكن يسأل للتوبيخ). ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الفوائد فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا الله في هذه الدنيا وتتقياه قبل أن يأتي ذلك اليوم يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ أي: الكافرون بِسِيماهُمْ أي: بسواد وجوههم وزرقة عيونهم قال ابن كثير: (أي بعلامات تظهر عليهم) فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قال النسفي: أي يؤخذ بالنواصي، وتارة بالأقدام. وقال ابن كثير: أي تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران في الدنيا بأن تعبدا وتتقيا قبل أن يصيبكم مثل ذلك هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ أي: في الدنيا، قال ابن كثير: أي هذه النار التى كنت تكذبون بوجودها، ها هي ذي حاضرة تشاهدونها عيانا، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال النسفي: (أي ماء حار قد انتهى حره أي يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم) وقال ابن كثير في تفسير (الآن): أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة لا يستطاع من شدة ذلك. وقال في الآية: أي تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء. أقول: في سجون الدنيا يكون لأهلها ساعات يسمونها ساعات التنفس، يخرج بها السجين من زنزانته أو مهجه إلى ساحة أوسع، أما في النار فالأمر دائر بين النار والماء الحار فليس

[سورة الرحمن (55): آية 45]

هناك لحظة نعيم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران في الدنيا بأن تصدقا وتؤمنا وتتقيا، وبعد أن بين الله عزّ وجل ما للمكذبين المجرمين الكافرين- أي غير المتقين- تبدأ السورة الآن تحدثنا عما أعده لله للمتقين بقسميهم: السابقين، وأهل اليمين. كلمة في السياق: نلاحظ أن سورة الواقعة التي ستأتي بعد سورة الرحمن تحدثنا عن السابقين المقربين، وعن أهل اليمين، وعن أهل الشمال، وقد رأينا سورة الرحمن حدثتنا عن المجرمين أي: أهل الشمال، ثم يأتي قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. ثم بعد ذلك بآيات يأتي قوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. روى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عزّ وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وأخرج هذا الحديث بقية الجماعة إلا أبا داود، والسؤال الآن: هل هذه الجنات الأربع لنوع واحد فقط، أو جنتان لنوع، وجنتان لنوع آخر؟ قال ابن كثير: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وفي قوله: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. فالآيات تتحدث عما أعد الله للسابقين، ثم عما أعده لأهل اليمين، بعد أن تحدثت عن جزاء المجرمين، وتأتي سورة الواقعة بعد ذلك لتكمل، فتبين ما أعده الله للسابقين، ثم لأهل اليمين، ثم للمجرمين، ثم تقيم الحجة على مجئ يوم الدين لتأمر بجانب من جوانب العبادة وهو تسبيح اسم الله العظيم كما سنرى. والمهم هنا أن نعرف أن الجنتين المذكورتين أولا في هذا السياق للسابقين، وأن الجنتين المذكورتين ثانيا هما لأهل اليمين. اللهم اجعلنا من السابقين المقربين. ... وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ قال النسفي: فترك المعاصي، أو فأدى الفرائض جَنَّتانِ قال النسفي: (جنة الإنس، وجنة الجن، لأن الخطاب للثقلين، وكأنه قيل: لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني). هذا

كلمة في السياق

اتجاه، واتجاه آخر يقول: للخائف الإنسي جنتان وللخائف الجني جنتان. قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أول دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله على الثقلين بهذا الجزاء، ومقام الله هو موقف العبد الذي يقفه بين يدي الله للحساب يوم القيامة، ومما قيل في تفسير الجنتين في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ما ذكره الألوسي: (فقيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان: بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته، وتظهر ثمار كرامته، وأين هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟ كلمة في السياق: رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ... والتقوى هي الخوف من مقام الله عزّ وجل، فكأن الآية التي مرت معنا تقول: (وللمتقين جنتان) ومن ثم نعلم صلة ما سيأتي من السورة بمحورها، فالسورة من الآن فصاعدا تتحدث عما أعده الله للمتقين، وتقسم المتقين إلى درجتين عليا ودنيا. ... فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا وتتقيا لتنالا جنتي الله ونعيمه الأخروي، كما نلتم نعيمه الدنيوي، وتكرار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ في هذا السياق تذكير بنعم الله الأخروية، وكأن السورة بعد أن عرضت نعم الله التي تحس بها البداهة في الدنيا جعلت نعم الله الأخروية في حكم البديهية، ومن ثم تعددها وتنكر على الثقلين أن يكذبا بها. ذَواتا أَفْنانٍ أي: هاتان الجنتان ذواتا أغصان، قال النسفي: وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتنى الثمار. قال ابن كثير في تفسير الأفنان: أي أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما الدنيوية أو الأخروية تُكَذِّبانِ فلا تشكران بأن تعبدا الله وتتقياه في الدنيا لتنالا نعيمه الأخروي فِيهِما أي: في الجنتين عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال النسفي: حيث شاءوا في الأعالي والأسافل، وعن الحسن تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل، قال ابن كثير: أي تسرحان

[سورة الرحمن (55): آية 51]

لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما الدنيوية والأخروية تُكَذِّبانِ فلا تعملان ولا تعبدان ولا تتقيان فِيهِما أي: في الجنتين مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ قال النسفي: (أي صنفان: صنف معروف، وصنف غريب) قال ابن كثير: (أي من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. يعني: أن بين ذلك بونا عظيما وفرقا بينا في التفاضل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما الدنيوية والأخروية تُكَذِّبانِ فلا تعبدان ولا تعملان مُتَّكِئِينَ يعني: أهل هذه الجنات، قال ابن كثير: والمراد بالاتكاء هاهنا: الاضطجاع، ويقال الجلوس على صفة التربيع عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها وهي ما تحت الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ أي: من ديباج ثخين، قال أبو عمران الجوني: هو الديباج المزين بالذهب، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، قال ابن مسعود: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ أي: وثمرها قريب يناله القائم والقاعد والمتكئ. قال ابن كثير: أي ثمرها قريب إليهم متى شاءوا، تناولوه على أي صفة كانوا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما الدنيوية والآخروية تُكَذِّبانِ فلا تعملان قياما بحق الله في ذلك، بأن تعبدا وتتقيا، قال ابن كثير: ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك فِيهِنَّ أي: في الفرش قاصِراتُ الطَّرْفِ قال النسفي: (أي نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم) قال ابن كثير: (أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا في الجنة أحسن من أزواجهن ... وقد ورد أن الواحدة تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، ولا في الجنة شيئا أحب إلي منك، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ الطمث: الجماع بالتدمية إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال النسفي: (وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس) وقال ابن كثير: (أي بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن، وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تعملان لتنالا مثل هذا العطاء، ثم وصف الله عزّ وجل نساء أهل الجنة للخطاب فقال: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ صفاء وَالْمَرْجانُ بياضا. قال ابن كثير: (قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: في صفاء الياقوت وبياض المرجان فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ) وفي البحر عن قتادة: (في صفاء الياقوت، وحمرة المرجان،

[سورة الرحمن (55): آية 59]

فحمل المرجان على ما هو المعروف) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تعملان لمثل هذا العطاء فتقدمان المهور لذلك من عبادة وتقوى هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال إبراهيم الخواص في تفسيرها: هل جزاء الإسلام إلا دار السلام. وقال ابن كثير: أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تحسنان العمل، فأحسنا لتنالا الإحسان. كلمة في السياق: في الحديث الصحيح الذي فيه سؤال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فالإحسان مقام في العبادة، وقد رأينا في سورتي الذاريات والنجم صلة الإحسان بالتقوى، فللإحسان صلة بالعبادة والتقوى، فإذا قال الله عزّ وجل: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ الذي هو المقام الأعلى في العبادة والتقوى إِلَّا الْإِحْسانُ فلذلك صلته بمحور السورة اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ... إنكم إن فعلتم ذلك أحسنتم، وإن أحسنتم فإن مثل هذا الجزاء لكم، وبعد أن حدثنا الله عزّ وجل عما أعده للسابقين المحسنين المقربين يحدثنا الآن عما أعده لمن هم دونهم في الإحسان والتقوى العبادة، أي: أهل اليمين. ... وَمِنْ دُونِهِما قال النسفي: أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين جَنَّتانِ قال النسفي: أي لمن دونهم من أصحاب اليمين. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تعملان ولا تشكران، بأن تعبدا وتتقيا مُدْهامَّتانِ أي: سوداوان من شدة الخضرة، وقال محمد بن كعب: أي ممتلئتان من الخضرة. وقال قتادة: خضراوان من الري ناعمتان. قال ابن كثير: ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما الدنيوية والأخروية تُكَذِّبانِ فلا تعملان لدار الجزاء والجمال والإحسان فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي: فوارتان بالماء لا تنقطعان، قال الضحاك: أي ممتلئتان ولا تنقطعان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تعملان لمثل هذا فِيهِما فاكِهَةٌ أي: ألوان الفاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ قال ابن كثير: وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فلا تعبدان وتتقيان فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ أي خيرات جميلات

[سورة الرحمن (55): الآيات 71 إلى 72]

قال النسفي: والمعنى: فاضلات الأخلاق حسان الخلق فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ أي: مخدرات يقال، امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها، لا تطوف في الطرق، والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن، والخيام من اللؤلؤ المجوف كما صح في الأحاديث التي سنراها في الفوائد. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قد تقدم مثله سواء مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ قال النسفي: (الرفرف: هو كل ثوب عريض وقيل الوسائد) خُضْرٍ لما للأخضر من ميزات في إراحة العيون والأنفس وَعَبْقَرِيٍّ أي: ديباج أو طنافس حِسانٍ أي: جياد فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فتنصرفان عن طلب ذلك وبذل مهوره من عبادة وتقوى تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ أي: ذي العظمة وَالْإِكْرامِ أي: لأوليائه بالإنعام، قال ابن كثير: (أي هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى ... ). أقول: بدأت السورة بذكر اسم الله الرحمن وانتهت بهذه الآية؛ وذلك يشير إلى أن التعريف بالله الذي يستحق العبادة والتقوى، هو المصب الرئيسي للسورة، وبمعرفتنا لذلك نكون قد أدركنا معنى رئيسيا من المعاني التي تربط بين السورة ومحورها، إذ لا عبادة ولا تقوى ولا توحيد إلا بعد معرفة الله عزّ وجل حق المعرفة، ومن ثم أمرنا الله في المحور بعبادته كطريق يوصل إلى تقواه، وعرفنا على ذاته. الفوائد: 1 - بدأ الله عزّ وجل سورة الرحمن- وهي السورة التي تعدد آلاءه عزّ وجل- بذكر اسمه الرحمن وفي ذلك إشارة إلى أن كل ما ذكر فيها هو أثر عن رحمته، سواء في ذلك إنعامه على عباده في الدنيا، أو معاملته الكافرين بالعدل في الآخرة، أو إعطاؤه المؤمنين الجنات في الآخرة، كل ذلك من آثار رحمته عزّ وجل، ولو سأل سائل: وهل تعذيب الكفار رحمة؟ نقول: نعم، فمن عرف تعذيب الكافرين لأهل الإيمان في الدنيا يدرك أن من رحمة الله بعباده المؤمنين أن يعامل الكافرين بعدله يوم القيامة، وهذه السورة وما ورد فيها تعتبر ردا كاملا على ما يزعمه بعض المستشرقين من أن الله عزّ وجل في الإسلام جبار منتقم قهار ذو صفات قهرية فقط، إن مثل هذا الكلام ظاهر المغالطة، وهو إن دل على شئ فإنما يدل على جهل صاحبه، فأدنى قراءة لأسماء الله

الحسنى- كما جاءت في القرآن والسنة- تدل على أن الله- عزّ وجل- في الإسلام متصف بصفات الجلال والجمال وهو الحق، ولكنهم يغالطون مستغلين جهل الناس بالإسلام، فيزعمون أن الله في الإسلام ليس له إلا صفات القهر، بينما الله في النصرانية- على زعمهم- متصف بصفات الرحمة. إن مثل هذا الكلام يرده من عرف فاتحة القرآن فقط، ثم إن الله عزّ وجل في القرآن متصف ومسمى بالأسماء التي تدلنا عليها ظواهر الكون نفسها- كما أثبتنا ذلك في كتابنا (الله جل جلاله) - فليس في العالم كله تصور أصفى وأكمل وأعلى من معرفة المسلم لله عزّ وجل، ثم إن الكتب السماوية كلها قبل تحريفها وتبديلها إنما تعرف على الله بما عرف عليه القرآن. 2 - بمناسبة قوله تعالى: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ قال صاحب الظلال: (فلننظر كيف يكون البيان؟: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ. إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب ... اللسان والشفتان والفك والأسنان. والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان ... إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان. وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب. ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه. ولا ندري شيئا عن ماهيته وحقيقته. بل لا نكاد ندري شيئا عن عمله وطريقته! كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟ إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة. مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن. إنها تبدأ شعورا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين. هذا الشعور ينتقل- لا ندري كيف- من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية ... المخ ... ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه. وهنا تطرد الرئة قدرا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أو تار أية آلة صوتية صنعها الإنسان. ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما يريد العقل ... عاليا أو خافتا. سريعا أو بطيئا. خشنا أو ناعما. ضخما أو رفيعا ... إلى آخر أشكال الصوت وصفاته.

ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوت الحرف بجرس معين. وذلك كله لفظ واحد ... ووراءه العبارة. والموضوع. والفكرة. والمشاعر السابقة واللاحقة. وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب. بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن). 3 - وبمناسبة قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال صاحب الظلال: (ونتناول طرفا من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء. إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال. ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد في الفضاء! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها. وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا. ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية، وذهبت بددا! وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض. فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها. وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة! وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في وزن وضعها، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار. ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين! وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة. وصدق الله العظيم ... الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ). 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال صاحب الظلال: (والإشارة إلى السماء ... توجه النظر إلى أعلى إلى هذا الفضاء الهائل السامق

الذى لا تبدو له حدود معروفة؛ والذي تسبح فيه ملايين الملايين من الأجرام الضخمة، فلا يلتقي منهما اثنان، ولا تصطدم مجموعة منها بمجموعة. ويبلغ عدد المجموعة أحيانا ألف مليون نجم، كمجموعة المجرة التي ينتسب إليها عالمنا الشمسي، وفيها ما هو أصغر من شمسنا وما هو أكبر آلاف المرات. شمسنا التي يبلغ قطرها مليونا وثلث مليون كيلومتر!!! وكل هذه النجوم، وكل هذه المجموعات تجري في الكون بسرعات مخيفة، ولكنها في هذا الفضاء الهائل ذرات سابحة متباعدة، لا تلتقي، ولا تتصادم!). 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» ورواه مسلم بسنده). 6 - وبمناسبة قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال صاحب الظلال: (واللؤلؤ- في أصله- حيوان. ولعل اللؤلؤ أعجب ما في البحار، فهو يهبط إلى الأعماق وهو داخل صدفة من المواد الجيرية لتقيه من الأخطار، ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته، فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد، عجيبة النسج، تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها. وتحت الشبكة أفواه الحيوان، ولكل فم أربع شفاه. فإذا دخلت ذرة رمل، أو قطعة حصى، أو حيوان ضار عنوة إلى الصدفة، سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة! وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤة!». «والمرجان من عجائب مخلوقات الله، يعيش في البحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاثمائة متر، ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخر أو عشب،. وفتحة فمه التي في أعلى جسمه، محاطة بعدد من الزوائد يستعملها في غذائه. فإذا لمست فريسة ما هذه الزوائد- وكثيرا ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء- أصيبت بالشلل في الحال، والتصقت بها، فتنكمش الزوائد وتنحني نحو الفم، حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناة ضيقة تشبه مريء الإنسان». «ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه، يتم بها إخصاب البويضات،

حيث يتكون الجنين الذي يلجأ إلى صخرة أو عشب يلتصق به، ويكون حياة منفردة، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي». «ومن دلائل قدرة الخالق، أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التزرر. وتبقى الأزرار الناتجة متحدة مع الأفراد التي تزررت منها، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميكة. تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية في الدقة في نهايتها. ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمترا. والجزر المرجانية الحية ذات ألوان مختلفة، نراها في البحار صفراء برتقالية، أو حمراء قرنفلية، أو زرقاء زمردية، أو غبراء باهتة». «والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان، وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة». «ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير، الموجود بالشمال الشرقي لأستراليا. ويبلغ طول هذه السلسلة ألفا وثلاثمائة وخمسين ميلا وعرضها خمسين ميلا. وهي مكونة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم»). 7 - في قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ معجزتان قرآنيتان: الأولى: تظهر من خلال وصف السفن بالجبال، ولا يظهر التشبيه على كماله وتمامه إلا من خلال رؤية السفن في العصور المتأخرة، وإلا فإن السفن القديمة- وخاصة المعروفة عند العرب- لم تكن مثل هذا الحجم الذي تشبه به الجبال، والمعجزة الثانية: أنه في عصرنا عرف أن للجبال جذرا وتديا يعدل ضعفي ما يظهر من الجبال فوق سطح الأرض، ومن المعروف أن غاطس السفن يعدل ضعفي ما يظهر على سطح البحر من مجموع جسمها، فتشبيه السفن بالأعلام ما كان ليكون بمثل هذه الدقة لولا أن هذا القرآن من عند الله. 8 - بمناسبة قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قال ابن كثير: (وفي الدعاء المأثور: يا حي يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك). وقال النسفي: (وفي الحديث: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» وروي أنه عليه السلام مر برجل وهو يصلي

ويقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال: «قد استجيب لك»). 9 - بمناسبة قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال النسفي: (أي كل وقت وحين يحدث أمورا ويجدد أحوالا، كما روي أنه عليه السلام تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: «من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأنا. وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيبا يفكر فيها فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي، فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال: أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا. فقال الأمير: أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة. فقال: يا مولاي هذا من شأن الله. وقيل: سوق المقادير إلى المواقيت، وقيل: إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وقد صح أن الندم توبة، وقوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فما بال الأضعاف. فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، وقيل أن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله، وكذا قيل، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأما قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها، فقام عبد الله وقبل رأسه ... ). وقال ابن كثير: (قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال: من شأنه أن يجيب داعيا، أو يعطي سائلا، أو يفك عانيا، أو يشفي سقيما. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل يوم هو يجيب داعيا، ويكشف كربا، ويجيب مضطرا، ويغفر ذنبا، وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السموات والأرض، يحيي حيا، ويميت ميتا، ويربي صغيرا، ويفك أسيرا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم. وروى ابن أبي حاتم عن سويد بن حبلة هو الفزاري قال: إن ربكم كل يوم

هو في شأن فيعتق رقابا، ويعطي رغابا، ويقحم عقابا. وروى ابن جرير ... عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا: يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: «أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا. ويرفع قوما ويضع آخرين». وروى ابن أبي حاتم عن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجل: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال: من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين». وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة. (قلت): وقد روي موقوفا كما علقه البخاري بصيغة الجزم فجعله من كلام أبي الدرداء فالله أعلم. وروى البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال: «يغفر ذنبا، ويكشف كربا»). 10 - بمناسبة قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قال ابن كثير: (الثقلان: الإنس والجن، كما جاء في الصحيح: «يسمعه كل شئ إلا الثقلين» وفي رواية: «إلا الإنس والجن» وفي حديث الصور: «الثقلان: الإنس والجن»). 11 - بمناسبة قوله تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ* ... يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ قال ابن كثير: (وهذه كقوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فهذا حال وثم حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال الله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ولهذا قال قتادة فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قال: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا، فهذا قول ثان. وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم، وهذا قول ثالث. وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم بل يقادون إليها، ويلقون فيها كما قال تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أي: بعلامات تظهر عليهم، وقال الحسن وقتادة: يعرفون باسوداد الوجوه وزرقة العيون. (قلت): وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء). 12 - بمناسبة قوله تعالى في وصف الجنتين الأوليين: ذَواتا أَفْنانٍ ذكر

ابن كثير أكثر من قول ونقل مجموعة أحاديث قال: (أي أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة: أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضا، وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن النعمان قال: سمعت عكرمة يقول ذَواتا أَفْنانٍ يقول: ظل الأغصان على الحيطان، ألم تسمع قول الشاعر: ما هاج شوقك من هديل حمامة … تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طاويا … ذا مخلبين من القصور قطاما وحكى البغوي عن مجاهد وعكرمة والضحاك والكلبي أنه الغصن المستقيم، وروى أبو سعيد الأشج عن ابن عباس ذواتا أفنان: ذواتا ألوان، قال: وروي عن سعيد ابن جبير والحسن والسدي وخصيف والنضر بن عربي وابن سنان مثل ذلك، ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ واختاره ابن جرير، وقال عطاء: كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة، وقال الربيع بن أنس ذَواتا أَفْنانٍ واسعتا الفناء، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها والله أعلم، وقال قتادة: ذواتا أفنان يعني بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها. وروى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال: «يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة- أو قال: يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب- فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال» ورواه الترمذي من حديث يونس. 13 - بمناسبة قوله تعالى عن نساء الجنتين الأوليين: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها» وذلك قول الله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه، وهكذا رواه الترمذي موقوفا ثم قال: وهو أصح. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب» تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه. وقد روى مسلم حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة: أو لم يقل أبو القاسم

صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم وما في الجنة أغرب» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث همام بن منبه وأبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قده- يعني: سوطه- من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ولطاب ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» ورواه البخاري). 14 - بمناسبة قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال ابن كثير: (أي لا لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وروى البغوي عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة»). دل هذا الحديث على أنه لا إحسان بلا توحيد، فإذا تذكرنا محور السورة من سورة البقرة اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أدركنا من مثل هذا صلة السورة بالمحور. 15 - قال ابن كثير: (ومما يتعلق بقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ما رواه الترمذي والبغوي من حديث أبي النضر بن هاشم بن القاسم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر، وروى البغوي من حديث علي بن حجر عن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: «وإن، رغم أنف أبي الدرداء»). 16 - عند قوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ تحدث كل من النسفي

وابن كثير عن وجه تفضيل الجنتين الأوليين على الأخريين، قال النسفي: (إنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: وَمِنْ دُونِهِما لأن مُدْهامَّتانِ دون (ذواتا أفنان) و (نضاختان) دون (تجريان) (وفاكهة) دون (كل فاكهة) وكذلك صفة الحور والمتكأ). وقال ابن كثير: (هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن، قال الله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وقد تقدم في الحديث: جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، فالأوليان للمقربين والأخريان لأصحاب اليمين، وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين، وقال ابن عباس: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ من دونهما في الدرج، وقال ابن زيد من دونهما في الفضل. والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: (أحدها): أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني، وقال هناك: ذَواتا أَفْنانٍ وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هاهنا: مُدْهامَّتانِ أي: سوداوان من شدة الري من الماء، قال ابن عباس في قوله: مُدْهامَّتانِ: قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء، وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مُدْهامَّتانِ قال: خضراوان، وروي عن أبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي أوفى، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد في إحدى الروايات، وعطاء، وعطية العوفي والحسن البصري، ويحيى بن رافع، وسفيان الثوري نحو ذلك، وقال محمد بن كعب: مُدْهامَّتانِ ممتلئتان من الخضرة، وقال قتادة: خضراوان من الري ناعمتان، ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض وقال هناك: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ وقال هاهنا: نَضَّاخَتانِ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي فياضتان، والجري أقوى من النضخ، وقال الضحاك: نَضَّاخَتانِ أي: ممتلئتان ولا تنقطعان وقال هناك: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وقال هاهنا: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم ولهذا ليس قوله: وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما، وروى عبد بن حميد عن عمر بن الخطاب قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أفي الجنة فاكهة؟ قال: «نعم فيها فاكهة ونخل ورمان» قالوا: أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال: «نعم وأضعاف» قالوا: فيقضون الحوائج؟ قال: «لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى» وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم ومنها حللهم، وورقها ذهب أحمر، وجذوعها زمرد أخضر، وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم، وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نظرت إلى الجنة فإذا رمانة من رمانها كالبعير المقتب» ثم قال: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ قيل: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة، قاله قتادة. وقيل: خيرات حسان جمع خيرة وهي المرأة الصالحة، الحسنة الخلق، الحسنة الوجه قاله الجمهور، وروي مرفوعا عن أم سلمة، وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء الله تعالى أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان خلقنا لأزواج كرام، ولهذا قرأ بعضهم: فِيهِنَّ خَيْراتٌ بالتشديد حِسانٌ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم قال: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ وهناك قال: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، وإن كان الجميع مخدرات، روى ابن أبي حاتم عن عبد الله ابن مسعود قال: إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهداية لم تكن قبل ذلك لا مرحات، ولا طمحات، ولا بخرات، ولا ذفرات، حور عين كأنهن بيض مكنون، وقوله تعالى: فِي الْخِيامِ روى البخاري عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا للمؤمن في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» ورواه أيضا من حديث أبي عمران به وقال ثلاثون ميلا وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران به ولفظه: «إن للمؤمنين في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا، للمؤمن فيها أهل، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا» وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: الخيمة لؤلؤة واحدة فيها سبعون بابا من در، وروى أبي عن ابن عباس في قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ قال: في خيام اللؤلؤ وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وروى عبد الله بن وهب عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان

وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء» ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث به. وقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. وقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفرف المحابس، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم: هي المحابس، وقال العلاء بن زيد: الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي، وقال عاصم الجحدري مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ يعني: الوسائد، وهو قول الحسن البصري في رواية عنه، وروى أبو داود الطيالسي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ قال: الرفرف: رياض الجنة، وقوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي: العبقري: الزرابي، وقال سعيد بن جبير: هي عتاق الزرابي يعني: جيادها، وقال مجاهد: العبقري: الديباج، وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فقال: هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها، وعن الحسن رواية أنها المرافق، وقال زيد بن أسلم: العبقري أحمر وأصفر وأخضر، وسئل العلاء بن زيد عن العبقري فقال: العبقري: الطنافس المخملة إلى الرقة ما هي. وقال القيسي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري، وقال أبو عبيدة: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي، وقال الخليل بن أحمد: كل شئ نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: «فلم أر عبقريا يفري فريه» وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى، وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيرتين ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين). 17 - عند قوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قال ابن كثير: (وقال الإمام أحمد ... عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجلوا الله يغفر لكم» وفي الحديث الآخر: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم،

كلمة أخيرة في سورة الرحمن

وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه» وروى الحافظ أبو يعلى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» وكذا رواه الترمذي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى الإمام أحمد عن ربيعة ابن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألظوا بذي الجلال والإكرام» ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك به، قال الجوهري: ألظ فلان بفلان إذا لزمه، وقول ابن مسعود: ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام أي: الزموا، يقال الإلظاظ هو الإلحاح (قلت): وكلاهما قريب من الآخر والله أعلم وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام»). 18 - ختم النسفي الكلام عن سورة الرحمن بقوله: (وكررت هذه الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب جهنم نعوذ بالله منها والله أعلم). كلمة أخيرة في سورة الرحمن: 1 - عرفتنا سورة الرحمن على الله عزّ وجل، وعلى نعمه، بما يهيج عندنا بواعث الشكر، ويستثير دوافع العبادة والتقوى في القلب، ولذلك صلاته بالمحور. 2 - رأينا أن السور التي تفصل في محور من سورة البقرة تفصل فيه وفي ارتباطاته وامتداداته، ولقد جاء بعد آيتي المحور في سورة البقرة قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ فهذه الآيات جاءت بعد آيتي المحور، فهي من امتدادات المحور وارتباطاته، وقد ظهر أثر ذلك في السورة: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ فلذلك صلته بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ

مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وقد بشرت السورة المتقين وأنذرت المجرمين. ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وقد ظهر أثر ذلك في السورة وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ومن امتدادات المحور في سورة البقرة قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وقد ظهر أثر ذلك في السورة الرَّحْمنُ .... 3 - وقد سارت السورة في سياقها الخاص فبدأت بذكر النشأة: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ ... ثم تحدثت عن النهاية الأولى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ثم تحدثت عن النهاية الكبرى إذ يستقر أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة. 4 - عرفنا من السورة أن أهل الجنة نوعان، فعرفنا بذلك أن هناك درجة عليا من العبادة والتقوى، استحق أهلها نوعا من الجنان، وأن هناك درجة دنيا من العبادة والتقوى استحق أهلها نوعا آخر من الجنان، وستأتي سورة الواقعة لتحدثنا عن السابقين، وعن أهل اليمين، وذلك من مظاهر التكامل بين سورتي الرحمن والواقعة. 5 - ذكرت سورة الرحمن في خواتيمها ثلاثة أصناف من الناس: مجرمين، وسابقين، وأهل يمين، وتبدأ سورة الواقعة بذكر الأصناف الثلاثة: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ومن هنا ندرك قوة الارتباط ما بين نهاية سورة الرحمن وبداية سورة الواقعة. ***

سورة الواقعة

سورة الواقعة وهي السورة السادسة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة السادسة والأخيرة من المجموعة الأولى من قسم المفصل، وآياتها ست وسبعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الواقعة

بين يدي سورة الواقعة: قال الألوسي في تقديمه لسورة الواقعة: (هي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار، وقال في البحر: مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول؛ وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ بقوله سبحانه: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ وأنه اقتصر في سورة الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي سورة الواقعة على ذكر رج الأرض، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة، فذكر في كل شيئا، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك، فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار؛ ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في سورة الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر، وجاء في فضلها آثار). وقدم ابن كثير لتفسير سورة الواقعة بقوله: (قال أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» رواه الترمذي وقال: حسن غريب، روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده ... عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» ثم قال ابن عساكر: كذا قال والصواب عن شجاع كما رواه عبد الله بن وهب عن السري. وقال عبد الله بن وهب أخبرني السري بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ

سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» فكان أبو ظبية لا يدعها وكذا رواه أبو يعلى. ثم رواه عن إسحاق بن أبي إسرائيل ... عن أبي ظبية عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» لم يذكر في مسنده شجاعا قال وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة. وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج ابن نصير ... عن أبي فاطمة قال: مرض عبد الله فأتاه عثمان بن عفان يعوده فذكر الحديث بطوله، قال عثمان بن اليمان: كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب. وروى أحمد ... عن سماك بن حرب أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر بسورة الواقعة ونحوها من السور). وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة الواقعة: (الواقعة ... اسم للسورة وبيان لموضوعها معا. فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة، ردا على قولة الشاكين فيها، المشركين بالله، المكذبين بالقرآن: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟. ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة. وصفها بصفتها التي تنهي كل قول، وتقطع كل شك، وتشعر بالجزم في هذا الأمر ... الواقعة ... إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ... وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم، حيث تتبدل أقدار الناس، وأوضاع الأرض، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض، كما يبدل القيم غير القيم سواء: خافِضَةٌ رافِعَةٌ* إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا* وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا* فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا* وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً ... الخ. ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة: السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أو فى تفصيل، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع، لا مجال للشك فيه، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان. حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين. وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ* وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ* وَكانُوا يَقُولُونَ: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ... وكأن العذاب هو الحاضر، والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح. ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب!

كلمة في سورة الواقعة ومحورها

وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة. ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول؛ بلمسات مؤثرة، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان، أيا كانت بيئته، ودرجة معرفته وتجربته). (كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن (الواقعة) فيشكون في وعيده. فيلوح بالقسم بمواقع النجوم، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، وأنه تنزيل من رب العالمين. ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار. في لمسة عميقة مؤثرة. حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين، لا يملكون له شيئا، ولا يدرون ما يجري حوله، ولا ما يجري في كيانه. ويخلص أمره كله لله، قبل أن يفارق هذه الحياة. ويرى هو طريقه المقبل، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير! ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق، وتسبيح الله الخالق: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام). ... كلمة في سورة الواقعة ومحورها: رأينا أن سورة الرحمن انتهت بالحديث عن الكافرين والمقربين وأهل اليمين، وتأتي سورة الواقعة لتبدأ بالحديث عن السابقين وأهل اليمين وأهل الشمال، ولتنتهي بالكلام عن ذلك، مختتمة بالأمر بالتسبيح فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ثم تأتي سورة الحديد وبدايتها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وبذلك تظهر الصلة على أشدها ما بين نهاية السورة السابقة، وبداية السورة اللاحقة. والصلة بين سورة الواقعة وسورة الرحمن في المكان الأعلى، فمن وسط سورة الرحمن إلى وسط سورة الواقعة يكاد يكون الكلام ذا مضمون واحد، ثم إن الكلام عن الكافرين والمقربين وأهل اليمين يبدأ بسورة الرحمن، بقوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ وتبدأ سورة الواقعة بقوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ مما يشعر أن سورة الواقعة تكاد تكون استمرارا لسورة الرحمن ومكملة لمعانيها، فسورة الرحمن

تذكر الإنس والجن بالخلق والنعمة، وتنكر عليهم تكذيبهم بآلاء الله، وتصل إلى الكلام عن أهل النار وأهل الجنان، مقسمة أهل الجنان إلى قسمين: سابقين، وأهل يمين، وتأتي سورة الواقعة لتبدأ بالكلام عن السابقين، وأهل اليمين وأهل الشمال ثم لتذكر الناس بالخلق والنعمة مقيمة الحجة عليهم بذلك، فالسورتان تتكاملان في تأدية معان متكاملة. ... لنتذكر الآن المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، والذي قد جاء بعد مقدمتها. إنه يبدأ بدعوة الناس جميعا إلى عبادة الله، مذكرا إياهم بالخلق والنعمة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وينتهي بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إن المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة ينتهي بما بدأ به من إقامة الحجة من خلال الخلق والنعمة. وبعد أن قسمت مقدمة سورة البقرة الناس إلى متقين وكافرين ومنافقين، فإن المقطع الأول من سورة البقرة جعل الكافرين ومنافقين صنفا واحدا: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وسورة الرحمن وسورة الواقعة تذكران أهل النار وتبينان أن أهل الجنة صنفان فههنا تفصيل جديد. ... وإذا كان المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة والذي أسميناه مقطع الطريقين تترابط معانيه، فإن سورتي الرحمن والواقعة تترابط معانيهما كذلك. وإذا كانت الآيتان الأوليان من المقطع الأول تشكلان المحور الأخص لسورة الرحمن، والآيات الخمس الأولى من المقطع تشكل المحور الأعم لسورة الرحمن فإن قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إن هاتين الآيتين تشكلان المحور الأخص لسورة الواقعة، وهما مع

الآيتين قبلهما إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تشكل المحور الأعم لسورة الواقعة، مع ملاحظة ارتباط هذه الآيات مع ما قبلها. ... وفي سورة البقرة تتكرر صيغة وَمِنَ النَّاسِ*. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا .... وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. وسورة الواقعة تفصل في أصناف الناس فتحصرهم في ثلاثة: مقربين، وأهل يمين، وأهل شمال، فهي تشد إلى محورها كل هذه الآيات لتفصل في ذلك كله. ... قلنا إن محور سورة الواقعة الأخص هو قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والملاحظ أن سورة الواقعة تفصل في شأن الرجوع إليه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيكون الربط بين ذلك وبين سورة الواقعة على الشكل التالي: فإذا رجعتم إليه بوقوع الساعة كان الأمر وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً وبعد وصف ما أعد للأصناف الثلاثة تبدأ إقامة الحجة نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ... وإذا كانت سورة الواقعة تفصل في جزء من مقطع الطريقين، وإذ كانت المعاني في مقطع الطريقين مسوقة لصالح قضية العبادة، فإن الأمر فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* في السورة يرد مرتين.

إن الخلق والنعمة ومصير الإنسان، كل ذلك يقتضي من المكلف أن يعبد الله، ومن العبادة التسبيح، فالسورة تقرر وتقيم الحجة وتبني على ذلك. ... وسترى صلة السورة بالمحور تفصيلا، فلا نطيل أكثر من ذلك هاهنا؛ لأن ذلك يقتضينا عرضا كاملا للسورة، ونحب هنا أن نتوسع في ذكر ظاهرة تحدثنا عنها أكثر من مرة لها علاقة بالاتجاه الذي اتجهنا إليه في هذا التفسير. نحن نلاحظ أن سورة الواقعة بدأت بقوله تعالى: إِذا ثم بعد سور كثيرة تأتي سورة المنافقون مبدوءة بقوله تعالى: إِذا ثم بعد سور كثيرة تأتي سورتا التكوير والانفطار مبدوءتين بقوله تعالى: إِذَا* ثم بعد سورة تأتي سورة الانشقاق مبدوءة بقوله تعالى: إِذَا ثم بعد سور كثيرة تأتي سورة الزلزلة مبدوءة بقوله تعالى: إِذا ثم بعد سور تأتي سورة النصر مبدوءة ب إِذا، ونلاحظ في ما يأتي معنا من السور أن سورة الدهر مبدوءة بقوله تعالى: هَلْ أَتى ... ثم بعد سور كثيرة تأتي سورة الغاشية مبدوءة بقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ .... ونلاحظ فيما يأتي أن سورة المطففين مبدوءة بقوله تعالى: وَيْلٌ ثم بعد سور كثيرة تأتي سورة الهمزة مبدوءة بقوله تعالى: وَيْلٌ ونلاحظ من قبل أن سورتي البقرة وآل عمران بدأتا ب الم* ثم بعد سور كثيرة تأتي أربع سور متوالية مبدوءة ب الم* هي العنكبوت والروم ولقمان والم السجدة. ونلاحظ أن سورة الصافات بدأت بقسم، وسور الذاريات والطور والنجم بدأت بقسم، ثم بعد سور كثيرة تأتي سورة القيامة مبدوءة بقسم، ثم بعد سورة تأتي سورة المرسلات مبدوءة بقسم، ثم بعد سورة تأتي سورة النازعات مبدوءة بقسم، ثم بعد سور تأتي سورتان مبدوءتان بقسم هما البروج والطارق، ثم بعد سورتين تأتي خمس سور مبدوءة بقسم، ثم بعد سورة تأتي سورة (والتين) مبدوءة بقسم، ثم بعد سور تأتي سورة العاديات مبدوءة بقسم، ثم بعد سورتين تأتي سورة العصر مبدوءة بقسم، هذه الملاحظات حول تشابه بدايات السور القرآنية. ما تعليله وما تعليل أن تجد السورة الأولى في مجموعة تشبه بدايتها بداية السورة الأولى في مجموعة أخرى. ما تعليل أن تأتي بعض البدايات مرة ثم تغيب لتظهر مرة أخرى، لا شك أن لذلك سرا، ولا شك أن له تعليلا. ونحن في هذا التفسير حاولنا أن نكشف هذا السر، وأن نذكر ذلك التعليل فإذا

أصبنا فمن الله، وإن أخطأنا فنرجوا أن يكون لنا أجر المجتهدين. ... ولقد رأينا بدايات لسور متى وجدت كانت دليلا على أن السورة تفصل في مقام كذا من سورة البقرة، ورأينا بدايات متى وجدت تدلنا على أنها تفصل في مقام آخر من سورة البقرة، وهكذا وفي كل مرة كنا نقيم الدليل الواضح على ذلك، أليس في ذلك دليل على صحة السير فلله الحمد والمنة. ... ومما رأيناه أنه حيث وجدت (الم) أو قسم في بداية سورة فذلك دليل على أن السورة تفصل في مقدمة سورة البقرة، وحيثما وجدت (يا أيها) في بداية سورة، ففي الغالب أن السورة تفصل في مقطع الطريقين من سورة البقرة، وهو الذي يأتي بعد مقدمة سورة البقرة مباشرة. المهم أننا قدمنا تعليلا لهذه الظاهرة في القرآن يقوم عليها دليل. ... نقول هذا بمناسبة سورة الواقعة؛ لأنه لأول مرة في القرآن تأتي معنا سورة مبدوءة بقوله تعالى: إِذا ثم تظهر السور التي تأتي في مقدمتها إِذا* بين الحين والحين، حتى نهاية القرآن، ومبدئيا نقول: حيثما جاءت (إذا) في بداية سورة فإنها تفصل في الآيات الآتية بعد مقدمة سورة البقرة، تدلنا على ذلك المعاني المشتركة الموجودة في كل سورة بدايتها (إذا)، ومجيء هذه السور ضمن مجموعات كل سورة منها مسبوقة بما يفصل في مقدمة سورة البقرة أو في المقدمة، وفيما بعدها مباشرة، وهذا موضوع سنراه عند ما نتحدث عن كل سورة من هذه السور ومحورها، والآن نسجل ملاحظة حول هذه السور المبدوءة ب (إذا): ... نلاحظ أن سور الواقعة، والتكوير، والانفطار، والانشقاق، والزلزلة- وكلها مبدوءة ب (إذا) - يشكل الكلام عن يوم القيامة نقطة بارزة فيها. ونلاحظ أن سورة النصر والواقعة مبدوءتان ب (إذا) وقد ورد فيهما الأمر بالتسبيح. من هذا التشابه بين معاني وبدايات هذه السور ندرك أن محورها واحد، وسنرى بالتفصيل محاور هذه

السور، وسنرى أن محاور السور المبدوءة ب (إذا) لا تخرج عن حيز محور الطريقين الآتي بعد مقدمة سورة البقرة. ... لقد لاحظنا من قبل أن سورة الحج التي تفصل في محور الآية الآتية بعد مقدمة سورة البقرة مباشرة أي: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ... ، ونلاحظ أن بداية سورة الحج قد هيجت على التقوى من خلال التذكير بيوم القيامة، ونحن سنرى أن كل سورة مبدوءة بإذا ستهيج على العبادة، والتقوى، والعمل الصالح، من خلال التذكير بيوم القيامة، أو التذكير بمعنى آخر مما سنراه. ... تتألف سورة الواقعة من ثلاث مجموعات رئيسية واضحة التمايز والاتصال: المجموعة الأولى: وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (56). المجموعة الثانية: وتمتد حتى نهاية الآية (74). المجموعة الثالثة: وتمتد حتى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (96). المجموعة الأولى تتحدث عن أصناف الناس يوم القيامة. والمجموعة الثانية تقيم الحجة على الناس بمجيء يوم القيامة، وتبني على ذلك الأمر بالتسبيح. والمجموعة الثالثة تقيم الحجة على الناس بهذا القرآن وبأدلة أخرى على مجئ اليوم الآخر، وحال الناس فيه. وتبني على ذلك، كذلك الأمر بالتسبيح الذي هو عبادة وعمل صالح وتوحيد، ولكل ذلك صلته بمحور السورة من سورة البقرة كما سنرى. فلنبدأ عرض السورة. ***

المجموعة الأولى

المجموعة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (56) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 56] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

التفسير

التفسير: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قال ابن كثير: الواقعة من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها. قال النسفي: (أي إذا قامت القيامة) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي: ليس لوقعتها نفس كاذبة، أي لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب؛ لأن كل نفس حينئذ مؤمنة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، سواء كانت نفوس منافقين أو كافرين خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي: ترفع أقواما وتضع آخرين. قال ابن كثير: أي تخفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم، وإن كانوا في الدنيا أعزاء، وترفع آخرين إلى أعلى عليين، إلى النعيم المقيم، وإن كانوا في الدنيا وضعاء إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي: حركت تحريكا شديدا حتى يتهدم كل شئ فوقها من جبل وبناء، أي زلزلت زلزالا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي: وفتتت الجبال تفتيتا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي: غبارا متفرقا. قال ابن كثير:

[سورة الواقعة (56): آية 7]

وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة وذهابها وتسييرها ونسفها أي قلعها وصيرورتها كالعهن المنفوش وَكُنْتُمْ أيها الناس أَزْواجاً أي: أصنافا ثَلاثَةً صنفان في الجنة، وصنف في النار، ثم فسر الأزواج فقال: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ استفهام يفيد التعجيب من حالهم في السعادة، وتعظيم لشأنهم، كأنه قال: ما هم، وأي شئ هم؟ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي: الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي: أي شئ هم؟ وهو تعجيب من حالهم بالشقاء، ويحتمل أن يكون المراد بأصحاب اليمين أصحاب المنزلة السنية، وأن يكون المراد بأصحاب الشمال أصحاب المنزلة الدنية الخسيسة. قال النسفي: وقيل يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين، وبأهل النار ذات الشمال، وذلك بالنسبة للعرش كما سنرى في الفوائد وَالسَّابِقُونَ إلى الخيرات السَّابِقُونَ إلى الجنات، ويحتمل أن تكون الثانية توكيدا للأولى أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ عند الله فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي: هم في جنات النعيم ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ قال ابن كثير: أي من صدر هذه الأمة وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال ابن كثير: أي من هذه الأمة. قال النسفي: والثلة: الأمة من الناس الكثيرة. أقول: وهناك اتجاه رجحه ابن جرير وضعفه ابن كثير كما سنرى في الفوائد: أن المراد بالأولين: الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأن المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: (وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر، بل هو قول ضعيف؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم). كلمة في السياق: رأينا أن محور سورة الواقعة هو قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالخطاب هنا للناس جميعا، ونلاحظ أن بداية سورة الواقعة خطاب للناس جميعا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فكأن السياق يقول: (يا أيها الناس كيف تكفرون بالله ... ثم إليه ترجعون) إذ تكونون أصنافا ثلاثة، إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ* خافِضَةٌ رافِعَةٌ* إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا* وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا* فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ثم يسير السياق بعد التفصيل في الأزواج الثلاثة ليقيم الحجة على الناس فيقول: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ثم يستقر

[سورة الواقعة (56): آية 15]

السياق على الأمر الأول في السورة فَسَبِّحْ أيها المؤمن، أو أيها الإنسان بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ عبادة له وتنزيها له عن قول هؤلاء؛ لتتحقق بالتقوى فتكون من المقربين أو من أهل اليمين، فكما خاطب مقطع الطريقين الناس جميعا داعيا لهم للعبادة للوصول إلى التقوى، فسورة الواقعة تخاطب الناس جميعا لتبعثهم على العبادة من خلال عرض حال الناس يوم القيامة، ومن خلال إقامة الحجة على الناس، ومن خلال الدلالة على باب من أبواب العبادة الموصلة إلى التقوى، وسنرى هذا شيئا فشيئا، فلنر تفصيل ما أعد الله للأصناف الثلاثة، وقد ابتدأ الله بتفصيل ما للسابقين، مع أنه تعالى ذكرهم آخرا لأنهم الأفضل. ... وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ثم قال تعالى: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال النسفي: (أي: مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت) والوضن في الأصل: نسج الدرع، ثم استعير للنسيج، أو لنسيج محكم مخصوص، ومن ثم فسر المفسرون الآية بما ذكر مستأنسين ببعض الآثار مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ قال النسفي: (أي ينظر بعضهم في وجوه بعض، ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض) وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي: للخدمة وِلْدانٌ أي: غلمان مُخَلَّدُونَ أي: مبقون أبدا على شكل الولدان، لا يتحولون عنه. قال ابن كثير: أي مخلدون على صفة واحدة لا يكبرون عنها، ولا يشبون ولا يتغيرون. قال النسفي: (قيل هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها، وفي الحديث أولاد الكفار خدام أهل الجنة) ثم ذكر الله تعالى بم يطوف هؤلاء الغلمان على أهل الجنة فقال: بِأَكْوابٍ وهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان وَأَبارِيقَ وهي الآنية التي لها خرطوم وعروة وَكَأْسٍ وهو القدح الذي فيه الشراب، أما إذا لم يكن فيه شراب فلا يسمى كأسا مِنْ مَعِينٍ أي: من خمر تجري من العيون. قال ابن كثير: والجميع من خمر من عين جارية معين، وليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي: عن هذه الخمر، أي بسببها، أي

[سورة الواقعة (56): آية 20]

لا يصدر صداعهم عنها، ويحتمل أن يكون المراد: لا يفرقون عنها وَلا يُنْزِفُونَ قال النسفي: أي لا ينفد شرابهم، يقال أنزف القوم إذا فني شرابهم. وقال ابن كثير: (أي لا تصدع رءوسهم ولا تنزف عقولهم بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقئ والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ قال ابن كثير: أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي: ويطوفون عليهم بلحم طير مما يتمنون وَحُورٌ عِينٌ أي: وللسابقين المقربين حور عين، والحور: جمع حوراء، والعين: جمع عيناء، ويحتمل أن يكون التقدير: وفي الجنة حور عين كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ في الصفاء والنقاء الْمَكْنُونِ أي: المصون، وقال الزجاج: (أي) كأمثال الدر حين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قال ابن كثير: أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل لا يَسْمَعُونَ فِيها أي: في الجنة لَغْواً أي: باطلا وَلا تَأْثِيماً أي: هذيانا إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً أي: إلا قولا ذا سلامة أو المعنى: إلا أن يقولوا سلاما سلاما، والمعنى: إنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاما بعد سلام، فالجنة من تتمة كمالاتها أن الناس فيها منزهون عن كل كلام لا يليق. كلمة في السياق: جاء محور سورة الواقعة في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... ثم في سياق قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ وقد رأينا في سورة الواقعة ما أعده الله للسابقين، ومن ذلك الجنات والثمرات والأزواج، ورأينا أن ذلك كان جزاء على أعمالهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وهكذا نجد أن سورة الواقعة مع أنها تفصل في محورها- إذ تفصل في حال الناس عند الرجوع إلى الله- فهي تفصل في محورها ضمن سياقه من مقطعه، فالمقطع أمر بالعبادة والتقوى والتوحيد، وذلك كله إيمان وعمل صالح، والمقطع أنذر الكافرين بالنار، وبشر المؤمنين بالجنات، وسورة الواقعة تفصل في أقسام الناس يوم القيامة، فتفصل في حال المؤمنين والكافرين، وتبشر

[سورة الواقعة (56): آية 27]

المؤمنين وتنذر الكافرين وتقيم الحجة عليهم، وتوجه المؤمنين في طريق العبادة، فهي تفصل في محورها ضمن سياقه في مقطعه، وسنرى شيئا فشيئا أثناء عرض السورة دقة التفصيل وإبداعه، فلنكمل عرض السورة: فبعد أن عرض الله عزّ وجل ما أعده للسابقين يحدثنا عن أهل اليمين وما أعده لهم، قال ابن كثير: لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار. ... وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ استفهام يفيد التعجيب من حالهم في السعادة، وتعظيم لشأنهم. كأنه قال: ما هم؟ وأي شئ هم؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي: لا شوك له، وسدر الدنيا: هو شجر النبق، وهو كثير الشوك قليل الثمر. قال ابن كثير: (وفي الآخرة على العكس من هذا لا شوك فيه، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله) وسنرى في الأحاديث التي سنذكرها في الفوائد مواصفات سدر الجنة وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قال النسفي: (الطلح: شجر الموز) وفسر مجاهد المنضود: بالمتراكم الثمر. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ قال النسفي: (أي ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس) وقال ابن كثير: (وقال ابن مسعود: الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) وسنرى في الفوائد تفصيلا وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: جار بلا حد ولا خد. قال ابن كثير: قال الثوري: أي يجري على الأرض في غير أخدود وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أي: كثيرة الأجناس لا مَقْطُوعَةٍ أي: لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة وَلا مَمْنُوعَةٍ أي: لا تمنع عن متناولها بوجه. قال النسفي: وقيل لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان. قال ابن كثير: أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي: يشبه الشكل الشكل ولكن الطعم غير الطعم وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي: رفيعة القدر أو نضدت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة، وقيل: هي النساء؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش، ويدل عليه قوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي: ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة، فإما أن يراد اللاتي ابتدئ إنشاؤهن أو اللاتي أعيد إنشاؤهن فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً قال النسفي: أي عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا عُرُباً العرب: جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها، الحسنة التبعل أَتْراباً أي: مستويات في السن بنات ثلاث

[سورة الواقعة (56): آية 38]

وثلاثين وأزواجهن كذلك لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أي: أنشأناهن كذلك لأصحاب اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: جماعة كثيرة من الأولين يكونون من أصحاب اليمين وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي: وجماعة كثيرة من الآخرين يكونون من أصحاب اليمين، وقد مر معنا الخلاف في المراد بالأولين والآخرين، هل هما في هذه الأمة فقط، أو المراد بذلك عامة البشرية؟. كلمة في السياق: يلاحظ أنه في مقطع المحور قد جاء قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ يلاحظ في هذه الآية أن الحديث عن الفواكه قد جاء بعده الكلام عن الأزواج. ونلاحظ أثناء الكلام عن السابقين وأهل اليمين، أن الكلام عن الفواكه جاء قبل الكلام عن الأزواج، فالسورة هنا مع أنها تفصل في محورها الذي ذكرناه أي في الرجوع إلى الله فإنها تفصل في محل هذا المحور من سياق مقطعه، ولنستمر في عرض السورة، فبعد أن ذكر الله تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: ... وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي: أي شئ هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فسر ذلك فقال: فِي سَمُومٍ قال النسفي: (أي في حر نار ينفذ في المسام) وَحَمِيمٍ أي: وماؤها متناه في حرارته، ولنتذكر ما مر معنا في سورة الرحمن يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي: من دخان أسود لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ قال ابن كثير: أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر. قال النسفي: (سماه ظلا ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر، والمعنى: أنه ظل حار ضار) ثم علل الله عزّ وجل لسبب هذا العذاب فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي: في الدنيا مُتْرَفِينَ أي: منعمين، فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار. قال ابن كثير: (أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل) وَكانُوا يُصِرُّونَ أي: يداومون ويقيمون ولا ينوون توبة عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي على الذنب العظيم، أو على الشرك؛ لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين،

[سورة الواقعة (56): الآيات 47 إلى 48]

قال ابن كثير في تفسير الحنث العظيم: وهو الكفر بالله، وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ يعني: إنهم يقولون ذلك مكذبين به، مستبعدين لوقوعه قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي: إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم. قال ابن كثير: أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحد ... بوقت محدود لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهدى الْمُكَذِّبُونَ بالوحي والبعث لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ أي: من الشراب البالغ الغاية في الحرارة فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي: الإبل المصابة بمرض العطاش، تشرب فلا تروى. قال النسفي: والمعنى أنه يسلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربون شرب الهيم هذا نُزُلُهُمْ أي: هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاء وبهذا انتهت المجموعة الأولى من السورة. كلمة في السياق: شرحت المجموعة السابقة حال الناس يوم القيامة، وكان آخر الكلام فيها عن حال أصحاب الشمال الذين كانوا مترفين في الدنيا، مشركين منكرين للبعث ضالين مكذبين، وما لهم من عذاب في الآخرة، ثم تأتي المجموعة الثانية لتناقش هؤلاء بمقدمة وأربع حجج، ثم تنتهي المجموعة آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزه اسم الله العظيم عما يقولونه، فالمجموعة تقيم الحجة على هذا الصنف، وتنتهي بالأمر بتنزيه الله، مما يفيد أن ما هم عليه يتنافى مع تنزيه الله عزّ وجل، وقبل أن نبدأ عرض المجموعة الثانية نحب أن نقف وقفة: جاء قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقد رأينا الأسباب التي أدت إلى استحقاق أهل النار النار: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ* وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ* وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* ... ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ... فالضلال والتكذيب باليوم الآخر، ونقض العهد والترف، هي أسباب دخول هؤلاء النار، لاحظ صلة ذلك

المجموعة الثانية

بقوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ ... الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مع صلته بالكفر بالله، والكفر بالرجوع إليه. إن سورة الواقعة تفصل في محورها وفي ارتباطات هذا المحور في مقطعه، وأكثر ما يظهر فيه ذلك هو آيات المجموعة الثانية التي تناقش هؤلاء المكذبين، فإنه يجتمع فيها تفصيلها للمحور بشكل واضح: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومع ربطها لهذا المحور في سياقه في المقطع يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فلنر المجموعة الثانية. *** المجموعة الثانية وتمتد من الآية (57) حتى نهاية الآية (74) وهذه هي: [سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

التفسير

التفسير: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي: فهلا تصدقون. قال النسفي: تحضيض على التصديق إما بالخلق؛ لأنهم وإن كانوا مصدقين به إلا أنه لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذبون به. أقول: الملاحدة في عصرنا يكذبون أن يكون الله عزّ وجل هو الخالق، أو المعنى نحن خلقناكم فلولا تصدقون بالبعث؛ لأن من خلق أولا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا. قال ابن كثير في الآية: يقول تعالى مقررا للمعاد، ورادا على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد من الذين قالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد فقال تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي: نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأخرى؟ ولهذا قال: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي: فهلا تصدقون بالبعث، ثم قال تعالى مستدلا عليهم بقوله: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ... أقول: تأتي أربع حجج، كل حجة مبدوءة بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ* وكلها استدلال عليهم وإقامة حجة. ... كلمة في السياق: لعل سياق السورة الخاص قد وضح من خلال العرض، السورة بدأت بذكر القيامة ومآل الناس فيه، وذكرت الأسباب التي أدت إلى استحقاق أهل النار النار، ثم بدأت تناقشهم في مجموعتها الثانية، ثم هي تقيم عليهم الحجة في مجموعتها الثالثة، وكان من إقامة الحجة عليهم في مجموعتها الثالثة أن ذكرت الموت لتصل إلى حال الناس بعد الموت فيما إذا كانوا مقربين، أو أهل يمين، أو كافرين، فإذا اتضح سياق السورة الخاص فلنلاحظ: ختمت السورة بالكلام عن أحوال الناس بعد الموت، وبدأت بالكلام عن أحوال الناس يوم القيامة، لاحظ صلة ذلك بالمحور كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وفي المجموعة الثانية

الحجة الأولى

التي سنستعرضها الآن كلام عن خلق الإنسان، وما أنعم عليه، لتقام الحجة على الكافرين من خلال ذلك، لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقد رأينا مقدمة المجموعة الثانية نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. الحجة الأولى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي: ما تمنونه، أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أأنتم تخلقونه من الغذاء، أم نحن نخلقه من ذلك، أو المعنى: أأنتم تقرونه في الأرحام، وتخلقونه فيها، وتقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشرا سويا، أم الله الخالق لذلك، فإذ لم يكونوا هم الخالقين، لم يبق إلا أن يكون الله هو الخالق، أما أن تكون المصادفة هي الفاعلة، فذلك لا يقوله عاقل يعرف حدود نظرية الاحتمالات رياضيا، لاحظ صلة النص بقوله تعالى في المحور: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثم لاحظ صلة ما يأتي بقوله تعالى في المحور ثُمَّ يُمِيتُكُمْ نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ تقديرا وقسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت، كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: وما نحن بعاجزين عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ قال ابن كثير: أي نغير خلقكم يوم القيامة وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ قال ابن كثير: أي من الصفات والأحوال. قال النسفي: (يعني أنا نقدر على الأمرين جميعا على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي: قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أن من قدر على شئ مرة لم يمتنع عليه ثانيا. قال ابن كثير: (أي فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة- وهي البداءة- قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى). أقول: بإجماع الدارسين لظاهرة الحياة، وبإجماع علماء المستحاثات فإن الحياة على الأرض بدأت قبل الإنسان، وإذن فقد كانت حياة ولا إنسان، ويمكن بالنسبة لقدرة الله أن تكون مرة ثانية حياة ولا إنسان، وعلى ضوء ذلك فإن الآيات يمكن أن تفهم فهما جديدا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ فنهلككم ولا يكون بشر وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ بحيث تكون مخلوقات أخرى من ذراتكم نفسها وَلَقَدْ

كلمة في السياق

عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى حيث كانت مخلوقات ولم تكونوا فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ قدرة الله على إبادتكم كما لم تكونوا، فترجعون إلى الله وتؤمنون وتعبدون وتستعدون لليوم الآخر، ولم أجد هذا الاتجاه فيما قرأته من تفاسير، ولذلك فإنني أذكره كاحتمال من احتمالات الفهم مع ترجيحي لما ذكره ابن كثير، وهكذا أقام الله عزّ وجل الحجة على الكافرين بالله واليوم الآخر من خلال ظاهرة الإحياء والإماتة، واستمرار ظاهرة الحياة وقدرة الله عزّ وجل على تغيير خلق الإنسان كما شاء، وكما أقام الله عزّ وجل الحجة على مجئ اليوم الآخر. أقام الحجة على أنه سبحانه وتعالى هو الخالق. كلمة في السياق: إن الصلة واضحة بين الآيات التي مرت وبين قوله تعالى في المحور: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وسنرى أن الصلة واضحة أيضا بين آيات الحجج الثلاث القادمة وبين الآية الثانية في المحور هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. الحجة الثانية: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أي: ما تحرثونه من الأرض بإثارتها وإلقاء البذار فيها أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ قال ابن كثير: أي تنبتونه في الأرض، وقال النسفي: (أي تنبتونه وتروونه نباتا) أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي: المنبتون؟ بل الله هو الذي يقر قراره وينبته في الأرض لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي: هشيما متكسرا قبل إدراكه، قال ابن كثير: أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم رحمة بكم، ولو نشاء لجعلناه حطاما، أي: لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ قال النسفي: (أي تتعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها) قال ابن كثير: (ثم فسر ذلك (أي: تفكههم) بقوله: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي: تقولون إنا لملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا). أقول: جرت عادة قساة القلوب أنهم إذا أصابتهم مصيبة، وذهبت عنهم الصدمة الأولى، أن يتحدثوا عن مصيبتهم بروح النكتة والفكاهة، وعلى هذا يمكن أن تفهم الآيات بأن هؤلاء يتفكهون بذكر ما أصابهم، ويمكن أن يكون المراد بالتفكه التحسر والتفجع، قال الكسائي: تفكه من الأضداد، تقول العرب: تفكهت بمعنى:

[سورة الواقعة (56): آية 67]

تنعمت، وتفكهت بمعنى: حزنت بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: لا حظ لنا. ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا، أقام الله الحجة على أنه الخالق بظاهرة الإنبات إتمامها وإنقاصها، ومتى ثبت أنه الخالق فقد قامت الحجة على المستبعدين لليوم الآخر، المكذبين بالله ورسله، الذين لا يعبدون ولا يتقون. كلمة في السياق: إن دقة التصوير لحال من أصيبت أرضه بحيث تسع تصرفات الناس من خلال استعمال لفظة (تفكهون) التي تفيد أكثر من معنى، وكل معنى يمكن أن يمثل حال فريق من الناس، لمظهر من مظاهر الإعجاز، ولكن الإعجاز الأكبر يتمثل في إقامة الحجة على الكافرين، فهذا الكافر الذي لا يملك من أمر أصل الإنبات شيئا، والذي لا يملك إذا أصابته الجائحة إلا أن يتحسر ويتفجع. كيف لا يسلم بأن الله هو الخالق وهو الرازق، ويبني على ذلك أن يعبد الله. لاحظ صلة ذلك كله بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فالآيات فيها تفصيل للنعمة وإقامة حجة على الكفر، ولها صلة في محل المحور من مقطعه الذي بدأ بآية فيها: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وفي ذلك إعجاز أي إعجاز. الحجة الثالثة: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ العذب الصالح للشرب أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أي: السحب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً أي: ملحا أو مرا لا يقدر على شربه، وذلك بأن يجعل تبخر الملح كتبخر الماء من البحر مثلا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي: فهلا تشكرونه فتعبدونه وتتقونه وتوحدونه، أقام الدليل على أنه الخالق بظاهرة الحكمة من خلال عرض ظاهرة التبخر والمطر والدورة المائية على الأرض ولذلك صلاته بقوله تعالى في المحور: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. الحجة الرابعة: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي: تشعلون أو تقدحون أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي تعطيكم النار، ومن المعلوم أن البترول أصله شجر على ما تقوله أحدث

[سورة الواقعة (56): آية 73]

النظريات، فمرجع أكثر النار في العالم إلى الشجر أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ أي: أأنتم الخالقون للشجر ابتداء، أم نحن الخالقون لها ابتداء نَحْنُ جَعَلْناها أي: النار تَذْكِرَةً أي: تذكيرا بنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش، وعممنا بالحاجة إليها البلوى، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أو عدوا به وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ أي: ومنفعة للمسافرين النازلين في القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام، وقال مجاهد: (أي للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه إلا النار، وقال مجاهد: يعني المستمتعين من الناس أجمعين) قال ابن كثير: (وهذا التفسير أعم من غيره؛ فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة، وغير ذلك من المنافع ... ) أقول: هي متاع للخلق أجمعين، ولكن المتاع في حق المسافرين أظهر عند ما يجتاحهم البرد، وبهذا أقام الله عزّ وجل حجة رابعة على أنه هو الخالق بإنشائه الشجر الذي هو أصل لمعظم النار في العالم، ثم ختم الله تعالى هذه المجموعة بقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فنزه ربك عما لا يليق به- أيها المستمع المستدل- عن جحود الجاحدين قياما بحق ربوبيته، وتمجيدا له على إنعامه، رتب التسبيح على ما عدد من بدائع صنعه، وودائع نعمه، وعوائد إحسانه، قال النسفي: (بدأ بذكر خلق الإنسان فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء، ثم بما يخبز به وهو النار، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيا). أقول: ثم رتب على ذلك أن أمر بالتسبيح. لاحظ صلة ذلك بمحور السورة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ... هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أن محور السورة جاء في سياق قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والملاحظ أنه بنى في هاتين الآيتين على كونه الخالق ضرورة عبادته وتقواه ووجوب توحيده، والملاحظ في المجموعة التي مرت معنا أنه قد ذكر فيها أنه الخالق، وبنى على ذلك وجوب الإيمان فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ووجوب الشكر

المجموعة الثالثة

فَلَوْلا تَشْكُرُونَ والشكر ذروة التقوى، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وبنى على كونه الخالق وجوب تنزيهه، وبنى على كونه الخالق أن مواقف الكافرين المكذبين باطلة في الآيتين اللتين بدأت بهما المجموعة: فبنى على كونه الخالق وجوب العبادة والتقوى، وهاهنا أبطل بكونه الخالق حجج ومواقف من لا يعبده ولا يتقيه ولا يوحده. 2 - مما مر ندرك أن المجموعة الثانية تضئ على ما قبلها، فتبين سلامة سير المقربين، وسلامة سير أهل اليمين، وبطلان سير أهل الشمال بمعنى: أن المقربين وأهل اليمين هم الذين بنوا البناء الصحيح على ما يقتضيه كون الله عزّ وجل هو الخالق. 3 - من الواضح أن سياق السورة الخاص شديد الترابط والاتصال، فالسورة بدأت بالحديث عن وقوع يوم القيامة وأقسام الناس فيه، ثم جاءت المجموعة الثانية، فأقامت الحجة على فساد مواقف أهل الشمال في الدنيا، وعلى سلامة سير المقربين وأهل اليمين، والآن تأتي المجموعة الثالثة والأخيرة فتقيم حجة، وتذكر، وتعود للحديث عن أقسام الناس عند الله: مقربين، وأهل يمين، وأهل شمال المجموعة الثالثة وتمتد من الآية (75) إلى نهاية السورة وهذه هي: [سورة الواقعة (56): الآيات 75 الى 96] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

ملاحظة

ملاحظة: ختمت المجموعة الثانية بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وختمت المجموعة الثالثة بالأمر نفسه فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مما كان دليلا لنا في معرفة مجموعات السورة، إضافة إلى المعاني، وكنا ذكرنا من قبل أن دليلنا إلى معرفة المقاطع والفقرات والمجموعات داخل السورة الواحدة هو المعاني أولا، وبعض المعالم التي يستأنس بها، وقل مثل ذلك بالنسبة لأقسام القرآن عامة، وللمجموعات في كل قسم. التفسير: فَلا أُقْسِمُ أي: فأقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي: منازلها من هذا الفضاء الواسع وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ولا يعلم عظمته إلا من عرف سعة هذا الكون وكثرة نجومه ومجراته، وهي مع كثرتها فإنه يستحيل في منطق الأسباب أن يصطدم نجم بنجم، ولنا في الفوائد كلام عن هذا. قال ابن كثير: (أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ أي: حسن مرضي، أو نفاع جم المنافع، أو كريم على الله، دلل بالقسم الذي هو في بابه معجزة- لأن الناس قديما ما كانوا يعرفون عن موضوع مواقع النجوم وعظمته ما يعرفه الناس الآن، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله- دلل بهذا القسم على أن هذا القرآن كريم، وأنه من عند الله وحده، وأنه فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي: محفوظ، وهو اللوح المحفوظ، والمكنون هو المصون عن أن يأتيه الباطل، أو المحفوظ عن غير الملائكة المقربين فلا يطلع عليه من سواهم لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قال ابن عباس: يعني الملائكة، وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش

[سورة الواقعة (56): آية 80]

أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قال النسفي: صفة رابعة للقرآن. قال ابن كثير: أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين، وليس هو كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حق نافع أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أي: القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ قال النسفي: أي متهاونون به كمن يدهن في بعض الأمر، أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به، وقال ابن عباس: أي مكذبون غير مصدقين وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي وضعتم التكذيب موضع الشكر. كلمة في السياق: 1 - نلاحظ أنه في مقطع المحور يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ونلاحظ هنا أن المجموعة الثالثة بدأت بالتأكيد على أن هذا القرآن من عند الله، ودللت على ذلك بذكر قسم هو في بابه معجزة تدلل على أن هذا القرآن من عند الله، وأنكرت على من يكذب بهذا القرآن، لاحظ الصلة بين قوله تعالى في مقطع المحور: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وبين قوله تعالى هنا: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. 2 - وكما أنكر الله عزّ وجل على من يكذب بهذا القرآن، أنكر على من لا يؤدي شكر رزقه بعبادته، بل يقابل ذلك بالتكذيب. ولنتذكر أنه ورد في الآيتين الأوليين من مقطع المحور قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ لاحظ الصلة بين قوله تعالى في مقطع المحور: رِزْقاً لَكُمْ وبين قوله تعالى هنا: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ وهكذا نجد بوضوح كيف أن الآيات كما تصل إلى محورها بسبب، فإنها تصل إلى محل محورها في مقطعه بسبب، فتصل بين المحور وسياقه في مقطع الطريقين من سورة البقرة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وهكذا تستخرج الآيات الشكر بدل الكفر. فبعد ذكر الخلق والإنعام في المجموعة الثانية، يأتي التذكير بالقرآن الذي يدل على طريق الشكر

[سورة الواقعة (56): آية 83]

لنجد أنفسنا أمام قوله تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فلا بالقرآن عملتم، ولا بحق الرزق عليكم قمتم، فاجتمع لكم تكذيبان وكفران، وذلك كله يؤكد أن السورة تفصل في محورها ضمن سياقه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهذا مظهر واضح لما ذكرناه من أن السور التي تفصل في محور من سورة البقرة، تفصل في هذا المحور وارتباطاته وامتدادات معانيه. ولنتابع عرض المجموعة الثالثة. ... فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ النفس- أي: الروح- عند الموت الْحُلْقُومَ أي: ممر الطعام والشراب. قال ابن كثير: أي الحلق وذلك حين الاحتضار وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ أي: إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ قال ابن كثير: أي بملائكتنا وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ قال ابن كثير: أي ولكن لا ترونهم فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ قال النسفي: أي مربوبين، وقال ابن عباس: أي محاسبين تَرْجِعُونَها أي: تردون النفس- وهي الروح- إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنكم غير مربوبين، وغير مقهورين محاسبين. قال النسفي: والمعنى: (إنكم في جحودكم آيات الله في كل شئ، إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولا صادقا قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم صدق نوء كذا، على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم، إن لم يكن ثمة قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد). كلمة في السياق: قلنا: إن محور السورة هو: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقد تحدثت المجموعة الأولى في السورة عن الرجوع، وتحدثت المجموعة الثانية عن الإحياء الأول، وها نحن نرى المجموعة الثالثة تتحدث عن الموت، ولذلك صلته بقوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ* ثم إن المجموعة تنقلنا مرة ثانية إلى الرجوع: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

[سورة الواقعة (56): آية 88]

ولنتابع عرض المجموعة الثالثة: لقد أقام الله الحجة على المكذبين بإثبات عجزهم عن رد الروح إلى الجسد، فإذا كان عجزهم عن إرجاع الروح واضحا، فقد ثبت الحساب والعقاب والدينونة، ومن ثم فالله عزّ وجل يحدثنا عما سيئول إليه حال هذا الميت، وهو تلخيص لما ذكر في أول السورة- إذا كان المراد بما يأتي حالهم يوم القيامة- وهناك من ذهب إلى أن الآيات التالية في البرزخ، فتكون هذه في البرزخ وتلك في يوم القيامة فَأَمَّا إِنْ كانَ أي: المتوفى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: من السابقين الذين ذكروا في أول السورة فَرَوْحٌ أي: فله استراحة وَرَيْحانٌ أي: ورزق وَجَنَّةُ نَعِيمٍ مع الراحة والريحان وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي: وأما إن كان المتوفى من أصحاب اليمين فَسَلامٌ لَكَ أي: يا صاحب اليمين مِنْ إخوانك أَصْحابِ الْيَمِينِ أي: يسلمون عليك وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة المذكورين من قبل في السورة، وهم الذين قيل لهم فيها ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ أي: فضيافة من شراب بلغ الغاية في الحرارة وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وإدخال فيها. قال النسفي: وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر ملة واحدة، وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين، لأنهم غير مكذبين إِنَّ هذا أي: الذي أنزل في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي: الحق الثابت من اليقين. قال ابن كثير: أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، ولا محيد لأحد عنه فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ شكرا له على ما رزق، وأنزل من هذا القرآن، وتنزيها له عن تكذيب المكذبين، وكلام الضالين، وبهذا انتهت السورة ملخصة ما ذكر في ابتدائها. كلمة في السياق: 1 - في المجموعة الثانية جاء قوله تعالى: فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بعد قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ وهاهنا بعد أن ذكر الله عزّ وجل بالقرآن، وذكر بوجوب شكره جل جلاله، أقام الحجة على أن الإنسان محاسب، قال: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وإذ ثبت العجز فقد ثبت القهر، وقامت الحجة على الإنسان، ووجب التصديق، ومن ذلك ينتقل السياق إلى ما يحدث للميت بحسب عمله، وصلة ذلك بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ

الفوائد

ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قائمة، فههنا يرينا الله عزّ وجل حال الناس عند الرجوع إليه، وإذ كان الأمر عظيما، فإن السورة تختم بالأمر: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. 2 - قلنا إن محور سورة الواقعة آت في سياق الآيات الآمرة بالعبادة والتقوى والتوحيد، والتي بنت ذلك على أن الله هو الخالق، وأنه منزل القرآن، وأن له جنة أعدها للعاملين، وأن له نارا أعدها للكافرين، وقد فصلت سورة الواقعة في هذا فبرهنت على أن الله هو الخالق، وبرهنت على اليوم الآخر، وبرهنت على أن القرآن من عند الله، وإذا استقامت هذه الأصول فقد فصلت فيما أعده الله للكافرين والشاكرين في ابتداء السورة ونهايتها، مقيمة الحجة على الكافرين، ومدللة على صحة سير الشاكرين، كما أمرت السورة بتسبيح الله عزّ وجل، وهو نوع من أنواع العبادة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل هذا التسبيح في الركوع، كما سنرى في الفوائد، وفي ذلك تفصيل للأمر (اعبدوا) بتبيان بعض ما يدخل فيه. 3 - يلاحظ أن سورة الواقعة انتهت بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وأن سورة الحديد الآتية بعدها تبدأ بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك من مظاهر ارتباط أواخر السور السابقة ببدايات السور اللاحقة، مع أن السورة اللاحقة كما سنرى بداية مجموعة جديدة من مجموعات المفصل. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قال ابن كثير: (أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين. قال السدي: هم جمهور أهل الجنة، وآخرون عن يسار العرش وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر ويؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار- عياذا بالله من صنيعهم- وطائفة سابقون بين يديه عزّ وجل، وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم (أي: السابقون) سادتهم، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ولهذا قال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في

قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ الآية، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه، روى سفيان الثوري عن ابن عباس في قوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قال: هي التي في سورة الملائكة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ. وقال ابن جريج عن ابن عباس: هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة، وقال يزيد الرقاشي: سألت ابن عباس عن قوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً قال: أصنافا ثلاثة، وقال مجاهد: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً يعني: فرقا ثلاثة. وقال ميمون ابن مهران: أفواجا ثلاثة، وقال عبيد الله العتكي عن عمر بن الخطاب: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً اثنان في الجنة، وواحد في النار. وروى ابن أبي حاتم عن النعمان ابن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: الضرباء كل رجل من كل قوم كانوا يعملون عمله وذلك بأن الله تعالى يقول: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال: هم الضرباء. وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ... وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فقبض بيده قبضتين فقال: «هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي» وروى الإمام أحمد- أيضا- عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟، قالوا: الله ورسوله أعلم قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» وقال محمد بن كعب وأبو حرزة يعقوب بن مجاهد وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هم الأنبياء عليهم السلام، وقال السدي: هم أهل عليين، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال: يوشع بن نون سبق إلى موسى، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى، وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن أبي حاتم عن سفيان ابن عيينة عن ابن أبي نجيح به. وروى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الذين صلوا إلى القبلتين. ورواه ابن جرير من حديث خارجة به، وقال الحسن وقتادة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أي: من كل أمة، وقال الأوزاعي عن عثمان ابن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ثم قال

أولهم رواحا إلى المسجد، وأولهم خروجا في سبيل الله، وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا كما قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وقال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان، ولهذا قال تعالى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة: يا رب جعلت لبني آدم الدنيا، فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة، فقال: لا أفعل، فراجعوا ثلاثا فقال: لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان. ثم قرأ عبد الله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية ولفظه: فقال الله عزّ وجل: لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان). 2 - بمناسبة قوله تعالى عن السابقين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال ابن كثير: (وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والآخرين، فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، وبالآخرين: هذه الأمة، هذا رواية عن مجاهد والحسن البصري رواها عنهما ابن أبي حاتم وهو اختيار ابن جرير، واستأنس بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد، ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني» ورواه الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة فذكره. وقد روى من حديث جابر نحو هذا. وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة ولله الحمد والمنة، وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر، بل هو قول ضعيف، لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر

الأمم والله أعلم، فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: من مصدر هذه الأمة وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي: من هذه الأمة. روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي بكر المزني قال: سمعت الحسن أتى على هذه الآية وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فقال: أما السابقون فقد مضوا، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال: قرأ الحسن وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة. وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة، ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم، كل أمة بحسبها، ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» فهذا الحديث- بعد الحكم بصحة إسناده- محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم، كذلك محتاج إلى القائمين به في أواخرها، وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها، والفضل للمتقدم، وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني؛ ولكن العمدة الكبرى على الأول، واحتياج الزرع إليه آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض، ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة» وفي لفظ: «حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك» والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم، والمقربون فيها أكثر من غيرها، وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها، ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وفي لفظ: «مع كل ألف سبعون ألفا- وفي آخر- مع كل واحد سبعون ألفا» وقد روى الحافظ أبو القاسم عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود، زمرة جميعها يحيطون الأرض، تقول الملائكة: لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ قال ابن كثير: (هذه

الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ويدل على ذلك حديث عكراش ابن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده عن عبد الله ابن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال: «بعثتني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت المدينة، فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار، وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال: «من الرجل؟» قلت: عكراش بن ذؤيب، قال: «ارفع في النسب» فانتسبت له إلى مرة بن عبيد، وهذه صدقة مرة بن عبيد، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هذه إبل قومي هذه صدقات قومي» ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة، وتضم إليها، ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال: «هل من طعام؟ فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر، فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمني فقال: «يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد». ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب- شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا- فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال: «يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد». ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ثم قال: «يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار». وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعا ... به وقال الترمذي: غريب. وروى الإمام أحمد عن ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة، فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان- فسمعت اثني عشر رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك- فجئ بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذج، قال: فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بسره ما شاءوا، فما يقلبوها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم، فجاء البشير من تلك السرية فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال: «قصي رؤياك». فقصتها وجعلت تقول فجئ بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى قال الحافظ الضياء: وهذا على شرط مسلم. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا نزع ثمرة من

الجنة عادت مكانها أخرى»). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة فقال: «آكلها أنعم منها- قالها ثلاثا- وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها» انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل ابن علي الحطمي عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى؟» قال: الله ورسوله أعلم قال: «طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا، ورقها الحلل يقع عليها الطير كأمثال البخت» فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هناك لطيرا ناعما؟ قال: «أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى» وقال قتادة في قوله تعالى: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون، قال: «من يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت، وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر». وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال: «نهر أعطانيه ربي عزّ وجل في الجنة أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر» فقال عمر إنها لنا عمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آكلها أنعم منها» وكذا رواه الترمذي وقال: حسن عن أنس. ثم روى ابن أبي حاتم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت، يأكل من ثمرات الجنة، ويشرب من أنهار الجنة، فيصطففن له، فإذا اشتهى منها شيئا أتى حتى يقع بين يديه فيأكل من خارجه وداخله، ثم يطير لم ينقص منه شئ؛ صحيح إلى كعب، وقال الحسن بن عرفة عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا»). 5 - بمناسبة قوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو بكر أحمد بن سلمان النجار عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم قال: أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما هي؟» قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس الله تعالى يقول: فِي

سِدْرٍ مَخْضُودٍ خضد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها لتنبت ثمرا ففتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر». (طريق آخر) روى أبو بكر بن أبي داود عن عتبة بن عبد السلمي قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرا أكثر شوكا منها- يعني: الطلح- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون الآخر»). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد: طلح منضود قال: الموز، قال وروي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه قال مجاهد وابن زيد وزاد فقال: أهل اليمن يسمون الموز الطلح ولم يذكر ابن جرير غير هذا القول). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ قال ابن كثير: (روى البخاري عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» ورواه مسلم من حديث الأعرج به. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» وكذا رواه مسلم من حديث الأعرج به وكذا رواه البخاري. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين- أو مائة- سنة هي شجرة الخلد» وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها واقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» إسناد جيد ولم يخرجوه وهكذا رواه ابن جرير والبخاري كلهم عن محمد بن عمرو به وقد رواه الترمذي من حديث عبد الرحيم بن سليمان به. وروى ابن جرير عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرءوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ فبلغ ذلك كعبا فقال: صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما، إن الله تعالى غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:

وَظِلٍّ مَمْدُودٍ قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» وكذا رواه البخاري بسنده، وكذا رواه أبو داود الطيالسي بسنده، وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها» فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله، وروى الترمذي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب» ثم قال: حسن غريب. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام، قال: فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها، قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب وإسناده قوي حسن). 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ قال ابن كثير: (وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر، وفيهما أيضا عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فذكر الصلاة، وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت قال: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا»، وروى الحافظ أبو يعلى عن جابر قال: بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه، ثم تناول شيئا ليأخذه، ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب: يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما كنت تصنعه قال: «إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه». وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه. وروى الإمام أحمد عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبيد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة، ثم قال الأعرابي فيها فاكهة. قال: نعم، وفيها شجر تدعى طوبى. قال: فذكر شيئا لا أدري ما هو، قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليست تشبه شيئا من شجر أرضك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتيت الشام؟ قال: لا. قال: تشبه شجرة بالشام تدعى

الجوزة، تنبت على ساق واحد وينفرش أعلاها. قال: عظم العنقود؟ (أي: في شجرة طوبى) قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر. قال: ما عظم أصلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما. قال: فيها عنب؟ قال: نعم. قال: فما عظم الحبة؟ قال: هل ذبح أبوك تيسا من غنمه قط عظيما، قال: نعم. قال: فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فقال: اتخذي لنا منه دلوا؟. قال: نعم. قال: فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي؟ قال: نعم وعامة عشيرتك). أقول: من قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه عرضت علي الجنة ... فتناولت قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه» فهمت أن الجنة غيب من الغيب، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند ما دنت له، ولم يرها غيره، وإذ كانت الجنة جزءا من السماء السابعة فهذا يفيد أن السموات السبع غيب من الغيب. فهذا الحديث أحد أدلتي فيما ذهبت إليه في هذا التفسير أن السموات السبع التي أخبرنا عنها القرآن سماوات غيبية محجوبة عن الإنسان، فهي موجودة ولكنها مغيبة عنا، والسماء المرئية لنا هي السماء اللغوية فكل ما علاك فهو سماء، وندر من الناس من يعرف كيف يحمل لفظ السماء إذا ورد في كتاب أو سنة، فقد يرد ويراد به مطلق العلو، وقد يرد ويراد به السحاب، وقد يرد ويراد به مجرات هذا الكون، وقد يرد ويراد به السموات السبع. 9 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً* لِأَصْحابِ الْيَمِينِ قال ابن كثير: (أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعد ما كن عجائز رمصا صرن أبكارا عربا، أي بعد الثيوبة عدن أبكارا، عربا متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة. وقال بعضهم: عربا أي غنجات، قال: موسى ابن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أنشأناهن إنشاء قال: نساء عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا» رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي: غريب، وموسى ويزيد ضعيفان وروى ابن أبي حاتم عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً يعني: الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا، وروى عبد ابن حميد ... عن الحسن قال أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز» قال: فولت تبكي قال:

أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد. وروى أبو القاسم الطبراني عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ قال: «حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت: أخبرني عن قوله تعالى: كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ قال: «صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي» قلت: أخبرني عن قوله: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ قال: «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» قلت: أخبرني عن قوله: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قال: «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشرة وهو الغرقئ» قلت يا رسول الله: أخبرني عن قوله تعالى: عُرُباً أَتْراباً قال: «هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصا شمطاء خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات أترابا على ميلاد واحد» قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة»، قلت: يا رسول الله وبم ذاك! قال: «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عزّ وجل. ألبس الله وجوههن النور، وأجسادهن الحرير. بيض الألوان، خضر الثياب، صفر الحلي، مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب: يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ألا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، طوبى لمن كنا له وكان لنا» قلت يا رسول الله: المرأة هنا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: «يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا، فتقول: يا رب إن هذا كان أحسن خلقا معي فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة، فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله، وثنتين وسبعين من ولد آدم، لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما الله في الدنيا يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة، على سرير من ذهب، مكلل باللؤلؤ، عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق، وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وأنه

لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت، كبده لها مرآة- يعني: وكبدها له مرآة- فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله، ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية، فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أن لك أزواجا غيرها، فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت: والله ما في الجنة شئ أحسن منك، وما في الجنة شئ أحب إلي منك». وروى عبد الله بن وهب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال له: أنطأ في الجنة؟ قال: «نعم: والذي نفسي بيده دحما دحما فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا» وروى الطبراني عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا». وروى أبو داود الطيالسي: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء» قلت يا رسول الله: ويطيق ذلك؟ قال: «يعطى قوة مائة» ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال: صحيح غريب، وروى أبو القاسم الطبراني عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال: «إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم). ... جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء» وروى الإمام أحمد والطبراني واللفظ له عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع». وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة» ثم قال: حسن غريب، وروى ابن وهب عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبدا

وكذلك أهل النار» ورواه الترمذي. وروى أبو بكر ابن أبي الدنيا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك! على حسن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون» وروى أبو بكر بن أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جردا مردا مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم»). ا. هـ. أقول: بمناسبة ما ورد هنا أن آدم عليه السلام طوله ستون ذراعا: حاك في صدري سؤال هو: هل بقي آدم عليه السلام على طوله عند ما أهبط إلى الأرض، أو تغير؟ وكان الأمر عندي محتملا، غير أن ما ذكره الدكتور حسن زينو في كتابه (التطور والإنسان) حول العثور على هيكل للإنسان العملاق الذي يعدل حجمه ستة أضعاف إنساننا الحالي، وما ذكرته بعض الإذاعات (¬1) من العثور على هيكل إنسان تبلغ خطوته مترين، كل ذلك رجح لدي أن آدم بقي على طوله وحاله عند ما أهبط إلى الأرض. 10 - بمناسبة قوله تعالى عن أهل اليمين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال ابن كثير: (أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين. وروى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود قال- وكان بعضهم يأخذ عن بعض- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الأنبياء وأتباعها بأممها فيمر علي النبي في العصابة! والنبي في الثلاثة، والنبي وليس معه أحد- وتلا قتادة هذه الآية أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ- قال حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل، قال: قلت: ربي من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل، قال: قلت: رب فأين أمتي؟ قال انظر عن يمينك في الظراب قال: فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت؟ قال: قد رضيت رب، قال: انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال: أرضيت، قلت رضيت رب، قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب» قال: وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدريا قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «اللهم اجعله ¬

_ (¬1) إذاعة الأردن في العشر الأخير من جمادى الآخرة 1400 هـ.

منهم»، قال أنشأ رجل آخر قال: يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: «سبقك به عكاشة» قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن استطعتم- فداكم أبي وأمي- أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا، وإلا فكونوا من أصحاب الظراب، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق، فإني قد رأيت ناسا كثيرا قد ناشبوا أحوالهم ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» قال فكبرنا ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قال فكبرنا فقال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» قال فكبرنا قال ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: فقلنا: بيننا من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقلنا هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا قال فبلغه ذلك فقال: «بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون». وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه، وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرهما. روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما جميعا من أمتي»). 11 - يلاحظ أن اللام قد دخلت في قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً على كلمة جعلناه، بينما لم تدخل على جعلناه من قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال النسفي في تعليل ذلك: (ودخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما، ونزعت منه هنا لأن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة الشرط كإن، ولا عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به، وتساوي حالي حذفه وإثباته، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب؛ للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب). 12 - بمناسبة قوله تعالى عن النار نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ قال ابن كثير: (قال مجاهد وقتادة: أي تذكر النار الكبرى قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار

جهنم» قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال: «إنها قد ضربت بالبحر ضربتين أو مرتين حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها» وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الإمام أحمد في مسنده، فروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وروى الإمام مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية فقال: «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» رواه البخاري ومسلم وفي لفظ لمسلم: «والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» وقد روى أبو القاسم الطبراني ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادا من ناركم هذه بسبعين ضعفا» قال الضياء المقدسي: وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على شرط الصحيح). 13 - وبمناسبة قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ قال صاحب الظلال: (ولم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل، الذي يدركونه بعيونهم المجردة. ومن ثم قال لهم: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ- لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالمقسم به نصيبا أكبر بكثير مما كانوا يعلمون. وإن كنا نحن أيضا لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم. وهذا القليل الذي وصلنا إليه بمراصدنا الصغيرة، المحدودة المناظير، يقول لنا: إن مجموعة واحدة من مجموعات النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا نعرف له حدودا. مجموعة واحدة- هي المجرة التي تنتسب إليها أسرتنا الشمسية- تبلغ ألف مليون نجم! «ويقول الفلكيون إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض؛ ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة. وهو احتمال بعيد، وبعيد جدا. إن لم يكن مستحيلا».

وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع إخوته، قد وضع هناك بحكمة وتقدير. وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل. فهذا طرف من عظمة مواقع النجوم، وهو أكبر كثيرا جدا مما كان يعلمه المخاطبون بالقرآن أول مرة. وهو في الوقت ذاته أصغر بما لا يقاس من الحقيقة الكلية لعظمة مواقع النجوم!). 14 - بمناسبة قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «وتجعلون رزقكم يقول: شكركم، أنكم تكذبون تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا» وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن إسرائيل به مرفوعا، وكذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب وقد رواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى ولم يرفعه. وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا؛ يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، وروى مالك في الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب» أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي كلهم من حديث مالك به. وروى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا» انفرد به مسلم من هذا الوجه، وروى ابن جرير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا» قال محمد- هو ابن إبراهيم- فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عباس، يا عم رسول الله، كم أبقى من نوء الثريا؟ فقال العلماء: يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا، قال:

فما مضت سابعة حتى مطروا، وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر، فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده). وروى ابن جرير عن إسماعيل بن أمية- فيما أحسبه أو غيره- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا ومطروا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد فقال: «كذبت بل هو رزق الله». ثم روى ابن جرير عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين- ثم قال- وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ يقول قائل: مطرنا بنجم كذا وكذا». وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعا: «لو قحط الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدع». وقال مجاهد: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال: قولهم في الأنواء مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا يقول: قولوا: هو من عند الله وهو رزقه وهكذا قال الضحاك وغير واحد، وقال قتادة أما الحسن فكان يقول: بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب، فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. أقول: يستدل لمصلحة الأرصاد الجوية بسؤال عمر، فهو سؤال عن عالم الأسباب، فالعرب قديما كانت تعرف من خلال علامات معينة قرب نزول المطر وقلته وكثرته، وهذا الذي أصبح الآن علما برأسه، له أجهزته واختصاصيوه، وهذا العلم يقدم الآن نشرات جوية لمدة طويلة أو قصيرة، وهذه النشرات قابلة للصواب وللخطإ، ولا اعتراض عليها، ولا زال كثيرون من الناس يشركون بالأنواء كأولئكم الذين يقولون مطرنا بتيار كذا وكذا معتقدين أنه ليس لله دخل في ذلك، أولئك المشركون، أما المؤمنون فيثبتون عالم الأسباب ويعرفون أن الله هو الفاعل. 15 - عرض صاحب الظلال قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ* فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عرض هذه الآيات بأسلوبه الرائع مبرزا الحجة في الآيات فقال: (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ... كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين من خلال قوله: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. هنا. في هذه اللحظة. وقد فرغت الروح من أمر الدنيا. وخلفت وراءها الأرض

وما فيها. وهي تستقبل عالما لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئا إلا ما ادخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر. هنا. وهي ترى ولا تملك الحديث عما ترى. وقد انفصلت عمن حولها وما حولها. الجسد هو الذي يراه الناظرون. ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئا. هنا تقف قدرة البشر، ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر. هنا يعرفون- ولا يجادلون- أنهم عجزة عجزة. قاصرون قاصرون. هنا يسدل الستار دون الرؤية. ودون المعرفة. ودون الحركة. هنا تتفرد القدرة الإلهية، والعلم الإلهي. ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ! وهنا يجلل الموقف جلال الله، ورهبة حضوره- سبحانه وتعالى- وهو حاضر في كل وقت. ولكن التعبير يوقظ الشعور بهذه الحقيقة التي يغفل عنها البشر. فإذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور وجلاله. فوق ما فيه من عجز ورهبة وانقطاع ووداع. وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة يجئ التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ! فلو كان الأمر كما تقولون: إنه لا حساب ولا جزاء. فأنتم إذن طلقاء غير مدينين ولا محاسبين. فدونكم إذن فلترجعوها- وقد بلغت الحلقوم- لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء. وأنتم حولها تنظرون. وهي ماضية إلى الدينونة الكبرى وأنتم ساكنون عاجزون! هنا تسقط كل تعلة. وتنقطع كل حجة. ويبطل كل محال. وينتهي كل جدال. ويثقل ضغط هذه الحقيقة على الكيان البشري، فلا يصمد له، إلا وهو يكابر بلا حجة ولا دليل!). 16 - بمناسبة قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ قال ابن كثير: (وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وبعض المباحات فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي فلهم روح

وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت، كما تقدم في حديث البراء: «إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب، كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان وجنة ورب غير غضبان» قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فَرَوْحٌ يقول: راحة، وريحان يقول: مستراحة، وكذا قال مجاهد: إن الروح الاستراحة، وقال أبو حرزة: الراحة من الدنيا، وقال سعيد بن جبير والسدي: الروح: الفرح وعن مجاهد فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وجنة ورخاء، وقال قتادة فروح فرحمة وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: وريحان ورزق وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة؛ فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والرزق الحسن وَجَنَّةُ نَعِيمٍ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه، وقال محمد بن كعب: لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ولو كتبت هاهنا لكان حسنا، وأجلها حديث تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى لملك الموت: انطلق إلى فلان فائتني به، فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب. ائتني به فلأريحنه، قال: فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم أكفان وحنوط من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا، لكل منها ريح سوى صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك» وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية. روى الإمام أحمد عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ برفع الراء وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون- وهو ابن موسى الأعور- به وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه، وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده، وخالفه الباقون فقرءوا فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ بفتح الراء. وروى الإمام أحمد عن أم هانئ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتزاور إذا متنا، ويرى بعضنا بعضا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون النسم طيرا يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها». هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن، ومعنى يعلق يأكل، ويشهد له بالصحة أيضا ما رواه الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك ابن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم

يبعثه». وهذا إسناد عظيم ومتن قويم. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل ملعقة بالعرش» الحديث، وروى الإمام أحمد عن عطاء بن السائب قال: كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على حمار، وهو يتبع جنازة فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال: فأكب القوم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: إنا نكره الموت، قال ليس ذاك ولكنه إذا احتضر فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عزّ وجل والله عزّ وجل للقائه أحب وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره، هكذا رواه الإمام أحمد، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه). 17 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ... قال ابن كثير: (وقوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي: وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ أي: تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي: لا بأس عليك أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين. وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله، كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين، وهذا معنى حسن، ويكون ذلك كقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وقال البخاري فَسَلامٌ لَكَ أي: مسلم لك أنك من أصحاب اليمين، وقد يكون كالدعاء له كقولك: سقيا لك من الرجال إن رفعت السلام فهو من الدعاء وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم. وقوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى فَنُزُلٌ أي: فضيافة مِنْ حَمِيمٍ وهو المذاب الذي يصهر به

ما في بطونهم والجلود وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي: وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته). ا. هـ. أقول: إن هناك اتجاهين في هذه الآيات. الاتجاه الأول: أن الحديث فيها عما يكون للميت يوم القيامة بعد إذ تقع الواقعة، وعندئذ تكون خاتمة السورة تتحدث عما تحدثت به بدايتها، والاتجاه الثاني يقول: إن الحديث في هذه الآيات يدور حول ما يستقبل به الميت فور وفاته، فهي حديث عما يستقبل الميت في البرزخ في الفترة بين الموت وقيام القيامة، وعلى هذا الاتجاه تكون السورة بدأت بالحديث عن القيامة، وختمت بالحديث عما قبل ذلك من حياة برزخية، وموت وحياة أولى. 18 - بمناسبة قوله تعالى في خاتمة السورة: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهنى قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» وكذا رواه أبو داود وابن ماجه، وقال روح بن عبادة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» هكذا رواه الترمذي ورواه هو والنسائي أيضا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير. وروى البخاري في آخر كتابه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله). أقول: وردت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ في السورة مرتين، وفي كل مرة كانت ترد بعد ما تستجاش في النفوس عوامل الشعور بالعظمة؛ ليأتي التسبيح بعد ذلك خارجا من أعماق النفس. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل هذا التسبيح في ركوعنا، فإذا عرفنا أن سورة كاملة قد سيقت للوصول إلى التسبيح في الركوع الذي هو سنة من سنن الصلاة ندرك أهمية الصلاة في حياة المسلم، وفي بقاء الإسلام. والملاحظ أن كل جزء من أجزاء الصلاة قد جاء في سياق سورة من السور؛ ليكون لهذا الجزء أرضيته العميقة التي يستند إليها، فالقيام في الصلاة جاء في سورة، وقراءة القرآن فيها جاءت في سورة، والركوع

كلمة أخيرة في سورة الواقعة

والسجود جاءا في أكثر من سورة. وهذا يوصلنا إلى أصل عظيم في الدعوة والتربية: إن كثيرا من الأمور إذا لم تستند إلى أرضية واسعة فإنها تكون معرضة للخطر، فلا إله إلا الله مثلا إذا لم يكن أساسها متينا فإن الطغيان يحاول استئصالها، ولذلك نجد القرآن قد تحدث عنها كثيرا، ولقد ورث المسلمون في العصور المتأخرة شعائر الإسلام دون أن يرثوا مع ذلك الأرضية الواسعة للشعائر فكاد أن يتغلب أعداء الإسلام على الإسلام، لولا أن الدعوة الإسلامية المعاصرة قد أعادت الأمر إلى نصابه. كلمة أخيرة في سورة الواقعة: سورة الواقعة هي أول سورة تبدأ بقوله تعالى: إِذا ثم تأتي بعد ذلك سور مبدوءة بهذه الكلمة أكثر من مرة إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وبعد التأمل في محل هذه السور بالنسبة لما قبلها وما بعدها. وبعد التأمل في مضامينها نلاحظ أن هذه السور لا تأتي في بداية مجموعات، وليس شرطا أن تأتي في نهاية مجموعات كذلك، قد يكون وقد لا يكون، فسورة الواقعة نهاية مجموعة، وسورة المنافقون نهاية مجموعة، بينما سورة النصر ليست نهاية مجموعة مثلا كما سنرى. وحيثما جاءت سورة مبدوءة بإذا فإنك تجدها مهيجة على العمل والعبادة والتقوى من خلال ذكر ما يبعث على ذلك، فالتشابه كثير جدا بين مضمون هذه السور. ... لقد لاحظنا أن سورة الواقعة فصلت في حيز قوله تعالى من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... بأن فصلت قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ... فلنتذكر أن بداية سورة الحج هي: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ولنلاحظ أن أكثر السور المبدوءة بقوله تعالى: إِذا* فيها حديث عن الساعة إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها مثل هذا يجعلنا نستأنس أن

محور هذه السور هو محور سورة الحج أو حيزه، وهو الشئ الذي وجدناه من خلال سورة الواقعة، وسنجده من خلال السور المشابهة لها. .. ومن تأمل لهذه السور نجد أنها تعظ، ومن الوعظ تنقلنا إلى معنى هو من باب العبادة أو التقوى، ففي سورة الواقعة نجد قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وفي سورة النصر وهي آخر سورة مبدوءة ب (إذا) نجد قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً وقبل ذلك في سورة المنافقون نجد لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... وفي سورة التكوير إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وفي سورة الانشقاق فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ... وفي سورة الزلزلة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ كل ذلك يجعلنا نستأنس بأن محور هذه السور، هو إما الأمر يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... في سورة البقرة، أو في الآيات الآتية في حيزه، وعلى كل فالمعنى هو الذي يرينا إن كانت هذه القاعدة كلية أو أغلبية، وهو موضوع سنراه أثناء سيرنا. وقد رأينا محور سورة الواقعة. ... ونلاحظ من خلال المعاني أنه بسورة الواقعة تنتهي المجموعة الأولى من قسم المفصل، لتبدأ مجموعات متوالية، هي مجموعات المسبحات المبدوءة بسورة الحديد التي بدايتها سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ونلاحظ أن سورة الواقعة منتهية بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وأن سورة الحديد مبدوءة بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مما يذكرنا بالقاعدة أن نهاية كل سورة من سور القرآن مرتبطة ببداية ما بعدها نوع ارتباط، أحيانا يكون واضحا جدا، وأحيانا يحتاج إلى تأمل، فسور القرآن إذن من ابتدائها إلى انتهائها متعانقة عناقا عجيبا. لاحظ مثلا أن نهاية سورة الفاتحة هي: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... وأن بداية سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... لاحظ ذكر لفظة (الهداية) في نهاية الفاتحة، وبداية سورة البقرة. لاحظ مثلا نهاية سورة آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ولاحظ بداية سورة النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ لاحظ وجود لفظ (اتقوا) في النهاية

والبداية، ولم نحاول فيما قبل المجموعات السابقة أن نقف وقفات طويلة عند هذا الموضوع، لأن تركيزنا الرئيسي كان منصبا على النسق الذي تمشى عليه أقسام القرآن ومجموعاته، وهو نفس النسق الذي سارت عليه سورة البقرة. ... غير أن ظهور الصلات بشكل واضح في السور الست التي مرت معنا فيما بين نهايات السورة السابقة وبدايات السورة اللاحقة، جعلنا نركز على هذا المعنى هنا، وهي ظاهرة تجدها في القرآن كله: أن السورة السابقة توصلك إلى السورة اللاحقة وتمهد لها، لاحظ مثلا نهاية سورة يونس وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ وبداية سورة هود الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ... تجد الصلة، لاحظ نهاية سورة هود فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ... ثم ادرس سورة يوسف بعدها، تجد سورة يوسف درسا في التوكل وهكذا، إلا أنه كما قلنا: أحيانا تكون الصلة واضحة، وأحيانا تحتاج إلى تأمل، ومن هذا المعنى والمعاني الأخرى التي ذكرناها حول ترتيب القرآن نجد أن هذا الترتيب للقرآن فيه من أنواع الإعجاز ما لا يحيط به البشر، فما أكثر جنون أولئكم الذين لا يدركون أسرار هذا الترتيب، ويطالبون بترتيب آخر أو يعترضون على هذا الترتيب، وما أكثر ما أخطأ- وغفر الله له- من حاول أن يفسر القرآن على غير ترتيبه الحالي، كأن فسره على حسب ترتيب النزول في زعمه، وهو موضوع لا توجد أدواته أصلا ولا أدلته بشكل يستقصي القرآن كله، وذلك من فعل الله لهذا القرآن؛ حتى لا تفكر الأمة إلا بهذا الترتيب الخاص لما يحويه من إعجاز ويترتب عليه من مصالح. ... لقد رأينا في المجموعة المارة معنا- وهي المجموعة الأولى من المفصل- كيف أنها فصلت في مقدمة سورة البقرة، والمقطع الأول من القسم الأول من السورة، ورأينا أدلة ذلك وتوجيهه، ورأينا صلة نهاية السورة منها ببداية ما بعدها، وسنلاحظ في كل المجموعات الآتية من المفصل أنها تفصل في حدود هذه الآيات من سورة البقرة، ولا تتجاوزها لما بعدها، بينما رأينا أن مجموعات القسم الأول والثاني وبعض مجموعات القسم الثالث تفصل في هذا، وفيما يأتي بعده من سورة البقرة، واقتصار المفصل على هذا الحد من التفصيل يشير إلى أن تفصيل هذه الآيات هو الأساس الذي يبنى عليه

غيره، كما أن هذا يشير إلى أن المعاني الأولى من سورة البقرة هي البداية والنهاية، وأنها المعاني التي تحتاج النفس البشرية إلى أن تذكر بها مرة بعد مرة، كما أن هذا يشير إلى كثرة المعاني المستكنة في الآيات الثلاثين الأولى لسورة البقرة حتى احتاج تفصيلها إلى عشرات السور. ... وسنلاحظ فيما سيأتي معنا من السور أن المجموعة الواحدة تفصل في معنى متسلسل مرتبط بالآيات الأولى من سورة البقرة، ثم تأتي المجموعة الأخرى فتفصل في معنى يتكامل مع السياق بحيث يتم تكامل متعدد الجوانب في قسم المفصل، بشكل معجز وبديع. ... ومن مثل ما مر معنا ندرك كيف يأخذ كل إنسان حظه من هذا القرآن، فمن لا يدرك إلا المعاني الحرفية لكل آية يأخذ حظه كاملا، ومن يدرك مع هذا محل الآية مع ما قبلها وما بعدها يأخذ حظا آخر، ومن يدرك وحدة السورة يأخذ حظا زائدا، ومن يدرك صلة السورة بمجموعتها يأخذ حظا جديدا، ومن يدرك صلة المجموعة بقسمها، وصلة الأقسم بسورة البقرة، وسر سياق سورة البقرة الخاص يأخذ حظوظا ومعاني أخرى، ثم الناس يتفاوتون في هذا كله، فمن إدراك محدود إلى أوسع منه إلى أوسع، بما لا يلغى فيه فهم أوسع من فهم دونه، وكل ذلك هو بعض الشأن في هذا القرآن. ... هذا كله إذا نظرنا إلى المسألة من خلال قراءة واحدة، ولكن هناك قراءات، وأوسع من ذلك أن القرآن أنزل على سبعة أحرف سنرى معناها في كتاب (الأساس في السنة وفقهها) وفي ذلك أسرار كثيرة. فالوقف في قراءة يعطيك معنى، والوقف في قراءة أخرى يعطيك معنى جديدا، والإعراب المتعدد للكلمة الواحدة في القراءة الواحدة- أو في القراءات- يعطيك معاني جديدة، وكل معنى من هذه المعاني هو صحيح في بابه، وباجتماعها مع بعضها تتولد عندك معان لا تتناهى، ولا يستطيع أحد لها حصرا وليس هذا هو كل شئ في هذا القرآن، بل هذا بعض الشئ. ...

فكتاب هذا شأنه هل يشك إلا مجنون جاهل أعمى في أنه من عند الله عزّ وجل، كيف ومع تقادم العصور تجد معانيه تسبق العصور، وتتحدى أن يستطيع أحد أن ينقض معنى منها. وقبل أن ننتقل إلى المجموعة الثانية من قسم المفصل نحب أن نذكر بما يلي: 1 - هناك تكامل بين معاني السورة الواحدة ودليله وحدة معانيها، وهناك تكامل بين سور المجموعة الواحدة، والمجموعة التي بين أيدينا تصلح نموذجا على ذلك، فقد بدأت المجموعة في الذاريات التي تحدثت عن القيامة، وختمت المجموعة بسورة الواقعة، ولقد تكامل الكلام عن التقوى في سور الذاريات والطور والنجم، وجاءت سورة القمر- وفيها إنذار- لتدفع نحو التقوى، وجاءت سورة الرحمن- وفيها تذكير بالنعمة- لتدفع نحو التقوى، ثم جاءت سورة الواقعة لتكمل الدفع نحو الوصول. 2 - وكما أن هناك تكاملا بين معاني السورة الواحدة، وتكاملا بين سور المجموعة، فإن تكاملا بين مجموعات القسم كائن، وسنتعرض لهذا أثناء عرضنا لهذا القسم، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. 3 - وكل قسم من الأقسام يكمل بقية الأقسام، فقسم المفصل يكمل تفصيل قسم المثاني، وقسما المثاني والمفصل يكملان تفصيل قسم المئين، والأقسام الثلاثة تكمل تفصيل قسم الطوال، ولهذا كله قواعده وأسرار انتظامه، وكل ذلك قد ربط بخيوط إلى سورة البقرة، فكأنها الأصل الذي ينبثق عنه بانتظام فروع أولى، ثم فروع ثانية، ثم فروع ثالثة، ثم فروع رابعة، فكأنها شجرة فيها أربع وعشرون طبقة، كل طبقة لها فروعها وثمارها، وكل طبقة ترتبط بآيات سورة البقرة بخيوط منتظمة. ***

المجموعة الثانية من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الثانية من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سورتي: (الحديد، والمجادلة)

كلمة في المجموعة الثانية من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الثانية من قسم المفصل تبدأ سورة الحديد بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم تأتي بعدها سورة المجادلة، وهي تبدأ بقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ ثم تأتي بعدها سورة الحشر وهي تبدأ كسورة الحديد بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. ثم تأتي بعدها سورة الممتحنة وهي تبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ثم تأتي سورة الصف ... وهي تبدأ كما بدأت سورة الحديد بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثم تأتي سورة الجمعة وهي تبدأ بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ثم تأتي سورة المنافقون وهي تبدأ بقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ... ثم تأتي سورة التغابن وبدايتها شبيهة ببداية سورة الحديد يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... ومن استقراء المعاني نجد أننا أمام عدة مجموعات كل مجموعة تبدأ بسورة فاتحتها كلمتا (سبح أو يسبح)، والمجموعة الثالثة منها تتألف من ثلاث سور في: الصف، والجمعة، والمنافقون، وكل من سورتي الصف والجمعة تبدأ ب (سبح، يسبح) مع أنهما في مجموعة واحدة، فنحن في زمرة المسبحات أمام أربع مجموعات، المجموعة الأولى منها هي مجموعة الحديد والمجادلة وهي المجموعة الثانية من قسم المفصل. ... تفصل مجموعة الحديد والمجادلة في الآيات السبع والعشرين الأول من سورة البقرة كما سنرى، فتبرز لنا الكثير من معاني الإيمان والكفر والنفاق، وما ينبثق عن كل، وما يستلزمه كل من معان. ... وهذه المجموعة هي الأولى من مجموعات زمرة المسبحات التي تقدم كل منها تفصيلا جديدا لمعان في سورة البقرة، والتي تتكامل مع بعضها لتأخذ محلها في تكامل قسم المفصل. ***

سورة الحديد

سورة الحديد وهي السورة السابعة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم المفصل، وهي تسع وعشرون آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الحديد

بين يدي سورة الحديد: قدم الألوسي لسورة الحديد بقوله: (أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، وقال النقاش وغيره: هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له، فقد قال قوم: إنها مكية، نعم الجمهور- كما قال ابن الفرس- على ذلك. وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا، لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي، وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد، فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فأسلم، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم، والنسائي، وابن ماجه. وغيرهم عن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إلا أربع سنين. وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ ... الآية). (ووجه اتصالها- بالواقعة- أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لأنه سبح له ما في السموات والأرض، وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد؛ وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال: قال يحيى: نراها الآية التي في آخر الحشر). وقال ابن كثير: والآية المشار إليها في الحديث هي- والله أعلم- قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وقال صاحب الظلال في تقديمه لسورة الحديد: (هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها. هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله؛ فلا تضن عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئا ... لا الأرواح ولا الأموال؛

كلمة في سورة الحديد ومحورها

ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور .. وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض. موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين. كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب [بالله]، فتخشع لذكره، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه). كلمة في سورة الحديد ومحورها: نلاحظ أن سورة الحديد تبدأ بالكلام عن الله عزّ وجل ثم تبني على ذلك، فتأمر بالإيمان والإنفاق، وتنكر على من لا يؤمن ولا ينفق، ثم تحض على الإنفاق، ثم تنتقل من موضوع إلى موضوع حتى تصل إلى موضوع إرسال الرسل والحكمة فيه، وموقف الناس منهم، وبعض الاتجاهات الغالية عند بعض أتباعهم، وتنتهي بالأمر بالتقوى والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتتعرض السورة في سياقها لقضايا الإيمان بالله والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر، كما تتعرض للنفاق وأسبابه وآثاره، وعقوبة أهله، وتركز على الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت مقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين فإن سورة الحديد تعمق تصورنا لقضية الإيمان والنفاق والكفر ضمن سياقها. تتألف سورة الحديد من مقدمة، ومقطع، وخاتمة. المقدمة تتحدث عن الله عزّ وجل. والمقطع يأمر بالإيمان بالله والرسول والإنفاق. والخاتمة تأمر بالتقوى والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتحدثنا عما وعد الله المتقين. ...

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (6) وهذه هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) التفسير: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال النسفي: أي: مما يتأتى منه التسبيح، ويصح وقال ابن كثير: أي: من الحيوانات والنباتات. وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي خضع له كل شئ وقال النسفي: (أي: المنتقم من مكلف لم يسبح له عنادا) الْحَكِيمُ في خلقه وأمره وشرعه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فليس لغيره فيهما أدنى ملك يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: يحيي الموتى ويميت الأحياء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن هُوَ الْأَوَّلُ أي: القديم الذي كان قبل كل شئ وَالْآخِرُ أي: الباقي فلا يطرأ عليه فناء ولا عدم وَالظَّاهِرُ قال النسفي: بالأدلة الدالة عليه. وَالْباطِنُ قال النسفي: لكونه غير مدرك

[سورة الحديد (57): آية 4]

بالحواس وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا شئ إلا وهو معلوم له إجمالا وتفصيلا. هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وذلك من مظاهر قدرته ودليل مالكيته يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي: ما يدخل فيها من غيرها كالأشعة والنيازك والملائكة، أو ما يدخل في تربتها من حب ومطر وموتى، وغير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها إلى غيرها من أرواح وملائكة وأقمار صناعية ومراكب فضائية، أو ما يخرج من تربتها من نبات وزرع وثمار وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من ملائكة وأمر وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة والأرواح والأعمال والدعوات وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ قال النسفي: (بالعلم والقدرة عموما وبالفضل والرحمة خصوصا). أقول: بعد أن حدثنا في أول الآية عن مظاهر قدرته حدثنا فيما بعد ذلك عن مظاهر علمه، ثم ختم الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال ابن كثير: (أي: رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم، من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء، وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ويعلم مكانكم ويعلم سركم ونجواكم ... ). قال النسفي: فيجازيكم على حسب أعمالكم لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كرر ذكر مالكيته بعد أن ذكر دليل ذلك ليتوصل إلى تقرير رجوع الأمور كلها إليه فقال: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أمور الدنيا والآخرة، فكلها مرجعها إليه، لأنه وحده المالك المتصرف، ثم دلل على مالكيته مرة ثانية فقال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قال النسفي: (أي: يدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد من النهار، ويدخل النهار في الليل بأن ينقص من النهار ويزيد من الليل) وكل ذلك على أدق ما يكون وبما يحقق لمجموع سكان الكرة الأرضية من المصالح ما لا يحاط به. قال ابن كثير: (أي: هو المتصرف في الخلق، يقلب الليل والنهار، ويقدر هما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعا ثم صيفا ثم خريفا وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه) وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: يعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت، ومن كان هذا شأنه فلا شك أن مرجع الأمور كلها إليه سبحانه، وبهذا انتهت المقدمة بعد أن دللت على مالكية الله للأشياء كلها، وعلى إحاطة قدرته وعلمه، وعلى قدمه وبقائه، وعلى ظهوره وبطونه، وعلى أنه وحده المتصرف، وأن مرجع الأمور إليه، وقدم لذلك بذكر تسبيح الأشياء له وأنه العزيز الحكيم وهذا كله يأتي كمقدمة للسورة

كلمة في السياق

التي تأمر بالإيمان بالله ورسوله وتأمر بالإنفاق. كلمة في السياق: 1 - إن الإيمان بالغيب عليه مدار الإسلام كله، والإيمان بالله هو مرتكز الإيمان بالغيب؛ فمنه يتفرع الإيمان بالرسل، وعن الإيمان بالله والرسل يتفرع الإيمان بالملائكة الذين هم الواسطة بين الله والرسل، وعن الإيمان بالله يتفرع الإيمان باليوم الآخر والقدر، وعن الإيمان بالله والرسل يتفرع الإيمان بالكتب، ومن ثم نلاحظ أن السورة قدمت بالتعريف على الله وصفاته. 2 - سيأتي بعد هذه المقدمة مباشرة أمر بالإيمان بالله والرسول والإنفاق، مما يشير إلى أن المقدمة ذكرت الأساس الذي يقوم عليه الإيمان بالله والرسول والإنفاق، فإنفاق المسلم أثر عن إيمانه بمالكية الله للأشياء كلها، ومن ثم فهو يتصرف في المال بما يتفق وأمر الله- عزّ وجل- الذي هو المالك الأصيل. 3 - وصفت مقدمة سورة البقرة المتقين بأنهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وقد حدثتنا مقدمة سورة الحديد عن أصل من الأصول في موضوع الإيمان بالغيب، وعن الأصل الذي ينبثق عنه موضوع الإنفاق، وكل ذلك مقدمة مباشرة للأمر بالإيمان بالله ورسوله أي: بالشهادتين اللتين تتضمنان أركان الإيمان، ومقدمة للأمر بالإنفاق الذي هو علامة الإيمان وبرهانه كما قال عليه الصلاة والسلام «والصدقة برهان». 4 - نلاحظ أن سورا كثيرة فيما سبق من قسم المفصل ركزت على موضوع الصلاة بشكل أوسع مما ركزت فيه على موضوع الإنفاق، كما رأينا ذلك في سورة الذاريات والطور والنجم، ومن ثم نلاحظ أن هذه المجموعة وهي الثانية في قسم المفصل تركز على موضوع الإنفاق أكثر مما تركز على موضوع الصلاة، وهذا نوع من التكامل بين مجموعات المفصل، ومظهر من مظاهر التنوع في الدعوة إلى المعاني التي تضمنتها مقدمة سورة البقرة. 5 - نلاحظ أن المقطع الرئيسي في السورة- الذي يأتي بين مقدمة السورة وخاتمتها- بدأ بالأمر بالإيمان بالله والرسول صلى الله عليه وسلم والإنفاق، ثم ركز على هذه النقاط

الثلاث بشكل رئيسي، وجاءت خاتمة السورة لتقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ وهذا كله يشير إلى أن قضية الإيمان بالله والرسول والإنفاق في سبيل الله هي المسار الرئيسي للسورة، وإذ كان الإيمان يقابله كفر ونفاق، فإن للكفر والنفاق ذكرا في السورة كما هما مذكوران في مقدمة سورة البقرة. ***

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (27) وهذا هو: الفقرة الأولى المقدمة [سورة الحديد (57): آية 7] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) المجموعة الأولى من الفقرة الأولى [سورة الحديد (57): الآيات 8 الى 9] وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) المجموعة الثانية من الفقرة الأولى [سورة الحديد (57): الآيات 10 الى 15] وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية المقدمة [سورة الحديد (57): آية 16] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) المجموعة الأولى من الفقرة الثانية [سورة الحديد (57): الآيات 17 الى 21] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

المجموعة الثانية من الفقرة الثانية [سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 24] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية [سورة الحديد (57): الآيات 25 الى 27] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)

ملاحظة في السياق

ملاحظة في السياق: يبدأ المقطع بآية تأمر بالإيمان بالله والرسول، وتأمر بالإنفاق، وتبين ما أعد الله للمؤمنين المنفقين، ثم يبدأ المقطع يناقش ويدعو، وسنعرض المقطع على أنه فقرتان: الفقرة الأولى منه تتألف من مقدمة ومجموعتين. الفقرة الأولى تفسير مقدمة الفقرة الأولى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: صدقوا بهما وَأَنْفِقُوا يدخل في ذلك الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ قال النسفي: (يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيها في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به). فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بالله ورسوله وَأَنْفِقُوا في سبيل الله لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ عند الله تعالى.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - في مقدمة سورة البقرة وصف الله المتقين بأنهم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ووصفهم بأنهم وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وهاهنا في سورة الحديد أمر بالإيمان بالله ورسوله، والأمر بالإيمان بهما أمر بالشهادتين، وهذا الذي كان يركز عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يدعو إلى الشهادتين ويعتبر هما رمز الدخول في الإسلام، وما ذلك إلا لأن الشهادتين يدخل في مضمونهما كل أركان الإيمان، فمن آمن بالله والرسول آمن بالملائكة الذين هم الواسطة بين الله والرسل، ومن آمن بالرسول آمن بالوحي والكتب، ومن آمن بالله آمن بالقدر، لأن الإيمان بالقدر فرع الإيمان بالله، ومن آمن بالله والرسول آمن باليوم الآخر، ومن ثم ندرك أن الأمر بالإيمان بالله والرسول نوع تفصيل لموضوع الإيمان بالغيب، وأن يرافق الأمر بالإيمان بالله والرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بالإنفاق. فذلك يبين أهمية الإنفاق في دين الله عزّ وجل، وهو موضوع عرفت أهميته واقعيا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ارتد من ارتد، وكان سبب ردة بعض هؤلاء إرادتهم النكوص عن الإنفاق. 2 - رأينا أن الآية الأولى من المقطع أمرت بالإيمان بالله والرسول، ثم أمرت بالإنفاق والآن تأتي مجموعتان: مجموعة تحض على الإيمان بالله، ومجموعة تحض على الإنفاق. تفسير المجموعة الأولى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي: وأي عذر لكم في ترك الإيمان بالله وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ قال ابن كثير: أي: وأي شئ يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي: وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ميثاقكم بالبيعة، هكذا فسرها ابن كثير، وذهب مجاهد وهو الذي اعتمده ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: مصدقين قال النسفي: (أي: وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أو بما ركب فيكم من العقول، ومكنكم من النظر في الأدلة فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين لموجب ما؟ فإن هذا الموجب

[سورة الحديد (57): آية 9]

لا مزيد عليه). هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ أي: حججا واضحات، ودلائل باهرات، وبراهين قاطعات يعني في هذا القرآن لِيُخْرِجَكُمْ الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بدعوته بهذا القرآن مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: من ظلمات الكفر والشك والحيرة إلى نور الإيمان واليقين، قال ابن كثير: أي: من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي: كثير الرأفة كثير الرحمة قال ابن كثير: أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة العلل وإزالة الشبه. كلمة في السياق: 1 - استدل عليهم للإيمان بالله بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استقر في فطرهم، وبما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن، فحال الرسول يدل على الله، والقرآن يدل على الله، وما ركب في الفطرة من بداهة الاعتراف بوجود الله يدل على الله، فكيف بعد ذلك كله يتأبى الإنسان عن الإيمان بالله!، وقد دللنا في سلسلة الأصول الثلاثة، على أن النظر العقلي في الكون يدل على الله، وعلى أن ظواهر القرآن تدل على الله، وعلى أن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أظهر الله على يديه من المعجزات يدل على الله، وهذه المجموعة تذكر هذا كله هاهنا كأدلة توصل إلى الإيمان بالله، وفي معرض ذلك ذكرت قضية الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم كبديهية من البديهيات بسبب ما أنزل الله عليه من البينات. فالآية الأولى من المقطع أمرت بالإيمان بالله والرسول، وأمرت بالإنفاق، وجاءت المجموعة الأولى من الفقرة الأولى فحثت على الإيمان بالله، والآن ستأتي مجموعة ثانية تحث على الإنفاق ولم تأت مجموعة خاصة بالإيمان بالرسول؛ لأن المجموعة التي حثت على الإيمان بالله تحدثت ضمنا عما يوجب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. 2 - تبدأ الآيات الأولى من سورة البقرة والتي هي محور سورة الحديد بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، وقد جاء في المجموعة التي مرت معنا قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وفي ذلك تقرير لكون هذا القرآن منزلا من عند الله، وأنه منزه عن الريب، وأن فيه الهداية، وأنه يدل على الله. فصلة ما جاء في المجموعة الأولى من الفقرة الأولى بمحور السورة واضحة.

تفسير المجموعة الثانية

3 - ثم تأتي المجموعة الثانية في الفقرة الأولى من المقطع وفيها حث على الإنفاق، قال ابن كثير: (ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق، ثم حثهم على الإيمان وبين أنه قد أزال موانعه، حثهم على الإنفاق). تفسير المجموعة الثانية: وَما لَكُمْ في أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: في طريقه، أي: في طريق الجهاد لإعلاء دينه وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال النسفي: (أي: يرث كل شئ فيهما، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره، يعني: وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم، والله مهلككم فوارث أموالكم، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله، ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي: فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ومن أنفق من بعد الفتح بدلالة ما بعده عليه أُولئِكَ أي: الذين أنفقوا من قبل الفتح أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ أي: من بعد الفتح وَقاتَلُوا في سبيل الله وَكُلًّا أي: كل واحد من الفريقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي: المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: فيجازيكم على قدر أعمالكم. قال ابن كثير: (أي: فلخبرته عزّ وجل فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه سبحانه وتعالى بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق)، ثم هيج الله عزّ وجل على الإنفاق بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي: بطيب نفسه ومراده الإنفاق في سبيله قال النسفي: (واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء وقال عمر ابن الخطاب في الآية: هو الإنفاق في سبيل الله). أقول: وهو الذي يشهد له السياق قال ابن كثير: وقيل هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي: يعطيه أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة من فضله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ قال النسفي: أي: وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه. وقال ابن كثير: أي: جزاء جميل، ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة، ثم بين الله عزّ وجل متى يكون ذلك، وأنه يكون في اليوم الذي لا تقبل فيه فدية من كافر أو منافق، عندئذ يوفى

[سورة الحديد (57): آية 12]

هؤلاء المؤمنون أجرهم هذا أحوج ما يكونون إليه. يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي: لهؤلاء المؤمنين المقرضين الله قرضا حسنا أجر كريم، يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي: يوم القيامة بحسب أعمالهم وفي الآية إشعار بأن هذا النور كان لهم جزاء إيمانهم، ومن السياق نعرف أن من أعمالهم التي استحقوا بها ذلك الإنفاق. قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم ... ). قال النسفي: وإنما قال: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، فيجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية، لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا، وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون، سعى بسعيهم ذلك النور، وتقول لهم الملائكة: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي: دخول جنات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وأي فوز أعظم من دخول الجنة، وكأن السياق يقول: أيها المؤمنون أنفقوا لتكونوا من هؤلاء ثم قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ أي: للمنفقين في سبيل الله أجر كريم، يوم يقول المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي: انتظرونا، لأن أهل الإيمان يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي: انتظرونا لنلحق بكم فنستنير بنوركم قِيلَ أي: تقول لهم الملائكة أو المؤمنون طردا لهم وتهكما بهم ارْجِعُوا وَراءَكُمْ أي: إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا نُوراً أي: فالتمسوا النور هنالك بتحصيل سببه وهو الإيمان وليسوا بقادرين فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي: بين المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ أي: بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار قال النسفي: قيل هو الأعراف لَهُ بابٌ أي: لذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه باطِنُهُ أي: باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ أي: النور أو الجنة وَظاهِرُهُ أي: ما ظهر لأهل النار مِنْ قِبَلِهِ أي: من عنده وفي جهته الْعَذابُ أي: الظلمة أو النار يُنادُونَهُمْ أي: ينادي المنافقون المؤمنين أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي: في الدنيا؟ يريدون مرافقتهم في الظاهر وادعاءهم أنهم معهم بلسانهم قالُوا أي: المؤمنون بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: أحرقتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ أي: بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ في التوحيد والقرآن والبعث وَغَرَّتْكُمُ

[سورة الحديد (57): آية 15]

الْأَمانِيُّ أي: الآمال والطمع في الجاه والدنيا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي: الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي: الشيطان، أي: وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم، أو بأنه لا بعث ولا حساب فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ أي: ما يفتدى به وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: لا يؤخذ منهم فدية كذلك مَأْواكُمُ النَّارُ أي: هي مصيركم وإليها منقلبكم هِيَ مَوْلاكُمْ أي: هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار. وكأن السياق يقول: يا أيها المؤمنون والمؤمنات أقرضوا الله بالإنفاق في سبيله، لتأخذوا نوركم، وتنجوا بأنفسكم، وتنالوا أجوركم يوم لا يقبل من كافر ولا منافق فدية. كلمة في السياق: 1 - دعت هذه المجموعة إلى الإنفاق في سبيل الله، وحضت عليه من خلال التذكير بأن لله ميراث السموات والأرض، ومن خلال التذكير بحال أهل الإيمان والكفر والنفاق يوم القيامة، ومن السياق عرفنا أن المنفقين في سبيل الله هم المؤمنون حقا، وأن النفاق والكفر يرافقهما البخل، ومن ثم عرفنا سر اقتران الأمر بالإيمان بالله ورسوله، مع الأمر بالإنفاق في سبيل الله في الآية الأولى من هذا المقطع. 2 - من قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ... نعلم أن الإيمان الصادق بالله والرسول يرافقهما إنفاق في سبيل الله وجهاد في سبيله. 3 - ومن السياق عرفنا أن الإيمان يقابله الكفر والنفاق، وعرفنا من صفات المنافقين: أ- الافتتان أي: قبولهم الفتنة عن دين الله بفتنة الكافرين إياهم وارتياحهم لذلك. ب- والتربص بانتظار نتائج الصراع بين الكفر والإيمان، فهم لا يربطون مصيرهم بمصير أهل الإيمان ابتداء. ج- والارتياب، ومن محور السورة نعلم أن الكافرين يرتابون في وجود الله، وفي وجود اليوم الآخر، وفي القرآن. د- والاغترار بالأماني والتطلعات الدنيوية، وأن ذلك كله أثر من آثار تغرير الشيطان بهم، وهكذا عرفنا تفصيلات جديدة عن المنافقين، زائدة على التفصيلات التي ذكرتها مقدمة سورة البقرة. 4 - مما ذكرته مقدمة سورة البقرة عن المنافقين: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ والملاحظ أن سورة الحديد ذكرت

الفقرة الثانية

أن المنافقين ينادون المؤمنين ويذكرونهم بهذه المعية الكاذبة في الدنيا، كما ذكرت أنهم لا يستفيدون منها. 5 - ثم تأتي فقرة جديدة نقدم لها بما يلي: في مقدمة سورة البقرة كلام عن الإيمان كركن في التقوى، وعن الإنفاق كركن في التقوى، ويقابل قضية الإيمان الكفر كرفض صريح للإيمان، والنفاق كرفض للإيمان مع ادعاء له، وسورة الحديد حتى نهاية المجموعة الثانية التي مرت معنا أمرت بالإيمان، وأمرت بالإنفاق كعلامة على الإيمان، وتحدثت عن النفاق والكفر ضمن سياق الأمر بالإيمان والإنفاق كما رأينا، وبذلك عرفنا تفصيلات عن ركنين في التقوى، وعما يقابل ذلك وكل ذلك قد مر معنا في الفقرة الأولى من المقطع، وها هي الفقرة الثانية تبدأ معاتبة من لم يخشع قلبه للقرآن، ولذلك صلة بقوله تعالى في المحور: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ثم تعود للكلام عن الرسل والكتب والقدر ولذلك صلته بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ كما تتحدث عن الإنفاق في سياق ذلك. إن سورة الحديد تفصيل جديد لمقدمة سورة البقرة: يبدأ من نقطة البداية؛ التعريف على الله الذي يستتبع إيمانا، وإنفاقا، وجهادا، واهتداء بكتاب الله، وبعدا عن الصوارف التي تصرف عن ذلك، فلنر الفقرة الثانية من المقطع ولنا عودة على السياق. الفقرة الثانية تفسير مقدمة الفقرة الثانية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: ألم يحن للذين آمنوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ أي: القرآن وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي: القرآن سماه ذكرا، ووصفه بالحق النازل من السماء لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء. قال ابن كثير: (يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه) وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل القرآن كاليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي: الأجل أو الزمان فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فلم يعد يؤثر فيها كتاب الله بسبب اتباعهم الشهوات. قال ابن كثير: (نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله

كلمة في السياق

الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد). وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي: في الأعمال، قلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة قال النسفي: (أي: خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي: وقليل منهم يؤمنون). قال الألوسي: (وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس، ولم يتأسوا بالسابقين، وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه: أقيلوني فلست بخيركم). كلمة في السياق: 1 - هذه الآية تكاد تكون مقدمة للفقرة الثانية في المقطع، وفيها تهييج على الخشوع للقرآن، والخضوع له، والاتعاظ فيه، والعمل به، وتحذير أن تكون هذه الأمة كالأمم السابقة فيما وقعت فيه من قسوة القلب والفسوق عن أمر الله عزّ وجل، وصلة ذلك بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة، فبعد التفصيل في قضيتي الإيمان والإنفاق جاء التفصيل لموضوع اتباع الكتاب، والاتباع هو النتيجة التلقائية للإيمان وبقية أركان التقوى. 2 - بعد هذه المقدمة للفقرة الثانية تأتي الآن مجموعات سنرى محلها في سياق السورة، وصلتها بمحور السورة، وقبل أن نعرض المجموعة الأولى من الفقرة الثانية فلنلخص ما مر معنا من السورة. بدأت السورة بالتعريف على الله عزّ وجل، ثم أمرت بالإيمان به وبرسوله، وبالإنفاق في سبيله، وذكرت بكل ما يساعد على ذلك ويحققه، ثم أمرت بالخشوع للقرآن، ونهت عن قسوة القلب والفسوق عن أمر الله، ثم تأتي مجموعات تأمر بما يحقق هذا الخشوع، وبما يزيل قسوة القلب، وبما يبعد عن الفسوق، وذلك بعد

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية

الآية الأولى في الفقرة، الآية التي رفعت القلب البشري إلى أعلى درجات الاستعداد للتلقي والتذكر والاتعاظ. تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فهو وحده المحيي، وعليكم أن تعلموا ذلك، وأن تتذكروه قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال النسفي: قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض، وقال ابن كثير: (فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال). أقول: إن التذكير بهذا المعنى بعد الآية الأولى يشير إلى أن الإنسان عليه ألا ييأس إن كان قلبه قاسيا وكان فاسقا، بل يقبل على الله، والله يحيي قلبه، وفي الآية توجيه للدعاة إلى الله أن يذكروا، والله عزّ وجل يحيي موات القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل بهذه الحقيقة أعاد التذكير بموضوع الإنفاق، وموضوع الإيمان بالله ورسله مما يشير إلى أهمية هذه الأمور ابتداء وانتهاء، ومحلها في قضية الاهتداء بكتاب الله والخشوع له، ومحلها في قضية إحياء القلوب إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ أي: المتصدقين وَالْمُصَّدِّقاتِ أي: المتصدقات وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً. قال ابن كثير: أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا. وقال النسفي: (والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة). يُضاعَفُ لَهُمْ قال ابن كثير: أي: يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف، وفوق ذلك وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قال ابن كثير: أي: ثواب جزيل حسن، ومرجع صالح، ومآب كريم. قال النسفي: أي: الجنة. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال النسفي: يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في

كلمة في السياق

سبيل الله. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ قال ابن كثير: (أي: لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله فقتل، فذاك الذي ينظر الناس إليه هكذا» ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر «والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله، فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافا كثيرا لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك في الدرجة الرابعة» وهكذا رواه علي بن المديني عن أبي داود الطيالسي عن ابن المبارك عن ابن لهيعة، وقال هذا إسناد مصري صالح، ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال حسن غريب). وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي: بالقرآن أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي: النار. قال ابن كثير: لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم. أقول: لما ذكر المؤمنين بالله ورسله، والمتصدقين في سبيله في سياق الخشوع لكتابه، ذكر حال المكذبين بهذا القرآن، الكافرين به يوم القيامة. ... كلمة في السياق: بدأت المجموعة بالأمر اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وجاء بعد هذه الآية وقبلها ما أشعر بأن المراد بالآية حياة القلوب، حتى إذا أخذ هذا المعنى مداه تأتي آيات مبدوءة بالأمر (اعلموا) هي تتمة المجموعة لتبني على ما مر فتذكرنا بالآخرة، وذلك هو الدواء لقسوة القلب. ... اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ قال النسفي: كلعب الصبيان وَلَهْوٌ قال النسفي: كلهو الفتيان وَزِينَةٌ قال النسفي: كزينة النسوان وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ قال النسفي: كتفاخر الأقران وَتَكاثُرٌ قال النسفي: كتكاثر الدهقان فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي: مباهاة بهما. قال ابن كثير: أي: إن حاصل أمرها عند

[سورة الحديد (57): آية 21]

أهلها هذا. أقول: إن هذه المعاني كلها من الدنيا التي رغب الله عنها وزهد فيها كَمَثَلِ غَيْثٍ وهو المطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي: الزراع نَباتُهُ قال ابن كثير: أي: يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار؛ فإنهم أحرص شئ عليها وأميل الناس إليها ثُمَّ يَهِيجُ أي: هذا النابت بالغيث فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي: متفتتا. قال ابن كثير: (أي: يصير يبسا متحطما، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزا شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره، وعنفوان شبابه غضا طريا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه، ويفقد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى، قليل الحركة، يعجزه الشئ اليسير). وقال النسفي: (شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاما؛ عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين). قال ابن كثير: ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ للكفار وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ للمؤمنين. قال النسفي: (يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور، وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام، وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي: لمن ركن إليها واعتمد عليها. قال ابن كثير: (أي: هي متاع فان غار لمن ركن إليه؛ فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها)، وهكذا عرفنا الله على حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، مع إقامة الدليل على مجئ اليوم الآخر، وإذ استقرت تفاهة الدنيا بالنسبة للآخرة يأتي الآن الأمر بالمسابقة إلى الآخرة. قال النسفي: ولما حقر الدنيا وصغر أمرها، وعظم أمر الآخرة، بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة يقول: سابِقُوا أي: بالأعمال الصالحة أو سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ قال ابن كثير: حث الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات من فعل الطاعات وترك المحرمات التي تكفر عن الذنوب والزلات، وتحصل الثواب والدرجات وَجَنَّةٍ

كلمة في السياق

عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي: كعرض السموات كلها والأرض، ولنا عودة على هذا المعنى في الفوائد. قال النسفي: وذكر العرض دون الطول؛ لأن كل ماله عرض وطول؛ فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط، أو أريد بالعرض البسطة أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: هيأت لهم. قال النسفي: وهذا دليل على أنها مخلوقة أي: موجودة الآن فمن يدعي أنها ستخلق بعد فهو مخطئ بنص الآية ذلِكَ أي: الموعود من المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وهم المؤمنون. قال النسفي: وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن كثير: أي: هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم ... وبهذا انتهت المجموعة الأولى من الفقرة الثانية. كلمة في السياق: 1 - يلاحظ أن موضوع الإيمان بالله ورسله تكرر الحديث عنه في هذه المجموعة مرتين ثناء عليهم وتبيانا لما أعد الله لهم، وذلك في سياق الأمر بالخشوع، كما ذكر موضوع الإنفاق في هذه المجموعة بالحث عليه وعلى المسارعة فيه، وهكذا نجد تركيزا على الإيمان بالله والرسول في المقطع سواء في ذلك فقرته الأولى أو الثانية. 2 - يلاحظ أن هذه المجموعة بدأت بالحديث عن الخشوع للقرآن؛ والإيمان به من أركان الإيمان، ثم وصلت للحديث عن الآخرة؛ والإيمان بها ركن من أركان الإيمان، وها هي أوصلتنا إلى المجموعة الثانية التي تبدأ بالحديث عن القدر؛ وهو ركن من أركان الإيمان كذلك. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ من الجدب وآفات الزروع والثمار وغير ذلك وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ أي: في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي: من قبل أن تخلق الأنفس. قال النسفي: بين أن كل شئ كائن بقضاء الله وقدره، وقال ابن كثير: (يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية). إِنَّ ذلِكَ أي: إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وإن كان عسيرا على العباد. قال

[سورة الحديد (57): آية 23]

ابن كثير: أي: إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عزّ وجل، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال النسفي: ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: تحزنوا حزنا يطغيكم عَلى ما فاتَكُمْ أي: من الدنيا وسعتها، أو من العافية وصحتها، أو من كل شئ ترغبون في وجوده وتودون عدم فوته وَلا تَفْرَحُوا فرح المختال الفخور بِما آتاكُمْ أي: بما أعطاكم. قال ابن كثير: (أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا، تفخرون بها على الناس)، وقال ابن كثير في الآية: (أي: أعلمناكم بتقدم علمنا، وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم). قال النسفي: (وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه، ويحزن عند مضرة تنزل به، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكرا، والحزن صبرا، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر) وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ في نفسه فَخُورٍ علي غيره، قال النسفي: لأن من فرح بحظه من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به، وتكبر على الناس، وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا ثم وصف الله عزّ وجل المختالين الفخورين بصفة هي أثر عن الاختيال والفخر فقال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي: ويحضون غيرهم على البخل، ويرغبونهم في الإمساك، دل هذا على أن الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له، وعزته عندهم، يزورون عن حقوق الله ويبخلون به، ويبخلون غيرهم كذلك وَمَنْ يَتَوَلَّ قال النسفي: ومن يعرض عن الإنفاق، أو عن أوامر الله ونواهيه، ولم ينته عما نهي عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن جميع المخلوقات الْحَمِيدُ في أفعاله. كلمة في السياق: ما صلة هذه المجموعة في السياق؟. 1 - إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علاج الاختيال والفخر اللذين ينشأ عنهما البخل والتبخيل، وترك الإنفاق في سبيل الله، ولذلك صلته بسياق السورة التي

تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية

تتحدث عن الإنفاق. 2 - بعد أن عرض الله عزّ وجل علينا في المجموعة الأولى من هذه الفقرة حقيقة الدنيا والآخرة، وأمرنا بالمسابقة إلى الآخرة علمنا من خلال عرض موضوع القضاء والقدر كيف ينبغي أن يكون موقفنا من الدنيا عند ما تأتينا أو تفوتنا، ولذلك صلته بسياق السورة. 3 - وموضوع القضاء والقدر له صلته بموضوع الإيمان بالغيب، وهو أحد مواضيع مقدمة سورة البقرة. 4 - وقبل الانتقال إلى المجموعة الثالثة في الفقرة الثانية، فلنلخص ما مر معنا من هذه الفقرة: بدأت الفقرة بالتهييج على الخشوع للقرآن، والتحذير من قسوة القلب والفسوق، ثم تحدثت الفقرة عن أمور كلها أساسية للتحقق بالخشوع، والخلاص من الفسوق وقسوة القلب: من معرفة بالله، وإيمان به وبرسوله، ومن إنفاق، ومن معرفة للدنيا على حقيقتها، ومعرفة للآخرة على حقيقتها، ومن إيمان بالقدر، فإذا استقرت هذه المعاني فإن آية تأتي تتحدث عن أصل الحكمة في إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وصلة ذلك ببداية الفقرة واضحة، ثم تأتي آيتان تتحدثان عن موقف أمتين من الوحي المنزل عليهم ممن حذرنا الله عزّ وجل أن تقسو قلوبنا ونفسق، كما قست قلوبهم وفسقوا، وصلة ذلك ببداية الفقرة واضحة، فالمجموعة الثالثة ترتبط ارتباطا مباشرا ببداية الفقرة الثانية: تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا قال النسفي: يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء بِالْبَيِّناتِ أي: بالمعجزات والحجج الباهرات والدلائل القاطعات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ أي: الوحي قال النسفي: وقيل الرسل الأنبياء والأول أولى لقوله (معهم) لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب. أقول: وذكر ابن كثير أن المراد بالرسل هاهنا الملائكة ولم يذكر غيره، وفسر الكتاب بالنقل الصدق عن الله، وفسر الميزان بالعدل، والذي أرجحه أن المراد بالرسل الرسل البشر، وأن المراد بالميزان ما توزن به الأشياء، فالكتاب لإقامة العدل في التصورات والشعائر والشرائع، والميزان لإقامة العدل في الأشياء التي تكال وتوزن وتقاس ... ومن ثم قال تعالى: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ قال

كلمة في السياق

ابن كثير: (أي: بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا أي: صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوءوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، والسرر المصفوفات الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فهذه هي حكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وفي ذلك درس من دروس وجوب الخشوع للقرآن الذي تحدثت عنه بداية المجموعة ثم قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أي: خلقناه فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ إذا قوتل به، قال ابن كثير: يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها. أقول: والدبابات والبوارج والقنابل والصواريخ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي: في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، قال ابن كثير: (أي: في معايشهم كالسكينة والفأس والقدوم والمنشار والإزميل والمجرفة والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما لا قوام للناس بدونه وغير ذلك) وكالسيارات والطيارات والقطارات وسكك الحديد وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ قال النسفي: باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بِالْغَيْبِ أي: غائبا عنهم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته عَزِيزٌ يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته، قال ابن كثير: أي: هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض. ... كلمة في السياق: 1 - ما المناسبة بين الأشياء التي ذكرت في الآية: الكتاب والميزان والحديد؟ قال النسفي: (والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية، يبين سبل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعند، ونزع عن صفقة

الجماعة اليد، وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد). 2 - للآية التي مرت معنا أخيرا صلة بالآية الأولى من الفقرة الثانية، فهذه الآية بينت أن الحكمة في إنزال الكتب إقامة العدل بين الناس، ومن ثم فإن على الأمة أن تخشع لكتاب الله، ولا تقسو قلوبها، وفي ذكر الحديد في الآية بيان لوجوب نصرة الله ورسوله بالقتال كلما حدث انحراف عن أمر الله، كما يجب القتال أصلا لنصرة شرع الله. 3 - وأما محل الآية في سياق السورة العام وصلتها بالمحور؛ فمن حيث إن الآية تحدثت عن الكتب والرسل، ونصرة الله بالغيب، ولذلك صلته بقوله تعالى عن القرآن هُدىً لِلْمُتَّقِينَ كما أن له صلة بقوله تعالى من سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فمن آثار الإيمان بالغيب استعمال السلاح لنصرة الله ورسوله، ولقد جاء في الفقرة الأولى من سورة الحديد: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ وفي هذه الفقرة يذكر الحديد وتذكر الحكمة في خلقه، وهي أن ينصر المسلمون دين الله، فما أشد تقصير المسلمين إذ أصبحت صناعة السلاح بيد غيرهم. 4 - وفي نصرة الله ورسوله بالسلاح- في سياق السورة التي ركزت على الإيمان والإنفاق- إشارة إلى أن على المسلمين أن ينفقوا من أجل صناعة السلاح وتأمين السلاح. وتعليقا على هذه الآية أقول: واضح من الآية أن الله عزّ وجل خلق الحديد ليضع بيد أوليائه السلاح لينصروه، وينصروا رسله وشريعته، فما أشد غفلة المسلمين عند ما يكونون أقل الخلق استعمالا للسلاح، وتملكا له وبحثا عنه على مستوى دولهم وأفرادهم. أليس عجيبا ألا نجد الآن في العالم الإسلامي مصانع سلاح إلا قليلا، في الوقت الذي وصلت فيه الدول الكافرة إلى تملك أنواع من الأسلحة كافية لتدمير العالم مرات ومرات. ولنعد إلى عرض تتمة المجموعة الثالثة. ...

تتمة تفسير المجموعة الثالثة

تتمة تفسير المجموعة الثالثة: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ قال النسفي: خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا أي: في أولادهما النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أي: الوحي فَمِنْهُمْ أي: فمن الذرية أو المرسل إليهم بدليل ذكر الإرسال والمرسلين مُهْتَدٍ أي: فمنهم من اهتدى باتباع الرسل وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي: خارجون عن الطاعة ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: على آثار نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بِرُسُلِنا اللاحقين لهم وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: وأتبعنا بعيسى ابن مريم وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهم الحواريون ومن على سنتهم رَأْفَةً أي: رقة وهي الخشية وَرَحْمَةً أي: بالخلق أو مودة ولينا وتعطفا بإخوانهم وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها أي: ابتدعتها أمة النصارى، قال النسفي: هي ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة ... وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها أي: أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي: لم نفرضها نحن عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ قال النسفي: أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وذكر ابن كثير قولا آخر في معناها: ما كتبنا عليهم ذلك (أي: الرهبانية) إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها قال النسفي: كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه، قال ابن كثير: (أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزّ وجل) فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ أي: أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي: خارجون عن أمر الله عزّ وجل. ... كلمة في السياق: يلاحظ أن الآية الأولى في هذه الفقرة وهي آية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... قد

انتهت بقوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وأن الآيتين الأخيرتين كل منهما انتهت بقوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ مما يشير إلى أن الله عزّ وجل أعطانا نموذجين على انحراف في الناس، الأول بعد نوح وإبراهيم عليهما السلام، والثاني في أتباع عيسى، وكل ذلك لنجتنب مثل هذا الانحراف، ومن الانحراف الذي رأيناه في أتباع عيسى ابتداعهم الرهبانية، وعدم قيامهم بما ألزموا أنفسهم به، وفسوقهم عن أمر الله، وكل ذلك مما ينبغي اجتنابه. وبهذا ينتهي الكلام عن المقطع، وقد رأينا أثناء عرضه سياقه الخاص، ومحل كل آية وفقرة في سياق السورة العام، وصلة ذلك بالمحور، ولم يبق عندنا في السورة إلا آيتان هما خاتمة السورة. ***

خاتمة السورة

خاتمة السورة وتشمل الآيتين (28) و (29) وهاتان هما: [سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ باتباع كتابه، والإيمان به، والصلاة له، والإنفاق في سبيله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم بالتصديق وبالالتزام بسنته وبالقيام لنصرته يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي: ضعفين مِنْ رَحْمَتِهِ قال النسفي: لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانكم بمن قبله، قال ابن كثير: وزادهم وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ قال ابن كثير: يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي: ذنوبكم ففضلت هذه الأمة على غيرها بالتضعيف والنور والمغفرة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فاتقوه وآمنوا برسوله لتنالوا مغفرته ورحمته لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أَلَّا يَقْدِرُونَ أي: أنه لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال ابن كثير: أي: ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء ما منع الله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي: وليعلموا أن الفضل بيد الله أي: هو مالكه والمتصرف فيه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يقدره أحد حق قدره. أقول: هذه الآية من الآيات التي يغيب معناها عن كثير من الناس فليلاحظ ما يلي: إن اليهود من أهل الكتاب يرون فضل الله وقفا على موسى ولم يتعده إلى غيره، فيعطى مثل ما أعطي وأنه وقف عليهم، فلم تعط أمة مثل ما أعطوا، كما أن النصارى

كلمة في السياق

من أهل الكتاب يرون فضل الله وقف عند عيسى فلم يتعده إلى غيره من بعده لمحمد صلى الله عليه وسلم فيعطى مثل ما أعطي، وأن فضل الله وقف عليهم فلم تعط أمة مثل ما أعطوا، ومن ثم أمر الله عزّ وجل هذه الأمة بتقواه والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ليعلم هؤلاء جميعا أنهم لا يستطيعون حصر فضل الله، وأنهم عاجزون عن نيله، وأن الله عزّ وجل مطلق المشيئة، يؤتي فضله من يشاء، وكل ذلك يكون من خلال تقوى هذه الأمة وإيمانها برسولها، فإن أفراد هذه الأمة إذا كانوا متقين مؤمنين، فإنهم بسلوكهم العملي يعرفون أهل الكتاب على هذه الحقيقة، هذا إذا كان تقدير الكلام يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله ... أما إذا كان التقدير يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ... لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فإن المعنى يكون: إن الله عزّ وجل أعطاكم هذا ليعلم أهل الكتاب الكفرة يوم القيامة أنهم عاجزون عن نيل شئ من فضل الله، وأن الفضل بيده يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ .... ... كلمة في السياق: 1 - جاءت هاتان الآيتان بعد ما ذكر الله عزّ وجل موقف أمم سابقة من الهدى الذي أنزل عليها، فجاءتا لتهيجا المسلمين على التقوى والإيمان، ولتحولا بين المسلمين وبين الفسوق، ولذلك صلته بما جاء قبلهما مباشرة. 2 - نلاحظ أن المقطع الوحيد في السورة بدأ بالأمر بالإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... وبعد أن انتهى المقطع جاءت هاتان الآيتان آمرة بتقوى الله، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم تأكيدا لما بدأ به المقطع. 3 - وبانتهاء السورة نلاحظ أن السورة بدأت بالتعريف على الله وأسمائه وأفعاله، ثم أمرت بالإيمان به وبرسوله، وبالإنفاق في سبيله، ثم أمرت بالخشوع للقرآن، وحذرت من قسوة القلب والفسوق، ثم ختمت السورة بالأمر بتقوى الله والإيمان برسوله، وجاء خلال ذلك ما يخدم هذه المعاني، وكان حصيلة ذلك كله تفصيلا لقضايا من الإيمان بالغيب، والإنفاق في سبيل الله، والاهتداء بكتاب الله، وما يقابل ذلك من كفر ونفاق وفسوق، وفي ذلك تفصيل لمقدمة سورة البقرة.

فوائد

فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال الألوسي: (قال الجمهور: المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال، كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ولسان الحال، كتسبيح غيرهم، فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود، المتصف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وذهب البعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل). وقال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية: (هكذا ينطلق النص القرآني الكريم في مفتتح السورة؛ فتتجاوب أرجاء الوجود كله بالتسبيح لله. ويهيم كل شئ في السماوات والأرض، فيسمعه كل قلب مفتوح غير محجوب بأحجبة الفناء. ولا حاجة لتأويل النص عن ظاهر مدلوله. فالله يقول. ونحن لا نعلم شيئا عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه ... ف سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تعني سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ولا تأويل ولا تعديل! ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السماوات والأرض له روح، يتوجه بها إلى خالقه بالتسبيح. وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ما وردت به الآثار الصحيحة، كما تصدقه تجارب بعض القلوب في لحظات صفائها وإشراقها، واتصالها بالحقيقة الكامنة في الأشياء وراء أشكالها ومظاهرها. وقد جاء في القرآن الكريم: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ... فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود! وجاء في الأثر: أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت. إني لأعرفه الآن» ... وروى الترمذي- بإسناده- عن علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول: «السلام عليك يا رسول الله» ... وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك قال: «خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى لزق جذع. فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة، فنزل الرسول فمسحه، فسكن».

وآيات القرآن كثيرة وصريحة في تقرير هذه الحقيقة الكونية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... ولا داعي لتأويل هذه النصوص الصريحة لتوافق مقررات سابقة لنا عن طبائع الأشياء غير مستمدة من هذا القرآن. فكل مقرراتنا عن الوجود وكل تصوراتنا عن الكون ينبغي أن تنبع أولا من مقررات خالق هذا الكون ومبدع هذا الوجود). 2 - بمناسبة قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قال الألوسي: (أخرج مسلم، والترمذي، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها: «قولي: اللهم رب السموات السبع ورب العرش الكريم العظيم، ربنا ورب كل شئ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شئ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت الباطن فليس دونك شئ، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر» وقال الطيبي: المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب؛ فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء، إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجى دونه يلتجئ إليه ملتجئ، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شئ في الظهور، أي: أنت أظهر من كل شئ، إذ ظهور كل شئ بك، وأنت الباطن فليس دونك في البطون شئ، أي: أنت أبطن من كل شئ إذ كل شئ يعلم حقيقته غيره، وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك، أو لأن كل شئ يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك، وأيضا في دلالة الباطن على ما قال خفاء جدا، على أنه لو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فإن الخبر صحيح، وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد، وأبي داود، وابن ماجه. وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها، فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له- وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك-: «إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول» الآية.

وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يزال الناس يسألون عن كل شئ حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شئ فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال ابن كثير: (أي: رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر، في ليل أو نهار، في البيوت أو في القفار، الجميع في علمه على السواء وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم، ويرى مكانكم، ويعلم سركم ونجواكم كما قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وقال تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ فلا إله غيره ولا رب سواه. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي ... عن عبد الرحمن بن عامر قال: قال عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زودني حكمة أعيش بها. فقال: «استح الله كما تستحي رجلا من صالحي عشيرتك لا يفارقك» هذا حديث غريب. وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن علوية العامري مرفوعا: «ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان: إن عبد الله وحده، وأعطى زكاة ماله طيبة به نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الرذية ولا الشرطة اللئيمة ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم وزكى نفسه» وقال رجل: يا رسول الله ما تزكية المرء نفسه؟ فقال: «يعلم أن الله معه حيث كان». وروى نعيم بن حماد رحمه الله ... عن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» غريب. وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل … خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة … ولا أن ما يخفى عليه يغيب 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ قال ابن كثير: (وقد روينا في الحديث من طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟» قالوا: الملائكة، قال:

«وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟» قالوا: فالأنبياء، قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي عليهم؟» قالوا: فنحن، قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها»). 5 - بمناسبة قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا قال ابن كثير: (والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا صلح الحديبية، وقد يستدل لهذا القول بما رواه الإمام أحمد ... عن أنس قال: كان بين خالد ابن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها! فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى قال ابن كثير: (يعنى المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى * وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً وهكذا الحديث الذي في الصحيح: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر؛ فيتوهم عندهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول

وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث: «سبق درهم مائة ألف» ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزّ وجل ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها). 7 - بمناسبة قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال: فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجل، وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح» وفي لفظ: «رب نخلة مدلاة، عروقها در وياقوت لأبي الدحداح في الجنة»). 8 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ قال ابن كثير: (كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من المؤمنين من يضئ نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك حتى إن من المؤمنين من يضئ نوره موضع قدميه». وقال سفيان الثوري عن حصين عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية قال: إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم وحلاكم ونجواكم ومجالسكم، فإذا كان يوم القيامة قيل يا فلان هذا نورك، يا فلان لا نور لك وقرأ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وقال الضحاك: ليس أحد لا يعطى نورا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين فقالوا رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وقال الحسن: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني على الصراط، وقد روى

ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى ... عن سعيد بن مسعود أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يحدث أنه سمع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم» فقال له رجل: يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك؟ فقال: «أعرفهم محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم»). 9 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قال ابن كثير: (وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة، والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وأنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله، وعمل بما أمر الله به وترك ما عنه زجر. روى ابن أبي حاتم بسنده عن سليم بن عامر قال: خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا- يشير إلى القبر- بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا، ويترك الكافر والمنافق، فلا يعطيان شيئا، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فلا يستضئ الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضئ الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ الآية إلا أنه يقول سليم بن عامر: فما يزال المنافق مغترا حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن، ثم روى ابن أبي حاتم أيضا- بسنده- عن أبي أمامة

قال يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم، فيتبعهم المنافقون فيقولون: انظرونا نقتبس من نوركم، وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون ارْجِعُوا وَراءَكُمْ من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور، وروى أبو القاسم الطبراني ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا، وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وقال المؤمنون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا). 10 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ قال ابن كثير: (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الآية إلا أربع سنين. كذا رواه مسلم في آخر الكتاب، وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية. وقد رواه ابن ماجه بسنده عن أبي حازم عن عامر بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه مثله فجعله من مسند ابن الزبير لكن رواه البزار في مسنده ... عن ابن مسعود فذكره وقال سفيان الثوري عن المسعودي عن القاسم قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ قال: ثم ملوا فقالوا: حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وقال قتادة: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما يرفع من الناس الخشوع»). 11 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ قال ابن كثير: (وروى أبو جعفر الطبري عن إبراهيم

قال: جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر فقال عبد الله: هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم، وقالوا نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه، ومن كفر به قتلناه قال: فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له أتؤمن بهذا؟ قال آمنت به ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه، وما لي لا أومن بهذا الكتاب؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن). أقول: لعل الكتاب الذي ذكره ابن مسعود هو التلمود وفيه الطامات الفظيعة، وهذا إذا كان المراد ببني إسرائيل اليهود، أما إذا كان المراد النصارى لأن الحواريين من بني إسرائيل وعامة من آمن بعيسى في حياته منهم، فقد يكون المراد بالكتاب ما استقرت عليه الكنيسة من باطل في زمن قسطنطين. 12 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال الألوسي: (أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية، وسائر صفات الكمال، ولهم بما يليق بهم من ذلك، لهم الأجر والنور الموعودان لهم، وقال بعضهم: وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فعند ربهم متعلق بالشهداء، والمراد الشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة، أو في حظيرة رحمته عزّ وجل أو نحو ذلك، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة. أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن مؤمني أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ»، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرءوا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية،

وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: «من الصديقين والشهداء». وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كمال في ذلك يعتد به، ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتد بها، وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه: ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء، قال ابن الأثير: أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام: اللعانون لا يكونون شهداء بناء على أحد قولين فيه. وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة خواص المؤمنين. أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من فر بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه، كتب عند الله صديقا، فإذا مات قبضه الله شهيدا، وتلا هذه الآية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ- ثم قال- هذه فيهم، ثم قال: والفرارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة» ويجوز أن يراد من قوله: «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا، ويقال: في قوله عليه الصلاة والسلام: «مع عيسى في درجته» المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر، والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية. وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام، وهم أبو بكر. وعمر. وعثمان. وعلي. وحمزة. وطلحة. والزبير. وسعد. وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى). 13 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال ابن كثير: (وروى ابن جرير ... عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم. وروى الإمام أحمد ... عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» انفرد بإخراجه البخاري في الرقائق من حديث الثوري عن الأعمش به. ففي الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان). 14 - بمناسبة قوله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أقول: دأب الباطنيون على السؤال عن هذه الآية وعن أختها في سورة آل عمران يتساءلون إذا كان هذا سعة الجنة فأين النار؟ يطرحون هذا السؤال طرح تعجيز، يتصورون أنه لا يستطيع أحد الجواب على هذا السؤال، للوصول إلى التأويل الباطني الذي يزعمون أن أئمتهم مختصون به، مع أن الجواب في غاية البساطة، فالجنة فوق السماء السابعة على القول الصحيح فإذا اعتبرنا عرض السماء والأرض هو قطر السماء والأرض فلا شك أن محيط الدائرة أكبر من قطرها، وإذا كانت الجنة فوق السماء السابعة فهل معنى هذا أنه لم يبق فراغ توجد فيه النار!. 15 - بمناسبة قوله تعالى عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن كثير: (أي: هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم، وإحسانه إليهم، كما قدمنا في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم قال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال: «أفلا أدلكم على شئ إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين» قال فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا فضل الله يؤتيه من يشاء»). 16 - بمناسبة قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ قال ابن كثير: (وهذه الآية الكريمة العظيمة أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق- قبحهم الله- وروى الإمام أحمد عن أبي هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» ورواه مسلم في صحيحه، وزاد ابن وهب- وهو من رجال سنده-: «وكان عرشه على الماء» ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح).

17 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال ابن كثير: (أي: وجعلنا الحديد رادعا لمن أبي الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من خالف، شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ... عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم»). 18 - بمناسبة قوله تعالى: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: (وقد روى ابن أبي حاتم ... عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن مسعود» قلت لبيك يا رسول الله قال: «هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، فرقة قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ». وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي ... عن سهل بن أبي أمامة دخل هو وأبوه على أنس ابن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها، فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شئ تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» ثم غدوا من الغد فقالوا نركب فننظر ونعتبر قال: نعم فركبوا جميعا فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا خاوية

على عروشها فقالوا: أتعرف هذه الديار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها، هؤلاء أهل الديار أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني، والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. وروى الإمام أحمد ... عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عزّ وجل» ورواه الحافظ أبو يعلى ... ولفظه: «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله». وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاءه فقال: أوصني، فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شئ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض. تفرد به أحمد والله تعالى أعلم. 19 - عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ... قال ابن كثير: (وقال سعيد بن جبير لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي ضعفين مِنْ رَحْمَتِهِ وزادهم وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة ويغفر لكم، ففضلهم بالنور، والمغفرة، ورواه ابن جرير عنه. وروى البخاري ... عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا: ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار يسير فأبوا، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم؛ فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» انفرد به البخاري.

كلمة أخيرة في سورة الحديد

كلمة أخيرة في سورة الحديد: فصلت سورة الحديد في العشرين آية الأولى من سورة البقرة، فذكرت دوافع النفاق، وأسباب الكفر والفسوق، وذكرت بعض معالم الإيمان بالغيب، وما يقتضيه الإيمان بالغيب من آثار، وذكرت محل الإنفاق في سبيل الله، والدوافع التي تدفع إليه وعلمتنا كيف نتفاعل مع كتاب الله، وعرفتنا على أن أصل الأصول الإيمان بالله والرسول، وعرفنا من السورة لم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يركز على الشهادتين كبداية لكل شئ، وهكذا وجدنا تفصيلا جديدا لبعض معاني مقدمة سورة البقرة بشكل جديد، وعرض جديد، وسياق خاص، وتأتي الآن سورة المجادلة لتفصل في ما بعد مقدمة سورة البقرة وبشكل يكمل المعاني التي تعرضت لها سورة الحديد. ***

سورة المجادلة

سورة المجادلة وهي السورة الثامنة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية والأخيرة من المجموعة الثانية من قسم المفصل، وهي اثنتان وعشرون آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة المجادلة

بين يدي سورة المجادلة: قال الألوسي رحمه الله بين يدي هذه السورة: (بفتح الدال وكسرها، والثاني هو المعروف، وتسمى سورة (قد سمع) وسميت في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه الظهار، وهي على ما روي عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مدنية؛ قال الكلبي، وابن السائب: إلا قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وعن عطاء: العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقد انعكس ذلك على البيضاوي، وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير، واثنتان وعشرون في الباقي، وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد. ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل الله تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك، وقال بعض الأجلة في ذلك: لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وقال سبحانه: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى، ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي، وابن ماجه، والبخاري تعليقا حين نزلت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ» الخ، وذكر سبحانه بعد ذلك أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الآية، وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين سورتي الحديد والحشر، مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح- إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل). ومن تقديم صاحب الظلال رحمه الله لسورة المجادلة نقتطف ما يلي: (وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده- سبحانه- معها في أخص خصائصها، وأصغر شئونها، وأخفى طواياها؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره؛ وأخذها في حماه وكنفه، وضمها إلى لوائه وظله؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله، وتنتسب إليه، وتؤلف حزبه في الأرض، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا).

كلمة في سورة المجادلة ومحورها

كلمة في سورة المجادلة ومحورها: يلاحظ أن هناك تشابها قويا بين سورة المجادلة وسورة المائدة؛ تبدأ سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود، وتبدأ سورة المجادلة بالكلام عن طريق خاطئ لفك عقد الزواج، وفي سورة المائدة نجد قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وفي سورة المجادلة نجد قوله تعالى: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وفي سورة المائدة نجد قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا. ونجد في سورة المجادلة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ .... ونجد في سورة المائدة كلاما كثيرا عن الولاء، ونجد في سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .... ونجد لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .... ونجد في سورة المائدة تصريحا بذكر حزب الله، ونجد في سورة المجادلة تصريحا بذكر حزب الله كذلك، ولا نجد تصريحا بذكر حزب الله في القرآن كله إلا في هاتين السورتين أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة المائدة)، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة المجادلة)، وهذا يشير إلى أن محور سورة المجادلة هو محور سورة المائدة. ... إن محور سورة المائدة من سورة البقرة هو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فسبب إضلال الله الإنسان يعود إلى اتصاف الإنسان بالفسوق الذي هو نقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، ومن ثم جاءت سورة المائدة لتفصل في ما يحرر من هذه المعاني ليكون الطريق إلى الهداية سالكا بسلوك طريقها الإيجابي، وهو الذي فصلته سورة النساء وأمثالها، وإن المجادلة تؤدي نفس الدور الذي أدته سورة المائدة، فهي تحرر من عوامل الضلال. فإذا كانت سورة الحديد

حققت بالمعاني الإيجابية للهداية، فإن سورة المجادلة تحرر من المعاني السلبية التي تحول دون الهداية. ... إن هناك متقين وفاسقين، والفاسقون نوعان: كافرون ومنافقون، هؤلاء يقفون في طرف، وهؤلاء يقفون في طرف آخر، ولا نعني بالفسوق هنا الفسوق النسبي فهذا قد يقع فيه المؤمنون. ... وقد لخصت هذه الآيات- من سورة البقرة- خصائص المتقين: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ولخصت هذه الآية- من سورة البقرة- خصائص الفاسقين: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الأولون مفلحون وهؤلاء خاسرون، وسورة الحديد انصب الكلام فيها على ما يحقق بخصائص المتقين، وسورة المجادلة ينصب الكلام فيها على ما يحرر من أخلاق الفاسقين، والتكامل قائم والتداخل موجود. ... في القرآن سورتان مبدوءتان ب (قد) سورة المؤمنون وسورة المجادلة وقد رأينا من قبل أن سورة المؤمنون تفصل في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... وفصلت في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً ... أي في محور سورة المائدة فهي تفصل- في جملة ما تفصل- المحور الذي تفصل فيه سورة المجادلة. ... تتألف سورة المجادلة من مقدمة ومقطعين، كل مقطع مبدوء بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... * ومن مطلع المقطعين ندرك كيف تتكامل سورة الحديد وسورة المجادلة، فسورة الحديد تأمر بالإيمان بالله ورسوله، وسورة المجادلة تتحدث عن محاربة الله ورسوله، وكما قلنا من قبل فالسورتان تفصلان في صفات

الفريقين المتقابلين: المتقين والفاسقين لتحققا في التقوى، وتحررا من الفسوق، وكما تفصلان في صفات الفريقين من ناحية فإنهما تتكاملان كمجموعة واحدة ضمن قسم واحد، كل مجموعة تؤدي دورها في تكميل أختها داخل القسم، ليؤدي القسم كله دورا متكاملا في البناء المكمل للأقسام الأخرى، فإذا عرفت هذا كله، وعلمت بعد ذلك أن هذا القرآن نزل منجما خلال ثلاث وعشرين سنة تقريبا حسب الحوادث والنوازل، أو حسب التدرج في بناء أمة جديدة بما يقتضيه وضع بنائها شيئا فشيئا حتى اكتمل القرآن بترتيب الله على صيغته الحالية، وكان في هذه الصيغة مثل هذا الترتيب العجيب البديع، الذي يحقق مقاصد جمة، والذي نرى فيه الإجمال، والتفصيل، والوحدة الجزئية، والوحدة الكلية، والسياق الخاص للسورة، ومحلها في السياق القرآني العام، وغير ذلك مما رأيناه ونراه من هذا ندرك أن هذا القرآن جل أن يكون بشري المصدر. ... تنتهي مقدمة سورة المجادلة بنهاية الآية (4) ويستمر المقطع الأول فيها حتى نهاية الآية (19) ويستمر المقطع الثاني حتى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (22) ولنبدأ عرض السورة. ***

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتتألف من أربع آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المجادلة (58): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) التفسير: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي: تحاورك، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت، ظاهر منها زوجها بأن قال لها: أنت علي كظهر أمي، قال ابن كثير: (وكان الظهار عند الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم) وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ كانت تقول يا رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك» وسنرى تفصيلات ذلك في

[سورة المجادلة (58): آية 2]

الفوائد وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما سنرى تفصيلات الحوار في الفوائد، ومن رواياته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: «ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه» ومن رواياته أنه قال لها: «ما أمرنا في أمرك بشيء» وفي تلك اللحظة نزل الوحي بهذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيها الفرج والمخرج إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع شكوى المضطر بَصِيرٌ بحاله، ثم بين الله عزّ وجل حكم الظهار الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ أي: من العرب. قال النسفي: توبيخ للعرب لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة، دون سائر الأمم. والإمام مالك يرى أن الخطاب للمؤمنين، وبنى عليه حكما كما سنرى في الفوائد، وكون الخطاب للمؤمنين هو الذي عليه الجمهور، وإن خالفوا الإمام مالك في ما بناه عليه. مِنْ نِسائِهِمْ أي: من زوجاتهم، واستدل الجمهور بهذا النص على أن الأمة لا ظهار منها، ولا تدخل في هذا الخطاب ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ قال ابن كثير: (أي: لا تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي وما أشبه ذلك لا تصير أمه بذلك، إنما أمه التي ولدته. قال النسفي: (يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات، والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة حرمتهن، وأما الزوجات فأبعد شئ من الأمومة). فلذا قال: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي: تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية وَزُوراً أي: وكذبا باطلا منحرفا عن الحق وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ قال ابن كثير: (أي: عما كان منكم في حال الجاهلية وهكذا أيضا عما خرج من سبق اللسان، ولم يقصد إليه المتكلم كما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته يا أختي فقال: «أختك هي؟» فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك)، وبعد أن بين الله عزّ وجل في الآية السابقة أن الظهار من قائله منكر وزور، بين في الآية التالية حكم الظهار فقال: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي: يعودون لنقض ما قالوا أو لتداركه أو تحليل ما حرموا قال النسفي: ثم اختلفوا أن النقض بماذا يحصل؟ فعندنا- أي: الحنفية- بالعزم على الوطء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة، وعند الشافعي بمجرد الإمساك، وهو ألا يطلقها عقيب الظهار فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ قال النسفي- وهو حنفي-: فعليه إعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة، ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئا، أقول: وعند

[سورة المجادلة (58): آية 4]

الشافعية لا بد أن تكون الرقبة مؤمنة كما سنرى في الفوائد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قال النسفي: والمماسة الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة، أقول: أي: ليس للمظاهر أن يمس زوجته هذا النوع من المس قبل التكفير، ونقل ابن كثير عن الحسن البصري أنه لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر، وهذا يفيد أن الحسن البصري فسر التماس بالجماع فقط، فلو أنه جامع قبل التكفير هل عليه كفارة خاصة لذلك؟ عامة الفقهاء لا يرون أن عليه كفارة خاصة لذلك، وإنما عليه التوبة والاستغفار ذلِكُمْ أي: الحكم تُوعَظُونَ بِهِ أي: تزجرون به. قال النسفي: لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال ابن كثير: أي: خبير بما يصلحكم، عليم بأحوالكم فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: الرقبة فَصِيامُ أي: فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي: فعليه إطعام ستين مسكينا، لكل مسكين نصف صاع من بر، أو صاع من غيره، ويجب أن يقدمه على المسيس، ولكن لا يستأنف إن جامع خلال الإطعام قاله النسفي ذلِكَ الحكم لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال ابن كثير: أي: شرعنا هذا لهذا وَتِلْكَ أي: الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة حُدُودُ اللَّهِ التي لا يجوز تعديها. قال ابن كثير: أي: محارمه فلا تنتهكوها وَلِلْكافِرِينَ الذين لا يتبعونها عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم. قال ابن كثير: (أي: الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا، ليس الأمر كما زعموا بل لهم عذاب أليم، أي: في الدنيا والآخرة). ... كلمة في السياق: 1 - علل الله- عزّ وجل- لتشريعه أحكام الظهار بقوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ومن هنا نفهم أن التشريعات الإسلامية كلها تنبثق عن الإيمان بالله والرسول، وقبولها علامة الإيمان بالله والرسول والالتزام بها، يعمق الإيمان بالله والرسول، وهذا يعرفنا على حكمة من حكم مجئ هذا الموضوع في مقدمة السورة التي تتحدث عن محاربة الله والرسول، وبعد السورة التي أمرت بالإيمان بالله والرسول صلى الله عليه وسلم.

2 - من قوله تعالى في ختام الآيات السابقة: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ نعلم جهل الذين يتصورون أن الإسلام عقائد وعبادات فقط فالإسلام عقائد وشعائر وشرائع يجب الإيمان بها جميعا وإلا فهو الكفر. 3 - الظهار في حد ذاته نقض غير صحيح لعقد موثق هو عقد الزواج، قال الله عزّ وجل: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً كما أنه قطع لما أمر الله به أن يوصل، وهو البر بالأزواج، ولذلك صلاته بالمحور الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. 4 - ختم الله مقدمة سورة المجادلة بقوله تعالى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ثم يأتي بعد ذلك في السورة المقطع الأول وهو مبدوء بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا ... فالصلة واضحة بين مقدمة سورة المجادلة وبين ما يأتي بعدها مباشرة؛ فالأحكام الشرعية وجدت لتحقيق الإيمان بالله والرسول، والرافضون لها والعاملون على تهديمها واستبدالها بغيرها محاربون لله والرسول ولذلك يأتي الحديث عنهم. 5 - لاحظ التكامل بين سورتي الحديد والمجادلة: في سورة الحديد يأتي قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، وفي سورة المجادلة يأتي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا وإِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ إنهما سورتان تتعانقان وتتكاملان، ولا غرابة فهما مجموعة واحدة. 6 - لاحظ صلة بداية المقطع اللاحق بالمحور: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إن محادة الله ورسوله يدخل فيها نقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض والكبت الذي تهدد الله به المحادين مظهر من مظاهر خسارة الفاسقين. ***

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (19) وهذا هو: مقدمة المقطع [سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 6] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) الفقرة الأولى [سورة المجادلة (58): آية 7] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) الفقرة الثانية [سورة المجادلة (58): الآيات 8 الى 13] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)

الفقرة الثالثة

الفقرة الثالثة [سورة المجادلة (58): الآيات 14 الى 19] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)

ملاحظة على السياق

ملاحظة على السياق: يلاحظ أن المقطع يبدأ بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... وينتهي بقوله: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ صلة ذلك بمحور السورة: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ قوله تعالى: هُمُ الْخاسِرُونَ المشترك في نهاية المقطع ونهاية المحور، فالمحادون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هم الذين ينقضون عهد الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض ... ويلاحظ أن المقطع يتألف من مقدمة وفقرات المقدمة تتألف من آيتين والفقرات تبتدئ بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فلنعرض المقطع. التفسير تفسير مقدمة المقطع: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ أي: يعادون ويشاقون ويحاربون اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا أي: أخزوا وهلكوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أعداء الرسل وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ أي: واضحات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به، فلا يعاندها ولا يخالفها إلا كافر فاجر مكابر وَلِلْكافِرِينَ بهذه الآيات عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم قال ابن كثير: أي: في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله والانقياد له والخضوع لديه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: كلهم لا يترك منهم أحدا غير مبعوث، أو مجتمعين في حال واحدة، والسياق في الكافرين وإن كان البعث للخلق أجمعين فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا قال النسفي: تخجيلا لهم وتوبيخا وتشهيرا بحالهم، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رءوس الأشهاد أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ أي: ضبطه الله وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا. قال النسفي: (أي: أحاط به عددا لم يفته منه شئ، ونسوه لأنهم تهاونوا به

كلمة في السياق

حين ارتكبوه، وإنما تحفظ معظمات الأمور) وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قال ابن كثير: أي: لا يغيب عنه شئ ولا يخفى، ولا ينسى شيئا. ... كلمة في السياق: قررت مقدمة المقطع عقوبة المحادين لله ورسوله وهي الخزي والذلة في الدنيا والآخرة، وذكرت لنا مظهرا من مظاهر خزيهم في الآخرة، وبينت أن الحجة قائمة عليهم بآيات الله البينات، وهذا الكبت لهم في الدنيا والآخرة مظهر من مظاهر الخسار الذي يصيب المحادين لله ورسوله، وقلنا من قبل إن المحادين لله ورسوله هم الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وقد فهمنا ذلك من سياق هذا المقطع- إذ ينتهي بكلمة (الخاسرون) - ومن محور السورة كذلك، والآن تأتي فقرة تقرر وتذكر بعلم الله المحيط، وتكاد تكون كالتعليل لما قبلها من كون الله- عزّ وجل- محيطا علما بكل شئ فينبئ الكافرين بما عملوا. فلنر الفقرة: تفسير الفقرة الأولى: أَلَمْ تَرَ بقلبك وعقلك أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ برؤيتك لدقة نظام السموات والأرض، ودقة ما يجري في السموات والأرض، فمن رأى بقلبه أفعال الله علم أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ أي: ما يقع من تناجي ثلاثة نفر إِلَّا هُوَ أي: الله رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى أي: ولا أقل مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يتناجون به، ولا يخفى عليه ما هم فيه أَيْنَ ما كانُوا أي: مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، والملائكة أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله به وسمعه له ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ فيجازيهم عليه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قال الإمام أحمد افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. كلمة في السياق: جاءت هذه الآية لتذكر بإحاطة علم الله في سياق وعيد الذين يحادون الله ورسوله

تفسير الفقرة الثانية

وتذكر أن الله عزّ وجل سينبئهم بما عملوه يوم القيامة، وفي ذلك من الإنذار للكافرين، ومن التطمين للرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان ما فيه، ولما كانت المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بدايتها التناجي الآثم؛ فإن الفقرة التالية تعالج هذا الموضوع، وتدل المسلم على أدب التناجي الحق، وأدب المجالس، وأدب مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يشير إلى أن الله عزّ وجل إذ يطهر المسلم من أخلاق الفاسقين، فإنه يحققه في الوقت نفسه بأخلاق المؤمنين، فالهدم والبناء والتخلية والتحلية كلها تمشي مع بعضها. تفسير الفقرة الثانية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى أي: التناجي الخفي الظالم ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي: للنجوى الظالمة التي فسر الله مضمونها بقوله: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ أي: بالذنب يفعلونه أو يشيعونه أو يتآمرون آثمين وَالْعُدْوانِ على الآخرين، إما على عرض أو مال أو حق وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي: مخالفته والخروج على أوامره وفي ذلك نقض للعهد مع الله، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ قال النسفي: يعني أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك يا محمد، والسام: الموت، والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ* وهو موضوع سنرى تفصيلاته في الفوائد وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ قال ابن كثير: (أي: يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وإنما هو شتم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبيا حقا لأوشك أن بعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا) فقال الله تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ أي: عذابا، أي: جهنم كفايتهم في الدار الآخرة يَصْلَوْنَها أي: يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: فبئس المرجع جهنم، وقد دلت الآية على أنه إذا لم تنل الكافر أو المنافق عقوبة في الدنيا؛ فإن عذاب جهنم كاف. قال ابن كثير: ثم قال الله تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ قال ابن كثير: أي: كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ أي: بالفرائض والطاعات

[سورة المجادلة (58): آية 10]

وَالتَّقْوى أي: بترك المعاصي ويحتمل أن يكون المراد بالبر الورع، وبالتقوى الواجبات من صلاة وزكاة واتباع كتاب وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر قال ابن كثير: أي: فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها إِنَّمَا النَّجْوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مِنَ الشَّيْطانِ أي: من تزيينه لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ليسوء الشيطان الذين آمنوا عند ما يرون أعداء الله يتآمرون عليهم، ويتغامزون، ويشيعون الإشاعات وَلَيْسَ ذلك بِضارِّهِمْ أي: بضار المؤمنين شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بعلمه وقضائه وقدره وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه مولاهم فليطمئنوا إلى تدبيره بهم ولهم. كلمة في السياق: رأينا في ما مر معنا من الفقرة الثانية نهي الله- عزّ وجل- عن التناجي الظالم الفاسق، وتأديب الله عزّ وجل عباده المؤمنين على التناجي العادل التقي؛ ليقابلوا ذلك التناجي الشقي، وفي هذا السياق يبين الله عزّ وجل للمسلمين أدبهم في مجالسهم التي يجتمعون فيها، فاجتماع يقابل اجتماعا، وتناج يقابل تناجيا، وللفاسقين طرائقهم، وللمسلمين آدابهم في كل. ... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ أي: توسعوا فيها فَافْسَحُوا أي: فوسعوا لبعضكم بعضا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ قال ابن كثير: (وذلك أن الجزاء من جنس العمل) وهذا الوعد من الله عزّ وجل بالإفساح لمن يفسح مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه، من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك قاله النسفي وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي: انهضوا من مجلسكم ليجلس غيركم إذا رأى الإمام ذلك لحكمة من الحكم فَانْشُزُوا أي: فانهضوا، ويحتمل أن يكون المراد: وإذا قيل لكم انصرفوا فانصرفوا، أو انهضوا لأمر من أمور الدين فانهضوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بامتثال أوامره وأوامر رسوله، وخاصة فيما فيه مكروه على النفس وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي: ويرفع العالمين منهم خاصة درجات. قال النسفي: وفي الدرجات قولان: أولهما في الدنيا في المرتبة والشرف، والآخر في الآخرة. قال ابن كثير: (أي: لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل،

كلمة في السياق

أو إذا أمر بالخروج فخرج أن يكون ذلك نقصا في حقه، بل هو رفعة ورتبة عند الله والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره) وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: خبير بمن يستحق الرفعة والأجر والمكافأة ومن لا يستحقه. كلمة في السياق: وبعد أن أدب الله المسلمين هذا الأدب الرفيع الذي فيه هضم النفس في ذات الله، وبعد أن علمهم كيف يكون محور حديثهم في مجالسهم، تأتي الآن آيتان فيهما أدب مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مقابل سوء أدب الكافرين والمنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي: إذا أردتم مناجاته فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي: قبل نجواكم. قال ابن كثير: يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: يساره فيما بينه وبينه أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ولهذا قال تعالى: ذلِكَ أي: التقديم خَيْرٌ لَكُمْ في دينكم وَأَطْهَرُ من الذنوب لأن الصدقة طهرة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا أي: ما تتصدقون به فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: في ترخيص المناجاة من غير صدقة، فما أمر بها إلا من قدر عليها، ثم قال تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي: أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه. قال ابن كثير: أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشق عليكم وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي: خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب منه فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فهذا الذي لا ينبغي التساهل فيه في كل حال. قال النسفي: أي: فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال النسفي: وهذا وعد ووعيد، وبهذا انتهت الفقرة الثانية. ***

كلمة في السياق

كلمة في السياق: بدأ المقطع الأول بالكلام عن عقوبة الذين يحادون الله ورسوله، ثم في الفقرة الأولى أكد على موضوع علم الله بكل شئ، ومن ذلك حديث الناس، وفي الفقرة الثانية كان الحديث عن المناجاة الظالمة بين أعداء الله عزّ وجل، وفي سياق ذلك علم الله المسلمين أدب المناجاة، وأدب المجالس، وأدب خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تأتي الفقرة الثالثة وفيها كلام عن تولي الكافرين الذي هو قطع لما أمر الله به أن يوصل من موالاة أهل الإيمان، وبهذا يكون المقطع قد حدثنا عن أهم مظهرين من مظاهر محادة الله ورسوله، التناجي الظالم، والموالاة للكافرين فلنر الفقرة الثالثة. تفسير الفقرة الثالثة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال النسفي: (كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم ... ) ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي: ما هم منكم يا مسلمون ولا هم من اليهود، قال ابن كثير: (أي: هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود). أقول: ويدخل في ذلك كل ولاية من قبل مسلم لكافر. قال ابن كثير: يقول الله تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أي: يقولون: والله إنا لمسلمون لا منافقون وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون منافقون. قال ابن كثير: (يعني المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين- عياذا بالله منه- فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا له بالله أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان في نفس الأمر مطابقا، ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً أي: نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل، قال ابن كثير: أي: أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم، ولهذا قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً أي: وقاية دون أموالهم

[سورة المجادلة (58): آية 17]

ودمائهم فَصَدُّوا الناس من خلال أمنهم وسلامتهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: طاعته والإيمان به قال ابن كثير: (أي: أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس). أقول: ما أكثر هذه الصورة في عصرنا فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي: مذل مخز. قال ابن كثير: أي: في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الخائنة لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً ولو قليلا. قال ابن كثير: أي: لن يدفع ذلك عنهم بأسا إذا جاءهم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: ماكثون أبدا يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي: يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي: فيحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين كما يحلفون لكم في الدنيا على ذلك وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ في الدنيا عَلى شَيْءٍ ولذلك فهم يحسبون أنهم على شئ من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا هاهنا. قال ابن كثير: ثم قال تعالى منكرا عليهم حسبانهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في الدنيا والآخرة، ذلك وصفهم اللازم لهم اسْتَحْوَذَ أي: استولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ قال ابن كثير: أي: استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عزّ وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليهم الشيطان، وذروة استحواذ الشيطان على الإنسان أن يصرفه عن صلاة الجماعة، وفي الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أي: جنده وأنصاره، يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ في الدنيا والآخرة. وبهذا انتهى المقطع الأول في السورة. كلمة في السياق: 1 - لاحظ الصلة بين قوله تعالى في المقطع: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وبين آية المحور وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وبين قوله تعالى في المقطع فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ وبين قوله تعالى في وصف المنافقين في مقدمة سورة البقرة: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ

إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. 2 - بدأ المقطع بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لاحظ قوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً وقد ختم المقطع بقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ* اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ من تشابه البداية والنهاية نعرف وحدة المقطع، ونعرف أن السياق الرئيسي فيه هو في الذين يحادون الله ورسوله؛ بدليل مجئ الحديث عنهم في البداية والنهاية والوسط. 3 - مما جاء في المقطع نعرف بعض صفات المحاربين لله ورسوله: 1 - أنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. 2 - أنهم يوالون الكافرين. 3 - أنهم كثير والحلف الكاذب. 4 - أنهم ينسون ذكر الله لأن الشيطان مستحوذ عليهم. ومن صلة السورة بمحورها، ومن وصف هؤلاء بالخسران كما وصف الفاسقون في المحور، نعلم أن هذه تفصيلات لصفات الفاسقين الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. 4 - من المقطع نعرف بعض مظاهر خسران هؤلاء الفاسقين: الكبت في الدنيا والآخرة والعذاب الشديد في الآخرة. 5 - وبعد هذه الجولة في الكلام عن المحادين لله ورسوله يأتي المقطع الثاني ليبدأ بالكلام عن هؤلاء المحادين لله ورسوله وعقوبتهم الدنيوية، وما يقابل موقفهم الفاسد من موقف صحيح هو موقف أهل الإيمان، ويستقر الكلام في المقطع الثاني على ذكر اسم حزب الله، بعد أن استقر الكلام في المقطع الأول على ذكر اسم حزب الشيطان فلننتقل إلى المقطع الثاني. ***

المقطع الثاني

المقطع الثاني وهو ثلاث آيات يستمر من الآية (20) إلى نهاية الآية (22) وهذا هو: [سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) التفسير: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن كثير: (يعني: الذين هم في حد والشرع في حد) فهم مجانبون للحق، مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب، الأذلين في الدنيا والآخرة. قال النسفي: (أي: في جملة من هو أذل خلق الله تعالى، لا نرى أحدا أذل منهم) كَتَبَ اللَّهُ في اللوح المحفوظ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي قال النسفي: بالحجة والسيف أو بأحدهما. قال ابن كثير: أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ لا يمتنع عليه ما يريد عَزِيزٌ أي: غالب غير مغلوب. قال ابن كثير: أي: كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه، وهذا قدر محكم، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: بين الله عزّ وجل في هذه الآية أن العاقبة لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأن النصرة لهم، وأن الذلة لمن يحارب الله ورسوله، ثم تختم السورة بآية تبين أن الإيمان الحقيقي هو الذي لا يكون معه موادة لمن يحارب الله ورسوله أصلا، سواء كان المحارب كافرا أصليا أو منافقا، وذلك في سياق السورة التي تتحدث في سياقها الرئيسي عن المنافقين الذين يحادون الله ورسوله من خلال التناجي بالباطل، وموالاة الكافرين، لتبين أن الإيمان الحقيقي لا يجتمع مع الموالاة لأعداء الله. ... لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: من حاربهما وخالفهما وعاداهما. قال ابن كثير: أي: لا يوادون المحاربين ولو كانوا من الأقربين وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ قال النسفي: (أي: من الممتنع أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، مهما كانت قرابتهم حتى ولو كانت القرابة كمثل ما ذكر، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال) أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي: جعل في قلوبهم الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي: وقواهم بحياة منه. قال ابن كثير: أي: من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو ابنه أو أخاه فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان، أي: كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بتوحيدهم الخالص وطاعتهم وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا، وفي ذكر الرضى المتبادل سر بديع فسره ابن كثير بقوله: وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله؛ عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العظيم أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي: جنده وأنصار الحق الذي أنزل ودعاة الخلق إليه. قال ابن كثير: أي: عباد الله وأهل كرامته أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال النسفي: أي: الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب، الآمنون من كل مرهوب، وقال ابن كثير: تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في مقابلة ما ذكر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان ثم قال: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ.

كلمة في السياق

وقال صاحب الظلال: (وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين: حزب الله وحزب الشيطان. وإلى رايتين اثنتين: راية الحق وراية الباطل. فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق، وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل ... وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان!! لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية ... إنما هي العقيدة، والعقيدة وحدها. فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله. تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم، وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم، ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله، فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة. ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل، فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة. لا من أرض، ولا من جنس، ولا من وطن، ولا من لون، ولا من عشيرة، ولا من نسب، ولا من صهر ... لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا. ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة، مما تعالجه هذه الآية في النفوس، وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم، والمفاصلة القاطعة ... إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة، ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام). كلمة في السياق: عرفنا من الآية الأخيرة أن المودة لمن حارب الله ورسوله لا تجتمع مع الإيمان، وهذه القضية من أهم القضايا التي غفل عنها مسلمو القرن الأخير؛ فترتب عليها ما ترتب، والملاحظ أن كلمة حزب الله لم ترد في القرآن إلا مرتين، مرة في معرض الكلام عن الولاء في سورة المائدة، ومرة في معرض الكلام عن المودة في سورة المجادلة فلا يكون الإنسان من حزب الله إلا إذا صفت مودته، وصفى ولاؤه للمؤمنين، وحجب ولاءه ومودته عن الكافرين والمنافقين والفاسقين. ...

الفوائد

وقد سبق المقطع الأخير في السورة بفقرة تتحدث عن الولاء مما يشير إلى صلة المودة بالولاء، وجاء ذلك في سياق السورة التي تحرر من أخلاق الفاسقين، وتوضح أخلاق المؤمنين، وهذا المقطع الأخير بين لنا كيف ينبغي أن يكون الموقف من الفاسقين جميعا، ولذلك صلاته بمحور السورة. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وفي سبب نزولها قال ابن كثير: «روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزّ وجل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها إلى آخر الآية، وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا، وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير من غير وجه عن الأعمش به. وفي رواية لابن أبي حاتم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شئ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قالت: وزوجها أوس بن الصامت). 2 - بمناسبة الكلام عن الظهار قال النسفي: (والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وإذا وضع موضع أنت عضوا منها يعبر به عن الجملة، أو مكان الظهر عضوا آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب، أو رضاع، أو صهر، أو جماع، نحو أن يقول: أنت علي كظهر أختي من الرضاع، أو عمتي من النسب، أو امرأة ابني أو أبي، أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة، للمرأة أن ترافعه، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر، وأن يحبسه ولا شئ من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار، لأنه يضر بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع، فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه).

3 - بمناسبة قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قال ابن كثير: (وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال رأيت خلخالها في ضوء القمر قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزّ وجل» وقال الترمذي: حسن غريب صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا قال النسائي: وهو أولى بالصواب). 4 - بمناسبة قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ قال الألوسي: (وقال ناصر الدين البيضاوي: أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور. قال المولى شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون، والله تعالى المستعان على ما يصفون. أ. هـ، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله: وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما، وقد قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل). 5 - بمناسبة قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا قال النسفي: (وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين، وقيل ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، فذكر- عزّ وجل- الثلاثة والخمسة وقال: ولا أدنى من ذلك فدل على الاثنين والأربعة وقال ولا أكثر فدل على ما يقارب هذا العدد). 6 - في سبب نزول قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن كثير: (قال ابن أبي نجيح عن مجاهد أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال: اليهود، وكذا قال مقاتل ابن حيان وزاد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مر بهم الرجل من

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة: وعليكم السام قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» قلت: ألا تسمعهم يقولون السام عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما سمعت أقول وعليكم؟» فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا»). 8 - بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قول المنافقين: لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليكم ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول؟ فنزلت هذه الآية وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ إسناد حسن ولم يخرجوه). 9 - بمناسبة قوله تعالى: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة).

10 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن كثير: (وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن، كما روى الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» أخرجاه من حديث الأعمش. وروى عبد الرزاق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» انفرد بإخراجه مسلم). قال الألوسي: (مثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان ذلك يحزنه). 11 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ قال ابن كثير: (يقول تعالى مؤذنا عباده المؤمنين وآمرا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ وقرئ «في المجلس» فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» وفي الحديث الآخر: «من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ولهذا أشباه كثيرة). 12 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قال الألوسي: (وعمم الحكم فقيل: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا ينبغي أن يجاب، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه، فقد أخرج مالك، والبخاري، ومسلم، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا»). 13 - وبمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر ابن الخطاب بعسفان- وكان عمر استعمله على مكة- فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض،

قاص، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين» وهكذا رواه مسلم من غير وجه عن الزهري به، وروي من غير وجه عن عمر بنحوه). وقال النسفي: (عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». وعنه صلى الله عليه وسلم: «عبادة العالم يوما واحدا تعدل عبادة العابد أربعين سنة». وعنه صلى الله عليه وسلم: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء». فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وقال صلى الله عليه وسلم: «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم». وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شئ أدرك من فاته العلم، وأي شئ فات من أدرك العلم. وعن الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال، والعلوم أنواع فأشرفها أشرفها معلوما). وقال الألوسي: (واستدل غير واحد بالآية على تقديم العالم ولو باهليا شابا، على الجاهل ولو هاشميا شيخا، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين، وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه، ويجعل منزلته فوق منزلته، فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل. وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم: معنى الآية: يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس، والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى). 14 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال ابن كثير: (وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارا صدقة تصدق به ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال، ثم أنزلت الرخصة، وقال ليث ابن أبي سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه: آية في كتاب الله عزّ وجل لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي؛ كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا

ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً الآية. وروى ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترى، دينار؟» قال: لا يطيقون قال: «فنصف دينار» قال: لا يطيقون قال: «ما ترى؟» قال: شعيرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لزهيد» قال فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ قال علي: خفف الله عن هذه الأمة، ورواه الترمذي ... عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً إلى آخرها قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترى، دينار؟» قال: لا تطيقونه وذكره بتمامه مثله، ثم قال: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه ثم قال: ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب ورواه أبو يعلى). 15 - بمناسبة قوله تعالى في المنافقين: فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد تقلص عنهم الظل قال: «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه» فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمه فقال: «علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟» - نفر دعاهم بأسمائهم- قال: فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه قال: فأنزل الله عزّ وجل فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ. وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين عن سماك به ورواه ابن جرير، وأخرجه أيضا من حديث سفيان الثوري عن سماك بنحوه إسناد جيد ولم يخرجوه وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). 16 - بمناسبة قوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ قال النسفي: (قال شاه الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل

لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها). 17 - بمناسبة قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ قال الألوسي: (أي: بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا، فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح. وقوم صالح. وقوم لوط. وغيرهم، والحرب بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كانت سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام، وكذا لأتباع الرسل بعدهم، لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله- عزّ وجل- لا لطلب ملك، وسلطنة، وأغراض دنيوية، فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لاطرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل: لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين، والطائف، وخيبر وما حولها قالوا: نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي: أتظنون الروم، وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله عَزِيزٌ لا يغلب على مراده عزّ وجل). 18 - عند قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... قال ابن كثير: (وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره أنزلت هذه الآية لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى آخرها في أبي عبيدة عامر ابن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم: ولو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، وقيل في قوله تعالى: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر أَوْ أَبْناءَهُمْ في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن أَوْ إِخْوانَهُمْ في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا، وفي حمزة وعلي وعبيدة ابن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ فالله أعلم). قال ابن كثير: (ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر فأشار الصديق بأن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو

العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم، وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكنني من فلان- قريب لعمر- فأقتله، وتمكن عليا من عقيل، وتمكن فلانا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين القصة بكمالها). 19 - وبمناسبة الآية الأخيرة في السورة قال ابن كثير: (وقد روى ابن أبي حاتم أنه كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: اعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تعالى على أيدي أوليائه لأوليائه، وأنهم الخامل ذكرهم، الخفية شخوصهم، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم). 20 - وبمناسبة الآية الأخيرة في السورة قال ابن كثير: (وقد روى ابن أبي حاتم عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة» فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وروى نعيم بن حماد ... عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فإني وجدت فيما أو حيته إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» قال سفيان: يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان. رواه أبو أحمد العسكري). وقال النسفي: (وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها، وقال سهل: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه، ويظهر له من نفسه العداوة، ومن داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن، ومن أجاب مبتدعا لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ومن لم يصدق فليجرب). وقال الألوسي: (وأخرج أحمد، وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا: «أو ثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله». وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية- ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيوده قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع

كلمة أخيرة في سورتي الحديد والمجادلة

ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه، ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعا سلبه الله حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها، أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى. ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة- وليس منهم ولا قلامة ظفر- يوالي الظلمة؛ بل من لا علاقة له بالدين منهم، وينصرهم بالباطل، ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول: سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته- إن كانت- بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء). كلمة أخيرة في سورتي الحديد والمجادلة: سورتا الحديد والمجادلة شكلتا مجموعة واحدة وفصلتا في الآيات السبع والعشرين الأولى من سورة البقرة كما رأينا، وتكاملتا فيما بينهما؛ فسورة الحديد عمقت قضية الإيمان بالله والرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرت بذلك وربت عليه، وذكرت المعاني التي توصل إلى الإيمان بالله والرسول، وجاءت سورة المجادلة لتبين أن الحكمة في تشريع الأحكام تعميق الإيمان بالله والرسول، وذكرت نماذج من محاربة الله والرسول صلى الله عليه وسلم، والمواقف المقابلة لذلك، فعمقت السورتان بذلك تصوراتنا عن التقوى والفسوق، وعن الإيمان والكفر والنفاق ضمن سياق خاص لكل منهما، وقد رأينا تفصيل ذلك كله وبعد سورة المجادلة تأتي مجموعة ثالثة من قسم المفصل تتألف من سورتين، وسنرى أن المجموعة اللاحقة تكمل مع المجموعتين السابقتين عملية البناء، وتتكامل معهما ومع ما بعدها، كل ذلك بنظام عجيب، وتداخل مدهش، مع سياق خاص، ووحدة خاصة. فلنر المجموعة الثالثة. ***

المجموعة الثالثة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الثالثة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سورتي: (الحشر، والممتحنة)

كلمة في المجموعة الثالثة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الثالثة من قسم المفصل هذه المجموعة تكمل ما قبلها بشكل واضح؛ فقد ختمت سورة المجادلة بقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ* لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وتأتي سورة الحشر لترينا مظهرا من مظاهر نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولترينا مظاهر من اتخاذ أعداء الله أولياء. سورة الحديد فصلت في موضوع النفاق، وجاءت سورة المجادلة فأكملت، وستأتي سورة الحشر لتزيد موضوع النفاق تفصيلا، وتأتي سورة الممتحنة لتحذر من السير في طريق النفاق. ... وظاهر منذ سورة الحديد أن السور المبدوءة بصيغ (سبح يسبح) إذا جاءت بعد سور لا تظهر فيها هذه الصيغة، فهي تدل على أنها بدايات مجموعات تفصل في أوائل سورة البقرة، وهذا واضح جدا من خلال التأمل للمعاني، ولتسلسل السور وبداياتها. ... تأتي سورة الحديد مبدوءة بقوله تعالى: سَبَّحَ ثم تأتي سورة المجادلة مبدوءة بقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ ثم تأتي سورة الحشر مبدوءة بقوله تعالى: سَبَّحَ ثم تأتي سورة الممتحنة مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثم تأتي سورة الصف مبدوءة بقوله تعالى: سَبَّحَ ثم سورة الجمعة مبدوءة بقوله تعالى: يُسَبِّحُ ثم تأتي سورة المنافقون مبدوءة بقوله تعالى: إِذا ثم تأتي سورة التغابن مبدوءة بقوله: يُسَبِّحُ ثم تأتي سورتا الطلاق والتحريم مبدوأتين بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* ... فعلامة بداية المجموعة وجود الفعل سبح أو يسبح، وكل تفصيل لا حق لسورة البقرة يكمل التفصيل السابق بالنسبة للقسم الواحد وبالنسبة للقرآن كله. ... وواضح أن سورة الحشر تفصل في مقدمة سورة البقرة، وأن سورة الممتحنة تفصل في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة، وهي السمة الغالبة التي تشترك بها مجموعات قسم المفصل، فكلها تقريبا تفصل ضمن هذه الحدود من سورة البقرة.

سورة الحشر

سورة الحشر وهي السورة التاسعة والخمسون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الثالثة من قسم المفصل، وهي أربع وعشرون آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الحشر

بين يدي سورة الحشر: قدم الألوسي لسورة الحشر بقوله: (قال البقاعي: وتسمى سورة- بني النضير- وأخرج البخاري، وغيره عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر، قال: قل: سورة بني النضير. قال ابن حجر: كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد إخراج بني النضير. وهي مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بقود رأسه أخوه رضاعا أبو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة؛ فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل: أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها: الزهرة، فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف، وقيل: على جمل، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال: اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب، وقيل: استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، ودس المنافقون- عبد الله بن أبي وأضرابه- إليهم أن لا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم، وإن الأساس فى التفسير، ج 10، ص: 5812 أخرجتم لنخرجن معكم، فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك، فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج لك ثلاثة من علمائنا، ففعل عليه الصلاة والسلام، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك، فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما، فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال، وقيل: إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين، فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام بن أبي الحقيق، وآل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وآل حيي بن أخطب، فلحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلثمائة وأربعين سيفا، وكان ابن أبي قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فلما نازلهم صلى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فأنزل الله تعالى قوله). كلمة في سورة الحشر ومحورها: تفصل سورة الحشر في مقدمة سورة البقرة؛ ولذلك فإنك تجد فيها كلاما عن المؤمنين والكافرين والمنافقين، وذلك في سياق التعريف على الله عز وجل وأفعاله وأسمائه، ومن المعلوم أن الإيمان بالله عز وجل هو الركن الأول من أركان الإيمان بالغيب، ومن خلال هذا ندرك سر وحدتها، وسر اتصالها بمحورها، فهي تعرفنا على الله من خلال أفعاله؛ وذلك نوع تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وفي هذا الجو تعرفنا على صفات المتقين والكافرين والمنافقين، ولذلك صلاته بمقدمة سورة البقرة. ... تتألف السورة من مقدمة ومقطعين، المقدمة هي قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وكل من المقطعين مبدوء بقوله تعالى:

كلمة في سورة الحشر ومحورها

أخرجتم لنخرجن معكم، فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك، فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج لك ثلاثة من علمائنا، ففعل عليه الصلاة والسلام، فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك، فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما، فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال، وقيل: إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين، فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام بن أبي الحقيق، وآل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وآل حيي بن أخطب، فلحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا، وكان ابن أبي قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فلما نازلهم صلى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فأنزل الله تعالى قوله). كلمة في سورة الحشر ومحورها: تفصل سورة الحشر في مقدمة سورة البقرة؛ ولذلك فإنك تجد فيها كلاما عن المؤمنين والكافرين والمنافقين، وذلك في سياق التعريف على الله عزّ وجل وأفعاله وأسمائه، ومن المعلوم أن الإيمان بالله عزّ وجل هو الركن الأول من أركان الإيمان بالغيب، ومن خلال هذا ندرك سر وحدتها، وسر اتصالها بمحورها، فهي تعرفنا على الله من خلال أفعاله؛ وذلك نوع تفصيل لمقدمة سورة البقرة، وفي هذا الجو تعرفنا على صفات المتقين والكافرين والمنافقين، ولذلك صلاته بمقدمة سورة البقرة. ... تتألف السورة من مقدمة ومقطعين، المقدمة هي قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وكل من المقطعين مبدوء بقوله تعالى:

هُوَ* المقطع الأول يعرفنا على الله عزّ وجل من خلال فعله، والمقطع الثاني يعرفنا على الله عزّ وجل من خلال ذكر أسمائه. ... ونلاحظ أن سورة الحشر بدأت بالتسبيح وبذكر اسمي الله العزيز الحكيم، وختمت بالتسبيح وبذكر اسمي الله العزيز الحكيم. بدأت بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وختمت بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ومن قبل لاحظنا أن سورة الجاثية بدأت بقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وختمت بقوله تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وكما فصلت سورة الجاثية في مقدمة سورة البقرة فإن سورة الحشر تفصل في ذلك، مع أن لكل منهما تفصيلها وسياقها وطريقتها الخاصة في التفصيل. ...

المقدمة والمقطع الأول

المقدمة والمقطع الأول ويمتدان من الآية (1) إلى نهاية الآية (21) وهذان هما: المقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحشر (59): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) المجموعة الأولى من المقطع الأول [سورة الحشر (59): الآيات 2 الى 10] هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

المجموعة الثانية من المقطع الأول

المجموعة الثانية من المقطع الأول [سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)

المجموعة الثالثة من المقطع الأول

المجموعة الثالثة من المقطع الأول [سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ملاحظة: سورة الحشر ذكرت ماذا جرى لبني النضير، فهي تعطينا عبرة هذه الحادثة من خلال سياق سورة الحشر الخاص فيما يخدم السياق العام للقرآن، ومن أجل أن يكون عندنا تصور واضح عن القصة؛ ننقل ملخصا عنها ليكون ذلك معينا على الفهم. قال ابن كثير: (ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار وبالله المستعان: وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية

الضمري فلما كان في أثناء الطريق راجعا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت رجلين لأدينهما» وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها. قال محمد ابن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم- فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض وتعيبه على من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج- منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل وسويد وداعس- قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا وقذف في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل؛ فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال

ملاحظة في السياق

لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت لرسول الله خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة؛ ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد ابن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها. قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني» فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلا على أن يقتل عمرو ابن حجاش فقتله فيما يزعمون. قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم). ملاحظة في السياق: يلاحظ أن هناك آية واحدة هي مقدمة السورة، ثم يأتي المقطع الأول، ويتألف من ثلاث مجموعات مترابطة المعاني، فلنعرض المقطع على هذا الأساس. مقدمة السورة وتتألف من آية واحدة التفسير: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قال ابن كثير: (يخبر تعالى أن جميع ما في السموات والأرض من شئ يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده) وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: منيع الجناب الْحَكِيمُ في قدره وشرعه. كلمة في السياق: من مقدمة السورة ندرك مضمونها وأن له صلة بتنزيه الله وخضوع الأشياء كلها له، واتصافه بالعزة والحكمة، ولذلك فسنرى في السورة مظاهر من عزته، وحكمته، ومن قبل أشرنا إلى هذا الموضوع أثناء الكلام عن (آل حم)، وكيف أن ذكر اسم من أسماء الله عزّ وجل في ابتداء سورة يشعرنا أن السورة مجلى لظهور هذا الاسم، وهاهنا في سورة الحشر نرى فعل الله بالكافرين والمنافقين وذلك من مظاهر عزته، وتدبير الله

تفسير المجموعة الأولى من المقطع الأول

للمؤمنين وذلك من مظاهر حكمته. تفسير المجموعة الأولى من المقطع الأول: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى: يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ حول المدينة المنورة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ قال النسفي: (ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام ... أو هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام) أقول: هذا كلام من لم يدرك حشرهم الجديد في فلسطين وبلاد الشام فلعل المراد بقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الإشارة أن لهم حشرا أي: جمعا وجمعا وجمعا فيما بعد ذلك في بلاد الشام، وأن ما حدث لبني النضير هو أول هذه الظاهرة، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بأول الحشر أي: أول المكان الذي سيحشر فيه الناس يوم القيامة، أي: أول بلاد الشام. وهناك اتجاه آخر في التفسير معناه: أن الله عزّ وجل أخرج هؤلاء من ديارهم لأول حشد حشده رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أي: لأدناه، والمعنى الأول أولى ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا قال النسفي: أي: لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: وظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، والتركيب يدل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، كما يدل على شدة اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم، أو يطمع في غزوهم، ذكر ذلك كله النسفي وبرهن عليه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي: من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال ابن كثير: أي: الخوف والهلع والجزع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قال النسفي: (والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج، وأما المؤمنون فداعيهم إلى التخريب إزالة متحصنهم، وأن يتسع لهم مجال الحرب، ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين: أنهم لما عرضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه) فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ قال النسفي: (أي: فتأملوا فيما نزل بهؤلاء والسبب الذي استحقوا به ذلك فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم وهذا دليل

[سورة الحشر (59): آية 3]

على جواز القياس) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي: الخروج من الوطن والأهل والولد لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وَلَهُمْ سواء أجلوا أو قتلوا فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ الذي لا أشد منه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي: إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: خالفوا الله ورسوله، فكذبوا وعاندوا وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعاقب المحاربين له بما يشاء من العقوبات الشديدة في الدنيا والآخرة. ... كلمة في السياق: من الآيات التي مرت معنا في هذه المجموعة عرفنا سنة من سنن الله عزّ وجل وهي أن من شاق الله ورسوله، فإنه يستحق العقاب الشديد، ومن عقوبات الله الشديدة أن يسلط على قوم فيجليهم من ديارهم، وفي ذلك درس للمسلمين ألا يفعلوا فيما يأتي من الزمان فعل هؤلاء فيستحقون العقاب الشديد؛ ولذلك قال تعالى في الآيات فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وللأسف فإن بعض ذراري المسلمين فعلوا مثل فعلهم فعوقب الكثير منهم بالجلاء عن أوطانهم، والآيات عرفتنا على الله من خلال فعله وسنته، ولذلك صلته بموضوع الإيمان بالغيب من محور السورة من سورة البقرة، ولنتابع عرض المجموعة الأولى: ... ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ اللينة: النخلة أو الكريمة من النخل، أو ما سوى العجوة منه والمعنى: ما قطعتم من شجرة نخل لبني النضير أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فلم تقطعوها فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي: فقطعها وتركها مأذون فيه شرعا وقدرا. قال ابن كثير: (وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهابا وإرعابا لقلوبهم) والبخاري يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وابن عباس يعلل ذلك بأنه- عليه السلام- أراد استنزالهم من حصونهم. أقول: وهو نوع من أنواع الضغط في الحروب يراد به تدمير اقتصاد البلد المحارب، وهؤلاء يراد إجلاؤهم، ومن ثم فتقطيع بعض نخلهم وتحريقه يساعد على قطع تعلقهم بأرضهم، ثم علل الله عزّ وجل الحكمة من الإذن في تقطيع النخيل وإحراقه فقال: وَلِيُخْزِيَ

[سورة الحشر (59): آية 6]

الْفاسِقِينَ قال النسفي: أي: وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها. أقول: وسبق التعليل بالواو يفيد أن هناك مصالح أخرى في هذا التقطيع، أحدها إذلال أعداء الله عزّ وجل، وعدم استئصال الشجر كله فيه إشارة إلى أنه ليس المراد القطع أو التخريب لعينه، بل المراد مجرد الضغط والإذلال وانتزاع النصر مع الإبقاء على اقتصاد العدو سليما ليكون غنيمة للمسلمين، وهذا هو الأصل الذي لا يلجأ إلى غيره إلا في حالة وجود حكمة ومصلحة كما هو الحال في الوضع الذي نحن بصدد دراسته، وهذا المعنى من مقررات الحرب الحديثة، إذا كان انتزاع النصر يقتضي تخريب اقتصاد عدوك فدمره، وإلا فأبقه ليكون غنيمة لك وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي: وما جعله الله فيئا لرسول الله من أموال بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ الركاب: الإبل أي: فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم والمعنى: فما أجهدتم على تحصيله والاستيلاء عليه خيلا ولا ركابا ولا تعبتم في القتال فيه وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ قال النسفي: يعني: إن ما خول الله رسوله في أموال بني النضير شئ لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع؛ بل هو القاهر لكل شئ. قال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى مبينا ما الفئ، وما صفته، وما حكمه؟. الفئ كل مال أخذ من الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل، ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاءه على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما يشاء، فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله- عزّ وجل- في هذه الآيات). أقول: دلت الآية الأخيرة على أن المسلمين إذا قاتلوا استحقوا أربعة أخماس الغنائم، وقد ينفل الإمام المسلم المقاتل، أو المجموعة المقاتلة السلب كله تشجيعا لهم، أما إذا لم يقاتلوا، أو استولوا على أراض بدون قتال مباشر، فالأمر في هذه الحالة له أحكام خاصة ستفصلها الآيات اللاحقة. قال تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى قال ابن كثير: أي: جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قال

[سورة الحشر (59): آية 8]

ابن كثير: إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفئ ووجوهه. أقول: دلت الآية على أن مصرف الخمس في حال القتال هو مصرف الكل في هذه الحالة، أي: في حالة مثل حالة فئ بني النضير، فكل الأموال والغنائم لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وذكر اسم الله للبركة، وسهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته كانا له في حياته كما هو مذهب الحنفية، والفقراء من آل بيته يدخلون في فقراء المسلمين عامة، وعلى هذا فالفيء كله يوزع على اليتامى والمساكين وابن السبيل في مثل هذه الحالة، وقد بين الله عزّ وجل الحكمة في ذلك بقوله: كَيْ لا يَكُونَ المال أو الفئ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي: دائرا بين الأغنياء منكم خاصة، وليس بين يدي الفقراء منه شئ. قال ابن كثير: (أي: جعلنا هذه المصارف لمال الفئ كيلا يبقى مأكلة يتقلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئا إلى الفقراء). أقول: دل هذا التعليل على أن من الأهداف المراعاة في نظام المال في الإسلام ألا يتجمع المال بيد الأغنياء، ومن ثم حرم الله عزّ وجل الربا والاحتكار، وشرع نظام الإرث وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا قال ابن كثير: (أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر) وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ممن خالف الله ورسوله. قال ابن كثير: أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره، فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه، وبعد أن بين الله عزّ وجل مصارف الفئ إجمالا فصل في ذلك. فقال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي: جنته وَرِضْواناً قال ابن كثير: أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: وينصرون دين الله ويعينون رسوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم وتقواهم وجهادهم وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن كثير: أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم، وعرضوا عليهم أن ينزل من كانت له زوجتان عن إحداهما لأخيه إن شاء أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أي: مما أوتي المهاجرون يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون، ولم تطمح إلى شئ منه تحتاج إليه. قال النسفي: وقيل لا يجدون في صدورهم مس

[سورة الحشر (59): آية 10]

حاجة من فقد ما أوتوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ قال ابن كثير: يعني حاجة. أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح. قال النسفي: والشح: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، وأما البخل فهو المنع نفسه وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ قال ابن كثير: هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفئ وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي: بغضا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال عمر بن الخطاب عن الآيات الثلاثة الأخيرة: استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي بسرد حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه. كلمة في السياق: 1 - في سياق ما فعله الله عزّ وجل بالكافرين من خزي في الدنيا، وقهر وجلاء ونصرة لرسوله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا بعض أحكام الفئ، وفي سياق ذلك عرفنا الله عزّ وجل على بعض سننه، وفصل لنا في خصائص المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، أي: أعطانا تصورا عن الخصائص العليا لأهل الإيمان والتقوى، مهاجرين ومهاجرا إليهم ومن يأتي بعدهم، وبذلك عرفنا: أن من خصائص الإيمان الهجرة، والنصرة لله ورسوله، والمحبة للمهاجرين، والإيثار، والتحرر من الشح، والمحبة للسابقين، والاستغفار لهم، وبذلك عرفنا تفصيلا جديدا لخصائص المتقين، وعرفنا أنواعا من العذاب العظيم الذي يوقعه الله في الكافرين في الدنيا والآخرة، ولذلك صلاته مع مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إن الصلة بين الآية الأخيرة وبين قوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ واضحة، فآيات سورة الحشر تعرض علينا خصائص المتقين من خلال سياق سورة الحشر الخاص. وفي قوله تعالى: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ وفي قوله: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وفي قوله: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ

تفسير المجموعة الثانية في المقطع الأول

لَمْ يَحْتَسِبُوا ... وفي قوله: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ نوع تفصيل لقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. 2 - بعد أن فصل الله- عزّ وجل- خصائص المتقين من خلال سياق سورة الحشر الخاص، وبعد أن أرانا نماذج من تعذيبه للكافرين في الدنيا؛ لأنهم يشاقون الله ورسوله تأتي المجموعة الثانية في المقطع الأول لسورة الحشر، فتعرفنا على طبيعة المنافقين، وفي ذلك زيادة تفصيل عن المنافقين، ولذلك صلته بمقدمة سورة البقرة، إن مقدمة سورة البقرة عرضت علينا حقيقة المنافقين، وعرفتنا عليهم من خلال أقوالهم، ومثلت لحالهم، ومما عرضته لنا أنهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ وفي المجموعة التالية من المقطع نرى حقيقة معية المنافقين للكافرين في اللحظات الحاسمة من الصراع بين الكافرين والمؤمنين، ومن خلال ذلك ندرك أن سورة الحشر تفصل في مقدمة سورة البقرة من خلال المواقف العملية. فلنر المجموعة الثانية. تفسير المجموعة الثانية في المقطع الأول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا كعبد الله بن أبي، وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: بني النضير والمراد أخوة الكفر لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ أي: مصيرنا ومصيركم واحد وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي: إن أمرنا فيكم أمرا فلن ننفذه وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي: فاثبتوا وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ قال ابن كثير: أي: لكاذبون فيما وعدوهم به، إما لأنهم قالوا لهم قولا ومن نيتهم أن لا يفوا لهم به، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه، ولهذا قال تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ فهم كاذبون في ما قالوه لهم في هذا الشأن وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ فهم كاذبون فيما قالوه لهم في هذا الشأن وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الفرض والتقدير لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي: ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك، أي: يهلكهم الله

[سورة الحشر (59): آية 13]

ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين لَأَنْتُمْ أيها المؤمنون أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي: يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يعرفون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً أي: مجتمعين يعني: اليهود والمنافقين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي: في القلاع والحصون أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ كالدبابات والمدرعات والمصفحات، ومن عرف أن نظرية القتال عند اليهود في عصرنا تقوم على التحصينات المكثفة، والجيوش المحمولة على الدبابات والطائرات والمصفحات، أدرك أن هذا القرآن من عند الله الذي وسع علمه كل شئ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: عداوتهم بينهم شديدة يعني: أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا يهودا ويهودا، أو يهودا ومنافقين، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن عند محاربة الله ورسوله تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي: تحسب اليهود والمنافقين، أو كلا منهم مجتمعين ذوي ألفة واتحاد وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي: متفرقة لا ألفة بينها. قال النسفي: يعني: إن بينهم إحنا وعداوات فلا يتعاضدون حق التعاضد، وهذا تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم ذلِكَ أي: التفرق بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم. قال النسفي: (أقول: إن سبب التفرق هو أنهم لا يملكون العقل الشرعي الذي يصون شرع الله- عزّ وجل- إذ الحق وحده يجمع الناس، فإذا لم يكن حق فلا اجتماع) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً أي: مثل هؤلاء كمثل أهل بدر، أو كمثل بني قينقاع الذين أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي: ذاقوا سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار مَثَلُهُمْ* أي: مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإطلاقهم كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي: كمثل الشيطان إذ استغوى الإنسان بكيده، ثم تبرأ منه في العاقبة. قال ابن كثير: (يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم. ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان- والعياذ بالله- الكفر فإذا دخل فيما سوله له تبرأ منه وتنصل وقال إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَ

[سورة الحشر (59): آية 17]

الْعالَمِينَ) فَكانَ عاقِبَتَهُما أي: عاقبة الإنسان الكافر والشيطان، أي: فكان عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له والمراد به في هذا السياق المنافق والكافر أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي: جزاء كل ظالم، وبهذا انتهت المجموعة الثانية. كلمة في السياق: من خلال موقف المنافقين من بني النضير أخذنا تصورا عن النفاق وأهله، وفي ذلك تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة، وهكذا من خلال قصة بني النضير أخذنا تفصيلا لكثير من المعاني الموجودة في مقدمة سورة البقرة، وتعرفنا على الله عزّ وجل وعلى بعض سنته والآن تأتي مجموعة أخيرة في هذا المقطع، تبني على ما ورد في المجموعتين السابقتين فتخاطب المؤمنين وتطالبهم بالتقوى والعمل لليوم الآخر، وتعمق معرفتنا بهذا القرآن. فلنر المجموعة الثالثة في المقطع. تفسير المجموعة الثالثة في المقطع الأول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره فلا تخالفوها. قال ابن كثير: أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني: يوم القيامة. قال النسفي: سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبا له، أو عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد، وتنكيره لتعظيم أمره وَاتَّقُوا اللَّهَ كرر الأمر بالتقوى تأكيدا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير. قال النسفي: فيه تحريض على المراقبة؛ لأن من علم وقت فعله أن الله مطلع على ما يرتكب من الذنوب يمتنع عنه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي: تركوا ذكر الله عزّ وجل وما أمرهم به فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال النسفي: (أي: فتركهم من ذكره إياهم بالرحمة والتوفيق) أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي: الخارجون عن طاعة الله. قال ابن كثير في الآية: أي: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أي: لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي: الناجون من عذاب

[سورة الحشر (59): آية 21]

الله عزّ وجل، قال النسفي: هذا تنبيه للناس، وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة، والعذاب الأليم مع أصحاب النار، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، ثم قال تعالى معظما لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه، لما فيه من الوعد الحق، والوعيد الأكيد لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قال النسفي: أي: من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل تمييز، وأنزل عليه القرآن لخشع، أي: لخضع وتطأطأ وتصدع، أي: تشقق من خشية الله ... والمراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره، قال ابن كثير: أي: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيعقلون فيخشعون، وبهذا انتهت المجموعة الثالثة وانتهى بانتهائها المقطع الأول. كلمة في السياق: بدأت السورة بقوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ثم عرفتنا على الله عزّ وجل من خلال فعله ببني النضير هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ثم أمرت المؤمنين بالتقوى، وأمرت بالعمل للآخرة، وذكرت بعدم استواء أهل النار وأهل الجنة، ثم ذكرت بعظمة هذا القرآن، وفي ذلك مطالبة بالخشوع والتقوى، وبعد ذلك يأتي المقطع الثاني وهو يعرفنا على الله- عزّ وجل- من خلال ذكر أسمائه، فالسورة تعرفنا في مقطعها الأول على الله من خلال أفعاله، وتعرفنا على الله في مقطعها الثاني من خلال أسمائه، وفي وسط ذلك يتوجه الخطاب للمؤمنين بالتقوى، والعمل للآخرة، والخشوع وقد فصلت السورة في أخلاق المتقين والكافرين والمنافقين ضمن سياقها الخاص، ولنا عودة على هذا الموضوع فيما بعد. فلنر الآن المقطع الثاني. ***

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (22) إلى نهاية الآية (24) أي: إلى نهاية السورة وهذا هو: [سورة الحشر (59): الآيات 22 الى 24] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) التفسير: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: العالم بجميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ قال ابن كثير: (والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) فمن كان هو الإله وحده، ومن كان يعلم الغيب والشهادة، ومن كانت رحمته تبلغ الأشياء كلها، فكيف لا يتقى؟ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي: المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة الْقُدُّوسُ قال النسفي: أي: المنزه عن القبائح السَّلامُ قال النسفي: (أي: الذي سلم الخلق من ظلمه) وقال ابن كثير: (أي: من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله) الْمُؤْمِنُ أي: واهب الأمن الْمُهَيْمِنُ أي: الرقيب على كل شئ الحافظ له الْعَزِيزُ أي: الغالب غير المغلوب. قال ابن كثير: أي: الذي قد عز كل شئ فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه الْجَبَّارُ أي: العالي العظيم، الذي يذل له من دونه، أو العظيم الشأن في القدرة والسلطان أو القهار ذو الجبروت الْمُتَكَبِّرُ أي: البليغ الكبرياء والعظمة. قال ابن كثير: أي: الذي لا تليق الجبرية إلا له،

[سورة الحشر (59): آية 24]

ولا التكبر إلا لعظمته سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بعد أن ذكر الله عزّ وجل ما ذكر من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، نزه ذاته عما يصفه به المشركون هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي: المقدر لما يوجده الْبارِئُ أي: الموجد الْمُصَوِّرُ الذي أعطى كل شئ صورته لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على الصفات العلى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ختم السورة بما بدأها به. كلمة في السياق: رأينا أن السورة في سياقها الرئيسي تركز على التعريف بالله عزّ وجل، وتطالب بناء على هذا التعريف بالتقوى، والعمل للآخرة، والخشوع لكتاب الله عزّ وجل، وقد ذكرت لنا السورة مظاهر من عزة الله وحكمته، فكانت مجلى لظهور اسمي الله العزيز الحكيم اللذين بدأت بهما السورة وانتهت، فرأينا حكمة الله في أفعاله وشرعه فيها، ورأينا عزة الله عزّ وجل في انتصاره وانتقامه، ورأينا في السورة تدبير الله عزّ وجل لرسوله وللمؤمنين، وفعله بالكافرين والمنافقين، ورأينا مزيدا من خصائص المؤمنين، وعرفنا مزيدا من صفات المنافقين والكافرين، ومن ثم كانت السورة تفصيلا لمقدمة سورة البقرة، فمقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين، ولا تقوى إلا بمعرفة الله عزّ وجل، وقد عرفتنا السورة على الله عزّ وجل، ومن صفات المتقين الاهتداء بكتاب الله عزّ وجل الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وقد عرفتنا السورة على عظمة هذا القرآن، وطالبت بالخشوع له لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ... ومن صفات المتقين الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وقد دعتنا السورة للعمل للآخرة، وأرتنا خصائص للمتقين التي تمثلت في رجال مهاجرين وأنصار وتابعين لهم بإحسان، وحدثتنا السورة عن تعذيب الله للكافرين في الدنيا والآخرة، وحدثتنا السورة عن المنافقين وصفاتهم من خلال موقفهم من بني النضير، فكان في ذلك كله تفصيل لمقدمة سورة البقرة. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال ابن كثير: (يعني: يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن

لا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئا، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي لا يمكن أن تحمل معهم؛ ولهذا قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). 2 - بمناسبة قوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قال صاحب الظلال: (أتاهم من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم، ولا يحكمون قلوبهم، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم. وقد كانوا يحسبون حساب كل شئ إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم. فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا. يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر، وهو يعلم كل شئ، وهو على كل شئ قدير). 3 - بمناسبة قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ قال صاحب الظلال: (ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير. نشأ وحده، وسار وحده، وبقي حتى اليوم وحده، نظاما فريدا متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات، متناسقا تناسق الكون كله، مذ كان صدوره عن خالق الكون، والكون متناسق موزون!). 4 - وبمناسبة قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن عبد الله- هو ابن مسعود- رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن،

المغيرات خلق الله عزّ وجل، قال: فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب، فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت، قال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله تعالى، فقالت إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قالت: إني لأظن أهلك يفعلونه، قال: اذهبي فانظري، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا، فجاءت فقالت ما رأيت شيئا قال: لو كان كذا لم تجامعنا. أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري، وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»). وقال صاحب الظلال: (فأما القاعدة- قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنا أو سنة ... والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان ... وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم- والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها والإمام نائب عن الأمة في هذا وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع). 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد ... عن أنس رضي الله عنه قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشر كونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله قال: «لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» لم أره في الكتب من هذا الوجه. وروى البخاري عن يحيى بن سعيد أنه سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين قالوا: لا إلا أن تقطع

لإخواننا من المهاجرين مثلها قال: «أما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة» تفرد به البخاري من هذا الوجه. وروى البخاري ... عن أبي هريرة قال: «قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال: لا، فقالوا: أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا: سمعنا وأطعنا» تفرد به دون مسلم). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا قال ابن كثير: (قال الحسن البصري وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً يعني: الحسد مِمَّا أُوتُوا قال قتادة: يعني فيما أعطي إخوانهم. وكذا قال ابن زيد: ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث روى عن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال: «نعم» قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الليالي الثلاث، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق، ورواه النسائي في اليوم والليلة بإسناد صحيح على شرط الصحيحين). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال ابن كثير: (وروى الأعمش وشعبة ... عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» ورواه أحمد وأبو داود والنسائي. وروى الليث عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا». وروى ابن أبي حاتم عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال له عبد الله: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا، فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذاك البخل وبئس الشئ البخل. وروى سفيان الثوري عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير. وروى ابن جرير عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة». 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ قال ابن كثير: (هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفئ وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ أي: قائلين رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفئ نصيب، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي: بغضا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وروى ابن أبي حاتم عن

عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ الآية. وروى إسماعيل بن علية عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها» رواه البغوي وروى أبو داود عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرى عرينة وكذا وكذا، مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وللفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، والذين جاءوا من بعدهم فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب أو قال حظ إلا بعض من تملكون من أرقائكم، وكذا رواه أبو داود وفيه انقطاع. وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى الآية ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى حتى بلغ لِلْفُقَراءِ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، فليس أحد إلا وله فيها حق ثم قال. لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرد حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.). 9 - بمناسبة قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ قال ابن كثير: (وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها، روى ابن جرير عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: إن راهبا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها ولها إخوة فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال: فجاءوا بها إليه فداواها وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب أنا صاحبك إنك أعييتني،

أنا صنعت هذا بك، فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة، فسجد له فلما سجد قال: إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ). 10 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى آخر الآية وقرأ الآية التي في الحشر وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره- حتى قال- ولو بشق تمرة» قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شئ» انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله). 11 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن نعيم بن نمحة قال: كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عزّ وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزّ وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزّ وجل أن تكونوا أمثالهم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، وأين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا

بسنانه وبيانه، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله علمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم. هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات، وشيخ جرير بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ جرير كلهم ثقات وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم). 12 - بمناسبة قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ قال ابن كثير: (وقد ثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكت لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع، وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى الآية وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن، وقد قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ). 13 - بمناسبة قوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال ابن كثير: (ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» وتقدم سياق الترمذي وابن ماجه له عن أبي هريرة أيضا وزاد بعد قوله: وهو وتر يحب الوتر. واللفظ للترمذي: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل،

كلمة أخيرة في سورة الحشر

اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور» وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير). 14 - بمناسبة الآيات الأخيرة من سورة الحشر قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا؛ ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» ورواه الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه). كلمة أخيرة في سورة الحشر: جاءت سورة الحشر بعد سورة المجادلة فكانت نموذجا للموضوع الرئيسي في سورة المجادلة، وهو استحقاق الذين يحادون الله ورسوله الكبت والذلة، إذ عرضت لنا ما أصاب بني النضير من خزي وإذلال بسبب مشاقتهم لله وللرسول، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة موقف المنافقين وتوليهم للكافرين، وسنرى أن سورة الممتحنة ستأتي لتبدأ بالنهي عن تولي أعداء الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... وهكذا تتعانق نهايات السور ببدايات ما بعدها بشكل عجيب، ولقد رأينا في السورة بعض ملامح الحكمة في توزيع آيات الأحكام على القرآن كله، فقد عرضت السورة التشريع الذي له علاقة بالفئ في سياق يستخرج التسليم المطلق من المؤمن، إذ وضعت هذه الأحكام في سياق التذكير بخصائص الإيثار واحتياجات المحتاجين، وفعل الله عز وجل، وغير ذلك مما رأيناه بحيث لا يسع الإنسان إلا أن يسلم بالفئ لأهله، وهكذا فعل الله عز وجل في كل ما أمر به

ونهى عنه إذ جاء في سياق يحمل على التطبيق والالتزام، وسورة الحشر مع سورة الممتحنة مجموعة برأسها، ولذلك فإن سورة الحشر تؤلف مع سورة الممتحنة كلا متكاملا يظهر ذلك في أن سورة الحشر تحدثت عن الكافرين وموالاتهم، وها هي ذي سورة الممتحنة تنهى المؤمنين عن سلوك هذا الطريق. ... بعد مقدمة سورة البقرة جاءت دعوة لعبادة الله وتوحيده للوصول إلى التقوى، وجاءت بشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح، وكل ذلك في الآيات الخمس الأولى من المقطع الأول من القسم الأول، والملاحظ أن سورة الحشر عرفتنا على الله من خلال أسمائه وأفعاله، ومعرفة الله هي الأساس الذي تقوم عليه العبادة كما جاء في سورة الحشر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وهذا يشير إلى أن سورة الحشر فصلت في مقدمة سورة البقرة والآيات الخمس بعدها. ... وقد جاء في الآيات الخمس قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وجاء في سورة الحشر قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فهذه الخصيصة للقرآن تنفي الريب عنه. ... وبعد مقدمة سورة البقرة، وهذه الآيات الخمس، تأتي آيتان ستفصل فيهما سورة الممتحنة. ***

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة وهي السورة الستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية والأخيرة من المجموعة الثالثة من قسم المفصل، وهي ثلاث عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الممتحنة

بين يدي سورة الممتحنة: قدم الألوسي لسورة الممتحنة بقوله: (قال ابن حجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر؛ فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة: الفاضحة، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان. وسورة المودة، وأطلق ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق. ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء لئلا يشابهوا المنافقين، وبسط الكلام فيه أتم بسط. وقيل في ذلك أيضا: إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح-). ومن تقديم صاحب الظلال للسورة نقتطف ما يلي: (هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا، وتقصر عنه أحيانا، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوما في هذه الأرض). (إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله في رحاب العقيدة وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله، المتضمن كيانه نفحة من روح الله. ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة- كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم- عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض. كما تقف عقبات أخرى من رغائب

كلمة في سورة الممتحنة ومحورها

النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية ... وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور! وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عمليه واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل. وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى من قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات! وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه. وهو- سبحانه- يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا- وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت- فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!). ... كلمة في سورة الممتحنة ومحورها: تفصل سورة الممتحنة في محور سورة المائدة، ومن ثم فلها مثل بدايتها، فسورة المائدة مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وكذلك سورة الممتحنة، ونجد في سورة المائدة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ونجد فيها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وسورة الممتحنة مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ... وقد رأينا من قبل أن سورة المجادلة فصلت في محور سورة المائدة نفسه، وكانت خاتمتها لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ

حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... وبعد الآيات الخمسة والعشرين الأولى من سورة البقرة والتي تتحدث عن التقوى، وطريقها، وأركانها، ومظاهرها التي فصلت فيها سورة الحشر، تأتي آيتان هما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ هاتان الآيتان تتحدثان عن الأسباب التي يستحق بها الفاسقون الإضلال وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ .... وسورة الممتحنة تأتي لتحدد للمؤمنين ما ينبغي فعله، وما لا ينبغي فعله ليتحرروا من هذا كله، ومن ثم ستلاحظ أن الآية الأولى من سورة الممتحنة تنهى عن موالاة أعداء الله سرا وعلانية ثم تقول: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ... لاحظ الصلة بين قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وبين قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ لتجد من خلال هذه الملاحظة صدق ما ذكرناه. ... وتتحدث سورة الممتحنة عمن يجوز وصله، وعمن لا يجوز، كما تتحدث عن عقود واجبة البر كبيعة النساء، وعقود لا تصح أصلا، كما تتحدث عن مظاهر الإفساد في الأرض، ولذلك صلاته بمحورها. ... وقد يتساءل متسائل، لماذا هذا التركيز كله على الآيات الأولى من سورة البقرة حتى ليكاد يكون قسم المفصل كله تفصيلا لذلك؟، والجواب: إن هذه المعاني التي ذكرتها الآيات الأولى من سورة البقرة عليها مدار الإسلام كله، فبقدر ما تتعمق معانيها في النفس البشرية وتتضح يكون الإسلام قائما والأمر مستقيما. ولنعرض سورة الممتحنة على أنها فقرات كل فقرة منها مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا. ***

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى الآية (9) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الممتحنة (60): الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

فائدة في سبب النزول

فائدة في سبب النزول: قال ابن كثير: (كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب ابن أبي بلتعة، وذلك أن حاطبا هذا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفا لعثمان، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: «اللهم عم عليهم خبرنا» فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا، فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه، فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. روى الإمام أحمد عن عبيد الله بن أبي رافع أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم

التفسير

ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟» قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه صدقكم» فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه من غير وجه عن سفيان بن عيينة به، وزاد البخاري في كتاب المغازي فأنزل الله السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ قال ابن كثير: (يعني: المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع عداوتهم ومصادمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء). أقول: وللتولي مظاهر متعددة حاولنا أن نحصيها في كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) ومن مظاهرها التي يدل عليها سبب نزول هذه الآيات أن ينقل المسلم للكافرين أسرار المسلمين، وأن يطلعهم على مخططاتهم تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي: لا تتخذوا الكافرين أولياء ملقين إليهم بالمودة، دل ذلك على أن إلقاء المودة للكافرين من مظاهر الولاء قال النسفي: والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي: لا تتخذوهم أولياء ملقين إليهم بالمودة، وهذه حالهم أنهم قد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هو دين الإسلام والقرآن، ثم ذكر بمظاهر كفرهم وعتوهم فقال: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي: يخرجونكم من مكة لإيمانكم بالله ربكم، أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين. قال ابن كثير: (هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده) إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي: إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي ومبتغين مرضاتي فلا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. قال

[سورة الممتحنة (60): آية 2]

ابن كثير: (أي: إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم وسخطا لدينكم) تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ قال ابن كثير: أي: تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر. قال النسفي: (أي: تفضون إليهم بمودتكم سرا، أو تسرون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة) وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم والمعنى: أي طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي: ومن يفعل منكم هذا الإسرار فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: فقد أخطأ طريق الحق والصواب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي: إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم يكونوا لكم خالصي العداوة، ولا يكونوا أولياء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي: بالقتل والشتم. قال ابن كثير: (أي: لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال) وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي: وتمنوا لو ترتدون عن دينكم وما دام الأمر كذلك فموادة أمثالهم خطأ عظيم. قال ابن كثير: (أي: ويحرصون على ألا تنالوا خيرا، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء؟) وهذا تهييج على عداوتهم أيضا. وقال النسفي شارحا الآية: (يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين، من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شئ عنده أن يقصد أهم شئ عند صاحبه). لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون الكفار من أجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي: وبين أقاربكم وأولادكم، فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفر منه غدا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم. قال ابن كثير: (أي: قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد بكم سوءا، ونفعهم لا يصل إليكم، إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد، ولو كان قريبا إلى نبي من الأنبياء). ثم قال تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي: وأتباعه الذين آمنوا معه، أي: قد كانت لكم قدوة حسنة في

[سورة الممتحنة (60): آية 5]

إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ أي: تبرأنا منكم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: تبرأنا منكم ومن آلهتكم كَفَرْنا بِكُمْ أي: بدينكم وبطريقتكم وبأشخاصكم التي تمثل بها هذا الدين والطريقة وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ بالأفعال وَالْبَغْضاءُ بالقلوب أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ فحينئذ نترك عداوتكم وبغضكم. قال ابن كثير: (يعني: وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم ... ) إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدون معه من الأنداد إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ قال النسفي: أي: اقتدوا به (أي: في إبراهيم) في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر، وقال ابن كثير: أي: لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ثم أتم الله عزّ وجل قول إبراهيم لأبيه وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي: من هداية ومغفرة وتوفيق فكأنه قال له: سأستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار، ثم قال تعالى مخبرا عن قول إبراهيم عليه السلام والذين معه حين فارقوا قومهم، وتبرءوا منهم فلجأوا إلى الله عزّ وجل، وتضرعوا إليه فقالوا: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا لا على أحد سواك وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي: أقبلنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي: المرجع. قال ابن كثير: أي: توكلنا عليك في جميع الأمور، وسلمنا أمورنا إليك، وفوضناها إليك، وإليك المصير أي: المعاد في الدار الآخرة، وقالوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قال النسفي: أي: لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب. وقال ابن كثير: (قال مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا، وكذا قال الضحاك، وقال قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه واختاره ابن جرير، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيفتنونا) وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا أي: واستر ذنوبنا عن غيرنا، واعف عنها فيما بيننا وبينك إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي: الذي لا يضام من لاذ بجنابك الْحَكِيمُ في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك، ثم كرر الله عزّ وجل الحث على الاقتداء بإبراهيم عليه السلام فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ هذا تهييج للتأسي بإبراهيم ومن معه لكل مؤمن بالله والمعاد وَمَنْ يَتَوَلَّ عما أمر الله به من الاقتداء بإبراهيم ومن معه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن الخلق

[سورة الممتحنة (60): آية 7]

الْحَمِيدُ المستحق للحمد، وبعد أن أمر الله عزّ وجل بمعاداة الكافرين والبراءة منهم قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً أي: محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة بأن يوفقهم للإيمان، وقد كان ذلك للمهاجرين يوم فتح الله مكة فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب وَاللَّهُ قَدِيرٌ على تقليب القلوب، وتحويل الأحوال، وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أسلم من المشركين. قال ابن كثير: أي: يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان، وبعد أن قرر الله عزّ وجل أن الأصل بين المسلم والكافر العداء، وأنه لا ولاء بينهما ذكر من يجوز بره من الكافرين، وينبغي القسط فيه، وحدد الذين لا تجوز موالاتهم بحال فقال: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ قال النسفي: (أي: تكرموهم وتحسنوا إليهم قولا وفعلا) وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ قال النسفي: أي: وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين والمعنى: لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا عن القسط فيهم، لأن الله عزّ وجل يحب من اتصف بصفة العدل ثم قال تعالى محددا من تجب معاداته، ولا تجوز موالاته إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي: أيدوا هذا الإخراج وعاونوا عليه أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي: أن تعطوهم أي مظهر من مظاهر الولاء وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ حيث وضعوا التولي في غير موضعه، ومعنى الآيتين: لا ينهاكم الله عن مبرة أولئك، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وإنما ذكر جواز المبرة والقسط مع الأولين، ولم يذكر الولاء، وذكر تحريم الولاء مع الآخرين؛ لأن الولاء لا يجوز أن يعطى أبدا إلا لأهل الإيمان. قال ابن كثير: (أي: إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عزّ وجل عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم) فمواطنونا من غير المسلمين إذا لم يدخلوا في صراع معنا أو قتال، وإذا لم يبذلوا جهدا من أجل إخراجنا من بلادنا فهؤلاء يجوز البر لهم، والعدل فيهم، أما الولاء لهم فلا، وأعظم مظاهر الولاء في عصرنا الدخول معهم في حزب واحد، يعطيهم المسلم من خلاله الولاء، ويحجبه عن المسلمين، وأما الذين يريدون استئصال ديننا وفتنتنا عنه فهؤلاء لا ولاء لهم بل عداء،

كلمة في السياق

لأن الفتنة أكبر من القتل، ومن ثم فالعمل الإسلامي المعاصر يجب أن يحدد علاقته ومواقفه من هؤلاء وأولئك، ولا بأس بعقد ميثاق وطني مع الذين لا يقاتلون ولا يظاهرون، ومع الميثاق تكون صلات ومبرات وإقناع وبيان، ولا شئ يكشف المقاتلين والمظاهرين كالانتساب إلى الأحزاب التي من أهدافها استئصال الإسلام، فمتى وجد انتساب كان العداء وحجب البر مع البيان، ومتى لم يوجد انتساب ولا تأييد كان البر والقسط، وهل يدخل في البر توظيفهم واستعمالهم وإشراكهم في مجلس شورى القطر، وإشراكهم في الوزارات والجيش؟ الذي عليه العمل خلال العصور هو هذا مع اشتراط أن يكون السلطان للمسلمين، والسيطرة لهم، ومع الأمن من جانب هؤلاء ومحاسبتهم الدقيقة، أما الآخرون فاستعمالهم من أكبر الجرائم عند الله، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه» فكل من شارك من الكفرة في الأحزاب التي من أهدافها استبعاد الإسلام أو إقصاؤه أو محاربته أو محاربة أهله، فهؤلاء يجب إسقاط الحقوق المدنية عمن يبقى منهم حيا بعد القتال، بأن يطردوا من وظائفهم، ويحال بينهم وبين أي عمل في الدولة على كل مستوى، وتبدأ عملية تأليف قلوبهم من خلال أشياء أخرى إن اقتضى الأمر ذلك، أما المسلمون الذين يشاركون في مثل هذه الأحزاب فهؤلاء إما مرتدون، أو منافقون، إلا رجلا أمر أن ينتسب ودخل بنية صالحة، فأما المرتد فالقتل إلا إذا تاب، وأما المنافق فيعامل على ظاهره إلا إذا ظهر منه ما يدل على ارتداده فيقتل حينئذ إلا إذا تاب، وبمقدار ما تصدق التوبة وتظهر آثارها يمكن أن يعامل هؤلاء، أما أن يعطى هؤلاء إمرة على المسلمين فلا. كلمة في السياق: 1 - واضح في الفقرة أن السياق انصب على عدم جواز موالاة أعداء الله والإسلام، ولم يخالط الفقرة شئ ليس له علاقة بهذا الموضوع، ومن ثم فسينصب كلامنا على صلة الفقرة بمحور السورة. 2 - قلنا إن محور السورة هو محور سورة المائدة، فلنعرض هذا المحور، ولنر صلة ما مر معنا به:

أ- إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ويلاحظ في الآية الأولى من الفقرة مجئ كلمة (الحق) وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ. ب- وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ يلاحظ في الآية الأولى من الفقرة ورود قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي: إسرار المودة فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ مما يشير إلى أن من يفعل ذلك دخل في الفاسقين الذين يضلهم الله عزّ وجل بسبب فسوقهم. ج- الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ يلاحظ أن آيات الفقرة ذكرت مظهرا من مظاهر نقض الميثاق مع الله عزّ وجل وهو موالاة أعدائه. د- وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يلاحظ أن الفقرة تحدثت عن الولاء للكافرين الذي هو قطع لما أمر الله به أن يوصل وهو موالاة المؤمنين، كما ذكرت الفقرة أن بر من لم يقاتلنا في الدين ويخرجنا من بلادنا ويؤيد إخراجنا لا يعتبر من هذا القبيل، كما أن الأرحام والأولاد في المجتمع الكافر لا تعتبر قطيعتهم من باب قطع ما أمر الله به أن يوصل. هـ- وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ نلاحظ أن الفقرة تعرضت لما يفعله الكافرون بالمؤمنين: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ وهذه جوانب من الإفساد في الأرض واضحة. ومن ثم فالفقرة قد فصلت في آيتي سورة البقرة اللتين هما محور السورة، ومحور سورة المائدة من قبل تفصيلا واضحا، وسنرى صلة الفقرات الآتية بمحور السورة، وسنرى في ذلك دليلا واضحا على صحة ما ذهبنا إليه. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وهي آيتان: وتمتد من الآية (10) إلى نهاية الآية (11) وهذه هي: [سورة الممتحنة (60): الآيات 10 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) فائدة في سبب النزول: قدم ابن كثير لتفسير هاتين الآيتين بقوله: (تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فكان فيه: على أن لا يأتيك منا رجل- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، وفي رواية على أنه لا يأتيك منا أحد- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد والزهري ومقاتل بن حيان والسدي، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة فإن الله عزّ وجل أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أحمد بن جحش من المسند الكبير من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ... عن عبد الله بن أبي أحمد قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهجرة،

التفسير

فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان). التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ سماهن مؤمنات مع أنهن لم يمتحن بعد لنطقهن بكلمة الشهادة، أو لشهادة ظاهر الحال لهن بالإيمان، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان فَامْتَحِنُوهُنَّ أي: فاختبروهن بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن وسنرى في الفوائد صيغ الامتحان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي: منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة، وعند الله حقيقة العلم به فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ أراد به العلم الذي تبلغه الطاقة البشرية. قال النسفي: (وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وتسمية الظن علما يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جار مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). وقال ابن كثير: فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينا فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين في حالة علمكم إيمانهن لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ قال ابن كثير: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة. وقال النسفي: أي: لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي: وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ قال ابن كثير: يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك. وقال النسفي: نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن لأن المهر أجر البضع، وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قال ابن كثير: تحريم من الله عزّ وجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن. وقال النسفي: (العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب، أو لحقت بدار الحرب مرتدة، أي: لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة

[سورة الممتحنة (60): آية 11]

زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه) وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ قال النسفي: من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا، قال ابن كثير: أي: وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن؛ وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين ذلِكُمْ أي: جميع ما ذكر في هذه الآية حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ قال ابن كثير: أي: في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه، قال النسفي: وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم. أقول: إنما قال النسفي ذلك لعدم تصور أن تعقد معاهدة لا تلاحظ فيها الأحكام الموجودة وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال ابن كثير: أي: عليم بما يصلح عباده، حكيم في ذلك وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي: وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار فَعاقَبْتُمْ أي: فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا قال النسفي: أي: فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة، وقيل هذا الحكم منسوخ أيضا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أن تخالفوا أوامره ونواهيه وأحكامه. كلمة في السياق: 1 - من الملاحظ أن هاتين الآيتين جاءتا تفسران بعض القضايا التي لا تدخل في معاهدة الحديبية، وهي في ذلك تبين معاني لا تدخل في موضوع نقض المواثيق، ولا في قطع ما أمر الله به أن يوصل، ولا في موضوع الإفساد في الأرض، وذلك من خلال ما حكم الله عزّ وجل به في الآيتين، كما فصلتا في مواثيق لا ينبغي أن تعقد، وقضايا ينبغي أن توصل، وفساد في الأرض ينبغي أن يزول، وكل ذلك من خلال عرض الأحكام الخاصة في النساء التي تقيد اتفاقية الحديبية، ومن هنا ندرك صلة الفقرة بمحور السورة الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والصلة التي تنتظم هذه الفقرة مع ما قبلها هي انتظام محور السورة لكل ما ورد في السورة. 2 - وبعد الفقرة الثانية تأتي فقرة فيها ذكر مضمون بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم

للنساء، وفي ذلك تحديد لأمهات المعاني التي إذا تحققت بها المرأة خرجت عن كونها فاسقة، ناقضة لعهد الله، قاطعة لما أمر الله به أن يوصل، مفسدة في الأرض، وصلة هذه الآية بما قبلها واضحة، فما قبلها يتحدث عن المؤمنات المهاجرات، وهذه تتحدث عن بيعتهن مع غيرهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلنر الفقرة. ***

الفقرة الثالثة

الفقرة الثالثة وتتألف من آية واحد هي الآية (12) وهذه هي: [سورة الممتحنة (60): آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) فائدة في السياق: مما يدل على صلة هذه الآية بما قبلها، هذه الرواية التي أخرجها البخاري عن عروة ابن الزبير: (روى البخاري ... عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك» كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك» هذا لفظ البخاري). التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قال النسفي: يريد وأد البنات. أقول: بل هي أعم من ذلك، قال ابن كثير: وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها إما لغرض فاسد، أو ما أشبهه. أقول: وفي جواز إسقاط الجنين وعدمه تفصيل سنراه في الفوائد، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ أي: بكذب

كلمة في السياق

يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: يعني: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر فَبايِعْهُنَّ أي: من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ عما مضى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بتمحيص ما سلف رَحِيمٌ بتوفيق ما ائتلف، وسنذكر في الفوائد صيغ هذه البيعة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونماذج منها، وكيفية تطبيقات هذه البيعة في عصرنا، وغير ذلك مما له علاقة بهذا الموضوع كلمة في السياق: 1 - هذه البيعة نموذج على المعاني التي لا ينبغي أن ينقضها المسلم، لأنها ميثاق مع الله ورسوله، ولذلك صلته بمحور السورة، فلو أن إنسانا نقض هذه البيعة فإنه يدخل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ كما يدخل في قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ كنسبة الأولاد إلى غير آبائهم كما يدخل في قوله تعالى: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالشرك والسرقة والزنى وقتل الأولاد وإتيان البهتان والمعصية لله والرسول صلى الله عليه وسلم. 2 - من تحديد مضمون هذه البيعة- وهي البيعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذها على النساء بشكل دائم، وعلى الرجال أول الأمر، ومن صلة ذلك بمحور السورة- ندرك أن ما ذكره الله عزّ وجل في هذه الآية هو مظاهر الفسوق الرئيسية عن أمر الله. ولم يبق عندنا في السورة إلا آية واحدة تتحدث عن الموضوع الذي بدأت به السورة، موضوع النهي عن موالاة الكافرين فلنرها. ***

الفقرة الرابعة

الفقرة الرابعة وهي آية واحدة، هي الآية (13) وهي آخر آية في السورة وهذه هي: [سورة الممتحنة (60): آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: (يعني: اليهود والنصارى، وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه، واستحق من الله الطرد والإبعاد) وحالهم أنهم قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي: من ثواب الآخرة ونعيمها كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ أي: كما يئسوا إلا أنه وضع الاسم الظاهر موضع الضمير مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي: أن يرجعوا إليهم، أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة، أو كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، لأنهم تبينوا قبح حالهم، وسوء منقلبهم، فيكون المعنى: قد يئس هؤلاء الكافرون من ثواب الآخرة كما يئس موتى الكافرين من هذا الثواب، وعلى كل فالآية تبين تحريم موالاة من هذا شأنه. ... كلمة في السياق: يلاحظ أن السورة ختمت بما بدأت به من النهي عن موالاة الكافرين، وصلة موضوع الولاء بمحور السورة واضحة، فولاء الكافرين نقض للميثاق، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وإفساد في الأرض، وهذا شئ يدركه كل بصير بعصرنا، فعند ما والى المسلم الكافرين واقع المسلم هذه الأشياء كلها. وقام سوق هذه الأشياء كلها، ويبقى الآن سؤال هو: يلاحظ أن السورة بدأت بالكلام عن الولاء، وختمت به، فما صلة ما ورد في وسط السورة بهذا؟، يلاحظ أنه ورد في وسط السورة كلام عن بيعة النساء وهجرتهن، ولا شك أن البيعة والهجرة هما أعظم مظهرين من مظاهر تحرير

الفوائد

الولاء لله والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فمتى هاجر الإنسان انتقل من ولاء إلى ولاء، ومتى بايع فقد خلع كل ولاء، وأعطى كل الولاء لمن بايعه، فذكر الهجرة والبيعة في هذا السياق يشير إلى طريقي التحرر من ولاء الكافرين، وهذا موضوع يجب أن نعطيه في عصرنا الأهمية الكبرى والعظمى في عملية نقل ولاء المسلم والمسلمة كما سنرى في الفوائد. يبقى أن نتساءل: ما الحكمة في عرض قضيتي الهجرة والبيعة من خلال موضوع المرأة؟ والجواب- والله أعلم- أولا: لأن ذلك واقعة حال تحتاج إلى جواب، وقد جعل الله عزّ وجل جوابها في هذه السورة. ثانيا: لتذكير المسلمين بموضوع المرأة، على أنه أصل في العمل الإسلامي على كل مستوى وليس فرعا. ثالثا: لتبين لنا السورة أن أخذ ولاء المرأة له صلة بأخذ ولاء المجتمع الإسلامي كله، وأن رعاية شأن المرأة برعاية الأحكام الخاصة بها شئ له وزنه العظيم في قضية التطهير من الفسوق. ولننقل الآن بعض الفوائد المتعلقة ببعض آيات السورة. الفوائد: 1 - من روايات أسباب نزول صدر سورة الممتحنة هذه الرواية: (في الصحيحين ... عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين؛ فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت؟» قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال: «صدق لا تقولوا له إلا خيرا» فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؛ فدعني فلأضرب عنقه، فقال: «أليس من أهل بدر؟» فقال: «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا

تعليق

ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة» أو «قد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، هذا لفظ البخاري في المغازي في غزوة بدر). أقول: يستدل بما ورد في هذه الرواية لأمور كثيرة تخص أمن المجتمع الإسلامي، منها جواز التفتيش الدقيق إذا تأكدت لنا معلومات أمنية، ومنها جواز التهديد والتعزير لانتزاع الإقرار من العاملين ضد أمن المجتمع الإسلامي إذا ثبتت عليهم الخيانة. تعليق: علق صاحب الظلال على حادثة حاطب بقوله: (وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة ... وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها. ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: «صدق لا تقولوا إلا خيرا» ... ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها، ولا يدع أحدا يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: «إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين. فدعني فلأضرب عنقه» ... فعمر- رضي الله عنه- إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف. ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح ... ذلك حين يقول: (أردت أن تكون لي عند القوم يد ... يدفع الله بها عن أهلي ومالي) ... فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: (وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع ... الله ... به عن أهله وماله» فهو الله الحاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة

يدفع الله بها). (ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم: «صدق. لا تقولوا إلا خيرا». وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة على المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به، فلم يرد من هذا شئ؛ مما يدل على أن أدب المسلمين مع قيادتهم وتواضعهم في الظن بأنفسهم واعتبارهم بما حدث لأخيهم). 2 - بمناسبة قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك» أخرجاه في الصحيحين). 3 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن أبي نصر الأسدي قال: سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله، ثم رواه من وجه آخر عن الأغر ابن الصباح به، وكذا رواه البزار من طريقه، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وقال مجاهد: فَامْتَحِنُوهُنَّ فاسألوهن عما جاء بهن فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن، أو سخطه أو غيره ولم يؤمن فارجعوهن إلى أزواجهن، وقال عكرمة: يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا ولا فرار من زوجك

فذلك قوله: فَامْتَحِنُوهُنَّ وقال قتادة: كان امتحانهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز، وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله، وحرص عليه، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن، وقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينا). 4 - بمناسبة قوله تعالى عن المؤمنات والمشركين: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ قال ابن كثير: (هذه الآية التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، وعلى هذا كان أمر أبي العاص ابن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا، كما روى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ومنهم من يقول بعد سنتين وهو صحيح، لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين، وقال الترمذي ليس بإسناده بأس، ولا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله جاء من حفظ داود ابن الحصين، وسمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث وحديث ابن الحجاج- يعني ابن أرطاة- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد، فقال يزيد: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. (ثم قلت): وقد روى حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وضعفه الإمام أحمد وغير واحد والله أعلم. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين تحتمل أنه لم تنقض عدتها منه؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ

نكاحها منه. وقال آخرون: بل إذا انقضت العدة هي بالخيار، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت، وحملوا عليه حديث ابن عباس والله أعلم). أقول: انعقد الإجماع على أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج إلا من مسلم، أما المسلم فإنه يجوز له أن يتزوج من مسلمة أو كتابية على خلاف بالنسبة للكتابية في بعض الصور. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قال ابن كثير: (تحريم من الله عزّ وجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن. وفي الصحيح ... عن المسور بن مروان بن الحكم أن رسول الله- صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عزّ وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ إلى قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. وقال أبو ثور عن الزهري: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى أزواجهم وقال: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد، وقال محمد بن إسحاق عن الزهري: طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، وهي أم عبد الله فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم رجل من قومه، وهما على شركهما، وطلق طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص). 6 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ... قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا الآية وقال: «فيما استطعتن وأطقتن» قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: «إني لا أصافح النساء إنما قولي

لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» هذا إسناد صحيح، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة والنسائي أيضا من حديث الثوري ومالك بن أنس كلهم عن محمد بن المنكدر به، وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر، وقد رواه أحمد أيضا من طريق آخر عن أميمة به وزاد: ولم يصافح منا امرأة، وكذا رواه ابن جرير بسنده. ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر حدثتني أميمة بنت رقيقة وكانت أخت خديجة خالة فاطمة من فيها إلى في فذكره، وروى الإمام أحمد عن سليط بن أيوب بن الحكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأت ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف قال: «ولا تغششن أزواجكن» قالت: فبايعناه ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما غش أزواجنا؟ قال فسألته فقال: «تأخذ ماله فتحابي به غيره» وروى الإمام أحمد عن عائشة بنت قدامة- يعني ابن مظعون- قالت: أنا مع أمي رائطة ابنة أبي سفيان الخزاعية، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: «أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف» - قلن: نعم- «فيما استطعتن» فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي: أي بنية نعم فكنت أقول كما يقلن. وروى البخاري عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ علينا ولا تشركوا بالله شيئا، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يديها قالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلقت ورجعت فبايعها، ورواه مسلم، وفي رواية فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم بنت ملحان، وللبخاري عن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة- امرأة معاذ-، وامرأتان، أو ابنة أبي سبرة- امرأة معاذ- وامرأة أخرى. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد كما روى البخاري عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني انظر إليه

حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: «أنتن على ذلك؟» فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري حسن- أحد رواة الحديث- من هي قال: «فتصدقن» قال وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال. وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال: «أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى» وقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ثم قرأ الآية التي أخذت على النساء إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» أخرجاه في الصحيحين. وروى محمد ابن إسحاق ... عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء- وذلك قبل أن يفرض الحرب- على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف وقال: «فإن وفيتم فلكم الجنة» ورواه ابن أبي حاتم، وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: «قل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء فقالت: إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني، وإنما تنكرت فرقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النسوة اللاتي مع هند وأبين أن يتكلمن فقالت هند وهي متنكرة: كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من الرجال؟ فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعمر: «قل لهن ولا يسرقن» قالت هند: والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان: ما أصبت من شئ مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فدعاها فأخذت بيده فعاذت به فقال: «أنت

هند؟» قالت: عفا الله عما سلف، فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ولا يزنين» فقالت: يا رسول الله وهل تزني امرأة حرة؟ قال: «لا والله ما تزني الحرة- قال- ولا يقتلن أولادهن» قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر، قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: منعهن أن ينحن وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ويقطعن الشعور، ويدعون بالويل والثبور. وهذا أثر غريب وفي بعضه نكارة والله أعلم، فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما بل أظهر الصفاء والود لهما، وكذلك كان الأمر من جانبه عليه السلام لهما. وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الفتح، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر بايع النساء يحلفهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بقيته كما تقدم وزاد: فلما قال: ولا تقتلن أولادكن قالت هند: ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه ابن أبي حاتم، وروى ابن أبي حاتم عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه فنظر إلى يدها فقال: «اذهبي فغيري يديك» فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا» فبايعته وفي يدها سواران من ذهب فقالت: ما تقول في هذين السوارين فقال: «جمرتان من نار جهنم». وروى ابن أبي حاتم ... عن عامر هو الشعبي قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وفي يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال: «ولا تقتلن أولادكن» فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال: وكان بعد ذلك إذا جاء النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن فقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أي: من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصرا في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» أخرجاه في الصحيحين، وقوله تعالى: وَلا يَزْنِينَ كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وفي حديث سمرة ذكر عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم، وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:

جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ الآية قال: فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت فنعم إذا فبايعها بالآية، وروى ابن أبي حاتم عن عامر هو الشعبي قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال: «ولا تقتلن أولادكن». فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصي بأولادهم؟ قال: وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن، وقوله تعالى: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه. وقوله تعالى: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة أدخلت على قوم ما ليس منهم فليست من الله في شئ، ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين» وقوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني: فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر. روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وقال ميمون بن مهران لم يجعل الله طاعة لنبيه إلا في المعروف، والمعروف طاعة. وقال ابن زيد: أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وسالم بن أبي الجعد وأبي صالح وغير واحد: نهاهن يومئذ عن النوح، وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضا. وروى ابن جرير عن قتادة في هذه الآية ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرما، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله إن لنا أضيافا وإنا لنغيب عن نسائنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس أولئك عنيت، ليس أولئك عنيت» وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ألا يحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه. وروى ابن جرير عن أم عطية الأنصارية قالت: كان فيما اشترط علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من

المعروف حين بايعناه أن لا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان: إن بني فلان أسعدوني فلا حتى أجزيهم، فانطلقت فأسعدتهن ثم جاءت فبايعت قالت: فما وفى منهن غيرها، وغير أم سليم- ابنة ملحان أم أنس بن مالك- وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها. وقد روى نحوه من وجه آخر أيضا، فروى عن مصعب بن نوح الأنصاري قال: أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأتيته لأبايعه فأخذ علينا فيما أخذ أن «لا تنحن» فقالت عجوز: يا رسول الله إن أناسا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني، وأنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أن أسعدهم، قال: «فانطلقي فكافئيهم» فانطلقت فكافأتهم ثم إنها أتته فبايعته وقال: هو المعروف الذي قال الله عزّ وجل: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وروى ابن أبي حاتم عن أسيد بن أبي أسيد البزار عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نعصيه في معروف وأن لا نخمش وجها ولا ننشر شعرا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا، وروى ابن جرير عن أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام على الباب وسلم علينا فرددن أو فرددنا عليه السلام ثم قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن قالت: فقلنا مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله، فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن، ولا تزنين، قالت: فقلنا نعم، قالت: فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد، قالت: وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز، قال إسماعيل فسألت جدتي- هي أم عطية- عن قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قالت: النياحة. وفي الصحيحين من طريق الأعمش ... عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت- وقال- النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» ورواه مسلم في صحيحه وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، رواه أبو داود.

تعليق

وروى ابن جرير عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: النوح، ورواه الترمذي في التفسير، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. تعليق: الإجهاض عند الحنفية مباح لعذر يقدره أولو الاختصاص بقدره إذا كان قبل التخلق الذي يكون عادة بين اليوم الأربعين إلى الخامس والأربعين بعد الحمل، ومكروه إلا لعذر إذا كان قبل نفخ الروح الذي يتم في نهاية الشهر الرابع، وحرام بعد ذلك، ويراعى تقوى الله في مثل هذه المسائل الحرجة فليراجع أهل التقوى والعلم. 7 - بمناسبة قوله تعالى: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال ابن كثير: (يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم، أو يبعثهم الله عزّ وجل، وقال الحسن البصري كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات، وقال قتادة: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، وكذا قال الضحاك، رواهن ابن جرير، والقول الثاني معناه: كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير، قال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال: كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد والكلبي ومنصور وهو اختيار ابن جرير رحمه الله). كلمة أخيرة في سورة الممتحنة ومجموعتها: كان الموضوع الرئيسي لسورة الممتحنة هو تحريم اتخاذ أعداء الله أولياء، وإذا تذكرنا أن سورة الحشر تحدثت عن المنافقين الذين والوا اليهود ندرك كيف أكملت سورة الممتحنة سورة الحشر، ولقد رأينا أن سورة الحشر فصلت في مقدمة سورة البقرة، والآيات الخمس بعدها، وجاءت سورة الممتحنة لتفصل في الآيتين بعد ذلك، وهكذا تكاملت المجموعة إن في المحور الذي فصلته، أو في المواضيع التي طرقتها. فلنر الآن محل هذه المجموعة في قسم المفصل. بدأ قسم المفصل بمجموعة فصلت في التقوى والكفر، وضرورة العبادة والشكر، ثم جاءت المجموعة الثانية ففصلت في وجوب الإيمان بالله والرسول، وهما أساس كل

شئ، وبينت عاقبة محاربة الله ورسوله في الدنيا والآخرة، ثم جاءت المجموعة الثالثة وهي مجموعة الحشر فعرفت على الله عزّ وجل، وضربت مثلا عمليا على نتائج محاربة الله والرسول، وحررت من اتخاذ أعداء الله ورسوله أولياء. وهكذا نجد أن كل مجموعة من المفصل تكمل المجموعات السابقة عليها. ... ولنلاحظ بشكل عام كيف أن السابق يشكل أساسا يبنى عليه اللاحق؛ فسورة الحشر عرفت على الله وعظمته، وبعد أن عرفتنا على جلال الله تأتي سورة الممتحنة لتقول في بدايتها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، وسورة الحشر عرفتنا خسة الذين يوالون أعداء الله عزّ وجل، ومصيرهم ومصير أوليائهم، وسفهت المنافقين وحقّرتهم، لأنهم يوالون أعداء الله عزّ وجل. وجاءت سورة الممتحنة لتقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، وسورة الحشر عرفتنا فعل الله بالكافرين وسنته فيهم، وجاءت سورة الممتحنة لتنهى عن ولائهم، وتفرض عداوتهم. ورأينا قبل ذلك كيف أن مجموعة سورة الحديد كانت أساسا لما ذكر في مجموعة سورة الحشر، ومجموعة سورة الذاريات هي الأساس لما ذكر في مجموعة سورة الحديد، هذا والمجموعات كلها تفصل في حيز واحد من سورة البقرة هي الآيات الأولى منها، وسنرى كيف أن المجموعات اللاحقة تفصل في هذا الحيز تقريبا، وكل منها يكمل ما سواه، ويبنى كل منها على ما سبقه. والملاحظ أن سور المجموعات السابقة أطول من سور المجموعات اللاحقة في الغالب، وكأن المعاني الأولى التي عرضتها أوائل سورة البقرة تعرض بتفصيل أوسع، ثم بتفصيل واسع، ثم بتفصيل أقل، حتى إن هذه المعاني لتعرض عليك مرة بصفحة، ومرة بعشرات الصفحات، وفي ذلك من الحكمة ما لا يخفى، وخاصة في موضوع التذكير الذي يسع كل الطبقات وكل الناس، ويسع وقت كل أحد، وفي الوقت نفسه يحيط بكل ما ينبغي، ومن ثم ندرك لم كانت بعض السور القصيرة تعدل ربع القرآن أو ثلثه أو نصفه. ***

المجموعة الرابعة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الرابعة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: الصف، والجمعة، والمنافقون

كلمة في المجموعة الرابعة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الرابعة من قسم المفصل في سورة الممتحنة رأينا أن الأصل في العلاقة بين أولياء الله وأعداء الله العداء، وتأتي بعد ذلك سورة الصف لتحدثنا عن الجهاد والقتال في سبيل الله، وهو مظهر تبلور العداء إلى عمل إيجابي، وتأتي سورة الجمعة لتقيم الحجة على اليهود الذين هم عقدة العقد في مواجهة الإسلام، فسورة الصف تفتح الطريق أمام المقارعة بالسنان، وسورة الجمعة تفتح الطريق أمام المقارعة بالبيان. وتأتي سورة المنافقون بعد ذلك لترينا نماذج لأناس لا يتحول الإيمان عندهم إلى شئ إيجابي، ضد الكفر بل العكس من ذلك هم أداة تعويق وإرباك. ... سورة الصف تتحدث عن مظهر من مظاهر الإيمان بالله ورسوله. وسورة الجمعة تتحدث عن حكمة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسورة المنافقون تحدثنا عن طائفة لا تظهر فيهم مظاهر الإيمان، ولا يحققون الحكمة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ... وسورة الصف تأمر بالجهاد، وسورة الجمعة تأمر بإقامة الجمعة، وسورة المنافقون تأمر بالذكر والإنفاق، فكل منها تؤدي دورها في بناء هذه الأمة. والسور الثلاث تفصل في مقدمة سورة البقرة، فتعطينا مزيدا من التفصيل عما هو مستكن في هذه المقدمة، أو مزيدا من التفصيلات عن الفئات الثلاث التي تحدثت عنها. وإذا كانت مجموعة سورة الحديد بلورت قضية الإيمان بالله والرسول، ومجموعة سورة الحشر بلورت قضية تميز الصف المؤمن بالله والرسول، فإن هذه المجموعة تبين ما ينبغي أن ينبثق عن الإيمان بالله وبالرسول، وتبين الحالة الردية المتردية للمنافقين الذين بدلا من أن يتحول الإيمان بالله والرسول عندهم إلى عمل فإنه يظهر بدعاوى وأكاذيب وفتن وتعويقات. ***

سورة الصف

سورة الصف وهي السورة الحادية والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الأولى من قسم المفصل، وهي أربع عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الصف

بين يدي سورة الصف: قدم الألوسي لتفسير هذه السورة بقوله: (وتسمى أيضا سورة الحواريين، وسورة عيسى عليه السلام، وهي مدنية في قول الجمهور، وروي ذلك عن ابن الزبير، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وعكرمة، ومجاهد، وقال ابن يسار: مكية، وروي ذلك عن ابن عباس، ومجاهد أيضا، والمختار الأول، ويدل له ما أخرجه الحاكم. وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها، وروي هذا الحديث مسلسلا يقرؤها علينا، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر: إنه أصح مسلسل يروى في الدنيا إن وقع في المسلسلات مثله في مزيد علوه، وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قول شباب من المسلمين: فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا، وما روي عن ابن زيد من أنه قول المنافقين للمؤمنين: نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك. وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه). ومن تقديم صاحب الظلال لهذه السورة نقتطف ما يلي: (هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين: تستهدف أولا أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، وسبقته صور منه تناسب أطوارا معينة في تاريخ البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات، وأن يظهره على الدين كله في الأرض. هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض ... يستتبع

كلمة في سورة الصف ومحورها

شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعورا يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله- كما أراد الله- وعدم التردد بين القول والفعل، ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنه، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات). ... كلمة في سورة الصف ومحورها: في مقدمة سورة البقرة كلام عن الاهتداء بكتاب الله من قبل المؤمنين بالغيب المقيمين للصلاة، المنفقين في سبيل الله، وكلام عن هؤلاء أنهم مفلحون، وكلام عن الكافرين أن لهم عذابا عظيما، وأن الله قد ختم على قلوبهم، وكلام عن المنافقين، وخسار تجارتهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وفي سورة الصف يدلنا الله عزّ وجل على التجارة الرابحة المنجية عنده، وهي الإيمان بالله والرسول والجهاد؛ مما يشير إلى أن الجهاد في سبيل الله هو أحد ما ينبغي الاهتداء به من كتاب الله ليحقق المسلم فلاحه وتقواه وتربح تجارته، فالإيمان العملي ينبثق عنه جهاد للكافرين، ومن ثم تبدأ السورة بالإنكار على من لا يتجاوز الإيمان عنده حدود الأقوال إلى الأفعال، مبينة أن الفعل هو المظهر الصحيح للإيمان وبالخصوص الجهاد المنظم في سبيل الله. ثم تذكر السورة مبررات هذا الجهاد من فسوق من فسق، وجرأة من تجرأ، وظلم من ظلم، وإرادة الله في نصرة دينه، ثم تدعو السورة إلى الإيمان بالله والرسول والجهاد، وإلى نصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. في مقدمة سورة البقرة كلام عن المتقين والكافرين والمنافقين، وفي سورة الصف بيان لوجوب الصراع بين المتقين والكافرين، وإنكار على من لا يتحول عنده الإيمان إلى جهاد، وفي السورة تحديد لطريق الربح، وبالتالي ففيها بيان لطريق الخسارة الذي يحمل لواءه المنافقون الذين لا يتحول الإيمان عندهم إلى شئ إيجابي، والذين سنأخذ صورة مفصلة عنهم في السورة الثالثة من هذه المجموعة. تتألف سورة الصف من مقدمة هي آية واحدة، وثلاث فقرات، كل فقرة مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ولنبدأ عرض السورة. ***

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتتألف من آية واحدة هي الآية الأولى وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصف (61): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) التفسير: سَبَّحَ لِلَّهِ أي: خضع منزها لله ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ على الإطلاق طوعا أو كرها وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي تخضع له الأشياء خضوع ذلة الْحَكِيمُ في فعله وشرعه وأمره وقدره. كلمة في السياق: الابتداء في السورة بهذه المقدمة إشعار بأن عليكم أن تخضعوا منزهين لله- عزّ وجل- فتعملوا، وإشعار بأن ما في السورة من معان هي مجلى لعزة الله تعالى وحكمته. *** الفقرة الأولى وتمتد من الآية (2) إلى نهاية الآية (9) وهذه هي: [سورة الصف (61): الآيات 2 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

التفسير

التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال ابن كثير: إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به كَبُرَ مَقْتاً المقت: أشد البغض عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ أي: كبر قولكم ما لا تفعلون مقتا عند الله. قال النسفي: وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه. أقول: وفيه دلالة على أن من آثار الإيمان أن يتطابق القول مع العمل، وأن يكون العمل على ما يحبه الله عزّ وجل، وهذا العقاب كان بسبب قول بعض الصحابة: (لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه) كما سنرى في الفوائد. فأنزل الله عزّ وجل السورة مبينا فيها أحب الأعمال إلى الله، وحاضا على مطابقة القول العمل، ومعاتبا أن يكون القول في واد والعمل في واد، وفي ذلك تهييج على فعل ما هو حبيب لله عزّ وجل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ أي: في طريقه، أي: في سبيل دينه وضمن شريعته، لا في

[سورة الصف (61): آية 5]

سبيل غيره ولا خارجين عن شريعته صَفًّا أي: صافين أنفسهم كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي: ملتصق بعضه ببعض، متماسك أشد التماسك، والمراد بذلك أن يدخلوا المعركة برأي موحد، وأن يأخذ كل منهم محله فيها، وألا يكون في صفهم كله خلل، قال قتادة: ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه فكذلك الله عزّ وجل لا يحب أن يختلف أمره، وأن الله صف المؤمنين في قتالهم، وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به. أقول: وعلى هذا فمعنى الآية: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا واحدا متحدا كأنهم بنيان مرصوص في تماسكه، والبنيان المرصوص له جدران وله سقف، وفيه ما يواجه، وفيه ما هو مستور، وفيه أشياء تؤدي خدمات، وهو مع هذا كله متماسك، ففي التشبيه بالبنيان إشارة إلى أن المراد بذلك: التماسك والتعاون وتكامل المواقف وعدم التخاذل وعدم وجود الثغرات، لا مجرد الاصطفاف، فعند ما تتعاون صنوف الأسلحة والرجال وكل الأجهزة لتحقيق الهدف دفاعا أو هجوما ضمن خطة واحدة وقيادة واحدة فذلك شئ يحبه الله عزّ وجل، وبعد أن بين الله عزّ وجل أن أحب الأعمال إليه القتال المنظم في سبيله يذكر في الآيات التالية مبررات القتال، فاليهود انحرفوا وانحرافهم يحتاج إلى قتال، والنصارى انحرفوا وانحرافهم يحتاج إلى قتال، والناس رفضوا الإسلام ظالمين، وهذا يحتاج إلى قتال، والناس يرغبون أن ينهوا هذا الإسلام ويستأصلوه، وهذا يحتاج إلى قتال، والله عزّ وجل أرسل رسوله بدينه الحق ليظهره على الأديان كلها وهذا يحتاج إلى قتال، وقد سيقت هذه المعاني كلها ضمن سياق يفيد ما ذكرناه، ويفيد معاني أخر، وهكذا نجد الآية القرآنية في محلها تعطيك مدلولات كثيرة ما كانت لتعطيك إياها لولا وجودها في محلها. ... وَإِذْ أي: واذكر إذ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قال ابن كثير: أي: لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة، وقال النسفي: أي: لم تؤذونني عالمين علما يقينيا أني رسول الله إليكم، وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني فَلَمَّا زاغُوا أي: مالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي: أمالها عن الهداية. قال النسفي: لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم، أو فلما اختاروا الزيغ أزاغ

كلمة في السياق

الله قلوبهم، أي: خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق، وقال ابن كثير: أي: فلما عدوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ قال النسفي: أي: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق. ... كلمة في السياق: 1 - ذكرنا من قبل أن السورة عند ما تفصل في محور فإنها تفصل في هذا المحور وارتباطاته وامتدادات معانيه في سورة البقرة، ويظهر هذا جليا في سورة الصف فهي تفصل في مقدمة سورة البقرة، وذلك هو محورها، وتفصل في ارتباطات المقدمة أي: في الآيات التي تليها مباشرة، وتفصل في امتدادات معاني المقدمة في سورة البقرة، ولذلك فهي تتعرض للقتال، وتتعرض لوجوب نصرة الله، ولذلك صلته بالتقوى وبالإيمان وبالاهتداء بكتاب الله عزّ وجل، وهي مواضيع رئيسية في مقدمة سورة البقرة، لها امتدادات في سورة البقرة فعلينا ونحن نتحدث عن سياق سورة الصف أن نتذكر هذا كله. 2 - وصف الله عزّ وجل بني إسرائيل في الآية السابقة بثلاثة أوصاف: (أ) إيذاؤهم موسى عليه السلام مع علمهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ب) زيغ قلوبهم عن أمر الله عزّ وجل. (ج) فسوقهم عن أمر الله، وضلالهم. فإذا كانت الطبيعة البشرية فيها مثل هؤلاء فهذا يقتضي قتالا، ولذلك فقد شرع القتال في الإسلام، وحقت محبة الله للمجاهدين في سبيله. 3 - هناك صلة بين المعاني الثلاثة التي ذكرتها الآية: إيذاء موسى، وزيغ القلوب، والفسوق، فالفسوق الكامل هو أثر عن زيغ القلوب، وزيغ القلوب له علاقة بسوء الأدب مع الرسول. 4 - هناك صلة بين قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وبين قوله تعالى في سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ

مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وهذا يفيد أن بني إسرائيل قد توافرت فيهم هذه الخصال كاملة، ومن ثم لا يهديهم الله عزّ وجل بهذا الدين، ولهذا الدين. 5 - في قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تفسير لقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فالختم على القلوب سببه أعمال أهلها، وزيغ قلوبهم وفسوقهم بنقض عهد الله، وقطعهم ما أمر الله به أن يوصل، وإفسادهم في الأرض. فالآية في محلها خدمت في تبيان حكمة تشريع الجهاد، وخدمت في تحذير المسلمين أن يسيروا على طريقة بني إسرائيل، وخدمت في تفصيل شئ من مقدمة سورة البقرة وفي ارتباطات المقدمة وامتدادات معانيها: لاحظ ما يلي: أ- يقول الله عزّ وجل: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وقال هاهنا في السورة: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ مما يفيد تلازم التقوى مع القتال في سبيل الله عزّ وجل، فهذا مظهر من مظاهر التفصيل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها. ب- في مقدمة سورة البقرة كلام عن المتقين والكافرين والمنافقين، وفي هذه السورة إنكار على نوع من المؤمنين كرهوا القتال عند ما فرض عليهم، وما ذلك إلا لمرض في قلوبهم، كما قال تعالى في سورة القتال: رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وتفسير المرض بالنفاق نصت عليه مقدمة سورة البقرة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً فأهل النفاق الذين يخالطون المؤمنين وهم في الظاهر منهم كانوا في الظاهر يتمنون القتال، وبعض أهل الإيمان كانوا يتمنونه كذلك، فلما فرض عليهم نكل أهل النفاق عنه، وبناء على هذا نقول: إن الآيات تفهمنا أن الإيمان الحقيقي ينبثق عنه قول يطابق فعلا، وأن النفاق ينبثق عنه قول لا يطابق فعلا، وأن مما ينبثق عن الإيمان جهاد الكافرين، ومن ثم فسورة الصف تعطينا تفصيلا لقضايا مرتبطة بمقدمة سورة البقرة. قال ابن كثير: (وحمل الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا

[سورة الصف (61): آية 6]

فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا* أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وقال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الآية، وهكذا هذه الآية معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز جل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟ وهذا اختيار ابن جرير). فهذا دليل على صلة معاني سورة الصف بما جاء في مقدمة سورة البقرة ولنتابع عرض الفقرة الأولى من سورة الصف: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ دل ذلك على أن رسالة عيسى عليه السلام كانت إلى بني إسرائيل خاصة، ونصوص الأناجيل الحالية مع كل ما طرأ عليها تذكر ذلك، وتؤكده كما سنرى في الفوائد مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وهذا كذلك موضوع مقرر ومذكور في الأناجيل الحالية على تحريفها؛ ولذلك فالنصارى يعتمدون كتب العهد القديم على خلاف بينهم في بعض الأمور، وإنما أذكر هذا لأن في دقة عرض القرآن لمثل هذه الأمور بمثل هذا البيان والإحاطة دليلا على ربانية مصدره وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ أقول: وهذا كذلك لا زالت نصوصه موجودة في الأناجيل الحالية على تحريفها لمن تأمل أصولها المترجمة عنها، أو رأى طبعاتها العربية الأولى، وعرف شيئا من معاني بعض الكلمات التي لم تترجم، وقد نقلنا ذلك كله في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) في فصل البشارات، ورأينا نموذجا عنه في هذا التفسير أثناء الكلام عن سورة الأعراف، ولنا في الفوائد عودة إليه، قال النسفي في الآية: يعني أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعا ممن تقدم وتأخر فَلَمَّا جاءَهُمْ أي: عيسى أو محمد عليهما السلام بِالْبَيِّناتِ أي: بالمعجزات قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: واضح، فوجود أمثال هؤلاء مع رغبتهم في إنهاء الإسلام مبرر من مبررات مشروعية القتال.

[سورة الصف (61): آية 7]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي: لا أحد أظلم من هذا، والمعنى: وأي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله، كأن يقول: هذا سحر، أو أن الله عزّ وجل لم يأمر بهذا، أو أن محمدا ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك من الافتراءات على الله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن سنته ألا يهدي من لا يستحق الهداية بسبب إجرامه، وأمام مثل هذا الموقف الأظلم، فإن القتال هو الحل؛ كيلا نعطي للكفر وللظلم فرصة للظهور والعلو. ... كلمة في السياق: رأينا في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي الآية الأخيرة عرفنا سببا من أسباب ذلك الختم وهو افتراء الكذب على الله الذي هو أشد الظلم لدفع دعوة الإسلام وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. ... يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ قال النسفي: هذا تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بتقولهم على القرآن، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، قال ابن كثير: أي: يحاولون أن يردوا الحق بالباطل، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل كذاك ذلك مستحيل، ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ قال النسفي: أي: متم الحق ومبلغه غايته وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذلك، وأمام إرادة الكافرين إطفاء نور الإسلام شرع الله القتال كحل وحيد على أننا لا نكره أحدا على الدخول في الإسلام. أقول: وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الإسلام في عصرنا حيث يرون أن مراد دول الكفر وأممهم وأذنابهم في الداخل إطفاء نور الله، ولكن حين يتعارض مرادان: مراد الله، ومراد خلقه، فإرادة الله هي النافذة، وإرادة الله إتمام نوره على رغم الكافرين، فالمستقبل إذن لهذا الدين. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي: بالقرآن أو بالهداية الشاملة للإنسان

كلمة في السياق

وَدِينِ الْحَقِّ أي: دين الله أو الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي: ليعليه على الدين كله، أي: على جميع الأديان المخالفة له وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ومن ثم فلا بد من القتال لإعلاء دين الهدى والحق على الضلال والباطل لإرغام أنوف أهل الضلال والباطل على أننا لا نكره أحدا على الدخول في الإسلام، وفي هذه الآية بشارة لهذه الأمة، كما أن فيها تعليلا لفرضية القتال وحضا وحثا، وبهذه الآية انتهت الفقرة. كلمة في السياق: رأينا في الفقرة تعليلا للأسباب التي لا يهدي الله عزّ وجل بسببها أهلها، وفي ذلك تفصيل لبعض المعاني الواردة في مقدمة سورة البقرة عن الكافرين، كما رأينا كلاما عن أنواع من الكافرين: يهود، ونصارى، ومشركين، وكافرين، وفي ذلك نوع تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة عن الكافرين، ورأينا في الفقرة مظهرا من مظاهر النفاق، وفي ذلك نوع تفصيل لما ذكر في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين، ورأينا في الفقرة مظاهر تنبثق عن الإيمان الحق، وكل ذلك نوع تفصيل لقضايا مرتبطة بما وصف الله عزّ وجل به المتقين في أول سورة البقرة، فالفقرة خدمت مقدمة سورة البقرة ضمن سياقها الخاص الذي رأينا طرفا من تسلسله والذي ملخصه ما يلي: بدأت السورة بذكر خضوع الأشياء كلها الله، وتنزيهها له، ثم عاتبت المؤمنين على انفصال القول عندهم عن العمل، لتصل إلى تقرير أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا، ثم ذكرت معاني تعرف من خلالها حكمة القتال في سبيل الله، وإذ تستقر هذه المعاني تأتيك فقرة تذكر طريق الفلاح عند الله وهو إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله، ولذلك صلته بمقدمة سورة البقرة أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالفلاح من جملة شروطه الجهاد، إما لأنه الأثر الصحيح للإيمان بالغيب، أو لأنه جزء من هدي هذا القرآن الذي يهتدي بهديه المتقون. فلنر الفقرة الثانية. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وهي أربع آيات من الآية (10) إلى نهاية الآية (13) وهذه هي: [سورة الصف (61): الآيات 10 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هذا يدل على أنه لا نجاة إلا بهذه التجارة، قال ابن كثير: ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قال النسفي: (كأنهم قالوا كيف نعمل؟ فقال تؤمنون ... ) وهو بمعنى آمنوا وجاهدوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله يَغْفِرْ لَكُمْ أي: ولذلك جزم الجواب، وإنما جئ به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين ذلِكُمْ أي: ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ أي: من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إن كان عندكم علم حقيقي ثم بين لم كان الإيمان بالله والرسول والجهاد خيرا لهم فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي: في جنات إقامة وخلود، قال ابن كثير: (أي: إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلات، وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[سورة الصف (61): آية 13]

أي: التجارة الرابحة، والفلاح الكبير وَأُخْرى تُحِبُّونَها أي: وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي: عاجل، أي: ولكم إلى هذه المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بأنها النصر والفتح القريب، قال ابن كثير: (فهي الزيادة وهي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر دينه) ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي: بشرهم يا رسول الله بذلك. كلمة في السياق: 1 - صلة هذه الفقرة بما قبلها واضحة، فبعد أن قررت الفقرة السابقة ضرورة القتال في سبيل الله، ومحبة الله لأهله، تأتي هذه الفقرة لتهيج على القتال، وتبين ما أعد الله لأهله، وما وعدهم به إذا آمنوا وجاهدوا. 2 - جاء في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ وجاء في الفقرة الأولى من سورة الصف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ وجاء في الفقرة الثانية من سورة الصف هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ لاحظ كلمة العذاب الأليم المشتركة بين مقدمة سورة البقرة وهذه الآية، مما يشير إلى أن الله عزّ وجل في سورة الصف يأمر عباده أوامر تمحصهم للتقوى والجنة وتخلصهم من أخلاق النفاق. 3 - يلاحظ في مقدمة سورة البقرة أن الله عزّ وجل ختم الكلام عن المتقين بقوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وختم الكلام عن المنافقين قبل أن يضرب لهم المثلين بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وفي هذه الفقرة من سورة الصف قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... فالفقرة إذن تفصل في التجارة الرابحة. 4 - يلاحظ أن هناك تشابها كبيرا بين الفقرة التي مرت معنا من سورة الصف، وبين آيات في سورة البقرة هي قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

الفقرة الثالثة والأخيرة

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ* يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ* كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ لاحظ التشابه بين هذه الآيات من سورة البقرة وبين الآية التي مرت معنا من سورة الصف: أ- جاء في سورة البقرة قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وفي فقرة الصف ورد قوله تعالى: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. ب- في الآيات السابقة من سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وفي فقرة سورة الصف ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بعد الأمر بالجهاد. ج- في الآيات السابقة من سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وفي فقرة سورة الصف ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. السر في هذا التشابه- والله أعلم- أن آيات سورة البقرة تلك هي امتداد لما جاء في مقدمة سورة البقرة، فجاءت سورة الصف لتشد إلى مقدمة سورة البقرة هذه المعاني، وتفصل في الجميع. *** الفقرة الثالثة والأخيرة وهي آية واحدة هي الآية (14) وهذه هي: [سورة الصف (61): آية 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

التفسير

التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي: أنصار دينه كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي: من معيني في الدعوة إلى الله، أو من جندي متجها إلى نصرة الله. قال النسفي: (أي: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصاري إلى الله) وقال ابن كثير: (يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) قال النسفي: ومعنى من أنصاري إلى الله أي: من الأنصار الذين يختصون بي، ويكونون معي في نصرة الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ قال ابن كثير: أي: نحن أنصارك على ما أرسلت به، ومؤازروك على ذلك. قال النسفي: والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا وحواري الرجل صفيه وخالصته فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى عليه السلام وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ به، قال ابن كثير: (أي: لما بلغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه ووازره من وازره من الحواريين اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم ... ) فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ قال النسفي: فقوينا مؤمنيهم على كفارهم. أقول: يحتمل أن يكون التأييد بالخوارق، فمن المعروف أن الحواريين قد أمدوا بالكرامات وخوارق العادات ولم يدخلوا قتالا. وذهب ابن جرير إلى رأي آخر ذكره ابن كثير ولم يذكر غيره وهو: أن التأييد للذين آمنوا من أصحاب عيسى كان ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وسننقل كلامه بالفوائد، وعلى هذا يكون بين النصرة وبين التبشير بإعلاء الإيمان مئات السنين، وإني أستبعد هذا الرأي؛ فالتأييد للحواريين كان بعد رفع عيسى عليه السلام، وذلك كما قلنا بأنواع الكرامات الكثيرة، فأصبحوا ظاهرين على غيرهم من بني إسرائيل في أنهم على الحق، واستجاب لهم خلق كثير في كل مكان، وهاهنا ظهرت ظاهرة بولس الانحرافية، وبدأ الصراع بين الأطراف من جديد، واستقر الأمر داخل الكنائس لصالح اتجاه بولس بدعم الدولة الرومانية بعد مئات السنين، ثم

كلمة في السياق

اختلفوا داخل هذا الاتجاه، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق ممن على دين المسيح الصحيح إلا قليل، يدل على ذلك قصة سلمان الفارسي كما نقلناها في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم)، ولا شك أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تأييدا للمؤمنين الحقيقيين بعيسى عليه السلام، إلا أن الآية تشير إلى التأييد الأول داخل بني إسرائيل، حيث أيد الحواريون بالخوارق الكثيرة مما كان لهم به الغلبة على الكافرين بعيسى من بني إسرائيل، وما يعتمده النصارى من كتب العهد الجديد، يشير إلى مثل هذا، وإن كان كل ما يذكر في كتب العهد الجديد يمثل مدرسة بولس المحرف لدين المسيح عليه السلام. كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بتبيان ضرورة موافقة العمل للقول، وتقرير أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، ثم ذكرت السورة مبررات القتال وأسبابه، وبشرت المؤمنين بالظهور، ثم حضت على الإيمان بالله والرسول والجهاد في سبيل الله، مبينة ثواب ذلك، ثم جاء وعد الله للمجاهدين المؤمنين بالنصر والفتح، ثم جاءت الفقرة الأخيرة تحض على نصرة الله، والتأسي بأصحاب عيسى في ذلك، وبيان ما أعطى الله أصحاب عيسى من التأييد الذي أمر الله رسوله أن يبشر به من جاهد، والذي وعد الله به هذا الدين بقوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، ولم تزل هذه الأمة مؤيدة منصورة إذا جاهدت، ولم يزل حملة دين الله وأنصاره يكرمهم الله عزّ وجل بأنواع التأييدات الربانية بالخوارق والكرامات، وقبول القلوب لهديهم، ومع صعوبة الظروف التي يعيشها المسلمون في عصرنا بسبب سيطرة الكفر وأهله على سياسة العالم، فإن الإسلام يزحف وينتشر، ومع أنه لا يقاتل اليوم إلا نادرا تحت راية (لا إله إلا الله) فإن التأييدات الربانية تظهر بمظاهر متعددة. وعند ما يفئ المسلمون إلى دينهم ويبدءون عملية الجهاد شاملة، فإن خارطة العالم كله ستتغير لصالحهم، ذلك وعد الله الذي لا يتخلف. 2 - في مقدمة سورة البقرة وصف للمتقين الذين من صفاتهم أنهم يؤمنون بالغيب، وفي الفقرة الأخيرة نداء لهؤلاء المؤمنين أن ينصروا الله عزّ وجل، ووعد ضمني لهم بالتأييد من خلال الكلام عن أسوتهم في ذلك. 3 - فصلت سورة الصف في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من

فوائد

مقدمة سورة البقرة، وفصلت في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وفصلت في قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وفصلت فيما يقابل ذلك من أخلاق الكفر والنفاق، وسنرى أن سورة الجمعة ستفصل في مقدمة سورة البقرة، ولكن في معان أخرى، ولننقل الآن بعض الفوائد المتعلقة ببعض الآيات. فوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قال ابن كثير: (إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، إذا اؤتمن خان». وفي الحديث الآخر في الصحيح: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» فذكر منهن إخلاف الوعد، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أردت أن تعطيه؟» قالت: تمرا، فقال: «أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة» وذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: تزوج ولك علي كل يوم كذا، فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك؛ لأنه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب). 2 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ قال ابن كثير: (فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى يقاتلون- في سبيل الله- من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان. روى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا

للقتال» ورواه ابن ماجه. وروى ابن أبي حاتم ... قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت: يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك، فقال: لله أبوك فقد لقيت فهات فقلت كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة، قال: أجل فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذي يحبهم الله عزّ وجل؟ قال: رجل غزا في سبيل الله خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ وذكر الحديث). ... وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال: (فليس مجرد القتال. ولكنه هو القتال في سبيله. والقتال في تضامن مع الجماعة المسلمة داخل الصف. والقتال في ثبات وصمود صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية. في جماعة ذات نظام؛ ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة؛ فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا. صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا؛ ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا. متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة. وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ... بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها، لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء ... إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم).

3 - بمناسبة قوله تعالى على لسان المسيح: مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ قال ابن كثير: (أي: وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه السلام وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد أقام في ملإ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الذي روى ... عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس تحت قدمي، وأنا العاقب» ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال: «أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفي ونبي الرحمة والتوبة والملحمة» ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به، وقد قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ الآية، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وروى محمد ابن إسحاق ... عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال: «دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» وهذا إسناد جيد وروى له شواهد من وجوه أخر). أقول: إن الترجمات العربية الأولى للأناجيل كانت تتحدث عن (الفارقليط) وهي كلمة يونانية لم يترجمها المترجمون وقتذاك، وقد تتبعها المسلمون فتبين لهم أنها تعني أحمد، فلما انتشر ذلك ترجمها المترجمون في الطبقات اللاحقة باسم المعزي، أو المخلص. قال الألوسي: (والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد، وبعضهم بالحامد فيكون في

كلمة أخيرة في سورة الصف

مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى: فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم، بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلى الله عليه وسلم بعنوان التخليص فيستدل به على ثبوت رسالته صلى الله عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا). وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب النجار قصة جرت له مع مستشرق إيطالي سماه في كتابه (قصص الأنبياء) وكيف أن المستشرق أقر له بأن كلمة الفارقليط مشتقة من الحمد، وقد توسعنا في هذا الموضوع في كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) فليراجع. قال صاحب الظلال: (وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها. فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن. وقد قرئ القرآن على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... وأقر بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام بهذه الحقيقة، التي كانوا يتواصون بتكتمها! كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبي قد أظلهم زمانه، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين من أحبار النصارى في الجزيرة العربية. ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم. فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم، كرهوا هذا وحاربوه! وعلى أية حال فالنص القرآني بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار. وهو القول الأخير). كلمة أخيرة في سورة الصف: رأينا وحدة سياق سورة الصف، كما رأينا صلة السورة بمحورها من سورة البقرة وكيف أن السورة شدت إلى محورها آيات موجودة في أعماق سورة البقرة، وفصلت في الجميع مما يشير إلى ارتباط وثيق بين معاني مقدمة سورة البقرة ومعاني تلك الآيات، مما يؤكد أن السور التي تأتي بعد سورة البقرة تفصل في محاور من سورة البقرة وفي ارتباطات هذه المحاور، وامتدادات معانيها، وقد رأينا هذا الموضوع من قبل وسنراه كثيرا، وفي سورة الجمعة نموذج واضح على ذلك.

سورة الجمعة

سورة الجمعة وهي السورة الثانية والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الرابعة من قسم المفصل، وهي إحدى عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الجمعة

بين يدي سورة الجمعة: قدم الألوسي لسورة الجمعة بقوله: (مدنية كما روي عن ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وإليه ذهب الجمهور، وقال ابن يسار: هي مكية، وحكي ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث، وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالاتفاق، ولأن أمر الانفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذا أمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ الخ- لم يكن إلا بالمدينة- وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود، وأيضا لما حكى هناك قول عيسى عليه السلام: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ قال سبحانه هنا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى، وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه (تجارة) ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة، أما في الأولى فظاهر، وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة، وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الاصطفاف إلى غير ذلك، وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم- كما أخرج مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس- يقرأ في الجمعة بسورتها وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ. وأخرج ابن حبان، والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقون- وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة).

كلمة في سورة الجمعة ومحورها

ومن تقديم صاحب الظلال للسورة نقتطف ما يلي: (نزلت هذه السورة بعد سورة (الصف) السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف، ولكن من جانب آخر، وبأسلوب آخر، وبمؤثرات جديدة. إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية؛ وأن هذا فضل من الله عليها؛ وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين- وهم العرب- منة كبرى تستحق الالتفات والشكر، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول، واحتملت الأمانة؛ وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة، فقد قدر الله أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعد ما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء؛ وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا، ولا وظيفة له في إدراكها، ولا مشاركة له في أمرها! تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص، وهم الذين ناط الله بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان. وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى، في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية؛ فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به- على عادة الجاهلية- من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة! وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون! كما تذكر الروايات). كلمة في سورة الجمعة ومحورها: 1 - تبدأ سورة الجمعة بما بدأت به المسبحات، مع فارق أن فعل التسبيح فيها جاء بصيغة المضارع، وأن اسمين آخرين للذات الإلهية قد ذكرا في الآية الأولى منها وهما

(الملك والقدوس) وبهذا يكون قد جاء في الآية الأولى منها أربعة أسماء لله عزّ وجل، وهذا يشير إلى أن السورة مجلى لهذه الأسماء كلها. 2 - بعد الآية الأولى من السورة يأتي قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويأتي في سياق السورة قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ثم يأتي في سياق السورة قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ولذلك كله علاقته بمقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ .... 3 - وسورة الجمعة تتحدث عن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ولذلك صلة بقوله تعالى في سورة البقرة: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ كما تتحدث عن كراهية اليهود للموت: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ... وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ولهذا صلة بما جاء في سورة البقرة عن اليهود: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ .... وتعليل هذا أن من امتدادات معاني مقدمة سورة البقرة هذه الآيات، فجاءت سورة الجمعة تفصل في مقدمة سورة البقرة وامتدادات معانيها. 4 - تتألف سورة الجمعة من مقدمة وثلاث فقرات واضحة التمايز، واضحة الترابط، أما المقدمة فآية واحدة، وأما الفقرة الأولى فثلاث آيات، وأما الفقرة الثانية فأربع آيات، وأما الفقرة الثالثة فثلاث آيات، ولنبدأ عرض السورة. ***

المقدمة والفقرة الأولى

المقدمة والفقرة الأولى وهما من الآية (1) إلى نهاية الآية (4) وآياتهما هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) التفسير: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض، أي: من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها) قال النسفي: (هذا التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة، يعني: إذا نظرت إلى كل شئ دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شئ ما يعرف به الله تعالى وينزهه، ألا ترى إلى قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك) الْمَلِكِ أي: المالك للسماوات والأرض، المتصرف فيهما بحكمه الْقُدُّوسِ أي: المنزه عن النقائص، الموصوف بصفات الكمال الْعَزِيزِ الذي لا يمانع ولا يغالب الْحَكِيمِ في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، ومعنى الآية: يسبح لله الملك القدوس العزيز الحكيم ما في السموات وما في الأرض، هذا الإله العظيم المتصف بالمالكية والقدوسية والعزة والحكمة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ أي: العرب رَسُولًا مِنْهُمْ أي: من العرب الأميين،

[سورة الجمعة (62): آية 3]

أي: من أنفسهم، وسمى العرب أميين لأنهم لم ينزل عليهم كتاب سابق. قال ابن كثير: (وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر) يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي: يقرأ عليهم القرآن وَيُزَكِّيهِمْ أي: ويطهرهم من لوثات الشرك وخبائث الجاهلية وسيئات الأخلاق وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي: القرآن والسنة، وهذا يفيد أن تلاوة الآيات شئ وتعليمها شئ آخر، وأن التزكية شئ زائد على مجرد التلاوة والتعلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يتلو ويعلم ويزكي، فالتلاوة قراءة وعرض، والتعليم معنى زائد يراد به تفهيم الكتاب والسنة، والتزكية معنى زائد على كليهما وَإِنْ كانُوا أي: وإن كان هؤلاء العرب مِنْ قَبْلُ أي: من قبل محمد صلى الله عليه وسلم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في كفر وجهالة، قال النسفي: أي: كانوا في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه وَآخَرِينَ مِنْهُمْ أي: بعثه في آخرين من الأميين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال النسفي: أي: لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين، والمعنى: أن الله بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي الأميين الذين سيأتون من بعدهم، وهذا يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب إلى قيام الساعة، وكما قال ابن كثير: وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال النسفي: أي: في تمكينه رجلا أميا من ذلك الأمر العظيم، وتأييده له، واختياره إياه من بين كافة البشر ذلِكَ قال ابن كثير: يعني: ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة، وما خص به أمته من بعثه عليه الصلاة والسلام إليهم، وقال النسفي: (أي: الفضل الذي أعطاه محمدا وهو أن يكون نبي أبناء عهده، ونبي أبناء العصور الغوابر) أقول: والعصور البواقي فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إعطاءه وتقتضيه حكمته وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي عم فضله الجميع وفاضل بهذا الفضل من شاء بما شاء. كلمة في السياق: 1 - التقديم للسورة بذكر أسماء الله عزّ وجل الملك القدوس العزيز الحكيم وأن يعقب ذلك الحديث عن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأميين يفيد أن اختصاص الله عزّ وجل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، واختصاص العرب بهذا الفضل هو أثر مالكيته، وأنه ليس في ذلك الاختيار نقص، لأن الله عزّ وجل منزه عن النقائص فهو القدوس، وأن ذلك أثر عزته

ومظهر حكمته، فمن اعترض على ذلك فإنه لا يعرف جلال الله. فلا يعترض على ذلك إلا جاهل. 2 - يلاحظ أن سورة البقرة ذكرت في الآية (129) على لسان إبراهيم عليه السلام: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وأن سورة البقرة ذكرت في الآية (151) قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وقد رأينا أثناء الكلام عن سورة الصف قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن عند ما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» هذا كله يفيد المنة ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما بعثه الله عزّ وجل به، ومن ذلك تلاوة القرآن، وتعليمه مع الحكمة، وتزكية الأنفس على ذلك، ولذلك صلته بمقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. 3 - إن ما ذكرناه في النقطة السابقة فيه نموذج على ما ذكرناه من قبل من كون الفقرة السابقة تعرضت لموضوع في أعماق سورة البقرة، فعرضته في سورة تفصل في مقدمة سورة البقرة للإشارة إلى أن هذا الموضوع مشدود بسبب إلى تلك المقدمة. 4 - وبعد أن ذكر الله عزّ وجل في الفقرة السابقة ما ذكر من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأميين ليعلمهم الكتاب والسنة ويزكيهم، تأتي فقرة تحدثنا عن تقصير بني إسرائيل في حملهم الكتاب الذي أنزل عليهم، وفي ذلك درس للعرب ألا يكونوا مثلهم، كما تتحدث عن دعاوى بني إسرائيل مع الله، وتفنيدها، وفي ذلك درس للمدعين من هذه الأمة الذين لا يحملون القرآن حق الحمل، ويزعمون أنهم من الله عزّ وجل في المقام الأعلى، فلنر الفقرة الثانية بعد أن عرضنا صلتها بما قبلها. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (8) وهذه هي: [سورة الجمعة (62): الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) التفسير: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها قال النسفي: (أي مثل الذين كلفوا علمها والعمل بما فيها ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها) كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً السفر: هو الكتاب الكبير، قال ابن كثير: (يقول تعالى ذاما اليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا، أي: كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه، حفظوه لفظا ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير؛ لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها). وقال النسفي: (شبه اليهود- في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به فلم يؤمنوا به- بالحمار حمل كبارا من كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهو مثله). بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا

[سورة الجمعة (62): آية 6]

بِآياتِ اللَّهِ وهم اليهود وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بسبب اختيارهم الظلم، دل هذا على أن عدم حمل التوراة حق الحمل تكذيب بها، وظلم يستحق به صاحبه الإضلال، وفي ذلك درس لهذه الأمة التي حملت القرآن ألا تكون كتلك الأمة المكذبة الظالمة، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطب اليهود خطابا، ويتحداهم تحديا، ويذكر حقيقتهم ويؤنبهم في موضوع يدل على أن اليهود مع حملهم السيئ للتوراة كانوا يدعون الدعاوى العريضة مع الله عزّ وجل، كحال كثير من هذه الأمة الآن، لا يعرفون القرآن أصلا، ويحاربونه عمليا، ويزعمون أنهم من الله في المقام الأعلى فلنر الخطاب: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي: يا أيها المتهودون، أي: يا أيها اليهود إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال النسفي: أي: إن كان قولكم حقا وكنتم على ثقة من كلامكم فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، أقول: دل ذلك على أن ميزان الولاية لله استعداد الإنسان للقاء الله، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة أن تتمنى الموت، ومن ثم قلنا إن ميزان ولاية الله أن يكون عند ولي الله استعداد للقاء الله، فهو في كل لحظة على استعداد لهذا اللقاء، ولما كان اليهود أبعد الناس عن هذه الولاية بسبب معرفتهم اليقينية أنهم ليسوا كذلك، ولعلم الله المحيط بهم، قال تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: بسبب ما قدموا من الكفر والظلم والفجور وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ولعلمه بهؤلاء اليهود أخبر تعالى عن حالهم هذا، وفي ذلك معجزة لهذا القرآن، إذ يخبر عن أمر يتصل بموقف شعب كامل في أمر مستقبل، ثم لا تجد فردا من أفراد هذا الشعب يخرج عن هذا الإخبار. ولكن هل هذا الإخبار عمن كان يواجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، فالمعجزة في رفضهم وحدهم، أم أن هذا الإخبار عنهم قائم إلى قيام الساعة؟ ظاهر كلام المفسرين الأول، فهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره. ثم قال تعالى مؤنبا لهم على فرارهم من الموت، وإنذارا لهم بالموت كي يرجعوا عما هم فيه من الضلال: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا محالة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب. كلمة في السياق: 1 - جاءت هذه الفقرة بعد الفقرة التي ذكر الله عزّ وجل فيها بعثة رسول الله

صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الفقرة بعد تلك تأنيبا ودعوة لليهود، ودرسا لهذه الأمة ألا يكون حملها لكتابها كحمل اليهود، وألا يكون لها دعاوى كاذبة، وأن تكون مستعدة للقاء الله عزّ وجل. 2 - حدد الله عزّ وجل في أول سورة البقرة صفات المتقين التي من جملتها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وحصر الفلاح والهداية فيهم فقال: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بينما اليهود يدعون أنهم هم أولياء الله عزّ وجل، وقد نقض الله زعمهم ذلك بتحديهم، وفي ذلك إثبات أن ولايته عزّ وجل محصورة بهذه الأمة. 3 - في مقدمة سورة البقرة كلام عن الكافرين الذين ختم الله على قلوبهم، وفي الفقرة التي مرت معنا قال الله عزّ وجل: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بعد أن ذكر أوصاف هؤلاء الظالمين فعلمنا بذلك بعض هؤلاء الذين يستحقون الختم على قلوبهم بسبب أعمالهم. 4 - في مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وفي الفقرة التي مرت معنا درس لأهل الإيمان في ألا يكون حملهم لكتاب الله كحمل اليهود للتوراة، ومن ثم ورد قوله تعالى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ. 5 - يلاحظ أنه قد ورد في سورة البقرة في الآيات (94 - 96) ما يلي: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وهو نفس المعنى الذي تعرضت له سورة الجمعة، مما يشير إلى أن هذا المعنى في سورة البقرة مشدود إلى مقدمتها بصلة. 6 - وبعد الدرس الذي أعطاه الله عزّ وجل للمؤمنين في الفقرة الثانية يتجه الآن الخطاب في الفقرة الثالثة إلى المؤمنين في موضوع هو من أخطر المواضيع الحساسة في حياة الأمة الإسلامية، وهو صلاة الجمعة، يأتي هذا بعد أن رفع الله عزّ وجل الاستعداد للتلقي عند المسلم إلى أعلاه بهذا المثل الذي ضربه الله عن اليهود في حملهم السيئ للتوراة، فلنر الفقرة الثالثة.

الفقرة الثالثة

الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (9) إلى نهاية السورة، أي: إلى نهاية الآية (11) وهذه هي: [سورة الجمعة (62): الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ بالأذان لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قال ابن كثير: (إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه، في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار ... وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة أي: في وقت الظهر بعد الزوال) فَاسْعَوْا أي: فامضوا، قال الفراء: السعي والمضي والذهاب واحد، وليس المراد به السرعة في المشي. قال ابن كثير: أي: اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع، وإنما هو الاهتمام بها (أي: بالصلاة) قال قتادة: يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها (أي: إلى الصلاة) وقال النسفي في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي: امضوا إلى الخطبة عند الجمهور، وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز وَذَرُوا الْبَيْعَ قال ابن كثير: أي: اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة؛ ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا على قولين، وظاهر الآية عدم الصحة، كما هو مقرر في موضعه، وقال النسفي في قوله تعالى: وَذَرُوا

[سورة الجمعة (62): آية 10]

الْبَيْعَ: (أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال؛ فقيل لهم بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شئ أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير) ذلِكُمْ أي: السعي إلى ذكر الله خَيْرٌ لَكُمْ من البيع والشراء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كان عندكم علم حقيقي. قال ابن كثير: أي: ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم، أي: في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي: فإذا أديت الصلاة، أي: فإذا فرغ منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ قال النسفي: أمر إباحة وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال النسفي: (المراد بذلك الرزق، أو طلب العلم، أو عيادة المريض، أو زيارة أخ في الله). قال ابن كثير: لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء، وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً قال النسفي: أي: واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: لتفلحوا في دنياكم وأخراكم، قال ابن كثير في تفسير الأمر بالذكر في هذا المقام: أي: في حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكرا كثيرا، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها خص التجارة بالذكر لأنها كانت أهم عندهم وَتَرَكُوكَ قائِماً أي: على المنبر تخطب، والآية تعاتب على حادثة وقعت ثم لم يعد المسلمون إلى ذلك بعد هذا الدرس قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته. وقال النسفي: أي: لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خير الرازقين، وهذه الآية عتاب لمن فعل ذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحذير لكل من يفضل لهوا أو تجارة أو عملا على الاستماع لخطبة الجمعة، ووعد لكل من يفضل خطبة الجمعة على أي: شئ آخر بالأجر والرزق والتعويض. كلمة في السياق: 1 - قدم الله عزّ وجل للأمر بصلاة الجمعة بشيئين: أولا: تبيان ما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلاة الجمعة شرعت لإحيائه والتذكير به، والحث عليه. ثانيا: موقف بني إسرائيل من التوراة، وصلاة الجمعة شرعت لتبعد المسلمين عن الإهمال لأمر

الفوائد

الله، فالصلات بين فقرات السورة قائمة. 2 - إن ذكر تشريع الجمعة وبعض ما يتعلق بها في سياق سورة الجمعة يعطينا دلالات معينة منها: أن صلاة الجمعة وخطبتها ينبغي أن تحقق ما بعث من أجله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تجنب هذه الأمة ما وقعت فيه بنو إسرائيل، وفي ذلك درس لخطيب الجمعة وللمستمع، هذا وقد ذكر في الفقرة الأخيرة كل ما ينهض على أداء الجمعة، ويبعد عن إهمالها، كما ذكر مقدمة لذلك كل ما يبعث عليها، وفي ذلك درس من دروس هذا القرآن إذ يجعل التكليف في إطار يحمل على غاية الالتزام. 3 - رأينا صلة الفقرتين الأوليين بمقدمة سورة البقرة، وأما صلة الفقرة الأخيرة فمن حيث إن مقدمة سورة البقرة ذكرت أن من صفات المتقين وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وإقامة صلاة الجمعة من أهم ما يدخل تحت قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وفي ذلك نوع تفصيل لما يدخل تحت إقامة الصلاة من مقدمة سورة البقرة. 4 - نلاحظ أن صفات المتقين في مقدمة سورة البقرة ختمت بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ونلاحظ أن الله عزّ وجل قال في الفقرة الأخيرة: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ مما يشير إلى أن الفقرة الأخيرة تفصل في طريق الفلاح الذي أجملته الآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة، وهكذا رأينا صلة فقرات سورة الجمعة كلها بمحورها من سورة البقرة، ورأينا كذلك وحدة سياق السورة، وصلة فقراتها ببعضها، ولعل القارئ لا يغيب عنه ذكر اسم الله الملك في ابتداء السورة، وذكر قوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ في آخرها مما يؤكد أن السورة مجلى لظهور أسماء الله التي وردت في أولها. ولنكتف الآن بهذا القدر عن سياق السورة ولنذكر بعض الفوائد المتعلقة ببعض آياتها. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ قال ابن كثير: (الأميون هم العرب كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر كما قال تعالى

في قوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به، وكذا قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وقوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقوله تعالى إخبارا عن القرآن: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فبعثه الله سبحانه وتعالى- وله الحمد والمنة- على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، أي: نزرا يسيرا ممن بقي على ما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ولهذا قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وذلك لأن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام، فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركا، وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها، وأولوها، فبعث الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى، حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع، وجمع له تعالى- وله الحمد والمنة- جميع المحاسن ممن كان قبله، وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين، ولا يعطيه أحدا من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين). وقال صاحب الظلال: (قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون- في الأعم الأغلب- وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال: «إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب» ... وقيل: إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم، لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم. وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم: إنهم «جوييم»

باللغة العبرية أي: أمميون. نسبة إلى الأمم- بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم! - والنسبة في العربية إلى المفرد ... أمة ... أميون. وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة. ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم. فيجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذلة. وكانوا يستفتحون بهذا على العرب، أي: يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير). 2 - عند قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يقع بعض المفسرين في خطأ هو أنهم يرجعون الضمير إلى غير الأميين الذين هم العرب، وقد ضعف النسفي هذا الاتجاه، بينما لم يذكر ابن كثير غيره مع أن الظاهر أن الضمير يعود على العرب، ومنشأ الغلط يعود إلى فهم خاطئ لحديث، فلننقل هذا الحديث وتفسير ابن كثير للآية ثم نعلق عليه، قال ابن كثير: (روى الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال- أو رجل- من هؤلاء» ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق ... عن أبي هريرة به، ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية، وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، لأنه فسر قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله عزّ وجل، وإلى اتباع ما جاء به، ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال: هم الأعاجم، وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب. وروى ابن أبي حاتم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يعني: بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم). أقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر بأن المراد بالآخرين هم فارس، بل قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء» ولكون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ورد في سياق السؤال عن هؤلاء الآخرين، ظن الظانون أن المراد بالآخرين فارس أو الأعاجم، وعندي أن الأمر ليس كذلك، فالآية

واضحة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يلفت النظر إلى أن غير العرب كذلك سيكون لهم حظ أعلى من هذا الدين، فذكر الفرس، والآية كما فسرناها أقوى رد على من يزعم من العرب أن هذا الإسلام لجيل انتهى، وأن هذا الجيل لا يخاطب به، وأقوى دعوة لعرب اليوم من أجل أن يلحقوا بالسابقين من أسلافهم، وأعظم حجة على أن العرب في كل الأجيال هم المخاطبون الأوائل بهذه الرسالة، ومن ثم فعليهم بالدرجة الأولى تقع مسئولية حملها، ولهم حق القيادة إن قاموا بحقها، ويشهد ذلك قوله تعالى من قبل: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فالاستبدال يكون في حال التولي، فمتى يعقل عرب اليوم هذا؟ وقوله تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ فيه إشارة إلى فضل السابقين، ولذلك قال الألوسي بمناسبة هذه الآية: (وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي- وإن جل قدرا- في الفضل مرتبة صحابي، وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية، وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز؛ فقد صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الخ فقال معاوية: آمين، واستدل على عدم اللحوق بما صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره» فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة: لا يدرى ظهارته خير أم بطانته). 3 - بمناسبة قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت ليس له جمعة»). أقول: إن هذا الحديث يدل على أن ذكر الجمعة والأمر به في سياق هذه السورة مرتبط بالمعاني التي تقدمته وسبقته فكانت مقدمة له. 4 - بمناسبة الكلام عن اليهود وعدم تمنيهم الموت في قوله تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً ... قال ابن كثير: (وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود حيث قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ... وقد استوفينا الكلام هناك، وبينا أن المراد أن يدعوا على الضلال من أنفسهم أو خصومهم كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ومباهلة المشركين في سورة مريم قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم). 5 - يلاحظ أن الله عزّ وجل قال في سورة البقرة: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وقال هاهنا: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً هناك قال: وَلَنْ وهنا قال: وَلا قال النسفي: (لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في لن تأكيدا وتشديدا ليس في لا، فأتي مرة بلفظ التأكيد وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ ومرة بغير لفظه وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ). 6 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ قال ابن كثير: (وفي معجم الطبراني ... عن الحسن عن سمرة مرفوعا: «مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره، فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني فخرج له حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه»). 7 - بمناسبة الكلام عن الجمعة في السورة قال ابن كثير: (إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار، وفيه كمل جميع الخلائق؛ فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم

الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح. وروى ابن أبي حاتم عن قرثع الضبي عن سلمان قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان ما يوم الجمعة؟» قلت: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم- أو أبوكم-» وقد روى عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا فالله أعلم، وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة، وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة، كما أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» لفظ البخاري وفي لفظ لمسلم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل يوم الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة؛ نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق» وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ). 8 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال ابن كثير: (المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه، فهذا هو المراد، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنما كان هذا لكثرة الناس كما رواه البخاري رحمه الله حيث روى عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان بعد زمن، وكثر الناس، زاد النداء الثاني على الزوراء يعني يؤذن به على الدار التي تسمى الزوراء، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد. وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أن النداء كان في الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة، وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به، فأمر عثمان رضي الله عنه أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس. وإنما يؤمر

بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض، وقيم المريض، وما أشبه ذلك من الأعذار كما هو مقرر في كتب الفروع). 9 - بمناسبة قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال ابن كثير: (وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها (فامضوا إلى ذكر الله) فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» لفظ البخاري وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: «ما شأنكم؟» قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: «فلا تفعلوا: إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» أخرجاه. وروى عبد الرزاق ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا». رواه الترمذي ... عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله. قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ يعني: أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: المشي معه، وروي عن محمد بن كعب وزيد ابن أسلم وغيرهما نحو ذلك). وبمناسبة هذا النص قال الألوسي: (إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر، وأبو هريرة، ويونس، والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري، وابن المنكدر، وقال مالك، والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء، أو لم يسمع، لا على من هو خارج المصر، وإن سمع النداء؛ وعن ابن عمر، وابن المسيب، والزهري، وأحمد، وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها، سواء كان إذن عام

أم لا، وسواء أقامها سلطان، أو نائبه، أو غيرهما أم لا، لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة). وقال ابن كثير: (ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» ولهما عن سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام. يغسل رأسه وجسده» رواه مسلم، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كل رجل مسلم في سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة» رواه أحمد والنسائي وابن حبان. وروى الإمام أحمد عن أوس بن الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها» وهذا الحديث له طرق وألفاظ وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحسنه الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» أخرجاه. ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويتسوك ويتنظف ويتطهر، وفي حديث أبي سعيد المتقدم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك، وأن يمس من طيب أهله» وروى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن عبد الله ابن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فقال: «ما على أحدكم إن

وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته» رواه ابن ماجه). 10 - بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال ابن كثير: (كما كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني؛ فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. رواه ابن أبي حاتم. وروي عن بعض السلف أنه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول الله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: في حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وإعطائكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: «من دخل سوقا من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة» وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا). وبمناسبة الأمر بالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله قال الألوسي: (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا، والأمر للإباحة على الأصح، فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد، ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك، ومجاهد. وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب، وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد، فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شئ تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ الخ. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشئ وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق).

أقول: فهم بعضهم من الآية حرمة التعطيل يوم الجمعة، وليس الأمر كذلك؛ فقد رأينا أن هناك من فهم قوله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بأن المراد به طلب الفضل الأخروي بأن يعود الإنسان مريضا، أو يزور أخا في الله، وقد رأينا أن الأمر للإباحة على الأصح، فإذا ما فرغ المسلم يوم الجمعة لبعض الحاجات فذلك مباح له، بل نرجو أن يكون مأجورا في ذلك إن شاء الله. 11 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قال ابن كثير: (يعاتب الله تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً أي: على المنبر تخطب، هكذا ذكره غير واحد من التابعين منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة، وزعم مقاتل بن حيان: أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم، وكان معها طبل، فانصرفوا إليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر إلا القليل منهم، وقد صح بذلك الخبر فقد روى الإمام أحمد عن جابر قال: قدمت غير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها أخرجاه في الصحيحين من حديث سالم به. وروى الحافظ أبو يعلى عن جابر ابن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» ونزلت هذه الآية وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً وقال كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس، ولكن هاهنا شئ ينبغي أن يعلم وهو: أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل). قال الألوسي- وهو حنفي-: (واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر، بناء على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد

كلمة أخيرة في سورة الجمعة

الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك كان دالا على صحتها باثني عشر رجلا بلا شبهة، لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه: إذا كبر وهم معه مضى فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداء فلا بد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة، لأن ما دونها ليس بصلاة، فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة؛ لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها). كلمة أخيرة في سورة الجمعة: إن سورة الجمعة نموذج للسورة التي لها سياقها الخاص، وهي تفصل في محور سورة البقرة مع شدها لهذا المحور معاني مرتبطة به في أعماق سورة البقرة، وكل ذلك فصلناه من قبل، وصلة بدايتها بنهاية سورة الصف واضحة: فسورة الصف تنتهي بالدعوة إلى نصرة الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ وتبدأ سورة الجمعة بالكلام عن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضمونها، وهو الشئ الذي ينبغي أن ينصر، وفي أثناء الكلام عن محور سورة المنافقون تفصيلات حول السورتين فلننتقل إلى الكلام عن سورة المنافقون. ***

سورة المنافقون

سورة المنافقون وهي السورة الثالثة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة والأخيرة من المجموعة الرابعة من قسم المفصل، وهي إحدى عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة المنافقون

بين يدي سورة المنافقون: قدم الألوسي لسورة (المنافقون) بقوله: (مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون، ولهذا أخرج سعيد بن منصور، والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين. وفي الثانية بسورة المنافقون فيقرع بها المنافقين، وقال أبو حيان في ذلك: إنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة، إذ كان الوقت وقت مجاعة جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان، وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم، والأول أولى). ومن تقديم صاحب الظلال لهذه السورة: (وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب. وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين، ولو من بعيد. وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله، والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات). وفي سبب نزول هذه السورة نذكر هذه الروايات نقلا عن ابن كثير: (وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري وكان أجيرا لعمر بن الخطاب، وسنان بن يزيد قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا

عنكم من بلادكم إلى غيرها، فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غليم عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره الخبر، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه! لا، ولكن ناد يا عمر الرحيل» فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم، وكان عند قومه بمكان، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أو هم ولم يثبت ما قال الرجل، وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال: والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل» قال: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل، ثم قال: ارفق به يا رسول الله فو الله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا، وصدر يومه حتى اشتد الضحى، ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقون. وقد روى ابن أبي حاتم رحمه الله عن محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو ابن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع، وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر، فبعث رسول الله خالد بن الوليد فكسر مناة، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، أحدهما من المهاجرين والآخر من بهز، وهم حلفاء الأنصار، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي، فقال البهزي: يا معشر الأنصار، فنصره رجال من الأنصار وقال المهاجري: يا معشر المهاجرين، فنصره رجال من المهاجرين، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شئ من القتال، ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا: قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع، قد تناصرت علينا الجلابيب- وكانوا يدعون كل حديث الهجرة الجلابيب- فقال عبد الله بن أبي عدو الله: والله لئن رجعنا

إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال مالك بن الدخشن- وكان من المنافقين-: ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا؟ فسمع بذلك عمر بن الخطاب، فأقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه- يريد عمر عبد الله بن أبي-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» فقال عمر: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس» فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار، ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» قال: نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آذنوا بالرحيل» فهجر الناس فسار يومه وليلته والغد حتى منع النهار، ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟» فقال عمر: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله لقتلوه، فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرا» وأنزل الله عزّ وجل هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلى قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ الآية وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه، وروى محمد بن إسحاق بن يسار أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك فقال له: ما لك ويلك؟ فقال: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان إنما يسير ساقة- فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه فقال ابنه

كلمة في سورة المنافقون ومحورها

عبد الله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن، وروى أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لأبيه: والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي). كلمة في سورة المنافقون ومحورها: تحدثت مقدمة سورة البقرة عن المتقين والكافرين والمنافقين، وقد فصلت سورتا الصف والجمعة في مواضيع تتعلق بصفات المتقين والكافرين، ورأينا في سورة الصف ما ينبغي أن ينبثق عن الإيمان، ورأينا في سورة الجمعة الأصل الذي ينبثق عنه كل شئ، وهو بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رأينا في سورة الجمعة شيئا له علاقة بالصلاة، وفي سورة الصف ذكر الجهاد بالمال، وله صلة بالإنفاق، وهذا كله له علاقة بصفات المتقين. وذكرت في السورتين قضايا مرتبطة بموضوع الكفر الذي لا يهدي الله أهله فذكر في سورة الصف قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وذكر فيها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وذكر في سورة الجمعة قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وفي ذلك كله تفصيل لسبب الختم الذي يختم به الله على قلوب الكافرين فلا يقبلون موعظة، وفي ذلك تفصيل لما ورد في مقدمة سورة البقرة من كلام عن الكافرين، ويأتي بعد ذلك في مقدمة سورة البقرة الكلام عن المنافقين، والملاحظ أن سورة المنافقون تفصيل لبعض ما ورد عن المنافقين في سورة البقرة فمثلا: في مقدمة سورة البقرة نجد قوله تعالى عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ونجد في الفقرة الأولى من سورة المنافقون قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. وفي مقدمة سورة البقرة نجد قوله تعالى عن المنافقين: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ والآية الأولى من سورة المنافقون تقول: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ .... وفي مقدمة سورة البقرة نجد قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.

وسورة المنافقون تدل على الطريق الذي ينجي من الخسارة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ومن هذه الموافقات ندرك أن سورة المنافقون تفصل في مقدمة سورة البقرة بما يكمل تفصيل سورتي الصف والجمعة، ولتذكر المحور الذي تفصل فيه سورة المنافقون، نذكر الآيات الواردة في المنافقين من مقدمة سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ* مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ* أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وتبيان كيفية التفصيل سنراه أثناء عرض السورة، لكنا هنا نسجل ملحوظة هامة وهي: بعد أن قررت آيات سورة البقرة حقيقة النفاق ذكرت لنا ثلاثة مواقف للمنافقين نتعرف عليهم من خلالها، كل موقف مبدوء بقوله تعالى: وَإِذا. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا .... وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا .... وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا .... والملاحظ أن سورة المنافقون تبدأ بقوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ

الفقرة الأولى

إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ .... ثم بعد آيتين يأتي قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ .... ثم بعد هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ .... وهكذا نجد أن سورة المنافقون تزيدنا تفصيلا عن المنافقين بما يشبه الاستمرار لما ورد في سورة البقرة في عرض مواقفهم للتعريف بهم. وتختم السورة بخطاب المؤمنين بمعان هي في الواقع تحرير من أخلاق رئيسية للمنافقين كما سنرى. ... تتألف سورة المنافقون من فقرتين: الفقرة الأولى منهما تمتد حتى نهاية الآية (8) والفقرة الثانية تمتد حتى نهاية السورة فلنبدأ عرض السورة. .. الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (8) وهذه هي: المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية [سورة المنافقون (63): آية 4] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) المجموعة الثالثة [سورة المنافقون (63): الآيات 5 الى 6] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) المجموعة الرابعة [سورة المنافقون (63): الآيات 7 الى 8] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ قال ابن كثير: أي: إذا حضروا عندك واجهوك بذلك، وأظهروا لك ذلك مدعين أن شهادتهم اللسانية تواطئ

[سورة المنافقون (63): آية 2]

شهادة قلوبهم وليس كما يقولون، ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله فقال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ أي: إن الأمر كما يدل عليه قولهم، ولكن الله الذي يعلم أنك رسوله يشهد أنهم كاذبون في ادعاءاتهم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ قال ابن كثير: أي: فيما أخبروا به، وإن كان مطابقا للخارج؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً قال النسفي: (أي: وقاية من السبي والقتل، وفيه دليل على أن لفظة (أشهد) يمين؛ لأنهم قالوا نشهد وسماها الله عزّ وجل يمينا) قال ابن كثير: أي: اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة، والحلفان الآثمة، ليصدقوا فيما يقولون، فاغتر بهم من لا يعرف جلية الأمر، فاعتقدوا أنهم مسلمون، فربما اقتدى بهم فيما يفعلون، وصدقهم فيما يقولون، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالا، فحصل بهذا الغرر ضرر كبير على كثير من الناس، ولهذا قال تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتظاهرهم بالإسلام، وإبطانهم غيره، فجروا كثيرا من الناس وراءهم في الطرق المظلمة، ولا يظهر هذا في عصر كما يظهر في عصرنا، إذ نجد الملايين من المسلمين تترك سبيل الله وتسير وراء المنافقين الذي يحلفون أنهم مسلمون، وهم في واقع الأمر كفار، يريدون أن يحملوا الناس على ما هو كفر، وجماهير المسلمين غافلة، حتى أضحت حقائق الإسلام غريبة، وأصبح الكفر وأفكاره ومبادئه وما يقدم عليه كأنه مسلمات أَيْمانَهُمْ أي: المنافقين ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله ذلِكَ قال النسفي: إشارة إلى قوله: ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: هذا هو الحكم على عملهم كله بالسوء، أي: ذلك القول هو الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا، أو أن ذلك إشارة إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والتستر بالأيمان بِأَنَّهُمْ أي: بسبب أنهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا أي: دخلوا في الإسلام بالنطق بالشهادتين، ثم كفرت قلوبهم بعد ذلك، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي: فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يتدبرون، قال ابن كثير: أي: فلا يصل إلى قلوبهم هدى، ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي، وسبب ذلك كله هو رجوعهم عن الإيمان إلى الكفر عقوبة لهم. قال ابن كثير: (أي: إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران واستبدالهم الضلالة بالهدى).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: عرفنا الله عزّ وجل في الفقرة السابقة على مظهر من مظاهر الطبيعة المنافقة، وعلى حقيقة بواطنها، وعلى الخطر الذي يهب منها على الصف الإسلامي، وعلى الدعوة إلى الله، وعلى العقوبة التي يعاقبهم الله عزّ وجل بها، وهي الطبع على قلوبهم، فلنر صلة الفقرة بمحور السورة فلننتبه جيدا: 1 - بدأ الكلام عن المنافقين في سورة البقرة بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ لاحظ كلمة (يكذبون) في المحور ثم لاحظ أنه في المجموعة التي مرت معنا من السورة عرض الله عزّ وجل علينا أنهم كذلك يكذبون في ادعائهم أنهم مؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم مع حلفهم الأيمان على ذلك، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. 2 - في مقدمة سورة البقرة وصف الله عزّ وجل المنافقين بقوله: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ وفي المجموعة التي مرت معنا أرانا الله عزّ وجل أنهم يكذبون حتى على رسول الله إذا لقوه إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ .... 3 - في مقدمة سورة البقرة قال الله تعالى عن المنافقين: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً أي: عند ما دخلوا في الإسلام فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فكفروا وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ لاحظ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ثم لاحظ أنه في المجموعة السابقة ورد قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ وهذا يفيد أنهم أصبحوا في غاية الكفر، فكما ختم الله على قلوب الكافرين خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ طبع على قلوب المنافقين فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ من هذا كله ندرك صلة المجموعة بمحور السورة من سورة البقرة وهذا يوضح لنا أن التفصيل لأي محور فيه مزيد بيان وزيادة معان. 4 - جاء في سورة البقرة حديث عن النفاق في بدايتها ثم جاءت ثلاث آيات

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

تتحدث عنهم فيما بعد وهي الآيات (204)، (205)، (206). وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ. لاحظ قوله تعالى: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ثم لاحظ أن المجموعة القادمة من الفقرة الأولى في سورة المنافقين تبدأ بقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ مما يشير إلى أن المجموعة الثانية تفصل في هذا، وفي ذلك إشارة إلى أن هذه الآيات الموجودة في أعماق سورة البقرة مشدودة إلى ما سبق ذكره عن المنافقين في مقدمة سورة البقرة، ومن كل ما مر ندرك أن لسورة المنافقون سياقها الخاص في تبيان ملامح المنافقين، ولها كذلك صلتها بمحورها من سورة البقرة والمعاني المرتبطة بهذا المحور من سورة البقرة كلها. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ قال النسفي: (والخطاب في وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لرسول الله، أو لكل من يخاطب وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كان ابن أبي رجلا جسيما صبيحا فصيحا، وقوم من المنافقين في مثل صفته، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم، ويسمعون إلى كلامهم)، وقال ابن كثير: (أي: وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن) كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أي: إلى حائط. قال النسفي: (شبهوا في استنادهم- وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير- بالخشب المسندة إلى الحائط، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع، أو لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام) يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ قال ابن كثير: أي: كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون- لجبنهم- أنه نازل بهم، وقال النسفي: (أي: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم، لخيفتهم ورعبهم، يعني إذا نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو أنشدت ضالة، ظنوه إيقاعا بهم)

كلمة في السياق

أقول: المنافق يظن أن كل حديث بين اثنين هو المقصود فيه، ويظن أنه هدف التآمر، ومن ثم فإن أي حركة مهما كان نوعها يظنها موجهة ضده هُمُ الْعَدُوُّ قال النسفي: أي: هم الكاملون في العداوة، لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي فَاحْذَرْهُمْ ولا تغتر بظاهرهم فإنهم لا يألون الإسلام وأهله خبالا وغدرا إن استطاعوا قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال النسفي: دعاء عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال، وفي النص تعجيب من جهلهم وضلالتهم، وعدولهم عن الحق وانصرافهم عنه. كلمة في السياق: في هذه المجموعة أعطانا الله عزّ وجل مزيدا من الإيضاحات عن الطبيعة المنافقة في كونها تحسن الكلام في الدنيا، وفي كونها لا حياة فيها، لأنه لا عمل صالحا لها، وفي كونها كثيرة الجبن شديدة الشك، وفي كون المنافقين أشد الناس عداوة للإسلام وأهله، وفي كونهم مصروفين صرفا تاما عن الخير، فالمجموعة الثانية تزيدنا إبصارا في شأن المنافقين، ومن قبل رأينا صلة هذه المجموعة بقوله تعالى من سورة البقرة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وقد جاء في هذه المجموعة قوله تعالى: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ وورد هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ وفي سورة البقرة إيضاح لكيفية ظهور عدائهم وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ وفي هذه المجموعة أمر بالحذر منهم فلا يعطون فرصة، وما أقل الحذر من المنافقين في عصرنا، وما أكثر الذين يعطونهم فرصا. ثم تأتي المجموعة الثالثة لتزيدنا بيانا في شأن المنافقين. تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي: عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي: يعرضون وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتذار والاستغفار، قال ابن كثير: أي: صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكبارا عن ذلك، واحتقارا لما قيل لهم ... ثم جازاهم الله على ذلك فقال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي: سواء عليهم

كلمة في السياق

الاستغفار وعدمه، لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدون به لكفرهم، أو لأن الله لا يغفر لهم لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أي: ما داموا على النفاق إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ بسبب نقضهم لمواثيقهم مع الله، وبسبب قطعهم لما أمر الله به أن يوصل، وبسبب إفسادهم في الأرض، وهي مظاهر الفسوق كما رأيناها في سورة البقرة. كلمة في السياق: زادتنا هذه المجموعة عن المنافقين وضوحا فعرفنا من خلالها أنهم فاسقون، أي: تظهر فيهم علامات الفسوق كلها كما عرضتها سورة البقرة، كما عرفنا أنهم متصفون بالكبر والصدود عن أي دعوة خيرة لصالحهم الأخروي، وعرفنا الله عزّ وجل أنه لا ينفعهم استغفار الآخرين لهم حتى ولو كان المستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما صلة المجموعة بمحور السورة من سورة البقرة، فالملاحظ أن الآيات التي نقلناها من أعماق سورة البقرة تنتهي بقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ وهاهنا ورد قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ... والصلة بين الموقفين واضحة، وكلها تعبر عن كبرهم، وقد حدثنا الله عزّ وجل في سورة البقرة عن مظهر من مظاهر هذا الكبر، وهاهنا يحدثنا عن مظهر آخر، وهكذا نرى كيف أن سورة المنافقون تفصل في محورها، وفيما هو امتداد لمحورها في سورة البقرة بشكل دقيق واضح، وبعد ذلك تأتي مجموعة رابعة تحدثنا عن نماذج من عداء المنافقين، وعن كيدهم للإسلام وأهله، فهي تكاد تكون تبيانا لقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فيما مر معنا من السورة وتبيانا لقوله تعالى في سورة البقرة: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ فلنر المجموعة الرابعة، مع ملاحظة أنها تعرض لنا نموذجين على عداء المنافقين، وسنذكر ذلك في الفوائد. تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى: النموذج الأول: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا أي:

كلمة في السياق

حتى يتفرقوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: وله الأرزاق والقسم فهو الرزاق لجميع خلقه، أفلا يرزق المسلمين وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي: لا يعلمون الحقائق، ومن ثم فهم يهذون بما يزين لهم الشيطان. كلمة في السياق: رأينا أن الله عزّ وجل وصف المنافقين بأنهم هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ وقد رأينا في هذه الآية نموذجا على عدائهم، فلا تكاد تواتيهم فرصة إلا ويهتبلونها للكيد والضرر تحريشا بالمسلمين وتحريضا عليهم، وهذا والسلطان ليس لهم، فإذا كان السلطان لهم فكما قال الله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ... ، والملاحظ أن قولهم لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا داخل في قطع ما أمر الله به أن يوصل وهو إحدى صفات الفاسقين، كما فصلتها سورة البقرة، والملاحظ أن ذكر الفاسقين قد ورد قبل الآية السابقة مباشرة، وعلى هذا فالآية نموذج على تحقق المنافقين بصفات الفاسقين كلها، كما هي نموذج على عداء المنافقين للإسلام وأهله وذلك مما يوجب حذر المسلمين من المنافقين. النموذج الثاني: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ قال هذا عبد الله بن أبي مقفلهم من غزوة بني المصطلق كما سنرى لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ يعنون بالأعز أنفسهم، وبالأذل رسول الله، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أي: ولله الغلبة والقوة، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك، كما أن الذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ومن ثم يقولون ما يقولون. كلمة في السياق: في هذه الآية نموذج آخر على كيد المنافقين وعدائهم، فمتى وجدوا متنفسا، أو أحدا يسمع لهم يبدءون عملية التحريض ضد المسلمين مع السباب لهم، هذا والسلطان ليس لهم، فكيف إذا صار السلطان لهم، ولذلك فإن على المسلمين أن يكونوا دائمي الحذر منهم، وكما أن في الآية نموذجا على عدائهم، ففي الآية نموذج على نقضهم المواثيق، أو قطعهم ما أمر الله به أن يوصل، وعلى إفسادهم في الأرض، ففي

الآية نموذج على موقف تظهر به صفات الفاسقين كلها دفعة واحدة. وبعد أن قص الله علينا نموذجين من مواقف المنافقين المعبرة عن عدائهم، والتي هي أثر عن فسوقهم، تأتي الفقرة الثانية في السورة مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وفيها تحرير للمؤمن من أخلاق المنافقين، ودعوة له لمواقف مكافئة لمواقف المنافقين، وفيها تعريض ضمني بأخلاق أخرى للمنافقين. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (9) إلى نهاية الآية (11) وهذه هي: [سورة المنافقون (63): الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أي: لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج وَلا أَوْلادُكُمْ وسروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والقيام بمؤنهم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قال النسفي: أي: عن الصلوات الخمس أو القرآن. أقول: ذكر الله منه المفروض وهو كالصلوات الخمس، ومنه المندوب كالسنن الرواتب وأذكارها، وقراءة القرآن والاستغفار، ولا شك أن النهي أول ما ينصب على الانشغال عن الفرائض وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: ينشغل بالدنيا عن ذكر الله، قال النسفي: وقيل من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله، وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قال النسفي: (أي: في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني) قال ابن كثير في الآية: يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره، وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك، ومخبرا لهم بأنه من تلهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: نلاحظ أن الآية ختمت بقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: يشتغل بالأموال والأولاد عن ذكر الله فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وأنه ورد في مقدمة سورة البقرة عن المنافقين قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ويلاحظ أنه بعد آيات في سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ كلمة (الخاسرون) هنا وفي الآية التي مرت معنا من سورة المنافقون. إذا لاحظت ما مر تدرك أن الانشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله هو من صفات المنافقين، فالآية إذن تضيف صفة جديدة من صفات المنافقين إلى معلوماتنا، وهذا يشبه قوله تعالى في سورة النساء في وصف المنافقين وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ولكن الآية عرضت هذه الصفة من خلال أمر المؤمنين بعدم الانشغال عن الذكر، مما يشير إلى أن الطريق الوحيد للخلاص من النفاق هو الإقبال على ذكر الله، مضافا إلى ذلك الإنفاق الذي تأمر به الآية اللاحقة: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ يدخل في ذلك الواجب أولا كالزكاة وصدقة الفطر والنفقة المفروضة، ثم يدخل بعد ذلك المندوب، و (من) في الآية للتبعيض مما يدل على أن الله لم يكلفنا مالنا كله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال النسفي: أي: من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييئس معه من الإمهال، ويتعذر عليه الإنفاق فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ أي: هلا أخرت موتي إلى زمان قليل فأتصدق وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قال ابن كثير: فكل مفرط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كان ما كان، وأتى ما هو آت وكل بحسب تفريطه ... ثم قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً عن الموت إِذا جاءَ أَجَلُها المكتوب في اللوح المحفوظ، قال ابن كثير: أي: لا ينظر أحدا بعد حلول أجله وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله، ممن لو رد لعاد إلى شر مما كان عليه، ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال النسفي: والمعنى: أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأنه هاجم لا محالة، وأن الله عليم

كلمة في السياق

بأعمالكم، فمجاز عليها من منع واجب وغيره، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب، والاستعداد للقاء الله تعالى. كلمة في السياق: وصف الله المتقين في أول سورة البقرة بقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وهذا يعني أن الكافرين والمنافقين لا ينفقون، وهذا الذي صرح به القرآن في أكثر من مكان كقوله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ والَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ* فعند ما يأتي أمر للمؤمنين بالإنفاق في سورة (المنافقون) فذلك يفيد أن عدم الإنفاق من صفات المنافقين، كما يفيد أن الإنفاق مع الذكر هو الطريق للخلاص من النفاق، وعلى هذا فالفقرة الأخيرة زادتنا معرفة في أخلاق المنافقين، ودلتنا على طريق الخلاص من النفاق بما لا يخرج عن التحقق بصفات المتقين. الفوائد: 1 - بمناسبة الكلام عن المنافقين في سورة (المنافقون) ذكر ابن كثير هذا الحديث: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل صخب بالنهار). 2 - بمناسبة قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال صاحب الظلال رحمه الله: (وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع، ولؤم النحيزة. وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان. ذلك أنهم- لخسة مشاعرهم- يحسبون لقمة العيش هي كل شئ في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين. إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين! وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه

تحت وطأة الضيق والجوع! وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين، ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله، ويتركوا الصلاة! وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله، وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام، بالحصار والتجويع، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق. وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان، من قديم الزمان، إلى هذا الزمان ... ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: (وروى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاة، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت فقال رجل: يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكافر، فقال: سأتلوا عليك بذلك قرآنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ* وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ إلى قوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعدا، قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والبعير. وروى الترمذي أيضا ... بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال: وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره عن أبي جناب عن الضحاك عن ابن عباس من قوله وهو أصح وضعف أبو جناب الكلبي. (قلت) ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: «إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقه دعاؤهم في قبره»).

كلمة أخيرة في سورة (المنافقون) ومجموعتها

كلمة أخيرة في سورة (المنافقون) ومجموعتها: لن نضيف شيئا إلى ما ذكرناه من قبل حول المجموعة الرابعة وسياقها سوى التذكير بإعطاء الذكر والإنفاق والجهاد في سبيل الله مكانهم الصحيح في هذا الدين ومن أنفسنا، ونخص بالذكر صلاة الجمعة والصلوات المفروضة، والزكاة وصدقة الفطر، والعمل المتواصل بكل الوسائل المشروعة لجعل كلمة الله هي العليا. ونضيف أنه بقدر ما نزيد يزيد الله لنا، وبقدر ما نقيم من فرائض ونوافل تتمحص قلوبنا للإيمان، وتتحرر من الكفر والنفاق، فلينتبه الغافلون عن الذكر إلى الذكر، ولينبه الغافلون عن الإنفاق إلى الإنفاق، ولينبه الغافلون عن الجهاد إلى الجهاد، فإن ذلك هو طريق التحقق بالتقوى، وإذ كان طريق التحقق بالتقوى في سورة البقرة جاء بعد مقدمتها فقد فصلت السور الثلاث وهي تفصل المقدمة بما يحقق بالتقوى، وبما يبعد عن الكفر والنفاق، ولننتقل إلى المجموعة الخامسة من قسم المفصل وهي آخر مجموعة من زمرة المسبحات. ***

المجموعة الخامسة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الخامسة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: التغابن، والطلاق، والتحريم، والملك، والقلم

كلمة في المجموعة الخامسة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الخامسة من قسم المفصل: هذه المجموعة تفصل بانتظام ما فصلته سور خمس من قسم الطوال، فسورة التغابن تفصل في محور سورة آل عمران، وسورة الطلاق تفصل في محور سورة النساء حتى لتسمى سورة النساء الصغرى، وسورة التحريم تفصل في محور سورة المائدة، وسورة الملك تفصل في محور سورة الأنعام، وسورة القلم تفصل في محور سورة الأعراف، وسنرى أدلة ذلك كله، ولعل في هذا مقنعا أن في هذا القرآن نوعا من الترتيب خاصا. ... وبهذه المجموعة تنتهي زمرة المسبحات، فآخر سورة في المسبحات هي سورة التغابن، وعلى هذا فالمسبحات وزعت على أربع مجموعات، كل منها أكملت الأخرى، وجاءت المجموعة الأخيرة فأكملت البناء الذي أسست له المجموعات الثلاث من المسبحات، بل والمجموعة الأولى من قسم المفصل، إذ لا نجد سورة مبدوءة ب (يا أيها) في كل ما مر معنا من قسم المفصل إلا في هذه المجموعة. ... وهكذا نجد في قسم المفصل تفصيلا بعد تفصيل، وفي كل مرة نجد تذكيرا ومعاني جديدة من خلال الكلمة المفردة والآية المفردة، والمجموعة والفقرة والمقطع والسورة، والسياق الخاص والعام، بشكل لا تنتهي عجائبه، ولا تنتهي فوائده، وكل يأخذ من هذه البحار على قدر استعداده، ومع هذا كله فإن لهذا القرآن خصائص غير هذه، إنه كلام الله ومجلى صفاته، ولذلك فقد وصف الله عزّ وجل هذا القرآن ببعض ما وصف به ذاته، فوصفه بالعلو والحكمة فقال: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ومن أسماء الله العلي والحكيم، ووصفه بالعزة فقال: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ والله عزّ وجل من أسمائه العزيز، ومن عزة هذا القرآن أنه لا يصل إلى قلب قذر وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ* ومن عزته أنه لا يبقى على إهمال، يقول عليه الصلاة والسلام: «تعاهدوا هذا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها» فكتاب هذا شأنه هل يمكن أن يتصور عاقل أنه بشري المصدر، إن الذي يتصور أن هذا القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إنشائه وتأليفه مع كون هذا القرآن هذا شأنه يعطي محمدا من الخصائص ما يستحيل أن تتجمع في كل البشر.

هل رأيتم في تاريخ العالم أن أحدا من البشر يخرج على يده شئ من أعظم الأشياء ثم لا ينسبه إلى نفسه، إن هذا يتنافى مع الطبيعة البشرية أصلا. فإن يقول محمد صلى الله عليه وسلم نفسه عن هذا الكتاب أنه من عند الله، وأنه ليس إلا ناقلا عن الله عزّ وجل، وأنه أول الملتزمين بذلك، فهذا وحده كاف للتدليل على أن هذا القرآن من عند الله، فكيف إذا كان في هذا القرآن من مجالي صفات الله وأسمائه ما يدل على أنه كتاب الله، فكيف إذا كان مع ذلك غيره وغيره؟. ***

سورة التغابن

سورة التغابن وهي السورة الرابعة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الخامسة من قسم المفصل، وهي ثماني عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة التغابن

بين يدي سورة التغابن: قدم الألوسي لسورة التغابن بقوله: (مدنية في قول الأكثرين، وعن ابن عباس. وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الخ، وعدد آياتها تسع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن. وكافر، وأيضا في آخر تلك لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ وفي هذه إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وهذه الجملة على ما قيل: كالتعليل لتلك، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل، واستنبط بعضهم عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة). كلمة في سورة التغابن ومحورها: قلنا من قبل: إن وجود الفعل سبح يسبح بعد انتهاء مجموعة، علامة على بداية مجموعة جديدة تفصل في أول سورة البقرة، وهذه سورة التغابن جاءت بعد سورة (المنافقون)، وهي مبدوءة بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا أول شئ نستأنس به على أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة. ... ويلاحظ أن سورة الحديد ركزت على موضوع الإيمان بالله والرسول، والخضوع للقرآن، والإنفاق، وفي سورة التغابن نجد قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ونجد إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ونلاحظ أن سورة الحديد ورد فيها مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وورد فيها قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وأن سورة التغابن يرد فيها قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وهذا ثاني شئ نستأنس به على أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة. ...

ويلاحظ أن سورة آل عمران التي فصلت في مقدمة سورة البقرة قد ورد في أوائلها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ وأن سورة التغابن قد ورد في أوائلها قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ويلاحظ أنه قد ورد في سورة آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وأنه ورد في سورة التغابن قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقد اعتبر بعض العلماء أن هذه الآية مفسرة أو ناسخة لآية آل عمران، وبهذا كذلك نستأنس على أن سورة التغابن تفصل في محور آل عمران أي: في مقدمة سورة البقرة. ... نلاحظ أن مقدمة سورة البقرة تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين، وأن سورة التغابن تحدثت عن الكافرين والمؤمنين، ولا ننسى أن النفاق مظهر من مظاهر الكفر، وأن مما ختمت به آيات المتقين في سورة البقرة قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وأن سورة التغابن ورد فيها قوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مما يشير إلى أن الحديث في السورتين متحد المآل، وهذا كذلك مما نستأنس به على أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة. ... فإذا أضيف إلى هذا كله، أن سورة (المنافقون) نهاية مجموعة، وأن ما بعد سورة التغابن سورة الطلاق المبدوءة ب (يا أيها) والتي تدل على أنها تفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة، يتأكد لنا- نتيجة لهذا كله- أن سورة التغابن تفصل في مقدمة سورة البقرة، وسنرى أثناء عرض السورة أن المعاني نفسها تدلنا على ذلك. ... تتألف سورة التغابن من فقرتين واضحتين: الأولى منهما تمتد حتى نهاية الآية (13)، والثانية منهما تمتد حتى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (18) فلنبدأ عرض السورة. ***

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (13) وهذه هي: المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) المجموعة الثانية [سورة التغابن (64): الآيات 8 الى 13] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

بين يدي الفقرة

بين يدي الفقرة: هذه الفقرة توصلنا إلى حقيقة الإيمان، حتى إذا عرفتنا على حقيقة الإيمان ومضمونه وما يستلزمه، تأتي الفقرة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لتوجه أهل الإيمان إلى معان رئيسية يجب أن يتنبهوا إليها وأن يطبقوها، وأن يتحققوا بها. تتألف الفقرة الأولى من مجموعتين: مجموعة تقرر وتناقش، ومجموعة تأمر بناء على ما سبق من تقرير وإقامة حجة. ومن مجموع السورة نخرج بتفصيلات لها علاقة بالإيمان والتقوى، وتفصيلات لما يتضمنه الإيمان، من إيمان بالله ورسله، واليوم الآخر والقدر، وما يترتب على ذلك من سلوك كما تبين لنا بعض قواطع الطريق. تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عبودية له، وتنزيها له، ودلالة عليه لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ قال ابن كثير: (أي: هو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره) وقدم الجار والمجرور على كلمتي الملك والحمد ليدل- بتقديمهما- على اختصاص الملك والحمد بالله عزّ وجل، وذلك لأن

[سورة التغابن (64): آية 2]

الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شئ والقائم به، وكذا الحمد؛ لأن أصول النعم وفروعها منه، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء، وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده. اه النسفي، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن كثير: أي: مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ قال ابن كثير: أي: هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بد من وجود مؤمن وكافر، قال النسفي: أي: فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له، ويدل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال ابن كثير: أي: وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء، وقال النسفي: (أي: عالم وبصير بكفركم وإيمانكم، اللذين هما من عملكم والمعنى: هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين، فما بالكم تفرقتم أمما، فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم، وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين، وقيل هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية، ومنكم مؤمن به). والله بعملكم النابع عن كفركم أو إيمانكم بصير خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ قال ابن كثير: أي: بالعدل والحكمة، وقال النسفي: أي: بالحكمة البالغة وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ قال ابن كثير: أي: أحسن أشكالكم، وقال النسفي: (أي: جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب، ولكن الحسن على طبقات، فصورة الإنسان غير خارجة عن حد الحسن، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان) وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع والمآل فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم، ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السماوية والأرضية، ومكنونات الضمائر وما تظهره فقال: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قال النسفي: (نبه بعلمه ما في السموات والأرض، ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه بذات الصدور أن شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه فحقه أن يتقى ويحذر، ولا يجترئ على شئ مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ في معنى الوعيد على الكفر

[سورة التغابن (64): آية 5]

وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته) أَلَمْ يَأْتِكُمْ أيها البشر نَبَأُ أي: خبر الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني: أمثال قوم نوح وهود وصالح ولوط فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي: في الدنيا، أي: فذاقوا وبال تكذيبهم ورديء أفعالهم، وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: في الدار الآخرة مضافا إلى العذاب الدنيوي ذلِكَ العذاب الذي أصابهم في الدنيا وما أعده لهم من العذاب في الآخرة بِأَنَّهُ أي: بأن الشأن والحديث كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بالحجج والدلائل والبراهين والمعجزات فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أي: استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم، قال النسفي: (أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر) فَكَفَرُوا بالرسل وَتَوَلَّوْا عن الإيمان، قال ابن كثير: أي: كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي: عنهم، قال النسفي: أطلق ليتناول كل شئ ومن جملته إيمانهم وطاعتهم وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن خلقه حَمِيدٌ على صنعه زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا الزعم: ادعاء العلم أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا يقول تعالى مخبرا عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي: لتخبرن بجميع أعمالكم، جليلها وحقيرها، وصغيرها وكبيرها وَذلِكَ البعث، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: بعثكم ومجازاتكم على الله سهل، وبهذا انتهت المجموعة الأولى وهي كالأساس للمجموعة الثانية. كلمة في السياق: هذه المجموعة قررت أمورا وأقامت حججا: 1 - تسبيح ما في السموات والأرض لله. 2 - مالكية الله عزّ وجل للأشياء كلها. 3 - أن كل نعمة ظاهرة وباطنة هي من الله عزّ وجل. 4 - اتصاف الله عزّ وجل بالقدرة المطلقة. 5 - انقسام البشر إلى قسمين كبيرين مؤمنين وكافرين، وذلك من مظاهر اتصافه بكمال القدرة. 6 - اتصاف الله عزّ وجل بصفة البصر التي تحيط بالظواهر والبواطن. 7 - أن الله عزّ وجل هو وحده خالق السموات والأرض، وأن خلقه لهما كان لحكمة وليس عبثا. 8 - وأن تصويره البشر على ما هم عليه أثر حكمته. 9 - وأن إلى الله المرجع. 10 - وأن علمه محيط بما في السموات وما في الأرض وأنه يعلم ما يسره البشر وما يعلنونه، وأنه عليم بما في الصدور. 11 - وأنه

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

عذب الكافرين السابقين؛ بسبب كفرهم برسل الله عزّ وجل ومعجزاتهم؛ وبسبب استكبارهم أن يهديهم البشر؛ وزعمهم أن الله لن يبعثهم وهذا يقتضي نفي الحكمة الإلهية. هذه معان تعرضت لها المجموعة الأولى من السورة لتبني عليها المجموعة الثانية، مطالبة البشر بأمور، ومن ثم نرى المجموعة الثانية تبدأ بالأمر: فَآمِنُوا فكأن المجموعة الثانية تقول بسبب ما مر معكم من معان في المجموعة الأولى فافعلوا كذا وكذا، وكل الأوامر اللاحقة تأتي بناء على المعاني التي وردت في المجموعة الأولى، فلنر المجموعة الثانية ولنعرضها على مطالب. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى المطلب الأول: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمد صلى الله عليه وسلم وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا قال النسفي: يعني: القرآن لأنه يبين حقيقة كل شئ، فيهتدى به كما يهتدى بالنور وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي: فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية؛ فليكن إيمانكم صحيحا سليما. كلمة في السياق: يأتي هذا الأمر بعد أن عرفنا الله على ذاته وصفاته وأفعاله، وبعد أن عرفنا عاقبة الذين كذبوا الرسل وكذبوا ما جاءوا به، ومن ثم فإن الأمر يأتي بناء على ما مر من معان في المجموعة الأولى. المطلب الثاني: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ أي: واذكروا يوم يجمعكم على أحد قولين للمفسرين في تقدير العامل في (يوم) وسنرى القول الثاني فيما بعد لِيَوْمِ الْجَمْعِ أي: الذي يجمع فيه الأولون والآخرون، قال ابن كثير: (وهو يوم القيامة سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ قال ابن عباس: هو اسم من أسماء يوم القيامة، وذلك أن أهل الجنة يغبنون

كلمة في السياق

أهل النار، وكذا قال قتادة ومجاهد، وقال مقاتل بن حيان لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويذهب بأولئك إلى النار)، وقال الألوسي في قوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ: (أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة أنهم قالوا: يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار، فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة، وإلى هذا ذهب الواحدي. وقال غير واحد: أي: يوم غبن فيه بعض الناس بعضا، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، وبالعكس، ففي الصحيح: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء؛ ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلى أري مقعده من الجنة لو أحسن؛ ليزداد حسرة» وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم يغبنون حقيقة السعداء، بنزولهم في منازلهم من النار، أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة، فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن، إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل، والأحسن الإطلاق، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح، واختار ذلك محيي السنة حيث قال: التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان)، قال ابن كثير: (وقد فسر ذلك (أي: التغابن) بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقد تقدم تفسير مثل هذه غير مرة. كلمة في السياق: أمر الله عزّ وجل في هذا المطلب بتذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من تغابن حيث يغبن الكافرون المكذبون، ويربح المؤمنون العاملون، وفي تحديد صفات الرابحين والخاسرين أمر بتلك الصفات، وتنفير من هذه الصفات، وهذا الأمر مبني على ما ورد في مقدمة السورة من معان، أي: فبسبب من إنصاف الله بما ذكر، وبسبب من المعاني التي ذكرتم بها من انقسام البشر إلى كافر ومؤمن؛ فتذكروا يوم القيامة وما يكون فيه، وآمنوا واعملوا لتكونوا من الرابحين، ولا تكونوا من الخاسرين.

المطلب الثالث

المطلب الثالث: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي: شدة ومرض وموت أهل وسجن وفقد مال إلى غير ذلك مما يقتضي هما إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: إلا بعلمه وتقديره ومشيئته. قال النسفي: كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وإذن فلا هداية للقلب إلا بإيمان كامل بالله وصفاته وأفعاله، والتسليم له جل جلاله، وسنرى مجموع الأقوال في الآية في الفوائد وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فآمنوا به وسلموا له. ... كلمة في السياق: رأينا في المجموعة الأولى أن الله عزّ وجل ذكر مالكيته للأشياء، وذكر علمه، وذكر تقديره، كما عرفنا على ذاته جل جلاله وأفعاله، وهاهنا عرفنا على أن المصائب كلها منه، وأن الإيمان الكامل بالله به هداية القلب، فكأنه قال آمنوا بأن الخير والشر من الله، واستسلموا لحكم الله، فبذلك تنالون هداية الله بقلوبكم، وتتخلصون من الكفر، وكأن السياق أفاد: أيها البشر بسبب ما عرفتموه عن الله في المجموعة الأولى فعليكم أن تعرفوا أن المصائب من الله، وأن عليكم أن تستسلموا لقضاء الله عزّ وجل، وأن هذا هو طريق الهداية لقلوبكم. المطلب الرابع: وَأَطِيعُوا اللَّهَ بطاعة كتابه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بطاعة شخصه في حياته، وطاعة سنته بعد وفاته فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن طاعة الله وطاعة رسوله فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: فعليه التبليغ وقد فعل. كلمة في السياق: في المجموعة الأولى عرفنا الله عزّ وجل على ذاته، ولفت نظرنا إلى مصير المكذبين بالرسل، وقد أمرنا في المطالب السابقة بالإيمان بالله والرسول والقرآن، وتذكر اليوم الآخر، والتسليم لقضائه، وفي هذا المطلب أمرنا بالطاعة لله والرسول، فبعد أن أمرنا بالإيمان بأركان الإيمان أمرنا بالطاعة لله والرسول.

المطلب الخامس

المطلب الخامس: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فليس غيره متصفا بالألوهية وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قال ابن كثير: فالأول (أي: قوله: لا إله إلا هو) خبر عن التوحيد، ومعناه معنى الطلب، أي: وحدوا الإلهية له، وأخلصوها لديه، وتوكلوا عليه. كلمة في السياق: بعد أن أمر الله عزّ وجل في المطالب السابقة بما أمر، ذكر بكونه هو وحده الإله؛ ليبعث المؤمن على التنفيذ الخالص، وذكر بوجوب التوكل عليه وحده؛ لكى لا يخشى المسلم من الالتزام؛ ولكي يصبر على المصيبة، وبهذا انتهت المجموعة الثانية بعد أن حددت للبشر ما ينبغي عليهم فعله ليكونوا من المؤمنين، ولا يكونوا من الكافرين، فالمجموعة الأولى ذكرت المعاني التي تعين على تحقيق مطالب المجموعة الثانية، وبهذا اكتملت الفقرة الأولى من السورة، وقد عرفتنا على قضايا الإيمان والطريق إليه، حتى إذا تبين الطريق وتبينت الأسس ولفت النظر إلى كل ما يحقق بهذا الإيمان، وآن الأوان ليخاطب من بين البشر كلهم أهل الإيمان الذين ذكرهم الله في بداية السورة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ تأتي الفقرة الثانية في السورة لتخاطب أهل الإيمان وحدهم، بما ينبغي أن يحذروه من مطبات الطريق وعوائقه وما ينبغي أن يحققوه ويفعلوه. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (18) أي: إلى نهاية السورة وهذه هي [سورة التغابن (64): الآيات 14 الى 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) التفسير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو للزوج والوالد، بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح، قال مجاهد: يحمل الرجل (أي: ابنه وزوجه) على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل- مع حبه- إلا أن يطيعه فَاحْذَرُوهُمْ يعني على دينكم، والضمير للأزواج والأولاد، أي: فاحذروهم أن يقطعوكم عن السير، أو يلفتوكم عن الآخرة، أو يضلوكم عن الطريق، أو يحببوكم في الدنيا، أو ينزلوكم من المقام الأعلى إلى المقام الأدنى، أو يثبطوكم عن خير، أو يوقعوكم في شر، وقال النسفي: أي: لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدو فكونوا منهم على حذر، ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم وَإِنْ تَعْفُوا قال النسفي: أي: عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها وَتَصْفَحُوا أي: وتعرضوا عن التوبيخ وَتَغْفِرُوا أي: وتستروا ذنوبهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: يغفر لكم ذنوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي: اختبار وابتلاء من الله

[سورة التغابن (64): آية 16]

تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، وقال النسفي: أي: بلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة، ولا بلاء أعظم منهما وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي: في الآخرة، قال النسفي: وذلك أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم، ولم يدخل فيه (من) كما في العداوة لأن الكل لا يخلو عن الفتنة وشغل القلب، بينما يخلو بعضهم عن العداوة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: جهدكم ووسعكم وطاقتكم. قال النسفي: قيل هو تفسير لقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ الواردة في آل عمران، وقال ابن كثير: وقد قال بعض المفسرين كما رواه مالك عن زيد بن أسلم أن هذه الآية ناسخة للتي في آل عمران. أقول: واعتبارها مفسرة أولى وَاسْمَعُوا أي: ما توعظون به وَأَطِيعُوا أي: فيما تؤمرون به وتنهون عنه، قال ابن كثير: أي: كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا تتخلفوا عما به أمرتم، ولا تركبوا ما عنه زجرتم وَأَنْفِقُوا أي: في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي: إنفاقا خيرا لأنفسكم، قال النسفي: وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، وبيان أن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد، وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا. قال ابن كثير: أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم، يكن خيرا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في الدنيا والآخرة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بأن لا يبخل بالزكاة والصدقة الواجبة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وحدهم، دل ذلك على أنه لا فلاح إلا بالخروج من شح النفس إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قال النسفي: بنية وإخلاص، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ قال النسفي: (أي: يكتب لكم بالواحدة عشرا أو سبعمائة إلى ما شاء الله من الزيادة) وقال ابن كثير: أي: مهما أنفقتم من شئ فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شئ فعليه جزاؤه وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي: ويكفر عنكم السيئات وَاللَّهُ شَكُورٌ أي: يقبل القليل ويعطي الجزيل، قال ابن كثير: أي: يجزي على القليل بالكثير حَلِيمٌ قال ابن كثير: أي: يصفح ويغفر ويستر ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات. وقال النسفي: أي: يقبل الجليل من ذنب البخيل، أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها عالِمُ الْغَيْبِ أي: يعلم ما استتر من سرائر القلوب، ومكنونات الغيوب وَالشَّهادَةِ قال النسفي:

كلمة في السياق

أي: ما انتشر من ظواهر الخطوب. أقول: ومرئيات العيون الْعَزِيزُ أي: المتصف بالعزة الْحَكِيمُ المتصف بالحكمة. كلمة في السياق: 1 - في الفقرة الأولى أوصل إلى حقيقة الإيمان، ثم جاءت الفقرة الثانية لتحذر المؤمنين من فتنة الأولاد والأزواج، ولتأمرهم بالتقوى والسمع والطاعة والإنفاق للوصول إلى الفلاح، وختمت السورة بالتعريف على الله عزّ وجل، كما بدأت، وبهذا تمت السورة. 2 - فلنبحث عن صلة السورة بمحورها: أ- ذكرت الآيات الأولى من سورة البقرة أن من صفات المتقين الاهتداء بكتاب الله، وقد أمرت السورة بذلك، وذكرت الآيات الأولى أن من صفات المتقين الإيمان بالغيب، وقد فصلت فيه السورة وأمرت به، وذكرت موجباته، وعددت بعض أركانه، وذكرت الآيات الأولى من سورة البقرة أن من صفات المتقين الإنفاق، والسورة أمرت به، وكما تعرضت مقدمة سورة البقرة للكفر والإيمان فقد ذكرت السورة الكفر والإيمان قدرا وشرعا، وأنكرت على الكافرين كفرهم، ودلت على طريق الإيمان وموجباته. ب- ذكرت مقدمة سورة البقرة المتقين وخصائصهم، وجاءت سورة التغابن لتضع الأساس، ثم لتبني عليه قضية الإيمان، ثم لتأمر بعد ذلك بالتقوى عامة، وتخص بعض جوانبها بالذكر. 3 - ختمت صفات المتقين في سورة البقرة بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد جاء هاهنا قوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مما يشير إلى أن الشح عامل رئيسي في النكوص عن التقوى عامة، وهذا يبرز محل الإنفاق في قضية التقوى، قال عليه الصلاة والسلام: «والصدقة برهان». 4 - من كل ما مر ندرك أن سورة التغابن فصلت في القضيتين الرئيسيتين اللتين تعرضت لهما مقدمة سورة البقرة: الكفر والإيمان، بتبيان أن الله عزّ وجل خالقهما، وبالدلالة على الطريق الشرعي للتحقق بالتقوى، وللتخلص من الكفر. وستأتي بعد سورة التغابن سورة الطلاق لتفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة، أي: في محور سورة

الفوائد

النساء، ولننقل بعض الفوائد المتعلقة ببعض آيات السورة. الفوائد: 1 - في قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال النسفي: (يهد قلبه للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير، أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعن مجاهد إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظلم غفر)، وقال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى مخبرا بما أخبر به في سورة الحديد: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وهكذا قال هاهنا: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس بأمر الله يعني: عن قدره ومشيئته وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ: يعني: يهدي قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة فقرئت عنده هذه الآية وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرها، وقال سعيد ابن جبير ومقاتل بن حيان وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ يعني: يسترجع يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون). وفي الحديث المتفق عليه: «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» وروى أحمد عن علي بن رباح أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول: سمعت عبادة بن الصامت يقول: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيل الله» قال: أريد أهون من هذا يا رسول الله. قال: «لا تتهم الله في شئ قضى لك به» لم يخرجوه).

2 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قال الألوسي: (أي: إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى، وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها، ومن أفسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل، ومن كسرت قارورة عرضه، ومن مزقت كيس ماله- ومن، ومن- وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك فَاحْذَرُوهُمْ أي: فكونوا منهم على حذر، ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم، والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام في الأصنام: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فالمأمور به الحذر عن الكل، أو للأزواج، والأولاد جميعا، فالمأمور به إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو، وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو). وقال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى مخبرا عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو الزوج والوالد بمعنى: أنه يلتهي به عن العمل الصالح كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ولهذا قال تعالى هاهنا: فَاحْذَرُوهُمْ قال ابن زيد: يعني: على دينكم، وقال مجاهد إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ قال: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه، وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح). وقال صاحب الظلال: (ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي وأبعد مدى وأطول أمدا. فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معا إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ والتنبه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدوا ... إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية. ويمس

وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي، وفي ملابسات الحياة سواء. فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله. كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير. كما يتعرض هو وأهله للعنت. وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده. فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدوا له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا. كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله ... وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات ... وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن. ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة التحذير من الله؛ لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات). 3 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبا بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة؛ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ورواه أهل السنن من حديث حسين بن واقد به، وقال الترمذي: حسن غريب إنما نعرفه من حديثه، وروى الإمام أحمد عن الشعبي حدثنا الأشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة فقال لي: «هل لك من ولد؟» قلت: غلام ولد لي في مخرجي إليه من ابنة حمد، ولوددت أن بمكانه سبع القوم فقال: «لا تقلن ذلك فإن فيهم قرة عين وأجرا إذا قبضوا» ثم قال: «ولئن قلت ذاك إنهم لمجبنة محزنة إنهم لمجبنة محزنة» تفرد به أحمد، وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد ثمرة القلوب وإنهم مجبنة محزنة» ثم قال: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد). 4 - بمناسبة قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم

كلمة أخيرة في سورة التغابن وزمرة المسبحات

بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» وقد قال بعض المفسرين كما رواه مالك عن زيد بن أسلم: إن هذه الآية ناسخة للتي في آل عمران وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفا على المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الآية الأولى، وروي عن أبي العالية وزيد ابن أسلم وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك). أقول: هي مفسرة وليست ناسخة- والله أعلم- لاحظ صلة هذه الآية بقوله تعالى في سورة البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مما يشير إلى أن هذه الآية في سورة البقرة ألصق بمعاني مقدمتها. 5 - بمناسبة قوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول: «من يقرض غير ظلوم ولا عديم». ... كلمة أخيرة في سورة التغابن وزمرة المسبحات: لاحظنا أن المسبحات كلها فصلت في مقدمة سورة البقرة، كما لاحظنا أن المسبحات كلها اشتركت في وجود النداء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فيها. فهي تفصل في الأساس، وطريق تحقيق هذا الأساس، وبشكل يكمل بعضه بعضا، ونلاحظ أن اسمي (العزيز الحكيم) قد وردا فيها جميعا، إما في الأول، أو في الآخر أو في الأول والآخر بآن واحد، كما رأينا ذلك في سورة الحشر، ورأينا أن الضمير (هو) ورد في أوائلها جميعا- تقريبا- في بداية آية ما عدا سورة الصف. هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ... سورة الحديد. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ سورة الحشر. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ سورة الجمعة. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ سورة التغابن. مما يشير إلى أن المسبحات عامة ركزت على نقطة البداية الأولى التي ينبثق عنها كل المعاني، وهي موضوع الإيمان

بالله عزّ وجل، فالإيمان بالله يتفرع عنه الإيمان بأركان الإيمان، والتقوى أثر عنه، ومن ثم كان تفصيلها لمقدمة سورة البقرة تفصيلا من نوع جديد، إذ إن فيها تركيزا على الأوليات، وعلى ما ينبغي أن ينبثق عنها عمليا، وقد ختمت المسبحات بسورة التغابن التي هي بداية لمجموعة تفصل في محاور سور خمس من القسم الأول- قسم الطوال- بينما كان ما قبلها من المجموعات يفصل فيما دون ذلك، مما يشير إلى أنه بانتهاء المسبحات يكون قد ثم تفصيل كامل للمعاني القرآنية الرئيسية، وذلك في قسم المفصل، وكان للمسبحات ومجموعاتها في هذا التفصيل الدور الأعظم. وسورة التغابن ركزت في مواضيع مقدمة سورة البقرة العملية تركيزا شديدا، وركزت على موضوع السمع والطاعة كثيرا كمقدمة لسورة الطلاق ذات الأحكام التشريعية، وركزت على موضوع الفتنة في الأولاد والأزواج كمقدمة لسورة التحريم التي فيها ذكر لموضوع الأهل والزوجات، وركزت على موضوع الخلق كمقدمة لسورة الملك التي هي تفصيل لهذا المقام، وركزت في موضوع الفتنة بالأموال كمقدمة لسورة (القلم) التي تعرض قصة أصحاب الجنة وفتنتهم، ومن هذا ندرك أن سورة التغابن مقدمة لمجموعتها، وبهذه المناسبة نقول: إن مقدمة سورة البقرة كانت المقدمة المناسبة لما بعدها، وأن ما بعدها كان مناسبا لما بعده وهكذا، وفي كل مرة يأتي تفصيل جديد لسورة البقرة فإن تناسقا ما يكون بين سور المجموعات المفصلة، فما كان تفصيلا لمقدمة سورة البقرة يكون مقدمة لما بعده، ومرتبطا به برباط وثيق، فالسورة التي تفصل في مقدمة سورة البقرة هي نفسها مقدمة مناسبة لما بعدها، والسور التي تفصل فيما بعدها ترتبط بها كرباط ما بعد مقدمة سورة البقرة بمقدمتها، بحيث تلقي المقدمة أضواءها على ما بعدها، ويلقي ما بعد المقدمة أضواءه على المقدمة، وكل ذلك بشكل مدهش عجيب. فلنر الآن سورة الطلاق أو سورة النساء الصغرى. ***

سورة الطلاق

سورة الطلاق وهي السورة الخامسة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الخامسة من قسم المفصل، وهي اثنتا عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الطلاق

بين يدي سورة الطلاق: قدم الألوسي رحمه الله لسورة الطلاق بقوله: (وتسمى سورة- النساء القصرى- كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري، وغيره، وأنكره الداودي، فقال: لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشئ من سور القرآن: قصرى. ولا صغرى، وتعقبه ابن حجر بأنه رد للأخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي، وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: طولى الطوليين، وأراد بذلك سورة الأعراف- وهي مدنية بالاتفاق-. واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية، وفيما عداه اثنتا عشرة آية، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق، ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الانفصال منهن على الوجه الجميل، وذكر عزّ وجل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة). ومن تقديم صاحب الظلال رحمه الله لسورة الطلاق نقتطف ما يلي: (هذه سورة الطلاق، يبين الله فيها أحكامه، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى (سورة البقرة) التي تضمنت بعض أحكام الطلاق، ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شئون الأسرة). (ويقف الإنسان مدهوشا أمام هذه السورة، وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها. وهي تحشد للأمر هذا الحشد العجيب من الترغيب والترهيب، والتعقيب على كل حكم، ووصل هذا الأمر بقدر الله في السماوات والأرضين، وسنن الله في هلاك العاتين عن أمره، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه. وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي، وإيثار الجميل. والإطماع في الخير. والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق، وفي اليسر والعسر. يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام، حتى ليوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين، وزيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه. وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة،

والأمر المشدد في كل حكمة بالدقة في مراعاته، وتقوى الله في تنفيذه، ومراقبة الله في تناوله. والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب! إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله! وهو الدين كله! وهو القضية التي تفصل فيها السماء، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن؛ وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص؛ وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير). (علام يدل هذا؟ إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد، إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي. فالإسلام نظام أسرة. البيت في اعتباره مثابة وسكن؛ في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر؛ وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة؛ ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل). (والدلالة الثانية لسياق السورة، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية- لا كما ينظر إليها في العقائد الوثنية، وعند أتباع الديانات المحرفة، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها). (والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوى الكريم، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها، ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير، ولا يكتفي بالتوجيه ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة). (والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد، هو أنها كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف، مما اقتضى هذا التشديد، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية، ومن التفصيلات الدقيقة، التي لا تدع

كلمة في سورة الطلاق ومحورها

مجالا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرا في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية. ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وجدها، إنما كان شائعا في العالم كله يومذاك. فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعا. فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة. ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوى الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه. وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات ... وليدة لا توأد ولا تهان. ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبا أو بكرا. وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة. ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها. شرع الإسلام هذا كله. لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض! ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء! ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي! ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى! ولا لأن هاتفا واحدا في الأرض هتف بتغيير الأحوال ... إنما كانت هي شريعة السماء للأرض. وعدالة السماء للأرض. وإرادة السماء للأرض ... أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان. هذا دين رفيع ... لا يعرض عنه إلا مطموس. ولا يعيبه إلا منكوص. ولا يحاربه إلا موكوس. فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه). أ. هـ. ... كلمة في سورة الطلاق ومحورها: تبدأ سورة الطلاق بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية خطاب لأمته بدليل قوله تعالى بعد ذلك: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مما يدل على أن الخطاب للأمة

كلها، قال النسفي: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه، وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلهم وسادا مسد جميعهم. ... إن محور سورة الطلاق هو محور سورة النساء أي: الآيات التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة والتي هي: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. ... نلاحظ أن سورة النساء بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ والآية الأولى من سورة الطلاق فيها وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ونلاحظ في سورة الطلاق تركيزا عظيما على التقوى ففيها وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وفيها وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً وفيها وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً وفيها فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ... وهكذا فالسورة تركز على التقوى، وصلة ذلك بقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ واضحة. ... وهذه السورة ركزت على التقوى من خلال عرض قضية عدة المطلقات، ومن خلال عرض أحكام تصفية آثار العلاقة الزوجية، مما يشير إلى أن العبادة لله عزّ وجل يدخل فيها الالتزام بأحكام الله عزّ وجل عامة، وتنفيذها وتطبيقها، وصلة ذلك بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ واضحة المعنى،

وكما تعرضت آيات المحور لخلق الله عزّ وجل السماء والأرض، فكذلك تعرضت سورة الطلاق، وكما تعرضت آيات المحور لإنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك تعرضت سورة الطلاق لذلك كما سنرى. ... وموضوع الطلاق تعرضت له سورة البقرة في أواخر أواسطها، وتوسعت فيه، وهاهنا تأتي سورة الطلاق لتتحدث عن جانب من جوانبه مشدودا إلى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مما يشير إلى صلة هذا الموضوع بقضية العبادة والتقوى. ... وكون سورة الطلاق آتية بعد سورة التغابن التي فصلت في مقدمة سورة البقرة، وقبل سورة التحريم المفصلة في محور سورة المائدة، أي: في الآيتين بعد الآيات التي ذكرناها كمحور لسورة الطلاق، فهذا يؤكد أن سورة الطلاق تفصل في هذا المحور المذكور. ولنبدأ عرض السورة ولنعرضها على فقرات. ***

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (3) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطلاق (65): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) التفسير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قال ابن كثير: خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفا وتكريما، ثم خاطب الأمة تبعا إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ قال النسفي: (أي: إذا أردتم تطليقهن، وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه) فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، وذلك بأن تطلق المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها الثلاثة، التي بها تنقضي عدتها، فلا تطلق في حيض، ولا في طهر جامعها فيه، وذلك من أجل أن تستقبل عدتها بأخصر وقت، ومن أجل أن

يطلقها زوجها وهو في كامل إدراكه وتفكيره وتعقله، ملاحظا في ذلك حالته النفسية، وفي ذلك من الحكم الكثير مما سنراه في الفوائد، قال النسفي (وهو حنفي): (والمراد أن تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن، وهذا أحسن الطلاق). أقول: وسنرى في الفوائد ما هو أحسن الطلاق؟، وما هو حسنه؟، وما هو الطلاق البدعي؟، فالآية هنا دعت لأحسن الطلاق، وذلك بأن يطلق الرجل زوجته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، وينتظر انقضاء عدتها، وهي ثلاثة قروء، على خلاف بين العلماء في تفسير القرء، فالشافعية يعتبرونه الطهر، والحنفية يعتبرونه الحيض، فمتى طهرت من حيضتها الثالثة عند الحنفية وقع الطلاق بائنا، أي: مفرقا، أما قبل انتهاء العدة فالطلقة رجعية، أي: يحق له أن يراجعها في العدة دون عقد جديد بالقول بأن يقول: راجعتك، أو بالفعل بأن يعاملها معاملة الأزواج من مس بشهوة، أو قبلة أو جماع، أما بعد انقضاء العدة فلا بد من عقد جديد بشروطه، والطلقة وقعت في الحالتين بمعنى: أنه لم يبق للزوج حق إلا في طلقة واحدة، ثم تكون بالثالثة البينونة الكبرى التي لا تحل معها لزوجها الأول إلا بعد أن تتزوج غيره، فيدخل بها ثم يطلقها، وتنقضي عدتها، وعندئذ تحل لزوجها الأول، وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ قال النسفي: (أي: واضبطوها بالحفظ، وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، وخوطب الأزواج لغفلة النساء)، وقال ابن كثير: (أي: احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها، لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج) وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ أن تخالفوا أمره ونهيه وحدوده وأحكامه، أو تزوروا أو تتلاعبوا في شئ من أحكام شرعه أو حقوق عباده لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ قال ابن كثير: (أي: في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج، لأنها متعلقة لحق الزوج أيضا) وقال النسفي: (أي: لا تخرجوهن حتى تنقضي عدتهن من بيوتهن أي: مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى، وفيه دليل على أن السكنى واجبة ... ومعنى الإخراج: أن لا يخرجهن البعولة غضبا عليهن، وكراهة لمساكنتهن، أو لحاجة لهم إلى المساكن، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذانا بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر) وَلا يَخْرُجْنَ بأنفسهن إن أردن ذلك إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن كثير: أي: لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة، فتخرج

[سورة الطلاق (65): الآيات 2 إلى 3]

من المنزل. والفاحشة المبينة تشمل الزنا ... وتشمل ما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال وَتِلْكَ أي: الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ أي: شرائعه ومحارمه وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي: يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها، ولا يأتمر بها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي: بفعل ذلك، لأنه عرضها لعقوبة الله في الدنيا والآخرة لا تَدْرِي أيها المخاطب لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قال النسفي: (بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها، والمعنى: فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون) وقال ابن كثير: (أي: إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها، ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل). وقد بنى على هذه الآية كثير من الفقهاء كثيرا من الأحكام سنراها في الفوائد، ثم قال تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ قال ابن كثير: (يقول تعالى فإذا بلغت المعتدات أجلهن، أي: شارفن على انقضاء العدة، وقاربن ذلك، ولكن لم تفرغ العدة الكلية، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه، والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده بِمَعْرُوفٍ أي: محسنا إليها في صحبتها، وإما أن يعزم على مفارقتها بمعروف، أي: من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن). وقال النسفي: (أي: فإذا قاربن آخر العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي: فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار، وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلا للعدة عليها وتعذيبا لها) وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: من المسلمين، قال النسفي: يعني وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا، وهذا الإشهاد مندوب إليه لئلا يقع بينهما التجاحد. وذهب عطاء إلى وجوبه. فقال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال تعالى، إلا أن يكون من عذر. أقول: إن في إبقاء المرأة في بيت زوجها في العدة ما يدل على أن الإشهاد مندوب إليه وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي: لوجهه خالصا، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر ذلِكُمْ أي: الحث على إقامة الشهادة لوجه الله من أجل القيام بالقسط يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: إنما ينتفع به هؤلاء،

كلمة في السياق

وقال ابن كثير: (أي: هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر، وأنه شرع هذا، ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة، ومن هاهنا ذهب الشافعي في أحد قوليه إلى وجوب الإشهاد في الرجعة كما يجب عنده في ابتداء النكاح، وقد قال بهذا طائفة من العلماء، ومن قال بهذا يقول إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال ابن كثير: أي: ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهة لا تخطر بباله، قال النسفي: (هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة والمعنى: ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ أي: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: ومن يكل أمره إلى الله عن طمع غيره وتدبير نفسه فَهُوَ حَسْبُهُ أي: كافيه في الدارين إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ أي: منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً قال النسفي: أي: تقديرا وتوقيتا وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه، لأنه إذا علم أن كل شئ من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوفيقه، لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل. كلمة في السياق: 1 - إن الأمر بالتقوى والتوكل في سياق الكلام عن الطلاق والعدة سببه أن الطلاق يقتضي زواجا جديدا وعقدا، وبقاء المعتدة في بيت الزوجية يقتضي إنفاقا عليها، وإرجاع المعتدة أو تفريقها يكاد أن يكون قفزة بالمجهول، وكل ذلك يقتضي توكلا ويحتاج إلى تقوى. 2 - يلاحظ أن سورة التغابن- وهي السورة السابقة على سورة الطلاق- أمرت بالتوكل، وأمرت بالتقوى بقدر الاستطاعة، وأمرت بالإنفاق، ومما ذكرت به كون الأزواج فتنة، وأن بعض الأزواج أعداء لأزواجهن، وندبت إلى العفو والصفح، وصلة ذلك ببداية سورة الطلاق واضحة، فتشريع الطلاق مرتبط بوجود حالات من

الفقرة الثانية

العلاقات الزوجية لا تحتمل، ومع أن الله عزّ وجل ندب إلى العفو والصفح فهناك حالات لا حل لها إلا الطلاق، وقد أمر الله بالطلاق بشكل تستنفد فيه كل إمكانية لإبقاء العلاقة الزوجية، حتى إذا لم يبق مناص كان الخلاص بمعروف، فصلة أوائل سورة الطلاق بأواخر سورة التغابن واضحة، وأن تكون سورة التغابن مقدمة لسورة الطلاق فذلك أيضا واضح. 3 - وبعد أن بين الله عزّ وجل عدة المطلقة طلاقا رجعيا إذا كانت تحيض، فإنه يبين عدة من لا تحيض لكبر أو صغر أو لسبب، كما يبين عدة الحامل. *** الفقرة الثانية وتمتد من الآية (4) إلى نهاية الآية (5) وهذه هي: [سورة الطلاق (65): الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) التفسير: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ بأن أصبحن لا يحضن لكبر سنهن إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: إن أشكل عليكم حكمهن، وجهلتم كيف يعتددن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ أي: فهذا حكمهن، قال النسفي: (وقيل إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة،

[سورة الطلاق (65): آية 5]

فعدتهن ثلاثة أشهر، وإذا كانت عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك) وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ قال النسفي: هن الصغائر وتقديره، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها. قال ابن كثير: (يقول تعالى مبينا لعدة الآيسة- وهي التي قد انقطع عنها المحيض لكبرها- إنها ثلاثة أشهر عوضا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض، كما دلت على ذلك آية سورة البقرة، كذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض، أي: عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر ولهذا قال تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وقوله تعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ فيه قولان (أحدهما) وهو قول طائفة من السلف كمجاهد والزهري وابن زيد إن رأين دما وشككتم في كونه حيضا أو استحاضة وارتبتم فيه، (والقول الثاني) إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر) وَأُولاتُ الْأَحْمالِ عدتهن أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال النسفي: والنص يتناول المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما: عدة الحامل المتوفى زوجها أبعد الأجلين. وقال ابن كثير: (يقول تعالى: ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نص هذه الآية الكريمة وكما وردت به السنة النبوية، وقد روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع أو الأشهر؛ عملا بهذه الآية، والتي في سورة البقرة) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي: ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى، قال ابن كثير: أي: يسهل له أمره وييسره عليه، ويجعل له فرجا قريبا، ومخرجا عاجلا. أقول: التذكير بهذا في هذا السياق يفيد أن على المسلم ألا يبالي إلا بتنفيذ حكم الله، والله يعده أن تكون أموره كلها إلى تيسير ذلِكَ أي: ما علم من حكم هؤلاء المعتدات أَمْرُ اللَّهِ أي: حكمه وشرعه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال النسفي: أي: من اللوح المحفوظ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في العمل بما أنزله من هذه الأحكام، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فلا يحاسب عليها وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي: ويكثر له الجزاء، قال ابن كثير: أي: يذهب عنه المحذور ويجزل له الثواب على العمل اليسير. كلمة في السياق: 1 - في سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وورد قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ

الفقرة الثالثة

بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فعلم من هذا وهذا عدة المرأة في حالتين، وتساءل بعض الصحابة عن عدة المرأة في حالات أخر كما قال ابن كثير ناقلا عن ابن جرير: (وقال أبي بن كعب: يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال، قال: فأنزل الله عزّ وجل وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فروى ... عن أبي بن كعب قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء لم يذكر في القرآن: الصغار والكبار اللائي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل قال: فأنزلت التي في النساء القصرى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وهكذا نجد أن سورة الطلاق تفصل في موضوعات طرقتها سورة البقرة، أو تكملها، وفي ذلك إشارة إلى ارتباط هذه الآيات وهذه المعاني في الطريق إلى التقوى، ومن ثم جاءت في سياق سورة تفصل في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولذلك كثر الكلام عن التقوى في سياق السورة. 2 - بعد أن فصل الله عزّ وجل في العدة وأحكامها، ورأينا أن من أحكامها أن لا تخرج المعتدة من بيتها تأتي فقرة لتبين ما له علاقة بالسكن والنفقة للمعتدة، حاملا أو غير حامل. *** الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (6) إلى نهاية الآية (7) وهذه هي: [سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

التفسير

التفسير: أَسْكِنُوهُنَّ قال ابن كثير: يقول تعالى آمرا عباده إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ قال ابن كثير: أي: عندكم، وقال النسفي: أي: أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم أي: بعض مكان سكناكم مِنْ وُجْدِكُمْ الوجد: الوسع والطاقة، قال النسفي: كأنه قيل أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه. وقال قتادة: إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه، قال النسفي- وهو حنفي-: (والنفقة والسكنى واجبتان لكل مطلقة لها عدة) وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ قال النسفي: (أي: ولا تستعملوا معهن الضرار لتضيقوا عليهن في السكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن، أو يشغل مكانهن، أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج). وقال مقاتل بن حيان: يعني: يضاجرها لتفتدي منه بمالها، أو تخرج من مسكنه، وقال الثوري عن أبي الضحى: يطلقها، فإذا بقي يومان راجعها وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال النسفي: (وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل فنفى ذلك الوهم) وقال ابن كثير: (قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف: هذه في البائن إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا: بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا، وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية؛ لأن الحمل تطول مدته غالبا فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق على الوضع، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة، ثم اختلف العلماء هل النفقة لها بواسطة الحمل أم للحمل وحده؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره، ويتفرع عليها مسائل كثيرة مذكورة في علم

[سورة الطلاق (65): آية 7]

الفروع) فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ قال ابن كثير: (أي: إذا وضعن حملهن وهن طوالق فقد بن بانقضاء عدتهن، ولها حينئذ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللبإ وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالبا إلا به، فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة)، وقال النسفي: (يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولدا من ظئرهن، أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فحكمهن في ذلك حكم الأظآر، ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن خلافا للشافعي رحمه الله) وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ أي: تشاوروا على التراضي في الأجرة، أو ليأمر بعضكم بعضا، والخطاب للآباء والأمهات بِمَعْرُوفٍ أي: بما يليق بالسنة، ويحسن في المروءة، فلا يماكس الأب، ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما، وهما شريكان فيه، وفي وجوب الإشفاق عليه وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى قال ابن كثير: (أي: وإن اختلف الرجل والمرأة فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيرا، ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها)، وقال النسفي: (أي: وإن تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الأب على ذلك فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، وقوله له أي: للأب أي: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ قال ابن كثير: أي: لينفق على المولود والده، أو وليه بحسب قدرته، وقال النسفي: أي: لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه: يريد ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ومن ضيق عليه رزقه فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي: مما رزقه الله، أي: فلينفق على قدر قوته لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي: إلا ما أعطاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي: سيجعل الله بعد ضيق في المعيشة سعة، وهذا وعد لذي العسر باليسر. كلمة في السياق: بانتهاء الفقرة الثالثة ينتهي الكلام عن أحكام العدة، وتأتي الآن فقرة رابعة تعظ وعظا عاما، مهددة ومنذرة أن تخالف أوامر الله ورسوله، ومبشرة الذين يلتزمون

نقل

بأحكام الله، ويلاحظ أن الوعظ في ابتداء الفقرة انصب مخاطبا القرى دون الأفراد، وكأن في ذلك إنذارا للأمم التي تعتمد قوانين تخالف شرع الله. نقل: عقب صاحب الظلال عند نهاية الفقرة الأخيرة بقوله: (وإلى هنا يكون قد تناول سائر أحكام الطلاق ومتخلفاته، وتتبع كل أثر من آثاره حتى انتهى إلى حل واضح؛ ولم يدع من البيت المتهدم أنقاضا ولا غبارا يملأ النفوس ويغشى القلوب، ولم يترك بعده عقابيل غير مستريحة بعلاج، ولا قلاقل تثير الاضطراب. وكذلك يكون قد عالج جميع الوساوس والهواجس التي تثور في القلوب، فتمنعها من السماحة والتيسير والتجمل للأمر. فأبعد أشباح الفقر والضيق وضياع الأموال من نفس الزوج إذا هو أسكن وأنفق ووسع على مطلقته أو مرضعة ولده. ومن نفس الزوجة التي تضيق بنفقة الإعسار، أو تطمع في زيادة ما تصيب من مال زوجها السابق. فأكد اليسر بعد العسر لمن اتقى، والضيق بعد الفرج، والرزق من حيث لا يحتسب. وفوق رزق الدنيا رزق الآخرة والأجر الكبير هناك بعد التكفير. كما عالج ما تخلفه حالة الخلاف والشقاق التي أدت إلى الطلاق. من غيظ وحنق ومشادة وغبار في الشعور والضمير ... فمسح على هذا كله بيد الرفق والتجمل، ونسم عليه من رحمة الله والرجاء فيه؛ ومن ينابيع المودة والمعروف التي فجرها في القلوب بلمسات التقوى والأمل في الله وانتظار رضاه. وهذا العلاج الشامل الكامل، وهذه اللمسات المؤثرة العميقة، وهذا التوكيد الوثيق المتكرر ... هذه كلها هي الضمانات الوحيدة في هذه المسألة لتنفيذ الشريعة المقررة. فليس هناك ضابط إلا حساسية الضمائر وتقوى القلوب. وإن كلا الزوجين ليملك مكايدة صاحبه حتى تنفقئ مرارته إذا كانت الحواجز هي فقط حواجز القانون!! وبعض الأوامر من المرونة بحيث تسع كل هذا. فالأمر بعدم المضارة: لا تُضآرُّوهُنَّ يشمل النهي عن ألوان من العنت لا يحصرها نص قانوني مهما اتسع. والأمر فيه موكول إلى هذه المؤثرات الوجدانية، وإلى استجاشة حاسة التقوى وخوف الله المطلع على السرائر، المحيط بكل شئ علما. وإلى التعويض الذي يعده الله للمتقين في الدنيا والآخرة. وبخاصة في مسألة الرزق التي تكرر ذكرها في صور شتى،

الفقرة الرابعة

لأنها عامل مهم في تيسير الموقف، وتندية الجفاف الذي تنشئه حالة الطلاق. وإن الزوجين ليفارقان- في ظل تلك الأحكام والتوجيهات- وفي قلوبهما بذور للود لم تمت، ونداوة قد تحيي هذه البذور فتنبت ... ذلك إلى الأدب الجميل الرفيع الذي يريد الإسلام أن يصبغ به الجماعة المسلمة، ويشيع فيها أريجه وشذاه. فإذا انتهى السياق من هذا كله ساق العبرة الأخيرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا. وعلق هذه العبرة على الرءوس، تذكرهم بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتقي ولا يطيع. كما تذكرهم بنعمة الله على المؤمنين المخاطبين بالسورة والتشريع). *** الفقرة الرابعة وتمتد من الآية (8) إلى نهاية الآية (11) وهذه هي: [سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 11] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)

التفسير

التفسير: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: وكثير من القرى عَتَتْ أي: عصت عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أي: أعرضت عنه على وجه العتو والفساد، قال ابن كثير: أي: تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً قال النسفي: بالاستقصاء والمناقشة وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي: منكرا فظيعا فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي: غب مخالفتها، وندموا حيث لا ينفع الندم وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي: خسارا وهلاكا، قال النسفي: والمراد حساب الآخرة وعذابها، وما يذوقون فيها من الوبال، ويلقون من الخسر. أقول: الظاهر من كلام ابن كثير أنه حمل ما مر على عذاب الدنيا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً قال ابن كثير: أي: في الدار الآخرة، مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا، ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: يا أولي الأفهام المستقيمة الَّذِينَ آمَنُوا أي: صدقوا بالله ورسله، دل ذلك على أن المؤمن وحده هو ذو العقل والفهم، والمعنى: فاتقوا الله يا أيها المؤمنون أن تكونوا مثلهم؛ فيصيبكم ما أصابهم قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً يعني القرآن، فلا يليق بكم بعد أن أنزل الله إليكم هذا الذكر ألا تتقوه رَسُولًا هل المراد بكلمة رسول هنا (محمد صلى الله عليه وسلم) فيكون التقدير: قد أنزل الله إليكم ذكرا، أرسل به رسولا، أو أن القرآن نفسه رسول من الله إليكم، قولان من مجموعة أقوال للمفسرين يَتْلُوا عَلَيْكُمْ أي: الرسول أو القرآن آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ موضحات فإن أريد بالتالي رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون الآيات البينات هي نفس القرآن، وإن أريد بالتالي القرآن يكون المراد بالآيات المبينات ما تحدث به القرآن عن آيات الله في الآفاق والأنفس، وما كان ويكون لِيُخْرِجَ الرسول أو القرآن بتلاوة الآيات الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً في تنكير الرزق معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمنين من الثواب.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بعد أن عرضت الفقرات الثلاث الأولى بعض الأحكام الشرعية، والسنن الإلهية، جاءت الفقرة الرابعة تبشر وتنذر، وتقرر وتأمر، فبشرت المؤمنين، وأنذرت المخالفين، وذكرت ما أعد الله للصالحين، وأمرت المؤمنين أولي الألباب بتقوى الله، ولو أنك تأملت الآيات الثلاث من سورة البقرة والتي جاءت بعد آيتي يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لرأيت فيها المعاني التي تعرضت لها الفقرة الرابعة: جاء بعد الآيتين اللتين ذكرناهما من البقرة قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ويقابلها في الفقرة قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ ... ثم جاء بعد آية من سورة البقرة وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً ... يقابلها وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً وهكذا نجد أن سورة الطلاق تفصل في محورها من سورة البقرة ضمن سياقها الخاص. 2 - ولم يبق عندنا من سورة الطلاق إلا آية واحدة، هذه الآية تلقي أضواءها على كل ما مر، وهي بمثابة الحض على الالتزام والإيمان، هذه الآية هي الفقرة الخامسة في السورة فلنرها. ***

الفقرة الخامسة

الفقرة الخامسة وهي نهاية السورة أي الآية (12) وهذه هي: [سورة الطلاق (65): آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) التفسير: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ قال النسفي: أجمع المفسرون على أن السموات سبع وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ قال النسفي: قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية. أقول: وهل المراد بالأرضين السبع أن الكرة الأرضية سبع طبقات سميت كل طبقة منها أرضا، أو المراد بها سبع من الكواكب السيارة لها خواص الأرض، أو المراد بها سبع أرضين مثل أرضنا تابعة لشموس مثل شمسنا؟ أقوال سنرى تحقيقها في الفوائد يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ قال النسفي: أي: يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن لِتَعْلَمُوا من تأملكم لخلقه السموات والأرضين أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ولولا ذاك ما كان مثل هذا الخلق وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً وإلا فكيف خلق هذه السموات والأرضين على مثل هذه الدقة؟!. لاحظ أن سورة النساء انتهت بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وأن سورة الطلاق قد انتهت بقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً. كلمة في السياق: 1 - في ختم السورة بهذه الآية تبيان لكون أحكام الله عزّ وجل في غاية الإحكام، كيف لا وهو المحيط علما بكل شئ، كما أن فيها تبيانا لقدرة الله على إيجاد ما وعد وأوعد، كيف لا وهو القادر على كل شئ. 2 - أمر الله عزّ وجل في محور السورة من سورة البقرة عباده بالعبادة والتقوى؛ قياما بحق الشكر له على ما خلقهم، وخلق لهم الأرض والسماء يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

الفوائد

الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً والملاحظ أن الله عزّ وجل ختم سورة الطلاق بذكر خلق السموات والأرضين ليهيج عباده على الإيمان والالتزام، وفي ذلك كذلك مظهر من مظاهر التفصيل، واتصال سورة الطلاق بمحورها من سورة البقرة، والملاحظ أن المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة ختم بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وقد جاء في خاتمة سورة الطلاق بعض هذا مما يؤكد صلة السورة بمحورها وامتداداته وارتباطاته، وأن السياق الخاص للسورة كان واضح الترابط والاتصال، فلا نقف أكثر من ذلك عنده. ولنبدأ بنقل بعض الفوائد المتعلقة بالسورة. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال ابن كثير: (وروى البخاري عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر بها الله عزّ وجل» هكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه ومسلم ولفظه: «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة وموضع استقصائها كتب الأحكام، وأحسن لفظ يورد هاهنا ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر- وأبو الزبير يسمع-: كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليراجعها» فردها وقال: «إذا طهرت فليطلق أو يمسك» قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ في قبل عدتهن. وروى الأعمش عن عبد الله في قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: الطهر من غير جماع، وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة وميمون بن مهران ومقاتل بن حيان مثل ذلك، وهو رواية عن عكرمة والضحاك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها

تطليقة. وقال عكرمة فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ العدة: الطهر، والقرء الحيضة أو أن يطلقها حبلى مستبينا حملها، ولا يطلقها وقد طاف عليها، ولا يدري حبلى هي أم لا. ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه: طلاق السنة، وطلاق بدعة: فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرة من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها، والبدعي: هو أن يطلقها في حال الحيض أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا، وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها، وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع والله سبحانه وتعالى أعلم). أقول: الحكمة في أنه لا ينبغي أن يطلق الإنسان زوجته وهي حائض كيلا يطيل عليها العدة، والحكمة في ألا يطلقها في طهر جامعها فيه لأنه لا يعرف هل حملت أو لم تحمل، فإذا حملت من جماعه هذا فإن عدتها ستطول كثيرا وفي ذلك إضرار بها. 2 - بمناسبة قوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أقول: الطلاق ثلاثة أنواع: طلاق رجعي، وطلاق بائن بينونة صغرى، وطلاق بائن بينونة كبرى. فالطلاق الرجعي: هو أن يطلق الرجل زوجته المدخول بها طلقة واحدة بلفظ الطلاق، فهذا رجعي بمعنى أنه يحق له أن يراجعها ما دامت في العدة، ولذلك فعليه أن يبقيها في بيته، وأن يقدم لها نفقتها، فإذا انقضت عدتها فقد أصبح الطلاق بائنا، فلا ترجع إليه إلا بعقد جديد بشروطه. والطلاق البائن بينونة صغرى: هو طلاق الرجل زوجته قبل أن يدخل بها، أو طلاقه إياها بألفاظ الكنايات، أو طلاقه إياها طلاقا رجعيا مع عدم إرجاعها حتى انقضت عدتها. وأما الطلاق البائن بينونة كبرى: فهو أن يطلقها ثلاثا، فهذا يبينها منه بينونة كبرى فلا يجوز له أن يتزوجها مرة ثانية إلا بعد أن تتزوج زوجا غيره، ثم يطلقها الثاني وتنقضي عدتها منه. والطلاق حسن وأحسن وبدعي. فالأحسن أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، وينتظر حتى تنقضي عدتها فيقع عليه في هذه الحالة طلاق واحد، والحسن أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، ثم ينتظر حتى يأتي الطهر اللاحق فيطلقها فيه طلقة ثانية، ثم ينتظر الطهر الثالث فيطلقها فيه طلقة ثالثة، فعندئذ تبين منه بينونة كبرى، وعليها العدة. والطلاق البدعي ما سوى ذلك، كأن يطلقها في الحيض، أو يطلقها في طهر جامعها فيه، أو يطلقها تطليقتين، أو ثلاثا دفعة واحدة، وهناك معارك فقهية تدور في هذه

الأمور فلتراجع في كتب الفروع. والفقهاء مجمعون على أن المطلقة طلاقا رجعيا تجب لها النفقة والسكنى، ومختلفون في بعض صور الطلاق هل تجب فيها النفقة والسكنى للمرأة في العدة أو لا، وقد رأينا أن مذهب الحنفية يوجب النفقة والسكنى لكل مطلقة لها عدة. ولأحسن الطلاق ميزة هي أن المرأة تراجع نفسها والرجل يراجع نفسه خلال فترة العدة، ولذلك يندب للمرأة أن تتشوف له وتتزين. والجواذب في هذه الحالة كثيرة إذ تمضي عليها فترة طويلة تشتاق بها إلى العشرة وهو كذلك، فما لم يكن النفور له مبرراته الكبرى فلا بد أن يتراجعا، لذلك علل الله عزّ وجل لعدم إخراجها من بيتها بقوله: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ حتى فرغ من الآية ثم قال: «يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم» قال: فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست ثم قال: «يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة؟» قلت: إلى السعة والدعة أنطلق فأكون حمامة من حمام مكة قال: «كيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟» قال: قلت: إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة، قال: «وكيف تصنع إذا أخرجت من الشام؟» قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي، قال: «أو خير من ذلك» قلت: أو خير من ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع ولو كان عبدا حبشيا». وروى ابن أبي حاتم عن شتير بن شكل قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وإن أكبر آية في القرآن فرجا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواه ابن جرير، وروي أيضا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه. وروى الإمام أحمد عن عبد الله ابن أبي الجعد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» ورواه النسائي

وابن ماجه من حديث سفيان وهو الثوري به. وقال محمد بن إسحاق: جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابني عوف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» وكانوا قد شدوه بالقد، فسقط القد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل، فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه، فصاح بهم، فاتبع أولها آخرها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فقال أبوه: عوف ورب الكعبة، فقالت أمه: وا سوأتاه وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد، فاستبقا الباب والخادم، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعا بمالك» ونزل وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواه ابن أبي حاتم. وروى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها». 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» وقد رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنا أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل»). 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال ابن كثير: (روى البخاري عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة،

فقال ابن عباس: آخر الأجلين قلت أنا: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي- يعني أبا سلمة- فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل فيمن خطبها، هكذا أورد البخاري هذا الحديث ههنا مختصرا وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر، وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت، فلما تعلت من نفاسها خطبت، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح فأذن لها أن تنكح فنكحت، ورواه البخاري في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عنها كما روى مسلم بن الحجاج عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها، وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته، فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. هذا لفظ مسلم ورواه البخاري مختصرا). 6 - بمناسبة قوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن أبي سنان قال سأل عمر ابن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاءه الرسول فأخبره فقال: رحمه الله تعالى تأول هذه الآية لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ). 7 - بمناسبة قوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً قال ابن كثير:

(وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ههنا فروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدرون على شئ، فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعا قد أصابته مسبغة شديدة، فقال لامرأته: عندك شئ؟ قالت: نعم أبشر أتانا رزق الله، فاستحثها فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شئ، قالت: نعم، هنيهة، ترجو رحمة الله، حتى إذا طال عليه الطول، قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شئ فائتني به؛ فإني قد بلغت وجهدت، فقالت: نعم، الآن نفتح التنور فلا تعجل، فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أن يقول لها قالت: من عند نفسها لو قمت فنظرت إلى تنوري، فقامت فنظرت إلى تنورها ملآن من جنوب الغنم، ورحييها تطحنان، فقامت إلى الرحى فنفضتها، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم، قال أبو هريرة: فو الذي نفس أبي القاسم بيده هو قول محمد صلى الله عليه وسلم: «لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة». وروى في موضع آخر ... عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته، ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت، قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا، قال فرجع الزوج فقال: أصبتم بعدي شيئا؟ قالت امرأته: نعم من ربنا، فأم إلى الرحى فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة»). 8 - بمناسبة قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ قال صاحب الظلال: (وبين هذه السماوات السبع والأرض أو الأرضين السبع يتنزل أمر الله- ومنه هذا الأمر الذي هم بصدده في هذا السياق. فهو أمر هائل إذن، حتى بمقاييس البشر وتصوراتهم في المكان والزمان بقدر ما يطيقون التصور. والمخالفة عنه مخالفة عن أمر تتجاوب به أقطار السماوات والأرضين، ويتسامع به الملأ الأعلى وخلق الله الآخرون في السماوات والأرضين. فهي مخالفة بلقاء شنعاء، لا يقدم عليها ذو عقل مؤمن، جاءه رسول يتلو عليه آيات الله مبينات، ويبين له هذا الأمر، ليخرجه من الظلمات إلى النور). ***

كلمة أخيرة في سورة الطلاق

كلمة أخيرة في سورة الطلاق: إن الشئ الذي نلفت إليه النظر في هذه الكلمة عن سورة الطلاق هو ما نجده في هذه السورة من إعجاز واضح، فالسورة تحدثت عن أحكام شرعية غزيرة، وعبرت عنها بما رأيناه، فليتأمل المتأملون هل بإمكان بشر أن يصوغ هذه المعاني كلها بمثل هذه الصياغة الدقيقة الجامعة الواسعة المعاني، وبهذا الأسلوب، وبهذه السلاسة، وبهذا الجرس، وبهذا التسلسل، وبهذا البيان، وبما يتفق مع روح القرآن كله، وبما يؤدي دوره ضمن الوحدة القرآنية، هل بإمكان بشر- كائنا من كان- أن يفعل هذا؟ أغنى الصباح عن المصباح، متى احتاج النهار إلى دليل. ولننتقل إلى سورة التحريم. ***

سورة التحريم

سورة التحريم وهي السورة السادسة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الخامسة من قسم المفصل، وهي اثنتا عشرة آية وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة التحريم

بين يدي سورة التحريم: قدم الألوسي لسورة التحريم بقوله: (ويقال لها: سورة المتحرم، وسورة (لم تحرم)، وسورة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن الزبير: سورة النساء. والمشهور أنها مدنية، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر، والباقي مكي، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق، وهي متواخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإماء، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة، ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة، ولذا ختمت بذكر زوجيه صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون. ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة). ومن تقديم صاحب الظلال لهذه السورة نقتطف ما يلي: (وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته صلى الله عليه وسلم وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك ... ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه). (وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حياة أزواجه. وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة. بمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات. وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة. أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار. كما ورد مشهد الكافرين في هذه النار. واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط، كمثل للكفر في بيت مؤمن. وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله، وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين). ***

كلمة في سورة التحريم ومحورها

كلمة في سورة التحريم ومحورها: قلنا إن محور سورة التحريم هو محور سورة المائدة أي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لاحظ أن سورة المائدة يرد فيها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهذه سورة التحريم تبدأ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وتأمر سورة التحريم بالتوبة النصوح، وجهاد الكافرين والمنافقين، وصلة ذلك بنقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض واضحة، والملاحظ أن آيتي سورة البقرة اللتين قلنا إنهما محور سورة التحريم تبدآن بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وأن سورة التحريم يرد فيها قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا* وههنا نحب أن نسجل ملاحظة. في هذه المجموعة وردت سورتان مبدوءتان ب (يا أيها)، وفي المجموعة القادمة سترد سورتان مبدوءتان ب (يا أيها) سورتا المزمل والمدثر، وفي القسم الأول من أقسام القرآن وردت سورتان مبدوءتان بقوله تعالى: يا أَيُّهَا* هما سورتا النساء والمائدة، وقلنا إن محور السورة الأولى من كل هذه السور هو يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وقلنا إن محور السورة الثانية من كل هذه السور هو إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا والملاحظ أن سورة التحريم يرد فيها ذكر المثل بقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ... * وأن سورة المدثر يرد فيها قوله تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لاحظ ذكر المثل ولاحظ المطابقة الحرفية بين قوله تعالى في سورة البقرة عن المثل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً أليس في وجود مثل هذه المعاني دليل على صحة ما اتجهنا إليه في فهم السياق الكلي للقرآن والوحدة القرآنية، ولنعد إلى الكلام عن سورة التحريم.

إن لسورة التحريم سياقها الخاص ككل سورة، كما أنها تفصل في محورها، وسنرى ذلك كله بالتفصيل أثناء عرضها. تنقسم السورة إلى فقرتين واضحتين: تبدأ الفقرة الأولى ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ وتنتهي ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ وتبدأ الفقرة الثانية بقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا. تنتهي الفقرة الأولى بنهاية الآية (9)، وتنتهي الفقرة الثانية بنهاية السورة. ***

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتستمر من الآية (1) حتى نهاية الآية (9) وهذه هي. المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) المجموعة الثانية [سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

ملاحظة

ملاحظة: لفهم السورة فهما دقيقا يحسن أن نذكر رواية في أسباب النزول تعين على الفهم: قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان؟ قال: عائشة وحفصة، وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم مارية، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها فوجدت حفصة فقالت: يا نبي الله لقد جئت إلي شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي قال: «ألا ترضين أحرمها فلا أقربها» قالت: بلى، فحرمها وقال لها: «لا تذكري ذلك لأحد» فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ الآيات كلها، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر عن يمينه وأصاب جاريته، وروى الهيثم بن كليب في مسنده عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: «لا تخبري أحدا وإن أم إبراهيم علي حرام» فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: «فو الله لا أقربها» قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة قال: فأنزل الله تعالى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه المستخرج)، وسنرى في الفوائد روايات أخرى في سبب النزول يفيد بعضها أن الذي حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسه هو شربه العسل عند زينب بنت جحش زوجته رضي الله عنها.

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من ملك اليمين على حسب الرواية التي نقلناها، أو من شرب العسل عند زينب بنت جحش زوجته عليه الصلاة والسلام تَبْتَغِي بالتحريم مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وفي هذا ما فيه، قال النسفي: لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله وَاللَّهُ غَفُورٌ أي: قد غفر لك فعلتك رَحِيمٌ أي: قد رحمك فلم يؤاخذك به قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ قال النسفي: أي: قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي: سيدكم ومتولي أموركم. قال النسفي: وقيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم فيشرعه لكم الْحَكِيمُ فيما أحل وحرم وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ وهي حفصة حَدِيثاً هو تحريمه مارية، أو تحريمه شرب العسل على نفسه عند زينب رضي الله عنها فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي: فحين أخبرت به، والتي أخبرتها به هي عائشة رضي الله عنها وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي: وأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبريل عَرَّفَ بَعْضَهُ أي: أعلم ببعض الحديث وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فلم يخبر تكرما، قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي: فلما نبأ النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة قالَتْ حفصة مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ بالسرائر الْخَبِيرُ بالضمائر إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ قال النسفي: خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي: إن تتوبا إلى الله فقد استمعت قلوبكما لأمر الله استماع قبول وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي: وإن تتعاونا عليه بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره أو في الاستمرار على حاليكما في صنع ما لا يحبه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي: وليه وناصره، وفي ذكر الضمير (هو) إيذان بأنه سبحانه يتولى ذلك بذاته وَجِبْرِيلُ أي: أيضا وليه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي: كذلك أولياؤه، وصالح المؤمنين: هو كل من آمن وعمل صالحا وَالْمَلائِكَةُ على تكاثر عددهم بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين ظَهِيرٌ أي: مظاهرين له، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ قال النسفي: (فإن قلت

كلمة في السياق

كيف تكون المبدلات خيرا منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت: إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيرا منهن) مُسْلِماتٍ أي: داخلات في الإسلام، ومتصفات به، أو مستسلمات لله ورسوله مُؤْمِناتٍ أي: مقرات مخلصات قانِتاتٍ أي: مطيعات تائِباتٍ من الذنوب أو راجعات إلى أمر الله وإلى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: أصبحت التوبة لهن خلقا عابِداتٍ أي: لله بأصناف العبادة من صلاة وذكر سائِحاتٍ أي: صائمات، قال النسفي: (وقيل للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجئ وقت إفطاره) أقول: وفي هذه الأوصاف جماع الخيرية في المرأة، فمن ربى امرأة فليحققها بهذه الأوصاف، ومن اختار امرأة فليختر من تجمعت بها هذه الأوصاف؛ فإنها الأوصاف التي حددها الله عزّ وجل فيمن يختارها لرسوله صلى الله عليه وسلم ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً أي: منهن ثيبات ومنهن أبكار، وفي ذلك إشارة إلى أن العبرة في الخصائص لا في الثيوبة والبكارة، هذه الخصائص التي ينبغي أن تفطن لها كل مسلمة فتتحقق بها، وهي كما قال صاحب الظلال: (الإسلام الذي تدل عليه الطاعة والقيام بأوامر الدين. والإيمان الذي يعمر القلب، وعنه ينبثق الإسلام حين يصح ويتكامل. والقنوت وهو الطاعة القلبية. والتوبة وهي الندم على ما وقع من معصية والاتجاه إلى الطاعة. والعبادة وهي أداة الاتصال بالله والتعبير عن العبودية له. والسياحة وهي التأمل والتدبر والتفكر في إبداع الله والسياحة بالقلب في ملكوته). ... كلمة في السياق: 1 - مجئ هذه الآيات بعد سورة الطلاق واضح الدلالة ففي الآيات نموذج على حالة يحسن معها الطلاق حتى من أعظم الناس، وأكملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجئ هذه الآيات في المجموعة التي مقدمتها سورة التغابن- السورة التي نصت على قوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ- واضح الحكمة، إذ الآيات هنا تشير إلى مظهر من مظاهر الخطأ ترتكبه حتى أعظم النساء، وأكرمهن في حق الزوج حتى ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - رأينا في الآيات فظاعة أن تفشي المرأة سر زوجها، مهما كان هذا السر،

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

ورأينا تأديب الله عزّ وجل لمن يفعل ذلك، ورأينا الخصائص العليا التي ينبغي أن تتحقق بها الزوجة المثلى، وفي ذلك درس لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكن كذلك، ولفت نظر لكل مسلم أن يربي على هذا، وأن يختار مثل هؤلاء، والتسلسل على الشكل التالي: حادثة حدثت رتب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رتب واستكتم، فعاتبه الله على ما رتبه، وعاتب من أفشى سره، وشدد في العقاب، وطالب بالتوبة، ورفع الهمة إلى معان، كل ذلك مع غيره رأيناه في المجموعة. 3 - ما صلة هذه المجموعة بمحور السورة؟ في المجموعة عتاب على تحريم الحلال، وتبيان للمخرج منه بأن يعتبر يمينا ويكفر عنه، وفي ذلك إنكار على صيغة من صيغ التوثيق، وإنكار على أي عملية إرضاء لأي جهة بتحريم ما أحل الله، وتبيان المخرج بأن تعتبر الصيغة يمينا، وعلى صاحبها الكفارة، وصلة ذلك بالمواثيق واضحة، إذ فيها تبيان أن التكفير عن اليمين، أو ما له صفة اليمين في موافقة أمر الله لا يعتبر نقضا لميثاق الله. وفي المجموعة عتاب على إفشاء السر، والسر أمانة، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة، فخيانة الأمانة نقض للعهد، وإفساد في الأرض، وفي المجموعة عتاب على التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتظاهر على رسول الله قطع لما أمر الله به أن يوصل، ونقض للمواثيق مع الله عزّ وجل، وإفساد في الأرض، فالمجموعة تربي وتقرر وتحرر وتفتح الطريق للأوبة، وفي المجموعة بيان لخصائص المرأة التي إن تحققت بها فإنها تخرج عن كونها فاسقة، هذه الخصائص هي الإسلام، والطاعة، والإيمان، والتوبة، والعبادة، والصوم، ولذلك صلاته بمحور السورة من سورة البقرة. 4 - وبعد أن ذكر الله عزّ وجل الخصائص العليا للمرأة المسلمة في آخر آية من المجموعة الأولى تأتي أول آية في المجموعة الثانية لتقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ... وهذا يشير إلى أن المجموعة الأولى كانت مقدمة للمجموعة الثانية. *** تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى النداء الأول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً قال النسفي: (أي: قوا

[سورة التحريم (66): آية 7]

أنفسكم بترك المعاصي، وفعل الطاعات، وأهليكم بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم: نارا) وقال علي رضي الله عنه: أي: أدبوهم وعلموهم، وقال ابن عباس: أي: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله، وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها، وزجرتهم عنها، وهكذا قال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه. ثم وصف الله عزّ وجل هذه النار التي أمرنا أن نقي أنفسنا وأهلينا إياها فقال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قال النسفي: (أي: نوعا من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب). قال ابن كثير في تفسير هذه الحجارة: (قيل المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي: هي حجارة من كبريت، زاد مجاهد: أنتن من الجيفة) عَلَيْها أي: على هذه النار، أي: يلي أمرها وتعذيب أهلها مَلائِكَةٌ قال النسفي: يعني: الزبانية التسعة عشر وأعوانهم غِلاظٌ شِدادٌ قال النسفي: (أي: في أجرامهم غلظة وشدة، أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال) قال ابن كثير: (أي: طباعهم غليظة وقد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر) لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قال النسفي: وليست الجملتان في معنى واحد، إذ معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه)، وقال ابن كثير في الآية: (أي: مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله، ليس بهم عجز عنه، وهؤلاء هم الزبانية) ثم أخبر تعالى عما يقال للكافرين عند دخولهم النار يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ أي: لأنه لا عذر لهم، أو لأنه لا ينفعهم الاعتذار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: في الدنيا فلا ظلم، قال النسفي: أي: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، وقال ابن كثير: أي: يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم. كلمة في السياق: 1 - بعد أن عاتب الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك العتاب، وعاتب زوجيته

النداء الثاني

ذلك العتاب، وعرف كل مؤمن أن الأمر جد، والحساب دقيق، جاء النداء آمرا كل مؤمن بوقاية نفسه وأهله من عذاب الله. 2 - قبيل آيتي محور سورة التحريم ورد قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ لاحظ قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، ثم نذكر أن آية المحور الأولى قد ورد فيها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فبناء على الموقف من القرآن يحكم بالكفر أو بالإيمان، ويستحق الإنسان الجنة أو النار التي وقودها الناس والحجارة. ومن رؤية معاني سورة البقرة، وصلة النداء هاهنا فيها نستطيع أن نقدر ما يدخل في هذا النداء: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا بالإيقان بهذا القرآن، وبأنه منزل من عند الله على رسول الله، وبالتسليم له، وبالعلم بأنه الحق من عند الله، ولا تكونوا كالكافرين في شكهم وارتيابهم واعتراضهم وأخلاقهم التي بسببها أضلهم الله؛ بما نقضوا من مواثيق، وبما قطعوا من أرحام، وبما أفسدوا في الأرض إن الأمر بوقاية النفس والأهلين من النار إنما يكون بالوفاء، وبالصلة، وبالإصلاح. 3 - ولما كان الإنسان لا يخلو من ذنب فإن النداء الثاني يأتي مطالبا بالتوبة النصوح كبداية طريق للسير في الوقاية من النار. النداء الثاني: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي: صادقة أو خالصة، قال النسفي: أي: توبة ترفو خروقك في دينك، وترم خللك، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي: تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، وقال ابن كثير: أي: توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفر عما كان يتعاطاه من الدناءات عَسى رَبُّكُمْ قال ابن كثير: (وعسى من الله موجبة) ولذا قالوا: لم يزل الملوك والرؤساء والأمراء يجيبون بعسى، ولعل، ويقع منهم ذلك- عادة- موقع القطع والبت، فكيف لا تكون (عسى) من ملك الملوك موجبة، ومن ثم فتكفير السيئات بالتوبة النصوح

كلمة في السياق

محقق أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي: بمحوها وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وذلك إن تبتم توبة نصوحا يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي: يوم لا يذل الله النبي والمؤمنين، وذلك يوم القيامة، قال النسفي: فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر نُورُهُمْ أي: نور المؤمنين يوم القيامة يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يضئ لهم طريق الوصول إلى الجنة يَقُولُونَ إذا انطفأ نور المنافقين يوم القيامة كما ورد في سورة الحديد رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا يخشون مغبة ذنوبهم في تلك اللحظة الهائلة إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك قدرتك على إتمام النور، وغفران الذنب، وفي ختم الآية بالدعاء بالمغفرة يوم القيامة تذكير للمؤمن أن يتوب في الدنيا، ويستغفر لينفعه ذلك إذا طلب المغفرة يوم القيامة، وهكذا تجد بداية الآية ونهايتها تصبان في موضوع واحد، وهو تهييج المؤمن على التوبة والاستغفار. كلمة في السياق: 1 - بعد أن ذكر الله عزّ وجل في المجموعة الأولى ما يعلم به أن الأمر جد، وطالب في النداء الأول من الفقرة الأولى أن يقي الإنسان نفسه وأهله من النار، دل في النداء الثاني على بداية الطريق للسير الجاد بالخلاص من الذنب كله صغيره وكبيره، وذلك بالتوبة النصوح، وصلة ذلك بالنداء الأول واضحة، وصلة ذلك بالمجموعة الأولى أيضا واضحة، فالمجموعة الأولى ورد فيها قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وهاهنا بين أن المراد بالتوبة التوبة النصوح، وكان النداء عاما ليشمل كل المؤمنين، لأنه ما من مؤمن يخلو من ذنب فإذا كانت أمهات المؤمنين يؤمرن بالتوبة فبقية الخلق أولى. 2 - لم يحدد النداء الأول أو الثاني ما به تتحقق وقاية النفس والأهل من النار، ولا ما ينبغي أن يتاب منه، ومن المحور نعلم أن ذلك محدد بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فالوفاء بعهود الله، ووصل ما أمر به أن يوصل، والإصلاح في الأرض، هي طريق الوقاية من النار، والتوبة واجبة من كل ما يناقض ذلك، ودليل هذا هو مجئ النداء الثالث آمرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين، وقد رأينا من قبل أن قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ

النداء الثالث

اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ينتظم الكافرين والمنافقين، فالسياق يتوجه لخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمرا إياه بمجاهدة الذين يرفضون وقاية أنفسهم وأهليهم من النار، والذين يرفضون التوبة، فلنر النداء الثالث الذي تختم به المجموعة الثانية من الفقرة الأولى من سورة التحريم. النداء الثالث: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ قال النسفي: بالسيف وَالْمُنافِقِينَ قال النسفي: بالقول الغليظ والوعد البليغ، وقيل بإقامة الحدود عليهم، وقال ابن كثير: يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين، هؤلاء بالسلاح والقتال، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي: في الدنيا فيما تجاهدهما به من القتال، والمحاجة باللسان وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي: في الآخرة وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: المآل جهنم. كلمة في السياق: 1 - اعتدنا كثيرا أن نرى بداية مقطع تشبه نهايته، وهاهنا نرى أن الفقرة الأولى من سورة التحريم بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ وانتهت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ بدأت المجموعة بعتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريمه ما أحل الله، وانتهت بأمره بمجاهدة الكفار والمنافقين، مبينة في الوسط أخلاق المؤمنين: أنهم يتوبون إذا أذنبوا، وأنهم يقون أنفسهم وأهليهم نارا، وفي الفقرة ورد قوله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ وصلة ذلك بالأمر بالجهاد واضحة. ففي حادثة جزئية يذكر الله عزّ وجل أنه ينصر رسوله، فكيف في الصراع الكبير بين الإيمان وبين الكفر والنفاق. 2 - سياق السورة الرئيسي ينصب على معاتبة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أن المجموعة الأخيرة تضرب مثلين لامرأتين مسلمتين وامرأتين كافرتين، وذكر زوجتين كافرتين في المثل- في الوقت الذي تظاهرت فيه زوجتان على رسول الله صلى الله عليه وسلم- دليل على أن السياق الرئيسي ينصب على تأديب زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة من خلال الخطاب المباشر، وتارة من خلال الخطاب العام، ومن كل ذلك يأخذ المسلمون رجالا

ونساء درسا كبيرا في وجوب الوقوف عند الحدود. 3 - إن محور سورة التحريم هو الذي حدد الصفات المشتركة للكافرين والمنافقين. وهاهنا يأتي الأمر بجهادهم، فهذا مظهر من مظاهر ارتباط السورة بمحورها، ولعله اتضح لك بما ذكرناه حتى الآن السياق الخاص للسورة، وصلة أجزائها ببعضها، وصلة السورة بمحورها، ولعل ما سيأتي يزيد هذا كله وضوحا، فلننتقل الآن إلى عرض الفقرة الثانية في السورة. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتستمر من الآية (10) إلى نهاية السورة أي: إلى الآية (12) وهذه هي: [سورة التحريم (66): الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) ملاحظة على السياق: لاحظ صلة هذه الآيات بأوائل السورة: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ... ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ... وهذا يشير- كما قلنا- إلى أن السياق الرئيسي يصب في تأديب زوجتي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليكون في ذلك درس كبير لكل مؤمن ومؤمنة على مدى العصور، وسنرى في كلام النسفي ما يشير إلى ما ذكرناه، فليتأمله القارئ إذا وصل إليه. التفسير: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قال ابن كثير: (أي: في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئا ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال: امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ أي: نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا، يؤاكلانهما ويضاجعانهما، ويعاشرانهما أشد المعاشرة والاختلاط فَخانَتاهُما أي: في الإيمان،

[سورة التحريم (66): آية 11]

لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يجد ذلك كله شيئا، ولا دفع عنهما محذورا، ولهذا قال تعالى: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لكفرهما)، قال النسفي: أي: فلم يغن الرسولان عنهما أي: عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج إغناء ما من عذاب الله وَقِيلَ للمرأتين عند موتهما أو يوم القيامة ادْخُلَا النَّارَ مَعَ سائر الدَّاخِلِينَ الذين لا صلة بينهم وبين الأنبياء، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا قال ابن كثير: وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين، أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه. إِذْ قالَتْ امرأة فرعون رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ قال ابن كثير: (قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار) أي: لأنها قالت (عندك) قبل أن تذكر (بيتا في الجنة) وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ قال ابن كثير: أي: خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله. أقول: الظاهر أنها طلبت الخلاص من فرعون بالموت وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: من قوم فرعون جميعا، قال النسفي: وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ أي: وضرب الله مثلا مريم ابنة عمران الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي: حفظته وصانته، قال ابن كثير: الإحصان هو العفاف والحرية، وقال النسفي: (أي: من الرجال) فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا أي: فنفخ جبريل من روح الله في الفرج، أي: من روح خلقها الله، وأضافها لنفسه تشريفا، وأضاف جل جلاله النفخ لذاته الشريفة لأنه الآمر به وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ قال ابن كثير: أي: بقدره وشرعه وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي: من الطائعين. قال النسفي: لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين (الذكور والإناث) غلب ذكوره على إناثه، قال النسفي عن الفقرة الثانية: (مثل الله عزّ وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من النسب والمصاهرة، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما، فلم يغن الرسولان عنهما- أي: عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج- إغناء ما من عذاب الله، وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة ادخلا النار مع سائر الداخلين

كلمة في السياق

الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط، ومثل حال المؤمنين في أن صلة الكافرين لا تضرهم، ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفارا. وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين، وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم). ... كلمة في السياق: 1 - عرفنا من خلال كلام النسفي صلة الفقرة الأخيرة ببداية السورة، ورأينا من قبل صلة ضرب هذين المثلين بمحور السورة الذي فيه إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا .... 2 - في محور السورة ورد قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وفي الفقرة الأخيرة رأينا أن مدار النجاح عند الله على الإيمان، ومدار الخسران على الكفر، ورأينا أن مما وصف الله عزّ وجل به مريم وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وصلة ذلك بقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ في المحور واضحة. 3 - وفي السورة دروس للأسرة المسلمة ألا يرضي الزوج زوجته بمخالفة شرعية، وألا تفشي المرأة سر زوجها، وألا تعاديه وتظاهر عليه، وأن تكون الزوجة مسلمة مؤمنة قانتة عابدة تائبة صائمة، وأن على الرجال أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار، وأن على الجميع أن يتوبوا إلى الله، وأن على المرأة أن تحقق إيمانها بنفسها، ولا تغتر بأنها زوجة رجل صالح، ومن تلاحم هذه المعاني ندرك جوانب من السياق الخاص للسورة. 4 - ولعل القارئ يدرك صلة آيات السورة ببعضها لأول نظرة إلا آية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فإن صلتها بما قبلها وبما بعدها تحتاج إلى تأمل.

الفوائد

أ- بدأت السورة بعتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه حرم ما أحل الله ابتغاء مرضاة أزواجه، وقد رأينا أن سياق السورة انصب على تأديب الأزواج، ولما كان إرضاء الأزواج قد يترتب عليه ترك الجهاد لأنه كثيرا ما تجاول المرأة أن تصرف زوجها عن شئون الجهاد، ليلتفت إلى شئون العيال، فجاءت الآية تأمر بالجهاد في سياق السورة. ب- مما يراه كل عامل في الدعوة إلى الله تأثير الزوجة على زوجها، حتى ليبلغ الأمر ببعضهم أن يكون الزواج في حقه هو نقطة الانعطاف من الإيمان إلى الكفر، وكل ذلك مرده إرضاء الزوجة، فإن تأتي سورة في القرآن تحذر من هذا المنعطف نحو الفسوق، وتحمل على بذل الجهد للتقويم من خلال مخاطبة أعظم الخلق شأنا في عتابه صلى الله عليه وسلم على حادثة جزئية، وإعطائها هذا الحجم الكبير، فذلك مظهر من مظاهر حكمة هذا القرآن، ومظهر من مظاهر إحاطة الله علما بكل شئ، ولعله بهذا الذي ذكرناه، قد اتضح صلة الأمر بالجهاد في سياق هذه السورة، ولعله بذلك قد اكتملت لنا معرفة السياق الخاص للسورة، وصلتها بمحورها. الفوائد: 1 - تذكر بعض الروايات أن سبب نزول صدر سورة التحريم هو حادثة تحريمه عليه الصلاة والسلام على نفسه مارية القبطية، وهناك روايات تذكر أن سبب النزول هو تحريمه صلى الله عليه وسلم شرب العسل على نفسه عند زينب، وهناك روايات أخرى ولا يبعد أن يكون ذلك كله قد كان في زمن واحد، وقد كنا ذكرنا في ابتداء تفسير السورة بعض الروايات التي تذكر أن سبب النزول هو تحريمه مارية رضي الله عنها، وهاهنا نذكر إحدى الروايات التي تذكر أن سبب النزول هو تحريمه شرب العسل على نفسه عند زوجته زينب رضي الله عنها. (روى البخاري عند هذه الآية ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير. قال: «لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا»)، ومن أجل التوفيق بين هذه الرواية والرواية الأخرى قال الألوسي: (يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت

فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطئ جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت، فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك، فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما. والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الخ، وهو كلام صادق، إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله، فإن صح هذا هان أمر الاختلاف). 2 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ... قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ قال ابن كثير: (وروى الطبراني ... عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريته، ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته، أو زوجته، أو طعاما، أو شرابا، أو ملبسا، أو شيئا من المباحات وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة، وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما، أو أطلق التحريم فيهما في قول، فأما إذا نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة نفذ فيهما). 3 - بمناسبة قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ قال ابن كثير: (وروى البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية، وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب، ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، وروى ابن أبي حاتم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني شئ كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاستقريتهن أقول: لتكفن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن؟. فأمسكت، فأنزل الله عزّ وجل عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم سلمة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري). 4 - بمناسبة قوله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً قال ابن كثير:

(وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» هذا لفظ أبي داود وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال الفقهاء: وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينا له على العبادة، لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة، ومجانبة المعاصي وترك المنكر، والله الموفق). وقال الألوسي بمناسبة هذه الآية: (وروي أن عمر قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «تنهوهن عما نهاكم الله عنه، وتأمروهن بما أمركم الله به، فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار»، وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، وجماعة عن علي كرم الله وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة. واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس، لأن الولد بعض من أبيه، وفي الحديث: «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة»، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله). وقال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية: (هذا أمر ينبغي أن يعيه الدعاة إلى الإسلام وأن يدركوه جيدا. إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت. إلى الزوجة. إلى الأم. ثم إلى الأولاد؛ وإلى الأهل بعامة. ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم. وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولا عن الزوجة المسلمة. وإلا فسيتأخر طويلا بناء الجماعة الإسلامية. وسيظل البنيان متخاذلا كثير الثغرات). 5 - بمناسبة قوله تعالى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير يخطب سمعت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال: يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه، وروى الثوري ... عن عمر رضي الله عنه قال: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، أو لا يريد أن يعود فيه، وقال

أبو الأحوص وغيره ... عن النعمان سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا. وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله تَوْبَةً نَصُوحاً قال: يتوب ثم لا يعود. وقد روي هذا مرفوعا فروى الإمام أحمد عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التوبة من الذنب: يتوب منه ثم لا يعود فيه» تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف والموقوف أصح والله أعلم، ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه. وروى ابن أبي حاتم ... عن الحسن يقول: التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح: «الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها» وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات- كما تقدم في الحديث وفي الأثر- ثم لا يعود فيه أبدا. أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك، لا يكون ذلك ضارا في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام: «التوبة تجب ما قبلها»؟ وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضا «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة فالتوبة بطريق الأولى والله أعلم). 6 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن رجل من بني كنانة قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول: «اللهم لا تخزني يوم القيامة»، وقال محمد بن نصر المروزي: عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر بين يدي فأعرف أمتى من بين الأمم، وانظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم، وانظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم» فقال رجل يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم؟ قال: «غر محجلون من آثار الطهور، ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم

بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم»). 7 - بمناسبة قوله تعالى عن زوجتي نوح ولوط: فَخانَتاهُما قال ابن كثير: (وليس المراد بقوله: فَخانَتاهُما في فاحشة؛ بل الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء كما قدمنا في سورة النور، قال سفيان الثوري ... سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول في هذه الآية فَخانَتاهُما قال: ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه، وقال العوفي عن ابن عباس قال: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين). 8 - بمناسبة الكلام عن زوجة فرعون ومريم عليهما الرضوان في السورة، قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وقال: «أتدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة ... عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»). وقال صاحب الظلال: (ودعاء امرأة فرعون وموقفها مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صوره. فقد كانت امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ. في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي ... ولكنها استعلت على هذا بالإيمان. ولم تعرض عن هذا العرض فحسب، بل اعتبرته شرا ودنسا وبلاء تستعيذ بالله منه، وتتفلت من عقابيله، وتطلب النجاة منه! وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية ... وهذا فضل آخر عظيم. فالمرأة

كلمة أخيرة في سورة التحريم

- كما أسلفنا- أشد شعورا وحساسية بوطأة المجتمع وتصوراته. ولكن هذه المرأة ... وحدها ... في وسط ضغط المجتمع، وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام الملوكي ... في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء ... وحدها ... في خضم هذا الكفر الطاغي! وهي نموذج عال في التجرد لله من كل هذه المؤثرات، وكل هذه الأواصر، وكل هذه المعوقات، وكل هذه الهواتف. ومن ثم استحقت هذه الإشارة في كتاب الله الخالد. الذي تتردد كلماته في جنبات الكون وهي تتنزل من الملأ الأعلى). (وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر. بسبب ملابسات حياتها التي أشرنا إليها ... وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل). كلمة أخيرة في سورة التحريم: بدأت سورة التحريم بعتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم ما أحل الله عز وجل، ثم ثنت بعتابه زوجيته على التظاهر عليه وإفشاء سره، ثم جاء الأمر العام لأهل الإيمان بوقاية الأنفس والأهلين من النار، ومن سياق السورة نفهم أن عملية الوقاية تقتضي عدم الرضوخ لرغبات الزوجات، وتقتضي تأديب الزوجات، وحمل الأنفس والأهل على الطاعة الكاملة، ثم جاء الأمر لكل المؤمنين بالتوبة النصوح، كبداية طريق إلى الجنة، ثم جاء أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد، مما يشير في سياق السورة إلى أن أدب المسلم الجهاد الدائم، وذلك يقتضي منه عدم الرضوخ لأي معنى يصرفه عن هذا الجهاد، سواء كان مانعا أسريا أو غيره، كما أن مجئ هذا الأمر في هذا السياق يشير إلى أن كل من تحقق بصفة الكفر أو النفاق فقد وجبت مجاهدته كائنا من كان قريبا أو بعيدا، ثم ضرب الله مثلين لامرأتين كافرتين لم ينجهما كونهما تحت رسولين من العذاب، وضرب مثلين لامرأتين صالحتين إحداهما كانت زوجة كافر لم يضرها كفره عند الله، والثانية لم تتزوج أصلا، وكانت في القمة من الصلاح والولاية، وفي ذلك درس لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمنة في هذا العالم. ...

مما مر ندرك أن السورة حذرت من منزلقات خطرة في الطريق، وحررت من معان خطرة في الطريق، ووضعت المعالم التي من سار عليها من الرجال والنساء تحرر من السير في طريق الضلال. ... وقد رأينا صلة السورة- بفقرتيها- بالمحور. فالسورة فيها مثلان من أمثال القرآن، وفيها إخراج لقضية عن أن تعتبر نقضا لميثاق الله، وفيها ذكر لمعان تدخل في نقض الميثاق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وفيها دعوة للسير في الطريق الموصل إلى رضوان الله، وفيها أمر بجهاد الفاسقين كفارا ومنافقين. وصلة ذلك كله بمحور السورة واضحة، وقد رأيناها. ... وقد ختم صاحب الظلال الكلام عن سورة التحريم بقوله: (وأخيرا فإن هذه السورة قطعة حية من السيرة، رسمها القرآن بأسلوبه الموحي. لا تملك روايات البشر التاريخية عن تلك الفترة أن ترسمها. فالتعبير القرآني أكثر إيحاء، وأبعد آمادا، وهو يستخدم الحادثة المفردة لتصوير الحقيقة المجردة، الباقية وراء الحادثة ووراء الزمان والمكان ... كما هو شأن القرآن). ***

سورة الملك

سورة الملك وهي السورة السابعة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الخامسة من قسم المفصل، وهي ثلاثون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الملك

بين يدي سورة الملك: قال الألوسي في تقديمه لهذه السورة: (ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم، وهما محتوم لهما بالسعادة، وأن أكثر قومهما كفار افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه، وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى في آخر سورة الطلاق: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك، وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها، وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا، ومنها ما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له: تبارك الذي بيده الملك» ومنها ما جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود، وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم: من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك كل ليلة لا يدعهما في سفر ولا حضر، ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة). وقال صاحب الظلال عن هذه السورة: (وهذه السورة- سورة تبارك- تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود. تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود، إلى عوالم في السماوات، وإلى حياة في الآخرة. وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير، وفي العالم الآخر كالجن وخزنتها، وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم، فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة، في هذه الأرض. كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين. وهي تهز في النفوس جميع الصور والانطباعات والرواسب الجامدة الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها؛ وتفتح المنافذ هنا وهناك، وتنفض الغبار، وتطلق الحواس والعقل والبصيرة ترتاد آفاق الكون، وأغوار النفس، وطباق الجو، ومسارب الماء، وخفايا العيوب، فترى هناك يد الله المبدعة، وتحس حركة الوجود المنبعثة من

كلمة في سورة الملك ومحورها

قدرة الله. وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر، وأن المجال أوسع. وتحولت من الأرض- على سعتها- إلى السماء. ومن الظواهر إلى الحقائق. ومن الجمود إلى الحركة. مع حركة القدر، وحركة الحياة، وحركة الأحياء. ... إنها سورة ضخمة. سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها. وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد! وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة؛ فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة، وحقيقة الهيمنة المطلقة. وحقيقة الابتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء. وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله. وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى. وحقيقة مصدر الرزق. وحقيقة حفظ الله للخلائق، وحضوره- سبحانه- مع كل مخلوق ... وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم. هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله. مع ربه. ومع نفسه. ومع الناس. ومع الأحياء. ومع الكون كله من أحياء وأشياء. والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه، واستقباله للحياة ... ). كلمة في سورة الملك ومحورها: قلنا من قبل إن محور سورة الملك هو محور سورة الأنعام أي: هو قوله تعالى من سورة البقرة: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وذلك واضح من أدنى تأمل للسورة: تبدأ السورة بقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ* الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وصلة هذا المعنى بالآيتين المذكورتين من سورة البقرة لا تخفى، وفي السورة نجد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ... وصلة ذلك بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لا تخفى. وفي السورة نجد قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ* قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ

تُحْشَرُونَ وصلة ذلك بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لا تخفى، فكون السورة تفصيلا للآيتين المذكورتين في سورة البقرة واضحة جدا. ... فسورة التغابن فصلت في محور سورة آل عمران، وسورة الطلاق فصلت في محور سورة النساء، وسورة التحريم فصلت في محور سورة المائدة، وسورة الملك فصلت في محور سورة الأنعام، وسنرى أن سورة القلم فصلت في محور سورة الأعراف، وهكذا تجد كيف أن هذا القرآن يسير على نسق واحد من أوله إلى آخره، وعلى تسلسل معين. ونلاحظ أن سورة التغابن بدأت بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وأن سورة الملك تبدأ بقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فالصلات واضحة بين السورتين مما يؤكد أن سورة التغابن هي مقدمة لسور مجموعتها. ... وسورة التحريم انتهت بمثلين لكافرتين، ومؤمنتين، وسورة الملك تأتي لتقيم الحجة على الكفر وأهله، فالسورة تأخذ محلها في مجموعتها وفي تفصيلها لمحورها، كما أن لها سياقها الخاص ووحدتها. وسنعرض السورة على أنها فقرتان: الفقرة الأولى حتى نهاية الآية (14)، والفقرة الثانية حتى نهاية السورة، ولنبدأ عرض السورة. ***

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (14) وهذه هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الملك (67): الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

التفسير

التفسير: تَبارَكَ أي: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ قال النسفي: أي: بتصرفه في الملك والاستيلاء على كل موجود، وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، قال ابن كثير: يمجد تعالى نفسه الكريمة، ويخبر أنه بيده الملك أي: هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لقهره وحكمته وعدله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المقدورات أو من الإنعام والانتقام قَدِيرٌ أي: قادر على الكمال والتمام الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال النسفي: والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير، فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم؛ فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أخلصه وأصوبه، فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة، والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بد منه، وقدم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى ما سيقت له الآية أهم. ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ أي: الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل الْغَفُورُ أي: الذي يمحو ذنوب أهل الإساءة والزلل إذا تابوا الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي: طبقة بعد طبقة، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي: من اختلاف واضطراب، وعن السدي: من عيب، وحقيقة التفاوت عدم التناسب، كأن بعض الشئ يفوت بعضا ولا يلائمه، وفي ذكر اسم الرحمن في قوله تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تعظيم لخلقهن، وتنبيه على سبب سلامتهن من التفاوت وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب. قال ابن كثير: أي: بل هو (أي: الخلق) مصطحب مستو ليس فيه اختلاف، ولا تنافر، ولا مخالفة، ولا نقص، ولا عيب، ولا خلل فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي: رده إلى السماء حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه. قال ابن كثير: أي: انظر إلى السماء فتأملها هل ترى فيها عيبا أو نقصا أو خللا أو فطورا هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ قال قتادة: أي: هل ترى خللا يا ابن آدم. أقول:

[سورة الملك (67): آية 4]

والفطور جمع فطر وهو في الأصل: بمعنى الشق والصدع واستعمل هنا بمعنى الخلل ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ أي: كرر النظر كَرَّتَيْنِ أي: مرتين، أي: مرة مع الأولى، وقيل سوى الأولى فتكون ثلاث مرات، وقيل لم يرد الاقتصار على مرتين، بل أراد به التكرير بكثرة، أي: كرر نظرك ودققه هل ترى خللا أو عيبا، وجواب الأمر: يَنْقَلِبْ أي: يرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً أي: ذليلا صاغرا، أو بعيدا عن أن يرى عيبا وَهُوَ حَسِيرٌ أي: كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصا. قال ابن كثير: ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ قال النسفي: أي: بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح، والمصابيح: السرج فسميت بها الكواكب. أقول: ولعل المراد بهذه المصابيح الكواكب السيارة وحدها كما سنرى في الفوائد وَجَعَلْناها رُجُوماً قال النسفي: والرجوم جمع رجم أو هو مصدر سمي به ما يرجم به لِلشَّياطِينِ قال النسفي: ومعنى كونها رجوما للشياطين أي: ينفصل عنها شهاب قبس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله. قال ابن كثير: عاد الضمير في قوله: وجعلناها على جنس المصابيح لا على عينها، لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها. أقول: وليس شرطا أن يكون الانفصال آنيا بل قد يكون الانفصال قد تم من قبل، ومن المعلوم أنه في هذا الفضاء تسبح أشياء كثيرة سوى النجوم والكواكب، كما أنه من المعلوم أن كوكبا سيارا سوى التسعة قد انفجر منذ زمن بعيد، وخلف وراءه كويكبات، وعلى كل فالنيازك التي تدخل جو الأرض ويصل بعضها إلى الأرض أحيانا هي من مادة الأرض والكواكب؛ لأن المادة واحدة، ولنا عودة على هذا الموضوع وَأَعْتَدْنا لَهُمْ أي: للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ أي: في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا. قال ابن كثير: أي: جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: وأعتدنا للذين كفروا بِرَبِّهِمْ من الشياطين ومن الإنس عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: المآل والمنقلب إِذا أُلْقُوا فِيها أي: إذا طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة سَمِعُوا لَها أي: لجهنم شَهِيقاً قال ابن جرير يعني: الصياح. وقال النسفي: أي: صوتا منكرا، شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق وَهِيَ تَفُورُ أي: تغلي بهم غليان المرجل بما فيه تَكادُ تَمَيَّزُ أي: تتميز يعني: تتقطع وتتفرق مِنَ الْغَيْظِ على الكفار. قال النسفي: فجعلت

[سورة الملك (67): آية 9]

كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم، وقال ابن كثير: أي: تكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها وحنقها بهم كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي: جماعة من الكفار سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أي: مالك وأعوانه من الزبانية توبيخا لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أي: رسول يخوفكم من هذا العذاب قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ هذا اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه فَكَذَّبْنا أي: فكذبناهم وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي: مما تقولون أيها الرسل من وعد ووعيد وغير ذلك إِنْ أي: ما أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ هل هذا من كلام الكفار لرسلهم، أو من كلام الخزنة للكفار؟ قولان للمفسرين. قال النسفي: (قال الكفار للمنذرين: ما أنتم إلا في خطأ عظيم، فالنذير بمعنى الإنذار، ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذارا، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار على إرادة القول، ومرادهم بالضلال: الهلاك، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمى جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء، ويسمى المشاكلة في علم البيان، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أي: قالوا لنا هذا فلم نقبله). ذكر تعالى في الآية عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه وَقالُوا أي: الكفار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الإنذار سماع طالب الحق أَوْ نَعْقِلُ أي: نعقله عقل تأمل ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي: في جملة أهل النار. قال النسفي: وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل، وأنهما حجتان ملزمتان. قال ابن كثير: (أي: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو نسمع ما أنزل الله من الحق لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي: بكفرهم في تكذيبهم الرسل فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي: فبعدا لهم عن رضى الله وكرامته، اعترفوا أو جحدوا، فإن ذلك لا ينفعهم إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ قال النسفي: أي: قبل معاينة العذاب لَهُمْ مَغْفِرَةٌ للذنوب وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي: الجنة. قال ابن كثير في الآية: (يقول تعالى مخبرا عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه، إذا كان غائبا عن الناس فينكف عن المعاصي، ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: تكفر عنه ذنوبه ويجازى بالثواب الجزيل) ثم قال تعالى منبها على أنه مطلع على الضمائر والسرائر وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ أي: ليستو عندكم

[سورة الملك (67): آية 14]

إسراركم وجهركم في علم الله بهما ثم علل ذلك بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قال النسفي: (أي: بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلمتم به). وقال ابن كثير: أي: بما يخطر في القلوب أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: ألا يعلم الخالق للقول القول وَهُوَ اللَّطِيفُ أي: العالم بدقائق الأشياء الْخَبِيرُ أي: العالم بحقائق الأشياء. قال النسفي: وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلا على خلق أفعال العباد. كلمة في السياق: 1 - قلنا إن محور السورة هو محور سورة الأنعام كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلنر كيف فصلت الفقرة الأولى من سورة الملك في هذا المحور: أما قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فقد فصل فيه قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إذ علل لحكمة خلق الموت والحياة. وأما قوله تعالى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فنلاحظ أن قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تفصيل له، إذ لفت النظر إلى كيفية الاستدلال به على وجود الله والإيمان به. وأقامت الفقرة الحجة على الكافرين بدقة هذا الكون وتحدثت عن ما أعد الله للكافرين من عذاب، وكيف أن الكافرين يوم القيامة يندمون على كفرهم وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ فالفقرة أقامت الحجة على الكافرين بظاهرة الخلق وظاهرة العناية، وتحدثت عما يقع للكافرين يوم القيامة، وتحدثت الفقرة عن مقتضى من مقتضيات الإيمان الحقيقي بالله وهو الخشية من الله إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ... فمن تأمل الفقرة التي مرت معنا وجد أنها كلها تصب في تفصيل آيتي المحور ومعانيها، وما ذكرناه كاف للتدليل على ذلك. 2 - بدأت السورة بالكلام عن الله عزّ وجل، ومالكيته، وقدرته، وخلقه

الموت والحياة، وحكمة ذلك، ثم تحدثت عن خلقه السموات ودقة الخلق، وأمرت بتكرار النظر للوصول من خلاله إلى اليقين الكامل، ثم تحدثت عن تزيين السماء الدنيا بالكواكب، ورجم الشياطين بها؛ ليصل النص إلى الكلام عن عذاب الشياطين والكافرين يوم القيامة، ودخولهم النار، وتوبيخ الملائكة لهم، واعتراف الكافرين بمواقفهم التي استحقوا بها العقاب، واعترافهم أنهم كانوا بلا سمع ولا عقل، وفي هذا السياق يحدثنا الله عزّ وجل عن الذين يستحقون مغفرته وجنته، وهم الذين يخشون ربهم بالغيب، ومجئ هذا المعنى في سياق إقامة الحجة على الكافرين يوحي بأن المظهر الحقيقي للإيمان بالله هو خشية الله عزّ وجل، وهاهنا يذكرنا الله عزّ وجل بما يستثير في قلوبنا الخشية منه، وهو علمه بسرنا وجهرنا، ويذكر لنا الدليل على ذلك أنه هو الذي خلق هذا السر والجهر، ومن تأمل هذه المعاني وجدها على صلة كاملة بقوله تعالى في المحور: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. 3 - يلاحظ أن الفقرة الثانية من سورة الملك تبدأ بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وهي كما ترى شديدة الصلة بالآية الثانية من المحور هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وكذلك بقية الفقرة، فكأن الفقرة الأولى أشد لصوقا بمعاني الآية الأولى من المحور، والفقرة الثانية أشد لصوقا بمعاني الآية الثانية. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (15) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (30) وهذه هي مقدمة الفقرة [سورة الملك (67): آية 15] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) المجموعة الأولى [سورة الملك (67): الآيات 16 الى 22] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) المجموعة الثانية [سورة الملك (67): الآيات 23 الى 30] قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

التفسير

التفسير: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا أي: لينة سهلة، مذللة مسخرة معبدة للإنسان يستطيع أن يستفيد منها ويطمئن فيها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أي: في جوانبها استدلالا واسترزاقا، أو في جبالها وطرقها. قال ابن كثير: أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات. أقول: وهذا مظهر من مظاهر تذليلها وتسخيرها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي: من رزق الله فيها، وهذا مظهر ثان من مظاهر تسخيرها أن أوجد فيها كل ما يحتاجه الإنسان لرزقه وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: المرجع يوم القيامة. قال النسفي: أي: وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم. كلمة في السياق: 1 - يلاحظ أن الرجوع إلى الله قد ذكر في الآية الأولى من آيتي المحور: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثم جاءت الآية الثانية في المحور وهي كالدليل على ما ورد في الآية الأولى من خلق الموت والحياة والرجوع إلى الله فقالت: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ونلاحظ أن الرجوع إلى الله في السورة ذكر هنا بجانب تذليل الله عزّ وجل الأرض للإنسان هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فالرجوع إلى الله ذكر هاهنا بجانب المعنى الذي يرجع إلى آية المحور الثانية

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية

فما فهمناه هناك من السياق نراه هاهنا صراحة. 2 - بدأت السورة بالكلام عن خلق الموت والحياة، وحكمة ذلك، وسارت في سياقها الرئيسي في عرض مظاهر الخلق، حتى استقرت على الآية الأخيرة لتبدأ حوارا مع الكافرين بالله واليوم الآخر، فبعد أن أقامت الحجة على الكافرين، وبعد أن لفتت نظر الإنسان إلى وجوب الشكر، تبدأ السورة في الخطاب المباشر للإنسان لتقتلع جذور الكفر بالله واليوم الآخر في مجموعتين متلاحقتين: الأولى عمادها الاستفهام، والثانية عمادها الأمر (قل). 3 - لاحظ أن محور السورة يبدأ بهذا الخطاب كَيْفَ تَكْفُرُونَ ... وأن الآية الأولى من المجموعة القادمة تقول: أَأَمِنْتُمْ لاحظ التشابه، فآية المحور فيها خطاب للإنسان الكافر، وآية المجموعة الأولى وما بعدها فيها خطاب مباشر للإنسان الكافر، وآية المحور تبدأ باستفهام، والمجموعة تبدأ باستفهام، وفي الاستفهام هنا تعجيب وإنكار كما أنه هناك كذلك. تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أي: أأمنتم الله عزّ وجل أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ من تحتكم فَإِذا هِيَ تَمُورُ أي: تضطرب وتتزلزل بكم جزاء لكم على كفركم، أو ليس هو الذي جعلها لكم ذلولا، أو ليس القادر على خلقها كما هي قادرا على أن يفعل فيها هذا أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي: حجارة. قال ابن كثير: أي: ريحا فيها حصباء تدمغكم فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي: إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم. قال ابن كثير: أي: كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟ لقد كان عظيما شديدا أليما، فكيف يأمن هؤلاء تعذيبي لهم على كفرهم. قال النسفي: ثم نبه الله على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن وَيَقْبِضْنَ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن ما يُمْسِكُهُنَّ أي: في الجو إِلَّا الرَّحْمنُ قال ابن كثير: أي: بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه. وقال النسفي: أي: ما يمسكهن عن الوقوع عند القبض

[سورة الملك (67): آية 20]

والبسط إلا الرحمن بقدرته إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ قال ابن كثير: أي: بما يصلح كل شئ من مخلوقاته. وقال النسفي: أي: يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب. أقول: لفت الله عزّ وجل النظر إلى بديع صنعه في خلقه الطير على ما هو عليه، وجعله سنن الكون تخدمه، إلى بصارته تعالى في الأشياء وخلقها، وهذا يقتضي من الإنسان إيمانا وخشية، لا كفرا وأمنا، ثم قال تعالى منكرا عليهم أمنهم، وحاملا لهم على خشيته: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ قال ابن كثير: أي: ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ولا ناصر لكم، وقال النسفي: والمعنى: من المشار إليه بالنصر غير الله؟ أقول: وإذ كان الجواب بالنفي فإن الله عزّ وجل يقول: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي: ما هم إلا في غرور عند ما يأمنون عذابه أو يتكلون على غيره، أو يكفرون به، أو يعبدون سواه، ثم قال تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ قال ابن كثير: (أي: من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده أي: لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلا الله عزّ وجل وحده لا شريك له) يعلمون ذلك، ويعبدون غيره. وفي الصيغة إنكار عليهم في كفرهم، ومطالبة لهم أن يؤمنوا ولكن لما كانوا قد وصلوا إلى حالة من الكفر لم يعد لهم معها رجعة إلى الإيمان قال: بَلْ لَجُّوا أي: تمادوا فِي عُتُوٍّ أي: استكبار عن الحق وَنُفُورٍ أي: وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه. قال ابن كثير: أي: استمروا في طغيانهم وإفكهم، وضلالهم ... في معاندة واستكبار، ونفور على أدبارهم عن الحق لا يسمعون له، ولا يتبعونه. أقول: ثم ضرب الله مثلا لحال الكافر والمؤمن، منه يفهم أن هؤلاء الكافرين في غاية الضلال. فقال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أي: ساقطا على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفا أَهْدى أي: أرشد أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أي: مستويا منتصبا سالما من العثور والخرور عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على طريق مستو. قال ابن كثير: (وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبا على وجهه، منحنيا لا مستويا على وجهه، أي: لا يدري أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل تائه ضال. أهذا أهدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا أي: منتصب القامة عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة، وهذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط مستقيم، مفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم). وبهذا انتهت

كلمة في السياق

المجموعة الأولى من الفقرة الثانية. كلمة في السياق: 1 - استثارت المجموعة كوامن النفس البشرية لإيصالها إلى خشية الله عزّ وجل، وبإدراكنا لهذا المعنى ندرك صلة المجموعة بما قبلها من سياق السورة إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ* وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ* هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ* أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ* وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ* أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ* أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ* أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ* أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. 2 - أنذرت المجموعة الكافرين بأنواع من الإنذارات، ثم مثلت لحالهم وعجبت من حالهم، وأنكرت عليهم هذا الحال، وصلة ذلك بمحور السورة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ... واضحة. 3 - يلاحظ أن سورة سبأ محورها هو نفس محور سورة الملك، ومن ثم فقد ورد في سورة سبأ قوله تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وأن المجموعة التي مرت معنا بدأت بقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ. 4 - من سياق السورة عرفنا أن هناك صنفين من البشر: صنفا يخشى الله عزّ وجل وهو الذي يمشي سويا على صراط مستقيم، وصنفا لا يخشى الله عزّ وجل وهو الذي يمشي مكبا على وجهه، ومن السورة عرفنا أن الصنف الأول هو المهتدي، وأن كل الحجج العقلية والنقلية بجانبه، وأن الصنف الثاني هو الضال، ولا عقل ولا سمع

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

بجانبه، وبذلك عرفنا الآثار العملية للكفر بالله، والآثار العملية للإيمان بالله عزّ وجل، فخشية الله عزّ وجل هي الأثر الصحيح للإيمان بالله، والأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة هو الأثر اللعين للكفر بالله، فالسورة إذن تفصل في المحور من حيث إنها توضح حجج المحور وتبين تفصيلات فيها، ومن حيث إنها تلفت النظر إلى آثار الكفر بالله عزّ وجل، لقد عرفتنا السورة على الله عزّ وجل، ودلتنا عليه، وأقامت الحجة على الكافرين به، وعنفتهم على أمنهم من عقابه، وبشرت المؤمنين الخائفين من عذابه، ومثلت لحال هؤلاء وهؤلاء. 5 - ولقد استقرت المجموعة التي مرت معنا على تبيان حال الكافرين والمؤمنين، ومن ثم تأتي المجموعة الثانية في الفقرة الثانية آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الكافرين معاني محددة؛ ولذلك تتكرر كلمة (قل) في المجموعة التالية. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية الأمر الأول: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ قال ابن كثير: أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي: العقول والإدراك، قال النسفي في علة تخصيص السمع والبصر والفؤاد بالذكر: خصها (أي: بالذكر) لأنها آلات العلم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: تشكرون شكرا قليلا هذه النعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة. قال ابن كثير: أي: قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره. كلمة في السياق: 1 - ذكر الله عزّ وجل في هذه الآية الإنسان بابتداء خلقه، وبما أنعم عليه من أمهات النعم، وبين له أن ذلك يقتضي منه الشكر، وفي ذلك إنكار على الكافرين الذين لجوا في عتو ونفور، وإقامة حجة عليهم، واستخراج للشكر من المؤمنين، وهكذا عرفنا صفة ثالثة من صفات أهل الإيمان: الأولى: خشية الله، والثانية: المشي المستقيم على الصراط المستقيم، والثالثة: الشكر على ما أنعم الله به، وهي كلها لوازم الإيمان بالله.

الأمر الثاني

2 - يلاحظ أن آية المحور الأولى قالت: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وأن الأمر الأول هاهنا كان قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ويلاحظ أن الأمر الثاني في هذه المجموعة يقول: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لاحظ صلة ذلك بقوله تعالى في المحور: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فكلمة (ترجعون) في المحور، وكلمة (تحشرون) في الآية التي ستأتي معنا الآن متلازمتان، فالصلة على أتم الوضوح بين المحور والسورة، فلنر الأمر الثاني. الأمر الثاني: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ قال النسفي: أي: خلقكم، وقال ابن كثير: أي: بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: للحساب والجزاء. قال ابن كثير: (أي: تجمعون بعد هذا التفرق والشتات يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم) ولما كان الكفار ينكرون الحشر أصلا- كأثر عن كفرهم بالله عزّ وجل- فقد أخبرنا الله عزّ وجل عن هذا الإنكار للمعاد واستبعاد الكافرين له. فقال: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: الذي تعدوننا به من أننا سنحشر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في كونه، فأعلمونا زمانه، قال ابن كثير: أي: متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق. أقول: علامة صدق الرسول والمؤمنين عندهم تتمثل في قدرتهم على تحديد الزمن الذي يجئ فيه اليوم الآخر، وليس الأمر كذلك، فمجيء اليوم الآخر قضية عقلية نقلية، هي أثر عن الإيمان بالله، وقد شاء الله عزّ وجل ألا يعلم أحد بزمنها لحكمة؛ ولذلك قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ قال ابن كثير: أي: لا يعلم وقت ذلك على اليقين إلا الله عزّ وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ أي: منذر مُبِينٌ قال النسفي: أي: أبين لكم الشرائع، وقال ابن كثير: أي: وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم فَلَمَّا رَأَوْهُ أي: الوعد يعني: العذاب في اليوم الموعود زُلْفَةً أي: قريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: ساءت رؤية الوعد وجوههم، بأن علتها الكآبة والمساءة، وغشيتها القترة

كلمة في السياق

والسواد. قال ابن كثير: أي: لما قامت القيامة، وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي: فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ... ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي: تستعجلون. قال النسفي: من الدعاء أي: تسألون تعجيله، وتقولون: ائتنا بما تعدنا، أو هو من الدعوى أي: كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون. كلمة في السياق: 1 - في قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ دليل ضمني على مجئ اليوم الآخر، فمتى ثبت أن الله عزّ وجل هو الذي خلق البشر وبثهم في الأرض، لم يعد مستغربا أن يحشرهم، فمن بدأهم لا يعجزه أن يخلقهم مرة ثانية ويحشرهم، وهكذا نجد أن الأمر الثاني يؤكد مضمون الأمر الأول، ويزيد عليه. 2 - ولما كان الكافرون منهمكين في الكفر، ومستمرين عليه، ومستكبرين ونافرين بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ فإنهم يتضايقون من الإنذار باليوم الآخر، ومن التذكير بالله، ومن المنذرين والمذكرين، ولذلك يتمنون لهم الهلاك، ومن ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم أنه سواء هلك المؤمنون أو لم يهلكوا، فالأمر سواء بالنسبة لتعذيب الكافرين، وليس لهم مفر من التعذيب، فليفكروا في صلب ما هم فيه، وفي ذلك إرجاع للكافر إلى أصل الموضوع. وتعليم لنا أن نبقي الكافر في النقطة الرئيسية فلا يصرفنا عنها إلى فرعيات. ... الأمر الثالث: قُلْ قال ابن كثير: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أي: إن أماتني الله وَمَنْ مَعِيَ من أصحابي أَوْ رَحِمَنا أي: أو أخر آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي: من ينجيهم من عذاب النار. قال ابن كثير: (أي: خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب

كلمة في السياق

والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم). كلمة في السياق: في الآية التي مرت معنا دعوة للكافرين أن يؤمنوا، وأن يتركوا ما هم عليه من كفر، وألا تنسيهم أمانيهم الفاجرة الظالمة في حق المؤمنين حقيقة ما أمامهم، والآن يأتي أمر رابع يأمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن هو والمؤمنون عن إيمانهم بالله، وتوكلهم عليه، في مقابل كفر هؤلاء الكافرين، وتمنيهم أن يهلك رسول الله والمؤمنون، وصلة هذا الأمر بما قبله لا تخفى. الأمر الرابع: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ في ذكر الرحمن هنا إشارة إلى أن أهل الإيمان مرحومون، وأن ما يتمناه الكافرون لهم هو محض ضلال، ففعل الله بالمؤمنين دائما محفوف بالرحمة آمَنَّا بِهِ أي: صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم، فنحن محل ظهور آثار رحمته وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا في جميع أمورنا، أي: فوضنا إليه أمورنا، فمهما فعل فينا فنحن راضون مستسلمون، وهو جل جلاله حسبنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ نحن المؤمنين به المتوكلين عليه، أم أنتم الكافرين به المعتمدين على الأسباب. قال ابن كثير: أي: منا ومنكم، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة. كلمة في السياق: في هذه الآية رد على رغبة الكافرين بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وفيها تبيان لأثر جديد من آثار الإيمان بالله وهو التوكل عليه، وفيها بيان لكون الكافرين بالله الذين لا يتوكلون عليه في ضلال واضح، ثم تأتي آية أخيرة فيها دليل على أن الله وحده هو أهل للإيمان به وأهل للتوكل عليه، وفيها دليل على افتقار خلقه إليه، ومن ثم ففيها إنكار على من يكفر به وهذه هي: الأمر الخامس: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي: أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي: غائرا ذاهبا في الأرض، فلا نهر ولا عين ولا بئر، بل يذهبه الله عزّ وجل في باطن الأرض حيث

كلمة في السياق

لا تستفيدون منه فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ قال ابن كثير: أي: نابع سائح جار على وجه الأرض، أي: لا يقدر على ذلك إلا الله عزّ وجل، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه، وأجراها في سائر أقطار الأرض بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة فلله الحمد والمنة. كلمة في السياق: 1 - رأينا صلة الآية الأخيرة بما قبلها مباشرة، وأما صلتها ببداية فقرتها- أي: بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ- فمن حيث إن للماء المعين صلة كبيرة بتذليل الأرض، والأكل من أرزاقها. وأما صلة الآية الأخيرة بمحور السورة- أي: بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً- فمن حيث إن مما خلقه الله عزّ وجل في هذه الأرض للإنسان هذه المياه التي لولاها لتعذرت الحياة. 2 - واضح أن السورة آخذة آياتها برقاب بعضها، ومتعانقة ضمن سياق واضح المعالم، يبدأ بالتعريف على الله، ثم ينذر الكافرين، ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخاطب هؤلاء الكافرين الخطاب، تلو الخطاب حتى تنتهي السورة، وقد رأينا ذلك كله وصلته بالمحور، ولنا عودة على سياق السورة في الكلمة الأخيرة عنها. ... الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء» ورواه معمر عن قتادة). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أقول: الذي أميل إليه أن المراد بالمصابيح الكواكب السيارة، والذي رجح ذلك عندي هو ما يلي: أ- يلاحظ أن القرآن عبر عن الشمس بالسراج، ومن المعلوم أن النجوم في هذا

الكون كلها من نوع الشمس، والكواكب السيارة وحدها ليست من هذا القبيل، والله تعالى قال في سورة الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وهاهنا قال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ. ب- من المعلوم أن الأحاديث النبوية تشير إلى أن بعد السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة سنة، ومن المعلوم أن النجوم تبعد عن الأرض كثيرا، حتى إن أقرب نجم يبعد عن الأرض أربع سنين ضوئية، وعلى هذا فليس بين الأرض والسماء إلا الكواكب السيارة فهي المصابيح. (ج) من المستبعد أن تكون الشهب آتية من نجوم هذا الكون، فالأقرب أنها أجزاء من الكواكب السيارة، والله عزّ وجل حدثنا أن هذه الشهب من هذه المصابيح، وهذا يرجح أن المراد بالمصابيح الكواكب السيارة، وهذا موضوع شائك لا أجزم فيه، ولكني أذكر رأيا لعله يفيد الباحثين. 3 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيحين: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه). 4 - بمناسبة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا قال صاحب الظلال: (فمما يقوله العلم في مدلول الأرض الذلول: إن هذا الوصف: ذَلُولًا ... الذي يطلق عادة على الدابة، مقصود في إطلاقه على الأرض! فالأرض هذه التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، هي دابة متحركة ... بل رامحة راكضة مهطعة!! وهي في الوقت ذاته ذلول لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول! ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول! إن هذه الدابة التي نركبها تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة، ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة، ثم تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة، مبتعدة نحو برج الجبار في السماء ... ومع هذا الركض كله يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا معافى لا تتمزق أوصاله، ولا تتناثر أشلاؤه، بل لا يرتج مخه، ولا يدوخ،

ولا يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول! وهذه الحركات الثلاث لها حكمة. وقد عرفنا أثر اثنتين منها في حياة هذا الإنسان، بل في الحياة كلها على ظهر هذه الأرض. فدورة الأرض حول نفسها هي التي تنشأ عنها الليل والنهار، ولو كان الليل سرمدا لجمدت الحياة كلها من البرد، ولو كان النهار سرمدا لاحترقت الحياة كلها من الحر ... ودورتها حول الشمس هي التي ينشأ عنها الفصول. ولو دام فصل واحد على الأرض ما قامت الحياة في شكلها هذا كما أرادها الله ... أما الحركة الثالثة- فلم يكشف ستار الغيب عن حكمتها بعد. ولا بد أن لها ارتباطا بالتناسق الكوني الكبير. والناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض، وسهولة استقرارهم عليها، وسيرهم فيها، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها جميعا ... ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد وكل جيل بقدر ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول. والأرض الذلول كانت تعني في أذهان المخاطبين القدامى تلك الأرض المذللة للسير فيها، كما جعل لها ضغطا جويا يسمح بسهولة الحركة فوقها. ولو كان الضغط الجوي أثقل من هذا لتعذر أو تعسر على الإنسان أن يسير وينتقل- حسب درجة ثقل الضغط- فإما أن يسحقه أو يعوقه. ولو كان أخف لاضطربت خطى الإنسان، أو لانفجرت تجاويفه لزيادة ضغطه الذاتي على ضغط الهواء حوله، كما يقع لمن يرتفعون في طبقات الجو العليا بدون تكييف لضغط الهواء! والله جعل الأرض ذلولا ببسط سطحها وتكوين هذه التربة اللينة فوق السطح. ولو كانت صخورا صلدة- كما يفترض العلم بعد برودها وتجمدها- لتعذر السير فيها، ولتعذر الإنبات. ولكن العوامل الجوية من هواء وأمطار وغيرها هي التي فتتت هذه الصخور الصلدة، وأنشأ الله بها هذه التربة الخصبة الصالحة للحياة. وأنشأ ما فيها من النبات والأرزاق التي يحلبها راكبو هذه الدابة الذلول! والله جعل الأرض ذلولا بأن جعل الهواء المحيط بها محتويا على العناصر التي تحتاج الحياة إليها. بالنسب الدقيقة التي لو اختلت ما قامت الحياة، وما عاشت إن قدر لها أن تقوم من الأساس. فنسبة الأكسجين فيه هي 21% تقريبا، ونسبة الأزوت أو النتروجين هي 78% تقريبا، والبقية من ثاني أكسيد الكربون بنسبة ثلاثة أجزاء من

عشرة آلاف وعناصر أخرى. وهذه النسب هي اللازمة بالضبط لقيام الحياة على الأرض! والله جعل الأرض ذلولا بآلاف من هذه الموافقات الضرورية لقيام الحياة ... ومنها حجم الأرض وحجم الشمس والقمر، وبعد الأرض عن الشمس والقمر. ودرجة حرارة الشمس. وسمك قشرة الأرض. ودرجة سرعتها. وميل محورها. ونسبة توزيع الماء واليابس فيها. وكثافة الهواء المحيط بها ... إلى آخره ... إلى آخره. وهذه الموافقات مجتمعة هي التي جعلت الأرض ذلولا. وهي التي جعلت فيها رزقا وهي التي سمحت بوجود الحياة. وبحياة هذا الإنسان على وجه خاص. والنص القرآني يشير إلى هذه الحقائق ليعيها كل فرد وكل جيل بالقدر الذي يطيق، وبالقدر الذي يبلغ إليه علمه وملاحظته. ليشعر بيد الله- الذي بيده الملك- وهي تتولاه وتتولى كل شئ حوله، وتذلل له الأرض، وتحفظه وتحفظها. ولو تراخت لحظة واحدة عن الحفظ لاختل هذا الكون كله وتحطم بمن عليه وما عليه!). 5 - بمناسبة قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال ابن كثير: (هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكون في الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط مستقيم مفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ الآيات أزواجهم أشباههم. روى الإمام أحمد رحمه الله عن نفيع قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين). 6 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قال صاحب الظلال: (والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة. والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة، معجزة أعجب وأغرب. ولم يعرف بعد عنها إلا القليل. وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد.

كلمة أخيرة في سورة الملك

وللعلم الحديث محاولات في معرفة شئ عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة: «تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية، ولا يعلم إلا الله أين تنتهي. ويقول العلم: إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن، التي تنظم دخوله، ليقع على طبلة الأذن. وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن. والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة. وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس». «فما طول القوس منها وحجمها؟ وكيف ركبت هذه الأقواس- التي تبلغ عدة آلاف كل منها- تركيبا خاصا؟ وما الحيز الذي وضعت فيه؟ ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة. هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية. وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة. دقة وعظمة تحير الألباب». «ومركز حاسة الإبصار العين، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء، وهي أطراف أعصاب الإبصار. وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية ... وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية». «وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة، والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات. ويقال: إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض، وبالنسبة للعدسات ... وعدسة عينيك تختلف في الكثافة، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا». فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا. وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض). كلمة أخيرة في سورة الملك: إن محور سورة الملك قد أنكر على من يكفر بالله، مقيما عليه الحجة من خلال ظاهرتي الحياة والعناية، مقررا موضوع الرجوع إلى الله كبديهية، متحدثا عن خلق الله السموات السبع، وقد جاءت سورة الملك مفصلة في ذلك كله ضمن سياقها الخاص بها، تحدثت عن الله عزّ وجل وعن حكمته في خلق الموت والحياة، وعن خلق السموات السبع، وعن تزيينها بالكواكب، وعن حكمة وجود الكواكب لتصل إلى

الكلام عن عذاب الشياطين والكافرين في نار جهنم، لتذكر بعد ذلك جزاء الذين يخشون ربهم، ثم تذكر معاني تستثير فيها الخشية، ثم تأمر بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين معاني محددة، وبهذا أقامت السورة الحجة تلو الحجة على الكافرين، وأنكرت عليهم الكفر وما يتفرع عنه، وبينت ما يستدعيه الإيمان بالله عزّ وجل وفصلته، فكانت بمجموعها تفصيلا لمحورها وبيانا لحكمة الخلق التي تعرض لها المحور، وكنا ذكرنا من قبل أن محور سورة الملك هو محور سورة الأنعام، وكما أنه بعد سورة الأنعام سورة الأعراف فبعد سورة الملك سورة القلم التي تفصل في محور سورة الأعراف. فلننتقل إلى الكلام عن سورة (القلم). ***

سورة القلم

سورة القلم وهي السورة الثامنة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة والأخيرة من المجموعة الخامسة من قسم المفصل، وهي اثنتان وخمسون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي السورة

بين يدي السورة: قدم الألوسي لسورة القلم بقوله: (هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت- على ما روي عن ابن عباس- اقرأ باسم ربك ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر، وفي البحر إنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل، وفي الإتقان استثنى منها إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى يَعْلَمُونَ ومن فَاصْبِرْ إلى الصَّالِحِينَ فإنه مدني حكاه السخاوي، وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع، ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد، وافتتاح هذه به، وقال الجلال السيوطي في ذلك: أنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء، استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليها وهم نائمون، فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق، وإذا كان هذا في الثمار- وهي أجرام كثيفة- فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب؛ ولهذا قال سبحانه هنا: وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ وقال جل وعلا هناك: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً إشارة إلى أنه يسري عليه في ليلة كما أسرى على الثمر في ليلة. انتهى، ولا يخلو عن حسن، وقال أبو حيان فيه: إنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع، وأنه عزّ وجل لو شاء لخسف بهم الأرض، أو لأرسل عليهم حاصبا، وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر، ومرة إلى السحر، ومرة إلى الجنون، فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلقه). ... كلمة في سورة القلم ومحورها: قلنا إن محور سورة القلم هو محور سورة الأعراف، ومحور سورة الأعراف هو القاعدة الكلية التي ختمت بها قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة، وهي قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ودليل ذلك واضح من معاني السورة، ومن التشابه بين آيات فيها وبين سورة الأعراف ففي السورة

نجد قوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وفي السورة نجد قوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ لاحظ صلة الآيتين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ولاحظ صلة الآية الثانية بقوله تعالى في سورة الأعراف: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ونكتفي بهذه الإشارة في هذا المقام فسنرى تفصيلات ذلك أثناء عرض السورة. ... والملاحظ أن سورة (ن) وسورة (ق) وسورة (ص) كل منها مبدوء بحرف واحد، وتنتهي نهاية متشابهة. فسورة (ص) تنتهي بقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ. وسورة (ق) تنتهي بقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ. وسورة (ن) تنتهي بقوله تعالى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. ومن قبل رأينا أن سورة (ص) نهاية مجموعة، وسورة (ق) نهاية مجموعة، وهذا يجعلنا نستأنس بأن سورة (ن) نهاية مجموعة، وإن اختلفت محاور هذه السور الثلاث بحسب النهاية التي تستقر عليها المجموعة التي وردت فيها. ... ونلاحظ أن سورة الملك انتهت بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ ... فسورة الملك منتهية بآيات تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسورة (ن) تبدأ بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ن* وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ* ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ* فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ فالصلة واضحة بين نهاية سورة الملك وبداية سورة (ن). ...

وفي سورة التغابن نجد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وصلة ذلك بمضمون سورة (ن) واضحة. فمما ورد في سورة (ن) قوله تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ومما ورد فيها قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وذلك يؤكد صلة سورة (ن) بسورة التغابن، ومن قبل قلنا إن سورة التغابن هي مقدمة مجموعتها. ... ولنبدأ عرض السورة على فقرات. ***

الفقرة الأولى وهي المقدمة للسورة

الفقرة الأولى وهي المقدمة للسورة وتمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (7) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القلم (68): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) التفسير: ن قال النسفي: الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم، وقال ابن كثير: قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة، وأن قوله تعالى: ن كقوله: ص، ق ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا. أقول: وفي ترجيح هذين الإمامين هذا القول، دليل على أنه لم يثبت شئ عن رسولنا عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن، ومن ثم فكل كلام غير هذا الكلام لا يصلح أن يلتفت إليه أو يعول عليه؛ ولذلك فإننا لا نذكره ولا نشير إليه وَالْقَلَمِ قال ابن كثير: الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به، فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم، وقال النسفي: أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف وَما يَسْطُرُونَ قال ابن كثير: يعني: وما يكتبون. وهل الضمير يعود على كل كاتب، أو على الملائكة، أو على الكاتبين الخير من البشر؟ وأرجح الأخير فصار المعنى: والقلم وكتابة الكاتبين به من أولئك الذين يحققون الحكمة من خلقه إذ يستعملونه في الخير، وجواب القسم: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي: ما أنت بإنعام الله عليك بالنبوة وغيرها بِمَجْنُونٍ قال ابن كثير: أي: لست ولله

[سورة القلم (68): آية 3]

الحمد بمجنون كما يقول الجهلة من قومك، المكذبين بما جئتهم به من الهدى والحق المبين، فنسبوك فيه إلى الجنون. قال النسفي: وهو جواب قولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ أقول: إن اتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون هو المفر الذي يفر إليه كل مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم نسمع في عصرنا اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالصرع وغيره كتعليل لما يحدث له عليه الصلاة والسلام عند الوحي- وحاشاه-، وفي عرض الله عزّ وجل هذه الشبهة بهذا الشكل رد لها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنعم عليه بأعظم نعمة في الوجود، فكيف تجتمع هذه النعمة مع الجنون؟ إن مثل هذا الكلام لا يقوله إلا إنسان حرم نعمة التفكير، ثم قال تعالى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً أي: ثوابا غَيْرَ مَمْنُونٍ أي: غير منقطع. قال ابن كثير: أي: بل إن لك الأجر العظيم، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذاهم. أقول: نفى الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم تهمة الجنون، وذكره بنعمته عليه بالنبوة، وبما أعده له في الآخرة؛ ردا عنه وتسلية له، ثم أثنى الله عزّ وجل على رسوله الثناء الأعلى فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال عطية: أي: لعلى أدب عظيم، وقال معمر عن قتادة: سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن، قال ابن كثير: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له، وخلقا وتطبعه وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل. أقول: في الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الثناء الكريم رد على من اتهمه بالجنون، فمن رأى مضمون ما أنعم الله على رسوله من الوحي، ومن عرف كمالات أخلاقه لا يشك أنه ما عرف تاريخ البشرية إنسانا كمحمد صلى الله عليه وسلم، فهل يصح في العقول بعد ذلك أن يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون؟ ثم وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأوعد أعداءه فقال فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال منك ومنهم. والمفتون هو الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، وفسر ابن عباس والنسفي المفتون بالمجنون لأنه فتن- أي: محن- بالجنون إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قال ابن كثير: أي: هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي، ويعلم الحزب الضال عن الحق، وقال النسفي: أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة، وهم الذين ضلوا عن سبيله، وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون. أقول: وقد شهد الله وهو الأعلم أن رسوله هو العاقل المهتدي

كلمة في السياق

وهم المفتونون الضالون عن صراط الله عزّ وجل. كلمة في السياق: 1 - بعد هذه المقدمة يأتي قوله تعالى في الفقرة اللاحقة كما سنرى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ مما يشير إلى أن الذين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون هم المكذبون، ولذلك صلته بمحور السورة من سورة البقرة فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فالمقدمة تحدثت عما يفر إليه الكافرون المكذبون بآيات الله، فاتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون هو مستندهم في الكفر والتكذيب، وقد رد الله عزّ وجل عليهم. 2 - محور السورة من سورة البقرة فيه قوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ومقدمة سورة (ن) تحدثت عمن أنزل عليه الهدى، وأفهمتنا أنه محل نعمة الله عزّ وجل، وأنه على كمال الأخلاق، وبهذا عرفنا بماذا يتصف من يختاره الله عزّ وجل لرسالته، كما عرفنا من المقدمة أن من اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مفتون ضال. 3 - بعد هذا التأسيس الذي مر معنا في المقدمة، والذي عرفنا فيه خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفنا فيه الرد على الاتهام الرئيسي الموجه له صلى الله عليه وسلم، تأتي فقرة تنهى رسول الله- وهو القدوة- عن طاعة المكذبين، وعن طاعة من اتصف ببعض الصفات، ومن الفقرة الثانية تعرف مواقف أخرى للمكذبين، وتعرف صفاتهم، وتعرف أنهم هم المفتونون، وأنهم هم الضالون، يشهد على ذلك أخلاقهم نفسها، فلنر الفقرة الثانية. ***

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (8) إلى نهاية الآية (16) وهذه هي: [سورة القلم (68): الآيات 8 الى 16] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) التفسير: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ قال ابن كثير رابطا بين هذه الآية وما قبلها: (يقول تعالى كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم، والخلق العظيم فلا تطع المكذبين) وقال النسفي: (في الآية تهييج على معاصاتهم) ثم علل الله عزّ وجل للنهي بقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي: ودوا لو تلين لهم فيلينون لك. دل هذا على أن أهل الكفر والتكذيب تنصب محاولاتهم على أن يتخلى صاحب الدعوة عن شئ من دعوته، وهم في مقابل ذلك مستعدون لأن يلينوا في دعوتهم، ولكن شتان بين إدهانهم وإدهان صاحب الحق، فصاحب الدعوة إذا لان فذلك على حساب الحق، وأما هم فإذا لانوا فذلك على حساب الباطل، وما أرخص الباطل وأغلى الحق، وكما نهى الله عزّ وجل رسوله عن طاعة المكذبين، فإنه ينهاه بعد ذلك عن طاعة كل من اتصف بخصال حددها له: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي: كثير الحلف في الحق والباطل. قال النسفي: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف مَهِينٍ أي: حقير في الرأي والتمييز والكلمة مشتقة من المهانة وهي القلة والحقارة، وفسر ابن عباس المهين بالكذاب، وإنما ذم الحلاف لأن كثرة حلفه دليل على اجترائه على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها هَمَّازٍ أي: عياب طعان مغتاب مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي: نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم، والنميم والنميمة بمعنى

[سورة القلم (68): آية 12]

واحد: وهي السعاية بين الناس بالإفساد مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ الخير هو المال هنا، أو للإسلام مُعْتَدٍ أي: مجاوز في الظلم حده، أو معتد في تناول ما أحل الله له يتجاوز فيها الحد المشروع أَثِيمٍ أي: كثير الآثام، أي: يتناول المحرمات عُتُلٍّ أي: غليظ جاف بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد كل ما مر من المثالب فهو غليظ جاف زَنِيمٍ أي: دعي ينتسب إلى غير أهله، وفسر ابن عباس الزنيم بأنه الدعي الفاحش اللئيم أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ هذه الآية تحتمل تقديرين: التقدير الأول: ولا تطع من كانت هذه صفاته لكونه ذا مال وبنين، أي: لا تطعه ليساره وحظه في الدنيا. والتقدير الثاني: أن الآية متعلقة بما بعدها وهي: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: خرافاتهم. فصار التقدير: ألأنه كان ذا مال وبنين كذب وقال عن آياتنا أساطير الأولين، ولم يذكر ابن كثير إلا التقدير الثاني. قال: (مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين كفر بآيات الله عزّ وجل، وأعرض عنها، وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين). ثم قال تعالى مهددا من هذه صفاته: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الخرطوم: الأنف، قال النسفي: وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع. قال ابن جرير: أي: سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه، ولا يخفى عليهم، كما لا تخفى عليهم السمة على الخراطيم، وقال آخرون: أي: سنسمه سمة أهل النار، يعني: بسوء وجهه يوم القيامة، وعبر عن الوجه بالخرطوم، ونموذج هذا الصنف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة كما قال الجمهور. كلمة في السياق: 1 - نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الفقرة عن طاعة صنفين هما المكذبون ومن اتصف بالصفات العشر المذكورة: الحلف، والمهانة، والهمز، والنميمة، ومنع الخير، والاعتداء، وارتكاب الإثم، ومقابلة نعمة الله بكفرانها، وقوله تعالى في الصنف الثاني: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يشير إلى أن كلا من الصنفين مكذب، إلا أن العرض أشعر أنه يمكن أن يوجد إنسان متصف بهذه الصفات حتى ولو لم يعلن تكذيبه، فالمكذبون هذه أخلاقهم، ولذلك صلته بمحور السورة وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فالفقرة عرفتنا على صفات الكافرين والمكذبين، وذكرت لنا بعض ما يعذبون به سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ. 2 - وهكذا عرفنا من السورة أن لله رسولا أنعم الله عليه بالوحي والخلق

الفقرة الثالثة

العظيم، وأن هناك مكذبين متصفين بأخس الأخلاق يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون وحاشاه، وبهذا يستأهلون العذاب، وعرفنا أن أدب المسلم ألا يطيع هؤلاء، وصلة ذلك كله بمحور السورة واضحة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. 3 - لاحظنا أن من صفات المكذبين أنهم أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ* إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فهؤلاء من صفاتهم مقابلة النعمة بالكفر، ومحاربة آيات الله ووصفها بالأساطير، ثم تأتي فقرة تبين أن الله عزّ وجل يعطي هؤلاء ما يعطيهم امتحانا واستدراجا، وأن أمامهم العذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا كله نراه من خلال مثل يضربه الله عزّ وجل لهؤلاء في الفقرة الثالثة. *** الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (17) إلى نهاية الآية (33) وهذه هي: [سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

التفسير

التفسير: إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي: إنا اختبرنا هؤلاء المكذبين كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ الجنة: هي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ أي: حلفوا فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم، ولا يتصدقوا منه بشيء، وقال النسفي: أي: حلفوا ليقطعن ثمرها داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء وَلا يَسْتَثْنُونَ قال النسفي: (أي: ولا يقولون إن شاء الله، وسمي استثناء- وإن كان شرطا صورة- لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء من حيث إن معنى قولك لأخرجن إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد)، وقال ابن كثير: ولا يستثنون أي: فيما حلفوا به، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ أي: نزل عليها بلاء من عند الله. قال ابن كثير: أي: أصابتها آفة سماوية وَهُمْ نائِمُونَ أي: في حال نومهم. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أي: فصارت الجنة كالليل المظلم، أي: احترقت فاسودت، أو كالصبح أي: صارت أرضا بيضاء بلا شجر، وقيل كالمصرومة، أي: كأنها صرمت لهلاك ثمرها. قال ابن كثير: قد حرموا خير جنتهم بذنبهم فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضا ليذهبوا إلى الجذاذ أي: القطع قائلين: أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي: إن كنتم مريدين صرامه فَانْطَلَقُوا أي: ذهبوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي: يتسارون فيما بينهم لئلا يسمع المساكين. قال ابن كثير: أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يسمعون أحدا كلامهم، ثم فسر الله تعالى عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي: يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيرا يدخلها عليكم، ثم قال الله تعالى واصفا حالهم في ذهابهم وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي: قوة وشدة، أو جد أو غيظ، أو حرد على المساكين قادِرِينَ أي: عند أنفسهم على

[سورة القلم (68): آية 26]

المنع، أي: قادرين عليها وعلى منع منفعتها عن المساكين فيما يزعمون ويرومون فَلَمَّا رَأَوْها أي: فلما رأوا جنتهم محرقة قالُوا في بديهة وصولهم إِنَّا لَضَالُّونَ أي: ضللنا جنتنا، وليست هذه هي؛ لما رأوا من هلاكها، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا. قال ابن كثير: (أي: فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله- عزّ وجل- قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار، إلى أن صارت سوداء مدلهمة، لا ينتفع بشيء منها فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق ولهذا قالوا: إِنَّا لَضَالُّونَ أي: قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها، قاله ابن عباس وغيره، ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: بل هي هذه ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب). قالَ أَوْسَطُهُمْ أي: أعدلهم وخيرهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قال النسفي: (أي: هلا تستثنون؛ إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله؛ لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم، أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة، فعصوه فعيرهم ولهذا قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فتكلموا بعد ما حدث الذي حدث بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولا، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالما. قال ابن كثير: أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي: يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر، ثم اعترفوا جميعا بأنهم تجاوزوا الحد قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ أي: بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. قال ابن كثير: أي: اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أي: خيرا من هذه الجنة، قيل رغبوا بدلها في الدنيا، وقيل احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ أي: طالبون منه الخير راجون لعفوه كَذلِكَ الْعَذابُ قال ابن كثير: أي: هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات، وبدل نعمة الله كفرا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي: أعظم منه. قال ابن كثير: أي: هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق لَوْ كانُوا

كلمة في السياق

يَعْلَمُونَ ولكنهم لا يعلمون، ومن ثم يفعلون ما يفضي إلى هذا العذاب. كلمة في السياق: ما محل هذا المثل في سياق السورة، وما هو الشبه بين اختبار المكذبين بهذا القرآن واختبار أصحاب الجنة بجنتهم؟ 1 - المكذبون بالإسلام يتصورون أن هذا التكذيب أكثر ربحا لهم في الدنيا، كما تصور أصحاب البستان أن منع المساكين أكثر ربحا، والواقع أن الأمر ليس كذلك، وكما كان مآل أهل البستان الخسارة، فالخسارة- أيضا- هي مآل هؤلاء المكذبين، ولقد رأينا أناسا تركوا الإسلام ودعوا إلى غيره طلبا لزعامة وجاه، وإذا بالأمر ينقلب عليهم، فأصبحوا وقد خسروا الزعامة والجاه، بل ماتوا مقهورين. ولعذاب الآخرة أشق. 2 - المكذبون أبطرتهم النعمة فكفروا، وأصحاب الجنة أبطرتهم النعمة فقرروا المنع ونسوا الله عزّ وجل، ففي المثل تهديد للمكذبين بزوال المال، وموت العيال، ومن هنا نفهم أن دنيا المكذبين شبهت بالقصة بجنة أصحاب الجنة، وكما أن أصحاب الجنة نسوا الله عزّ وجل، وقرروا الاستيلاء عليها كاملة دون مراعاة أي حق، فإن المكذبين نسوا الله عزّ وجل، وقرروا الاستيلاء على دنياهم كاملة دون مراعاة أي حق، وعاقبة الجميع واحدة في الدنيا، وعذاب الآخرة أشق لمن لم يتب. 3 - في ختم قصة أصحاب الجنة بقوله تعالى- حكاية عنهم-: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ بيان لكون أصحاب الجنة تابوا وأنابوا، وفي ذلك فتح باب لهؤلاء المكذبين أن يعترفوا بخطئهم، ويتوبوا وينيبوا، ثم تأتي فقرة رابعة هي آية واحدة تبين ما أعد الله عزّ وجل للمتقين. ***

الفقرة الرابعة

الفقرة الرابعة وهي آية واحدة هي الآية (34) وهذه هي: [سورة القلم (68): آية 34] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) التفسير: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في الآخرة جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي: جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا. قال ابن كثير: لما ذكر تعالى حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عزّ وجل وخالفوا أمره، بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها. كلمة في السياق: قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهؤلاء هم المتقون الذين رأينا في السورة ما أعد الله لهم في الآخرة، والدليل على أن هؤلاء هم المتقون قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وكما رأينا في السورة جزاء المتقين، فقد رأينا فيها جزاء المكذبين وما يستحقونه في الدنيا من عذاب. وهكذا فإن السورة تحدثت عن الرسول المنزل عليه الهدى، وردت عنه أقوال المكذبين، وبينت أخلاق هؤلاء المكذبين، وضربت لحالهم ودوافعهم مثلا عرفنا فيه خسارتهم، ثم عقبت على ذلك بذكر ربح المتقين، ولكل ذلك صلاته بمحور السورة، وكما أن للسورة صلاتها بمحورها فلها سياقها الخاص ووحدتها وتسلسلها. فالسورة بدأت بنفي تهمة الجنون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوعدت وأنذرت المتهمين، ثم أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يطيع هؤلاء المكذبين، ثم ضربت مثلا عرفتنا به على دوافع التكذيب وخسارة أهله في الدنيا والآخرة، ثم بينت ربح المصدقين، ثم تأتي فقرة جديدة تبين سنة الله في عدم مساواة الكافرين بالمسلمين، وتناقش هؤلاء المكذبين، فلنر الفقرة الخامسة.

الفقرة الخامسة

الفقرة الخامسة وتمتد من الآية (35) إلى نهاية الآية (43) وهذه هي: [سورة القلم (68): الآيات 35 الى 43] أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) التفسير: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي: أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي. كلمة في السياق: 1 - جاءت هاتان الآيتان بعد أن ذكر الله عزّ وجل جزاء المكذبين، وجزاء المتقين فبينتا أن عدل الله يقتضي ذلك، فكأنهما قالتا: إذا كنا لا نعذب العاصي المكذب المجرم، ولا نكافئ المصدق المتقي المسلم، فإننا نكون قد سوينا بين الجميع، وهذا ينافي عدلنا، فكيف مثل هذا الظن بنا؟! فالآيتان أفهمتا الكافرين المكذبين المجرمين أنه لا بد من عقاب وثواب. 2 - أفهمتنا الآيتان أن عند الكافرين المكذبين تصورا هو: استواء الكافرين والمؤمنين عند الله عزّ وجل، وهو واقع نراه، إذ نرى الكثيرين لا يعبئون بما يعملون من شر، ولا بما يعمل المسلمون من خير، ويرون أنفسهم والمسلمين سواء، وقد فند

الخطاب الأول

الله عزّ وجل هذا الحكم الخاطئ. 3 - قال تعالى في محور السورة: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وفي هاتين الآيتين بين أنه لا يتساوى عنده المجرمون والمسلمون فلا مساواة بينهما. 4 - وبعد أن سفه الله عزّ وجل هذا التصور- أن المجرمين والمسلمين سواء- خاطب المكذبين ثلاث خطابات: الخطاب الأول: أَمْ لَكُمْ كِتابٌ أي: من السماء فِيهِ تَدْرُسُونَ أي: تقرءون في ذلك الكتاب إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي: أن ما تختارونه وتشتهونه لكم. قال ابن كثير: يقول تعالى: أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف يتضمن حكما مؤكدا تدعونه إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ وإذ لم يكن الأمر كذلك فلماذا تكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبركم به عن الله، ولماذا لا تعملون، ولماذا لا تسلمون، ولماذا تتصورون أنكم والمسلمين سواء عند الله عزّ وجل، وأن لكم النتيجة الحسنة والنصر الأكيد؟ أقول: وما أكثر ما نسمع في عصرنا على لسان الكافرين أن النصر لهم، وأن المستقبل لهم، وأن الحتمية التاريخية بجانبهم، وأن وأن، وكل ذلك وهم، فهم محكومون بسنن الله عزّ وجل التي بينها الله في هذا القرآن وجزاؤهم بعد ذلك النار. الخطاب الثاني: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ أي: عهود مؤكدة بالأيمان عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: أنها تبلغ ذلك اليوم، وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من أخذ ما يحكمونه إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ به لأنفسكم. قال ابن كثير: أي: أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة ... أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي: قل لهم من هو المتضمن المتكفل بهذا، وإذ لم يكن لهم كفيل، وإذ لم يكن الأمر كذلك، فما بالهم يكذبون فلا يسلمون ولا يتقون ولا يعملون.

الخطاب الثالث

الخطاب الثالث: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ قال ابن كثير: أي: من الأصنام والأنداد، وقال النسفي: أي: ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم أنهم على حق يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي: فليأتوا بشركائهم ذلك اليوم. قال النسفي: (والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب). قال ابن كثير: يعني: يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام، ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أي: ويدعى الكفار ثمة إلى السجود توبيخا لهم على تركهم السجود في الدنيا فَلا يَسْتَطِيعُونَ ذلك بصيرورة ظهورهم طبقا واحدا كما سنرى في الحديث الصحيح خاشِعَةً أي: ذليلة أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: يغشاهم صغار وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ على ألسن الرسل إِلَى السُّجُودِ في الدنيا وَهُمْ سالِمُونَ أي: وهم أصحاء فلا يسجدون، فلذلك منعوا من السجود ثم. قال ابن كثير: (ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم، كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب عزّ وجل فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحدا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خر لقفاه عكس السجود، كما كانوا في الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون). كلمة في السياق: 1 - بدأت الفقرة الخامسة بنفي المساواة بين المسلمين والمجرمين، وأن المجرمين حكمهم في ذلك حكم فاسد، ثم برهنت على ذلك فأثبتت أنه لا مستند لهم في زعمهم، فلا وعد من الله، ولا كتاب يشهد، وليس مع الله شريك، وهكذا أكدت الفقرة ما ورد في السورة من استحقاق الكافرين العذاب واستحقاق المؤمنين الثواب، وفي ذلك تفصيل لما ورد في المحور من وعد الله للمؤمنين، ووعيده للكافرين المكذبين. 2 - وفي الفقرة السادسة يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه الهدى، ولذلك فإن الفقرة تبدأ بقوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ... فالسورة تفصل في محورها من خلال توجيه الموحى إليه صلى الله عليه وسلم، فقد

بدأت بخطابه بنفي تهمة الجنون عنه، والثناء على أخلاقه، ثم ثنت بنهيه عن طاعة المكذبين، ثم وصفت هؤلاء المكذبين، وضربت مثلا لحالهم، ثم أقامت عليهم الحجة، ثم عاد السياق لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحديد المواقف له. 3 - في المحور ثلاث قضايا رئيسية: هدى ينزله الله على أصدق خلقه يقف الناس منه موقفين: مؤمنين ومكذبين. والسورة تخاطب المنزل عليه هدى الله- وهو محمد صلى الله عليه وسلم- في الرسالة الخاتمة في نفي ما يتهمه به المكذبون، فتقيم الحجة عليهم، وتحدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مواقفه منهم، وتريه أخلاقهم وتصوراتهم، فلنر الفقرة السادسة والأخيرة في السورة وتبدأ بالكلام عن المكذبين، آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم لعقوبة الله عزّ وجل. ***

الفقرة السادسة

الفقرة السادسة وتمتد من الآية (44) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (52) وهذه هي: [سورة القلم (68): الآيات 44 الى 52] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) التفسير: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. قال النسفي: أي: كله إلي فإني أكفيكه، والمراد كل أمره إلي، وخل بيني وبينه، فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به ومطيق له، فلا تشغل قلبك بشأنه، وتوكل علي في الانتقام منه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال النسفي: (سندنيهم من العذاب درجة درجة، يقال: استدرجه إلى كذا أي: استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورطه فيه، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازدياد المعاصي مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، قيل: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها)، وقال ابن كثير في الآية: (وهذا تهديد شديد أي: دعني وإياه. أنا أعلم به كيف أستدرجه وأمده في غيه وأنظره، ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر)، وفسر ابن كثير مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ

[سورة القلم (68): آية 45]

فقال: أي: وهم لا يشعرون بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة، وهو في نفس الأمر إهانة، وفسرها النسفي بقوله: (أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج قيل: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها) وَأُمْلِي لَهُمْ أي: وأمهلهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: قوي شديد. قال ابن كثير: أي: عظيم لمن خالف أمري وكذب رسلي وأصر على معصيتي، وقال في الآية: أي: أؤخرهم وأنظرهم وأمدهم، وذلك من كيدي ومكري بهم. كلمة في السياق: 1 - جاء في محور السورة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وجاء في الآيتين اللتين مرتا معنا قوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ فالآيتان توجهان رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون موقفه من المكذبين، وتعده أن الله عزّ وجل سيتولى أمر الانتقام منهم، وصلة ذلك بالمحور واضحة. 2 - بعد أن ذكر الله عزّ وجل موقف الكافرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم يتهمونه أنه مجنون، وبعد أن رد الله عزّ وجل عليهم، ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم، ومثل لحالهم وأقام الحجة عليهم، يأتي الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكل أمر المكذبين إلى الله عزّ وجل، ثم تتجه السورة مرة ثانية لحوار المكذبين كما سنرى. 3 - لاحظ صلة المثل الذي ذكره الله عزّ وجل في السورة بقوله تعالى فيها: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ففي قصة أصحاب الجنة نموذج لكيد الله المتين، ولنعد إلى سياق السورة. ... أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ أي: غرامة ودفع مال مُثْقَلُونَ فلا يؤمنون أي: لست تطلب أجرا على تبليغ الوحي فيثقل عليهم فيمتنعوا لذلك. قال ابن كثير: والمعنى: أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزّ وجل بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى، وهم يكذبون بما جئتهم به لمجرد الجهل والكفر والعناد أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ قال النسفي: (أي: اللوح المحفوظ عند الجمهور) فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: أقام الله الحجة على المكذبين هاهنا بتبيانه أنه لا صلة لهم بأمر الغيب حتى يكذبوا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلب منهم أجرا حتى يستثقلوا الإيمان، وبهذا استكملت السورة نقاش المكذبين، فأقامت الحجة على أن محمدا رسول الله، وعلى أنهم يستأهلون العذاب، وعلى أنه لا مبرر لهم في عدم الإيمان، وإذ قامت الحجة عليهم يأتي الآن أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر. ... فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، لأنهم أمهلوا ولم يهملوا وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ أي: يونس- عليه السلام- حين ذهب مغاضبا على قومه دون إذن من ربه، فصار المعنى: فاصبر لحكمة ربك، ولا تتصرف تصرفا إلا بإذن منا؛ أن يصيبك ما أصاب يونس عليه السلام، إذ عوقب إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ أي: مغموم مكروب لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي: رحمة من الله. أي: لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره لَنُبِذَ من بطن الحوت بِالْعَراءِ بالفضاء وَهُوَ مَذْمُومٌ أي: معاتب بزلته، لكنه رحم فنبذ غير مذموم فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي: فاصطفاه ربه لدعائه وعذره فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي: من المستكملين لصفات الصلاح. ... كلمة في السياق: وهكذا أدب الله رسوله صلى الله عليه وسلم آمرا إياه أن يصبر على أذى المكذبين، وألا يتصرف تصرفا إلا بإذن، وإلا استحق عقابا كالعقاب الذي نزل بيونس عليه السلام، وحتى لا يتوهم متوهم في شأن يونس فقد ذكر الله من كمالاته وتكميل الله إياه في المحنة وبعد المحنة، ثم في سياق الأمر بالصبر يذكر الله عزّ وجل موقفين للكافرين يقتضيان صبرا. ... وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ أي: قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزرا بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك، أو يهلكوك لشدة

كلمة في السياق

حنقهم عليك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي: حين سمعوا القرآن وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ فهم ينظرون إليه شزرا بأعينهم، ويؤذونه بألسنتهم، ويقولون إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي: لمجيئه بالقرآن. كلمة في السياق: 1 - بينت هذه الآية نموذجين من مواقف الكفار يقتضيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا، نموذجا فعليا وهو نظرهم شزرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن، أو نظرهم الذي يريدون به هلاكه، ونموذجا قوليا وهو قولهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون. 2 - مما ذكره الله عزّ وجل في آخر الآية وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ نعلم سبب ما جاء في أول السورة ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وهذا يرينا صلة أول السورة بنهايتها. 3 - من الآية الأخيرة نعرف مظهرا جديدا من مظاهر الكفر والتكذيب، وهو الحقد الشديد على صاحب الدعوة والهدى، بدل الإيمان به والتسليم، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة. 4 - وكرد على موقف الكافرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا الذكر، تأتي الآية الأخيرة في السورة. ... وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي: وما القرآن إلا موعظة للجن والإنس. لقد حكموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون، ونظروا إليه شزرا لأجل القرآن، وما القرآن إلا موعظة للعالمين، فكيف يحكم بالجنون على من جاء بمثله؟ وذكر النسفي وجها آخر للآية فقال: (وما هو- أي: محمد عليه السلام- إلا شرف للعالمين، فكيف ينسب إليه الجنون)، والوجه الأول أقوى. قال صاحب الظلال: (ولا بد قبل نهاية الحديث من لفتة إلى كلمة «للعالمين» ... هنا والدعوة في مكة تقابل بذلك الجحود، ويقابل رسولها بتلك النظرات المسمومة المحمومة، ويرصد المشركون لحربها كل ما يملكون ... وهي في هذا

كلمة في السياق

الوقت المبكر، وفي هذا الضيق المستحكم، تعلن عن عالميتها. كما هي طبيعتها وحقيقتها. فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في المدينة- كما يدعي المفترون اليوم- إنما كانت صفة مبكرة في أيام مكة الأولى. لأنها حقيقة ثابتة في صلب هذه الدعوة منذ نشأتها. كذلك أرادها الله. وكذلك اتجهت منذ أيامها الأولى. وكذلك تتجه إلى آخر الزمان. والله الذي أرادها كما أرادها هو صاحبها وراعيها. وهو المدافع عنها وحاميها. وهو الذي يتولى المعركة مع المكذبين. وليس على أصحابها إلا الصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين). كلمة في السياق: رأينا محور السورة من قبل فلنر أجزاءه وما فصلت السورة في كل منها: 1 - فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً قد رأينا في السورة أن هذا القرآن هو هدى الله للعالمين، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه هذا الهدى، وقد أثنت السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرته بما ينبغي أن يفعله. 2 - فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقد بينت السورة أن المتقين لهم الجنات وأنهم هم المهتدون. 3 - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وقد فصلت السورة في مواقف المكذبين وأقوالهم، وكيف يستدرجهم الله عزّ وجل، وفصلت في استحقاقهم العذاب، وأقامت الحجة عليهم، وسفهت مواقفهم، لأنها لا تستند على أساس، وكل ذلك سار ضمن سياق خاص للسورة. الفوائد: 1 - في قوله تعالى: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ اتجاه إلى أن المراد بالقلم، قلم القدرة، والمراد بالمسطرين الملائكة، وقد رجحنا غير هذا الاتجاه، ولكن بمناسبة هذا الاتجاه قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دعاني أبي حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر

وما هو كائن إلى الأبد» وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق عن الوليد ابن عبادة عن أبيه به، وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي به وقال: حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في كتاب السنة من سننه). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال ابن كثير: (وروى عبد الرزاق عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أم المؤمنين عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أتقرأ القرآن؟ فقلت: نعم فقالت: كان خلقه القرآن. وهذا مختصر من حديث طويل. وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث قتادة بطوله، وسيأتي في سورة المزمل إن شاء الله تعالى وبه الثقة. وروى الإمام أحمد عن الحسن قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وروى الإمام أحمد عن رجل من بني سواد قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن! وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال: قلت: حدثيني عن ذاك قالت: صنعت له طعاما، وصنعت له حفصة طعاما، فقلت لجاريتي: اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبل فاطرحي الطعام، قالت: فجاءت بالطعام، قالت: فألقت الجارية فوقعت القصعة فانكسرت، وكان نطع، قالت: فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اقتصوا- أو اقتصي، شك أسود- ظرفا مكان ظرفك» قالت: فما قال شيئا. وروى البخاري عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقا، ليس بالطويل ولا بالقصير. والأحاديث في هذا كثيرة ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل. روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط ولا ضرب امرأة ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شئ يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عزّ وجل. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح مكارم الأخلاق» تفرد به). وقال صاحب الظلال عند قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ: (ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم تبرز من نواح شتى:

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله. وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقيها. وهو يعلم من ربه هذا- قائل هذه الكلمة- ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين. إن إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقي هذه الكلمة. من هذا المصدر. وهو ثابت. لا ينسحق تحت ضغطها الهائل- ولو أنها ثناء- ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب ... تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن ... هو في ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل. ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شئ آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير. وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير. وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا. لا يتكبر على العباد، ولا يتعاظم، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير! والله أعلم حيث يجعل رسالته. وما كان إلا محمد صلى الله عليه وسلم بعظمة نفسه هذه- من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى. فيكون كفئا لها، كما يكون صورة حية منها. إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء. في تماسك وفي توازن، وفي طمأنينة. طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى- بعد ذلك- عتاب ربه له، ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك ... وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم. والعبد الطائع. والمبلغ الأمين). 3 - وبمناسبة قوله تعالى: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ قال ابن كثير: (وقد ثبت في

الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» الحديث وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به. وروى الإمام أحمد عن همام أن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات» رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن إبراهيم به. وروى عبد الرزاق- بسنده- عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات» يعني نماما). 4 - بمناسبة قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ قال ابن كثير: (أما العتل: فهو الفظ الغليظ الصحيح الجموع المنوع. وروى الإمام أحمد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر» وقال وكيع: «كل جواظ جعظري مستكبر» أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث سفيان. وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار: «كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع» تفرد به أحمد. قال أهل اللغة: الجعظري: الفظ الغليظ، والجواظ: الجموع المنوع. وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم فقال: «هو الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب الظلوم للناس رحيب الجوف» وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة الجواظ الجعظري العتل الزنيم» وقد أرسله أيضا غير واحد من التابعين. وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه، وأرحب جوفه وأعطاه من الدنيا هضما، فكان للناس ظلوما، قال فذلك العتل الزنيم» وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين ونص عليه غير واحد من السلف منهم مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم أن العتل: هو المصحح الخلق، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك). 5 - وبمناسبة قوله تعالى: زَنِيمٍ قال ابن كثير: (وأما الزنيم فروى البخاري عن ابن عباس عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ قال: رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة، ومعنى هذا أنه كان مشهورا بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين

أخواتها. وإنما الزنيم في لغة العرب هو الدعي في القوم، قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة قال: ومنه قول حسان بن ثابت يعني يذم بعض كفار قريش: وأنت زنيم نيط في آل هاشم … كما نيط خلف الراكب القدح الفرد وقال آخر: زنيم ليس يعرف من أبوه … بغي الأم ذو حسب لئيم وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله زَنِيمٍ قال: الدعي الفاحش اللئيم، ثم قال ابن عباس: زنيم تداعاه الرجال زيادة … كما زيد في عرض الأديم الأكارع 6 - بمناسبة قوله تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيئ له، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قد حرموا خير جنتهم بذنبهم»). 7 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ قال ابن كثير: (وقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور، وقد قال عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: هو يوم القيامة، يوم كرب وشدة رواه ابن جرير ثم روى عن ابن مسعود أو ابن عباس- الشك من ابن جرير- يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: عن أمر عظيم كقول الشاعر: شالت الحرب عن ساق). 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قال ابن كثير: (وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ

شَدِيدٌ). 9 - بمناسبة ذكر يونس عليه السلام، قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى» ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة). 10 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قال ابن كثير: (وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عزّ وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة ... روى أبو عبد الله ابن ماجه عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلا من عين أو حمة» هكذا رواه ابن ماجه وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن بريدة موقوفا وفيه قصة. قال الترمذي: وروى هذا الحديث الإمام البخاري عن عمران ابن حصين موقوفا: «لا رقية إلا من عين أو حمة». (طريق أخرى) روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العين حق، ولو كان شئ سابق القدر سبقت العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» انفرد به دون البخاري. وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة. ومن كل عين لامة» ويقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام. أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال به. (حديث أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف رضي الله عنه) روى ابن ماجه عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف قال: مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة فما لبث أن لبط به فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: أدرك سهلا صريعا قال: «من تتهمون به» قالوا عامر بن ربيعة قال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟. إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة» ثم دعا بماء، فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن يصب عليه. قال سفيان قال معمر عن الزهري وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه، وقد رواه النسائي من حديث سفيان بن عيينة ومالك بن أنس كلاهما عن

كلمة أخيرة في سورة (القلم) ومجموعتها

الزهري به، ومن حديث سفيان بن عيينة به أيضا عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة ويكفأ الاناء من خلفه. (حديث أبي سعيد الخدري) روى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك، ورواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن. (حديث آخر عنه) روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت يا محمد قال: «نعم» قال: باسم الله أرقيك، من كل شئ يؤذيك، من شر كل نفس وعين تشنيك والله يشفيك، باسم الله أرقيك. ورواه عن عفان عن عبد الوارث مثله، ورواه مسلم وأهل السنن إلا أبا داود من حديث عبد الوارث به). كلمة أخيرة في سورة (القلم) ومجموعتها: رأينا صلة سورة (ن) بمحورها وبالسورة قبلها وبالسورة الأولى من مجموعتها، ورأينا كيف أن المجموعة على أقوى رباط فيما بينها، وتوضحت لدينا خلال عرضنا للمجموعة فكرة هي: أن المعاني الإجمالية في القرآن عرضتها سورة البقرة في آياتها التسعة والثلاثين الأولى، ثم جاءت تتمة سورة البقرة لتخدم المعاني الواردة في الآيات الأولى هذه. وجاءت المجموعات تتوالى لتفصل كل مجموعة هذه الآيات بشكل أو بآخر مع امتداداتها في سورة البقرة نفسها، وقد تفصل بعض سور المجموعات محاور أخرى من سورة البقرة. وهذا التفصيل المستند إلى محاور ضمن ترتيب معين يذكرنا بالوحدة التي نراها في هذا الكون؛ إذ ترجع الأشياء كلها إلى أصل واحد، وإذ تتكامل الأشياء فيما بينها. فكما أنه في هذا الكون تجد أن الأشياء الكثيرة ترجع إلى أمهات، وأن كل شئ في هذا الكون يكمل الآخر، فكذلك هذا القرآن، وكما أنك تجد في أجزاء هذا الكون كل على حدة، معاني جديدة وعجائب كثيرة في الذرة والخلية والأعضاء والأجسام والكتل، فكذلك نجد هذا القرآن، فالقرآن كتاب الله المسطور، والكون كتاب الله المنظور، وكلاهما تظهر فيه نفس الخصائص التي تدل على الله وصفاته وأسمائه. ... وقد رأينا فيما مر معنا كيف أن المجموعات تفصل بعيدا أو قريبا من بداية سورة

البقرة، وكيف أن هناك مجموعات تفصل آية فآية بلا فواصل، ومجموعات أخرى تفصل آية ثم تفصل آية بعيدة، ويربط بين الآيات رباط، وكل ذلك يرينا مظاهر من الإبداع تشهد على أن هذا القرآن كتاب الله عز وجل. ... ومجموعة سورة (ن) التي مرت تمثل المجموعة الشاملة التذكير، فقد رأينا أنها فصلت في الآيات التسعة والثلاثين من سورة البقرة كلها، بينما نرى مجموعات تفصل في حدود العشرين آية الأول فقط، ومجموعات فصلت في الآيات السبع الأولى فقط. ... ومن الآن فصاعدا سنحاول أن نبرز معنى هو: أن المجموعات وهي تفصل في محورها تلفت النظر إلى كل ما له علاقة في هذا المحور في منطوقه ومفهومه، وعباراته وإشاراته وغير ذلك، وهي في الوقت نفسه تبني وتبين ما يترتب على كل معنى من آثار عملية، وأحيانا قد تفصل في الجانب العملي الذي يترتب على معنى ولو لم تذكر هذا المعنى. ونكتفي الآن بهذا القدر عن سورة (ن) ومجموعتها، وعما أوصلتنا إليه، وذكرتنا فيه من آفاق الوحدة القرآنية، ولننتقل إلى المجموعة السادسة من قسم المفصل. ***

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

المجموعة السادسة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة السادسة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: الحاقة، والمعارج، ونوح، والجن، والمزمل، والمدثر

كلمة في المجموعة السادسة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة السادسة من قسم المفصل ترددت كثيرا في تحديد حدود المجموعة السادسة بدايتها ونهايتها وعدد سورها، فمن القديم كان مستقرا في حسي وقلبي أن سورة الحاقة بداية مجموعة، إلا أنني لاحظت أن سورة الحاقة تشبه سورة الواقعة شبها عجيبا في مضمونها، وفي نهايتها؛ فسورة الواقعة تنتهي بقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ وكذلك سورة الحاقة، ومضمون سورة الحاقة يشبه إلى حد بعيد مضمون سورة الواقعة، وقد رأينا أن سورة الواقعة كانت نهاية مجموعة، ولم تكن بداية مجموعة. وبعد التأمل الطويل رجحت أن سورة الحاقة بداية مجموعة، وأنها هي والسور الخمس بعدها مجموعة واحدة، ومن قبل قلنا إن المعاني وحدها هي التي لها الحكم النهائي، وقد رأيت أن المعاني توصل إلى هذه النتيجة. وإذن فمن خلال المعاني يتبين أن السور الست التي ذكرناها تشكل مجموعة واحدة، ومن خلال المعاني نرى أن الحاقة والمعارج ونوح والجن تفصل في مقدمة سورة البقرة، وأن سورتي المزمل والمدثر تفصلان في الآيات السبع بعد المقدمة، وسنرى أدلة ذلك أثناء الكلام عن هذه السور. والمجموعة وهي تفصل تكمل البناء، وتوضح الطريق، ويرافق فيها الإقناع الدعوة إلى بذل الجهد في كل جانب من الجوانب ولنبدأ عرض سور المجموعة.

سورة الحاقة

سورة الحاقة وهي السورة التاسعة والستون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة السادسة من قسم المفصل، وهي اثنتان وخمسون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الحاقة

بين يدي سورة الحاقة: قال الألوسي ذاكرا وجه المناسبة بين سورة الحاقة ونون: (ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم، وضمنه عزّ وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام، وما جرى عليهم؛ ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام). وقال صاحب الظلال عن سورة الحاقة: (هذه سورة هائلة رهيبة؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس، وتطالعه بالهول القاصم، والجد الصارم، والمشهد تلو المشهد، كله إيقاع ملح على الحس، بالهول آنا وبالجلال آنا، وبالعذاب آنا، وبالحركة القوية في كل آن! والسورة بجملتها تلقي في الحس- بكل قوة وعمق- إحساسا واحدا بمعنى واحد ... أن هذا الأمر- أمر الدين والعقيدة- جد خالص حازم جازم. جد كله لا هزل فيه. ولا مجال فيه للهزل. جد في الدنيا وجد في الآخرة، وجد في ميزان الله وحسابه. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا. وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم). (إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل، ومن كل تعليق!). (ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب: إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية، المتناهية الحيوية، بحيث لا يملك منها فكاكا، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة!). كلمة في سورة الحاقة ومحورها: جاءت سورة الحاقة بعد سورة (ن) التي ذكرنا أنها نهاية مجموعة، وهذا يجعلنا نستأنس أن سورة الحاقة بداية مجموعة، وإذا كانت سورة الحاقة بداية مجموعة فهي تفصل في مقدمة سورة البقرة، ولذلك فإنها تبدأ بالكلام عن اليوم الآخر، وصلة ذلك

بقوله تعالى في الآيات الأولى من سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ واضحة، ثم هي تتحدث عن مآل المسلمين ومآل الكافرين، وصلة ذلك بالكلام عن المتقين والكافرين في أوائل سورة البقرة واضحة، كما هي تتحدث عن سبب تعذيب الكافرين إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وصلة ذلك بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ واضحة، وتتحدث عن القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ... وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ... وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ* وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ وصلة ذلك بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة، وهذا كله يؤكد أن سورة الحاقة بداية مجموعة. يبقى أن نتساءل عن سر التشابه بين سورة الحاقة وسورة الواقعة؟ أقول: إن اليوم الآخر يدفع للعمل كما يدفع للإيمان، وقد جاءت سورة الواقعة تفصل في ما بعد مقدمة سورة البقرة، وجاءت سورة الحاقة تفصل في مقدمة سورة البقرة وبين المقامين تداخل، فالكلام عن اليوم الآخر دافع للتحلي، كما هو دافع للتخلي، ودافع للإيمان كما أنه دافع للعمل، ومن ثم تقدم الحديث عن اليوم الآخر في السورتين للوصول إلى ما ينبغي أن يبنى عليه، على أن كلا من السورتين تخدم محورها بشكل رئيسي. ومع أن هناك تشابها في السورتين فإن لكل سورة روحها وسياقها الخاص بها، ومعانيها وألفاظها، وطريقة عرضها، وكل من السورتين على غاية من الكمال والبيان، مما يدلك على أن هذا القرآن من عند الله، فإن نرى معنى واحدا يعرض بعشرات الطرق، وفي كل مرة تجد عرضا على غاية من الكمال والعلو في موضوع لم يطرقه العرب أصلا فذلك شأن غير مستطاع للبشر. إن سورة الواقعة وسورة الحاقة نموذجان على السور التي تعرض اليوم الآخر، ثم تبني على ذلك ما ينبغي أن يبنى عليه من بناء، إن في مجال الإيمان، أو في مجال العمل.

وسنرى سورا أخرى تشبههما في هذا المجال، ولعل في هذا الذي ذكرناه سر التشابه بين هذه السور وإن اختلفت المحاور. لقد رأينا سورا تعرفنا على الله، ثم تنطلق من خلال التعريف عليه جل جلاله، إلى البناء على ذلك ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل. ولقد رأينا سورا تذكرنا بإعجاز القرآن، ثم تنطلق لتبني على كون هذا القرآن من عند الله ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل. ورأينا سورا تعرفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تنطلق لتبني على ذلك ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل، وكل ذلك يأتي أحيانا بشكل دوري، وأحيانا بشكل متباعد، والإنسان أعجز من أن يحيط بأسرار هذا القرآن، فلو أن عقول الأولين والآخرين اجتمعت لتحيط بكل أسرار هذا القرآن لما كان لها إلى ذلك سبيل، فكما أن الله حدثنا عن ذاته فقال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً فإن كتابه كذلك، لقد سمى الله كتابه روحا فقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وقال عن الروح الإنسانية: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وما يقال عن روح الإنسان يقال عن القرآن، مع ملاحظة أن كون القرآن روحا هو إحدى خصائصه التي بسببها مع غيره يعجز الإنسان عن أن يأتي بمثل هذا القرآن. فلنبدأ بعرض سورة الحاقة ولنعرضها على فقرتين: الفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (37). الفقرة الثانية تستمر حتى نهاية الآية (52). وتتألف الفقرة الأولى من مقدمة ومجموعتين.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (37) وهذه هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) المجموعة الأولى [سورة الحاقة (69): الآيات 4 الى 12] كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) المجموعة الثانية [سورة الحاقة (69): الآيات 13 الى 37] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)

تفسير مقدمة السورة

تفسير مقدمة السورة: الْحَاقَّةُ هذه الكلمة مشتقة من حق يحق بالكسر أي: وجب، والمراد بها الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجئ، التي هي آتية لا ريب فيها. قال ابن كثير: الحاقة من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد، ولهذا عظم الله أمرها فقال: مَا الْحَاقَّةُ أي: الحاقة ما هي وأي شئ هي؟ تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها، أي: حقها أن يستفهم عنها لعظمتها وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ قال النسفي: أي وأي شئ أعلمك ما الحاقة؟ يعني: أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين. كلمة في السياق: 1 - هذه مقدمة السورة، وفيها ذكر ليوم القيامة وتفخيم له، يعقب ذلك

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

المجموعة الأولى من الفقرة الأولى، وفيها ذكر لأمم كذبت بالساعة، فحل بهم ما حل، ثم تسير السورة في سياقها المبدع الرائع الذي يهز الكيان هزا. قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد ... عن عمر بن الخطاب أنه قال: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال: فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال فقرأ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ قال: فقلت كاهن، قال فقرأ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ إلى آخر السورة، قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع، فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه). لاحظ كلمة عمر في جاهليته: فجعلت أعجب من تأليف القرآن، وكيف كانت هذه السورة من أسباب إيمانه، لتدرك روعة هذه السورة، وروعة الإعجاز القرآني. 2 - قدمت السورة للكلام عن يوم القيامة بما هو الغاية في الفخامة والتعظيم، فقرعت الآذان والقلوب بهذا الجرس القوي، والاستفهام بعد الاستفهام عن شأنها وها هي ذي المجموعة الأولى من الفقرة الأولى تتحدث عن من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب. تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ أي: بالحاقة فوضعت القارعة موضعها، لأنها من أسماء يوم القيامة، وسميت بالقارعة لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال، وثمود قوم صالح، وعاد قوم هود فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ قال النسفي: (أي: بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، واختلف فيها فقيل الرجفة، وقيل الصيحة ... ) وقال ابن كثير في تفسير الطاغية: وهي الصيحة التي أسكتتهم، والزلزلة التي أسكنتهم، هكذا قال قتادة: الطاغية الصيحة وهو اختيار ابن جرير وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي: شديدة الصوت أو باردة عاتِيَةٍ أي: شديدة العصف والهبوب. قال الضحاك: عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة سَخَّرَها أي: سلطها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ من الليالي سبعا ومن النهر ثمانية حُسُوماً قال ابن كثير: أي: كوامل متتابعات مشائيم أو مستأصلة استئصالا فَتَرَى الْقَوْمَ أيها

[سورة الحاقة (69): آية 8]

المخاطب فِيها أي: في مهاب الريح أو في الأيام والليالي صَرْعى أي: هلكى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أي: أصول نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي: ساقطة أو بالية فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي: من نفس باقية أو من بقاء. قال ابن كثير: أي: هل تحس منهم من أحد من بقاياهم، أو ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفا وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ أي: ومن تقدمه من الأمم وَالْمُؤْتَفِكاتُ قال النسفي: (أي: قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي: انقلبت بهم)، وقال ابن كثير: هم الأمم المكذبون بالرسل بِالْخاطِئَةِ أي: بالخطإ أو بالفعلة الخاطئة، أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي: فعصى قوم لوط رسول ربهم، أو فعصت كل أمة من الأمم المذكورة رسول ربها فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي: شديدة زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القبح إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي: زاد على الحد بإذن الله يوم طوفان نوح حَمَلْناكُمْ أيها البشر أي: حملنا آباءكم فِي الْجارِيَةِ أي: في سفينة نوح عليه السلام لِنَجْعَلَها لَكُمْ أي: لنجعل لكم تلك الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين تَذْكِرَةً أي: عبرة وعظة، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي: وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية، أي: حافظة سامعة، أي: يحفظها ويفهمها كل من له سمع صحيح، وعقل رجيح. قال ابن كثير: (وهذا عام في كل من فهم ووعي). كلمة في السياق: بدأت السورة بذكر الحاقة، وتفخيم أمرها من خلال سؤالين عنها، ثم جاءت مجموعة تحدثت عن قوم عاد وثمود، وفرعون وقومه، وقوم لوط، وقوم نوح كأمم كذبت باليوم الآخر الذي سيأتي حديث عنه في المجموعة الثانية، وهي المجموعة التي ستذكر الجواب على السؤال عن الحاقة، وبهذا تكون المجموعة الأولى من الفقرة الأولى بمثابة التمهيد قبل التفصيل في أمر الحاقة، فقد جاءت المجموعة الأولى لتبين عاقبة من يكذب بالحاقة لتتلقى النفس البشرية البيان وهي عارفة عقوبة من يكذب بها. كانت مقدمة السورة الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟ وفي المجموعة الثانية تفصيل الحديث عن الحاقة: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ... وجاءت المجموعة الأولى في الوسط إنذارا ووعظا وتذكيرا.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ المراد بهذه النفخة النفخة الأولى، وهي التي يموت بها الناس. قال ابن كثير: وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي: دكتا حتى ترجع الجبال كثيبا مهيلا، وهباء منبثا، قال ابن كثير: أي: فمدت مد الأديم العكاظي وتبدلت الأرض غير الأرض فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: قامت القيامة، أو نزلت النازلة، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ قال النسفي: أي: مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة وَالْمَلَكُ أي: جثت الملائكة عَلى أَرْجائِها قال ابن كثير: أي: على أرجاء السماء، قال ابن عباس: على ما لم يه منها أي: حافاتها، وقال النسفي: أي: جوانبها لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجئون إلى أطرافها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي: فوق الملائكة الموجودين على الأرجاء يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة ثَمانِيَةٌ أي: ثمانية ملائكة أو ثمانية أصناف، أو ثمانية صفوف، والقول الأقوى أنهم ثمانية ملائكة. قال النسفي: (اليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة) يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة تُعْرَضُونَ أي: للحساب والسؤال لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي: سريرة وحال كانت تخفى على الخلق في الدنيا. قال ابن كثير: أي: تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شئ من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ سرورا به لما يرى فيه من الخيرات خطابا لجماعته هاؤُمُ أي: خذوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال ابن كثير: لأنه يعلم أن الذي فيه خير، وحسنات محضة لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات إِنِّي ظَنَنْتُ أي: علمت وتيقنت أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ قال ابن كثير: أي: قد كنت مؤمنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة. قال النسفي: (وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد قلما يخلو عن الوسواس والخواطر، وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلوا عنه). أقول: يفهم من كلام النسفي أن استعمال الظن بمعنى العلم في الآية، لأن كثيرا من أعمال الآخرة مبناها على غلبة الظن لكثير من الأحكام الفقهية والفرعيات، ومعنى مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي:

[سورة الحاقة (69): آية 21]

معاين حسابي فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي: ذات رضا يرضى بها صاحبها، أي: مرضية فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي: رفيعة قصورها، حسان حورها، مقيمة دورها، دائم حبورها، قال النسفي: أي: رفيعة المكان، أو رفيعة الدرجات، أو رفيعة المباني والقصور قُطُوفُها دانِيَةٌ أي: ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكئ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي: أكلا وشربا هنيئا لا مكروه فيهما ولا أذى بِما أَسْلَفْتُمْ أي: بما قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي: الأيام الماضية من أيام الدنيا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ وهم الأشقياء الكفرة الفجرة فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ لما يرى فيه من الفضائح وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أي: يا ليتني لم أعلم ما حسابي يا لَيْتَها أي: يا ليت الموتة التي متها كانَتِ الْقاضِيَةَ أي: القاطعة لأجلي فلم أبعث بعدها، ولم ألق ما ألقى ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي: لم ينفعني ما جمعته في الدنيا هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ قال الألوسي: أي: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ... أو ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيرا ذليلا، أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات يقول ذلك تحسرا وتأسفا. قال ابن كثير: أي: لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه، بل خلص الأمر إلي وحدي، فلا معين لي ولا مجير، فعندها يقول الله عزّ وجل أي: لخزنة جهنم خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أي: اجمعوا يديه إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي: أدخلوه. قال النسفي: يعني: ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى. قال ابن كثير: أي: يأمر الزبانية أن تأخذه عنفا من المحشر فتغله، أي: تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها، أي: تغمره فيها ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي: طولها سَبْعُونَ ذِراعاً قال النسفي: بذراع الملك، عن ابن جريج: وقيل لا يعرف قدرها إلا الله فَاسْلُكُوهُ أي: فأدخلوه. قال ابن كثير: (وقال ابن جرير: قال ابن عباس: تدخل في استه ثم تخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى، وقال العوفي عن ابن عباس: يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه) ثم علل تعالى لاستحقاقه هذا العذاب الشديد فقال: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: على بذل طعام المسكين. قال ابن كثير: أي: لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم، فإن الله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان

[سورة الحاقة (69): آية 35]

والمعاونة على البر والتقوى، ولهذا أمر الله بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» قال النسفي: (وفيه- أي: وفي قوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ- إشارة إلى أنه لا يؤمن بالبعث؛ لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم، وإنما يطعمونهم لوجه الله، ورجاء الثواب في الآخرة، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم، أي: أنه مع كفره لا يحرض غيره على إطعام المحتاجين، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين، لأنه عطفه على الكفر، وجعله دليلا عليه وقرينة له، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق، وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا، وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعا، والكافرين لا يرحمون؛ لأنه قسم الخلق نصفين، فجعل صنفا منهم أهل اليمين، ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ وصنفا منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، ثم قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي: قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ قال النسفي: (أي: غسالة أهل النار ... وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم). أقول: سنرى مجموعة الأقوال في الغسلين في الفوائد. قال ابن عباس: ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أي: الكافرون أصحاب الخطايا. كلمة في السياق: 1 - فصلت هذه المجموعة في ماهية الحاقة، وما يكون فيها، وانقسام الناس فيها إلى قسمين: أهل يمين، وأهل شمال، وما لأهل اليمين وما لأهل الشمال، والأسباب التي استحق بها أهل اليمين ما نالوه، والأسباب التي استحق بها أهل الشمال ما نالوه. 2 - نال أهل اليمين ما نالوه بسبب يقينهم بالآخرة إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ وبسبب أعمالهم الصالحة كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ونال أهل الشمال ما نالوه بسبب كفرهم بالله ومنعهم حقوق المساكين إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وبسبب خطاياهم لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ وصلة ذلك بالمحور واضحة، فالمتقون يؤمنون بالغيب،

ويوقنون بالآخرة، وينفقون مما رزقهم الله عزّ وجل، والكافرون ليسوا كذلك. 3 - بدأت السورة بذكر الحاقة، وتفخيم أمرها، ثم ثنت بذكر المكذبين فيها وعذابهم، ثم ثلثت بذكر ماهيتها، ثم تأتي الفقرة الثانية في السورة، وفيها تأكيد على أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل، ومجئ هذا التأكيد في نهاية السورة يبرهن على أن اليوم الآخر حق لا مرية فيه، فما دام القرآن يذكر ذلك، وما دام هذا القرآن حقا خالصا من عند الله، فاليوم الآخر الذي تحدث عنه القرآن حق.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (38) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (52) وهذه هي: [سورة الحاقة (69): الآيات 38 الى 52] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) التفسير: فَلا أُقْسِمُ أي: فأقسم بِما تُبْصِرُونَ أي: من الأشياء وَما لا تُبْصِرُونَ من الأشياء. قال النسفي: فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء إِنَّهُ أي: إن القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي: محمد صلى الله عليه وسلم أي: يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة عن الله عزّ وجل. قال ابن كثير: أضافه- أي: القرآن- إليه (أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل، وقال ابن كثير: (يقول تعالى مقسما لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم، إن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة)، وَما هُوَ أي: القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ كما تدعون قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي: تؤمنون إيمانا قليلا، والمراد هنا نفي الإيمان عنهم وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تقولون قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي: تتذكرون قليلا، والمراد بالقلة نفي التذكر أصلا. قال ابن كثير: (والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون البتة)،

[سورة الحاقة (69): آية 43]

تَنْزِيلٌ أي: هذا القرآن تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا بيان لكون القرآن قول رسول الله، فهو قول رسول نزل عليه من رب العالمين، وبعد أن نفى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعرا أو كاهنا، وأثبت أنه رسول، وإذن فهذا القرآن ليس شعرا أو كهانة، فلم يبق إلا أن يكون منزلا من الله عزّ وجل، يذكر سنته فيمن كذب عليه مما يؤكد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يتقول هذا القرآن من عند نفسه فقال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي: ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قال ابن كثير: (وقيل معناه: لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش- أي: في تصور الناس- وقيل: لأخذنا بيمينه) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ قال ابن عباس: وهو نياط القلب، وهو العرق المعلق فيه القلب فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ أي: فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به شيئا من ذلك، وإذن فهو صادق بار راشد، لأن الله عزّ وجل مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات، والدلالات القاطعات، والمعنى العام للآيات الأربعة: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعمون مفتريا علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجلناه بالعقوبة، فإذ لم نفعل فذلك دليل صدقه فيما يقول عنا. كلمة في السياق: بدأت الفقرة بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ ثم جاء جواب القسم: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وبعد أن أثبت الله عزّ وجل أن هذا القول قوله سبحانه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم مبلغ عنه، يأتي معطوفان على جواب القسم يتحدثان عن القرآن. المعطوف الأول: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي: وإن القرآن لعظة لمن اتصف بالتقوى، وهذه خصيصة من خصائص القرآن تدل على أنه من عند الله، فهو يذكر أهل التقوى بالله، وباليوم الآخر، وبما ينبغي أن يفعلوه طاعة الله، وإذا كان القرآن كذلك فالمفروض ألا يبقى إلا مصدق بهذا القرآن، ولكن الأمر ليس كذلك، ومن ثم قال تعالى: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ أي: مع هذا البيان والوضوح سيوجد منكم من يكذب بالقرآن، ثم قال تعالى: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ قال ابن جرير:

المعطوف الثاني

(أي: وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة)، وقال النسفي: (أي: وإن القرآن لحسرة على الكافرين به، المكذبين له، إذا رأوا ثواب المصدقين به). المعطوف الثاني: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ قال النسفي: (أي: وإن القرآن لعين اليقين، ومحض اليقين)، وقال ابن كثير: (أي: الخبر الصدق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب). أقول: أي: إن ما في هذا القرآن هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا كان مضمون القرآن حقا، وإذا كان من خصائص هذا القرآن أنه مذكر، وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم هو البار الصادق، فلم يبق مجال لشبهة في أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل، وأن ما يقوله هو الحق الخالص، فإذا كان مما قاله الإخبار عن الحاقة فإن الحاقة حق خالص، وتأتي آية أخيرة في السورة تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسبيح الله عزّ وجل مقابل جحود الجاحدين، وتكذيب المكذبين، وإلحاد الملحدين، وقياما بحق الشكر لله رب العالمين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال ابن كثير: أي: الذي أنزل هذا القرآن العظيم، وقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسبح الله العظيم في ركوعنا، فالأمر بالتسبيح هنا أمر بالصلاة ضمنا، قال الألوسي في تفسير الآية: (أي: فسبح الله بذكر اسمه العظيم، تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه، وشكرا على ما أوحى إليك من هذا القرآن الجليل الشأن). كلمة في السياق: قلنا إن محور السورة هو الآيات الأولى من سورة البقرة فلنر هذه الآيات، وصلة ما ورد في السورة بها: 1 - الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وقد رأينا في السورة قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ورأينا فيها: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ورأينا فيها وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ وفي ذلك كله تأكيد لكون القرآن لا ريب فيه، وأن فيه الهدى للمتقين. 2 - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وقد عرضت علينا السورة قضايا من الغيب: الإيمان بالله- الإيمان باليوم الآخر- الإيمان بالملائكة ...

الفوائد

3 - وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ رأينا الأمر بالتسبيح وصلته بالصلاة. 4 - وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ رأينا في السورة عاقبة الذين لا يحضون على طعام المسكين. 5 - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وقد رأينا في السورة دعوة إلى الإيمان بالقرآن، ورأينا قوله تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ. 6 - وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وقد رأينا في السورة عرضا لليوم الآخر، وجزاء المكذبين به في الدنيا والآخرة، وجزاء المصدقين به، بل رأينا أن السورة في سياقها الرئيسي تتحدث عن اليوم الآخر. 7 - أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد رأينا في السورة نموذجا من فلاح المتقين يوم القيامة، وخسران غيرهم، وعلى هذا فالسورة كانت نوع تفصيل للآيات الأولى من سورة البقرة. الفوائد: 1 - بمناسبة الكلام عن قوم عاد. قال ابن كثير: (وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها قالوا: هذا عارض ممطرنا؛ فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة»). 2 - بمناسبة قوله تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ قال ابن كثير: (وهذا جنس، أي: كل كذب رسول الله إليهم كما قال تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ومن كذب برسول فقد كذب بالجميع كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ولهذا قال هاهنا: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً أي: عظيمة شديدة أليمة، قال مجاهد: رابية شديدة، وقال السدي: مهلكة).

3 - بمناسبة قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ قال ابن كثير: (أي: يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب، وفي حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب في ذكر حملة العرش أنهم ثمانية أوعال، وروى ابن أبي حاتم ... عن أبي قيل حيي بن هانئ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: حملة العرش ثمانية، ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام. وروى ابن أبي حاتم ... عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه يخفق الطير سبعمائة عام» وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات، وقد رواه أبو داود في كتاب السنة من سننه ... عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» هذا لفظ أبي داود. وروى ابن أبي حاتم ... عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ، قال: ثمانية صفوف من الملائكة قال: وروي عن الشعبي وعكرمة والضحاك وابن جريج مثل ذلك، وكذا روى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: ثمانية صفوف، وكذا روى العوفي عنه، وقال الضحاك عن ابن عباس: الكروبيون ثمانية أجزاء كل جزء منهم بعدة الإنس والجن والشياطين والملائكة). 4 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ قال ابن كثير: (وقد روى ابن أبي الدنيا ... عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. روى الإمام أحمد ... عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» ورواه ابن ماجه والترمذي، وقد رواه ابن جرير ... عن عبد الله قال: يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله. ورواه سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة مرسلا مثله).

5 - بمناسبة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال ابن كثير: (وقد روى ابن أبي حاتم ... عن أبي عثمان قال: المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله، فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئة تغير لونه، حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات. قال: فعند ذلك يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. وعن عبد الله بن عبد الله بن حنظلة- غسيل الملائكة- قال: إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي- أي: يظهر- سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له: أنت عملت هذا؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقول له: إني لم أفضحك به، وإني قد غفرت لك، فيقول عند ذلك: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ حين نجا من فضيحته يوم القيامة. وقد تقدم في الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدني الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها حتى إذا رأى أنه قد هلك، قال الله تعالى: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين»). 6 - بمناسبة قوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أمامة قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتزاور أهل الجنة؟ قال: «نعم، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم» وقد ثبت في الصحيح: «إن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض»). 7 - بمناسبة قوله تعالى: قُطُوفُها دانِيَةٌ قال ابن كثير: (قال البراء ابن عازب: أي: قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره، وكذا قال غير واحد. وروى الطبراني ... عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية» وكذا رواه الضياء في صفة الجنة ... عن سليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعطى المؤمن جوازا على الصراط: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية»).

8 - بمناسبة قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ قال ابن كثير: (أي يقال لهم ذلك تفضلا عليهم وامتنانا وإنعاما وإحسانا، وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»). 9 - بمناسبة قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم ... عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال الله تعالى خُذُوهُ ابتدره سبعون ألف ملك، إن الملك منهم ليقول هكذا، فيلقي سبعين ألفا في النار. وروى ابن أبي الدنيا في الأهوال أنه يبتدره أربعمائة ألف ولا يبقى شئ إلا دقه فيقول: ما لي ولك فيقول: إن الرب عليك غضبان فكل شئ غضبان عليك، وقال الفضيل ابن عياض: إذا قال الرب عزّ وجل: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه). 10 - بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد ... عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن رضاضة مثل هذه- وأشار إلى جمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة الخمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها» وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن). 11 - وبمناسبة قوله تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ قال ابن كثير: (ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين. قال قتادة: هو شر طعام أهل النار. وقال الربيع والضحاك: هو شجرة في جهنم. وروى ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغسلين، ولكني أظنه الزقوم، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال: (الغسلين): الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه: (الغسلين): صديد أهل النار). أقول: إن كلام ابن عباس فيه إشارة إلى قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ إلى قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي: من شجرة الزقوم فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فالظاهر أن طعام أهل النار هو هذا،

فلما قال تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ علمنا أن المراد بذلك الزقوم. والله أعلم. 12 - بمناسبة قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ قال صاحب الظلال: (بهذه الفخامة وبهذه الضخامة، وبهذا التهويل بالغيب المكنون، إلى جانب الحاضر المشهود ... والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر. بل مما يدركون. وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة، تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها- كما شاء الله لهم- والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير. والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض، ومن شئونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود ... فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ. ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر، ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها. وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة. فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود. فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون. ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض ... ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة، وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر- بما لا يقاس- مما وصل إليه ... عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه، ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور! إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين ويدرك الوعي بأدواته الميسرة له ... مساكين؟ سجناء حسهم وإدراكهم المحدود. محصورون في عالم ضيق على سعته، صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير. وفي فترات مختلفة من تاريخ البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود، والحاضر المشهود؛ ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور، والاتصال بالحق الكبير، عن طريق الإيمان والشعور. ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم ... تارة باسم الجاهلية. وتارة

باسم العلمانية! وهذه كتلك سجن كبير. وبؤس مرير، وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور! والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها- بحمق وغرور- حول نفسه في القرنين الماضيين ... يتخلص من تلك القضبان، ويتصل بالنور- عن طريق تجاربه ذاتها- بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا؛ وعرف حدوده، وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة. وعاد «العلم يدعو إلى الإيمان» في تواضع تبشر أوائله بالفرج! أي نعم بالفرج. فما يسجن الإنسان نفسه وراء قضبان المادة الموهومة إلا وقد قدر عليه الضيق!). 13 - وبمناسبة قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قال صاحب الظلال: (فالشعر قد يكون موسيقي الإيقاع، رائع الأخيلة، جميل الصور والظلال؛ ولكنه لا يختلط أبدا ولا يشتبه بهذا القرآن، إن هنالك فارقا فاصلا بينهما. إن هذا القرآن يقرر منهجا متكاملا للحياة يقوم على حق ثابت، ونظرة موحدة، ويصدر عن تصور للوجود الإلهي ثابت، وللكون والحياة كذلك. والشعر انفعالات متوالية وعواطف جياشة، قلما تثبت على نظرة واحدة للحياة في حالات الرضى والغضب، والانطلاق والانكماش، والحب والكره، والتأثرات المتغيرة على كل حال! هذا إلى أن التصور الثابت الذي جاء به القرآن قد أنشأه القرآن إنشاء من الأساس في كلياته وجزئياته، مع تعين مصدره الإلهي. فكل ما في هذا التصور يوحي بأنه ليس من عمل البشر، فليس من طبيعة البشر أن ينشئوا تصورا كونيا كاملا كهذا التصور ... لم يسبق لهم هذا ولم يلحق ... وهذا كل ما أبدعته قرائح البشر من تصورات للكون وللقوة المنشئة له، المدبرة لنظامه ... هذا هو معروضا مسجلا في الفلسفة وفي الشعر وفي غيرهما من المذاهب الفكرية؛ فإذا قرن إلى التصور القرآني وضح أن هذا التصور صادر من جهة غير تلك الجهة! وأنه متفرد بطابع معين يميزه من كل تصورات البشر. كذلك الأمر في الكهانة وما يصدر عنها. فلم يعرف التاريخ من قبل أو بعد كاهنا أنشأ منهجا متكاملا ثابتا كالمنهج الذي جاء به القرآن. وكل ما نقل عن الكهنة أسجاع

كلمة أخيرة في السورة

لفظية أو حكمة مفردة، أو إشارة ملغزة!). كلمة أخيرة في السورة: لقد رأينا تسلسل السورة الخاص، ورأينا صلتها بمحورها، وهاهنا نذكر أن هذه السورة مقدمة لمجموعتها، ومن ثم فقد ذكرت ووعظت وأنذرت ودللت، ومن المعلوم أن التأكيد على كون هذا القرآن من عند الله هو المقدمة الكبرى لكل قضية قرآنية، ومن ثم بدأت سورة البقرة بهذا التأكيد، ورأينا أن الفقرة الثانية من هذه السورة أكدت نفس المضمون، فلننتقل إلى سورة المعارج.

سورة المعارج

سورة المعارج وهي السورة السبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة السادسة من قسم المفصل، وهي أربع وأربعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة المعارج

بين يدي سورة المعارج: قدم الألوسي لسورة المعارج بقوله: (وتسمى سورة المواقع، وسورة سأل. وهي مكية بالاتفاق، على ما قال القرطبي. وآيها ثلاث وأربعون في الشامي، واثنتان وأربعون في غيره. وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار، وقد قال ابن عباس: إنها نزلت عقيب سورة الحاقة). وقال صاحب الظلال في معرض حديثه عن سورة المعارج: (ظاهرة أخرى في الإيقاع الموسيقي للسورة، الناشئ من بنائها التعبيري ... فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئا من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة. وفق المعنى والجو فيه ... فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقا، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها. والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيبا. ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ. والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي- موسيقيا- من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي. ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه، وإن كان فنا إبداعيا عميقا جديدا على مألوفها الموسيقي). كلمة في سورة المعارج ومحورها: قلنا من قبل إن سورة المعارج تفصل في مقدمة سورة البقرة، وبالتحديد فإنها تفصل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فبداية السورة سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ثم بعد آيات يأتي قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ثم بعد آيات يأتي قوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ثم بعد آيات يأتي قوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ فأنت ترى مما نقلناه أن الكلام في السورة ينصب انصبابا رئيسيا على الكافرين وعذابهم وأحوالهم.

المقدمة

فإذا تذكرنا أن سورة الحاقة تحدثت عن أصحاب الشمال، وتحدثت عن المكذبين باليوم الآخر، وتحدثت عن المكذبين بالقرآن في أواخرها، ندرك صلة سورة الحاقة بسورة المعارج، وصلة نهايتها ببداية سورة المعارج، وندرك كيف كانت سورة الحاقة مقدمة لمجموعتها، ولنكتف بهذا القدر. تتألف السورة من مقدمة وفقرتين: المقدمة أربع آيات. والفقرة الأولى وتمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (41). والفقرة الثانية وتمتد من الآية (42) إلى نهاية الآية (44). ولنبدأ عرض السورة. المقدمة وتمتد من بداية السورة حتى الآية (4) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) التفسير: سَأَلَ سائِلٌ أي: دعا داع بِعَذابٍ واقِعٍ أي: كائن لا محالة، والمعنى: استعجل سائل بعذاب واقع لا محالة بالكافرين لِلْكافِرينَ أي: العذاب مرصد معد للكافرين لَيْسَ لَهُ دافِعٌ أي: لا دافع له إذا أراد الله كونه مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ قال النسفي في تفسير المعارج: (أي: مصاعد السماء للملائكة، جمع

[سورة المعارج (70): آية 4]

معرج، وهو موضع العروج) تَعْرُجُ أي: تصعد الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ قال ابن كثير: (وأما الروح، فقال أبو صالح: هم خلق من خلق الله يشبهون الناس وليسوا أناسا. قلت: ويحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، كما دل حديث البراء، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ... عن البراء مرفوعا الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة قال فيه: «فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة» والله أعلم بصحته؛ فقد تكلم في بعض رواته، ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من طريق ابن أبي الدنيا بإسناده، وهو إسناد رجاله على شرط الجماعة). فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال النسفي: (أي: من سني الدنيا لو صعد فيه الملك) وقال ابن كثير في هذا اليوم: (فيه أربعة أقوال: أحدها: أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل سافلين. القول الثاني: أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة. القول الثالث: أنه الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدا. القول الرابع: أن المراد بذلك يوم القيامة). أقول: وأقوى الأقوال التي تشهد لها السنة هو القول الأخير، وسنرى أدلة كل من الأقوال في الفوائد. كلمة في السياق: مرت معنا مقدمة السورة، وقد عرضت لاستعجال الكافرين بعذاب الله الذي أوعد الله به الكافرين، كما مر في محور السورة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد بينت المقدمة أن عذاب الله واقع لا محالة، وأنه لا يدفعه أحد عنهم، وأن هذا العذاب من الله عزّ وجل ذي العظمة والجلال، وقد ذكرت المقدمة بعض مظاهر عظمته سبحانه وتعالى. وبعد أن قدمت السورة هذه المقدمة، تأتي الفقرة الأولى آمرة في ابتدائها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل على مواقف الكافرين، ثم تسير متحدثة عن يوم القيامة، وعن عذاب الكافرين فيه، مبينة ماهية الأخلاق التي ينبثق عنها الصبر، ذاكرة مواقف للكافرين تقتضي صبرا.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (5) إلى نهاية الآية (41) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة المعارج (70): الآيات 5 الى 18] فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) المجموعة الثانية [سورة المعارج (70): الآيات 19 الى 31] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)

المجموعة الثالثة

[سورة المعارج (70): الآيات 32 الى 35] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) المجموعة الثالثة [سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 41] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) تفسير المجموعة الأولى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي: بلا جزع ولا شكوى، وقد جاء الأمر بالصبر في سياق استعجال الكافرين بعذاب الله؛ ليفيد أن على الداعية أن يتحلى بالصبر أمام مثل هذه المواقف. قال ابن كثير: (أي: اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه) ثم علل تعالى لاستعجالهم العذاب، ولوجوب الصبر بقوله: إِنَّهُمْ أي: إن الكافرين يَرَوْنَهُ أي: يرون وقوع العذاب بَعِيداً أي: مستحيلا، قال ابن كثير: وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع بمعنى: مستحيل الوقوع وَنَراهُ قَرِيباً أي: كائنا لا محالة، قال ابن كثير: أي: المؤمنون يعتقدون كونه قريبا وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عزّ وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة. قال النسفي: (فالمراد بالبعيد في الآية الأولى البعيد من الإمكان، وبالقريب القريب منه) ثم حدثنا الله عزّ وجل عن اليوم الذي يراه الكافرون بعيدا، ويراه المؤمنون قريبا يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ أي: كعكر الزيت، أو كالفضة المذابة في تلونها وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي: كالصوف المنفوش المصبوغ ألوانا؛ لأن الجبال ذات ألوان، فإذا بثت وطيرت في الجو أشبهت

[سورة المعارج (70): آية 10]

العهن المنفوش إذا طيرته الريح وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي: ولا يسأل قريب عن قريب؛ لاشتغاله بنفسه، وقال ابن كثير: أي: لا يسأل القريب قريبه عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره يُبَصَّرُونَهُمْ فهم مع رؤيتهم إياهم، ومعرفتهم لهم لا يسأل القريب عن القريب يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي: يتمنى الكافر لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي: زوجته وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ أي: وعشيرته الأدنين الَّتِي تُؤْوِيهِ أي: تضمه انتماء إليها وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الناس، أي: يود الكافر أن يفتدي بأبنائه وزوجته وعشيرته وقومه والبشرية جميعا ثُمَّ يُنْجِيهِ أي: الافتداء، قال تعالى: كَلَّا أي: لا يقبل منه فداء ولو جاء بكل ذلك وأنى له ذلك إِنَّها لَظى ليس له منها مفر، ولا له عنها معدل، ولظى: اسم علم للنار، كما قال النسفي نَزَّاعَةً لِلشَّوى الشوى: إما أطراف الإنسان، وإما جلدة رأسه، وقال قتادة جامعا بين القولين: أي: نزاعة لهامته ومكارم وجهه وخلقه وأطرافه تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن الحق، وَتَوَلَّى عن الطاعة وَجَمَعَ المال فَأَوْعى أي: فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه. قال ابن كثير: (أي: تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق زلق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب). كلمة في السياق: 1 - أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المجموعة بالصبر الجميل على مواقف الكفار، ومما مر معنا في السورة نعرف بعض أخلاق الكافرين التي تقتضي صبرا، كاستعجالهم بالعذاب، ورؤيتهم استحالة اليوم الآخر، وإجرامهم، وإدبارهم عن الحق، وتوليهم، وبخلهم. 2 - رأينا في المجموعة الأولى نموذجا من العذاب العظيم الذي أعده الله عزّ وجل للكافرين في المحشر أو في النار، ولذلك صلته بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. 3 - ثم تأتي المجموعة الثانية لتتحدث عن الإنسان وهلعه وجزعه ومنعه، إلا إذا كان متصفا بصفات محددة، ومجئ هذه المجموعة في هذا السياق يؤدي عدة خدمات،

تفسير المجموعة الثانية

فالصبر الذي أمر الله عزّ وجل به في المجموعة السابقة لا يطيقه إلا من اتصف بصفات معينة، وهذا ما سنراه في هذه المجموعة إن شاء الله تعالى. تفسير المجموعة الثانية: إِنَّ الْإِنْسانَ أي: جنس الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً الهلع: هو سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً قال ابن كثير: أي: إذا مسه الضر فزع وجزع، وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً أي: إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله تعالى فيها، ويدخل في الشر هنا الضر والفقر والمرض، ويدخل في الخير السعة والغنى والصحة، ثم استثنى الله عزّ وجل من جنس الإنسان من اتصفوا بالخصائص الآتية، فهؤلاء ليسوا كذلك، قال تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ التي فرضها الله عليهم وهي الصلوات الخمس دائِمُونَ أي: يحافظون عليها في مواقيتها. قال ابن كثير: أي: الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله، ووفقه وهداه إلى الخير، ويسر له أسبابه، وهم المصلون وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قال النسفي: يعني الزكاة؛ لأنها مقدرة معلومة، أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ أي: الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم. قال ابن كثير: أي: في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة، قال ابن كثير: أي: يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي: خائفون وجلون إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ قال ابن كثير: أي: لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره، إلا بأمان من الله تبارك وتعالى، قال النسفي: أي: لا ينبغي لأحد- وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة- أن يأمنه، وينبغي أن يكون مؤرجحا بين الخوف والرجاء، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ قال ابن كثير: أي: يكفونها عن الحرام، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، ولهذا قال تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي: نسائهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي: من الإماء فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ أي: على ترك الحفظ فَمَنِ ابْتَغى أي: طلب منكحا وَراءَ ذلِكَ أي: غير الزوجات والمملوكات فَأُولئِكَ هُمُ

[سورة المعارج (70): آية 32]

العادُونَ أي: المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام، قال النسفي: وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ قال النسفي: وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد وَعَهْدِهِمْ أي: عهودهم، قال النسفي: ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان راعُونَ أي: حافظون غير خائنين ولا ناقضين، قال ابن كثير في الآية: أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ قال النسفي: (أي: يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف، وبلا ترجيح للقوي على الضعيف؛ إظهارا للصلابة في الدين، ورغبة في إحياء حقوق المسلمين)، وقال ابن كثير: (أي: محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا يكتمونها) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ قال ابن كثير: أي: على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، افتتح الكلام بذكر الصلاة، واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها، والتنويه بشرفها. وقال النسفي: (كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل، وقيل الدوام عليها: الاستكثار منها، والمحافظة عليها: أن لا تضيع عن مواقيتها. أو الدوام عليها: أداؤها في أوقاتها، والمحافظة عليها: حفظ أركانها، وواجباتها، وسننها وآدابها)، أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أي: أصحاب هذه الصفات في جنات مكرمون، قال ابن كثير: أي: مكرمون بأنواع الملاذ والمسار. كلمة في السياق: 1 - جاءت هذه المجموعة في سياق السورة لتبين خصائص الإنسان الذي خرج عن صفة الهلع إلى صفة الصبر، ومجئ هذه الآيات في سياق قوله تعالى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا واضح الدلالة، فالمجموعة تذكر الخصائص التي عنها ينبثق خلق الصبر: الدوام على الصلاة، والإنفاق، والإيمان باليوم الآخر، والإشفاق من عذاب الله، وإحصان الفروج، وحفظ الأمانات، والوفاء بالعهود، والقيام بالشهادات، والمحافظة على الصلوات، هذه الأخلاق هي التي ينبثق عنها خلق الصبر، ويتحرر بها الإنسان من خلق الهلع، وذلك درس كبير في التربية ينبغي أن يعرفه حملة الإسلام فيتحققوا به، يربوا عليه، وكأن المجموعة تقول: تحقق بهذا كي تصبر على ما تلقاه من أخلاق الكافرين وأقوالهم وأفعالهم.

تفسير المجموعة الثالثة

2 - ذكرت المجموعة خلقين للكافرين: الهلع، والجزع، ومن قبل ذكرت السورة بعض أخلاق الكافرين: استعجال العذاب، واستبعاد وقوع اليوم الآخر، والإدبار، والتولي، وستذكر أخلاقا أخرى، وبذلك تعرفنا السورة على أخلاق الكافرين، ولذلك صلاته بمحور السورة. تفسير المجموعة الثالثة: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ أي: عندك مُهْطِعِينَ أي: مسرعين، قال ابن كثير: أي: فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين، أي: مسرعين نافرين منك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ أي: عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن شماله عِزِينَ أي: فرقا شتى. قال ابن كثير: (أي: متفرقين) وعزين واحدها عزة أي: فرقة. قال ابن كثير في الآيتين: (يقول تعالى منكرا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه متفرقون عنه، شاردون يمينا وشمالا فرقا فرقا، وشيعا شيعا). وقال قتادة في تفسير عزين: أي: فرقا حول النبي صلى الله عليه وسلم، لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. أقول: دلت الآيتان على أن الكافرين منهمكون في أعمال الحياة الدنيا، معرضون عن التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، زاهدون في ذلك. ودلتا على أن أدب المسلم الاطمئنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والالتفاف حوله أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ مع إعراضهم عن تلقي الهدى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كَلَّا قال ابن كثير: أي: أيطمع هؤلاء- والحالة هذه من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق- أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا، بل مأواهم جهنم، ثم قال تعالى مقررا لوقوع المعاد الذي أنكروا كونه، واستبعدوا وجوده مستدلا عليهم بالبداءة: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي: من المني الضعيف، أي: إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا ألا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان، فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له! فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ أي: مشارق الشمس ومغاربها إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي: على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: بعاجزين، فإذا كان الأمر كذلك فما لهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والرسول خضوعا لله وإخباتا له.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: دلت المجموعة الأخيرة على أن الكافرين مستغرقون في شئونهم استغراقا شغلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم مستغرقون في باطلهم استغراقا جعلهم لا يلتفون حوله، ولذلك صلته بمحور السورة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، ثم تأتي الفقرة الأخيرة من السورة، آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن هؤلاء الكافرين فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ... وصلة ذلك بمحور السورة واضحة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلنر الفقرة الأخيرة في السورة وهي تبني على كل ما تقدم عليها. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (42) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (44) وهذه هي: [سورة المعارج (70): الآيات 42 الى 44] فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) التفسير: فَذَرْهُمْ أي: فدع هؤلاء الكافرين يا محمد يَخُوضُوا أي: في باطلهم وَيَلْعَبُوا متمتعين في دنياهم، قال ابن كثير: أي: دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ به العذاب أي: فسيعلمون غير ذلك ويذوقون وبال أمرهم، ثم فسر هذا اليوم بقوله: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي: من القبور سِراعاً أي: مسرعين إلى الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ النصب: كل ما نصب وعبد من دون الله، أي: إلى أوثانهم وأصنامهم

[سورة المعارج (70): آية 44]

يُوفِضُونَ أي: يسرعون أي: إن إسراعهم إلى الموقف يشبه إسراعهم إلى آلهتهم في الدنيا؛ إذ كانوا يبتدرون إليها أيهم يستلمها أولا، قال ابن كثير: أي: يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ينهضون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي: خاضعة ذليلة، قال النسفي: يعني لا يرفعونها لذلتهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: يغشاهم هوان، قال ابن كثير: أي: في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا، وهم يكذبون به. كلمة في السياق: 1 - يلاحظ أن الفقرة الأولى بدأت بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ثم جاءت الفقرة الثانية مبدوءة بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا وما بين الأمرين كان تفصيل لما يكون في اليوم الآخر، وتبيان لطريق التحقق بالصبر، وما بعد الأمر الثاني كان تفصيل لما يكون في اليوم الآخر كذلك، ومن هذا ومما ذكرناه من قبل يتضح السياق الخاص للسورة؛ فالكافرون يستعجلون بالعذاب لأنهم يستبعدون مجيئه، وفي مقابل ذلك فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر على أذاهم وأن يتركهم. 2 - رأينا ما هو محور السورة فلنر كيف فصلت السورة في هذا المحور: أ- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وقد رأينا في السورة مظاهر من هذا الكفر الذي لا فائدة من معالجته، ورأينا ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في مقابل هذا الكفر، وما هي الأخلاق التي ينبغي أن يتحقق بها ليقوم بهذا الأمر. ب- خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد رأينا في السورة تفصيلات عن هذا العذاب العظيم الذي سيصيبهم، والذي يستبعدون مجيئه ووجوده. وهكذا رأينا أن للسورة سياقها الخاص، كما لها صلتها بمحورها. الفوائد: 1 - في سبب نزول قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ قال ابن كثير: (روى

النسائي ... عن ابن عباس في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قال: النضر بن الحارث بن كلدة، وقال العوفي عن ابن عباس سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله، وهو واقع بهم، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ: دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة قال: وهو قولهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). 2 - هناك أكثر من قول في تفسير كلمة (المعارج) من قوله تعالى ذِي الْمَعارِجِ قال ابن كثير: (روى الثوري ... عن ابن عباس في قوله تعالى ذِي الْمَعارِجِ قال: ذو الدرجات، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ذي المعارج) يعني: العلو والفواضل، وقال مجاهد: (ذي المعارج): معارج السماء، وقال قتادة: ذو الفواضل والنعم). 3 - في قوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال ابن كثير: (فيه أربعة أقوال: (أحدها): أن المراد بذلك: مسافة ما بين العرش إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة- هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة- وكذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة. (القول الثاني): أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة. روى ابن أبي حاتم ... عن مجاهد في قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: الدنيا عمرها خمسون ألف سنة، وذلك عمرها يوم سماها الله عزّ وجل يوما. (القول الثالث): أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدا. روى ابن أبي حاتم ... عن محمد بن كعب: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة. (القول الرابع): أن المراد بذلك يوم القيامة. روى ابن أبي حاتم ... عن عكرمة عن ابن عباس: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: يوم القيامة، وإسناده صحيح، ورواه الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ: يوم القيامة، وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال علي بن أبي طلحة

عن ابن عباس في قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وقد وردت أحاديث في معنى ذلك، وروى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ما أطول هذا اليوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» ورواه ابن جرير ... عن دراج به- إلا أن دراجا وشيخه أبا الهيثم ضعيفان- والله أعلم، وروى الإمام أحمد ... عن أبي عمر العدني قال: كنت عند أبي هريرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة فقيل له: هذا أكثر عامري مالا، فقال أبو هريرة: ردوه إلي فردوه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير، فقال العامري: إي والله؛ إن لي لمائة حمراء أو مائة أدماء، حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل، فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل، وأظلاف الغنم- يردد ذلك عليه- حتى جعل لون العامري يتغير فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها» قلنا: يا رسول الله ما نجدتها ورسلها؟ قال: «في عسرها ويسرها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطيها حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله» قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي الإبل، وتطرق الفحل، وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد ابن أبي عروبة كلاهما عن قتادة به.

(طريق أخرى لهذا الحديث) روى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم وفيه «الخيل الثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر» إلى آخره ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردا به دون البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة من كتاب الأحكام، والغرض من إيراده هاهنا قوله حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَجَمَعَ فَأَوْعى قال ابن كثير: (وقد ورد في الحديث: «ولا توع فيوعي الله عليك» وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيسا، ويقول: سمعت الله يقول: وَجَمَعَ فَأَوْعى. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا، وقال قتادة في قوله: وَجَمَعَ فَأَوْعى قال: كان جموعا نموما للحديث). 5 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد ... عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر ما في رجل: شح هالع، وجبن خالع» رواه أبو داود ... وليس لعبد العزيز عنده سواه). وقال النسفي: (والهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير. وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه، وموافقة شرعه، والشر: الضر والفقر، والخير: السعة والغنى أو المرض والصحة). 6 - بمناسبة قوله تعالى واصفا المصلين: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قال ابن كثير: (أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، وهذه صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين كما ورد في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية: «إذا

كلمة أخيرة في سورة المعارج

حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»). 7 - بمناسبة قوله تعالى في الكافرين: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ قال ابن كثير: كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء: فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. أقول: فالكافرون معرضون عن الحق، فارون من الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفرقون فيما بينهم فرقا شتى كل فرقة تجتمع على شئ من الباطل. 8 - بمناسبة قوله تعالى: عِزِينَ قال ابن كثير: (وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية كلهم ... عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق فقال: «ما لي أراكم عزين؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث الأعمش به. وروى ابن جرير ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال: «ما لي أراكم عزين؟» وهذا إسناده جيد، ولم أره في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه). أقول: هذا يشير إلى أن الأصل في الإسلام هو الاجتماع. كلمة أخيرة في سورة المعارج: تحدثت سورة الحاقة عن القيامة، وجزاء المكذبين بها، وحال الناس فيها، وأكدت أن القرآن حق، وجاءت سورة المعارج لتبين أن هناك مكذبين باليوم الآخر، وحددت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف من هؤلاء، وكل ذلك رأيناه، فصلة سورة المعارج على هذا بسورة الحاقة- التي هي مقدمة هذه المجموعة- واضحة. والملاحظ أن سورة الحاقة حدثتنا عن عذاب المكذبين باليوم الآخر في الدنيا والآخرة، وجاءت سورة المعارج لتحدثنا عن عذاب المكذبين باليوم الآخر في الآخرة فقط، ثم تأتي سورة نوح لتحدثنا عما أصاب أمة مكذبة من عذاب في الدنيا. والملاحظ أن سورة الحاقة والمعارج ونوح، وكذلك سورة الجن كلها تفصل في مقدمة سورة البقرة كما رأينا وسنرى. فسورة المعارج تأخذ محلها في مجموعتها، ومحلها من تفصيل مقدمة سورة البقرة، فلننتقل إلى الكلام عن سورة نوح.

سورة نوح

سورة نوح وهي السورة الحادية والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة السادسة من قسم المفصل، وهي ثمان وعشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة نوح

بين يدي سورة نوح: قال الألوسي: (مكية بالاتفاق. وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي، وتسع في البصري والشامي، وثلاثون فيما عدا ذلك، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج: إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار، وبدل خيرا منهم، فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستظهار لما ختم به تبارك، هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرون، ووجه الاتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه السلام ظاهر، وفي بعض الآثار ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم القيامة، أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال: «إن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول: ماذا أجبتم نوحا؟ فيقولون: ما دعانا وما بلغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا، فيقول نوح عليه السلام: دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين، أمة بعد أمة، حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه، فيقول الله عزّ وجل للملائكة عليهم السلام: ادعوا أحمد وأمته، فيدعونهم فيأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم، فيقول نوح عليه السلام لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته: هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة، واجتهدت لهم النصيحة، وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا؟ فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته: فإنا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين، فيقول قوم نوح عليه السلام: وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم؟ فيقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم إنا أرسلنا نوحا إلى قومه حتى يختم السورة فإذا ختمها قالت أمته: نشهد إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله وأن الله لهو العزيز الحكيم فيقول الله عزّ وجل عند ذلك: امتازوا اليوم أيها المجرمون»). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة كلها تقص قصة نوح- عليه السلام- مع قومه؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض، وتمثل دورة من دورات العلاج

كلمة في سورة نوح ومحورها

الدائم الثابت المتكرر للبشرية، وشوطا من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل. هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة، الضالة، الذاهبة وراء القيادات المضللة، المستكبرة عن الحق، المعرضة عن دلائل الهدى وموجبات الإيمان، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق، المرقومة في كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون. وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني، وعنايته بأن يهتدي. تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى. ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني، والعناء المرهق، والصبر الجميل، والإصرار الكريم من جانب الرسل- صلوات الله عليهم- لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة. وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية، ولا مكافأة ولا جعل يحصلونه على حصول الإيمان! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم!). (ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها، وتأصل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر الله). كلمة في سورة نوح ومحورها: 1 - أجملت سورة الحاقة الحديث عن تعذيب المكذبين باليوم الآخر في الدنيا، وذكرت عذاب الكافرين في الآخرة، وجاءت سورة المعارج لتحدثنا عن عذاب المكذبين باليوم الآخر في الآخرة، ثم تأتي سورة نوح لتعرض علينا قصة قوم نوح الذين ذكروا في سورة الحاقة، لترينا كيف عذب هؤلاء في الدنيا، وكيف أن الله عزّ وجل لم يهلكهم إلا بعد أن استنفد رسولهم صلى الله عليه وسلم كافة الوسائل وأقام عليهم الحجة. 2 - تأتي سورة نوح بعد سورة المعارج التي حدثتنا عن موقف كافري هذه الأمة من رسولها لتعرض سورة نوح موقف أمة من رسولها، وما عاقبها الله في الدنيا، وفي

ذلك تحذير لهذه الأمة. 3 - في مقدمة سورة البقرة كلام عن الكافرين أنهم سواء في حقهم الإنذار وعدمه، وتأتي سورة نوح لترينا أن رسولا لله صلى الله عليه وسلم هو نوح دعا إلى ما دعا إليه رسولنا من التقوى، وترينا قصة أمة بذل معها رسولها كل جهد ممكن، وأقام عليها كل حجة، ومع ذلك أصرت على الإنكار ورفض الإنذار، فسورة نوح إذن تقدم نموذجا على نوع من الكفار يتساوى الإنذار وعدمه في حقهم، ولذلك صلته بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وهكذا فسورة نوح تفصل في محورها من مقدمة سورة البقرة، وتؤدي دورها في مجموعتها، وكل ذلك ضمن سياقها الخاص. 4 - وفي سورة نوح درس للنذير، ودروس في الإنذار: كيف يكون، وما هي وسائله، وما هو مضمونه، ولذلك صلته بمحور السورة كذلك. 5 - تتألف السورة من مقدمة وفقرتين: المقدمة آية واحدة تتحدث عن تكليف نوح بالإنذار. والفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (25) وفيها حديث عما فعل نوح قياما بحق الدعوة. والفقرة الثانية وتستمر حتى نهاية السورة، وفيها دعاء نوح على قومه الذين لم يستجيبوا له ودعاؤه لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات.

مقدمة السورة

مقدمة السورة وهي آية واحدة هي الآية الأولى وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة نوح (71): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) التفسير: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فالمرسل الله عزّ وجل، والمرسل نوح عليه السلام والمرسل إليهم قوم نوح، كما أن كل رسول قبل رسولنا عليه السلام كان يبعث إلى قومه خاصة، وهذا يرجح أن الطوفان لم يكن شاملا للأرض كلها، وإنما كان شاملا للمنطقة التي كان فيها قوم نوح، هذا مع أن عامة المفسرين يرجحون القول الذي يقول بشمول الطوفان كما سنرى، وهو أحد اتجاهين عند المفسرين أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي: بأن أنذر قومك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: عذاب الآخرة أو الطوفان، والظاهر من كلام ابن كثير أن المراد بالعذاب في الآية عذاب الدنيا قبل الآخرة، قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم). كلمة في السياق: يلاحظ أن مضمون الرسالة التي أمر الله بها نوحا كان هو الإنذار بعذاب الله، وهذا يجعلنا ندرك أهمية الإنذار الصحيح السليم الذي تعطينا السورة صورة مفصلة عنه في فقرتها الأولى، فلنر هذه الفقرة.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (2) حتى نهاية الآية (25) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة نوح (71): الآيات 2 الى 4] قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) المجموعة الثانية [سورة نوح (71): الآيات 5 الى 25] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)

تفسير المجموعة الأولى

تفسير المجموعة الأولى: قالَ يا قَوْمِ ناداهم هذا النداء بأن أضافهم إلى نفسه إظهارا للشفقة، وإيذانا بالحرص عليهم، وهذا أول دروس الإنذار إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أي: مخوف مُبِينٌ أي: أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها، قال ابن كثير: أي: بين النذارة، ظاهر الأمر واضحه. أقول: وهذا ثاني درس في الإنذار أن يعرف الداعية إلى الله على مهمته وطبيعتها فلا يترك مجالا لأحد يعطي الآخرين تصورا خاطئا عنه، ثم إن نوحا عليه السلام حدد مضمون دعوته التي إذا قبلوها فقد حققوا الحكمة من إرساله وإنذاره، وتجنبوا سخط الله عليهم في الدنيا والآخرة فقال: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: وحدوه وَاتَّقُوهُ قال ابن كثير: أي: اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وهكذا حدد نوح عليه السلام مضمون دعوته: العبادة والتقوى والطاعة، وباجتماعها ينتقل المجتمع من طور إلى طور، وكثير ممن يشتغلون بالدعوة إلى الله يفرطون في التربية على هذه المعاني الثلاثة مجتمعة، فينتج عن ذلك قصور في العبادة أو في التقوى، أو في الطاعة، والملاحظ أن كثيرين من الدعاة في عصرنا يهملون قضية الطاعة، فتبقى طاعة المسلم للكافرين يستخدمونها حتى في تهديم الإسلام، فالدعوة الكاملة، والدعاة الكاملون، هم الذين يربون ويدعون للمعاني الثلاثة مجتمعة، ضمن صيغة قرآنية إسلامية، تجعل واجب الطاعة من الأدنى إلى الأعلى في المجتمع الإسلامي بديهية، وهذا درس ثالث في الإنذار، ثم بين نوح عليه السلام ما لهم إن فعلوا ذلك فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي: إذا فعلتم ما آمركم به

كلمة في السياق

وصدقتم ما أرسلت به إليكم، غفر الله لكم ذنوبكم، هذا إذا اعتبرنا (من) في الآية زائدة، وإذا اعتبرناها بمعنى (عن) كما رجح ذلك ابن كثير يكون المعنى: يصفح لكم عن ذنوبكم، وإذا اعتبرناها بمعنى (بعض) يكون المعنى: يغفر لكم الذنوب العظيمة التي أوعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال النسفي: هو وقت موتكم، قال ابن كثير: أي: يمد من أعماركم، ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي: الموت إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال النسفي: أي: لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم، وقال ابن كثير في الآية: أي: بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة، فإنه إذا أمر تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع فإنه العظيم الذي قد قهر كل شئ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات، والملاحظ أن نوحا عليه السلام وعدهم على قبول دعوته أن يغفر الله لهم ذنوبهم، وأن يجنبهم عذابه الذي ينزله بالأقوام الفاسقين، وهذا درس رابع في الدعوة، أن الداعية إلى الله ليست طريقته كطريقة دعاة الدنيا يغرقون الناس بالوعود الدنيوية فقط، وبهذا انتهت المجموعة الأولى من الفقرة الأولى. كلمة في السياق: بعد أن قص الله علينا ما قاله نوح عليه السلام لقومه في المجموعة السابقة، يقص علينا ربنا عزّ وجل شكوى نوح إلى الله عزّ وجل من مواقف قومه، ومن هذه الشكوى نعلم أن قومه رفضوا نذارته، ومنها نعرف ماذا فعل نوح عليه السلام، وهذا يستغرق المجموعة الثانية من الفقرة الأولى. [المجموعة الثانية] تفسير الجزء الأول من المجموعة الثانية: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً أي: دائبا بلا فتور في كل الأوقات فلم أترك وقتا إلا ودعوتهم فيه، قال ابن كثير: أي: لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، وفي ذلك درس خامس للدعاة، وهو ألا يبقوا وقتا إلا ويمارسون فيه الدعوة، فإن بعض الأوقات أنسب للدعوة لبعض الطبقات من بعض، كما أنه درس للداعية في الدأب الدائم على الدعوة فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً أي: عن طاعتك. قال النسفي: (ونسب ذلك- أي: الفرار- إلى

[سورة نوح (71): آية 7]

دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن الدعاء سببا للفرار في الحقيقة) وقال ابن كثير: أي: كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان بك وعبادتك وتقواك لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي: ليؤمنوا فتغفر لهم جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي: سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي: وتغطوا بثيابهم لئلا يبصروني كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله، قال ابن عباس: تنكروا له لئلا يعرفهم، وقال سعيد بن جبير: أي: غطوا رءوسهم لئلا بسمعوا ما يقول وَأَصَرُّوا أي: وأقاموا على كفرهم، أي: استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي: تعظموا عن إجابتي، واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي: مجاهرا، أي: جهرة بين الناس. قال النسفي: يعني: أظهرت لهم الدعوة في المحافل ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ أي: كلاما ظاهرا بصوت عال وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً قال ابن كثير: أي: فيما بيني وبينهم، فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم، وقال النسفي: (أي: خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر فالحاصل أنه دعاهم ليلا ونهارا في السر، ثم دعاهم جهارا ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدئ بالأهون، ثم بالأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان، و (ثم) تدل على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما). أقول: وفي ذلك كله درس جديد من دروس الدعوة أن يلجأ الداعية إلى كل الوسائل العلنية والسرية لتبليغ دعوته بالمحاضرة والخطاب المنفرد والجهر والسر. كلمة في السياق: 1 - عرض نوح عليه السلام في هذا الجزء من المجموعة الثانية مجمل ما فعل وتصرف، وسيأتي الجزء الثاني من المجموعة ليعرض نوح عليه السلام فيه تفصيل ما كان يقوله لهم في دعوته كما سنرى. 2 - نلاحظ أن نوحا لم يترك وسيلة إلا سلكها، وكانت الحصيلة زيادة العناد والإصرار، وفي ذلك نموذج على أن الكفر إذا تأصل لا ينفع معه إنذار، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فهذه أمة لم يترك رسولها وسيلة لهدايتها إلا سلكها، ولم ينتج عن ذلك

تفسير الجزء الثاني من المجموعة الثانية

شئ، ولننتقل إلى الجزء الثاني من المجموعة الثانية لنرى تفصيل ما قاله نوح عليه السلام لقومه. تفسير الجزء الثاني من المجموعة الثانية: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً قال ابن كثير: أي: ارجعوا إليه، وارجعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إليه من قريب؛ فإنه من تاب إليه تاب عليه، مهما كانت ذنوبه في الكفر والشرك يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ أي: بالمطر مِدْراراً أي: كثيرة الدرور، قال ابن كثير: أي: متواصلة الأمطار وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ أي: ويزدكم أموالا وبنين وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي: بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً أي: جارية لمزارعكم وبساتينكم، قال ابن كثير: (أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها، هذا مقام الدعوة والترغيب، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب) فقال: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي: عظمة، أي: لم لا تعظمون الله حق عظمته، أي: لا تخافون من بأسه ونقمته وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال ابن كثير: قيل: معناه: من نطفة، ثم علقة، ثم من مضغة، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة ويحيى بن رافع والسدي وابن زيد، قال النسفي: (عن الأخفش قال: والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفا من الخوف ومن اليأس، والوقار العظمة، أو لا تأملون له توقيرا أي: تعظيما. والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً في موضع الحال، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه- وهي حال موجبة للإيمان به- لأنه خلقكم أطوارا أي: تارات وكرات، خلقكم أولا نطفا، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغا، ثم خلقكم عظاما). أقول: وهكذا نجد نوحا عليه السلام يركز على نقطتين الاستغفار وتعظيم الله عزّ وجل، وفي ذلك درس جديد من دروس الدعوة، وفي عملية الدعوة إلى تعظيم الله عزّ وجل لفت نظرهم أولا إلى الأطوار التي مروا عليها بقدرة الله عزّ وجل، ثم يتابع لفت أنظارهم إلى معان أخرى، كلها توصل إلى تعظيم الله عزّ وجل، ومن ثم قال: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي: واحدة فوق واحدة، قال

[سورة نوح (71): آية 16]

النسفي: (أي: بعضا على بعض، نبههم أولا- أي: في قوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً- على النظر في أنفسهم لأنها أقرب، ثم على النظر في العالم وما سوى فيه من العجائب الدالة على الصانع) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ أي: في السموات نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي: مصباحا منيرا، وهذا يفيد أن الشمس والقمر تحيط بهما السموات السبع كلها لأنه إذا لم تكن الشمس والقمر في وسط الفضاء الموجود في باطن السماء الدنيا لا يكون الشمس والقمر في السموات كلها، ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي: والله أنشأكم من الأرض فأنبتكم نباتا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي: إذا متم وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أي: يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أي: مبسوطة ممهدة صالحة لسكنى الإنسان لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا أي: طرقا فِجاجاً أي: واسعة أو مختلفة، قال النسفي: أي: لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه، وقال ابن كثير: أي: خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها، وبهذا أتم نوح عليه السلام عملية لفت النظر إلى عظمة الله عزّ وجل. كلمة في السياق: عرض نوح عليه السلام في المجموعة الأولى عمله وإنذاره بشكل إجمالي، ثم فصل في الجزأين الأولين من المجموعة الثانية ما قاله لقومه تفصيلا، وذلك يعود إلى نقطتين اثنتين: الاستغفار، وتعظيم الله عزّ وجل، والملاحظ أن المعاني التي ذكرها نوح عليه السلام هي المعاني نفسها التي عرفنا الله عزّ وجل بها على ذاته في أوائل سورة البقرة، فدعوى الرسل واحدة، وبعد أن ذكر نوح عليه السلام لله جل جلاله ما فعله إجمالا وتفصيلا يأتي الجزء الثالث من المجموعة الثانية وفيه تفصيل لموقف قومه منه. تفسير الجزء الثالث من المجموعة الثانية: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به من العبادة والتقوى والطاعة، ومن الاستغفار والتعظيم وَاتَّبَعُوا أي: السفلة والأتباع والفقراء مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ أي: الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد إِلَّا خَساراً أي: في الآخرة. قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام أنه أنهى إليه- وهو العليم الذي لا يعزب عنه شئ- أنه مع البيان المتقدم ذكره، والدعوة المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه، واتبعوا أبناء الدنيا

[سورة نوح (71): آية 22]

ممن غفل عن أمر الله ومتع بمال وأولاد وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام)، وَمَكَرُوا أي: الرؤساء، قال النسفي: ومكرهم احتيالهم في الدين، وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه، وصدهم عن الميل إليه مَكْراً كُبَّاراً أي: مكرا عظيما بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى، وَقالُوا أي: الرؤساء للأتباع لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ على العموم أي: لا تتركوا عبادتها، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال ابن كثير: وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله وَقَدْ أَضَلُّوا أي: الأصنام أو الرؤساء كَثِيراً أي: من الناس وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا ختم نوح عليه السلام عرض حاله على الله بهذا الدعاء، وفي ختمه عرض الحال على الله عزّ وجل بهذا الدعاء أدب منه عليه السلام، فكأنه قال هذا موقفهم يا رب، وأنت سنتك ألا تزيد الظالمين إلا ضلالا وهؤلاء ظالمون، وأنا لا أذكر هذا معترضا؛ بل أنا أدعوك أن تحقق سنتك فيهم؛ تسليما لك في سنتك، وإعلانا عن براءتي منهم. كلمة في السياق: بالدعاء الأخير ختم نوح عليه السلام عرض ما فعله على الله عزّ وجل- والله أعلم- بما فعل وبعد أن قص الله عزّ وجل علينا هذا كله يخبرنا الله عزّ وجل في الجزء الرابع من المجموعة الثانية عن فعله بهؤلاء. تفسير الجزء الرابع من المجموعة الثانية: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي: من خطيئاتهم أي: من ذنوبهم أُغْرِقُوا أي: بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً قال ابن كثير: أي: نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار، وقال النسفي: (وتقديم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم، وأكد على هذا المعنى بزيادة ما، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهن، والفاء في (فأدخلوا) للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلا على إثبات عذاب القبر)، قال الألوسي في قوله تعالى: فَأُدْخِلُوا ناراً: (هي نار البرزخ، والمراد عذاب القبر، ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب) فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ

كلمة في السياق

أَنْصاراً ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، قال ابن كثير: أي: لم يكن لهم معين ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله. كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بمقدمة ذكرت تكليف الله عزّ وجل نوحا بالرسالة والإنذار، ثم جاءت الفقرة الأولى على مجموعتين: الأولى حدثنا الله عزّ وجل فيها عن فعل نوح عليه السلام، ثم جاءت المجموعة الثانية وفيها رفع نوح عليه السلام إلى الله عزّ وجل ما فعله في صيغة دعاء وشكوى، وجاءت هذه المجموعة على أجزاء، الجزء الأول أجمل فيها نوحا عليه السلام فعله، وموقف قومه منه، ثم جاء الجزءان الآخران، وقد فصل فيهما نوع فعله، وموقف قومه، ثم جاء الجزء الأخير وفيه بيان ما عاقب الله عزّ وجل به قوم نوح، ثم تأتي الفقرة الثانية وفيها دعاء نوح عليه السلام على قومه الكافرين، ودعاؤه للمؤمنين من قومه. والملاحظ أن الله عزّ وجل قدم ذكر عقوبة قوم نوح على دعائه، ليعلم ابتداء أن الله عزّ وجل عاقب انتقاما لنوح، وانتصارا له، واستجابة لنوح، واستجابة لشكواه. 2 - عرضت السورة نموذجا على أمة كفرت ورفضت الإنذار فعوقبت عقابا عظيما في الدنيا والآخرة، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة.

الفقرة الثانية من السورة

الفقرة الثانية من السورة وتمتد من الآية (26) إلى نهاية السورة وهذه هي: [سورة نوح (71): الآيات 26 الى 28] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) التفسير: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي: لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا، والديار: هو الذي يدور في الأرض، وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام، ثم علل لدعائه إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ أي: تتركهم ولا تهلكهم يُضِلُّوا عِبادَكَ أي: يدعونهم إلى الضلال، قال ابن كثير: أي: إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك، أي: الذي تخلفهم بعدهم، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال ابن كثير: أي: فاجرا في الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما، قال النسفي: وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ثم قال نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال النسفي: وكانا مسلمين وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي: منزلي أو مسجدي أو سفينتي مُؤْمِناً قال النسفي: لأنه علم أن من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي: إلى يوم القيامة، قال النسفي: خص أولا من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات، قال ابن كثير: دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات وذلك يعم الأحياء منهم والأموات، ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليه السلام (كما يستحب) بما جاء في الآثار والأدعية المشهورة المشروعة وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي: الكافرين إِلَّا تَباراً أي: هلاكا وقد أهلكوا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: وهكذا عرضت السورة قصة أمة ورسول، فكانت نموذجا على أمة ترفض الإنذار، ورسول قام بكامل جهده في الإنذار، ورأينا خلال ذلك دروسا كثيرة في الإنذار وأساليبه ومضامينه، وقد رأينا أثناء عرضنا للسورة سياقها الخاص وصلتها بمحورها ومضامينه. الفوائد: 1 - عند قوله تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال ابن كثير: (أي: يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم. وقد يستدل بهذه الآية من يقول إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر»). 2 - بمناسبة قوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً قال ابن كثير: (ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية. وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار وقراءة الآيات في الاستغفار ومنها هذه الآية فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ثم قال: «لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر»)، وقال النسفي: (وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا الآيات)، وقال الألوسي: (قال قتادة: كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها) أقول: وفي ذلك درس من دروس الدعوة. 3 - بمناسبة قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال الألوسي: (أي: خلقكم مدرجا لكم في حالات: عناصر، ثم أغذية، ثم أخلاطا، ثم نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم عظاما ولحوما، ثم خلقا آخر، فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم

بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل، وقيل: المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت، من الصبا، والشباب، والكهولة، والشيخوخة، والقوة، والضعف. وقيل: من الألوان، والهيئات، والأخلاق، والملل المختلفة، وقيل: من الصحة والسقم، وكمال الأعضاء ونقصانها، والغنى والفقر ونحوها). أقول: ذهبت بعض فرق الباطنية في فهم هذه الآية مذاهب لا يشهد لها عقل ولا نقل، فاعتبرتها دليلا على التناسخ الذي تقول به بعض ديانات الهند، وذلك من عمى القلب، وانطماس البصيرة، فالتناسخ تنقضه بديهيات العقول والعلوم، كما سنرى ذلك، وهذا الفهم الممسوخ نموذج لا على ترك المحكم إلى المتشابه، بل على ترك المحكم إلى الكفر الذي لا يستند إلى دليل. 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً نحب أن ننقل كلام النسفي وابن كثير والألوسي في هذا النص ثم نعلق على ذلك. قال النسفي: (وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض، فيكون نور القمر محيطا بجميع السموات لأنها لطيفة لا تحجب نوره). وقال ابن كثير: (وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ أي: واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكسوفات، فإن الكواكب السبعة السيارة يكشف بعضها بعضا، فأدناها القمر في السماء الدنيا، وهو يكشف ما فوقه، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشترى في السادسة، وزحل في السابعة، وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت، والمتشرعون منهم يقولون: هو الكرسي، والفلك التاسع وهو الأطلس، والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك، وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق، وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها؛ فإنها تسير من المغرب إلى المشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، ذلك بحسب اتساع أفلاكها، وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة. هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ سَبْعَ

سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي: فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة؛ ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر القمر منازل وبروجا، وفاوت نوره فتارة يزداد حتى يتناهى، ثم يشرع في النقص حتى يستسر ليدل على مضي الشهور والأعوام كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وقال الألوسي: (ولعل في تشبيهها (أي: الشمس) بالسراج القائم لا بطريق الانعكاس رمزا إلى أن ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر، كما أن نور القمر منعكس عليه من الشمس). أقول: هذه نماذج في التفسير تبين تأثر المفسرين بثقافات عصرهم، التي قد تقرب أو تبعد من الصواب، والذي أراه في فهم الآية: أن الشمس والقمر والكواكب السيارة كلها في جوف السماء الدنيا، وأن السماء الدنيا واحدة من سبع سماوات، وأن هذه السموات السبع مغيبة عنا، فهي من عالم الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به دون أن نراه، وهذا موضوع يحتاج إلى تحقيق واسع، وهذا ما عندي فيه، والملاحظ أن نوحا عليه السلام خاطب قومه بقوله: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مما يشير إلى أنه كان في حكم البديهة عندهم وجود سماوات سبع، والدارس لحضارات وادي الرافدين يعلم أن لأهل الوادي في حضاراتهم المتعاقبة ولعا في الفلك والسماء والنجوم، وأن للرقم (سبعة) محلا خاصا في فلسفتهم ولا زال صابئة العراق الآن وهم من بقايا دين قديم هناك يربطون بين كثير من عقائدهم وبين النجوم. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً قال صاحب الظلال: (والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح. وهو يكرر في القرآن في صور شتى. كقوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. وهو يشير في هذا إلى نشأة الناس كنشأة النبات. كما يقرن نشأة الإنسان بنشأة النبات في مواضع متفرقة: ففي سورة الحج يجمع بينهما في آية واحدة في صدد البرهنة على حقيقة البعث فيقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ

عِلْمٍ شَيْئاً* وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ... وفي سورة (المؤمنون) يذكر أطوار النشأة الجنينية قريبا مما ذكرت في سورة الحج ويجئ بعدها: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ... وهكذا. وهي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب. فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض، وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات. من عناصرها الأولية يتكون. ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو، فهو نبات من نباتها. وهبه الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. وكلاهما من نتاج الأرض، وكلاهما يرضع من هذه الأم!). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً قال ابن كثير: (قال مجاهد: كبارا أي: عظيما، وقال ابن زيد: كبارا أي: كبيرا، والعرب تقول: أمر عجيب وعجاب وعجاب، ورجل حسان وحسان، وجمال وجمال بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد، والمعنى في قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أي: بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى، كما يقولون لهم يوم القيامة: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً). 7 - بمناسبة قوله تعالى على لسان قوم نوح: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال ابن كثير: (روى البخاري ... عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ العلم عبدت. وكذا روي عن عكرمة والضحاك وقتادة وابن إسحاق نحو هذا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح، وروى ابن جرير ... عن محمد بن قيس يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى

العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم). أقول: هذا المقام من المقامات التي تقتضي تحقيقا واسعا، فحفريات ما بين الرافدين قدمت لنا الكثير عن التاريخ القديم، وقدمت لنا فيما قدمت كلاما عن نوح، وتصورا عن الأصنام التي عبدتها أقوام بلاد الرافدين جيلا بعد جيل، ومن الملاحظ أن الصنم الذي على هيئة النسر كان يظهر مرة بعد مرة في عبادة الأجيال، ولا أستبعد أن يكون ابن عباس فهم من الآية أن لكل صنم شكلا، وهذه الأشكال وجدت في بلاد العرب وعبدت، لا أن عين الصنم الذي عبده قوم نوح عبدته العرب ويشهد لذلك بعض ما ذكره الألوسي. قال الألوسي: (وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد، ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله، ويضربون عليه بناء، وقيل: يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب، فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء، فاتخذت العرب أصناما، وسموها بها، وقالوا أيضا: عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم، وما رآه أبو عثمان منها مسمى باسم ما سلف، ويحكى أن ودا كان على صورة رجل، وسواعا كان على صورة امرأة، ويغوث كان على صورة أسد، ويعوق كان على صورة فرس، ونسرا كان على صورة نسر). أقول: قد يوصل التحقيق في هذا الموضوع إلى أشياء كثيرة تكون بمثابة المعجزات فحبذا لو انتدب إنسان نفسه لهذا الموضوع، فبحث عن أصول هذه الكلمات الخمس في لغات بلاد الرافدين، وبحث عن أصولها في لغة العرب، ومن المعروف أن كثيرا من الأقوام التي استوطنت بلاد الرافدين جاءت من جزيرة العرب، ثم بحث في كل ما قدمته الحفريات القديمة والروايات عن الأصنام، فلربما قدم جديدا مفيدا. 8 - بمناسبة قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم ... عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم امرأة لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة» هذا حديث غريب ورجاله ثقات).

كلمة أخيرة في سورة نوح

9 - بمناسبة دعاء نوح عليه السلام لمن دخل بيته مؤمنا قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد ... عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» ورواه أبو داود والترمذي). كلمة أخيرة في سورة نوح: رأينا السياق الخاص لسورة نوح وصلتها بمحورها، وتحدثنا من قبل عن محلها في مجموعتها وكل ذلك بيناه وفصلناه، ثم تأتي معنا سورة الجن، وهي تكمل سورة نوح. فسورة نوح كانت نموذجا لأمة لم ينفع بها الإنذار، وسورة الجن تعرض علينا نموذجا لخلق من خلق الله قبلوا الإنذار بمجرد سماعهم له، وفي ذلك تهييج للمكلفين أن يقبلوا دعوة الله عزّ وجل وهكذا نرى أن السور الأربع التي تفصل في مقدمة سورة البقرة من المجموعة السادسة تكمل إحداهما الأخرى، فلننتقل إلى سورة الجن.

سورة الجن

سورة الجن وهي السورة الثانية والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة السادسة من قسم المفصل، وهي ثمان وعشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الجن

بين يدي سورة الجن: قدم الألوسي لسورة الجن بقوله: (وتسمى قل أوحي إلي. وهي مكية بالاتفاق. وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية. ووجه اتصالها، قال الجلال السيوطي: فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عزّ وجل في هذه السورة لكفار مكة: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً وهذا وجه بين في الارتباط انتهى. وفي قوله لكفار مكة شئ ستعلمه إن شاء الله تعالى، ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شئ مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة، وذكر العذاب لمن يعصي الله عزّ وجل في قوله سبحانه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فإنه يناسب قوله تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً على وجه، وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض، كما أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض، والعرب الذين هو منهم صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح، حتى إنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء، أي: أو عينها، وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها أثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطئوا عن الإيمان، وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم، وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى كادوا يكونون عليه لبدا، ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له، ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة تبده الحس- قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها- بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها ... إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع، قوية التنغيم، ظاهرة الرنين. يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شئ في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ، والرقابة الإلهية

المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ). (فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات. إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة، ويزعمون أحيانا أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها! فتجئ الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا، ولا الإجمال فيما عرفوا، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ، ووهلة المشدوه، عن هذا الحدث العظيم، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب. وترك آثاره ونتائجه في الكون كله! ... وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما. ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض، فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ... ثم بات آمنا! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبئون بما يتنبئون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة! والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!!). (وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا،

كلمة في سورة الجن ومحورها

فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار، بصيغة الجزم والقطع، والسخرية من الاعتقاد بوجوده، وتسميته خرافة! ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام! ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى. فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم؛ وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية، وهم يعلنون في تواضع- قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها- أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون، وأنهم لم يكادوا يبدءون بعد! ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها. فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها! ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل). كلمة في سورة الجن ومحورها: 1 - سورة الجن تعرض نموذجا للموقف الصحيح من إنذار النذير، وتعلم النذير كيف ينذر، ومن ثم تبدأ بكلمة (قل) وتتكرر فيها، ولذلك صلته بقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فالسورة تأمر النذير أن يذكر قصة الجن الذين استمعوا فآمنوا، ثم تأمره أن يعلن مجموعة إعلانات تجدد مهمته وتؤكد عبوديته وبشريته ورسالته، وفي ذلك إقامة حجة على الكافرين. 2 - قلنا إن محور سورة الجن هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ومما يرجح أن هذا هو محورها شئ من التشابه بينها وبين سورة الأنبياء التي هذا محورها، ففي أواخر سورة الأنبياء يرد قوله تعالى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وتبدأ سورة الجن بقوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ... ويرد فيها قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً، وفي أواخر سورة الأنبياء يرد قوله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ وفي أواخر سورة الجن يرد قوله تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً إن مثل هذا التشابه يجعلنا نستأنس في أن ما ذهبنا إليه من كون محور سورة الجن هو محور سورة الأنبياء صحيح. وكما أنه بعد سورة الأنبياء تأتي سورة الحج، وهي مبدوءة ب (يا أيها) فإنه بعد سورة الجن تأتي سورة المزمل وهي مبدوءة ب (يا أيها) وهذا كذلك يرجح أن سورة الجن تفصل في مقدمة سورة البقرة، وأن السورة بعدها تفصل فيما بعد المقدمة. وصلة سورة الجن بما قبلها من مجموعتها واضحة، فسورة الجن تقدم نموذجا على القبول الراقي للإنذار، بعد أن أرتنا سورة نوح النموذج السيئ للأمة الكافرة الرافضة للإنذار، وهي وما قبلها من مجموعتها مقدمة لسورتي المزمل والمدثر اللتين تحددان الطريق في السلوك والعمل. وواضح أن السورة تتألف من فقرتين: الفقرة الأولى تنتهي بنهاية الآية (19) والفقرة الثانية تنتهي بنهاية الآية (28) وأن بين الفقرتين كمال اتصال كما سنرى.

والجن الذين تحدثت عنهم سورة الجن هم المذكورون في سورة الأحقاف، وقد ذكرنا هناك خبرهم كما ذكره ونقله ابن كثير هناك، وخلاصة ذلك: أنهم سبعة نفر من جن نصيبين، قدموا مكة في عملية بحث عن أسباب كثرة الشهب التي حالت بين الجن وبين خبر السماء، فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي في المسجد الحرام، يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ثم أسلموا، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أنزل من خبرهم في سورة الأحقاف، وفي سورة الجن. ولنبدأ عرض السورة.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (19) وهذه هي: المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72): الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية [سورة الجن (72): الآيات 16 الى 19] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ملاحظة في السياق: تجد في هذه الفقرة مضمون كلام الجن، وتجد فيها معاني أوحاها الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه المناسبة، وقد جاء هذا كله في سياق قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ونحن سنعرض الوحي الذي قص الله عزّ وجل فيه كلام الجن كمجموعة واحدة، والمعاني الأخرى التي ذكرها الله عزّ وجل وأوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه المناسبة كمجموعة ثانية وسنعرض المجموعة الأولى من الفقرة الأولى على أجزاء. تفسير المجموعة الأولى: قُلْ يا محمد لأمتك أُوحِيَ إِلَيَّ من الله أَنَّهُ أي: أن الأمر والشأن اسْتَمَعَ نَفَرٌ النفر: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة، والمراد بهم جن نصيبين، وذكر ابن كثير أنهم سبعة مِنَ الْجِنِّ أي: من عالم الجن، وهو العالم الغيبي الوحيد المكلف، فقد كلف الله عزّ وجل من العالم المشاهد الإنسان، ومن العالم الغيبي الجن فَقالُوا أي: لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: 1 - إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي: عجيبا بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قال النسفي: والعجب ما يكون خارجا عن العادة، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصواب والسداد والنجاح. أقول: لقد فطن الجن أن الخلق لا يرشدون إلا بهذا القرآن، وأن دعوة القرآن رشد خالص فَآمَنَّا بِهِ أي: بالقرآن، ولما كان الإيمان به إيمانا بوحدانية الله وبراءة من الشرك، قالوا وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي: من خلقه كائنا من كان، أقول: إن هذا الربط المطلق بين القرآن والتوحيد والذي عرفه الجن ببداهتهم فات بعض ذراري المسلمين فأشركوا حتى

[سورة الجن (72): آية 3]

أصبحت طوائف منهم تؤله الإنسان. 2 - وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي: عظمته، قال النسفي: ومنه قول عمر أو أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا: أي عظم في عيوننا، وفسر ابن كثير الجد بالفعل والأمر والقدرة، وقال الضحاك عن ابن عباس: جد الله آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً أي: زوجة وَلا وَلَداً أي: تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أقول: هذا الكلام من الجن يدل على أنهم كانوا من بيئة نصرانية، وهذا واضح، ففي قصة سلمان الفارسي ما يشير إلى أن نصيبين بلد عريق في النصرانية، وقد عرف الجن بالبداهة تنزيه الله عزّ وجل عن الصاحبة والولد بمجرد سماعهم هذا القرآن. 3 - وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي: جاهلنا أو إبليس، إذ ليس فوقه سفيه عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي: كفرا، لبعده عن الصواب، أو قولا جائرا باطلا وزورا يجوز فيه عن الحق، قال النسفي: (والشطط: مجاوزة الحد في الظلم وغيره)، أقول: ربط الجن بين السفه والشطط في القول على الله وذلك فهم دقيق منهم، فما أحد يتجاوز الحق في شأن الله إلا وهو سفيه، ومنه نفهم أن السفه ينبثق عن القول الشطط في حق الله عزّ وجل. 4 - وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: قولا كذبا أو قولا مكذوبا فيه، أي: كان في ظننا أن أحدا لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم، أقول: ما ذكره الجن في هذه المقولة يعتبر من أشد أسباب الضلال في تاريخ البشرية: أن يعطي الإنسان العصمة لغير أهلها، وأن يتجاوز بالثقة حدودها، وقد عرفوا بهذا القرآن أنه لا ثقة إلا بما وافق القرآن، إن هذه البديهية من أهم بديهيات الإسلام، وكثير من الطوائف التي آباؤها مسلمون فاتتهم هذه البديهيات فأعطوا الثقة لأنواع من البشر حتى غمسوهم في الكذب على الله إلى آذانهم، سواء في تصوراتهم الخبيثة عن الذات الإلهية، أو عن اليوم الآخر، أو عن الرسول، أو عن الصحابة، أو عن القرآن، في زعمهم أن له ظاهرا وباطنا، وأن الظاهر ليس مرادا، وأمثال هذه القضايا الغريبة العجيبة. 5 - وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ أي: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم رَهَقاً أي: طغيانا وسفها وكبرا، أو فزاد الجن

[سورة الجن (72): آية 7]

الإنس رهقا أي: إثما لاستعاذتهم بهم، وأصل الرهق غشيان المحظور وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أي: وأن الإنس ظنوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي: بعد الموت فالإنس كانوا ينكرون البعث كإنكار الجن، دلت الآيتان على أن من أخلاق الكفر والجاهلية الاستعاذة بغير الله وإنكار اليوم الآخر. 6 - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ قال النسفي: (أي: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها واللمس: المس، فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف)، أقول: تفسير اللمس بالطلب في هذا المقام هو تفسير عامة المفسرين، مما يشير إلى أن الوصول إلى السماء نفسها ومسها ليس مرادا بالآية، كل ما في الأمر أن الجن قبل الإسلام كانوا يصعدون إلى طبقات من الجو يتاح لهم فيها سماع الملائكة، وهم نازلون إلى الأرض يتحدثون مع بعضهم، فمنعوا حتى من مثل هذا، ومن قبل لم يكونوا ممنوعين منه، ومن ثم قالوا: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي: أقوياء، والمراد بذلك الملائكة، وَشُهُباً جمع شهاب، وهي النيازك وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي: من السماء قبل هذا مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: لاستماع أخبار السماء، قال النسفي: (يعني: كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل البعث) فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ أي: فمن يرد الاستماع بعد البعث يَجِدْ لَهُ أي: لنفسه شِهاباً رَصَداً أي: شهابا راصدا له ولأجله، قال ابن كثير: أي: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه، وقال ابن كثير: (يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئا من القرآن فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق، وهذا من لطف الله تعالى بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز)، وهكذا عرف الجن أنهم قد انقطعوا عن أي خبر من أخبار السماء حتى لا يختلط على أحد أمر النبوة والرسالة بغيرها، وكل ذلك حفظ لجناب النبوة والرسالة. 7 - وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أي: عذاب أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ يلاحظ أنهم أسندوا الشر إلى غير فاعل أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي: خيرا ورحمة، والملاحظ أنهم نسبوا الخير إلى الله عزّ وجل، قال ابن كثير: (وهذا من أدبهم في العبارة

[سورة الجن (72): آية 11]

حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عزّ وجل، وقد ورد في الصحيح: «والشر ليس إليك»)، أقول: عرفوا ما يترتب على إرسال الرسول من سعادة لمن اتبعه، وعذاب لمن خالفه، ولم يعرفوا كيف يكون موقف البشرية من الرسالة الجديدة فقالوا ما قالوه، مراعين كمال الأدب، والعجيب أنهم أدركوا ببداهة الفطرة ما لا يدركه الآن كثيرون ممن يعيشون في أرض الإسلام. 8 - وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي: الأبرار المتقون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي: وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو أرادوا غير الصالحين كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي: كنا ذوي مذاهب متفرقة، أو أديان مختلفة، أقول: هذا يشير إلى أن من الجن من أدركهم عصر النبوة وهم على الدين الصحيح دين عيسى عليه السلام، وأن منهم منحرفين مرتدين، وقد أدركوا هذه الحقيقة من سماعهم للقرآن فعرفوا بميزان القرآن من هم الصالحون ومن ليسوا كذلك، والعجيب أنهم عرفوا خلال فترة وجيزة ميزان الصلاح وغيره، وكثير من المسلمين الآن يلتبس عليهم الأمر فيعطون لقب الصلاح لمن ليس صالحا أو العكس. 9 - وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نفوته كائنين في الأرض، أينما كنا فيها وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً قال النسفي: أي: ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء، قال ابن كثير: أي: نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لا نعجزه في الأرض، ولو أمعنا في الهرب، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا. أقول: لقد عرفوا الله عزّ وجل حق المعرفة، وعرفوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه. 10 - وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي: القرآن آمَنَّا بِهِ أي: بالقرآن، قال ابن كثير: يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة، أقول: في قولهم هذا إعلام لقومهم بوصفهم الجديد، وتشجيع لقومهم في الدخول فيما دخلوا به، بدليل ما بعده فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصا من ثوابه وَلا رَهَقاً أي: ولا ترهقه ذلة فهو لا يخاف أن ينقص من حسناته، أو يحمل عليه غير سيئاته، فالرهق هنا الحمل. 11 - وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ أي: المؤمنون المستسلمون لله ورسوله، الداخلون في دين الإسلام، وَمِنَّا الْقاسِطُونَ وهم الجائرون عن الحق الناكبون عنه بخلاف المقسطين، فإنهم العادلون، قال النسفي: (قسط: جار، وأقسط:

[سورة الجن (72): آية 15]

عدل)، أقول: لعلهم يتحدثون عما سيئول إليه أمر الجن بعد البلاغ والدعوة المحمدية، ومن ثم قالوا: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: طلبوا هدى، قال النسفي: والتحري: طلب الأحرى أي: الأولى، قال ابن كثير: أي: طلبوا لأنفسهم النجاة وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً أي: وقودا تسعر بهم، قال النسفي: وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار. كلمة في السياق: بهذه الآية تنتهي المجموعة الأولى من الفقرة الأولى، وبها ينتهي كلام الجن في السورة، وهو تلخيص لما استوعبوه في جلستهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون القرآن دون أن يراهم، وتأتي المجموعة الثانية وهي امتداد للمجموعة الأولى، ولذلك تجد في بداية الآية اللاحقة حديثا عن القاسطين، وفي وسطها كلاما مباشرا من الله عزّ وجل، فالمجموعة الثانية تكمل كلام الجن ليتم استيفاء التلخيص لمقاصد القرآن، ومن ثم فإن المجموعة الثانية ينصب عليها قول الله عزّ وجل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ فيكون التقدير: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ف (وأن) في بداية المجموعة الثانية معطوفة على قوله تعالى: أَنَّهُ في بداية السورة فالتقدير: قل أوحي إلي أنه ... وأن لو استقاموا على الطريقة. قال النسفي في قوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا: أن مخففة من الثقيلة يعني: وأنه، وهي من جملة الوحي، أي: أوحي إلي أن الشأن. وقال في أول السورة: (أجمعوا على فتح أنه- أي: الواردة في أول السورة- لأنه فاعل أوحي و (أن لو استقاموا، وأن المساجد) للعطف على أنه استمع فإن مخففة من الثقيلة. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى: 1 - وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أي: القاسطون، أي: قل أوحي إلي: وأنه لو استقام القاسطون عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: طريقة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي: كثيرا والمعنى: لوسعنا عليهم الرزق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي: عن القرآن أو التوحيد أو العبادة يَسْلُكْهُ أي: يدخله عَذاباً صَعَداً أي: شاقا، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعدني شئ ما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق

[سورة الجن (72): آية 18]

علي. دل هذا الجزء من المجموعة على أن الاستقامة لا تعني الحرمان من الرزق، بل تعني التوسعة فيه، وفي ذلك درس للذين ينحرفون عن أمر الله ابتغاء الرزق في زعمهم، وهو معنى مكمل للمعاني التي ذكرها الجن، ولذلك جاء في صيغة تكاد تكون استمرار لكلام الجن، ومن ناحية أخرى جاءت بشكل خطاب مباشر من الله عزّ وجل. 2 - وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أي: أوحي إلي: وأن المساجد لله والمساجد: البيوت المبنية للصلاة فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي: في المساجد؛ لأنها خالصة لله ولعبادته، قال ابن كثير: (يقول تعالى آمرا عباده أن يوحده في محال عبادته، ولا يدعى معه أحد ولا يشرك به، وقال سعيد بن جبير: نزلت في أعضاء السجود أي: هي لله فلا تسجدوا بها لغيره) أقول: والمعنى الأول أقوى، والأمر بالتوحيد في المساجد لا يعني أن توحيد الله في غيرها غير مطلوب، بل لتبيان أن مراعاة التوحيد فيها آكد، وفي ذلك درس كبير لكل من يدعو مع الله غيره في مسجد، وللأسف فإنه حتى حلقات الذكر لا تخلو من دعاء غير الله، وهو موضوع لا يصح أن يستمر أبدا مهما كانت تأويلات فاعليه. 3 - وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي: محمد عليه الصلاة والسلام يَدْعُوهُ أي: يعبده ويقرأ القرآن ويوحد الله كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي: جماعات جماعات، قال قتادة في الآية: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه، قال ابن كثير: وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وقول ابن زيد، وهو اختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً وبهذا انتهت المجموعة الثانية وانتهت بانتهائها الفقرة الأولى. كلمة في السياق: 1 - عرضت هذه الفقرة في المجموعة الأولى لنموذج من الخلق آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والقرآن، بمجرد السماع، جاء ذلك في السورة التي جاءت بعد سورة نوح عليه السلام، لترينا نموذجا مقابلا لنموذج أمة نوح عليه السلام، وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة واضحة، وليرينا الله عزّ وجل أن هذا النموذج كان إيمانه أثرا عن فهم شامل، واقتناع عميق، قص لنا على لسانهم ما قالوه لقومهم، مما يدل على الفهم

والاستيعاب والمعرفة، وفي ذلك إقامة حجة على الرافضين لدعوة الله. 2 - بعد أن عرض الله عزّ وجل علينا ما قال الجن لقومهم في شأن الدعوة الجديدة، أتم الله عزّ وجل ما فاتهم من معان لها علاقة بهذه الدعوة والتي قدمت الفقرة بمجموعها تلخيصا لها بما به تقوم الحجة على الكافرين، وتتضح به خصائص هذه الدعوة. 3 - رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد جاءت سورة الجن مبدوءة بقوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ثم قصت علينا ماذا قال الجن عند ما سمعوا القرآن، وذكرت مضامين من الوحي الذي أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأتي فقرة تتكرر فيها كلمة (قل) أربع مرات. 4 - في الفقرة الأولى جاء تلخيص لأمهات المعاني المتعلقة بالدعوة الإسلامية والآن تأتي الفقرة الثانية لتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن مجموعة إعلانات تكمل الإيضاح، وتعرف على شخصية الذي نزل عليه الوحي وخصائصها وواجباتها، وفي ذلك إقامة حجة من ناحية ودعوة للاستجابة من ناحية أخرى.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (20) إلى نهاية الآية (28) وهذه هي: [سورة الجن (72): الآيات 20 الى 28] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) التفسير الأمر الأول: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وحده وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً في العبادة وغيرها، قال ابن كثير: أي: قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق، واجتمعوا على عداوته إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به، وأتوكل عليه ولا أشرك به أحدا. كلمة في السياق: جاء هذا الأمر بهذا الإعلان بعد أن أوصلنا السياق في نهاية الفقرة السابقة أن كفار

الأمر الثاني

الإنس والجن تضافروا على إبطال هذه الدعوة، ومعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء هذا الأمر بهذا الإعلان ليبين أن هذا التمالؤ والتواطؤ على العداء ليس له ما يبرره، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل سوى عبادة الله وحده فكيف يستحق أن يوقف معه هذا الموقف؟. الأمر الثاني: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي: مضرة وَلا رَشَداً أي: نفعا، قال النسفي: يعني لا أستطيع أن أضركم، ولا أنفعكم؛ لأن الضار والنافع هو الله، أقول: ويحتمل أن يكون المراد بالضر ما يقابل الرشد وهو الغي، فيكون المعنى: إني لا أملك لكم غواية أو هداية، وإنما علي البلاغ، ويؤيد هذا ذكر البلاغ في مضمون الأمر الثالث، قال ابن كثير في الآية: أي: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، وعبد من عباد الله، ليس إلي من الأمر شئ في هدايتكم ولا غوايتكم بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزّ وجل. كلمة في السياق: 1 - يأتي هذا الأمر بهذا الإعلان ليبين للكافرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعي فوق مقامه، ولا يدعي أنه يملك نفعا أو ضرا، أو هداية أو ضلالا، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يحارب من هذا شأنه، ولا يفكر في مضمون دعوته، وفي ذلك درس بليغ لبعض الذين يتصدرون للدعوة إلى الله، فيشعرون مريديهم وتلاميذهم أن بيدهم الهداية والضلال، والنفع والضر، فكيف يفعلون ذلك وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمر أن يعلن هذا الإعلان الذي ذكرناه. 2 - بالتأمل في صلة السورة بمحورها ندرك أن مضمون الآية يخدم محور السورة، فالمحور يقص علينا قصة إصرار الكافرين على الكفر، وعدم قبولهم الإنذار سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فأمام هذا الموقف يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً فإذا اخترتم لأنفسكم الكفر فأنتم تتحملون مسئولية ذلك، والله الذي بيده الضر والرشد هو الذي سيتولى أمركم، والأمر إليه، فأنا لا أستطيع الانتقام منكم إلا بإذنه، ولا أستطيع نفعكم إلا بإذنه، فصححوا علاقتكم به.

الأمر الثالث

3 - ولكي لا يربطوا بين كونه لا يملك ضرا ولا رشدا، وبين التبليغ فقد أمره الله عزّ وجل أن يبين أنه مأمور بالتبليغ، أمرا جازما حاسما، ومن ثم فإنه يقوم بالتبليغ والأمر إلى الله، فهو يتولى شأنهم، وإنما عليه البلاغ. الأمر الثالث: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي: ملتجأ إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ قال ابن كثير: أي: لا يجيرني منه، ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي، والبلاغ في الآية بمعنى التبليغ، والرسالات معطوفة على التبليغ، أي: إلا التبليغ والرسالات، قال النسفي: (أي: إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا ناسبا لقوله إليه، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ولا نقصان) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ترك القبول لما أنزل على الرسول فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قال ابن كثير: أي: أنا أبلغكم رسالة الله فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدا، أي: لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من العذاب فَسَيَعْلَمُونَ عند حلول العذاب بهم مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قال النسفي: أهم أم المؤمنون؟ أي: الكافر لا ناصر له يومئذ، والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه، قال ابن كثير: أي: بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية، وهم أقل عددا من جنود الله عزّ وجل. كلمة في السياق: 1 - بين هذا الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينجيه عند الله إلا أن يبلغ، وإلا أن ينفذ رسالات الله، ومن ثم فإنه يبلغ نجاة لنفسه، وإقامة للحجة على الخلق، وأن الذين يخالفون رسالات الله لهم نار جهنم خالدين فيها أبدا، وعند ما سيرونها وقتئذ سيعلمون من الأضعف ناصرا والأقل عددا، وفي ذلك إشارة إلى أن الكافرين في الدنيا تغرهم قوتهم ونصراؤهم وأعدادهم، وفي مجئ هذه المعاني في هذا الجزء تبيان لحكمة التبليغ، ثم في ذلك رد على مواقفهم المتحدة ضده عليه السلام، فإذا كان عليه السلام عبدا مكلفا من الله عزّ وجل بالتبليغ، فكيف يتألب عليه المتألبون، وما هو إلا مأمور من الله عزّ وجل ومكلف!.

الأمر الرابع

2 - وأما صلة هذا الجزء بما قبله مباشرة فإنه زيادة على ما ذكرناه من قبل نذكر رابطتين جديدتين: الرابطة الأولى: هي أنه لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أمر كذلك أن يعلن أنه حتى لنفسه لا يملك شيئا فقال: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قال ابن كثير بعد أن فسر الآية السابقة على هذه الآية: أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحدا. الرابطة الثانية: هناك اتجاه عند المفسرين يربط بين قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً وبين إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ أي: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات وتكون في هذه الحالة آية قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً معترضة بين الآيتين. 3 - فصل الأمر الثالث في محور السورة في أكثر من جانب، فقد فصل في نوع العذاب العظيم للكافرين، وذكر بعض أسباب الإصرار على الكفر، وهي كثرة الجند وقوة الناصر في الدنيا، كما فصل في أن الإنذار وإن كان لا يؤثر في الكافرين فإنه فريضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينجو من عذاب الله إلا إذا قام به، فمعرفة عدم استفادة الكافرين من الإنذار شئ والقيام بالتبليغ شئ آخر. 4 - وبعد أن ذكر الله عزّ وجل (ما يوعدون) في قوله: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ يأتي الأمر الرابع. الأمر الرابع: قُلْ إِنْ أي: ما أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي: غاية بعيدة، قال النسفي: يعني إنكم تعذبون قطعا ولكن لا أدري أهو حال أم مؤجل، وقال ابن كثير: (يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد) عالِمُ الْغَيْبِ أي: الله وحده عالم الغيب، ومن ثم فهو وحده عالم متى تقوم الساعة، ومتى يعذب هؤلاء الكافرون فَلا يُظْهِرُ أي: فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أَحَداً من خلقه إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أي: إلا رسولا ارتضاه، فيعلمه بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزة له، والرسول هنا يعم الرسول الملكي والبشري، كما قال ابن كثير:

[سورة الجن (72): آية 28]

فإذا كان الأمر كذلك وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أمر أن يعلن أنه لا يعرف موعد قيام الساعة، فلم يبق أحد في الخلق يعرفها، ثم بين ما يحيط به الرسول من رعاية خاصة يعصمه بها من كل تلبيس أو تخليط في أمر الغيب وغيره، فقال: فَإِنَّهُ أي: فإن الله يَسْئَلُكَ* أي: يدخل أو يجعل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي: من أمام الرسول وَمِنْ خَلْفِهِ أي: من خلف الرسول رَصَداً قال النسفي: أي: حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين، ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي، وقال ابن كثير: (أي: يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله). أقول: وفي هذا دليل على أن قلب الرسول وحده هو المعصوم، وقلب غيره ليس معصوما، والعجيب العجيب أن كثيرا من طبقات هذه الأمة تعامل كثيرا من أفرادها وكأنهم معصومو القلوب، حتى إنهم ليتركون حكم الشرع العظيم بسبب ذلك، ويؤولون الكتاب والسنة بسبب ذلك، بل يتركون الكتاب والسنة بسبب ذلك، ثم قال تعالى مبينا الحكمة في سلكه الرصد من بين يدي الرسول ومن خلفه فقال: لِيَعْلَمَ على ماذا يعود الضمير هنا؟ قال بعضهم: على الله، وقال بعضهم: على الرسول، وقال بعضهم: على المكلف، ويؤيد القول الأخير قراءة يعقوب بضم الياء في (ليعلم) فيكون المعنى: ليعلم الناس أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أي: ليعلم المكلفون من خلال رؤيتهم عصمة الوحي عند ما يرون صدق إخبارات الرسل في أمر الغيب أن الرسل قد بلغوا رسالات الله ليس إلا وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي: وأحاط الله بما لدى الخلق، أي: وليعلم المكلفون من خلال مشاهدة عصمة الوحي إحاطة علم الله بما عندهم وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي: معدودا محصورا أو إحصاء، أي: وليعلم المكلفون من خلال صدق إخبارات الرسل أن الله أحصى كل شئ عددا، فينعكس هذا إيمانا في قلوبهم، أن الله محيط علمه بأفعالهم، ومحص كل شئ، فيؤمنون بالله وصفاته وأسمائه وكمالاته، ويؤمنون باليوم الآخر والحساب فهذه حكمة اطلاع الله رسله على بعض الغيب، وحكمة جعله الرصد بين أيديهم ومن خلفهم، فإذا كان هذا هو الشأن، ومع ذلك إنه لم يطلع رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على أمر الساعة، فلا يطمعن أحد أن يعرفها، وبالتالي فالسؤال عنها ليس في محله، هذا ما أتجه إليه في فهم هذه الآيات، وهو اتجاه قريب لاتجاه مجاهد رحمه الله، وابن كثير يضعف هذا الاتجاه، وقد اتجه النسفي اتجاها آخر؛ فأعاد النسفي الضمير في قوله تعالى: لِيَعْلَمَ على الله عزّ وجل قال (أي: ليعلم الله ذلك موجودا حال

كلمة في السياق

وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد) وعلى هذا يكون المعنى أن الله عزّ وجل حفظ رسله بواسطة الملائكة من التخليطات والتلبيسات؛ ليعلم الله الذي لا يغيب عنه شئ، وهو المحيط علما والمحصي عددا لكل شئ أن الرسل بلغوا رسالاته، وإذا علم الله ذلك منهم- وعلمه لا يخطئ- يكون الرسل قد أدوا رسالة الله عزّ وجل على الكمال والتمام، ولنا عودة على هذا الموضوع في الفوائد. وقد ختم صاحب الظلال الكلام عن سورة الجن بقوله: (وتقرر السورة التي لا تتجاوز الثماني والعشرين آية، هذا الحشد من الحقائق الأساسية التي تدخل في تكوين عقيدة المسلم، وفي إنشاء تصوره الواضح المتزن المستقيم، الذي لا يغلو ولا يفرط، ولا يغلق على نفسه نوافذ المعرفة، ولا يجري- مع هذا- خلف الأساطير والأوهام. وصدق النفر الذي آمن حين سمع القرآن، وهو يقول: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ). كلمة في السياق: 1 - في محور السورة من سورة البقرة أوعد الله الكافرين أن يعذبهم، وفي الجزء الأخير من سورة الجن بيان بأن هذا الوعد لا يعلم توقيته إلا الله عزّ وجل، حتى ولا رسل الله، حتى ولا أكرمهم على الله محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله عزّ وجل لفت النظر إلى صدق نبوءات الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليعلم من خلالها أن وعد الله آت، وبذلك تقوم الحجة على الخلق. 2 - انتهت الفقرة الأولى بذكر تألب الكافرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهددتهم الفقرة الثانية بجزئها الثالث أن من يعصي الله ورسوله فإنه سيعذب في نار جهنم أبدا، ثم جاء الجزء الرابع ليلفت النظر إلى صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من خلال صدقه في نبوءاته، ومن خلال الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن عن عدم معرفته بموعد يوم القيامة ففي هذا الإعلان علامة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ الكذاب ما أسهل أن يخترع من عنده جوابا عن قضية تأتي في المستقبل لا يستطيع معاصروه أن يعرفوا صدقها من كذبها. 3 - يلاحظ أن سورة نوح ركزت على العذاب الدنيوي لمن لم يقبل إنذار الرسل، بينما ركزت سورة الجن على العذاب الأخروي، وتلك تحدثت عن رسول سابق، وهذه تحدثت عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فالتكامل بين سورة نوح وسورة

الفوائد

الجن ليس في جانب واحد بل في جوانب متعددة فكلاهما يخدم محورا واحدا، كما أنهما من مجموعة واحدة. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قال الألوسي: (والآية ظاهرة في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة، وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم، وجمع ذلك بتعدد القصة قال في (آكام المرجان) ما محصله: في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب، فقالوا: ما ذاك إلا لشئ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة، فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا الخ، فأنزل الله تعالى عليه قُلْ أُوحِيَ الخ، ثم قال: ونفي ابن عباس إنما هو في هذه القصة، واستماعهم تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا، ويدل عليه قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الخ، فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي، وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن، قال: وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» الخ. وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات، وقال ابن تيمية: إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلى الله تعالى عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام، وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وقال الواقدي: كانت سنة إحدى عشرة من النبوة، وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع، فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات، وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا، فأجلسني وخط علي خطا ثم قال: لا تبرحن خطك، فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط، فذكر حديثا طويلا، وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاءه إلى السحر، قال: وجعلت أسمع

الأصوات، ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت: أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إلى الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي». وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم، واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة: اقرأ باسم ربك، وقيل: سورة الرحمن). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً قال ابن كثير: (أي: كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير، وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا، أي: خوفا وإرهابا وذعرا، حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم كما قال قتادة فَزادُوهُمْ رَهَقاً: أي: إثما وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم: فَزادُوهُمْ رَهَقاً: أي: ازدادت الجن عليهم جرأة. وقال السدي: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه، أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال قتادة: فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك، وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن فيقول سيد القوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الجن: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله عزّ وجل: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي: إثما. وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: (رهقا) أي: خوفا. وقال العوفي عن ابن عباس: فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي: إثما، وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: زاد الكفار طغيانا). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال ابن كثير: (وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير، بل في الأحيان بعد الأحيان كما في حديث العباس: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ

رمي بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في هذا؟» فقلنا: كنا نقول يولد عظيم يموت عظيم فقال: «ليس كذلك، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء» وذكر تمام الحديث وقد أوردناه في سورة سبأ بتمامه، وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فوجدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة؛ فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقى، كما تقدم في حديث ابن عباس في ذلك عند قوله في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ الآية). وبمناسبة النص نفسه قال صاحب الظلال: (وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة كانوا يحاولون الاتصال بالملإ الأعلى، واستراق شئ مما يدور فيه، بين الملائكة، عن شئون الخلائق في الأرض، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره. ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين، وخلو الأرض من رسول ... أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا، ولا ضرورة لتقصيها. إنما هذه هي جملة هذه الحقيقة وفحواها. وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن- وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء- وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال. أم قدر لهم الرشد- وهو الهداية- وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير. وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على

التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير!). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ قال ابن كثير: (وروى أحمد بن سليمان النجاد في أماليه: ... عن أبي معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: تروح إلينا جني فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ فقال: الأرز، قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم، فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي فقال: هذا إسناد صحيح إلى الأعمش). أقول: لم يزل عدول في هذه الأمة جيلا بعد جيل يخبروننا عن صلة للجن المؤمنين بهم، وما أكثر الوقائع التي يحسها الناس في أمر الجن، فإن تجد بعد النصوص، وبعد الوقائع من يتأول النصوص الواردة في هذا الشأن فذلك علامة على انطماس البصيرة. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ذكر صاحب الظلال بعض الحقائق التي يدلنا عليها النص فقال: (والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله. وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله، ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشئومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته.

والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى ... فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان! إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة ... نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة ... ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس والتهجم على حرمات الله، ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية ... ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين ... وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله ... ). 6 - وبمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال ابن كثير: (قال قتادة في قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده). 7 - هناك ثلاثة أقوال في قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً وقد أخذنا ما رجحه ابن كثير منها وهاهنا نذكر الأقوال الثلاثة، قال ابن كثير: (قال العوفي: عن ابن عباس يقول: لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن. هذا قول، وهو مروي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الجن لقومهم: لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، قال: عجبوا من طواعية أصحابه له، قال: فقالوا لقومهم:

لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً وهذا قول ثان، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا، وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا إله إلا الله، ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعا. وقال قتادة في قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه، وهذا قول ثالث، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وقول ابن زيد، وهو اختيار ابن جرير، وهو الأظهر). 8 - بمناسبة قوله تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً قال ابن كثير: (في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام لا يؤلف تحت الأرض كذب لا أصل له، ولم نره في شئ من الكتب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة؟ قال: «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله قال: «فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت»). 9 - بمناسبة قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ نحب أن نقرر أن كل ما دخل في عالم الأسباب لا تعتبر معرفته من أمر الغيب، فتوقع الخسوف والكسوف، وتوقع هطول المطر من خلال معرفة بعض الظواهر الجوية، ومعرفة بعض الحوادث الواقعة من خلال الجن وأمثال هذه المعاني لا تدخل في علم الغيب، وبمناسبة هذا النص قال النسفي: (والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة، على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول، وذكر في التأويلات: قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات). أقول: ما يعرف بالتجربة البشرية لا يدخل في علم الغيب، إلا إذا كان الإخبار به على وجه معجز، والجن قد يخبرون بالأمر الواقع وليس ذلك من علم

الغيب، وهذا معنى قول النسفي: فإن فيهم أي في المنجمين من يصدق خبره، كما لو كان له صلة بعالم الجن فيخبرونه عن وقائع حادثة. 10 - بمناسبة قوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال ابن كثير: (وقد اختلف المفسرون في الضمير في قوله (ليعلم) إلى من يعود؟ فقيل إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. روى ابن جرير ... عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل لِيَعْلَمَ محمد صلى الله عليه وسلم أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك والسدي ويزيد ابن أبي حبيب. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الملائكة حفظتها ورفعتها عن الله، وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة واختاره ابن جرير، وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان، حتى يتبين الذين أرسل إليهم وذلك حين يقول؛ ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم وفي هذا نظر. وقال البغوي: قرأ يعقوب (ليعلم) بالضم أي: ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى الله عزّ وجل وهو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير، ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وكقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).

كلمة أخيرة في سورة الجن

كلمة أخيرة في سورة الجن: رأينا أن سور: الحاقة والمعارج ونوح عليه السلام والجن كلها تفصل في مقدمة سورة البقرة وقلنا: إن سورتي المزمل والمدثر تفصلان مباشرة فيما بعد مقدمة سورة البقرة، وقد رأينا أن سورة الجن عرضت لخصائص هذه الدعوة، وبعد ذكر هذه الخصائص تأتي سورتا المزمل والمدثر لتأمرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفصلا فيما ينبغي فعله في أمر العبادة لله عزّ وجل، والملاحظ أن سورة الجن كان الخطاب فيها متوجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة (قل) وها هما سورتا المزمل والمدثر تتوجهان كذلك بالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وهكذا نجد أن المجموعة السادسة كل سورة منها تصل إلى أختها بسبب مع قيام كل منها بتفصيل ما يقابلها من محورها.

سورة المزمل

سورة المزمل وهي السورة الثالثة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة من المجموعة السادسة من قسم المفصل، وهي عشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة المزمل

بين يدي سورة المزمل: قدم الألوسي لسورة المزمل بقوله: (مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي: إلا الآيتين منها وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي تليها، وحكى في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخرها، وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله: ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك. وآيها: ثماني عشرة آية في المدني الأخير، وتسع عشرة في البصري، وعشرون فيما عداهما. ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزّ وجل هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام، وهو وجه في المناسبة، وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قُمِ اللَّيْلَ الخ بقوله تعالى في آخر تلك: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ وبقوله سبحانه: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ الآية). وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد. ويكاد يكون على روي واحد. هو اللام المطلقة الممدودة. وهو إيقاع رخي وقور جليل؛ يتمشى مع جلال التكليف، وجدية الأمر، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق). (فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وطائفة من الذين معه. والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له! فنزل التخفيف، ومعه التطمين بأنه اختار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم ... أما هذه الآية فذات نسق خاص. فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة، وفيها هدوء واستقرار، وقافية تناسب هذا الاستقرار وهي الميم وقبلها مد الياء: «غفور رحيم». والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة. تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم. وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل، والصلاة، وترتيل القرآن، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل

كلمة في سورة المزمل ومحورها

للمكذبين، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة!. وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير. والتوجيه للطاعات والقربات، والتلويح برحمة الله ومغفرته: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار من البشرية- البشرية الضالة- ليردها إلى ربها، ويصبر على أذاها، ويجاهد في ضمائرها؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري، ولذاذة تلهي، وراحة ينعم بها الخليون، ونوم يلتذه الفارغون!). كلمة في سورة المزمل ومحورها: بعد مقدمة سورة البقرة مباشرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهي في محلها هناك تشرح الطريق إلى التقوى، وهاهنا نجد سورة المزمل تأتي مبتدئة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ... فهي تفصل في موضوع العبادة كطريق للتقوى، وتذكر أنواعا من العبادات ينبغي أن تؤدى. وكنا ذكرنا من قبل أن السورة التي تأتي لتفصل في مثل هذا المقام تفصل بما يخدم المعاني التي ذكرت قبلها في مجموعتها، ومن ثم فسورة المزمل تدل على الطريق الذي يؤدي إلى القيام بحق المعاني المذكورة في السور الأربع قبلها. وكنا ذكرنا من قبل أن سورتي المزمل والمدثر تفصلان في محوري سورتي النساء والمائدة، فسورة المزمل تفصل في محور سورة النساء، وسورة المدثر تفصل في محور سورة المائدة، وسنرى برهان ذلك أثناء عرض السورتين. تتألف سورة المزمل من فقرتين: فقرة طالبت بالحد الأعلى من السير إلى الله عزّ وجل، والقيام بحقوق عبوديته، وفقرة طالبت بالحد الأدنى الذي لا يسع أحدا أن ينقص منه، والملاحظ أن الحد الأعلى خوطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الحد الأدنى كان ترخيصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وفي توجيه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده

في الفقرة الأولى إشارة إلى أن من يقوم بشأن الدعوة إلى الله عزّ وجل يطالب بما لا يطالب به غيره، ويتأكد الطلب في حقه أكثر منه في حق غيره. تستمر الفقرة الأولى من السورة حتى نهاية الآية (19) وتتألف الفقرة الثانية من آية واحدة فلنبدأ عرض السورة.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (19) وهذه هي: المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) المجموعة الثانية [سورة المزمل (73): الآيات 10 الى 19] وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

قدم ابن كثير لتفسير هذه السورة بقوله: (روى الحافظ أبو بكر البزار عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، فقالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيهما فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قال البزار: معلى بن عبد الرحمن- وهو من رجال سند الحديث- قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها). أقول: من هذه الرواية يفهم أن التآمر العنيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أهمه هما أقعده جاءت سورتا المزمل والمدثر لتعالجاه، وهذا معنى مهم ينبغي أن يفطن له، فإذا تذكرنا قوله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ندرك صلة سورتي المزمل والمدثر بما قبلهما من سور مجموعتهما، ومن ثم فإن ما ورد في هاتين السورتين ينبغي أن يعطيه كل من يشتغل بالدعوة إلى الله عزّ وجل مداه التطبيقي. وقد نقل صاحب الظلال الرواية التي ذكرها ابن كثير، ثم ذكر الرواية الأخرى التي تذكر كسبب نزول، وعلق عليها وهذا كلامه: (وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك- كما سيجئ في عرض سورة المدثر إن شاء الله. وخلاصتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء- قبل البعثة بثلاث سنوات- أي: يتطهر ويتعبد- وكان تحنثه- عليه الصلاة والسلام- شهرا من كل سنة- وهو شهر رمضان- يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة، ومعه أهله قريبا منه. فيقيم فيه هذا الشهر، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة ... وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه. وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى

العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة؛ ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى ... لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة. لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة. فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع! وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ ... دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات). تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي: المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه، أي: تلفف بها، قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل: وهو التغطي في الليل، وينهض إلى القيام لربه عزّ وجل ... وقد كان واجبا عليه وحده ... وهاهنا بين له مقدار ما يقوم قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي: من النصف قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف، قال ابن كثير: أي: أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن كثير: أي: اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره، قال النسفي: أي: بين وفصل القرآن تبيانا وتفصيلا، أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف، وحفظ الوقوف، وإشباع الحركات إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال ابن كثير: قال الحسن وقتادة: أي: العمل به وقيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته، وقال النسفي: (أي:

[سورة المزمل (73): آية 6]

سننزل عليك قولا ثقيلا أي: القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي، التي هي تكاليف شاقة، ثقيلة على المكلفين، أو ثقيلا على المنافقين، أو كلام له وزن ورجحان، ليس السفساف الخفيف). أقول: إن التخلق بالقرآن والقيام بأوامره وتعليم ذلك للناس، وتبليغهم إياه، وتربيتهم عليه، كل ذلك ثقيل على النفس البشرية، ولا يخفف عبء هذا الحمل إلا صلة عظيمة بالله عزّ وجل، ولذلك جاء قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، وكأنه تعليل للأمر بقيام الليل، وترتيل القرآن فيه، فعلى كل من يتصدر للدعوة إلى الله عزّ وجل وتربية الخلق أن يكون له حظ من قيام الليل، ثم قال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي: قيام الليل، أو العبادة التي تنشأ بالليل، أي: تحدث أو ساعات الليل، وأوقاته لأنها تنشأ ساعة فساعة، قال ابن كثير: وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي: أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوء الأصوات، وانقطاع الحركات، قال ابن كثير: أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، وأوقات المعاش، وقال: والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة. أقول: في الآية تعليل ثان للأمر بقيام الليل، وهو ثقله على النفس، وكونه أجمع للقلب على الله عزّ وجل، وبالتالي فهو أكثر تأثيرا وتقويما للنفس، ثم قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: فراغا طويلا لنومك وراحتك، أو تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك، ففرغ نفسك في الليل لعبادة ربك، أقول: في هذه الآية تعليل ثالث للأمر بقيام الليل، وحض على هذا القيام، فالنهار كاف لقضاء الحاجات، وهو محلها العادي، فاجعله لقضاء حاجتك ولراحتك، وخل الليل الله وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ قال النسفي: (أي: ودم على ذكره في الليل والنهار) وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم، وقال ابن كثير: (أي: أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك). أقول: أي: اجمع بين قيام الليل والاشتغال بذكر اسم الله عزّ وجل، ثم قال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال النسفي: (انقطع إلى عبادته عن كل شئ، والتبتل: الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره، وقيل رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله، وما ذكره ابن كثير في تفسير التبتل يدور بين الإخلاص

[سورة المزمل (73): آية 9]

والانقطاع لعبادة الله، والاجتهاد فيها، فصار معنى الآية: اذكر اسم ربك، وانقطع إلى الله عزّ وجل انقطاعا، وهذا يفيد أن رجل الدعوة عليه أن يكرس ليله لقيام الليل، وأن يجتمع له في ليله ونهاره ذكر، وأن يكون له انقطاع إلى الله عزّ وجل، ويعطي لأمور الدنيا بالقدر الذي لا بد منه، ثم قال تعالى معللا للأمر بالذكر والانقطاع إلى الله عزّ وجل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا قال النسفي: (أي: وليا وكفيلا بما وعدك من النصر، وإذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب، وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافيا لأمورك، وفائدة الفاء، أن لا تتلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار)، وقال ابن كثير: (أي: هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب، الذي لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل، فاتخذه وكيلا). أقول: بعد الأمر بقيام الليل، والذكر والانقطاع إلى الله، ذكر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بربوبيته للمشرق والمغرب، وبوحدانيته ليبني على ذلك الأمر بالتوكل، فصار مجموع الأوامر في هذه الفقرة خمسة: قيام الليل، وترتيل القرآن، والذكر، والانقطاع إلى الله عزّ وجل، والتوكل عليه. كلمة في السياق: 1 - قلنا إن محور السورة من سورة البقرة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والملاحظ أن المجموعة التي مرت معنا طالبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع من العبادة، وفي ذلك تحديد لسلوك الطريق إلى الله عزّ وجل، فمن ليس له قيام ليل، وترتيل قرآن، وذكر وانقطاع إلى الله عزّ وجل، وتوكل عليه، فإنه لا حظ له من السلوك الكامل إلى الله عزّ وجل، وإنما يتفاوت السالكون بقدر حظوظهم من هذه المعاني. 2 - رأينا أن الأمر بقيام الليل كانت إحدى حكمه أن الله سينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قولا ثقيلا، ورأينا في سورة الجن كيف تألب الجن والإنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا أن سورة المزمل أنزلت بمناسبة التآمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تأتي المجموعة الثانية في هذه الفقرة لتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر هؤلاء بعد أن وجهته إلى ما ينبغي فعله ليقوم بحمل عبء الدعوة.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ قال النسفي: (أي: في من الصاحبة والولد، وفيك من الساحر والشاعر) وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا قال النسفي: (أي: جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة) قال ابن كثير: (يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرا جميلا، وهو الذي لا عتاب معه وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ قال ابن كثير: أي: دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم، وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم) وقال النسفي: أي: كلهم إلي فأنا كافيهم وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي: ومهلهم إمهالا قليلا، ثم علل لهذين الأمرين بقوله: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي: قيودا ثقالا للكافرين في الآخرة وَجَحِيماً أي: نارا محرقة وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ قال النسفي: أي: الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ، قال ابن كثير: قال ابن عباس: ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج وَعَذاباً أَلِيماً أي: شديد الألم، ثم بين متى يكون ذلك كله فقال يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي: تتحرك حركة شديدة أي: تتزلزل وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً أي: رملا مجتمعا مَهِيلًا أي: سائلا بعد اجتماعه، قال ابن كثير: أي: تصير ككثبان الرمال بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تنسف نسفا، فلا يبقى منها شئ إلا ذهب حتى تصير الأرض (قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا) أي: واديا (ولا أمتا) أي: رابية ومعناها: لا شئ منخفض، ولا شئ يرتفع، ثم خاطب الله عزّ وجل سائر الناس، ومجئ هذا الخطاب في هذا السياق بمثابة التعليل لاستحقاق الكافرين العذاب، إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يعني: محمدا عليه الصلاة والسلام شاهِداً عَلَيْكُمْ قال ابن كثير: أي: بأعمالكم، وقال النسفي: (أي: يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم) كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني: موسى عليه السلام فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ أي: موسى عليه السلام فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي: شديدا غليظا، قال ابن كثير: (أي: فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ... وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدة أهواله وزلازله

[سورة المزمل (73): آية 18]

وبلابله، أي: كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم، أو كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه، أو كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة، والجزاء؛ لأن تقوى الله أثر عن خوف عقابه، ثم وصف الله عزّ وجل هول ذلك اليوم فقال: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال النسفي: أي: السماء على عظمها وإحكامها تتفطر به، أي: تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق ... يعني أنها تتفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشئ بما يفطر به كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي: كان وعد هذا اليوم مفعولا، أو كان وعد الله عزّ وجل بهذا اليوم مفعولا، قال ابن كثير: أي: واقعا لا محالة، وكائنا لا محيد عنه، ثم ختم الله عزّ وجل هذه الفقرة بقوله إِنَّ هذِهِ قال ابن كثير: أي: السورة تَذْكِرَةٌ أي: موعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا قال النسفي: أي: فمن شاء اتعظ بها، واتخذ سبيلا إلى الله بالتقوى والخشية. كلمة في السياق: 1 - أمرت المجموعة الأخيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوال الكافرين، وهجرهم وتركهم الله ينتقم منهم، ثم أنذرت المجموعة الكافرين العاصين بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وختمت المجموعة بتبيان أن هذه السورة تذكرة، وحثت على السير في سبيل الله، مما يشير إلى أن هذه السورة حددت السبيل إلى الله، وقد ذكرت الفقرة الأولى من هذا السبيل: قيام الليل، ترتيل القرآن، ذكر الله، الانقطاع إلى الله، التوكل عليه، الصبر على أقوال الكافرين، هجر هؤلاء الكافرين، تركهم لله ينتقم منهم. 2 - ذكر في نهاية المجموعة الأولى قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وصلة ذلك بقوله تعالى في المحور: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ واضحة. 3 - ورد في المجموعة الثانية قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا* فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً* السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ولذلك صلته بقوله تعالى في محور السورة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ

لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فالسورة تبين الطريق، وتنذر من انحرف عنه. 4 - إنهاء الفقرة الأولى من هذه السورة بقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يوحي بأن ما ذكر في السورة حتى هذه الآية هو الطريق الكامل الخالص، وستأتي الفقرة الثانية في السورة وفيها تخفيف عن رسول الله وعن أصحابه، مما يشير إلى أن الأوامر السابقة كما طولب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالب بها المسلمون بالتبع، والفقرة الثانية مع أنها تخفف بعض الأحكام فإنها تذكر بعض المعاني التي تكمل شرح الطريق.

الفقرة الثانية من السورة

الفقرة الثانية من السورة وهي آية واحدة وهذه هي: [سورة المزمل (73): آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) التفسير: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي: أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أي: ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك، قال ابن كثير: أي: تارة هكذا وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ قال ابن كثير: أي: تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ قال النسفي: (أي: لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج) فَتابَ عَلَيْكُمْ أي: فخفف عليكم، وأسقط عنكم فرض قيام الليل فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال ابن كثير: أي: من غير تحديد لوقت، ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما في سورة سبحان وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي: بقراءتك وَلا تُخافِتْ بِها ثم بين

كلمة في السياق

الحكمة في التخفيف وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين عَلِمَ الله إِنَّ أي: أنه سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فيشق عليهم قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي: يسافرون يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي: من رزقه بالتجارة أو طلب العلم وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا يستطيعون الجمع بين مثل ذلك القيام وشئون القتال فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قال النسفي: كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم. أقول: وفي ذكر حكمة التخفيف، أنها مراعاة لأحوال هذه الطوائف الثلاث إشعار بأن من لم يكن حاله كذلك، فإن عليه أن يبذل جهدا في قيام الليل، فإن سقطت الفرضية فقد بقي الندب، ثم قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: الواجبة عليكم، ومجئ هذا الأمر في ختام السورة يشير إلى أن الإكثار من قيام الليل شئ، وإقامة الصلاة المفروضة شئ آخر وَآتُوا الزَّكاةَ أي: الواجبة، قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم يتبين إلا في المدنية وَأَقْرِضُوا اللَّهَ بالنوافل قَرْضاً حَسَناً قال ابن كثير: يعني من الصدقات، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره، وفسر النسفي القرض الحسن لله بأن يكون من الحلال بالإخلاص وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ أي: تجدوا ثوابه عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً أي: مما خلفتم وتركتم وَأَعْظَمَ أَجْراً أي: وأجزل ثوابا، قال ابن كثير: أي: جميع ما تقدمونه بين أيديكم، فهو لكم حاصل وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، ثم ختم الله السورة- الدالة على الطريق بقوله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من السيئات والتقصير في الحسنات إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر على أهل الذنب والتقصير رَحِيمٌ يخفف عن أهل الجهد والتوفير، وقال ابن كثير: أي: أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها فإنه غفور رحيم لمن استغفره. كلمة في السياق: هذه السورة رسمت طريق السير إلى الله، وبينت الطريق إلى التقوى في حده الأدنى وحده الأعلى، فحده الأدنى صلاة مفروضة، وزكاة، واستغفار، وقيام ما تيسر من الليل، وحده الأعلى: صلاة، وإنفاق، واستغفار، وقيام من الليل، وترتيل قرآن، وذكر، انقطاع إلى الله عزّ وجل، وصبر على أقوال الكافرين، وهجر لهم، وانتظار فعل الله فيهم إذا لم يكن جهاد مأمور به، وصلة ذلك بقضية العبادة والتقوى- التي

الفوائد

هي محور السورة- واضحة المعالم. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قال الألوسي: (والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال: زملوني زملوني فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وعلى أثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر، ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها، كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب: قم أبا تراب، قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل، وكل ما يفعل المحبوب محبوب). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن كثير: (وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدا ثم قرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمدبسم الله ويمد الرحمن، ويمد الرحيم، وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يقطع قراءته آية آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سفيان الثوري به وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على

استحباب الترتيل، وتحسين الصوت بالقراءة كما جاء في الحديث: «زينوا القرآن بأصواتكم» و «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» و «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» يعني: أبا موسى، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا، وعن ابن مسعود أنه قال: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. رواه البغوي وروى البخاري ... عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال هذا كهذ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة). أقول: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتلا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤه ويقرئه مرتلا، وقد توارثت الأمة كيفية ترتيله عليه الصلاة والسلام، واستخلص القراء قواعد الترتيل، وألفوا في ذلك الكتب، واعتبر العلماء علم الترتيل من العلوم المفروضة فرض عين على كل مسلم، وهذا يستدعي من كل مسلم أن يقرأ رسالة في علم التجويد، وأن يأخذ القرآن من أهله، ليسقط فرض عين عن نفسه، وفرض كفاية عن المسلمين. 3 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال صاحب الظلال: (هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف ... والقرآن في مبناه ليس ثقيلا فهو ميسر للذكر. ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في القلب: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فأنزله الله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه. وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن الاتصال بالملإ الأعلى ... وأرواح الخلائق الحية والجامدة على هذا النحو الذي تهيأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك لآراء

الهواتف والجواذب والمعوقات لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل. وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها؛ والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة؛ واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي ... إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير للقلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير). أقول: قد رأينا أن من جملة ما فسر به القول الثقيل في قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أن المراد به ثقله وقت نزوله من عظمته، وهو قول مرجوح ليس بالقوي، وإن كان ثقل الوحي في حد ذاته كبيرا ولكن ليس هذا هو المعنى المراد بالآية غير أنه بمناسبة ذلك القول، قال ابن كثير: (كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه أنزل على رسول الله وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد. وفي أول صحيح البخاري ... عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا، هذا لفظه. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها. وروى ابن جرير عن هشام ابن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه، وهذا مرسل، الجران: هو باطن العنق، واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين).

4 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا قال صاحب الظلال: (ناشِئَةَ اللَّيْلِ هي: ما ينشأ منه بعد العشاء؛ والآية تقول: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي: أجهد للبدن، وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أثبت في الخير- كما قال مجاهد- فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش، بعد كد النهار، أشد وطأ وأجهد للبدن؛ ولكنها إعلان لسيطرة الروح، واستجابة لدعوة الله، وإيثار للأنس به؛ ومن ثم فإنها أقوم قيلا، لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها، وللمناجاة فيها شفافيتها. وإنها لتسكب في القلب أنسا وراحة وشفافية ونورا، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره ... والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحا واستعدادا وتهيئوا، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيرا فيه). 5 - عند قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قال ابن كثير: (قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قال: لحوائجك فأفرغ لدينك الليل، قال: وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله تبارك وتعالى من على عباده فخففها ووضعها وقرأ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آخر الآية ثم قرأ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ حتى بلغ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وقال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وهذا الذي قاله كما قاله، والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده ... عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها، ويجعله في الكراع والسلاح، ثم يجاهد الروم حتى يموت، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه- ستة- أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أليس لكم في أسوة حسنة؟» فنهاهم عن ذلك، فأشهدهم على رجعتها ثم رجع إلينا، فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر، فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: ائت عائشة فسلها ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك، قال: فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال: ما أنا بقاربها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا، فأبت فيهما إلا مضيا، فأقسمت عليه فجاء معي، فدخلنا عليها فقالت: حكيم؟ - وعرفته- قال: نعم، قالت: من هذا معك؟ قال: سعيد ابن هشام، قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر، قال: فترحمت عليه، وقالت: نعم

المرء كان عامرا، قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: ألست تقرأ هذه السورة يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قلت: بلى قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حولا، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة. فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله وحده، ثم يدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم، فتلك تسع يا بني، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان، فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة، هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه، وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث قتادة بنحوه). 6 - عند قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال ابن كثير: (وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية وهي قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية أجزأه، واعتضدوا بحديث المسئ صلاته الذي في الصحيحين: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة ابن الصامت وهو في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام» وفي

صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن»). أقول: هذه القضية خلافية، وكل ما استدل به غير الحنفية عليهم جعله الحنفية حجة لهم على من خالفهم، وليس هاهنا محل بسط هذه الأقوال، وإنما ذكرت هذا هاهنا ليعلم أن ما قاله ابن كثير ليس هو القول الفصل. 7 - عند قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال النسفي: (سوى بين المجاهد والمكتسب؛ لأن كسب الحلال جهاد، قال ابن مسعود رضي الله عنه: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحل، أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله). وقال ابن كثير: (أي: علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل، من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله، وهذه الآية- بل السورة كلها- مكية، ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة). 8 - عند قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ الثانية قال ابن كثير: (أي: قوموا بما تيسر عليكم منه، روى ابن جرير عن أبي رجاء محمد قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسد القرآن لعن الله ذلك، قال الله تعالى للعبد الصالح: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قلت: يا أبا سعيد، قال الله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال: نعم ولو خمس آيات، وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري أنه كان يرى حقا واجبا على حملة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل، ولهذا جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» فقيل معناه نام عن المكتوبة، وقيل عن قيام الليل: وفي السنن: «أوتروا يا أهل القرآن» وفي الحديث الآخر: «من لم يوتر فليس منا» وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر بن عبد العزيز

- من الحنابلة- من إيجابه قيام شهر رمضان فالله أعلم). أقول: الذي عليه جماهير الأمة سلفا وخلفا أن قيام الليل مندوب في رمضان وغيره. 9 - عند قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ قال ابن كثير: (وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل، واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»). أقول: وقد بقي قيام الليل في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبا لقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ. 10 - عند قوله تعالى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال النسفي: (والقرض لغة: القطع، فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه، وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة، فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه). 11 - بمناسبة قوله تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث ابن سويد قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟» قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: «اعلموا ما تقولون» قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله! قال: «إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث، والنسائي من طريق أبي معاوية كلاهما عن الأعمش أيضا به).

كلمة أخيرة في سورة المزمل

كلمة أخيرة في سورة المزمل: إن هذه السورة ينبغي أن يضعها القائمون بأمر الدعوة إلى الله نصب أعينهم فيلتزموا بما ندبت إليه من معان، وما فرضته من معان، ويرفعوا الأمة إلى الكمالات التي تحدثت عنها فذلك هو الطريق، لقد وضحت هذه السورة الطريق إلى التقوى، ولذلك فإن علينا أن نأخذ حظنا منها، بإلزام أنفسنا وتعويدها على القيام بكل ما فيها، وتربية أنفس المسلمين على ذلك من خلال التذكير والقدوة والبيئة والاحتيال لذلك؛ بتعويد الأنفس شيئا فشيئا، فالصلاة والزكاة والاستغفار، وشئ من القرآن، وشئ من الذكر، وشئ من قيام الليل، وشئ من الانقطاع إلى الله عزّ وجل، ثم وثم حتى تصبح معاني السورة خلقا للمسلم، ومتى أصبحت خلقا له فقد أصبح على الطريق الواضح الموصل إلى الجنة، إذا اجتمع له مع ذلك علم، وتأتي سورة المدثر لتكمل تبيان الطريق بذكر المواقف من الكفر والكافرين، فلننتقل إلى الحديث عن سورة المدثر.

سورة المدثر

سورة المدثر وهي السورة الرابعة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة السادسة والأخيرة من المجموعة السادسة من قسم المفصل، وهي ست وخمسون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة المدثر

بين يدي سورة المدثر: قال الألوسي عن هذه السورة: (مكية، قال ابن عطية: بإجماع إلا آية فهي محل خلاف. وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصدر كليهما نازل على المشهور في قصة واحدة، وبدئت بالأمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة، وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه). وقال صاحب الظلال: (وهذه السورة قصيرة الآيات. سريعة الجريان. منوعة الفواصل والقوافي. يتئد إيقاعها أحيانا، ويجري متدفقا أحيانا! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر ... وتصوير مشهد سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحة للبشر ... ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة! وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقا خاصا؛ ولا سيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة: المدثر، أنذر، فكبر ... وعودتها بعد فترة: قدر، بسر، استكبر، سقر ... وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص. عند قوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ!). تحقيق: حول أي من القرآن نزل أولا؟ قال ابن كثير: (ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول: أول شئ نزل من القرآن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى. روى البخاري عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قلت يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت لي فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا- قال:- فدثروني وصبوا علي ماء باردا، قال: فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ

فَكَبِّرْ» هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم ... عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: «زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ إلى فَاهْجُرْ قال أبو سلمة (والرجز) الأوثان ثم حمي الوحي وتتابع» هذا لفظ البخاري، وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل حين أتاه بقوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شئ نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما روى الإمام أحمد ... عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر ابن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت لهم: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم حمي الوحي وتتابع» أخرجاه من حديث الزهري به). قال الألوسي: ولصحة الخبرين (خبر جابر وخبر عائشة رضي الله عنهما) احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة، الأول: أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقرأ، فإن أول ما نزل منها صدرها. الثاني: إن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة. الثالث: إن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، وعبر بعضهم عن هذا بقوله أول ما نزل للنبوة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. الرابع: إن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب، وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم. الخامس: إن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها).

نقل في سبب النزول

نقل في سبب النزول: بمناسبة الكلام عن سورة المزمل نقلنا نقولا عن أسباب نزول سورتي المزمل والمدثر وقد رأينا في الفترة السابقة بعض الروايات التي يفهم منها بعض أسباب النزول، وقد ذكر ابن كثير بمناسبة الكلام عن سورة المدثر رواية أخرى تشبه الرواية التي ذكرها بمناسبة الكلام عن سورة المزمل وهذه هي: (وروى الطبراني عن إبراهيم بن يزيد سمعت ابن أبي مليكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ). كلمة في سورة المدثر ومحورها: بعد الآيات الأربع التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة والتي فصلت فيها سورة المزمل يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ، ويلاحظ أن سورة المدثر بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ... فهناك أمر بالتبشير، وهاهنا أمر بالإنذار، وهما شيئان متكاملان. وقبل قوله تعالى في سورة البقرة: وَبَشِّرِ ورد قوله تعالى في سورة البقرة: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وصلة ذلك بالإنذار واضحة. وبعد آية (وبشر) يرد قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ويلاحظ أنه في سورة المدثر يرد قوله تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، ويأتي في تتمة آية سورة البقرة قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، ويرد في تتمة آية المدثر قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ

رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ. ويأتي بعد تلك الآية في سورة البقرة قوله تعالى في وصف الفاسقين: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ويأتي في سورة المدثر: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ* ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ والصلة بين هذه الآيات وبين ما ورد في سورة البقرة من حيث إنها تذكر مظاهر الخسران واضحة، ولهذا وذاك قلنا: إن محور سورة المدثر هو محور سورة المائدة، كما أن محور سورة المزمل هو محور سورة النساء. ولا نعرف تعليلا يعلل لمثل ما ذكرناه هنا سوى هذا التعليل الذي اتجهنا إليه في هذا التفسير، فهذا التشابه الحرفي بين ما ورد في محور هذه السورة من سورة البقرة، وبين ما ورد في سورة المدثر، ووجود مثل سورتي النساء والمائدة وراء بعضهما مبدوءتين ب (يا أيها) وسورتين مثل سورتي الطلاق والتحريم وراء بعضهما مبدوءتين ب (يا أيها)، وسورتين مثل سورتي المزمل والمدثر وراء بعضهما مبدوءتين ب (يا أيها) له سر، وله تعليل، وهذا التفسير هو الذي قدم لمثل هذا تعليلا يقوم عليه الدليل ولله الحمد والمنة. لقد رأينا أن سورة التحريم تفصل في محور سورة المائدة، وسورة المدثر تفصل في محور سورة المائدة، وكلتاهما ذكرت (المثل) ومحور سورة المائدة من سورة البقرة مذكور فيه المثل، أليس لهذا صلته ببعضه بعضا؟. لقد رأينا من قبل سورة الأحزاب يتعاقب فيها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأثبتنا هناك أن المقطع الذي بدايته (يا أيها النبي) يفصل في محور سورة النساء من سورة البقرة، وأن المقطع الذي بدايته (يا أيها الذين آمنوا) يفصل في محور سورة المائدة، أليس من العجيب أن محور سورة المائدة موجود فيه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وأنك تجد في سورة الأحزاب بعد مقطع مبدوء ب (يا أيها الذين آمنوا) وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ

قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أو ليس من العجيب أن يتصور متصور أن مثل هذه المعاني لا تخضع لقاعدة عامة شاملة، فإذا استطعنا أن نقيم الدليل على هذه القاعدة الشاملة فإن ذلك هو الذي يتفق مع التصور الصحيح عن أفعال الله عزّ وجل، وعن كلماته، أن يكون فيها من الانتظام ومن النظام، ومن الضوابط ما لا يتناهى جماله، ولا يحاط بكمالاته، ولنعد إلى سورة المدثر. في محور سورة المدثر من سورة البقرة كلام عن موقف الكافرين من الأمثال القرآنية وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وفي سورة المدثر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أمثال هؤلاء، كما أن سورة المدثر قدمت لنا تفصيلا عن نفسية هؤلاء وتفكيرهم، وتبيانا للأسباب النفسية التي تجعلهم يقفون مثل هذه المواقف من القرآن، وفيها تفصيل لما يستحقونه، وفي السورة تربية للمؤمنين، وتعريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أدب الإنذار والتبشير، وفي السورة تعريف على القرآن وتعريف على الله عزّ وجل، ولذلك كله صلة في المحور كما سنرى. تتألف السورة من مقدمة وفقرتين: المقدمة وتستمر حتى نهاية الآية (10). الفقرة الأولى وتستمر حتى نهاية الآية (31). الفقرة الثانية وتستمر حتى نهاية السورة أي: حتى نهاية الآية (56). رأينا في مقدمة تفسير سورة المزمل أن سبب نزول سورتي المزمل والمدثر كان ما قابل به رسول الله صلى الله عليه وسلم تآمر قريش، واتهاماتها من التزمل والتدثر، وأن هناك روايات أخرى ذكرت أن سبب النزول كان لفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم من رؤية جبريل مرة ثانية بعد المرة الأولى التي كان فيها بدء الوحي، وللجمع بين الروايتين يمكن أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل ظهور جبريل في المرة الثانية بفرق تدثر وتزمل معه، فنزلت

عليه السورتان، وقابل تآمر قريش بنفس الوضع فذكر بالسورتين. والملاحظ أن سورة المزمل ورد فيها قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا وأن سورة المدثر ورد فيها قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً* وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ... فكأن في سورة المدثر نموذجا للمكذبين أولي النعمة ومواقفهم التي تقتضي أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم لله عزّ وجل، وفي بدء سورة المدثر يقول تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ مع وجود قوله تعالى في السورة: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ... ما يفيد أن الإنذار هو الأصل، وأن من اتصف بخصائص معينة هذا الذي وحده لا ينفع معه الإنذار، ويترك أمره لله يعذبه الله بيده أو بيد المؤمنين أثناء إقامتهم أمر الله بالجهاد والعدل. نلاحظ أن سورة الحاقة تحدثت عن أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وتحدثت عن المكذبين باليوم الآخر، وأن سورة المعارج تحدثت عن الكافرين وموقف من مواقفهم، وأن سورة نوح حدثتنا عن أمة رفضت الإنذار، وأن سورة الجن حدثتنا عن نفر قبلوا الإنذار، وأن سورة المزمل حددت للنذير ما ينبغي فعله في علاقته مع الله، وفي مواقفه من نوع من الكافرين، وتأتي سورة المدثر لتحدد للنذير أخلاقه التي تقتضيها عملية الإنذار، وموقفه من أنواع من المكذبين، وعرض لحال أهل اليمين ولحال المجرمين في الآخرة، مما يذكرنا بسورة الحاقة، فسورة المدثر تكمل دور سورة المزمل، وهي ترتبط بمجموعتها كلها برباط وثيق، وهكذا نجد المجموعة تتكامل مع بعضها في معانيها، وتتكامل مع بعضها في تفصيلها لمحاورها من سورة البقرة لتفصل في الأساس والطريق.

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتستمر من الآية (11) إلى نهاية الآية (31) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) التفسير: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أي: المتدثر فأدغمت التاء بالدال، والمتدثر: هو المتلفف بثيابه من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار: هو الثوب الذي يلي الجسد قُمْ فَأَنْذِرْ أي: قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم فأنذر، أي: فحذر قومك من عذاب الله، إن لم يؤمنوا، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد. قال النسفي: قيل سمع من قريش ما كرهه فتغطى بثوبه مفكرا كما يفعل المغموم، فقيل له يا أيها الصارف أذى الكفار عن نفسك بالدثار قم فاشتغل بالإنذار وإن آذاك الفجار، وقال ابن كثير في الآية: أي: شمر عن ساعد العزم وأنذر الناس، وبهذا حصل الإرسال كما حصل بالأول- أي: بقوله تعالى: اقرأ- النبوة. أقول: وإذن فهذه أول آية أمرته صلى الله عليه وسلم بالإنذار، ومن ثم بدأت بهذه الآية رسالته إلى الناس، كما بدأت بالآية الأولى نبوته وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ قال ابن كثير: أي: عظم، وقال النسفي: أي: واختص ربك بالتكبير وهو التعظيم أي: لا يكبر في عينك غيره، وقل عند ما يوعدك غير الله: الله أكبر ... وقد يحمل على تكبير الصلاة، ودخلت الفاء (أي: على قوله تعالى: فكبر) لمعنى الشرط كأنه قيل: ومهما كان فلا تدع تكبيره. أقول: إن الأمر بالتعظيم في سياق الأمر بالإنذار إشعار بأنه بدون تعظيم كامل لله في

[سورة المدثر (74): آية 4]

القلب لا تتأتى عملية الإنذار وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي: فليكن ما يظهر منك للناس من فعل أو مظهر طاهرا حتى لا يؤثر ذلك على عملية الإنذار، فإن الناس إذا رأوا أي شين في الداعية كرهوا لذلك دعوته، وعابوه، فرفضوا قبول دعوته، وسنرى في الفوائد أن أقوال المفسرين كلها تدور حول أن المراد بذلك إما طهارة النفس، أو طهارة اللباس، أو كلاهما، ومجئ هذا الأمر في سياق الإنذار يشير إلى هذا الذي ذكرناه، حتى قال الحسن البصري في الآية: أي: وخلقك فحسن، فما لم يكن الداعية نقي الظاهر والباطن، دقيق الأخذ والعطاء، سلوكه فوق النقد في كل الأمور، فإن إنذاره لا يكون مجديا كل الجدوى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ الرجز: هو العذاب الذي يأتي أثرا عن المعصية، أي: فاهجر ما يؤدي إلى العذاب من شرك ومعصية، قال ابن كثير: وعلى كل تقدير (أي: في تفسير كلمة الرجز سواء فسرت بالأوثان أو بالمعصية) فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك. أقول: ومجئ هذا الأمر في سياق الأمر بالإنذار يشعر أن الداعية المتلبس بالمعاصي لا تنجح دعوته وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ في هذه الآية أربعة أقوال ذكرها ابن كثير: الأول: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها، والثاني: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره، والثالث: لا تضعف أن تستكثر من الخير، وهذا على القول بأن تمنن في لغة العرب تأتي بمعنى تضعف، والرابع: لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها فتأخذ عليها عوضا من الدنيا. فهذه أقوال أربعة وقد رجح ابن كثير الأول، واختار ابن جرير الثاني، وعلى كل حال ففي قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الإنذار فكل ما يدخل تحت اللفظ- مما له علاقة بالإنذار- مراد به، فالاستشراف للمكافأة والزيادة والاستشراف لما في أيدي الناس، واستكثار العمل لله والمنة على الله به والمنة على الناس بسبب النبوة لمعنى دنيوي، كل هذه المعاني مما ينبغي أن يلاحظها الداعية وهو يقوم بعملية الإنذار، ثم قال تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ قال ابن كثير: أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزّ وجل، وقال النسفي: (أي: ولوجه الله فاستعمل الصبر على أوامره ونواهيه، وكل مصبور عليه ومصبور عنه) ثم علل تعالى لوجوب الأمر بالإنذار بقوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي: فإذا نفخ في الصور فَذلِكَ أي: وقت النقر يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ قال النسفي: (فكأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير) والعسير: الشديد عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي: غير سهل عليهم، وقد آذن التعبير أن ذلك يوم يسير على المؤمنين، كما آذن أن ذلك اليوم لا يرجى أن يرجع يسيرا مثلما يرجى تيسير العسير من أمور

كلمة في السياق

الدنيا، وقد ربط النسفي الفاء في الآية بالآية التي قبلها، فصار المعنى عنده: كأنه قيل: اصبر على أذاهم؛ فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك عليه، والذي أرجحه أن ما بعد الفاء في الآية تعليل للأمر بالإنذار فإن شدة ذلك اليوم تقتضي الإنذار، وما يقتضيه الإنذار من تعظيم لله، وتطهير للنفس، وهجر للمعاصي، وترك للمنة، وعزوف عن الاستكثار، وصبر على القيام بأوامر الله. كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بالأمر بالإنذار وما يقتضيه الإنذار من أخلاق، وعللت لذلك بمجيء يوم القيامة وشدته على الكافرين مما يقتضي أن ينذر الناس جميعا ليعرفوا ما أمامهم. 2 - بعد الآيتين اللتين جاءتا مباشرة بعد مقدمة سورة البقرة ورد قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ لو تأملنا هذه الآيات منطوقها، ومفهومها، ونصها، وإشارتها لوجدناها ترتبط برباط مع مقدمة سورة المدثر، فسورة المدثر تأمر من أنزل عليه القرآن أن يقوم بواجب الإنذار، والقيام بواجب الإنذار يقتضي القيام بالتبشير، ولكن التبشير إنما يكون إذا وجد مؤمنون، وسورة المدثر نزلت ولما يوجد مؤمنون بعد. 3 - بعد الآيات المذكورة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وتأتي فقرة في سورة المدثر تعطينا نموذجا على هؤلاء الخاسرين الذين ضلوا ولا ينفع معهم إنذار، وتعطينا نموذجا على اعتراض المعترضين على أمثال القرآن، ونموذجا لأمثال القرآن التي

الفقرة الأولى

يضل بسببها من ضل، ويهتدي بها من يهتدي، وكما تفصل الفقرة في هذه المعاني التي لها صلة بمحور السورة فإنها تنذر أشد الإنذار ولذلك صلته بسياق السورة. الفقرة الأولى وتستمر من الآية (1) إلى نهاية الآية (10) وهذه هي [سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 31] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)

التفسير

التفسير: ذَرْنِي أي: دعني وَمَنْ خَلَقْتُ أي: كله إلي وَحِيداً أي: ذرني وحدي معه فإني أكفيك أمره، أو ذرني ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، أو ذرني ومن خلقته منفردا بلا أهل ولا مال ثم أنعمت عليه، وكل من الأقوال الثلاثة ذكره النسفي وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي: واسعا كثيرا، أي: مبسوطا كثيرا، أو ممدودا بالنماء وَبَنِينَ شُهُوداً أي: حضورا لا يغيبون عنه. قال ابن كثير: أي: حضورا عنده لا يسافرون بالتجارات بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي: مكنته من صنوف المال، وأسباب الجاه، قال النسفي: (أي: وبسطت له الجاه والرئاسة فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ مع أنه لم يشكر ولم يقابل تلك النعم بالشكر الذي هو الدخول في الإسلام والقيام بتكاليفه، قال النسفي: (هذا استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه، فيرجو أن أزيد في ماله وولده من غير شكر) كَلَّا قال النسفي: (هذا ردع له وقطع لرجائه) ثم علل تعالى لقطع رجائه وإبعاد طمعه من المزيد بقوله إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا أي: للقرآن عَنِيداً أي: معاندا جاحدا، قال النسفي: وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلا قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه جحد آيات المنعم، وكفر بذلك نعمته، والكافر لا يستحق المزيد سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال مجاهد: أي: مشقة من العذاب. وقال قتادة: عذابا لا راحة فيه واختاره ابن جرير، وقال النسفي: أي: سأغشيه عقبة شاقة المصعد، ثم بين ماهية عناده فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي: فكر ماذا يقول في القرآن، وقدر في نفسه ما يقوله وهيأه، قال النسفي: (هذا تعليل للوعيد) كأن الله تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لفساده، ويعاقبه في الآخرة بأشد العذاب لبلوغه بالعناد غايته، وتسميته القرآن سحرا، وقال ابن كثير: أي: إنما أرهقناه صعودا أي: قربناه من العذاب الشاق لبعده عن الإيمان لأنه فكر وقدر، أي: تروى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن، ففكر ماذا يختلق من المقال، وقدر، أي: تروى فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ

[سورة المدثر (74): آية 21]

قَدَّرَ قال ابن كثير: دعاء عليه، وفسر النسفي: (قتل) بمعنى لعن، وعلل لمجئ ثم بين الدعاءين بأن ذلك يشعر أن الدعاء الثاني أبلغ من الأول ثُمَّ نَظَرَ قال ابن كثير: أي: أعاد النظرة والتروي ثُمَّ عَبَسَ أي: قبض بين عينيه وقطب وَبَسَرَ أي: كلح وكره، قال النسفي: أي: زاد في التقبض والكلوح ثُمَّ أَدْبَرَ أي: عن الحق وَاسْتَكْبَرَ عن مقامه وفي مقاله، قال ابن كثير: أي: صرف عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن فَقالَ إِنْ أي: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي: هذا سحر ينقله محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم ولهذا قال: إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ أي: ليس بكلام الله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ قال ابن كثير: أي سأغمره فيها من جميع جهاته، وسقر اسم علم لجهنم لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قال ابن كثير: أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون، وقال النسفي: (أي: هي لا تبقي لحما ولا تذر عظما) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قال النسفي: (أي: هي لواحة للبشر، جمع بشرة وهي ظاهر الجلد، أي: مسودة للجلود ومحرقة لها)، قال ابن كثير: (قال أبو رزين: تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل) عَلَيْها أي: على سقر، أي: يلي أمرها تِسْعَةَ عَشَرَ ملكا عند الجمهور، قال النسفي: وقيل: صنفا من الملائكة، وقيل صفا وقيل نقيبا وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي: وما جعلنا خزان النار إلا ملائكة، أي: زبانية غلاظا شدادا، أي: شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون. قال النسفي: لأنهم خلاف جنس المعذبين فلا تأخذهم الرأفة والرقة لأنهم أشد الخلق بأسا، فللواحد منهم قوة الثقلين وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ تسعة عشر إِلَّا فِتْنَةً أي: ابتلاء واختبارا لِلَّذِينَ كَفَرُوا وكما أن في ذكر عددهم فتنة للكافرين فإن في هذا الذكر زيادة يقين للمؤمنين، قال ابن كثير: أي: إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختبارا منا للناس لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال ابن كثير: أي: يعلمون أن هذا الرسول حق، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً قال ابن كثير: أي: إلى إيمانهم بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ في شأن هذا القرآن؛ لأنهم يرون أن كل ما فيه حق وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا قال النسفي: (والمعنى: أي شئ أراد

كلمة في السياق

الله بهذا العدد العجيب؟ وأي معنى أراد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين؟ وغرضهم إنكاره أصلا، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص) وقال: (فإن قلت: النفاق ظهر في المدينة والسورة مكية، قلت: معناه: وليقول المنافقون الذين يظهرون في المستقبل بالمدينة بعد الهجرة والكافرون بمكة ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وهذا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب وذا لا يخالف كون السورة مكية، وقيل: المراد بالمرض: الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، و (مثلا) تمييز لهذا أو حال منه كقوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً* ولما كان ذكر العدد في غاية الغرابة، وأن مثله حقيق بأن تسير به الركبان سيرها بالأمثال سمي مثلا) كَذلِكَ قال النسفي: أي: مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يعني إضلال المنافقين والمشركين حتى قالوا ما قالوا، وهدى المؤمنين لتصديقه، ورؤية الحكمة في ذلك يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ من عباده وهو الذي علم منه اختيار الضلال وسار في طرائقه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهو الذي علم منه اختيار الاهتداء، وسار في طرائقه، وقال النسفي: وفيه دليل خلق الأفعال، ووصف الله بالهداية والإضلال، وقال ابن كثير في النص: أي: من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ لفرط كثرتها إِلَّا هُوَ قال النسفي: فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، وقال ابن كثير: أي: ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى؛ لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط وَما هِيَ قال ابن كثير: أي: النار التي وصفت، وقال النسفي: أي: ما سقر وصفتها إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي: تذكرة للبشر، وذكر النسفي وجها آخر للآية معناه: أي: وما هذه الآيات إلا ذكرى للبشر، وبهذا انتهت الفقرة الأولى. كلمة في السياق: 1 - رأينا في هذه الفقرة نموذجا من الكافرين ذا صفات محددة: أ- أنه لا يقابل العطاء المتزايد من الله عزّ وجل بالشكر. ب- أنه يعاند القرآن الكريم ويحاربه ويخطط لإبطال أمره فيفكر ويقدر لذلك. ج- أنه مدبر عن الحق مستكبر عن قبوله. د- أنه يشكك بأمثال القرآن ومعاني القرآن.

هذا النوع من الناس لا ينفع معه إنذار، ويستحق الإضلال، ومن ثم أمر الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكل أمر هذا النوع من الناس إليه، ولو تأملنا الصفات التي ذكرناها فإننا نجد فيها نقض ميثاق، وقطعا لما أمر الله به أن يوصل، وإفسادا في الأرض، ومن ثم استحق صاحبه الخسارة في الدنيا والآخرة، ولذلك صلته بمحور السورة: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. 2 - رأينا في الفقرة ماذا يستحق هذا النوع من الناس من قطع ورود النعمة عنه، ومن استحقاقه العذاب الشاق يوم القيامة، ومن إدخاله النار، وفي ذلك إنذار للخلق من أن يسيروا على طريق مثل هذا، وصلة ذلك بسياق السورة الخاص وهو الإنذار وما يتعلق به واضحة، ومن ثم ختمت الفقرة بقوله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ. 3 - النموذج الذي توافرت فيه هذه الصفات كلها في زمن النبوة هو الوليد ابن المغيرة، كما سنرى في أسباب النزول، ولكنه نموذج يتكرر في الحياة البشرية دائما، وإذ يذكر الله عزّ وجل هذا النموذج إبان نزول القرآن، فذلك معجزة قرآنية إذ تذكر هذه الآيات عن هذا الإنسان أنه سيموت على الكفر، وقد كان ذلك، وكم من إنسان كان في الظاهر مثله في الكفر ثم آمن. 4 - في محور السورة من سورة البقرة ورد قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وفي سورة الحج المبدوءة ب (يا أيها) ضرب الله مثلا بالذباب في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وفي سورة المدثر ضرب الله مثلا بزبانية جهنم وعددهم، فمثال سورة الحج صاحبه غاية في الحقارة، ومثال سورة المدثر أصحابه غاية في العظمة والشدة، وشأن الله أن يضرب في كتابه المثل بهذا وهذا وغيرهما مما شاء، وفي كل مرة يضرب الله مثلا بشيء تكون المسألة على الشكل التالي: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وكما قال تعالى في سورة المدثر: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً* وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فمن الموقف من المثل يعرف المستحقون للإضلال من المستحقين للهداية، ومن ثم قال تعالى في سورة البقرة: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ وقال تعالى هنا في سورة المدثر: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وفي سورة البقرة فصل الله عزّ وجل في صفات من يستحقون الإضلال وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وفي سورة المدثر ذكر الله عزّ وجل نموذجا لإنسان متصف بهذه الصفات. 5 - مما مر ندرك صلة الفقرة بمحور السورة وقد آن لنا أن نذكر شيئا عن سياق السورة الخاص، بدأت السورة بالأمر بالإنذار وما يقتضيه ذلك من خصائص ينبغي أن يلتزم بها النذير، ثم ذكرت السورة نموذجا من الناس لا ينتفع بالإنذار، وقد بين الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك هذا النوع من الناس لله، فإنه سيعاقبه بأنواع العذاب الدنيوي والأخروي، ولننتقل إلى الفقرة الثانية في السورة.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (32) إلى نهاية السورة أي إلى نهاية الآية (56) وهذه هي: [سورة المدثر (74): الآيات 32 الى 56] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) ملاحظة على السياق: بدأت السورة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار، وجاءت الفقرة الأولى لتنذر من خلال العرض لمآل نموذج يرفض الإنذار، ثم تأتي الفقرة الأخيرة في السورة، فتبدأ بذكر معان تمهد لقبول إنذار النذير، وتبين قيمة بعثة النذير في تاريخ البشرية وأهميتها بالنسبة للإنسان، ثم تحض على قبول الإنذار، والفقرة مع أدائها لهذا المعنى وغيره هي في نفسها إنذار.

التفسير

التفسير: كَلَّا قال النسفي في صلة هذا الحرف بما قبله مباشرة أي: بقوله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ قال: هي إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى؛ لأنهم لا يتذكرون. أقول: (كلا) حرف ردع وزجر، وهي هنا في هذا السياق ردع وزجر للكافرين والمنافقين في شكهم وارتيابهم، وتشكيكهم بمضمون هذه الرسالة، ورد عليهم، ومن ثم جاءت بعد ذلك هذه الأقسام وجوابها وَالْقَمَرِ قال النسفي: أقسم به لعظم منافعه وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي: ولى وذهب وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي: أضاء وأشرق إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أي: إن سقر لمن إحدى العظائم، قال النسفي: ومعنى: إنها إحداهن: أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظير لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. أقول: أرجع الضمير إلى سقر في هذه الآية على القول بأن آخر المجموعة السابقة وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ يراد به سقر، إلا أننا رأينا أن هناك اتجاها آخر في الضمير ذكره النسفي أرجع فيه الضمير على الآيات، فليس شرطا أن نرجع الضمير إلى النار بل يمكن أن يكون التقدير: إن أعظم حادثة في الوجود هي أن يرسل الله تعالى نذيرا للبشر، ومن ثم فسرت الآية اللاحقة هذه الواحدة التي لا أعظم منها، فقالت نَذِيراً لِلْبَشَرِ ثم قال تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ قال ابن كثير: (أي: لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق، أو يتأخر عنها ويتولى ويردها)، وقال النسفي: (أي: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير أو يتأخر عنه)، وعن الزجاج: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى ما أمر أَوْ يَتَأَخَّرَ عما نهي. أقول: أقسم الله عزّ وجل بما أقسم به أن النار من أعظم ما ينذر به الكافر والمؤمن على السواء، أو أقسم الله عزّ وجل بما أقسم به أن من أعظم الأشياء الكبيرة أن يرسل الله نذيرا للبشر لمن يختار الهداية، أو يختار الضلال على السواء، ثم بين الله عزّ وجل، لم كانت هذه القضية أعظم الأشياء، بأن ذكر حال الناس يوم القيامة حيث لا ينجو إلا من قبل دعوة النذير فصلى وأنفق وآمن فقال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي: رهن، قال النسفي: والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك، وقال ابن كثير في تفسير (رهينة): أي: معتقلة بعملها يوم القيامة إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ أي: إلا المسلمين الذين قبلوا الإنذار وعملوا بمقتضاه، فإنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يخلص

[سورة المدثر (74): الآيات 40 إلى 41]

الراهن رهنه بأداء الحق فهؤلاء فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي: يسأل بعضهم بعضا، أو يتساءلون فيسألون المجرمين ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي: ما أدخلكم فيها، والصيغة تفيد أنه بعد التساؤل عنهم صار سؤال لهم قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي: لم نكن مسلمين نصلي كما يصلون، ونطعم كما يطعمون. قال ابن كثير: أي: ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ قال النسفي: (الخوض: الشروع في الباطل، أي: نقول الباطل والزور في آيات الله) وقال ابن كثير: أي: نتكلم فيما لا نعلم، وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: بالحساب والجزاء أي: باليوم الآخر حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي: الموت فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي: من الملائكة والنبيين والصالحين؛ لأنها للمؤمنين دون الكافرين، وفي الآية دليل لثبوت الشفاعة للمؤمنين. قال ابن كثير: أي: من كان متصفا بمثل هذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه؛ لأن الشفاعة إنما تنجح إذا كان المحل قابلا، فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فإن له النار لا محالة خالدا فيها فَما لَهُمْ أي: فما لهؤلاء الكفرة والأمر كذلك عَنِ التَّذْكِرَةِ قال النسفي: أي: عن التذكير وهو العظة أي: القرآن مُعْرِضِينَ أي: مولين، وقال ابن كثير: أي: فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين. أقول: وهذا دليل على أن المراد بقوله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ وقوله تعالى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ المراد به ما رجحناه وهو القرآن، ثم بين الله عزّ وجل شدة نفورهم من التذكرة كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ الحمر: جمع حمار، ومستنفرة أي: شديدة النفار، كأنها تطلب النفار من نفوسها فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي: من رماة أو أسد، قال النسفي: شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جرت في نفارها، وقال ابن كثير: أي: كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه، حمر من حمر الوحش، إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد. أقول: فأصبح المعنى: ما لهم والعذاب أمامهم يفرون من النذير هذا الفرار الشديد؟!، وبعد أن بينت الفقرة خطورة أن يبعث الله نذيرا للبشر وعجبت من حال المعرضين عن النذير ووصفت شدة نفارهم، فإنها تتجه لتبيان ماهية المعاني المستقرة في أنفسهم، والتي تحول بينهم وبين قبول الإنذار والاستجابة للنذير.

[سورة المدثر (74): آية 52]

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي: تنشر وتقرأ. قال ابن كثير: أي: بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم كَلَّا ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر لهم، وبيان أن سنة الله ليست كذلك بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ قال ابن كثير: (أي: إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها)، أقول: هاتان هما علتا الإعراض عن قبول الإنذار: حسد للنذير وكفر بالآخرة. كلمة في السياق: رأينا أن الفقرة الأولى ختمت بقوله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ورجحنا أن المعنى: وما آيات القرآن إلا ذكرى للبشر، ثم رأينا في بداية الفقرة الثانية قوله تعالى: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيراً لِلْبَشَرِ ثم رأينا قوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ثم تأتي ثلاث آيات تقرر أن هذا القرآن موعظة كافية، وتبين أن الله عزّ وجل أهل لأن يتقى، وأهل لأن يغفر، فهي تعرف على الله عزّ وجل والقرآن لتأخذ بيد الإنسان ليقبل الإنذار، قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ قال ابن كثير: أي: حقا إن القرآن تذكرة، وقال النسفي: ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة، وقال: إن القرآن تذكرة مبينة كافية فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ قال الفخر الرازي: (أي: جعله نصب عينه، فإن نفع ذلك عائد عليه) وقال النسفي: (أي: فمن شاء أن يذكره ولا ينساه فعل فإن نفع ذلك عائد إليه). أقول: فعلى المسلم ألا يغفل عن القرآن وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قال النسفي: أي: إلا وقت مشيئة الله، أو إلا بمشيئة الله هُوَ أَهْلُ التَّقْوى أي: أهل لأن يتقى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي: أهل لأن يغفر لمن اتقاه. كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ وختمت الفقرة الأولى بقوله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ والذي نراه أن الضمير يعود على الآيات المذكورة في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ثم جاءت الفقرة الثانية،

وختمت بقوله تعالى عن القرآن: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ وهذا يفيد أن الإنذار الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تبليغ هذا القرآن، وتبيان مضامينه، وهكذا نجد أن السورة في سياقها الرئيسي انصبت على الإنذار وأداته التي هي القرآن. 2 - في مقدمة السورة رأينا قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ... وفي الفقرة الأولى رأينا قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ... وفي الفقرة الثانية رأينا قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... وهكذا نجد أن السورة في سياقها الرئيسي صبت على التذكير باليوم الآخر في البداية والوسط والنهاية، مما يشير إلى أن الإنذار مرتبط ارتباطا كاملا بموضوع اليوم الآخر، ومن غفل عن هذا فاته الإنذار والتذكير، وليس كالقرآن مذكرا باليوم الآخر، ومن ثم فعلى الدعاة أن يكثروا من التفسير، وأن يربطوا الناس بهذا القرآن. 3 - عرضت لنا الفقرة الأولى صفات من يستحقون الإضلال ومن لا ينفعهم التذكير، وعرضت لنا الفقرة الثانية صفات من دخلوا النار: 1 - ترك الصلاة. 2 - ترك إطعام المساكين. 3 - الخوض مع الخائضين. 4 - التكذيب بيوم الدين. 5 - الإعراض عن التذكرة. وهذه كلها مظاهر لنقض الميثاق ولقطع ما أمر الله به أن يوصل، وللإفساد في الأرض، وصلة ذلك بمحور السورة واضحة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. 4 - في آخر السورة ورد قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولذلك صلته بقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وعلينا أن ننتبه إلى تتمة الآية من سورة البقرة وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ... مما يشير إلى أن الله عزّ وجل إذا شاء إضلال إنسان فلأن هذا الإنسان يستحق ذلك بسبب من أعماله، ومن ثم ختمت سورة المدثر بقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فكما أنه أهل لأن يتقى فإنه أهل لأن يغفر، ولا يهلك على الله إلا هالك، فمن تنكب التقوى، وتنكب طريق المغفرة، فإنه هو الذي يهلك نفسه. 5 - وقد سارت السورة في سياقها الخاص على المسار التالي: بدأت السورة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار، وبينت له أدب النذير، وسبب الإنذار، وهو مجئ يوم

الفوائد

القيامة، ثم بينت له أن نوعا من الناس لا يقبل الإنذار فليدعه لله، وبينت له ما أعده الله لهذا من عذاب، ثم استأنفت لتحدثنا عن موقف الكافرين والمؤمنين من المثل القرآني، ثم سارت السورة لتبين أهمية أن يبعث الله نذيرا للبشر، ثم عجبت من موقف الكافرين من الإنذار، ثم بينت العلة الرئيسية لهذا الموقف، ثم ختمت بالتذكير بهذا القرآن المنزل على النذير، وحضت على التذكر، وعلقت التذكر على مشيئة الله؛ ليقبل العبد بقلبه على الله تائبا طالبا. 6 - يلاحظ أن السورة ختمت بقوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وفي هذا المقام سر لطيف، فالسورة أنذرت من خلال التذكير باليوم الآخر حتى استغرق ذلك كثيرا من السورة، ثم ختمت بالتذكير بأن الله عزّ وجل حري أن يتقيه المتقون، لأنه أهل التقوى، حري أن يستغفره المستغفرون؛ لأنه أهل المغفرة، فأصل أصيل في التذكير أن يذكر بجلال الله وجماله وكماله في إنهاض الهمم إليه، والتذكير باليوم الآخر طريق لذلك. الفوائد: 1 - هناك أقوال كثيرة في قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ذكرنا مآلها في صلب التفسير وهاهنا ننقل بعض عبارات المفسرين في ذلك: قال الأجلح الكندي عن عكرمة عن ابن عباس أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي: فإني بحمد الله لا ثوب فاجر … لبست ولا من غدرة أتقنع وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال: في كلام العرب نقي الثياب، وفي رواية بهذا الإسناد: فطهر من الذنوب، وكذا قال إبراهيم والشعبي وعطاء، وقال الثوري عن رجل عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال: من الإثم، وكذا قال إبراهيم النخعي، وقال مجاهد وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال: نفسك، ليس ثيابه، وفي رواية عنه: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: أي: عملك فأصلح، وكذا قال أبو رزين وفي رواية أخرى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: أي: لست بكاهن ولا ساحر فأعرض عما قالوا، وقال قتادة: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: أي: طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف

بعهد الله: إنه لدنس الثياب، وإذا وفى وأصلح: إنه لمطهر الثياب، وقال عكرمة والضحاك: لا تلبسها على معصية. وقال الشاعر: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه … فكل رداء يرتديه جميل (وقال العوفي عن ابن عباس: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ يعني: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائل، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية، وقال محمد ابن سيرين: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي: اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه كما قال امرؤ القيس: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي وإن تك قد ساءتك مني خليقة … فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقال سعيد بن جبير وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: وقلبك ونيتك فطهر، وقال محمد ابن كعب القرظي والحسن البصري: وخلقك حسن). أقول: وبعضهم فسر تطهير الثياب بتقصيرها؛ لأن من أطالها فقد عرضها للإصابة، وبعد كلام طويل عن هذه الآية قال الألوسي: (وجوز أن يراد بالتطهير إزالة ما يستقذر مطلقا، سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر، ومنه الأوساخ، فيكون ذلك أمرا له صلى الله تعالى عليه وسلم بتنظيف ثيابه، وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره من كل ما يستقذر، فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة، ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك، ولذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا، وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى- أيضا- الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي، كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال صاحب الظلال: (وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء. ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمنن به ... وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه. بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله؛ شاعرة بأن

كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه. فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله. وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله. لا المن والاستكثار). 3 - بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟» فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تأمرنا يا رسول الله، قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط به. 4 - بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قول الوليد بن المغيرة عن القرآن: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ قال ابن كثير: (وهذا المذكور في هذا السياق هو الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش- لعنه الله- وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة، فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة، فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبأ قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل ابن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد: ألم تر إلى قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد: أقد تحدث به عشيرتي! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى قوله: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ الآية، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قبض ما بين عينيه وكلح، وروى ابن جرير عن عكرمة أن الوليد ابن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل ابن هشام، فأتاه فقال: أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟، قال: يعطونكه؛ فإنك أتيت محمدا تعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال وأنك كاره له، قال: فماذا

أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى، وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر عن غيره فنزلت: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً حتى بلغ تِسْعَةَ عَشَرَ وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا). 5 - بمناسبة قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال ابن كثير: (أي: من مقدمي الزبانية عظيم خلقهم غليظ خلقهم، وقد روى ابن أبي حاتم عن البراء في قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ قال: إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ فأخبر أصحابه وقال: «ادعهم أما إني سائلهم عن تربة الجنة إن أتوني، أما إنها درمكة بيضاء» فجاءوه فسألوه عن خزنة جهنم فأهوى بأصابع كفيه مرتين، وأمسك الإبهام في الثانية ثم قال: «أخبروني عن تربة الجنة» فقالوا: أخبرهم يا ابن سلام، فقال: كأنها خبزة بيضاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الخبز إنما يكون من الدرمك» هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء، والمشهور عن جابر بن عبد الله كما روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال: «بأي شئ؟» قال: سألتهم يهود: هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم؟ علي بأعداء الله، لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة» فأرسل إليهم فدعاهم، قالوا: يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال: «هكذا» وطبق كفيه، ثم طبق كفيه مرتين وعقد واحدة وقال لأصحابه: «إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك» فلما سألوه، فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار، قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما تربة الجنة؟» فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: خبزة يا أبا القاسم، فقال: «الخبزة من الدرمك» وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر عن سفيان به، وقال هو والبزار: لا يعرف إلا من حديث مجالد).

قال صاحب الظلال: (وهذا العدد كغيره من الأعداد. والذي يبغي الجدل يمكنه أن يجادل، وأن يعترض على أي عدد آخر وعلى أي أمر آخر بنفس الاعتراض ... لماذا كانت السماوات سبعا؟ لماذا كان خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار؟ لماذا كان حمل الجنين تسعة أشهر؟ لماذا تعيش السلاحف آلاف السنين؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ والجواب: لأن صاحب الخلق والأمر يريد ويفعل ما يريد! هذا هو فصل الخطاب في مثل هذه الأمور). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً قال ابن كثير: (وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون، وقد قيل إن أبا الأسدين- واسمه كلدة بن أسيد بن خلف- قال: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين، وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة- فيما يزعمون- أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه، قال السهيلي: وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته، وقال: إذا صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن، قال وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب (قلت) ولا منافاة بين ما ذكراه والله أعلم). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ قال ابن كثير: (وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة: «فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم». وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع إصبع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد، ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إسرائيل، وقال الترمذي: حديث حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا. وروى

الحافظ أبو القاسم الطبراني عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد، أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئا». وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن حكيم ابن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا: ما نسمع من شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد». وروى أيضا ... عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد، أو قائم» وذلك قول الملائكة وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وهذا مرفوع غريب جدا ثم رواه عن ابن مسعود أنه قال: إن من السماوات سماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم ثم قرأ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). 8 - بمناسبة قوله تعالى: حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ قال ابن كثير: (يعني الموت كقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو- يعني عثمان بن مظعون- فقد جاءه اليقين من ربه»). 9 - بمناسبة قوله تعالى: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قال صاحب الظلال: (والذي يريد القرآن أن يطبعه في حس المسلم هو طلاقة هذه المشيئة، وإحاطتها بكل مشيئة، حتى يكون التوجه إليها من العبد خالصا، والاستسلام لها ممحضا ... فهذه هي حقيقة الإسلام القلبية التي لا يستقر في قلب بدونها. وإذا استقرت فيه كيفته تكييفا خاصا من داخله، وأنشأت فيه تصورا خاصا يحتكم إليه في كل أحداث الحياة ... وهذا هو المقصود ابتداء من تقرير طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها عقب الحديث عن كل وعد بجنة أو نار، وبهدى أو ضلال). 10 - بمناسبة قوله تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن كثير: (أي: هو أهل أن يخاف منه، وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب، قاله قتادة. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وقال: «قال ربكم:

تعليقات بمناسبة انتهاء عرض المجموعة السادسة

أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له» ورواه الترمذي وابن ماجه والنسائي، وقال الترمذي: حسن غريب، وسهيل- أحد رواته- ليس بالقوي، ورواه ابن أبي حاتم وأبو يعلى، والبزار، والبغوي، وغيرهم). تعليقات بمناسبة انتهاء عرض المجموعة السادسة 1 - نحب أن نبدأ بتسجيل مجموعة قضايا عملية أخذناها من هذه المجموعة: أ- إن التربية العليا التي ربى الله عزّ وجل عليها رسوله صلى الله عليه وسلم هي التربية التي بها يتحقق وجود الإنسان الكامل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جعله الله عزّ وجل أعظم الخلق استعدادا، وجعله أكمل الخلق تحققا وتخلقا؛ ليكون قدوة الخلق أجمعين، وقد ختم الله عزّ وجل به النبوة والرسالة، وإنما رباه الله عزّ وجل بهذا القرآن، وفرض التأسي به، فمن أراد أن يأخذ حظه الكامل من وراثة النبوة فعليه أن يأخذ حظه من هذا القرآن، وعليه أن يلاحظ الخطابات التي خوطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ حظه منها، ما لم تكن خاصة به صلى الله عليه وسلم خصوصية تشريعية لا تحل لغيره، ومن ثم فعلينا أن نأخذ حظنا مما ورد في سورة المعارج من خصائص، ومما ورد في سورة الجن، ومما ورد في سورتي المزمل والمدثر وخاصة من قيام الليل، وتلاوة القرآن، والذكر، والصبر ومرتكزاته الأخلاقية، والدعوة والتبليغ وأخلاقهما. ب- أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام أن يقتدي بكل الرسل، قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فكل ما قصه الله عزّ وجل علينا من أخبار الرسل وأعمالهم فإنه محل القدوة لرسولنا عليه الصلاة والسلام. وبالتالي فهو محل القدوة لنا، ومن ثم فعلينا أن نأخذ حظنا من هذه القدوة، فعند ما يقص الله علينا قصة نوح عليه السلام في سورة كاملة فإن ذلك يقتضي منا أن نأخذ دروسها، وأن نعمل بها. ج- وكما ينبغي أن نلاحظ الأخلاق التي هي محل التكليف، ومحل الطلب، فإن علينا أن نتجنب الأخلاق التي هي محل المؤاخذة والنهي، ولذلك فإن علينا أن نلاحظ ما يقصه الله علينا من أخلاق الكافرين والمنافقين لنتحرر منها، ولئن كان العرض قد صرفنا عن إفراد مثل هذه المعاني بالذكر في هذا التفسير، لظننا أن في إبرازها أثناء التفسير كفاية فإن المربي والراغب في الوراثة،- والمسلم بشكل عام- عليه أن ينتبه لهذه الأخلاق فيجتنبها، ويركز عليها عند الآخرين فيستأصلها، وهذا باب واسع في

العلم والعمل والتربية والسلوك، والمجموعة التي مرت معنا ذكرت المنافقين في مكان واحد، وركزت على أخلاق الكافرين، فعلينا أن ننتبه إلى ما ذكرناه في القرآن كله. 2 - المجموعة التي مرت معنا ركزت على الأساس والطريق، وقد رأينا فيها الجديد الكثير، فمع أن مجموعات كثيرة فصلت فيما فصلت به هذه المجموعة فإن الكثير مما ذكرته كان جديدا، ومن هنا نحب أن نؤكد ما ذكرناه من قبل في هذا التفسير وهو: لئن كانت المعاني القرآنية ترجع إلى أصول، والأصول ترجع إلى أصول أقل، فإن فروع هذه الأصول لا تتناهى، وتفصيلات هذه الأصول وحيثياتها كثيرة، ولذلك فلا ينبغي أن يتصور متصور أن بعض القرآن يغني عن بعض. نعم كل جزء من القرآن كاف للتذكير، وكل جزء منه فيه خصائص القرآن كله، ولكن للمعاني القرآنية أصولا وفروعا مبثوثة في القرآن كله. إن فاتحة القرآن قد استوعبت المعاني القرآنية، وإن سورة البقرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كادت لتستحصي الدين كله» وإن المجموعات القرآنية تفصل في معان مذكورة في سورة البقرة على ترتيب معين، ولكن في كل سورة جديد، إن في الأصول أو في الفروع التي تنبثق عن هذه الأصول، أو في صلة الأصول بالفروع، أو في صلة الفروع بالفروع والأصول بالأصول، وهذا يعني أن على الراغب في القرآن ألا يستغني ببعضه عن بعض، إلا لعجز عن الكل فعندئذ يتخير في الحفظ والدراسة أما في التلاوة فعليه أن يضرب من أول القرآن إلى خاتمته، نقول هذا بمناسبة قوله تعالى في سورة المزمل: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وبمناسبة ما تعطينا إياه هذه المجموعة بوضوح: أن في كل مجموعة في القرآن جديدا. 3 - عند عرض المجموعة السابقة استقصينا بقدر استطاعتنا أن نبرز سياق السورة الخاص، وأن نبرز صلة كل سورة بما قبلها وما بعدها، وصلة كل سورة بمحورها من سورة البقرة، وقد أخذت سورة المدثر حظها من ذلك، ولذلك فلا نجد ما نضيفه هنا سوى أن نذكر بجانب عملي، هو أنك تجد في آية من الآيات مجموعة أقوال كآية وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وهذه الأقوال يحتملها النص، وكلها عملية، أي: إن كل قول يعطينا جانبا عمليا تطبيقيا، فعلينا في مثل هذه الأحوال أن نأخذ حظنا من الالتزام بالجميع، فإن ذلك من حكمة مجئ النص على هذه الشاكلة، وذلك يجعل أمام المسلمين مجالات يتفاوتون فيها في التقوى والكمال، فالأكمل من يعطي التطبيق أوسع مداه.

4 - نلاحظ من خلال ما مر معنا في المجموعة السابقة أن السورة عند ما تفصل في محور من المحاور قد تفصل في كلمة من آية، وقد تفصل في المضمون المباشر للمحور، وقد تفصل في المضمون غير المباشر، وقد تفصل فيما يقابل المضمون ليتضح المضمون، وأن المجموعة وهي تفصل قطاعا من معاني سورة البقرة على ترتيب معين تبقى في ترابطها مع بعضها، تشكل كلا متكاملا يخدم بعضه بعضا ويبني بعضه على بعض. 5 - إن مما تراه بوضوح في القرآن أنك تجد الخطاب القرآني مظهرا للعزة الإلهية، ومظهرا للربوبية الكاملة، فهو مثلا عند ما يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبه خطابا تظهر فيه عزة الربوبية، وعبودية المربوب، وهو موضوع يحسه كل عاقل يتأمل في هذا القرآن وإنك لتجد المجموعة السابقة نموذجا كاملا على هذا الموضوع، وهذا وحده كاف ليعرف المنصف أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل، إن مما تراه بشكل واضح في هذا القرآن أنه خال من كل مظهر من مظاهر الضعف البشري الذي لا بد أن يظهر في كل أثر من آثار البشر، إن في الأسلوب أو في التعبير، أو في المعاني، فعلم البشر ما دام غير محيط بالزمان والمكان، والكون، والإنسان، ومفردات اللغة وطرق تركيبها، وأساليب العرض التي لا تتناهى، إن الإنسان ما دام غير محيط بهذا كله أو ببعضه، فإن آثار ذلك لا بد ظاهرة في كل أثر يصدر عنه، فإن تجد النص القرآني خاليا من القصور فذلك وحده دليل على أنه من عند الله، فليتفطن قارئ القرآن لهذا، تأمل السور الست التي مرت معنا كيف أن لكل واحدة منها جرسا وأسلوبا وبداية ونهاية، وتجد في كل واحدة منها من المعاني ما لا يمكن أن يصدر شئ منه من بشر، ألا إن هذا القرآن لا يكفر به إلا جاهل أو غبي أو عديم الذوق اللغوي أو متكبر أعمى الكبر قلبه، فلم يعد يرى شيئا. 6 - جرينا في تدارسنا للقرآن مع إخواننا أن نقرأ السورة أو القدر الذي نريد تدارسه ثم نتعرف على مفردات السورة، ثم نقف عند الأوامر والنواهي، ثم نقف وقفة عند الأحكام الفقهية إن كان في السورة آيات أحكام، ثم نبحث عن الأخلاق التي تعرضت لها السورة، أخلاق كافرين أو منافقين أو متقين، فنقف عندها الوقفات الطوال، فكنا نخرج من السورة أو من المكان الذي تمت فيه المذاكرة بالكثير من العلم والعمل، ثم نتواصى بالجانب العملي، ولم يمنعنا أن نعرض هذا التفسير على هذه الشاكلة

إلا خشية الإطالة، وإننا لنوصي أنفسنا وإخواننا بمثل هذه المدارسة وهذا الأخذ فبدون مدارسة للقرآن، وبدون التزام لا تنمو التقوى، ويضعف السير. 7 - نلاحظ أن قضية النموذج تأخذ محلها في القرآن، فأحيانا يعرض عليك القرآن المعنى بشكل تقريري، وأحيانا يعرض عليك بشكل تصويري، ويرى سيد قطب رحمه الله أن الأسلوب المفضل في القرآن هو الأسلوب التصويري، ومن ثم كتب كتابه (التصوير الفني في القرآن) ليبرز هذا الجانب، وهو عرض لخاصية من خواص هذا القرآن التي ذكرها الله عزّ وجل بقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وذكر النموذج يدخل تحت هذا الأصل، فعند ما ترى نموذجا يذكره القرآن فلا يخطرن ببالك أن هذه الظاهرة حادثة فرد مضى وانقضى، بل هي نموذج لشخصية تتكرر في كل عصر، دروسها كثيرة والعبر منها لا تتناهى.

المجموعة السابعة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة السابعة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سورتي: (القيامة، والإنسان)

كلمة في المجموعة السابعة

كلمة في المجموعة السابعة المجموعة السابعة سورتان فقط، السورة الأولى تفصل في مقدمة سورة البقرة، والسورة الثانية تفصل فيما بعد المقدمة، وتتكامل السورتان مع بعضهما، والتفصيل هنا جديد ذو طابع خاص، فسورة القيامة تناقش أصل فكرة التكليف، والأسباب التي تدعو الإنسان إلى الفرار من التكليف، فالله عزّ وجل كلف الناس أن يكونوا من المتقين، ولكن كثيرين يفرون من ذلك، إن معالجة هذا الموضوع هو الشئ الرئيسي في سورة القيامة، ثم تأتي سورة الدهر لتفصل فيما بعد المقدمة، فتذكر أنواعا من العبادة، وتفصل فيما أعد الله للكافرين وللمؤمنين، وتفصل في موضوع إنزال القرآن، وهي المعاني التي تحدثت عنها الآيات التي جاءت مباشرة بعد مقدمة سورة البقرة، وإذا كانت سورة الدهر تفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة أي: فيما فصلت فيه سورتا المزمل والمدثر، فإن معاني مشتركة نجدها بين سورة الدهر وبين سورتي المزمل والمدثر، والذي دلنا على أن سورة القيامة بداية مجموعة ابتداؤها بالقسم، والذي دلنا على أن سورة الدهر نهاية مجموعة، أن ما بعدها هو سورة المرسلات المبدوءة بقسم، فهي بداية مجموعة جديدة، والملاحظ أن سورة الدهر مبدوءة بقوله تعالى: أَهْلُ كأختها سورة الغاشية، وسنرى أن سورة الغاشية هي نهاية مجموعتها، فلنبدأ عرض السورتين.

سورة القيامة

سورة القيامة وهي السورة الخامسة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة السابعة من قسم المفصل، وهي أربعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة القيامة

بين يدي سورة القيامة: قال الألوسي: (ويقال لها سورة لا أقسم، وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء، واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون، وفي غيره تسع وثلاثون، والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ. ولما قال سبحانه وتعالى في آخر المدثر: كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ بعد ذكر الجنة والنار، وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث، ذكر جل وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه، ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد، والإيقاعات واللمسات، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه ... تحشدها بقوة، في أسلوب خاص، يجعل لها طابعا قرآنيا مميزا، سواء في أسلوب الأداء التعبيري، أو أسلوب الأداء الموسيقي، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضا!). (من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري، وتضرب بها عليه حصارا لا مهرب منه ... حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي، فلا يملك لها ردا، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا. وهي تتكرر في كل لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعاف؛ ويقف الجميع منها موقفا واحدا ... لا حيلة. ولا وسيلة. ولا قوة. ولا شفاعة. ولا دفع. ولا تأجيل ... مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئا. ولا مفر من الاستسلام لها، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا). (ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا ... وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة،

كلمة في سورة القيامة ومحورها

لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعيها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها. فهي قاطعة في أن هناك إلها واحدا يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة. تمشيا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب). (ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية ... مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس). (وهكذا يشعر القلب- وهو يواجه هذه السورة- أنه محاصر لا يهرب. مأخوذ بعمله لا يفلت. لا ملجأ له من الله ولا عاصم. مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره. في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء. بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر). (وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه. وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن. شأن القيامة. وشأن النفس. وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق. ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف، لأنه من كلام العظيم الجليل، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته، وتثبت في سجل الكون الثابت، وفي صلب هذا الكتاب الكريم). كلمة في سورة القيامة ومحورها: تبدأ سورة القيامة بقسمين لا تجيب عليهما، لأن الجواب مفهوم من سياق السورة، وبعد القسمين يأتي قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ... ثم تسير السورة حتى تصل إلى قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ... مما يشير إلى أن السورة ترد على ظنين اثنين للكافرين كل منهما له علاقة باليوم الآخر، وله علاقة برفض التكليف. وفي وسط السورة توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقي القرآن، وكلام عن موت الكافر، وكيف يلقى الله عزّ وجل بلا إيمان ولا صلاة بل بتكذيب وإعراض، فلنتذكر مقدمة سورة البقرة: تتحدث مقدمة سورة البقرة عن المتقين والكافرين والمنافقين. والمنافقون كافرون،

وكل من الكافرين والمتقين يقف على طرفي نقيض بالنسبة للآخرة، فالكافرون لا يؤمنون ولا يصلون ولا يلتزمون بالقرآن؛ لأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ويتصورون أن الإنسان متروك سدى، بينما المتقون يلتزمون بالقرآن، ويؤمنون، ويصلون، وينفقون؛ لأنهم يؤمنون باليوم الآخر، ويعلمون أنهم غير متروكين. فلمعاني سورة القيامة ارتباط مباشر بمعاني مقدمة سورة البقرة كما سنرى. تتألف السورة من مقدمة هي آيتان، ومن فقرتين كل منهما يبدأ بقوله تعالى: أَيَحْسَبُ*. الفقرة الأولى: تبدأ من الآية (3) وتنتهي بالآية (35) وهي تتألف من عدة مجموعات. الفقرة الثانية: وتبدأ بالآية (36) وتنتهي بالآية (40). فلنبدأ عرض السورة.

مقدمة السورة

مقدمة السورة وهي آيتان وهاتان هما: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) التفسير: لا يراد بها مجرد التوكيد، فهي التي تسمى في غير القرآن زائدة، ويسمونها- أدبا مع القرآن- صلة؛ لأنها لا تفيد نهيا، والذي سوغ مجيئها هنا هكذا أنها جاءت قبل كلام فيه معنى النفي، إذ الكافرون ينفون مجئ يوم القيامة، قال ابن كثير: قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ* وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال قتادة: أقسم بهما (أي: بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة) جميعا، وقال ابن كثير: (والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا) وعلى هذا ف (لا) في الآيتين صلة لا تفيد النفي، وإنما تفيد مجرد التوكيد، فأما يوم القيامة فمعروف، وأما النفس اللوامة فهي النفس التقية التي تلوم على التقصير في التقوى، فهي صفة مدح، قال الحسن البصري في الآية التي فيها ذكر النفس اللوامة: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدما قدما ما يعاتب نفسه. قال ابن جرير بعد أن عرض أقوال المفسرين في النفس اللوامة: والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات. قال النسفي: وجواب القسم محذوف أي: لتبعثن، دليله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي: إن المعاني التي ذكرت بعد هي التي تحدد الجواب، قال ابن كثير: (والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد، من عدم بعث الأجساد). أقول: أن تبدأ السورة التي تتحدث عن المعاد والتكليف بالقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة، تلك مقدمة تدل على المقصود، وتدل على موضوع السورة.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: النفس اللوامة هي النفس التقية إذ لا لوم إلا مع وجود التقوى، فالقسم بالنفس اللوامة قسم بالنفس التقية، وصلة ذلك بالكلام عن المتقين في أول سورة البقرة واضحة، والصلة واضحة كذلك ما بين القسم بيوم القيامة، وبين ما ورد في الكلام عن الإيمان باليوم الآخر في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، وكما أن مقدمة سورة البقرة بدأت بالحديث عن المتقين، ثم انتقلت إلى الحديث عن الكافرين، فكذلك بدأت سورة القيامة بالإشارة إلى المتقين، ثم تنتقل إلى الكلام عن الكافرين.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (3) إلى نهاية الآية (35) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة القيامة (75): الآيات 3 الى 15] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) المجموعة الثانية [سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 19] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) المجموعة الثالثة [سورة القيامة (75): الآيات 20 الى 25] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)

المجموعة الرابعة

المجموعة الرابعة [سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 35] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) تفسير المجموعة الأولى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ قال النسفي: أي: الكافر المنكر للبعث أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أي: يوم القيامة بعد تفرقها ورجوعها رفاتا مختلطا بالتراب، ولذلك فهو لا يؤمن بيوم القيامة، ولا يتقي ولا يلوم نفسه إذا أخطأ، قال ابن كثير: (أي: أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها). كلمة في السياق: مجئ هذا الاستفهام بعد القسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة، يوحي بشيئين: أولا: بمضمون جواب القسم، وثانيا: بالسبب الذي يحمل الإنسان على الكفر بيوم القيامة، وعلى عدم لوم النفس على الخطأ، فالعلة هي تصور الإنسان أن الله عزّ وجل لن يجمعه بعد تفرق أجزائه ويحييه، وهو جهل بقدرة الله عزّ وجل ولذلك قال تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي: بلى نجمعها، قادرين على أن نسوي أصابعه كما كانت في الدنيا بلا نقصان وتفاوت، مع دقة تركيب البنان، فكيف لا نجمع عظامه عامة، والبنان: هو طرف الإصبع، وقد آمن بعضهم بالقرآن لهذه الآية بسبب ذكر البنان الذي فيه بصمات الإنسان التي تختلف من إنسان لآخر في العالم، حتى لو بلغ الناس مليارات كثيرة ما تشابهت بصمات أحدهم مع غيره، ثم قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ قال النسفي: (أي: ليدوم على فجوره

[سورة القيامة (75): آية 6]

فيما يستقبله من الزمان)، وقال الألوسي: (كأنه قيل: دع تعنيفه فإنه أشط من ذلك وأنى يرتدع، وهو يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه)، أقول: هذه هي العلة الحقيقية للكفر بيوم القيامة، وإنكار الحساب أن الإنسان يرغب ألا يقيد أهواءه قيد، ومن ثم فإنه ينكر اليوم الآخر لما يترتب على إيمانه به من قيود وضوابط يقتضيها قبول التكليف الإلهي، ثم قال تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ أي: متى يَوْمُ الْقِيامَةِ، قال ابن كثير: (أي: يقول متى يكون يوم القيامة؟! وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه، وتكذيب لوجوده) قال تعالى مبينا حال هذا اليوم الذي يستبعدون وقوعه: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي: تحير فزعا، قال ابن كثير: والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة، وتخشع وتحار، وتذل من شدة الأهوال، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور وَخَسَفَ الْقَمَرُ قال النسفي: (أي: ذهب ضوؤه أو غاب) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ قال مجاهد: أي: كورا، فأصبحتا كتلة واحدة. أقول: لعل ذلك يكون عند ما تطوى السماء كطي السجل للكتب، فيجمع عند ذلك كل شئ كما قال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ قال ابن كثير: أي: إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر، ويقول أين المفر؟ أي: هل من ملجأ أو موئل، قال الله تعالى: كَلَّا ردع عن طلب المفر لا وَزَرَ أي: لا ملجأ ولا نجاة، أي: ليس لكم مكان تعتصمون فيه إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ قال ابن كثير: أي: المرجع والمصير، وقال النسفي: (أي: مستقر العباد، أو موضع قرارهم من جنة أو نار مفوض ذلك لمشيئة من شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أي: يخبر بِما قَدَّمَ من عمل عمله وَأَخَّرَ ما لم يعمله، قال ابن كثير: أي: يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ قال ابن كثير: أي: هو شهيد على نفسه عالم بما فعله، ولو اعتذر وأنكر، قال النسفي: والبصيرة: الحجة. أقول: والمعاذير: اسم جمع للمعذرة، والمعنى: أن الإنسان يوم القيامة ينبأ بما قدم وأخر، وهو وإن كان ينبأ لكنه هو نفسه يعلم حقيقة نفسه وعمله، ولو اعتذر بلسانه بما اعتذر، ذلك هو شأن يوم القيامة الذي يستبعده الكافر رغبة منه في الفجور عن أمر الله عزّ وجل.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: عرفنا في المجموعة السابقة أن الإنسان الكافر يظن أن الله لن يبعثه، وقد رد الله عزّ وجل على هذا الظن، ثم بين أن السبب الحقيقي لموقف الإنسان هذا هو رغبته في الفجور، وحرصه على عدم التقيد، وعلى الفرار من التكليف، ولذلك فهو يستبعد مجئ يوم القيامة. وبعد ذلك حدثنا الله عزّ وجل عن يوم القيامة الذي يكذب به المكذبون، وما يكون فيه، وكيف أن الكافر نفسه يعلم حقيقة ما كان عليه من ذنب وخطأ، وإن تظاهر بغير ذلك، وبعد أن انتهت هذه المجموعة تأتي مجموعة ثانية، تبدأ بقوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ أي: بالقرآن: هذا مع أنه لم يذكر القرآن قبل ذلك فما سر ذلك؟. 1 - لقد عرفنا في المجموعة الأولى أن السر الحقيقي في كفر الكافرين باليوم الآخر هو إرادة الإنسان في أن يفجر، وأن يستمر في فجوره، أي: في أن يبقى فارا من التكليف، وكتاب التكليف هو القرآن، ومن ثم تأتي المجموعة الثانية لتبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينبغي أن يكون تلقيه لهذا القرآن ولتبين سنة الله عزّ وجل في القرآن. 2 - إن القرآن هو الكتاب الذي جعل الله فيه علم الساعة كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فإن تأتي في ثنايا الكلام عن الساعة مجموعة عن القرآن تؤكد أن هذا القرآن من عند الله، فذلك نوع توكيد لمجئ الساعة، ورد ضمني على الكافرين في إنكارهم لها، فلنر المجموعة الثانية من الفقرة الأولى. تفسير المجموعة الثانية: لا تُحَرِّكْ بِهِ أي: بالقرآن لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أي: بالقرآن إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ أي: في صدرك وَقُرْآنَهُ أي: أن تقرأه، قال النسفي: (وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل عليه السلام كراهة أن يتفلت منه فقيل له: لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك، ثم علل النهي عن العجلة بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك وَقُرْآنَهُ وإثبات قراءته في لسانك والقرآن: القراءة)، وقال ابن كثير: (هذا تعليم من الله عزّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق

[سورة القيامة (75): آية 18]

الملك في قراءته، فأمره الله عزّ وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية، تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه) فَإِذا قَرَأْناهُ أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عزّ وجل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال النسفي: أي: قراءته عليك، وقال ابن كثير: أي: فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال النسفي: إذا أشكل عليك شئ من معانيه، وقال ابن عباس وعطية العوفي وقتادة: أي: تبين حلاله وحرامه. كلمة في السياق: 1 - بينت هذه المجموعة أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلقى هذا القرآن تلقيا، وأنه كان حريصا على حفظه عند التلقي، حتى إنه ليكرر ما يلقى إليه خشية نسيانه إلى أن نهاه الله عزّ وجل عن ذلك، وضمن له أن يجمع له هذا القرآن وأن يجعله يقرؤه دون نسيان، وأن يبين له معانيه، وكل ذلك يدل على أن هذا القرآن من عند الله، فإذا ثبت ذلك وكان القرآن يتحدث عن اليوم الآخر والتكليف، فالحجة قائمة على وجوب القيام بالتكليف، وعلى ضرورة الإيمان باليوم الآخر، ومن ثم يعود الحديث بعد هذه المجموعة إلى الكلام عن اليوم الآخر. 2 - ثم تأتي المجموعة الثالثة وهي تتحدث عن الطبيعة البشرية التي تحب الدنيا وتترك الآخرة بالرغم من فضل الآخرة على الدنيا، وتأتي هذه المجموعة بعد ذكر القرآن، مما يشير إلى أن هذا سبب آخر من أسباب هجر القرآن والتكليف. تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الأولى: كَلَّا ردع عن إنكار البعث بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي: الدنيا وشهواتها وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أي: الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها، قال ابن كثير: (أي: إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة، ومخالفة ما أنزله الله عزّ وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة)، وبعد أن ذكر الله عزّ وجل حب الإنسان للدنيا وتركه للآخرة ذكر ما يهيج على طلب الآخرة بذكر كرامة الله للمؤمنين فيها وإهانته للكافرين فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: حسنة ناعمة، قال ابن كثير: أي: حسنة بهية

[سورة القيامة (75): آية 23]

مشرقة مسرورة إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال ابن كثير: أي: تراه عيانا، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي: كالحة شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار، قال ابن كثير: هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة تَظُنُّ أي: تستيقن أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي: داهية تقصم فقار الظهر. كلمة في السياق: 1 - ذكر في المجموعة الأولى سبب من أسباب الفرار من التكليف، وذكر في المجموعة الثالثة سبب آخر من أسباب الفرار من التكليف، وذكر في الوسط، كتاب التكليف. 2 - وذكر في المجموعة الأولى تفصيل عن اليوم الآخر، وذكر في المجموعة الثالثة حال أهل الإيمان وأهل الكفر فيه، وذكر في الوسط الكتاب الذي يفصل في العلم والطريق الذي به تكون النجاة والكرامة، وبالإعراض عنه يكون الهلاك والإهانة. 3 - أنكرت المجموعة الثالثة على من يحب الدنيا، وفي ذلك تربية على أصل من أصول التقوى، وبيان لكون الإيمان بالآخرة يقتضي محبتها وتفضيلها على الدنيا. 4 - وبعد المجموعة الثالثة تأتي مجموعة تتحدث عن احتضار الكافر وموته وهي لحظة الانتقال من الدنيا إلى عوالم الآخرة، ومجئ المجموعة في هذا السياق تذكير للإنسان الذي يفضل الدنيا على الآخرة، وتذكير للإنسان الذي يفر من التكليف بالموت الذي هو الواعظ الكبير للغافلين والسادرين والفاجرين، وهكذا تعظ السورة أعظم الوعظ لتبعث الهمة على القيام بأمر الله والعمل للآخرة، فتذكر بالآخرة وتذكر بهذا القرآن، وتذكر بالموت. تفسير المجموعة الرابعة من الفقرة الأولى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ أي: الروح التَّراقِيَ وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال، والتراقي: جمع ترقوة. قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال- ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت-: إن جعلنا كلا رادعة فمعناها: لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا، وإن جعلناها بمعنى: حقا فظاهر، أي: حقا إذا بلغت التراقي، أي: انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك وَقِيلَ مَنْ راقٍ قال النسفي: أي: قال حاضرو المحتضر بعضهم

[سورة القيامة (75): آية 28]

لبعض أيكم يرقيه مما به؟ من الرقية، أو هو من كلام الملائكة أيكم يرقى بروحه، أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟ من الرقي، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ قال النسفي: (أي: أيقن المحتضر أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قال مجاهد: أي: الأمر العظيم بالأمر العظيم، أي: بلاء ببلاء، وقال الضحاك: اجتمع عليه أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، وقال ابن عباس: التفت عليه الدنيا والآخرة، وقال: آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله، وقال النسفي: التوت ساقاه عند موته، وعن سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ قال ابن كثير: أي: المرجع والمآب، وذلك أن الروح ترفع إلى السموات فيقول الله عزّ وجل: ردوا عبدي إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. أقول: ذكر ابن كثير في أكثر من مكان من هذا التفسير أن الحديث الذي مضمونه: «روح المؤمن تكون في جوف طير تسرح في الجنة» ولعل الروح التي يأمر الله عزّ وجل بردها هي روح الكافر؛ فإنها لا تفتح لها أبواب السماء، أما روح المؤمن فسيبقى لها تعلق في الجسد، ولكن لها مراحا في الجنة، ثم أخبر تعالى عن الكافر بماذا يستقبل آخرته فقال: فَلا صَدَّقَ أي: فلا آمن بالرسول والقرآن واليوم الآخر وَلا صَلَّى لله في حياته وَلكِنْ كَذَّبَ بالله ورسله وملائكته واليوم الآخر والقدر وَتَوَلَّى عن الصلاة والزكاة، والاهتداء بكتاب الله ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى قال ابن كثير: أي: جذلان أشرا بطرا كسلانا لا همة له ولا عمل، وفسر النسفي: التمطي بالتبختر، قال: وأصله: يتمطط أي: يتمدد. أقول: أي: غير مبال، غير مكترث بشيء كأنه لم يخلق لعبادة وتكليف وقيام بأمانة أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا إما خطاب للكافر المتبختر في الدنيا، أو هو خطاب للكافر في الآخرة. فإن كان في الدنيا يكون المعنى: أولى لك أيها الكافر غير هذا، ثم أولى لك فأولى غير هذا من الإيمان والصلاة واتباع كتاب الله، وإن كان الخطاب في الآخرة يكون المعنى: أولى لك أيها الكافر فأولى أن تلقانا بغير هذا، ثم أولى لك فأولى أن تلقانا بغير ما لقيتنا به من التكذيب والإعراض عن الحق، وهكذا أرتنا المجموعة العاقبة المخزية للكافرين الذين لا يتقون الله، وفي ذلك دعوة للإنسان أن يكون من المؤمنين المصلين الملتزمين بما كلفهم الله عزّ وجل به، وبهذا انتهت المجموعة الرابعة وبها انتهت الفقرة الأولى.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بدأت الفقرة الأولى بذكر ظن الكافرين أن الله عزّ وجل لن يبعثهم، وردت على ذلك مرة ومرة، ووعظت مرة ومرة ومرة، وبينت الدوافع وراء هذه العقيدة وردتها، وفي ذلك تبيان للطريق الصحيح طريق المتقين، وتبيان للطريق الخاطئ طريق الكافرين، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة واضحة. 2 - وتأتي الفقرة الثانية وهي تبدأ بعرض ظن آخر للكافرين، وهو تصورهم أنهم متروكون مهملون لا يؤمرون ولا ينهون ولا يبعثون ولا يجازون، وهو التصور الموجود عند أكثر الخلق وترد عليه، فلنر الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (36) إلى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (40) وهذه هي: [سورة القيامة (75): الآيات 36 الى 40] أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) التفسير: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قال ابن كثير: (قال السدي يعني: لا يبعث، وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: لا يؤمر ولا ينهى، والظاهر أن الآية تعم الحالتين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث بل هو مأمور منهي في الدنيا، محشور إلى الله في الدار الآخرة، والمقصود هنا إثبات المعاد والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد). أقول: أنكرت الآية على من يظن أنه لا تكليف ولا حساب، وهذا هو تصور عامة الخلق، وهو علة عصرنا، وقد رد الله عزّ وجل على هذا التصور بقوله: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي: من مني يراق في الرحم، قال ابن كثير: أي: أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين يمنى، يراق من الأصلاب في الأرحام؟! ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي: ثم صار المني علقة في المرحلة الأولى من مراحل تكون الجنين فَخَلَقَ فَسَوَّى قال النسفي: فخلق الله منه بشرا سويا، ومن ثم قال تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بإذن الله وتقديره أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال النسفي: أليس الفعال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة، قال ابن كثير: (أي: أليس هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه) الجواب الحتمي: بلى، فإذا كان الأمر كذلك وقد أخبرنا الله أنه سيعيدنا فلا بد من الإعادة، وقد أخبرنا عزّ وجل أنه سيحاسبنا فلا بد من الحساب، وإذا كان حساب فلا بد من تكليف في هذه الدار، والتكليف يقتضى إرسال رسول، وانزال وحى، وقد كان

كلمة في السياق

ذلك فعلى الإنسان أن يبدأ البداية الصحيحة، فيؤمن بالقرآن وبالرسول، ويقوم بحق الله عزّ وجل فيصلي وينفق ويستعد للقاء الله عزّ وجل. كلمة في السياق: 1 - وهكذا رأينا السورة ردت على التصورات الكافرة في شأن اليوم الآخر والتكليف؛ فعمقت ضرورة الإيمان والقيام بالتكليف، وتلك هي البديهيات الأولى التي تقوم عليها قضية التقوى، فلنر الآن السياق الخاص للسورة، وصلتها بمحور السورة العام. أ- السياق الخاص: بدأت السورة بالقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة، وبذلك أشعرتنا بموضوعها أنها تؤكد مجئ يوم القيامة، وضرورة أن تكون نفس الإنسان تقية، وإذا كان الكافرون لا يؤمنون باليوم الآخر، فقد ردت السورة على ذلك من خلال لفت النظر إلى قدرة الله، وإلى كون هذا القرآن الذي تحدث عن اليوم الآخر من عند الله، ومن خلال تصحيح نظرة الإنسان إلى الدنيا والآخرة، ومن خلال التذكير بالموت، ثم ردت على تصور الكافرين أنهم غير مسئولين أمام الله، وهو الداء الدوي الذي يظهر في عصرنا بأشكال متعددة: حرية الإنسان المطلقة في المذاهب الوجودية، وحرية الإنسان في التشريع في المذاهب السياسية، وأمثال ذلك. ب- السياق العام: قلنا إن السورة تفصل في مقدمة سورة البقرة التي تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين. ولما كان المنافقون كافرين فمرجع الناس إذن إلى قسمين: كافرين ومتقين، فلنر ماذا فصلت السورة في هذا الشأن: - الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ذكرت السورة معنى يؤكد أن هذا القرآن من عند الله، ووجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الصيغة الصحيحة للتلقي، وذكرت سنة الله عزّ وجل في شأن هذا القرآن، وبينت قضية التكليف، ومسئولية الإنسان، وصلة ذلك بالقرآن واضحة. - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ذكرت السورة النتائج الخطيرة التي تترتب على عدم الإيمان وإقامة الصلاة: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى.

الفوائد

- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فصلت السورة في شأن الآخرة كثيرا كما رأينا. - أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ذكرت السورة مظهرا من مظاهر الفلاح: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ذكرت السورة علل الكفر الرئيسية وفندتها، وتعرضت لأنواع من العذاب تصيب أهلها. وهكذا نجد أن السورة فصلت في المحور، ولكن بشكل جديد كالعادة كلما جاءت مجموعة جديدة. 2 - يلاحظ أن سورة المدثر جاء في أواخرها عن الكافرين كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ وتأتي سورة القيامة لتحدثنا عن الكافرين وموقفهم من يوم القيامة، ويلاحظ أن سورة القيامة انتهت بقوله تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ... وتأتي سورة الدهر مبدوءة بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً وهكذا نجد أن للسورة صلاتها مع ما قبلها، ومع ما بعدها، وصلتها بمحورها من سورة البقرة، هذا مع أن لها سياقها الخاص، ووحدتها وجرسها وخواصها التي تكاد تتفرد بها، شأنها في ذلك شأن كل سورة في القرآن الكريم، إنه لا بد أن يكون في كل سورة من سور القرآن جديد، ومن ثم فلا يخطرن ببال أحد أن قراءة بعض القرآن تنوب عن قراءته كله، نعم كل سورة منه تذكر وتعظ، وكل مجموعة منه تذكر بكل المعاني الأساسية، ولكن معاني القرآن مبثوثة فيه كله وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ فليكن القرآن هجيرنا في أوقاتنا كلها إن استطعنا. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال الألوسي: (وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الأمارة وتحت المطمئنة، وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، وقالوا: هي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة، وعرفوا اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة. فكلما صدر عنها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها، وعرفوا

المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة، وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة، ومنهم من قال في اللوامة: هي المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة، ومنهم من قال: هي فوق المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها، إلى غير ذلك). 2 - في الجزء الثاني من كتاب (الطب محراب للإيمان) بحث مستفيض تحت عنوان: (تفرد شخصية الإنسان والبصمة) أشار فيه صاحبه إلى الإعجاز في قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ونحن ننقل هاهنا بعض عبارات المؤلف لندرك أهمية الإشارة القرآنية إلى البنان: (إن هوية الإنسان وشخصيته تكمن بشكل محدد ومنفرد في البصمة، فقد يتقارب الطول، أو يتشابه القد، أو يختلط لحن الصوت، ومزاج النفس، وأخلاط البدن، قد تضيع الفروق الفردية وتتشابه الوجوه، ولكن هناك شيئا محددا لا يتشابه، إنه البصمة، أو ختم الإنسان الخاص، المميز لشخصية إنسانية واحدة. ذكر الدكتور هنري فولدز أنه أخذ انطباعات مومياء مصرية قديمة، وأمعن النظر في أثر الخطوط الحليمية فوجدها كأنها بنت يومها، وعلى أتم جلاء ووضوح، وعثر في الدنمارك على جثة رجل في حفرة رطبة قدر المختصون عمرها بأكثر من ألفي سنة، والغريب أن الجسم لم يفن طوال هذه الحقبة الطويلة من الزمن، وظلت البصمات واضحة الخطوط، حتى إن بعض الخبراء تمكنوا من عمل قوالب لها. حاول عدد من المجرمين في الولايات المتحدة وفي مدينة شيكاغو بصورة خاصة محو هذا الخاتم الإلهي!! بمحو أو تغيير أو تحريف لأشكال الخطوط الحليمية في رءوس أصابعهم مستخدمين طرقا مختلفة، ولكن محاولاتهم باءت جميعها بالفشل. إن فرصة تكرر بصمتين بآن واحد هي نفس فرصة العثور على حبة معينة من الرمال تقبع بمكان ما في الصحراء الكبرى أو الربع الخالي. لقد قدر غالتون أن ثمة أقل من فرصة من أربع وستين مليارا لتكرار بصمة واحدة مرتين في وقت واحد). 3 - بمناسبة قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه قال: فقال لي ابن عباس: أنا أحرك شفتي كما كان

رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه، وقال لي سعيد: وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه فأنزل الله عزّ وجل لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي: فاستمع له وأنصت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه. وقد رواه البخاري ومسلم من غير وجه عن موسى بن أبي عائشة به. ولفظ البخاري: «فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزّ وجل» وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه يتلقى أوله ويحرك به شفتيه؛ خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، فأنزل الله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد: إن هذه الآية نزلت في ذلك). 4 - بمناسبة قوله تعالى عن الروح: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ قال الألوسي: (والذي عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا أن النفس- وهي الروح الأمرية-: جسم لطيف جدا ألطف من الضوء عند القائل بجسميته، والنفس الحيوانية مركب لها، وهي سارية في البدن نحو سريان ماء الورد في الورد، والنار في الفحم، وسريان السيال الكهربائي عند القائل به في الأجسام، والأدلة على جسميتها كثيرة، وقد استوفاها الشيخ ابن القيم في كتاب الروح وأتى فيه بالعجب). أقول: هذا نموذج من كلام علمائنا الأقدمين على التفريق بين الحياة والروح، فالجنين قبل نفخ الروح فيه حي، وبعد نفخ الروح فيه تصبح شخصيته مستقلة فيها حياة ولها روح، والإنسان بعد وفاته قد تبقى بعض أجزائه حية إلى أمد ولكن لا روح فيها. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال ابن كثير: أي: تراه عيانا كما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه: «إنكم سترون ربكم عيانا». وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عزّ وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها، لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين: أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة! فقال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟» قالوا: لا، قال: «إنكم ترون ربكم كذلك». وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا». وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزّ وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن». وفي أفراد مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة- قال- يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة» ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ. وفي أفراد مسلم عن جابر في حديثه: «إن الله يتجلى للمؤمنين يضحك» يعني: في عرصات القيامة ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عزّ وجل في العرصات وفي روضات الجنات. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين» ورواه الترمذي. ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضع من هذا التفسير وبالله التوفيق، وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام، ومن تأول ذلك المراد بإلى- مفرد الآلاء- وهي النعم كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: تنتظر الثواب من ربها، رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد وكذا قال أبو صالح أيضا: فقد أبعد هذا الناظر النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ؟ قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عزّ وجل، ثم قد تواردت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ روى ابن جرير عن الحسن وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ قال: حسنة إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق). وقال صاحب الظلال عند هاتين الآيتين: (إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء. أو الليل

الساجي. أو الفجر الوليد. أو الظل المديد. أو البحر العباب. أو الصحراء المنسابة. أو الروض البهيج. أو الطلعة البهية. أو القلب النبيل. أو الإيمان الواثق. أو الصبر الجميل ... إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود ... فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة. وتتوارى عنها أشواك الحياة، ما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء. فكيف؟ كيف بها وهي تنظر- لا إلى جمال صنع الله- ولكن إلى جمال ذات الله؟ ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله. ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله. ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك! وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وما لها لا تتنضر؛ وهي إلى جمال ربها تنظر؟ إن الإنسان لينظر إلى شئ من صنع الله في الأرض. من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل. فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة. فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال. مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شئ ما سوى النظر إلى الله ... ). 6 - بمناسبة قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى قال ابن كثير: (وروى أبو عبد الله النسائي عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى؟ قال: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ثم أنزله الله عزّ وجل). 7 - بمناسبة قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً قال صاحب الظلال: (فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية ... أرحام تدفع وقبور تبلع ... وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب من متاع الحيوان ... فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة؛ وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى

حساب وجزاء. وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء ... أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شئ بقدر، وتنهي كل شئ إلى نهاية ... أما هذا فكان أبعد شئ عن تصور الناس ومداركهم في ذلك الزمان. والذي يميز الإنسان عن الحيوان، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات. وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني، ومن الوجود كله من حوله. وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته، ودقة تصوره لوجود الناموس، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس. فلا يعيش عمره لحظة لحظة، ولا حادثة حادثة، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل. ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه. ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثا ولا تتركهم سدى. وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك، وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديما وحديثا). 8 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال ابن كثير: (وروى أبو داود عن إسماعيل بن أمية قال: سمعت أعرابيا يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى فليقل: بلى، ومن قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ فبلغ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فليقل آمنا بالله» ورواه أحمد عن سفيان بن عيينة ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة به، وقد رواه شعبة عن إسماعيل بن أمية قال: قلت له: من حدثك: قال: رجل صدق عن أبي هريرة، وروى ابن جرير ... عن قتادة، قوله تعالى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحانك وبلى». ثم روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه مر بهذه الآية أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ قال: سبحانك فبلى).

كلمة أخيرة في سورة القيامة

كلمة أخيرة في سورة القيامة: إن سورة القيامة تذكرنا بمعان عملية: منها: أن نعتاد على محاسبة النفس ولومها على المعصية أو التقصير، وأن ننوي أن نقوم بحق الله فيما يأتي، ومنها أن نتلقى هذا القرآن بالإنصات الكامل، ومنها أن نحب الآخرة ونزهد في الدنيا، ومنها أن نؤمن وأن نصلي، ومنها نعلم أننا مسئولون أمام الله عزّ وجل ومحاسبون، فلنأخذ هذه المعاني بقوة.

سورة الإنسان

سورة الإنسان وهي السورة السادسة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية والأخيرة من المجموعة السابعة من قسم المفصل، وهي إحدى وثلاثون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الإنسان

بين يدي سورة الإنسان: قدم الألوسي لسورة الإنسان بقوله: (وتسمى سورة الدهر، والأبرار، والأمشاج، وهل أتى. وهي: مكية عند الجمهور على ما في البحر، وقال مجاهد وقتادة: مدنية كلها، وقال الحسن وعكرمة والكلبي: مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، وقيل: مدنية إلا من قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور، وعليه الشيعة، وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف. والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح). ومن تقديم صاحب الظلال لهذه السورة نقتطف ما يلي: (والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء. وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. وبعد هذه اللمسات الثلاثة الموحية، وما تثيره في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء، ثم نظرة إلى الإمام، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق ... بعد هذه اللمسات الثلاثة تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار ... وترغيبه في الجنة، بكل صور الترغيب، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم. فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود، اتجه الخطاب إلى

كلمة في سورة الإنسان ومحورها

رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيته على الدعوة- في وجه الإعراض والكفر والتكذيب- وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق). كلمة في سورة الإنسان ومحورها: ختمت سورة القيامة بقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، وافتتحت سورة الإنسان بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً فالصلات قائمة بين نهاية سورة القيامة وبداية سورة الإنسان. وبعد مقدمة سورة البقرة التي فصلت فيها سورة القيامة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وتبدأ سورة الإنسان بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً وبعد آية من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وبعد الآيتين الأوليين من سورة الإنسان يأتي قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً وفي الآية اللاحقة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وفي الآية اللاحقة من سورة الإنسان يأتي قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً وبعد تلك الآية من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... وبعد تلك الآية من سورة الإنسان يرد قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ويأتي بعد ذلك بقليل كلام عن بعض الأعمال الصالحة التي استحقوا بها ما استحقوا: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً ... وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ... ، وتختم السورة بتأكيد المعاني التي ذكرت في الآيات الخمس بعد المقدمة من سورة البقرة، فتقرر أن الله عزّ وجل هو الذي أنزل القرآن، وتنهى عن طاعة الآثمين والكافرين، وتأمر بالذكر وقيام الليل، ولذلك صلاته

بالآيات الآتية بعد مقدمة سورة البقرة. والملاحظ أنه بعد مقدمة سورة البقرة مباشرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ وفي الآية الأولى من سورة الإنسان يأتي قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ والسورة نفسها اسمها سورة الإنسان، وهذا يجعلنا نستأنس على أن محور السورة هو الآيات الآتية بعد المقدمة. والملاحظ أن سورة المزمل ورد فيها قوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وورد فيها قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا وورد فيها قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وأن سورة الإنسان ورد فيها قوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا* وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وورد فيها قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا والملاحظ أن سورتي المزمل والمدثر ورد في الأولى منهما قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وفي الثانية منهما وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ وورد في الثانية منهما أيضا كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ وورد في سورة الإنسان وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا وتختم سورة المدثر بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وسورة الإنسان تختم بقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ومثل هذا التشابه بين معان في سورة الإنسان، ومعان في سورتي المزمل والمدثر، يجعلنا نستأنس أن محور سورة الإنسان هو محور سورتي المزمل والمدثر، فسورة الإنسان تشرح الطريق، كما أن سورتي المزمل والمدثر تشرحان الطريق. تتألف السورة من مقدمة هي آيتان، ومن فقرتين واضحتي المعالم، كل منهما مبدوء بقوله تعالى: إِنَّا* الأولى مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ

المقدمة والفقرة الأولى

إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، والفقرة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. الأولى تستمر حتى نهاية الآية (22) والثانية تستمر حتى نهاية السورة أي: حتى نهاية الآية (31)، ولنبدأ عرض السورة. المقدمة والفقرة الأولى المقدمة آيتان، والفقرة الأولى تنتهي بنهاية الآية (22) وهذه هي الآيات: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

التفسير

التفسير: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته وضعفه، ثم بين ذلك فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي: أخلاط، قال ابن عباس: يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون وهكذا نَبْتَلِيهِ أي: نختبره، قال النسفي: أي: خلقناه مبتلين، أي: مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي: ذا سمع وبصر. أقول: فعلى هذا الاتجاه تكون الآية الثانية مفسرة للآية الأولى، فيكون المراد بالحين الذي كان فيه الإنسان لا شئ يذكر أول مرحلة من مراحل خلقه، أي: ساعة أن أصبح علقة، ويمكن أن يكون المراد في الآية الأولى المرحلة السابقة على ذلك عند ما كان الإنسان بعد ذرات تراب، ثم أصبح غذاء، ثم تحول إلى حيوان منوي، ففي كل هذه الحالات كان الإنسان شيئا غير مذكور، وعلى هذا القول تكون الآية الثانية تتحدث عن مرحلة ثانية من مراحل خلق الإنسان، ويمكن أن يراد بالآية الأولى الحديث عن آدم قبل نفخ الروح فيه، وفي الآية الثانية نسله، وعلى كل حال فالآيتان تذكران الإنسان بأصل النشأة التي تذكره بعجزه، وأنه تحت القدرة والمشيئة، وأن هذا يقتضي منه اعترافا وشكرا وتحقيقا للحكمة من خلقه، وهي النجاح في الامتحان، وذلك بأن يعبد الله ويتقيه، وبذلك يكون شاكرا غير كافر.

[سورة الإنسان (76): آية 3]

إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ قال النسفي: (أي: بينا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع)، وقال ابن كثير: (أي: بيناه له ووضحناه وبصرناه به) إِمَّا شاكِراً أي: مؤمنا عابدا تقيا وَإِمَّا كَفُوراً أي: كافرا. كلمة في السياق: 1 - ذكرت الآية الثانية حكمة خلق الإنسان بأنه الابتلاء أي: الاختبار، وذكرت الآية الثالثة انقسام الناس نتيجة الاختبار إلى شاكرين وكافرين، وفي الآيات الثلاث ذكر كل ما يستدعي من الإنسان أن يشكر من خلقه بعد إذ لم يكن، وخلقه وهو يملك آلات الفهم للوصول إلى النجاح في الاختبار، وهداية إلى الطريق الصحيح، فإذا اختار الكفر ولم يشكر فالحجة قائمة عليه. 2 - قسمت الآية الأخيرة الناس إلى قسمين: شاكرين وكافرين، والشكر طريقه التقوى قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ومن هاهنا ومما مر من قبل ندرك صلة الآيات بمحور السورة يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، بعد الآيات الثلاث تأتي مجموعة تتحدث عما أعد الله عزّ وجل للكافرين والشاكرين، قال النسفي: لما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال: إِنَّا أَعْتَدْنا أي: هيأنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً أي: نارا موقدة، والسلاسل جمع سلسلة، والأغلال جمع غل، قال ابن كثير: يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه من السلاسل والأغلال والسعير، وهو اللهب والحريق في نار جهنم. كلمة في السياق: 1 - بعد أن ذكر الله عزّ وجل انقسام الناس إلى شاكرين وكافرين، بدأ بذكر ما أعد للكافرين، وثنى بما أعد للشاكرين، وسيستغرق ذلك تتمة آيات الفقرة الأولى. 2 - لنتذكر محور السورة من سورة البقرة، بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله

[سورة الإنسان (76): آية 5]

تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقد رأينا صلة الآيات الثلاث من السورة بهذا الجزء من سورة البقرة، وبعد هاتين الآيتين يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ لاحظ صلة مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا بقوله تعالى في سورة الإنسان: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وصلة قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ بقوله تعالى في سورة الإنسان: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً. 3 - بعد قوله تعالى في سورة البقرة عن النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ويأتي بعد قوله تعالى في سورة الإنسان: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ... أي: يأتي كلام عما يبشر الله عباده المؤمنين، ويستمر هذا حتى نهاية الفقرة الأولى، ويرد خلال ذلك ذكر لبعض مضامين الإيمان، وذكر لبعض الأعمال الصالحة، فلنر إذن تتمة الفقرة بعد أن عرفنا محلها في السياق القرآني العام، أي: صلتها بمحور السورة من سورة البقرة، وأما محلها في سياق السورة الخاص فإنه بعد أن ذكر الله عزّ وجل أن الناس قسمان كافر وشكور، وذكر ما أعده للأشقياء من السعير يذكر جل جلاله ما أعده للسعداء الأبرار الشاكرين. إِنَّ الْأَبْرارَ فسر بعضهم الأبرار بأنهم الذين لا يؤذون الغير ولا يضمرون الشر، أقول: لقد فسر الله البر في آية البر من سورة البقرة، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم البر بقوله: «والبر ما اطمأنت إليه النفس» فالأبرار هم أصحاب هذه المقامات يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ قال النسفي: أي: من خمر، فنفس الخمر تسمى كأسا، وقيل: الكأس: الزجاجة إذا كان فيها خمر كانَ مِزاجُها أي: ما تمزج به كافُوراً

[سورة الإنسان (76): آية 6]

قال النسفي: أي: ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور، ورائحته وبرده عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال النسفي: (أي: يجرونها حيث شاءوا من منازلهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم، وقال ابن كثير: أي: يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا من قصورهم ودورهم، ومجالسهم ومحالهم، والتفجير هو الإنباع. وقال: وقد علم ما في الكافور من التبريد، والرائحة الطيبة، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة، أقول: قد علم أنه ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، فالاسم واحد والطعم مختلف، وقال ابن كثير في الآية: (أي: هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج، ويروون بها، وقال بعضهم: هذا الشراب في طيبه كالكافور، وقال بعضهم: هو من عين كافور) ثم بين بما استحقوا ذلك فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال النسفي: (أي: يوفون بما أوجبوا على أنفسهم ... ) والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوافر على أداء الواجبات؛ لأن من وفى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى وَيَخافُونَ يَوْماً هو يوم القيامة كانَ شَرُّهُ أي: شدائده مُسْتَطِيراً أي: منتشرا، قال ابن كثير: أي: منتشرا عاما إلا من رحم الله وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي: على حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه، أو على حب الله مِسْكِيناً أي: فقيرا عاجزا عن الاكتساب وَيَتِيماً أي: صغيرا لا أب له وَأَسِيراً أي: مأسورا، وقد كان أسير المسلمين زمن نزول الوحي كافرا فعرفنا أن خيرهم يمتد إلى الكافر فضلا عن المسلم، ثم عللوا لإطعامهم فقالوا إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي: لطلب ثوابه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي: مكافأة أو هدية على ذلك وَلا شُكُوراً أي: ثناء، وهذه علامة الإخلاص أن تفعل الخير لا تريد عليه جزاء ولا ثناء، وليس شرطا أن يقولوا هذا لمن يقدمون له الخير، وإنما المراد أن يكون ذلك قائما في أنفسهم، فالآية تحتمل أن تكون بيانا من الله عزّ وجل عما في ضمائرهم؛ لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم، وإن لم يقولوا شيئا. قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً القمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه، وفسر ابن عباس العبوس بالضيق، والقمطرير بالطويل. قال ابن كثير في الآية: أي: إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير، وقال النسفي: أي: إنا

[سورة الإنسان (76): آية 11]

لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف (أي: في ذلك اليوم) قال تعالى مبشرا لهم أنه سيعطيهم ما أملوه: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي: صانهم من شدائده وَلَقَّاهُمْ أي: أعطاهم بدل عبوس الكفار في ذلك اليوم نَضْرَةً أي: حسنا في الوجوه وَسُرُوراً أي: فرحا في القلوب، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي: بسبب صبرهم جَنَّةً أي: بستانا فيه مأكل هنيء وَحَرِيراً أي: ملبسا بهيا، قال ابن كثير في الآية: أي: منزلا رحبا وعيشا رغدا ولباسا حسنا، أقول: دلت الآية على أنه بتحققهم بمقام الصبر نالوا ما نالوا بصبرهم على الطاعات، وصبرهم عن المعاصي، وصبرهم على مكارم الأخلاق، وصبرهم على الابتلاءات مُتَّكِئِينَ فِيها أي: في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي متكآتهم على الأسرة لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً الزمهرير: البرد الشديد، وقيل: القمر، وعلى القول الأخير يكون معنى الآية: إن الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر، وعلى القول الأول يكون معنى الآية كما قال ابن كثير: أي: ليس عندهم حر مزعج، ولا برد مؤلم، بل هي مزاج واحد، دائم سرمدي لا يبغون عنها حولا، وقال النسفي في الآية: لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم، وهواؤها معتدل لا حر شمس يحمي، ولا شدة برد تؤذي وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي: قريبة منهم ظلال أشجارها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا قال النسفي: سخرت للقائم والقاعد، والمتكئ، وقال ابن كثير: (أي: متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع ... قال مجاهد: إن قام ارتفعت معه بقدر، وإن قعد تذللت له حتى ينالها، وإن اضطجع تذللت له حتى ينالها ... وقال قتادة: لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ أي: من فضة، والكوب هو الكوز الذي لا عروة لها ولا خرطوم، قال ابن كثير: أي: يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام، وهي من فضة، وأكواب الشراب، وهي من فضة كانَتْ أي: هذه الأكواب قَوارِيرَا قال ابن كثير: قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج، فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة بدا ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا، ثم فسر الله عزّ وجل هذه القوارير بقوله: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي: جعلها السقاة على قدر ري شاربها، فهي

[سورة الإنسان (76): آية 17]

ألذ لهم وأخف عليهم، قال ابن كثير: أي: على قدر ريهم لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي معدة لذلك، مقدرة بحسب ري صاحبها ... وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة وَيُسْقَوْنَ فِيها قال ابن كثير: أي: ويسقون يعني: الأبرار أيضا في هذه الأكواب كَأْساً أي: خمرا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قال ابن كثير: فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور، وهو بارد وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، مع العلم أنه ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، أما الماهية فشئ شبيه لكنه على حال غير حاله في الدنيا فهناك تقدم الأشياء مكتملة اللذة بلا تنغيص عَيْناً فِيها أي: في الجنة تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قال ابن كثير: أي: الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا، وقال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة مسيلها، وحدة جريها ... وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق، واختار هو أنها تعم ذلك كله، وهو كما قال. أقول: فخمرة الأبرار في الجنة تارة ممزوجة بماء عين الكافور، وتارة ممزوجة بماء عين الزنجبيل، ثم بين الله عزّ وجل من يطوف على أهل الجنة بالخدمة فقال: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي: على أهل الجنة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي: لا يموتون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لحسنهم وصفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً قال النسفي: وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم، وقال ابن كثير: (أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم، وثيابهم، وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه)، وفسر ابن كثير قوله تعالى: مُخَلَّدُونَ بقوله: (أي: على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن المعنى بذلك؛ لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير). أقول: وهل هؤلاء الغلمان من أبناء الدنيا، أو خلقهم الله ابتداء لخدمة عباده: في الجنة؟ قولان: قال النسفي: غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدما لأهل الجنة وَإِذا رَأَيْتَ يا محمد أو أيها المخاطب ثَمَّ أي: هناك يعني: في الجنة نعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور، أي: إذا اكتسبت رؤية الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً فليس نعيما فقط ولا ملكا فقط، بل نعيم كثير

[سورة الإنسان (76): آية 21]

وملك كبير، قال ابن كثير: (وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ قال ابن كثير: (أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر كما هو المعهود في اللباس) وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ أي: جعل لهم حلية أساور من فضة، أقول: يجمل اللباس إذا وافق مجموعة أمور، ويحلو إذا توافرت فيه شروط، وما يجمل في مكان وزمان وبيئة، وما يحلو على إنسان أو يناسبه قد لا يجمل ولا يحلو في مكان أو على إنسان، ولباس أهل الجنة وحليتهم هي في الكمال الأعلى بما يناسب مجموع ما في الجنة، وبما يتناسب مع الذوقية العامة فيها، كيف لا يكون ذلك وليس في الجنة إلا الكمال؟! ثم قال تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ قال النسفي: أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص شَراباً طَهُوراً قال ابن كثير: (أي: طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هناك عينين، فكأنما ألهموا ذلك، فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن)، وفهم النسفي أن الآية يراد بها التذكير بالفارق بين خمر الدنيا النجسة، وخمر الآخرة الطهور، ليعلم أن خمر الآخرة تختلف عن خمر الدنيا، ثم قال تعالى: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً قال النسفي: أي: محمودا مقبولا مرضيا عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً أقول: السعي المشكور في الآية أعم من أن يكون المراد به هذا وحده، إذ يدخل فيه العمل الصالح كله، قال ابن كثير في الآية: أي: يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا إليهم. كلمة في السياق: بدأت الفقرة الأولى من السورة بالحديث عن هداية الإنسان فقالت: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً وتحدثت مباشرة عن جزاء الكافرين وجزاء الشاكرين، ثم تأتي الفقرة الثانية لتحدثنا عن طريق الهداية بعد أن فصلت الفقرة الأولى

في الجزاء، فأوجدت الاستعداد الكامل للسير في طريق الهداية، ومن ثم نجد الفقرة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ونجد في نهاية الفقرة قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا ... وعلى هذا يكون التسلسل العام لسياق السورة على الشكل التالي: 1 - بدأت السورة بتذكير الإنسان بخلقه، وبحكمة الخلق، وأنها الابتلاء، وثنت بعلامة النجاح والخسران في هذا الابتلاء: الشكر أو الكفر، وذكرت عاقبة الكفر، وعاقبة الشكر، وثلثت بذكر الطريق للنجاح في الامتحان والترابط على أشده بين هذه المعاني وبين بداية السورة ونهايتها، بين أواسطها وبداياتها ونهاياتها. 2 - إن هناك تلازما بين قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ في بداية الفقرة الأولى، وبين قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا في بداية الفقرة الثانية، فهداية الله عزّ وجل الإنسان السبيل إنما هي بهذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والناس أمام ذلك قسمان: شاكر وكافر، والفقرة الثانية تحدد الطريق للرسول صلى الله عليه وسلم وللمقتدين به أي: للشاكرين، فتأمر وتنهى وتعلل، ومما تنهى عنه أن يطاع الآثم الكفور الذي سقط في الامتحان. 3 - لننظر الآن نظرة في محور السورة من سورة البقرة: مما جاء في محور السورة من سورة البقرة قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... وقد جاءت هذه الآية بعد الأمر بالعبادة، والنهي عن الشرك في سورة البقرة فبين الأمر بالعبادة والإيمان بأن هذا القرآن من عند الله تلازم، وهذه الفقرة الثانية من سورة الإنسان تؤكد أن إنزال القرآن من عند الله، وتفصل في أمور من العبادة تأمر بها وتحددها.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (23) إلى نهاية الآية (31) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 28] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) المجموعة الثانية [سورة الإنسان (76): الآيات 29 الى 31] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أكد الله عزّ وجل في هذه الآية أنه هو منزل القرآن على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بمجموعة مؤكدات، ومن هذه المؤكدات ذكر الضمير (نحن) بعد ذكر الضمير (إنا) وفي حكمة ذلك قال النسفي: (وتكرير الضمير بعد إيقاعه اسما ل (إن) تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل؛ ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقا إلا حكمة وصوابا). أقول: إن كثرة المؤكدات في الآية تمحو أي ريب في النفس، وفي ذلك مقدمة مناسبة للتكاليف الآتية فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ قال ابن كثير: (أي: كما أكرمتك بما أنزلت عليك فاصبر على قضائه وقدره، واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره)، وقال النسفي:

[سورة الإنسان (76): آية 25]

فاصبر لحكم ربك عليك بتبليغ الرسالة، واحتمال الأذية، وتأخير نصرتك ... وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ قال النسفي: أي: من الكفرة للضجر من تأخير الظفر آثِماً أي: راكبا لما هو إثم، داعيا لك إليه أَوْ كَفُوراً قال النسفي: أي: (فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه؛ لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر، أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الأولين دون الثالث)، وقال ابن كثير: أي: لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك، بل بلغ ما نزل إليك من ربك وتوكل على الله، فإن الله يعصمك من الناس، فالآثم هو الفاجر في أفعاله، والكفور هو الكافر قلبه وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قال ابن كثير: أي: أول النهار وآخره، وقال النسفي: (أي: قيل له بكرة: صلاة الفجر، وأصيلا: صلاة الظهر والعصر) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ قال النسفي: (أي: وبعض الليل فصل العشاءين) وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا قال النسفي: أي: تهجد له هزيعا طويلا من الليل: ثلثيه أو نصفه أو ثلثه، قال ابن كثير: ثم قال تعالى منكرا على الكفار ومن أشبههم في حب الدنيا والإقبال عليها، والانصباب إليها، وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي: يؤثرونها على الآخرة وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أي: قدامهم أو خلف ظهورهم يَوْماً ثَقِيلًا أي: شديدا لا يعبئون به، وهو يوم القيامة؛ لأن شدائده تثقل على الكفار، فإذا كان هؤلاء كذلك ومن ثم لا يعملون فلا ينبغي أن يكون المسلم كذلك نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أي: أحكمنا أَسْرَهُمْ أي: خلقهم وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال النسفي: (أي: إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم، وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع). كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لاحظ كلمة (خلقنا) في الآية الثانية، ونلاحظ أنه قد ورد معنا في آخر آية عرضناها من الفقرة الثانية: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا وهذا يشعرنا أن معاني متعانقة في السورة قد انتهى عرضها لوجود نهاية تشبه البداية، ولذلك فإن الآية اللاحقة تأتي وكأنها تعليق على ما مر: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ

تفسير المجموعة الثانية.

فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. 2 - أمرت المجموعة التي مرت معنا من هذه الفقرة بالصبر على قضاء الله عزّ وجل، وترك طاعة الآثمين والكافرين، وأمرت بالصلوات، ومن قبل ذكرت السورة بشكل ضمني: بالوفاء بالنذر، وبإطعام الطعام، وبالخوف من الله عزّ وجل، وبالصبر، وبالشكر، وحذرت من الكفر، وذكرت ما أعد الله للكفار، وما أعده للأبرار، وهذه معان تعتبر أمهات في الطريق إلى الله عزّ وجل، ومن ثم يأتي الآن مباشرة قوله تعالى عن السورة: إِنَّ هذِهِ أي: السورة تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. 3 - لنتذكر الآن محور السورة من سورة البقرة: بعد مقدمة سورة البقرة جاءت آيات تأمر بالعبادة للوصول إلى التقوى، وتذكر بمعان تستوجب الشكر من العبد، ثم أقامت الحجة على من يرتاب بالقرآن، وحذرت من النار، وأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد فصلت سورة الإنسان حتى الآن في هذا كله، وبعد ذلك يأتي في سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ والمجموعة الأخيرة من سورة الإنسان تتحدث عن معنى موجود في هذه الآية، وهو أن الهداية والضلال بمشيئة الله عزّ وجل، ولا شئ يخرج عن مشيئته تعالى، فالكافرون لم يكفروا ولم يضلوا إلا بمشيئته، وفي ذلك مظهر من مظاهر عزة الله عزّ وجل، فليس الكافر يعصي قهرا لله، بل يفعل ذلك بمشيئة الله، ولا يجني إلا على نفسه، هذا مع العلم أن الله عزّ وجل لا يضل أحدا إلا بسبب، فكون الإضلال بمشيئة الله لا ينفي اختيار الإنسان، وهكذا نجد أن سورة الإنسان فصلت في الآيات السبع الآتية بعد مقدمة سورة البقرة، فلنر المجموعة الثانية من الفقرة الثانية. تفسير المجموعة الثانية. إِنَّ هذِهِ أي: السورة تَذْكِرَةٌ أي: عظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا قال النسفي: بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله، وقال ابن كثير: أي: طريقا ومسلكا، أي: من شاء اهتدى بالقرآن وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ

[سورة الإنسان (76): آية 31]

قال ابن كثير: أي: لا يقدر أحد أن يهدي نفسه، ولا يدخل في الإيمان، ولا يجر لنفسه منفعا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قال النسفي: أي: إلا وقت مشيئة الله وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك، وقيل هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان، والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً قال ابن كثير: أي: عليم بمن يستحق الهداية فييسر له، ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي: جنته لأنها برحمته تنال وَالظَّالِمِينَ أي: الكافرين، وسموا بذلك لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً جزاء عدلا على ظلمهم، وهكذا أكد الله عزّ وجل أن الهداية بمشيئته، والضلال بمشيئته، ولكنه يهدي فضلا، ويضل عدلا، وعموم المشيئة لا ينافي اختيار الإنسان، فالاختيار قائم والمشيئة عامة، وعموم المشيئة مظهر العزة والعظمة، وإلا يكون عصيانه مراغمة له سبحانه، ويكون نيل رضوانه بغير توفيق منه، ومن لا يعرف الله عزّ وجل حق المعرفة تخرج منه الأعاجيب. كلمة في السياق: رأينا أثناء عرض السورة سياق السورة الخاص، وصلتها بمحورها من سورة البقرة، وواضح أنها فصلت في الطريق، فهي سورة تهيج على السير إلى الله عزّ وجل فلنأخذ حظنا من العمل منها، ومن ثم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها مع سورة (الم تنزيل السجدة) في صلاة الصبح يوم الجمعة كما سنرى في الفوائد. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لتفسير سورة الإنسان بما يلي: (قد تقدم في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ وقال عبد الله ابن وهب: أخبرنا ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ). 2 - في مقال نشرته مجلة الأمان في عددها (59) تحدث الدكتور الطبيب محمد علي البار عن النطفة الأمشاج، حاول فيه الدكتور أن يبين أبعاد قوله تعالى: إِنَّا

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ وكيف أن فيه معجزة علمية يدركها من عرف تدرج النظريات في شأن نشأة الجنين ومن كلامه في هذا المقال نقتطف ما يلي: (لم تكن البشرية تعرف شيئا عن النطفة الأمشاج ... فقد كان الاعتقاد السائد لدى الفلاسفة أن الجنين الإنساني إنما يتكون نتيجة ماء الرجل ... وأن رحم المرأة ليس إلا محضنا لنمو ذلك الجنين، وشبهوا ذلك بالذرة ترمى في الأرض فتأخذ منها الغذاء فتخرج منها شجرة يانعة ... فليس للمرأة دور في الجنين سوى رعايته وتغذيته ... أما أن يكون الولد نتيجة مشج ماء الرجل وماء المرأة فأمر لم تعرفه الإنسانية إلا على لسان أنبياء ... وكما قال ذلك اليهودي الذي استشهدت به قريش: كذلك كان يقول من كان قبلك من الأنبياء. أما خارج نطاق النبوة فقد ظلت الإنسانية في عمى كامل حتى العصور الحديثة. ولقد ظلت النظرية السائدة- والقائلة بأن الجنين الإنساني ليس إلا نتيجة للحيوان المنوي فحسب- ظلت هذه النظرية مسيطرة على الفكر البشري حتى بعد أن قام العالمان: هام، وليفن هوك عام 1677 باكتشاف الحيوان المنوي، وبعد أن قام جراف باكتشاف البويضة عام 1672. ومن ذلك التاريخ ظهرت نظرية أخرى تقول بأن البويضة تحتوى على الجنين الإنساني كاملا ... وأن دور الحيوان المنوي هو فقط في تنشيط البويضة. ولكن ليس له أي دور في تكوين الجنين. وظلت هاتان النظريتان تتصارعان حتى عام 1745 م عند ما اكتشف العالم بونيه بأن بويضات بعض الحشرات تنمو إلى أجنة كاملة دون الحاجة مطلقا إلى الذكر (الولادة بدون ذكر أو أب). وعندئذ بدا أن أصحاب البويضة قد حققوا انتصارا دامغا على خصمائهم من أصحاب النظرية الأخرى التي تنسب الجنين إلى الحيوان المنوي فقط. واستمرت مع ذلك هذه المعارك حتى ظهر سبالانزاني الذي عاش ما بين 1727 - 1799، ووولف الذي عاش في الفترة ما بين 1733 إلى 1794، اللذان أظهرا بالتجارب أن كلا من البويضة والحيوان المنوي يساهمان في تكوين الجنين ... وقدم وولف نظريته القائلة بأن البويضة الملقحة تتكاثر وتنقسم لتكون الجنين طورا بعد طور، ومرحلة بعد مرحلة ... وقد كانت النظرية السائدة حتى ذلك الحين بأن الجنين موجود بصورة مصغرة في الحيوان المنوي كما يقول أصحاب نظرية الحيوان المنوي، أو موجود بصورة مصغرة في البويضة كما يقول أصحاب نظرية البويضة ... وأنه ليس هناك إلا النمو

لهذا الجنين المصغر ... ورغم وجاهة نظرية وولف وقربها من الحقيقة إلا أنها أهملت لمدة نصف قرن من الزمان ... ولم ينفض عنها الغبار إلا بعد أن اكتشف شيلدن وشوال أسس تركيب الجسم الحيواني المكون من مجموعة من الخلايا ... وأن الخلية الحية هي وحدة بناء الجسم الحي ... وذلك في عام 1839. وقد مهدت هذه المعلومات الطريق لمعرفة أن تكوين الجنين إنما يتم بالتزاوج والاختلاط بين خلية الذكر (الحيوان المنوي) وخلية الأنثى (البويضة) ... وقد تأكدت هذه المعلومات وأصبحت ضمن الحقائق العلمية في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. أطوار الجنين: لقد ظلت النظرية السائدة أن الجنين البشري موجود بصورة كاملة ومصغرة في البويضة، أو في الحيوان المنوي، حتى أظهر وولف في أواخر القرن الثامن عشر نظريته القائلة بأن البويضة الملقحة تنقسم وتتكاثر وتمر بعدة أطوار قبل أن تشبه الطور الإنساني. ولكن نظرية وولف هذه قوبلت بالإهمال لمدة نصف قرن من الزمان، ولم يكتب لها الظهور إلا بعد اكتشافات شوال وشيلدن حول الخلية الحية، وأنها لبنة البناء لجميع أنسجة الكائن الحي ... وذلك عام 1839 ... ثم توالت الاكتشافات العلمية التي تؤيد نظرية وولف حتى أصبحت حقيقة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. وقد تحدث القرآن الكريم عن أطوار الجنين في مواضع متعددة ... وكذلك فصلت في ذلك السنة المطهرة. قال تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد: معناه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى آخر أطوار الإنسان. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي

النطفة والأمشاج

قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً* فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً* فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً* فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً* ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ* فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. والقرآن الكريم والسنة المطهرة يكشفان عن الحقيقة العلمية قبل اكتشافها بألف وثلاثمائة عام. النطفة والأمشاج: الآيات: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (الإنسان: 1، 2). قال ابن جرير الطبري في تفسيره: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ: إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة أو غير ذلك. وقوله أمشاج يعني: أخلاط واحدها مشج ومشيج، يقال فيه: إذا مشجت هذا بهذا خلطته، وهو ممشوج به، ومشيج أي مخلوطه ... وهو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة. وروى بسنده عن عكرمة قوله أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ قال: ماء الرجل مع ماء المرأة يمشج أحدهما الآخر، وروي عنه أيضا قوله: ماء الرجل وماء المرأة يختلطان. وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ماء المرأة وماء الرجل يختلطان، وقال الربيع ابن أنس: إذا اجتمع ماء المرأة وماء الرجل. وقال الحسن البصري: مشج (خلط) ماء المرأة مع ماء الرجل. قال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى. وذكر ابن جرير أقوالا أخرى مثل قول قتادة: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي: أطوار الخلق طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم كسا الله العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر ... وروى عنه أيضا: الأمشاج اختلاط الماء والدم بالنطفة، ثم كان علقة ثم كان مضغة ... وانتهى ابن جرير إلى ترجيح القول الأول وهو: أن النطفة الأمشاج هي اختلاط ماء الرجل بماء المرأة قال: وأشبه

هذه الأقوال بالصواب قول من قال معنى ذلك من نطفة أمشاج: نطفة الرجل ونطفة المرأة، لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج ... وهي إذا انتقلت فصارت علقة فقد استحالت عن معنى النطفة، فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة. تفسير ابن كثير للآية: يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه وجد بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، لضعفه وحقارته، فقال تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ثم بين ذلك فقال جل جلاله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي: أخلاط، والمشج والمشيج الشئ المختلط بعضه على بعض. وقال ابن عباس في قوله تعالى: مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، ومن لون إلى لون، وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن البصري والربيع بن أنس: الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة. الأحاديث: أخرج الإمام أحمد في مسنده: أن يهوديا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي فقال: لأسألنه عن شئ لا يعلمه إلا نبي فقال: يا محمد مم يخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا يهودي، من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة» فقال اليهودي: هكذا كان يقول من قبلك (أي: من الأنبياء). مما تقدم يتضح بجلاء أن ما اكتشفته البشرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد تحدث به القرآن الكريم بلا أدنى لبس أو مواربة، وقد وضحته الأحاديث النبوية الشريفة ... كما أن الصحابة والتابعين من أعلام المفسرين- وعلى رأسهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد فهموا من الآيات الكريمة ما نفهمه نحن اليوم بعد الاكتشافات العلمية، وقد نقلنا ذلك عنهم حسب ما رواه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، والحافظ ابن كثير الدمشقي، وغيرهم من أعلام التفسير في القديم والحديث، ولا أظن أحدا سيتهمنا بأننا نعتسف النصوص لنفسر بها الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). 3 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب

ابن عجرة: «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: «أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي، يا كعب بن عجرة: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان- أو قال: برهان- يا كعب بن عجرة: إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به، يا كعب: الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها» ورواه عن غياث بن وهب عن عبد الله بن خثيم به وقد تقدم في سورة الروم عند قوله جل جلاله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها من رواية جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا». وروى الإمام أحمد ... عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته»). 4 - بمناسبة قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال ابن كثير: (أي: يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر. روى الإمام مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» رواه البخاري من حديث مالك). 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ قال ابن كثير: (وروى البيهقي من طريق الأعمش عن نافع قال: مرض ابن عمر فاشتهى عنبا أول ما جاء العنب، فأرسلت صفية- يعني: امرأته- فاشترت عنقودا بدرهم، فاتبع الرسول سائل فلما دخل به قال السائل: السائل، فقال ابن عمر: أعطوه إياه فأعطوه إياه، فأرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا، فاتبع الرسول السائل فلما دخل قال السائل: السائل، فقال ابن عمر: أعطوه إياه، فأعطوه إياه، فأرسلت صفية إلى السائل فقالت: والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت

به، وفي الصحيح: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» أي: في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قال ابن كثير: (أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما، وأما الأسير فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك: الأسير من أهل القبلة، وقال ابن عباس: كان أسراؤهم يومئذ مشركين، ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء، وقال عكرمة: هم العبيد، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» قال مجاهد: هو المحبوس أي: يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه، قائلين بلسان الحال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً قال ابن كثير: (وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال: قرئ على أبي سليمان الداراني سورة هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ فلما بلغ القارئ إلى قوله تعالى وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً قال: بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ثم أنشد يقول: كم قتيل لشهوة وأسير … أف من مشته خلاف الجميل شهوات الإنسان تورثه الذل … وتلقيه في البلاء الطويل) 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً قال ابن كثير: (وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق نوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى). 9 - في سورة الإنسان قال تعالى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وفي سورة فاطر قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وقد جمع ابن كثير بين

كلمة أخيرة في سورة الإنسان ومجموعتها

الآيتين بأن: الفضة للأبرار، والذهب واللؤلؤ للمقربين، قال ابن كثير: (وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وأما النسفي فقال في الجمع بين الآيتين: (قال ابن المسيب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة، واحدة من فضة، وأخرى من ذهب، وأخرى من لؤلؤ) والله أعلم. كلمة أخيرة في سورة الإنسان ومجموعتها: رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرر سورة الإنسان في صلاة الصبح يوم الجمعة، وما ذلك إلا لما تضمنته من معان يستغرق التبشير منها حيزا كبيرا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أمر أن يبشر المؤمنين، ولا شك أن من يصلي الصبح في جماعة فذلك مظنة الإيمان، فإن يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة كل جمعة سورة الإنسان فذلك تحقيق للأمر بالتبشير، فالسورة وإن أنذرت إلا أنه يغلب عليها التبشير، وهي مع ذلك تدل على الطريق إلى الله، وتذكر بمكارم الأخلاق العليا. وسورة الإنسان تكمل سورة القيامة، فسورة القيامة تبرهن على مجئ يوم القيامة، وسورة الإنسان تتحدث عما يكون يوم القيامة، وعما أعد الله لنوعي الناس الكفار والأبرار فيه، كما أنها تذكر الطريق للنجاة يوم القيامة، وبهذا تتكامل السورتان اللتان تشكلان مجموعة واحدة. وسورة القيامة ناقشت أخطر قضيتين تبرزان بشكل حاد في الحياة البشرية وهما استبعاد البعث، وتصور أن الإنسان حر غير مسئول، وهاتان القضيتان هما محور أكثر ما يكتب في العالم اليوم، حتى إنك لو أردت أن تلخص الأفكار المطروحة في سوق الأدب والفكر لوجدتها تتلخص بالعناوين التالية: الإنسان حر غير مسئول أمام الله، الهزؤ من التكاليف الدينية، الإنسان صانع حياته وسلوكه وأفكاره ومجتمعه. كل هذه المعاني يدور حولها بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر التوجيه العام للأنظمة في العالم كله وتنبثق عنها كتب المدارس الفكرية والفلسفية والأدبية والفنية في العالم، حتى ليندر كتاب فكري لا تجد فيه مثل هذه المعاني، بل إن أجهزة الإعلام من راديو

وتلفزيون وصحافة موجهة أو صحافة جرة تربي على هذا المعنى، ومن ثم تجد الإنسان العادي الذي لم تصل إليه التربية الإسلامية هذا شأنه، وهذا تفكيره، وهذا سلوكه، ولذلك تجده بعيد التفكير عن الشعور بمسئوليته أمام الله عزّ وجل، وعند ما تحدثه عن هذا الموضوع تجدك تتحدث مع إنسان يبعد عنك آلاف الأميال، فتحتار كيف تسمعه ما تريد، وتقرب إليه ما تريد، ليستشعر أن نقطة البداية في السلوك البشري أن ينطلق الإنسان من كونه مسئولا أمام الله عزّ وجل، وأن عليه أن يصوغ حياته انطلاقا من هذه الحقيقة، لقد ناقشت سورة القيامة هذا الموضوع، ومن ثم فإن الوقوف عندها مهم. وتأتي سورة الإنسان بعدها لتتحدث عن الطريق، فتكمل المعاني التي جاءت في سورة القيامة، ومن قبل قلنا: إن سور المجموعة الواحدة تتكامل مع بعضها لتؤدي دورا متكاملا في التوجيه والتفصيل، فبقدر ما يحدث انصهار بمعاني سورة القيامة، وبقدر ما يوجد عمل في ما توجه إليه سورة الإنسان، يكون الابتعاد عن التصورات الإنسانية الخاطئة في باب مسئولية الإنسان. ولننتقل إلى المجموعة الثامنة.

المجموعة الثامنة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الثامنة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سورتي: (المرسلات، والنبأ)

كلمة في المجموعة الثامنة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الثامنة من قسم المفصل دلنا على بداية هذه المجموعة ونهايتها أن سورة المرسلات مبدوءة بقسم كسورة الصافات والذاريات، وتلك علامة على بداية مجموعة، إذا لم يكن سبب مانع، وبعد سورة النبأ تأتي سورة النازعات المبدوءة بقسم، مما يشير إلى أنها بداية مجموعة جديدة، فتعين أن سورتي المرسلات والنبأ مجموعة واحدة، وقد مرت معنا حتى الآن أكثر من مجموعة ثنائية، فسورتا (الصافات) و (ص) شكلتا مجموعة واحدة، وسورتا الحشر والممتحنة شكلتا مجموعة واحدة، وسورتا القيامة والإنسان شكلتا مجموعة واحدة، وهاتان السورتان تشكلان مجموعة واحدة، ونحب هنا أن نسجل ملاحظة هي: إن كلمة يوم الفصل تتكرر أكثر من مرة في سورة المرسلات، وترد مرة واحدة في سورة النبأ، وهذه الكلمة نفسها وردت في سورة الصافات من قبل في قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ والملاحظ أن كلمة النبأ وردت في سورة (ص) في قوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، وأن سورة النبأ تبدأ بقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. مما يوحي بالتشابه بين مجموعة الصافات ومجموعة المرسلات، ومما يشعرنا بوحدة المحاور، فالصافات وص فصلتا في مقدمة سورة البقرة، والظاهر أن سورتي المرسلات والنبأ تفصلان في مقدمة سورة البقرة، الأولى منهما كالصافات تفصل في الآيات الخمس الأولى التي تتحدث عن المتقين، والثانية منهما تفصل في الآيتين بعد ذلك على تداخل بينهما وتكامل. والملاحظ أن سورة الإنسان تحدثت عما أعد الله عزّ وجل للكافرين، وعما أعده للأبرار، وأن سورة المرسلات تبدأ بمجموعة أقسام جوابها إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ثم تتحدث السورة عما يجري في ذلك اليوم، فالصلة بين سورتي الإنسان والمرسلات واضحة المعالم، وسورة الإنسان تنتهي بقوله تعالى: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، ولازمة سورة المرسلات هي وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.* فالصلة بين نهاية سورة الإنسان وبين سورة المرسلات واضحة. فلنبدأ عرض سورتي المجموعة.

سورة المرسلات

سورة المرسلات وهي السورة السابعة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الثامنة من قسم المفصل، وهي خمسون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة المرسلات

بين يدي سورة المرسلات: قدم الألوسي لسورة المرسلات بقوله: (وتسمى سورة العرف. وهي مكية. وآيها خمسون آية بلا خلاف. ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ الخ افتتح هذه بالأقسام على ما يدل على تحقيقه، وذكر وقته وأشراطه، وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار). وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليها كالسهام المسنونة! وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ! * ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد. وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة (الرحمن) عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ ... * كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة (القمر) عقب كل حلقة من حلقات العذاب: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ ... * وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعما مميزا ... حادا. وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة). وقال صاحب الظلال في ختام السورة: (إن السورة بذاتها، ببنائها التعبيري،

كلمة في سورة المرسلات ومحورها

وإيقاعها الموسيقي، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد ... إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب، ولا يتماسك لها كيان. فسبحان الله الذي نزل القرآن، وأودعه هذا السلطان!). كلمة في سورة المرسلات ومحورها: تبدأ سورة المرسلات بمقدمة توصل إلى فقرة، والفقرة توصل إلى فقرة أخرى، بتسلسل عجيب يناقش المكذبين وينذرهم، ليصل إلى الحديث عن المتقين ومآلهم، والمكذبين وحالهم، لتكون الحصيلة وصفا ضمنيا للمتقين وذلك يرتبط برباط وثيق بالآيات الأولى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ومن ثم نجد في السورة قوله تعالى عن القرآن: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي: بعد القرآن يُؤْمِنُونَ. ونجد قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. ونجد قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. ونجد قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يتردد كثيرا، وفيه تهديد للذين لا يؤمنون بالغيب، والذين لا يؤمنون بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين لا يؤمنون بالبعث، ومن هذه الملاحظات السريعة ندرك صلة السورة بما ذكرناه من الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة. تتألف السورة من مقدمة هي سبع آيات، ومن فقرتين: الفقرة الأولى تستمر حتى الآية (40)، والفقرة الثانية تستمر حتى نهاية السورة أي: حتى نهاية الآية (50). فلنبدأ عرض السورة.

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتستمر حتى نهاية الآية (7) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) التفسير: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً أكثر المفسرين على أن المراد بها الملائكة، والعرف يحتمل أنه المعروف، ويحتمل أنه عرف الفرس، فعلى الأول يكون المعنى: والملائكة المرسلات بالإحسان والمعروف، وفي ذلك إشارة إلى أن الوحي كله معروف لا شر فيه، إذ به يرسل الله ملائكته إلى رسله، وعلى المعنى الثاني يكون المعنى: والملائكة المرسلات متتابعات كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضا في مواكب تأتي مع الوحي، أو تأتي إلى الأرض لتقوم بوظائفها كحضور حلقات الذكر، وحضور الصلوات. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً جزم ابن جرير بأن المراد بالعاصفات الرياح، وهو قول ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وكثيرين. قال ابن كثير: (العاصفات هي الرياح ويقال: عصفت الرياح إذا هبت بتصويت). أقول: إن بين ذكر الملائكة المرسلة والرياح العاصفة مناسبة واضحة. فالملائكة تأتي بالخير من وحي وبشارة ونصر وسكينة، والرياح تأتي بالخصب والمطر، ففيما بين القسم بالملائكة والقسم بالرياح مناسبة واضحة، والقسم بالرياح معطوف بالفاء على القسم بالملائكة، مما يشير إلى أن الخير الذي تأتي به الملائكة مقدم على الخير الذي تأتي به الرياح، فشتان بين الخير الذي هو غذاء الأرواح والعقول والقلوب، والخير الذي هو غذاء الأجسام، وجواب القسم سيأتي فيما بعد، والمعروف أن حرف القسم الرئيسي هو الواو الذي سيذكر

[سورة المرسلات (77): آية 3]

مرتين فقط في الأقسام الخمسة، فيأتي قبل القسم الأول، ويأتي القسم الثاني معطوفا عليه بالفاء، ثم يأتي القسم الثالث مبدوءا بالواو، ويأتي القسمان الرابع والخامس معطوفين عليه بالفاء، فكأن عندنا مرحلتين في القسم، المرحلة الأولى قسمان، والمرحلة الثانية ثلاثة أقسام، وجواب الأقسام كلها واحد، ومن ثم فالمرحلة الأولى من الأقسام انتهت بالقسمين السابقين، وقد رأينا المناسبة بينهما، فلنر الآن المرحلة الثانية من القسم. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً جزم النسفي القول أن المراد بهذا القسم الملائكة فقال: (أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأمره- كما جاء في القسم الأول من السورة- وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين). فَالْفارِقاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً قال ابن كثير: (يعني الملائكة: قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري، ولا خلاف هاهنا، فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم بعقاب الله إن خالفوا أمره)، وفسر النسفي الآيات الثلاث بقوله عن الملائكة: (ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام عذرا للمحقين، أو نذرا للمبطلين) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ هذا جواب القسم. قال النسفي: (أي: إن الذي توعدونه من مجئ يوم القيامة لواقع أي: لكائن نازل لا ريب فيه)، وقال ابن كثير في الآية: (هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي: ما وعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إن هذا كله لواقع. إنه لكائن لا محالة). كلمة في السياق: 1 - الراجح أنه من بين الأقسام الخمسة لا يوجد إلا قوله تعالى: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً في غير الملائكة ورأينا المناسبة بين هذا القسم والذي قبله، فهو نوع تشبيه

لما تأتي به الملائكة بما تأتي به الرياح من خير، فإذا اتضح أن الأقسام الأربعة في الملائكة، عرفنا صلة ذلك بمحور السورة الذي فيه كلام عن الإيمان بالغيب، والملائكة غيب، فإن تذكر بعض وظائف الملائكة من خلال القسم فذلك نوع تفصيل لما يدخل في الإيمان بالغيب. 2 - في الأقسام الأربعة بالملائكة ذكرت بعض خصائص الملائكة: أنهم يرسلون بالمعروف، وينشرون شريعة الله، ويفرقون بما يأتون به بين الحق والباطل، ويلقون الذكر الذي فيه تبشير وإنذار، وفي ذلك كلام ضمني عن خصائص الوحي، وبالتالي عن خصائص القرآن، فالقرآن عرف خالص وشريعة مبثوثة منتشرة، وفارق بين الحق والباطل، وذكر وتبشير وإنذار، وصلة ذلك بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة. 3 - جواب الأقسام الخمسة هو: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ولذلك صلته بالكلام عن الآخرة الذي جاء في مقدمة سورة البقرة، فعلاقة مقدمة سورة المرسلات بمحور السورة من سورة البقرة متعددة الجوانب. 4 - أوصلتنا مقدمة سورة المرسلات إلى وعد الله، أو وعيده، وأنه كائن، وها هي الفقرة الأولى في سورة المرسلات تحدثنا عن يوم القيامة، وتقيم الحجة على الناس في شأنه فلنر الفقرة الأولى.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتستمر من الآية (8) إلى نهاية الآية (40) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة المرسلات (77): الآيات 8 الى 15] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) المجموعة الثانية [سورة المرسلات (77): الآيات 17 الى 19] ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) المجموعة الثالثة [سورة المرسلات (77): الآيات 20 الى 24] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) المجموعة الرابعة [سورة المرسلات (77): الآيات 25 الى 28] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

المجموعة الخامسة

المجموعة الخامسة [سورة المرسلات (77): الآيات 29 الى 34] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) المجموعة السادسة [سورة المرسلات (77): الآيات 35 الى 40] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) ملاحظة في السياق: يلاحظ أن هذه الفقرة تتألف من مجموعات، وما بين مجموعتها الأولى، ومجموعتها الأخيرة صلة، هي التي دلتنا على بداية المجموعة ونهايتها، ففي المجموعة الأولى يرد قوله تعالى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ* لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ، وفي المجموعة الأخيرة منها يرد قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ* فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ. فالسؤال عن يوم الفصل في المجموعة الأولى يأتي جوابه في المجموعة الأخيرة، ويأتي في الوسط الدليل عليه مع التحذير والإنذار. تفسير المجموعة الأولى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي: ذهب ضوؤها، وذلك بذهابها أصلا، يوم تطوى السماء كطي السجل للكتب وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ. قال ابن كثير: أي:

[سورة المرسلات (77): آية 10]

انفطرت وانشقت، وتدلت أرجاؤها، ووهت أطرافها. وقال النسفي: (أي: فتحت فكانت أبوابا) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ. قال ابن كثير: أي: ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ. قال النسفي: أي: وقتت ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وقال الألوسي: (أي: بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره، وهو يوم القيامة، وجوز أن يكون المعنى: عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. قال ابن كثير: (أي: لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها؟ حتى تقوم الساعة) وقال النسفي: (أي: أخرت وأمهلت، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله). أقول: هذا يفيد أن الرسل لا بد أن يؤدوا الشهادة، وتأجيل الشهادة لذلك اليوم لعظمة هذه الشهادة، ولعظمة ما يترتب عليها، فالآية فيها سؤال تعجيبي جوابه: لِيَوْمِ الْفَصْلِ أي: أجلت الرسل لتأدية شهادتها على أممها ليوم الفصل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، ثم قال تعالى معظما لشأن هذا اليوم: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ سؤال تعجيبي فيه تعظيم لشأن ذلك اليوم، ولا يأتي جواب مباشر عن يوم الفصل، وإنما تأتي آية تقول: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. قال ابن كثير: (أي: ويل لهم من عذاب الله غدا، وقد قدمنا في الحديث أن (ويل) واد في جهنم ولا يصح). أقول: وفي الصيغة دلالة على أن ثبات العذاب ودوامه كائنان للمدعو عليهم، وسنرى أن هذه الآية ستتكرر مرات في السورة، وفي كل مرة تأتي في محلها لتؤدي دورا، وبها هنا انتهت المجموعة الأولى لتعرفنا على جزء مما يكون في يوم الفصل وهو استحقاق المكذبين بالرسل للعذاب الأليم. كلمة في السياق: 1 - رأينا في هذه المجموعة صورة عما يكون يوم القيامة، وصلة ذلك بمقدمة سورة المرسلات واضحة، فالمقدمة تنتهي بقوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ والمجموعة تحدثت عما يكون يوم يقع ذلك الوعد. 2 - فصلت المجموعة في بعض ما له علاقة باليوم الآخر، وفي بعض ما له علاقة بالرسل، وأنذرت الذين لا يؤمنون بالرسل، وصلة ذلك بالآيات الأولى من سورة البقرة واضحة، فمن صفات المتقين أنهم يؤمنون بالغيب، وأنهم يؤمنون بما أنزل على محمد وإخوانه الأنبياء، وأنهم يوقنون بالآخرة، والمجموعة عرضت لجوانب تتعلق

تفسير المجموعة الثانية

بالغيب والرسل واليوم الآخر، فهي تنذر لتحمل الناس على الإيمان والتقوى. تفسير المجموعة الثانية: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي: الأمم الخالية المكذبة. قال ابن كثير: يعني: من المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي: ممن أشبههم وهو وعيد للمكذبين من هذه الأمة، فكأنه قال: ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين، لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم فتلك سنتنا، ومن ثم قال: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي: مثل ذلك الفعل نفعل بكل من أجرم، فاحذروا، واستدلوا بذلك على مجئ اليوم الآخر، وتعذيب المكذبين فيه، ومن ثم قال تعالى بعد ذلك: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة، أي: يوم الفصل الذي تحدثت عنه المجموعة الأولى لِلْمُكَذِّبِينَ قال النسفي: أي: بما أوعدنا. أقول: من كلمة النسفي هذه ندرك ربط النسفي لما ورد في هذه المجموعة مع ما سبقها. كلمة في السياق: 1 - استقرت مقدمة سورة المرسلات على قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ واستقرت المجموعة الأولى على الكلام عن يوم الفصل لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وذكرت جزءا مما يحدث في يوم الفصل فقالت: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم جاءت المجموعة الثانية ولفتت النظر إلى ما يستدل به على يوم الفصل، وكررت قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فكان في هذه الجملة في هذا السياق إنذار للمكذبين من هذه الأمة، ولفت نظر إلى اليوم الموعود. 2 - يلاحظ أن المجموعة الأولى بدأت بالتقرير، وذكرت استفهامين في أواخرها: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟ والملاحظ أن المجموعات الثلاث الآتية بعد المجموعة الأولى كل منها مبدوء بقوله تعالى: أَلَمْ* مما يشير إلى أن المجموعات الثلاث تؤدي خدمة واحدة في سياق السورة، وقد مرت معنا إحدى هذه المجموعات الثلاث فلنر أختيها.

تفسير المجموعة الثالثة

تفسير المجموعة الثالثة: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي: حقير، قال النسفي: وهو النطفة. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي: الرحم. والقرار: المقر، ووصفه بالمكين معجزة مستقلة، فمن علم مدى ما أحيط به الجنين من حماية يعرف دقة المعجزة إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي: مؤخرا إلى مقدار من الوقت معلوم، قد علمه الله وحكم به وهو تسعة أشهر، أو ما فوقها، أو ما دونها. قال ابن كثير في تفسير القدر المعلوم: يعني: إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر فَقَدَرْنا من القدرة أو من التقدير فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي: نعم المقدرون نحن، أو نعم القادرون على ذلك نحن. أقول: مجئ هذا المعنى في هذا السياق فيه إشارة إلى أن من قدر على ذلك فهو قادر على أن يحيي الإنسان مرة ثانية، وأن هذا مما ينبغي أن ينبه الإنسان فيصدق أن الله قادر على إعادته، ومن ثم ختمت المجموعة بقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال النسفي: (أي: بنعمة الفطرة). تفسير المجموعة الرابعة: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أي: ضامة جامعة أَحْياءً وَأَمْواتاً أي: تضم أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها، قال النسفي: والتنكير فيهما للتفخيم، أي: تكفت أحياء لا يعدون وأمواتا لا يحصون، وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ قال النسفي: أي: جبالا ثوابت شامِخاتٍ أي: عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي: عذبا، قال ابن كثير: أي: عذبا زلالا من السحاب، أو مما أنبعه من عيون الأرض وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال النسفي: أي: بنعمة الفطرة، وقال ابن كثير: أي: ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة. خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره. كلمة في السياق: 1 - في ذكر مظاهر قدرة الله وإنعامه في هذه المجموعة دعوة للإيمان والشكر، فمن كذب ولم يشكر فويل له يوم الفصل، وفي ختم المجموعة بقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ربط للمجموعة الرابعة بالمجموعة الأولى التي تتحدث عن يوم الفصل، فذكر مظاهر قدرته وإنعامه تذكير بأن من فعل هذا لا يعجزه أن يعيد خلق الإنسان،

تفسير المجموعة الخامسة

وتذكير بأن من فعل هذا فإن على الإنسان أن يشكره، والمطالبة بالشكر تقتضي حسابا وعقابا، أي: تقتضي يوم فصل، ولذلك ختمت المجموعة بقوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. 2 - في المجموعة الأولى حديث عما يكون يوم القيامة من أحداث رئيسية. وفي المجموعات الثلاث التي جاءت بعد ذلك كان حديث عما يوصل إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم يعود السياق إلى الحديث عن جزء مما يجري في ذلك اليوم للمكذبين. تفسير المجموعة الخامسة: انْطَلِقُوا أيها المكذبون إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ قال النسفي: أي: يقال للكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم بها تكذبون انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قال ابن كثير: يعني: لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي: لا يظل من حر ذلك اليوم ولا من حر النار وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي: وغير مغن لهم من حر اللهب شيئا، قال ابن كثير: أي: ظل الدخان المقابل للهب، ولا ظليل هو في نفسه، ولا يغني من اللهب يعني: ولا يقيهم حر اللهب إِنَّها أي: النار تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما يتطاير من النار كَالْقَصْرِ أي: كالبناء المرتفع فالشرارة الواحدة كالقصر كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ قال ابن كثير- وهو اختيار ابن جرير-: أي: كالإبل السود، والجمالات جمع الجمع فجمع جمل جمال، وجمع جمال جمالة، فالشرارات المقذوفة من النار شبهت بقصر يشبه مجموعات جمال سود مقذوفة، والجمل الأصفر هو الأسود الضارب إلى الصفرة، قال النسفي: وشبه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه. وبالجمال للعظم والطول واللون وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالرسل وباليوم الآخر وبالنار. كلمة في السياق: بعد هذا الذكر المتعدد لليوم الآخر، في المجموعة الأولى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ* لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، وفي المجموعة الثانية وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وفي المجموعات الثالثة والرابعة والخامسة كذلك، بعد ذلك كله تأتي المجموعة السادسة والأخيرة، وفيها حديث مباشر عن ذلك اليوم.

تفسير المجموعة السادسة من الفقرة الأولى

تفسير المجموعة السادسة من الفقرة الأولى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي: لا يتكلمون، وذلك في موقف من مواقف القيامة إذ في بعضها يختصمون، أو أن المراد بالنطق هنا النطق النافع، فجعل نطقهم غير النافع كلا نطق، هذان اتجاهان ذكرهما النسفي وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي: ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون أي: لا يكون لهم إذن واعتذار. قال ابن كثير: (أي: لا يقدرون على الكلام، ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا، بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة، وعن هذه الحال تارة ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذ، ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين الحق والباطل، والحسن والسيئ بالجزاء جَمَعْناكُمْ يا مكذبي هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ أي: والمكذبين قبلكم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ أي: حيلة في دفع العذاب فَكِيدُونِ أي: فاحتالوا علي بتخليص أنفسكم من العذاب، قال ابن كثير: (هذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أي: إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي وتنجوا من حكمي فافعلوا فإنكم لا تقدرون على ذلك) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال النسفي: (أي: بالبعث). كلمة في السياق: عرفنا في المجموعة الأخيرة ماهية يوم الفصل، وهو اليوم الذي يجمع الله عزّ وجل فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد من المصدقين والمكذبين للرسل، ليحكم بينهم جميعا، وقد عرفنا مما مر حال المكذبين في ذلك اليوم، ثم يأتي كلام عن حال المتقين في ذلك اليوم، ثم يعود الحديث عن المكذبين ومواقفهم التي استحقوا بها ما استحقوا، وذلك كله في الفقرة الثانية من السورة.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (41) إلى نهاية الآية (50) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 45] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) المجموعة الثانية [سورة المرسلات (77): الآيات 46 الى 47] كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) المجموعة الثالثة [سورة المرسلات (77): الآيات 48 الى 50] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات وترك المحرمات، إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون. أي: بخلاف ما لأولئك الأشقياء من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، ثم قال تعالى: وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي: لذيذة مشتهاة، قال ابن كثير: أي: ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال ابن كثير: أي: يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم، ثم قال تعالى مخبرا خبرا مستأنفا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، فأحسنوا تجزوا بهذا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: بالجنة. كلمة في السياق: استقرت مقدمة السورة على قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ثم جاءت

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية

الفقرة الأولى فبينت أن ذلك سيكون في يوم الفصل، وعرفنا من خلال لازمة السورة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ومن خلال ما مر، ماذا سيكون في هذا اليوم للمتقين وللمكذبين؟ والآن تأتي مجموعة تهدد المكذبين فتقول: تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا أي: مدة قليلة قريبة قصيرة، لأن متاع الدنيا قليل إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ أي: كافرون، أي: إن كل مجرم يأكل ويتمتع أياما قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم، قال ابن كثير: في الآية خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمرهم أمر تهديد ووعيد وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالله ورسله واليوم الآخر، ثم تأتي مجموعة تتحدث عن موقف المكذبين إذا أمروا بالصلاة. تفسير المجموعة الثالثة من الفقرة الثانية: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ أي: إذا قيل لهم: صلوا، لا يصلون، أو إذا قيل لهم: اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه، ودعوا هذا الاستكبار، لا يركعون، أي: لا يخشعون، ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم. قال ابن كثير في الآية: أي: إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا عن ذلك واستكبروا عنه، قال تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بالله ورسله واليوم الآخر وبالأمر وبالنهي، ثم تأتي الآية الأخيرة فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون؟ قال النسفي: أي: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن على أنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية، فبأي كتاب بعده يؤمنون؟ وقال ابن كثير: أي: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟!. أقول: إن هذا القرآن لم يبق بعد بيانه بيان، ولا بعد حجته حجة، فإذا كانوا لم يصدقوا بعد هذا كله بالقرآن، وبما تحدث عنه القرآن، ولم يعملوا بما أمر به فلم يبق هناك شئ ينفعهم. كلمة في السياق: 1 - عرفنا من الآيات الأخيرة أن المكذبين همهم الأكل والمتاع، وأنهم يرفضون الخضوع لله، والصلاة له، وأنهم لا يؤمنون بالقرآن ومن قبل عرفنا أنهم يكذبون بيوم الدين، ويكذبون بخلق الله الأشياء، ويكذبون الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعرفنا

الفوائد

من السورة أن ما يقابل المكذبين هم المتقون، وعرفنا ما لهؤلاء وهؤلاء، وعرفنا أن الحجة قائمة على المكذبين، وهكذا عرفنا أن وعد الله آت، وعرفنا ما يكون فيه، وعرفنا بما استوجب المكذبين ما استوجبوا، وبما نال المتقين ما نالوه. 2 - ومن خلال ما مر معنا في السورة عرفنا أن التقوى والإحسان متلازمان، وفي أوائل سورة البقرة عرفنا من هم المتقون، وهاهنا عرفنا تفصيل ما أعد الله عزّ وجل لهم، وعرفنا ما يقابل صفات المتقين، فالإيمان بالغيب عند المتقين يقابله التكذيب عند الكافرين، والإيمان باليوم الآخر عند المتقين يقابله التكذيب، وإقامة الصلاة عند المتقين يقابلها رفض الركوع عند الكافرين، والإيمان بالقرآن والاهتداء بهديه عند المتقين يقابله رفض الإيمان به عند الكافرين، ومن ثم فإن السورة فصلت في الآيات الخمس من سورة البقرة بشكل جديد، وذلك من خلال ما يقابل قضية التقوى التي بدايتها الإيمان. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة المرسلات بهذه النصوص: (روى البخاري عن عبد الله- هو ابن مسعود- رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه وَالْمُرْسَلاتِ فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فذهبت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» وأخرجه مسلم أيضا من طريق الأعمش. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن أمه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا. وفي رواية مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عباس أن أم الفضل سمعته يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقالت: يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب. أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك به). 2 - قلنا: إن في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ* فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ معجزة علمية وممن تكلم عن هذا الموضوع الدكتور الطبيب خالص كنجو في كتابه (الطب محراب للإيمان) الجزء الثاني، وقد استغرق كلامه عن هذا الموضوع عشر صفحات من الصفحة (241) إلى الصفحة (251) وقد تحدث عن آيات

سورة المرسلات التي تحدثت عن الجنين تحت عنوان (كيف يمكن اعتبار الرحم قرارا مكينا) فذكر عدة عناوين: تصفيح عظمي- حماية مشددة في أشهر الحمل الأولى- جسر معلق- سنادات عضلية من الأسفل- قرار هرموني ... ومن كلامه في هذا البحث: (إن القرآن تحدث ببعد لغوي لم يكن في وقته في الواقع من التشريح والفيزيولوجيا وعلم النسج، وعلم التوليد الطبيعي والمرضي، وعلم النسائية، ومع تفتح الإمكانيات وكشف أسرار الجسم لوحظ أن الآية ذات تحليق خالد حقا على العديد من المستويات. ولنحاول الآن أن نتناول وحدات من البحث، ونغوص في درجات البحث العلمي بهدوء. تصفيح عظمي: لنحاول إلقاء نظرة تشريحية لنعرف قرار الرحم الفراغي، إن الرحم يمكن اعتباره من الوجهة الفراغية في منتصف الجسم تماما طولا وعرضا وعمقا، وهكذا فهو يتلقى الحماية من كافة الجهات، غير أن هناك حماية مهمة على مستوى الحوض، حيث إن مكونات الحوض هي عظم العجز والعصعص بالخلف، ومن الجانبين والأمام يوجد عظمان هما عظما الحرقفة هذا العظم هو حلقة الاتصال ما بين العمود الفقري في الأعلى والعجز بالخلف، وعظم الفخذ من الأسفل وهو ما يسمى بالزنار الحوضي، وهنا ملاحظتان: الأولى: أن هذا العظم يحمي الرحم تماما، ويكون جوفا يستقر الرحم فيه بحماية من كافة الجوانب، والثانية: أن هذه الحماية يجب أن تتلاءم مع وظيفة أخرى وهي التناسب مع شكل الجنين؛ لأن أية زيادة طفيفة في الطول أو الارتفاع أو العمق أو الثنيات والحفر يجعل دخول الجنين وخلاصه مستحيلا ... ). 3 - بمناسبة قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ* فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله الجدلي قال: أتيت بيت المقدس فإذا عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار، يتحدثون في بيت المقدس فقال عبادة: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم ويسمعهم الداعي ويقول الله: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ* فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد، فقال عبد الله بن عمرو: فإنا نحدث يومئذ أنها تخرج عنق من النار فتنطلق حتى إذا كانت بين ظهراني الناس نادت: أيها الناس إني بعثت إلى ثلاثة أنا أعرف بهم من

كلمة أخيرة في سورة المرسلات

الأب بولده، ومن الأخ بأخيه، لا يغيبهم عني وزر، ولا تخفيهم عني خافية: الذي جعل مع الله إلها آخر، وكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد، فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب بأربعين سنة). 4 - بمناسبة قوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن إسماعيل بن أمية: سمعت رجلا أعرابيا يقول: سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ والمرسلات عرفا- فقرأ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ فليقل: آمنت بالله وبما أنزل). كلمة أخيرة في سورة المرسلات: في مقدمة سورة البقرة كان حديث عن المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون، والذين يؤمنون بالقرآن، واليوم الآخر. وقد تحدثت سورة المرسلات عن النقيض هنا فعرفت بذلك التقوى، وعرف المتقون، وقد رأينا تسلسل المعاني في السورة، فاتضح السياق الخاص والعام للسورة، فلننتقل إلى أختها في المجموعة سورة النبأ.

سورة النبأ

سورة النبأ وهي السورة الثامنة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية والأخيرة من المجموعة الثامنة من قسم المفصل، وهي أربعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة النبأ ومحورها

كلمة في سورة النبأ ومحورها: قلنا إن محور سورة النبأ هو محور سورة (ص) أي: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، ومن ثم نجد السورة تبدأ بقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ... فهي تبدأ بذكر تساؤل يطرحه الكافرون، وترد عليه، وتنتهي السورة بقوله تعالى: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً* يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً فبداية السورة تتحدث عن تساؤل للكافرين، ونهاية السورة تتحدث عن الإنذار، ولذلك صلاته بمحور السورة، فسورة النبأ وسورة المرسلات كلاهما تفصل في مقدمة سورة البقرة. رأينا أن سورة المرسلات ختمت بقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ أي: فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون، والملاحظ أن سورة النبأ تبدأ بقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ وقد فسر مجاهد النبأ العظيم بأنه القرآن، فالصلة بين نهاية سورة المرسلات وبداية سورة النبأ واضحة، وعلى القول بأن المراد بالنبإ العظيم اليوم الآخر، فإن الصلة كذلك قائمة، إذ الحديث عن اليوم الآخر يستغرق معظم سورة المرسلات. ويلاحظ أن تعبير يوم الفصل ذكر في سورة المرسلات، وذكر كذلك في سورة النبأ ففي سورة المرسلات قال تعالى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ* لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، وفي سورة النبأ يأتي قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً فإذا تذكرنا أن مقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين ندرك صلة السورتين اللتين تتحدثان عن يوم الفصل بهذه المقدمة، فهذه المجموعة تتحدث بشكل رئيسي عن يوم الفصل الذي يفصل الله به بين الكافرين والمتقين، وهذا المعنى وحده كاف لإدراك الصلة بين المجموعة وبين مقدمة سورة البقرة التي هي محور السورتين، ومن ثم فإن سورة المرسلات كان أكثر حديثها عن الكافرين، وإن كانت تفصل في الآيات الخمس الأولى، وسورة النبأ

بين يدي سورة النبأ

تتحدث عن المتقين، وإن كانت تفصل في الآيتين اللاحقتين، فذكر النقيض أحيانا يوضح النقيض، والكلام عن المتقين يقتضي الكلام عن الكافرين، والكلام عن الكافرين يقتضي الكلام عن المتقين. تتألف السورة من مقدمة هي خمس آيات، ومن فقرتين، وخاتمة هي آية واحدة، الفقرة الأولى تمتد حتى الآية (16) والفقرة الثانية تمتد حتى الآية (39). بين يدي سورة النبأ: قال الألوسي عن سورة النبأ: (وتسمى سورة عم، وعم يتساءلون، والتساؤل، والمعصرات، وهي مكية بالاتفاق. وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري، وأربعون في غيرهما؛ ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دل ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر وجه اتصالها بما قبلها تناسبها معها في الجمل فإن في تلك أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ... إلخ وفي هذه أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً الخ، مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر، وأيضا في سورة المرسلات لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ* لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وفي هذه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً الخ، ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيما قبلها. اهـ. وقيل: إنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ وكان المراد بالحديث فيه القرآن، افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به، وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد بالنبإ العظيم: القرآن، والجمهور على أنه البعث). وسنرى ما فيه. ولنبدأ عرض السورة.

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (5) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) التفسير: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أي: عن ما يتساءلون أي: يتساءلون عن ماذا؟ قال النسفي: وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه، لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ هذا بيان للشأن المفخم، وما هو النبأ العظيم، قال قتادة وابن زيد: النبأ العظيم: البعث بعد الموت، وقال مجاهد: هو القرآن، قال ابن كثير: والأظهر الأول، قال ابن كثير في الآيتين بناء على ترجيحه: يقول تعالى منكرا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة، وإنكارهم لوقوعها عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي: عن أي شئ يتساءلون؟، عن أمر القيامة، وهو النبأ العظيم، يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ قال ابن كثير: يعني: الناس فيه على قولين: مؤمن به وكافر، قال النسفي: منهم من يقطع بإنكاره، ومنهم من يشك، قال ابن كثير: ثم قال تعالى متوعدا لمنكري القيامة: كَلَّا قال النسفي: ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزءا سَيَعْلَمُونَ قال النسفي: وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عيانا أن ما يتساءلون عنه حق ثُمَّ كَلَّا قال النسفي: كرر الردع للتشديد و (ثم) يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد سَيَعْلَمُونَ. قال ابن كثير في الآيتين: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. كلمة في السياق: تبدأ السورة بسؤالين: عن أي شئ يتساءل المشركون والكافرون؟ وهل تساؤلهم

عن النبأ العظيم المختلفين في شأنه؟، ثم تهدد وتنذر أنهم سيعلمون قطعا الحق في شأن هذا النبأ العظيم، فما هو النبأ العظيم؟ ابن كثير يذكر قولين في شأنه: إنه القرآن أو اليوم الآخر. وابن جرير يذكر قولا ثالثا أن النبأ العظيم هو بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجعت إلى قوله تعالى في سورة (ص) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ نجد أن ابن كثير ذكر هناك قولا واحدا فيه أنه القرآن، والنسفي ذكر قولا واحدا فيه أنه بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نرجحه أن النبأ العظيم في المقامين واحد، وأنه القرآن العظيم، ولعل الشيخ عبد الله دراز أخذ اسم كتابه عن القرآن (النبأ العظيم) من هاتين الآيتين، مما يشير إلى ترجيحه هذا الرأي، وهو قول مجاهد رحمه الله، والذي جعلنا نرجح هذا الاتجاه هو قوله تعالى: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فالظاهر أن الكلام عن المتسائلين وهم الكافرون، والكافرون ليسوا مختلفين في شأن اليوم الآخر، إذ إنهم ينكرونه ولكنهم يختلفون في القرآن، فمنهم من يسميه شعرا، ومنهم من يسميه سحرا، ومنهم من يسميه أساطير الأولين، ومنهم من يسميه كهانة، وهو الذي عنه أعرضوا، كما قص الله علينا شأنهم في سورة (ص)، وعلى هذا يكون معنى المقدمة على الشكل التالي: عن أي شئ يتساءل هؤلاء الكافرون، أيتساءلون عن هذا القرآن الذي يختلفون في شأنه، فبعضهم يعتبره سحرا، وبعضهم يعتبره شعرا، وبعضهم يعتبره أساطير الأولين، وبعضهم يعتبره كهانة، وقد رد الله عليهم: أن الأمر لا كما تتصورون ولا كما تزعمون، بل ستعلمون يقينا أنه حق لا مرية فيه، وأن ما أخبر عنه كائن وحق، وذلك يوم تبعثون، وذلك يوم الفصل، ولما كانوا يكذبون بيوم الفصل، فإن الفقرة الأولى في السورة تتحدث عن مظاهر قدرة الله عزّ وجل، لتقيم عليهم الحجة، أن البعث الذي سيرون فيه صدق القرآن كائن، ثم تأتي الفقرة الثانية لتحدثنا عن اليوم الذي سيعلمون فيه صدق القرآن، ثم تأتي الخاتمة لتبين لهم أن هذا القرآن الذي أنزله الله عزّ وجل قد تم به الإنذار بيوم القيامة، فخاتمة السورة تشير إلى بدايتها فقوله تعالى في الخاتمة: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ يشير إلى القرآن الذي به كان الإنذار، وذلك يجعلنا نستأنس لصحة ما اتجهنا إليه في أن النبأ العظيم هو القرآن. قلنا: إن محور السورة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ

الفقرة الأولى

وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ومقدمة سورة النبأ أرتنا موقفا للكافرين، وأشعرتنا أنهم لا يؤمنون، وأفهمتنا أن أمامهم عذابا عظيما كَلَّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. الفقرة الأولى وتمتد من الآية (6) إلى نهاية الآية (16) وهذه هي: [سورة النبإ (78): الآيات 6 الى 16] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) كلمة في السياق: تأتي الفقرة بعد قوله تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ إنهم سيعلمون يوم القيامة أن كل ما ذكره القرآن حق، ومن ثم فإن الفقرة تذكر من مظاهر قدرة الله عزّ وجل، ما به يتذكر الإنسان أن الله عزّ وجل قادر على إنشائه مرة ثانية، كما تشير إلى الحكمة في صنع الله عزّ وجل، وهذا يقتضي أن يكون هناك بعث، وقد ذكر هاتين النقطتين النسفي مبينا حكمة مجئ هذه الفقرة بعد المقدمة فقال: (لما أنكروا البعث قيل لهم: ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة؟ فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم: لم فعل هذه الأشياء؟ - والحكيم لا يفعل عبثا-، وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل). أقول: إن ذكر هذه الفقرة في هذا السياق يشير إلى أن الله عزّ وجل الذي خلق هذا كله لا يترك الإنسان بلا هداية، ولا تكليف، وهؤلاء الذين يكفرون

[سورة النبإ (78): آية 6]

بالقرآن لا يدركون هذا، فالله الذي خلق هذا هو الذي أنزل هذا القرآن، ذلك مقتضى حكمته وعظمته، فكيف يكفرون بهذا القرآن، وآثار قدرة الله عزّ وجل تشير إلى حكمته، وحكمته تقتضي هداية خلقه، وذلك يقتضي وحيا وبعثة رسول وهم ينكرون ذلك، ويتساءلون عنه، ويختلفون فيه، فالفقرة تؤدي مجموعة أهداف بآن واحد فلنر تفسيرها. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً قال النسفي: (أي: فراشا فرشناها لكم حتى سكنتموها) أقول: أي: ممهدة للخلائق ذلولا لهم وَالْجِبالَ أَوْتاداً قال النسفي: (أي: للأرض لئلا تميد بكم) أقول: في الآية معجزة علمية سنراها وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً قال ابن كثير: يعني: ذكرا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قال النسفي: (أي: قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم. والسبت: القطع) وقال ابن كثير: أي: قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً قال النسفي: أي: سترا يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه، وقال ابن كثير: أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، وقال قتادة: أي: سكنا وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً قال ابن كثير: أي: جعلناه مشرقا نيرا مضيئا؛ ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب والمجئ للمعاش والكسب والتجارات وغير ذلك. وقال النسفي: أي: وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أي: سبع سماوات شديدة، أي: محكمة قوية، وقال ابن كثير: يعني: السموات السبع في اتساعها وارتفاعها وإحكامها، وإتقانها وتزيينها ... وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً قال النسفي: أي: مضيئا وقادا، أي: جامعا للنور والحرارة والمراد الشمس، وقال ابن كثير: يعني: الشمس المنيرة التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قال النسفي: أي: السحائب إذا أعصرت أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، قال ابن كثير: والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب ماءً ثَجَّاجاً أي: منصبا بكثرة، لِنُخْرِجَ بِهِ أي: بالماء حَبًّا كالبر والشعير وَنَباتاً قال ابن كثير: أي: خضرا يؤكل رطبا وَجَنَّاتٍ أي: بساتين أَلْفافاً أي: ملتفة الأشجار أو مجتمعتها، قال ابن كثير: أي: بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة الطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعا. وبهذا انتهت الفقرة.

كلمة في السياق

وقد علق صاحب الظلال على مضمون هذه الفقرة بقوله: (وهذا التناسق في تصميم الكون، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه، وحكمة تقدره، وإرادة تدبره. يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب. وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة. كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام! إن لهذا الكون خالقا، وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا. وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو: من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا. وخلق الناس أزواجا. وجعل نومهم سباتا (بعد الحركة والوعي والنشاط) مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء، وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط. ثم بناء السبع الشداد. وجعل السراج الوهاج. وإنزال الماء الثجاج من المعصرات. لإنبات الحب والنبات والجنات ... توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق، ويشي بالتدبير والتقدير، ويشعر بالخالق الحكيم القدير. ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية ... ومن هنا يلتقي السياق بالنبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون!). كلمة في السياق: جاءت هذه الفقرة بعد قوله تعالى: ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وقبل قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ومجيئها في هذا المقام يحوي ردا على تساؤلات الكافرين الواردة في المقدمة، وردا على اختلافهم في شأن النبأ العظيم، وتدليلا على اليوم الآخر الذي سيعلمون فيه أن ما قاله القرآن حق، وذلك من خلال التذكير بظاهرة العناية، وظاهرة الحكمة، ومن خلال عرض مظاهر القدرة الإلهية حتى إذا اتضح هذا كله تأتي الفقرة الثانية، وفيها كلام عما سيلقونه يوم القيامة، وعما سيلقاه المتقون فيها، أي: فيها كلام عن اليوم الذي سيعلمون فيه الحق فيما أخبرهم به القرآن فالسياق يقول كَلَّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ فإذا سأل سائل متى هذا؟ كان الجواب: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ... وجاءت الفقرة الأولى فيما بين ذلك لتخدم ما قبلها وما بعدها بأن ترد على مواقف الكافرين المذكورة قبلها وتؤسس للكلام الذي يأتي بعدها فلنر الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (17) إلى نهاية الآية (39) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة النبإ (78): الآيات 17 الى 30] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) المجموعة الثانية [سورة النبإ (78): الآيات 31 الى 39] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ بين أهل الكفر والإيمان، بين المحسن والمسئ، والمحق

[سورة النبإ (78): آية 18]

والمبطل، كانَ مِيقاتاً قال النسفي: (أي: وقتا محدودا ومنتهى معلوما لوقوع الجزاء أو ميعادا للثواب والعقاب) وقال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معدود، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ولا يعلم وقته على اليقين إلا الله عزّ وجل، ثم بين الله عزّ وجل هذا اليوم فقال: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً قال النسفي: أي: جماعات مختلفة، أو أمما كل أمة مع رسولها وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً أي: وشقت السماء فكانت طرقا ومسالك لنزول الملائكة وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً قال ابن كثير: أي: يخيل إلى الناظر أنها شئ وليست بشيء، وبعد هذا تذهب بالكلية، فلا عين ولا أثر، إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً قال ابن كثير: أي: مرصدة معدة لِلطَّاغِينَ وهم المردة العصاة المخالفون للرسل مَآباً أي: مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قال ابن كثير: أي: ماكثين فيها أحقابا، وهو جمع حقب وهو المدة من الزمان. قال النسفي: وهو الدهر، ولم يرد به عدد محصور، بل الأبد، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً أي: روحا ينفس عنهم حر النار وَلا شَراباً يسكن عطشهم إِلَّا حَمِيماً قال النسفي: أي: ماء حارا يحرق ما يأتي عليه وَغَسَّاقاً قال النسفي: أي: ماء السيل من صديدهم، قال ابن كثير: فأما الحميم: فهو الماء الذي قد انتهى حره وحموه، والغساق هو: ما اجتمع من صديد أهل النار، وعرقهم، ودموعهم وجروحهم، فهو بارد لا يستطاع من برده، ولا يواجه من نتنه. وفي الآيات الثلاث الأخيرة قال ابن كثير نقلا عن ابن جرير: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً متعلقا بقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر، ونوع آخر، وبعد أن عرض النسفي هذا القول قال: فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب، بدلوا بأحقاب أخر، فيها عذاب آخر، وهي أحقاب بعد أحقاب، لا انقطاع لها. أقول: وعلى كل حال فلا يجوز أن نفهم بشكل من الأشكال أن عذاب الكافرين في النار إلى نهاية، بل ذلك هو الكفر كائنا من كان صاحبه، لأن الخلود الأبدي للكفار في النار من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة جَزاءً وِفاقاً أي: جوزوا جزاء موافقا لأعمالهم، أو ذا وفاق لأعمالهم، أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في

[سورة النبإ (78): آية 27]

الدنيا، ثم علل تعالى لاستحقاقهم ذلك بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي: لا يخافون محاسبة الله إياهم، أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حسابا، قال ابن كثير: أي: لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارا يجازون فيها، ويحاسبون وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي: بالقرآن كِذَّاباً أي: تكذيبا، قال ابن كثير: أي: وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله صلى الله عليهم وسلم فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً أي: مكتوبا في اللوح أو المعنى: كتبناه كتابة، قال ابن كثير: أي: وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناها عليهم، وسنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال ابن كثير: أي: يقال لأهل النار ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه، وآخر من شكله أزواج. كلمة في السياق: 1 - لقد علل الله عزّ وجل لما استحق به الكافرون ما استحقوه بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً* وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً فهما قضيتان: التكذيب بآيات الله، وعدم رجاء الحساب، ومن هاهنا نعلم ماهية النبأ العظيم، فالنبأ العظيم هو القرآن الذي تحدث عن اليوم الآخر، وهكذا عرفنا من هذه المجموعة ماهية النبأ العظيم، وعرفنا بماذا تهدد الله عزّ وجل به الكافرين بقوله: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ .... 2 - بعد أن عرض الله عزّ وجل ما أعد للكافرين يحدثنا في المجموعة الثانية من الفقرة الثانية عما أعده عزّ وجل للمتقين، وفي ذكر ما أعده الله عزّ وجل للمتقين في هذا السياق إشارة إلى أن ما يعطاه المتقون يوم القيامة نوع عذاب للكافرين، وزيادة حسرة، أخذنا ذلك من مجئ هذه المجموعة في سياق السورة التي قالت مقدمتها ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. 3 - حدثنا محور السورة أن للكافرين عذابا عظيما: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد فصلت المجموعة التي مرت معنا في ماهية هذا العذاب العظيم. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أي: نجاة من كل مكروه، وظفرا بكل محبوب، قال ابن عباس: أي: متنزها حَدائِقَ أي: بساتين فيها أنواع الشجر المثمر

[سورة النبإ (78): آية 33]

وَأَعْناباً قال النسفي: أي: كروما وَكَواعِبَ أي: نواهد، والنواهد هن اللواتي أثداؤهن لم يتدلين أَتْراباً أي: في سن واحدة وَكَأْساً دِهاقاً قال النسفي: أي: مملوءة لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً قال ابن كثير: أي: ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة، ولا إثم كذب، بل هي دار السلام، وكل ما فيها سالم من النقص جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً قال النسفي: يعني: كافيا أو على حسب أعمالهم، وقال ابن كثير: أي: هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به، وأعطاهموه بفضله، ومنه وإحسانه ورحمته عطاء حسابا أي: كافيا وافيا سالما كثيرا، تقول العرب: أعطاني فأحسبني، أي: كفاني، ومنه حسبي الله أي: كافي رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ أي: من هذه صفته هو الذي يعطيهم هذا العطاء لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً قال النسفي: أي: لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه، أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفا، قال ابن كثير: أي: لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه. أقول: هذا مع اتصافه بكمال الرحمة جل جلاله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قال النسفي: أي: جبريل عند الجمهور وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا أي: مصطفين لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أي: في أمر الشفاعة وَقالَ صَواباً قال النسفي: حقا بأن قال المشفوع له: لا إله إلا الله في الدنيا، أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي: الكائن لا محالة، أي: الثابت وقوعه فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي: مرجعا وطريقا يهتدي إليه، ومنهجا يمر به عليه، وقال النسفي: أي: مرجعا بالعمل الصالح. كلمة في السياق: 1 - بدأت الفقرة الثانية بقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً وانتهت بقوله تعالى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وفي ذلك ما يشير إلى وحدة الفقرة الثانية التي عرضناها على مجموعتين. 2 - بدأت السورة بالإنكار على تساؤل الكافرين عن النبأ العظيم، المختلفين في شأنه، ثم هددتهم بيوم، ثم ذكرتهم بما يقتضي إيمانهم، ثم تحدثت عن هذا اليوم الذي هددوا فيه وهو يوم الفصل، وذكرت بعض ما يكون فيه مما سيعرفهم على أن كفرهم كان في غير محله، وأن الحق هو ما دل عليه هذا القرآن، وختمت الفقرة الثانية بما يهيج على السير إلى الله عزّ وجل، ثم تأتي الخاتمة لتبين أن الله عزّ وجل قد أنذر الخلق- بهذا

خاتمة السورة

القرآن- ذلك اليوم، فليس لهم حجة في عدم السير، ولا في الكفر فلنر خاتمة السورة: خاتمة السورة وهي آية واحدة، وهي الآية الأربعون وهذه هي: [سورة النبإ (78): آية 40] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) التفسير: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً قال ابن كثير: يعني: يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا، لأن كل ما هو آت آت يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ قال ابن كثير: أي: يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها، قديمها وحديثها وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً قال النسفي: أي: في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم، فلم أبعث. قال ابن كثير: (أي: يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا، ولم يكن خلق ولا خرج إلى الوجود، وذلك حين عاين عذاب الله ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة. وقيل: إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور، حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني ترابا، فتصير ترابا، فعند ذلك يقول الكافر يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً أي: كنت حيوانا فأرجع إلى التراب، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما). كلمة في السياق: 1 - بدأت السورة بالإنكار على من لم يؤمن بالقرآن، وختمت بذكر مضمون الإنذار، ولا شك أن وسيلة الإنذار هي القرآن، وفيما بين المقدمة والخاتمة ذكر الله

الفوائد

عزّ وجل ما به تقوم الحجة، وما يعرف به مضمون ما يحدث في ذلك اليوم الذي أنذروه. 2 - قلنا إن محور السورة هما الآيتان السادسة والسابعة من مقدمة سورة البقرة، فلنر كل جزء منهما وما فصلت فيه سورة النبأ. - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. لقد رأينا في السورة نموذجا من مواقف الكافرين، إذ يتساءلون تساؤل إنكار واستهزاء عن هذا القرآن الذي هو نذير، وأنزل على النذير، وفي ذلك بيان عملي لمواقف الكافرين وأنهم يرفضون الإنذار ويختلفون في شأن النذير الذي هو القرآن، ويتساءلون عنه سؤال استهزاء وإنكار، وقد ردت السورة عليهم وأقامت الحجة دون أن تخاطبهم خطابا مباشرا أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ ... فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وذلك أعظم مظهر لصلة السورة بمحورها، فقد سجل في السورة بشكل غير مباشر أنهم لا يستفيدون من الإنذار مع إقامة الحجة عليهم. - خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ رأينا في السورة تفصيلا للعذاب العظيم الذي سيصيب هؤلاء الكافرين، وقد رأينا في السورة معاني جديدة لم تذكر في مكان آخر من القرآن، مما يؤكد ما ذكرناه من قبل أن كل سورة فيها جديد. الفوائد: 1 - قلنا عند قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً إن في هذه الآية معجزة علمية فمما تحدث عنه الجيولوجيون في عصرنا أن لكل جبل في الأرض جذرا وتديا في باطن الأرض يعدل ضعفي ارتفاعه فوق الأرض، فالتعبير بكلمة (أوتادا) عن الجبال فيه معجزة في حد ذاته، لأنه إخبار عن معنى ما عرف العالم دقائقه بما يتفق مع اللفظ القرآني إلا قريبا. 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قال صاحب الظلال: (وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط؛ ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور

الحياة ... وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها؛ ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه. فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم. وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر؛ وجعل حياته متوقفة عليه. فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة. فإذا أجبر إجبارا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظا فإنه يهلك قطعا. وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب ... إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته- طائعا أو غير طائع- ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب. ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان، والروح مثقل، والأعصاب مكدودة، والنفس منزعجة، والقلب مروع. وكأنما هذا النعاس- وأحيانا لا يزيد على لحظات- انقلاب تام في كيان هذا الفرد. وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد ... ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وامتن الله عليهم بها. وهو يقول: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ... ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ ... كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة! فهذا السبات: أي: الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي؛ وسر من أسرار القدرة الخالقة؛ ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه. وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر). 3 - بمناسبة قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال ابن كثير: (قال قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا). أقول: وفي الآية رد على من ذهب إلى أن أهل النار يموتون أو ينتهي عذابهم، أو يصبحون في وضع يستلذون به العذاب، نسأل الله أن يميتنا على الفهم الفطري الصافي لكتاب الله الذي يحبه ويرضاه، ويكرم أهله بكرامة الدارين. 4 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ

كلمة أخيرة في سورة النبأ ومجموعتها

إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً قال النسفي: (اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا، ما هو؟ على أقوال (أحدها) ما رواه العوفي عن ابن عباس: أنهم أرواح بني آدم. (الثاني) هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة، وقال قتادة: هذا مما كان ابن عباس يكتمه. (الثالث) أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا بملائكة ولا ببشر وهم يأكلون ويشربون، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمش. (الرابع) هو جبريل، قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك، ويستشهد لهذا القول بقوله عزّ وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وقال مقاتل بن حيان: الروح هو أشرف الملائكة وأقرب إلى الرب عزّ وجل وصاحب الوحي. (الخامس) أنه القرآن قاله ابن زيد كقوله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الآية. (والسادس) أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات. قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قال: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا). أقول: ما رجحه النسفي هو الذي نرجحه، وهو أن المراد بالروح جبريل عليه السلام، فالآية تذكر أن جبريل على كرامته على الله، والملائكة الآخرون على كرامتهم عنده جل جلاله، هذا أدبهم يوم القيامة. كلمة أخيرة في سورة النبأ ومجموعتها: فصلت سورة المرسلات وسورة النبأ في مقدمة سورة البقرة، فتحدثنا عن المتقين والكافرين، عن المتقين وما لهم عند الله عزّ وجل، وعن الكافرين وما أعد لهم الله عزّ وجل من عذاب، وبين السورتين صلات كثيرة؛ فآخر سورة المرسلات متصل بأول سورة النبأ، وكل من السورتين ورد فيها: (الم) في بداية فقرة أو مجموعة، ففي سورة المرسلات تكررت (الم) ثلاث مرات، ووردت مرة واحدة في سورة النبأ، وفي كل من السورتين وردت في سياق إقامة الحجة، وورد تعبير (يوم الفصل) في كل من السورتين فبين السورتين تشابه كثير. والسورتان تفصلان في مقدمة سورة البقرة، وكل منهما تحدثت عن المتقين والكافرين بآن واحد، وذلك مضمون مقدمة سورة البقرة، فالكلام عن المتقين يقتضي الكلام عن الكافرين والعكس، ومن ثم فلا غرابة أن نجد ذلك في كل من السورتين، وإن كان المحور الرئيسي لكل منهما هو ما رأيناه.

وكما أن بين السورتين تشابها كثيرا، واتصالا كبيرا، فبينهما تكامل واضح، فيوم الفصل الذي بدأت الحديث عنه سورة المرسلات أكملت الحديث عنه سورة النبأ، والكلام عن المكذبين الذي تحدثت عنه سورة المرسلات تحدثت سورة النبأ عن مظاهر منه، والكلام عن عذاب الكافرين وثواب المتقين- الذي رأينا طرفا عنه في سورة المرسلات- رأينا طرفا آخر عنه في سورة النبأ، هذا مع أن لكل سورة محورها وسياقها وجرسها وأسلوبها وطريقة عرضها ونوع خطابها، ومع هذا كله فإنه في كل من السورتين يظهر لنا كيف أن كل سورة قرآنية تعطينا جديدا، ولكنها تعرضه ضمن معان قد تكون تكررت من قبل كثيرا أو قليلا، ولكن الجديد الكثير يبقى كثيرا، وذلك من حكمة الله عزّ وجل في هذا القرآن إذ يرفع النفس البشرية في كل سورة إلى مقام جديد، إن في التصورات، أو في السلوك بالشكل الذي يحيط بجوانب النفس البشرية، وذلك كذلك من حكمة هذا القرآن إذ يذكر النفس البشرية بالقضايا التي تنساها كثيرا أو تغفل عنها كثيرا يذكرها بها كثيرا، ولكن في كل مرة بشكل جديد، حتى لا تمل هذه النفس، ومن الجديد في السورتين القرار المكين للنطفة، والشرر كالقصر، ووتدية الجبال، وازدياد العذاب باطراد على أهل النار، وبقاؤهم في نوع معين من العذاب أحقابا لينتقلوا إلى نوع آخر، وغير ذلك كثير لمن دقق، ولننتقل إلى المجموعة التاسعة من قسم المفصل.

المجموعة التاسعة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة التاسعة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: النازعات، وعبس، والتكوير والانفطار

كلمة في المجموعة التاسعة من قسم المفصل ومحاور سورها

كلمة في المجموعة التاسعة من قسم المفصل ومحاور سورها تبدأ هذه المجموعة بسورة النازعات، وهي تفصل في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة، ولذلك نجد تشابها بينها وبين سورة (طه) في قصة فرعون وموسى، ونجد فيها ما يشير إلى الأصل الذي تنبثق عنه التقوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى. وتأتي بعد ذلك سورة عبس، وتفصل في الآيتين اللاحقتين من سورة البقرة، ومن ثم تعاتب في ابتدائها النذير في قضية لها علاقة بالإنذار، وتأتي بعد ذلك سورتا التكوير والانفطار، وكلاهما تفصل فيما بعد آيات مقدمة سورة البقرة، ولذلك نجد في الأولى تهييجا على العمل، والاستقامة، ونجد في الثانية تأنيبا للإنسان على ترك العمل، فلنر سور المجموعة.

سورة النازعات

سورة النازعات وهي السورة التاسعة والسبعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة التاسعة من قسم المفصل، وهي ست وأربعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة النازعات ومحورها

كلمة في سورة النازعات ومحورها: تبدأ السورة بأقسام يفهم جوابها من سياق السورة، ثم تحدثنا عن اليوم الآخر، وموقف الكافرين منه، ثم تقص علينا من نبأ فرعون وموسى، فتعطينا دروسا في التقوى، ثم تخاطب السورة البشر مذكرة إياهم بنعم الله التي تقتضي شكره وتقواه، ثم يعود الحديث عن اليوم الآخر بما يهيج على التقوى، ثم تختم السورة باستهجان السؤال عن موعد الساعة، فالسورة في سياقها العام تربي على التقوى، وتفصل في الآيات الخمس الأولى من مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. تتألف السورة من مقدمة وفقرتين وخاتمة. المقدمة وتستمر حتى نهاية الآية (14). الفقرة الأولى وتستمر حتى نهاية الآية (26). الفقرة الثانية وتستمر حتى نهاية الآية (41). الخاتمة: وتستمر حتى نهاية السورة. بين يدي سورة النازعات: قال الألوسي في تقديمه لسورة النازعات: (وتسمى: سورة الساهرة، والطامة، وهي مكية بالاتفاق. وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي، وخمس وأربعون في غيره، وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم. وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم، أو ما تضمنته كلها، وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة، أقسم عزّ وجل في هذه على البعث ذلك اليوم).

مقدمة السورة

مقدمة السورة وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (14) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) التفسير: وَالنَّازِعاتِ أي: والملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غَرْقاً قال النسفي: أي: إغراقا في النزع، أي: تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها وَالنَّاشِطاتِ أي: والملائكة التي تنشط الأرواح أي: تخرجها نَشْطاً أي: إخراجا، قال ابن كثير في تفسير النازعات والناشطات: الملائكة يعنون- أي: أصحاب هذا القول- حين تنزع أرواح بني آدم فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنها حلته من نشاط. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قال ابن مسعود: هي الملائكة، وقال النسفي: (وبالطوائف- أي: أقسم الله عزّ وجل بالطوائف من الملائكة- التي تسبح في مضيها أي: تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمرا من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم)، وقال الحسن: في قوله تعالى فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً يعني: الملائكة سبقت إلى الإيمان والتصديق ... تدبر الأمر من السماء إلى الأرض يعني بأمر ربها. قال النسفي: وجواب

[سورة النازعات (79): آية 6]

القسم محذوف وهو: لتبعثن؛ لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ أي: يوم تتحرك الراجفة حركة شديدة، والرجف: شدة الحركة، والراجفة: النفخة الأولى، وصفت بما يحدث بحدوثها؛ لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كل من عليها تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي: النفخة الثانية؛ لأنها تردف الأولى. قال النسفي: والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم. قال ابن كثير: قال ابن عباس: هما النفختان الأولى والثانية. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قال ابن عباس: يعني: خائفة أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: أبصار أصحابها ذليلة لهول ما ترى، وبعد أن أقسم الله بطوائف من الملائكة على كينونة البعث، ووصف بعض ما يكون في يوم القيامة وما بعده تحدثنا السورة عن إنكار الكافرين لهذا اليوم فتقول: يَقُولُونَ أي: يقول الكافرون، قال النسفي: أي: منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكارا للبعث أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قال النسفي: استفهام بمعنى الإنكار، أي: أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر فنعود أحياء كما كنا، والحافرة الحالة الأولى، أنكروا البعث ثم زادوا استبعادا فقالوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي: بالية، والمعنى: أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاما بالية قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: قال منكر والبعث: رجعتنا إذن إن رجعنا رجعة ذات خسران أو خاسر أصحابها، قال النسفي: والمعنى: أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا، وهذا استهزاء منهم، قال تعالى في الرد عليهم: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة واحدة، قال النسفي: أي: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عزّ وجل؛ فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى، فما هي إلا صيحة واحدة، يريد النفخة الثانية فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ أي: فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في جوفها. قال ابن كثير: قال ابن عباس: الساهرة الأرض كلها، وقال ابن كثير: والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى. كلمة في السياق: أقسم الله عزّ وجل بطوائف من الملائكة على مجئ اليوم الآخر، وذكر ما يحدث في ذلك اليوم من خوف وذلة للكافرين، كما ذكر إنكار الكافرين لليوم الآخر، وبين سهولة خلق ذلك اليوم على الله عزّ وجل، ثم تأتي الفقرة الأولى من السورة، وفيها ذكر قصة فرعون وموسى، وفي ذكر هذه القصة، في هذا السياق تحذير للكافرين وبيان لوجوب استجابة الناس لدعوة الرسول، وبيان لمضمون دعوة الرسل.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (26) وهذه هي: [سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 26] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) التفسير: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى قال النسفي: استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما يجب أن يشيع، والتشريف للمخاطب به، وقال ابن كثير: أي: هل سمعت بخبره، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ أي: كلمه بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي: المطهر طُوىً قال ابن كثير: هو اسم الوادي على الصحيح، فقال له الله عزّ وجل: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي: تجاوز الحد في الكفر والفساد. قال ابن كثير: أي: تجبر وتمرد وعتا، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي: تتطهر من الشرك والعصيان، بالطاعة والإيمان، وقال ابن كثير: (أي: قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به فتسلم وتطيع) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى قال النسفي: أي: وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه فتخشى؛ لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة، وقال ابن كثير: أي: أدلك إلى عبادة ربك فتخشى، أي: فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشعا، بعد ما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير، قال النسفي: بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في

[سورة النازعات (79): آية 20]

قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى قال النسفي: أي: فذهب فأرى موسى فرعون العصا- أو العصا واليد البيضاء- لأنهما في حكم آية واحدة، وقال ابن كثير: يعني: فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ودليلا واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله فَكَذَّبَ أي: فرعون بموسى وبالآية الكبرى وسماهما ساحرا وسحرا وَعَصى الله. قال ابن كثير: أي: فكذب بالحق وخالف ما أمر به من الطاعة، وحاصله أنه كفر قلبه فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمه بأن ما جاء به حق لا يلزم منه أنه مؤمن به؛ لأن المعرفة علم القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحق والخضوع له ثُمَّ أَدْبَرَ أي: تولى عن موسى يَسْعى أي: يجتهد في مكايدته. قال ابن كثير: أي: في مقابلة الحق بالباطل، وهو جمع السحرة؛ ليقابلوا ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات فَحَشَرَ أي: فجمع السحرة وجنده فَنادى أي: في قومه فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: لا رب فوقي، وهذا يشير إلى أنه كانت لهم أصنام يعبدونها معه، فجعل نفسه فوقها جميعا، ولم يعترف لله بالربوبية فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ أي: تنكيل الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي: فعاقبه عقوبة الدنيا والآخرة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَعِبْرَةً أي: لعظة لِمَنْ يَخْشى أي: لمن يتعظ وينزجر. كلمة في السياق: 1 - عرفنا من هذه القصة أن دعوة موسى عليه السلام تتضمن تزكية النفس وخشية الله عزّ وجل، وذلك يكون بمعرفة الله وعبادته، وجماع هذا كله التقوى، فالتقوى أثر عن معرفة الله، وزكاة النفس أثر عن معرفة الله وعن التقوى، وتوضيح هذه القضية من خلال قصة موسى عليه السلام واضح الصلة في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة عن المتقين. 2 - في الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة يرد قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وما ورد معنا في السورة له صلة بما أنزل من قبل، وله صلة بالإيمان بالآخرة. 3 - إن مجئ قصة موسى عليه السلام وفرعون في هذا السياق تحذير للذين يرفضون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة. ومن ثم قال ابن كثير في بداية

الفقرة الثانية

هذه القصة: (يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بالمعجزات ومع هذا استمر على كفره وطغيانه، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وكذلك عاقبة من خالفك، وكذب بما جئت به، ولهذا قال في آخر القصة إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى). 4 - يفهم من مجئ قصة موسى عليه السلام وفرعون في هذا السياق أن وضع هؤلاء المنكرين لليوم الآخر- الذين تحدثت عنهم مقدمة السورة- يشبه وضع فرعون وقومه مع موسى، ويفهم من هذا أن الرفض للإيمان باليوم الآخر رفض لدعوة الرسل- صلوات الله عليهم وسلامه- أصلا. 5 - يلاحظ أن الفقرة اللاحقة من السورة تناقش الكافرين باليوم الآخر، وتقيم عليهم الحجة، ومجئ قصة موسى وفرعون في الوسط يشير إلى أن ما حدث لفرعون درس للكافرين باليوم الآخر، ودليل على صدق دعوة الرسل، ودليل على مجئ اليوم الآخر أصلا، فتحقق واحد من وعيدي الرسل دليل على تحقق الوعد الآخر. 6 - ستبدأ بالفقرة اللاحقة مناقشة للكافرين، وهذا يشير إلى أن ما ورد قبل ذلك كان بمثابة أساس وعظي لإيجاد الجو النفسي الذي يقبل به الإنسان الحجة القاطعة. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (27) حتى نهاية الآية (41) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة النازعات (79): الآيات 28 الى 33] رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية [سورة النازعات (79): الآيات 34 الى 41] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الثانية: أَأَنْتُمْ يا منكري البعث أَشَدُّ خَلْقاً أي: أصعب خلقا وإنشاء أَمِ السَّماءُ أشد خلقا؟ ثم بين كيف خلقها فقال: بَناها أي: الله عزّ وجل رَفَعَ سَمْكَها قال النسفي: أي: أعلى سقفها فَسَوَّاها أي: فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور، أقول: إن من عرف أبعاد المجرات وكثرتها أدرك عظمة السماء، وأدرك أن إعادة خلق الإنسان أسهل في تصورات العقل البشري من خلق هذه السماء كما هي ثم قال تعالى عن السماء: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها أقول: أي: أذهب ليلها وأخرج نهارها بمعنى أنه لا ليل لها. وهذا هو واقع السماء إذ الليل وضع محلي لبعض الأجرام وبعد أن تحدث تعالى عن خلق السماء بعظمتها تحدث عن الأرض فقال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد السماء. أقول: في هذه الكلمة معجزة علمية كبيرة سنتحدث عنها في الفوائد دَحاها أي: كورها وفي هذه الكلمة معجزة علمية أخرى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها أي: كلأها وَالْجِبالَ أَرْساها قال ابن كثير: أي: قررها وأثبتها وأكدها في أماكنها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي: فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم. قال ابن كثير: (أي: دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعا لخلقه، ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل). أقول: أقام السياق الحجة على منكري البعث من خلال نقطة هي: إن

كلمة في السياق

الكافرين ينكرون البعث لتصورهم أن ذلك صعب الحدوث، فالله عزّ وجل أقام عليهم الحجة بأن خلق السماء والأرض بما في السماء والأرض من عظمة ودقة وحكمة أكبر في تصور الخلق من إعادة خلق الإنسان، فكيف يستبعدون على قدرة الله عزّ وجل أن يعيد الله خلق الإنسان مرة ثانية. كلمة في السياق: بدأت السورة بالأقسام على أن يوم القيامة آت، ثم تحدثت عما يجري يوم القيامة، وذكرت تكذيب المكذبين فيه، وذكرت بوقوعه، ووعظت بما جرى لفرعون، ثم أقامت الحجة على أن يوم القيامة آت، ثم تأتي مجموعة تفصل فيما يجري للناس يومذاك، فلنر المجموعة الثانية من الفقرة الثانية. تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الثانية: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى قال ابن كثير: وهو يوم القيامة، قال ابن عباس: سميت بذلك لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى قال النسفي: (أي: إذا رأى أعماله مدونة في كتابه، تذكرها وكان قد نسيها، أي: يتذكر الإنسان سعيه، قال ابن كثير: أي: حينئذ يتذكر ابن آدم جميع عمله خيره وشره، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى قال النسفي: (فرآها الناس عيانا) ثم بين تعالى كيف يكون الأمر يوم تأتي الطامة، ويكون فيها ما يكون فَأَمَّا مَنْ طَغى أي: جاوز الحد فكفر، قال ابن كثير: أي: تمرد وعتا وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: على الآخرة باتباع الشهوات، قال ابن كثير: أي: قدمها على أمر دينه وأخراه فَإِنَّ الْجَحِيمَ أي: النار هِيَ الْمَأْوى أي: المرجع والمقر له، قال ابن كثير: أي: فإن مصيره إلى الجحيم، وإن مطعمه من الزقوم، ومشربه من الحميم وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي: من علم أن له مقاما يوم القيامة لحساب ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي: المؤذي، أي: زجرها عن اتباع الشهوات، والهوى المحرم هو ميل النفس إلى شهواتها المحرمة، والمكروه هو ميلها إلى الشهوات المكروهة. قال ابن كثير: أي: خاف القيام بين يدي الله عزّ وجل، وخاف حكم الله فيه ونهى نفسه عن هواها إلى طاعة مولاها فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي: المرجع، قال ابن كثير: أي: منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بعد أن أقام الله عزّ وجل الحجة على الكافرين بأن يوم القيامة آت، بين حال الناس فيه، فالطاغون المؤثرون للحياة الدنيا جزاؤهم النار، والخائفون الله عزّ وجل، الناهون النفس عن شهواتها المحرمة مصيرهم الجنة، وبهذا عرفنا باختصار سر النجاة وسر الهلاك، فعرفنا ماهية التقوى، ومن هنا ندرك صلة السورة بمحورها من سورة البقرة، فالمجموعة فصلت في موضوع التقوى فأرتنا باعثه وما يناقضه. 2 - في الفقرة التي تحدثت عن موسى وفرعون، رأينا قول الله عزّ وجل لموسى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فتزكية النفس، وخشية الله عزّ وجل هي ملاك دعوة موسى عليه السلام، وقد رأينا في المجموعة الأخيرة أن خوف الله عزّ وجل، ونهي النفس عن الهوى، هما ركنا النجاة من النار، مما يفيد أن تزكية النفس تعني نهي النفس عن شهواتها، فالصلات بين فقرات السورة قائمة، والصلات بين السورة ومحورها موجودة، وهكذا نجد أن السورة في سياقها الرئيسي تعرفنا على اليوم الآخر الذي يجب أن نؤمن به، كما تعرفنا على حيثيات في التقوى ينبغي أن نفطن لها، وبعد أن عرضت السورة موضوع اليوم الآخر، ووعظت، تأتي خاتمتها لتفند فكرة السؤال عن زمن يوم القيامة؛ لأن ذلك لا يترتب عليه عمل، بل الحكمة ألا يعرف الناس ذلك اليوم ليبقى الناس يعملون.

خاتمة السورة

خاتمة السورة وتتألف من خمس آيات وهذه هي: [سورة النازعات (79): الآيات 42 الى 46] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) التفسير: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قال النسفي: أي: متى إرساؤها، أي: إقامتها، يعني: متى يقيمها الله ويثبتها. أقول: شبهت الساعة بسفينة سائرة، ويسألون عن وقت إرسائها أي: استقرارها، قال تعالى ردا على هذا السؤال: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها* إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها قال النسفي: أي: في أي شئ أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم؟ أي: ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شئ ... إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره، وقال ابن كثير: أي: ليس علمها إليك، ولا إلى أحد من الخلق بل مردها ومرجعها إلى الله عزّ وجل، فهو الذي يعلم وقتها على اليقين إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها قال النسفي: أي: لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها. وقال ابن كثير: أي: إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها أي: الساعة لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا عَشِيَّةً أي: ما بين الظهر إلى غروب الشمس أَوْ ضُحاها أي: ضحى تلك العشية، والضحى ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار، قال ابن كثير: أي: إذا قاموا من قبورهم إلى الحشر يستقصرون مدة الحياة الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضحى يوم. أقول: فإذا كان الأمر كذلك فعليهم بالعمل، فماذا يفيدهم عرفوا قربها أو بعدها ما دام أنها حاصلة وسيرونها وكأن قد.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - أصبح واضحا أن للسورة سياقها الخاص وتسلسل معانيها، فالقيامة آتية وهناك نفختان، وسيحشر الناس في النفخة الثانية، وقسم من الناس يحشرون خائفين ذليلة أبصارهم، وهم الذين كانوا ينكرون يوم القيامة، مكذبين في ذلك رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وقد أنذر الله هؤلاء أن يصيبهم ما أصاب قوم فرعون من عذاب الدنيا والآخرة، ثم أقام الحجة على هؤلاء بأن يوم القيامة آت، ثم ذكر حال الناس يومذاك، وسر النجاة، وسر الخسار، ثم أنكرت السورة على من يسأل عن وقت وقوع القيامة لأنه سؤال لا يترتب عليه عمل، وليست الإجابة عنه داخلة في اختصاص الرسول عليه الصلاة والسلام. 2 - وبعد أن اتضح لنا السياق الخاص للسورة، فلنر صلتها بمحورها من سورة البقرة: أ- الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فصلت السورة في التقوى فبينت أنها خوف الله وتزكية النفس، أو أنها خوف الله عزّ وجل وترك الشهوات، أو أنها ترك الطغيان وإيثار الآخرة على الدنيا، وإنما عرفنا ذلك لأن النجاة علقت على هذه المعاني، وقد ختمت الفقرة الأولى من مقدمة سورة البقرة بقوله تعالى عن المتقين: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ب- الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ذكرت السورة طرفا من الغيب الذي يجب الإيمان به، والعمل بمقتضاه، وهيجت على العمل بشكل عام. ج- وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ذكرت السورة طرفا مما أنزل على من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كما فصلت في موضوع اليوم الآخر، وأقامت الحجة في شأنه، ودعت إلى اليقين فيه. د- أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ذكرت السورة من يستحق الفلاح وفصلت فيه، فللسورة صلة وثيقة بمحورها. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قال الألوسي: (وفي حمل

المدبرات على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين، وهو باطل عقلا ونقلا، كما أوضحنا ذلك فيما تقدم، وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول، من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض، وإنقاذ الغريق، والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد، على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء، والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا). 2 - بمناسبة قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل عن أبي بن كعب عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: «إذا يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك» وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري بإسناده مثله، ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»). 3 - بمناسبة قوله تعالى حكاية عن قول منكري البعث: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قال الألوسي: (ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قول الشاعر: أحافرة على صلع وشيب … معاذ الله من سفه وعار يريد: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي، بعد أن شبت، معاذ الله من ذاك سفها وعارا، ومنه المثل: النقد عند الحافرة، فقد قيل: الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي: النقد حال العقد). 4 - بمناسبة قوله تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ* فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن سهل بن سعد الساعدي فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال: أرض بيضاء عفراء، خالية كالخبزة النقي، وقال الربيع بن أنس فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يقول الله عزّ وجل: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ويقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي

نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً وقال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً)، وقال الألوسي: (روى الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط، يخلقها عزّ وجل حينئذ). 5 - هناك خلاف كثير حول فرعون موسى من هو؟ من الأقوال في ذلك أنه رعمسيس الثاني، ومن المعروف تاريخيا أن رعمسيس الثاني قد أصدر منشورا يعلن فيه عن ربوبيته، وقد عثر على نص هذا المنشور مكتوبا على أوراق البردي، فهل لذلك صلة بما قاله الله عزّ وجل في سورة النازعات: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ إن كان رعمسيس الثاني هو فرعون موسى فالأمر واضح، وإلا فإن فكرة تأليه النفس عند الفراعنة كانت تتكرر مرة بعد مرة. 6 - في قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها معجزتان علميتان فالدحو في اللغة العربية يفيد التكوير؛ ولذلك تسمي العرب بيض النعام في الرمل الأدحية أو الأدحوة، والقول بكروية الأرض لم يكن معروفا في جزيرة العرب حين تنزل القرآن، فالإشارة إليه دليل على أن القرآن من عند الله، والمعجزة الثانية في الآية أنها ذكرت أن الأرض خلقت بعد المجرات التي هي سماء بالاصطلاح اللغوي، وهذا الاتجاه تجمع عليه النظريات العلمية الحديثة، فكل النظريات العلمية الحديثة تعتبر أن نشأة الأرض تأخرت عن نشأة الكون ككل، وقد خلط كثير من المفسرين بين السماوات السبع وبين السماء ككل، فالسّماوات السبع غيبية، وخلقها جاء متأخرا عن خلق الأرض بنص القرآن، وأما السماء ككل والتي تعني مجرات هذا الكون وتوابعها فهذه قد تقدم خلقها على خلق الأرض بنص آية النازعات، وتلك من معجزات القرآن، فلم يعرف في العلوم القديمة ولا في الكتب المتوارثة أن وجد كلام يتحدث عن الأرض وعن السموات السبع وعن الكون بمثل هذه الدقة. بقي أن نبرهن على صحة ما اتجهنا إليه في فهم آية النازعات فنقول: هناك سماوات سبع خلقت بعد الأرض قطعا بنص القرآن: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ*

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ فهذه الآيات تذكر أن السموات السبع خلقت بعد الأرض بينما آيات سورة النازعات تقول: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها* أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها* مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فإن يقال إن هذه الأشياء كانت بعد خلق السموات السبع ترد عليه سورة فصلت بشكل واضح، فلم يبق إلا أن نقول: إن هناك سماوات سبعا وأرضا، وإن هناك سماء هي ما سوى ذلك من المجرات وغيرها، فالسّماوات السبع خلقت بعد الأرض، والأرض خلقت بعد السماء، وهذا الذي نقوله، والذي هو صريح القرآن، والذي لا تحتمل النصوص غيره هو الذي يقوله العلم، فعلماء الكون اليوم يقولون إن عمر الأرض أقل بكثير من عمر مجرات هذا الكون. 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد؟ قال: نعم النار، قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار؟ قال: نعم الماء، قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الماء؟ قال: نعم الريح، قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله»). وبهذا ينتهي الكلام عن سورة النازعات، فلننتقل إلى سورة عبس.

سورة عبس

سورة عبس وهي السورة الثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة التاسعة من قسم المفصل، وهي اثنتان وأربعون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة عبس ومحورها

كلمة في سورة عبس ومحورها: قلنا إن محور سورة عبس هما الآيتان السادسة والسابعة من سورة البقرة، أي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، والدليل على ذلك أن السورة تبدأ بعتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أقبل على إنسان من النوع الذي لا ينفع معه الإنذار، وعبس في وجه إنسان يستأهل الإنذار وختمت السورة بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ* أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ وما بين ذلك كلام له صلة في موضوع الإنذار، وموقف الكافرين منه من ذلك قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ومن ذلك قوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ومن ذلك قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. ويلاحظ أن هناك تشابها بين سورة النازعات وسورة عبس، ففي أواخر سورة النازعات يرد قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وفي أواخر سورة عبس يرد قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ... ، وفي سورة النازعات يرد قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ... وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها* أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وفي سورة عبس يرد قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ... وفي سورة النازعات يرد قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ... وفي سورة عبس يرد قوله تعالى: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى. إنك لتجد التشابه في الجرس بين السورتين. وسورة النازعات تنتهي بقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ... وفي بداية سورة عبس عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يعرض عمن يخشى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَهُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى فسورة عبس تبدأ بعتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يعرض عمن يخشى، ويقبل على من لا يخشى، فالصلة واضحة بين نهاية سورة النازعات وبداية سورة عبس.

بين يدي سورة عبس

تتألف السورة من ثلاث فقرات: الفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (10). الفقرة الثانية تستمر حتى نهاية الآية (32). الفقرة الثالثة تستمر حتى نهاية الآية (42) أي حتى نهاية السورة. بين يدي سورة عبس: قدم الألوسي لسورة عبس بقوله: (وتسمى سورة الصاخة، وسورة السفرة، وسميت في غير كتاب سورة الأعمى، وهي مكية بلا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي، والكوفي، وإحدى وأربعون في البصري، وأربعون في الشامي والمدني الأول، ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ذكر عزّ وجل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه). الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (10) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة عبس (80): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) ملاحظة: لفهم هذه الفقرة نذكر هاتين الروايتين في سبب نزولها: (روى الحافظ أبو يعلى في مسنده ... عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو يكلم أبي بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله عزّ وجل عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى فكان النبي

التفسير

صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه). (وروى أبو يعلى وابن جرير ... عن عائشة قالت: أنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين قالت: فجعل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر ويقول: «أترى بما أقول بأسا؟» فيقول: لا، ففي هذا أنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى. وقد روى الترمذي هذا الحديث بإسناده مثله). التفسير: عَبَسَ وَتَوَلَّى أي قطب بين جبينه غاضبا وأعرض أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي فعل ذلك لأنه جاءه الأعمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتزكى، قال النسفي: (أي: وأي شئ يجعلك داريا بحال هذا الأعمى ... لعل هذا الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل)، وقال ابن كثير: أي تحصل له زكاة وطهارة في نفسه أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي: أو يتعظ فتنفعه ذكراك، أي: موعظتك، قال النسفي: (أي إنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي: من كان غنيا بالمال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تتصدى أي تتعرض بالإقبال عليه حرصا على إيمانه، قال ابن كثير: أي أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي، أقول: إن الاستغناء في الآية يدخل فيه الغنى بالمال الذي يترتب عليه الشعور بالاستغناء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الدعوة الإسلامية طغيانا، ويدخل فيه الاستغناء بالنفس عن طلب الهداية بواسطة الافتقار إلى الله، والافتقار إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى قال النسفي: (أي وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، إن عليك إلا البلاغ)، وقال ابن كثير: أي ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة أي طهارة نفس من الشرك ودنس الأخلاق وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى الله ومقامه بين يديه فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتلهى أي تتشاغل. قال ابن كثير في الآيتين: أي يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له فأنت عنه تلهى أي تتشاغل، قال ابن كثير: (ومن هاهنا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يخص بالإنذار أحدا بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار، ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة)، وقال النسفي: وروي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني، وروي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا

كلمة في السياق

أمراء. قال ابن كثير في سبب نزول هذه الفقرة: (ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم- وكان ممن أسلم قديما- فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ، ويلح عليه، وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك، ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم، وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى). كلمة في السياق: 1 - في سورة البقرة ورد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فهناك كفار هذا شأنهم، وفي الفقرة التي مرت معنا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل على من هذا شأنه، إذ وصفه الله عزّ وجل بقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، ويعرض عمن استجاب للإنذار وهو راغب إلى الله ورسوله في السير، فعاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم هذا العتاب الشديد، وفي ذلك درس عظيم أن يقبل وارث النبوة على من أتاه طالبا التزكية والهداية كائنا من كان، وألا يتشوف لمن كان عندهم استغناء، وفي قوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى إشارة إلى أن الداعية إلى الله مهمته التزكية والتذكير، فالفقرة إذن تعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحجب الإنذار عن أهله، وأن يضعه في غير أهله، مفرطا بذلك في حق الأهل، وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة واضحة، وقد علمنا من الفقرة صفة من صفات الكافرين الذين لا تنفع معهم الإنذار، وهم الذين في قلوبهم استغناء. 2 - ... ثم تأتي الفقرة الثانية، وفيها نهي لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يعود لمثل ذلك، وفيها توضيح لحقيقة الوحي وعزته، وفيها تبيان لطبيعة الإنسان، ولفت نظر إلى مظاهر قدرة الله عزّ وجل، وإنعامه التي تقتضي من الإنسان شكرا وعبادة، وفي تبيان هذه المعاني في هذا السياق دروس في الإنذار، ودروس للإنسان تهيجه على قبول الإنذار وعدم الاستغناء، وسنرى صلة ذلك كله بمحور السورة وبسياقها الخاص.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (11) إلى نهاية الآية (32) وهذه هي: الجزء الأول [سورة عبس (80): الآيات 11 الى 16] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) الجزء الثاني [سورة عبس (80): الآيات 17 الى 23] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) الجزء الثالث [سورة عبس (80): الآيات 24 الى 32] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) تفسير الجزء الأول من الفقرة الثانية: كَلَّا قال النسفي: ردع: أي: لا تعد إلى مثله إِنَّها تَذْكِرَةٌ أي: إن السورة أو الآيات السابقة موعظة يجب الاتعاظ بها، والعمل بموجبها، قال ابن كثير: (أي: هذه السورة أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم، وقال قتادة والسدي يعني القرآن). أقول: وهذا الذي أرجحه فالمعنى:

[سورة عبس (80): آية 12]

كلا إن آيات القرآن تذكرة وعظة، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ قال النسفي: (والمعنى: فمن شاء الذكر والتذكر ألهمه الله تعالى إياه فذكر القرآن، أي: قرأه وتذكر معانيه. وقال ابن كثير: أي: فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره، ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه. أقول: فيكون المعنى: (فمن شاء أن يذكر هذا القرآن- بأن يأخذه ويتلوه ويعمل به- فعل) وكأن النص يقول: أيها الرسول لا يهمنك أمر من لم يذكره فإنه هو الخاسر فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: إن هذا القرآن تذكرة في صحف مكرمة، أي: إنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح. قال ابن كثير: أي: معظمة موقرة مَرْفُوعَةٍ أي: عالية القدر مُطَهَّرَةٍ قال ابن كثير: أي: من الدنس والزيادة والنقص. وقال النسفي: (أي: عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ أي: كتبة، قال النسفي: جمع سافر: أي: الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح كِرامٍ على الله أو عن المعاصي بَرَرَةٍ أي: أتقياء، جمع بار. قال ابن كثير: والصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه، وفسر ابن كثير: الكرام البررة بقوله: أي: خلقهم كريم، حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة، ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد. كلمة في السياق: 1 - ذكرت الفقرة الأولى في السورة إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأعمى، وإقباله على الكافر المستغني، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصا على إيمان هذا الكافر المستغني، وقد جاء هذا الجزء من الفقرة الثانية ليبين استغناء هذا القرآن عن المستغنين عنه، وليبين أن هذا القرآن له الدرجة العليا في الكرامة في كل حال، وفي هذا السياق ذكر الله عزّ وجل خصيصة من خصائص هذا القرآن وهو أنه تذكرة، والملاحظ: أن هذا الجزء من الفقرة ترك المشيئة للإنسان في أن يتذكر، وفي ذلك تهديد وإشعار بالاستغناء والعزة، فكأن هذا الجزء يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرف قيمة ما أوحيته إليك ولا يحملنك الحرص على الخلق على مخالفة أدبه. 2 - ثم يأتي الجزء الثاني والثالث من الفقرة الثانية وفيهما كلام عن الطبيعة الكافرة وإقامة حجة، وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له على كفر الكافرين، وتهييج للإنسان أن يتذكر ويشكر، وكأن الله عزّ وجل يقول لرسول الله

تفسير الجزء الثاني من الفقرة الثانية

صلى الله عليه وسلم: هذا القرآن تذكرة، وقد خلقت للإنسان الكثير مما يقتضي شكرا، فإذا لم يتذكر ولم يشكر، فلا عليك أن تحرص هذا الحرص على إسلام الكافرين المستغنين، بحيث تعطل حقوق المسلمين. تفسير الجزء الثاني من الفقرة الثانية: قُتِلَ الْإِنْسانُ أي: لعن الكافر ما أَكْفَرَهُ قال النسفي: استفهام توبيخ أي: أي شئ حمله على الكفر؟ أو هو تعجب، أي: ما أشد كفره. قال ابن كثير: وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي: من أي شئ حقير خلقه؟ وهو استفهام ومعناه التقرير، ثم بين ذلك الشئ فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ قال ابن كثير: أي: قدر أجله ورزقه وعمله، وشقي أو سعيد. أقول: قدره على الصورة والشكل والحجم وغير ذلك من خلقه ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي: بين له سبيل الخير والشر. قال ابن كثير: أي: بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه علمه. أقول: وهناك قول آخر في الآية مضمونه أنه يسر خروجه من بطن أمه، والصحيح الأول، قال ابن كثير: هو الأرجح. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ قال النسفي: (أي: جعله ذا قبر يوارى فيه لا كالبهائم لا كرامة له) وقال الألوسي: ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان ... وأما دفن غيره من الحيوانات فقيل هو مباح لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلا) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه بعد موته كَلَّا ردع للإنسان عن الكفر لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ قال النسفي: أي: لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان، وقال الألوسي: (والمعنى على ما قال غير واحد: لم يقض من أول زمان تكليفه إلى زمان إماتته وإقباره، أو من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى، إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما، ونقل هذا عن مجاهد وقتادة)، وقال ابن جرير في الآية: يقول جل ثناؤه: كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ يقول: لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عزّ وجل، وقال مجاهد في الآية: أي: لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض عليه، وذهب ابن كثير مذهبا انفرد به في الآية رابطا لها بما قبلها، قال: إن المعنى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي: لا يفعله الآن

كلمة في السياق

حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب الله أن سيوجد منهم، ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم. أقول: والقول الأول أولى وقد أبعد ابن كثير فيما ذهب إليه. كلمة في السياق: 1 - بدأ هذا الجزء بقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ وانتهى بقوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ففي بداية هذا الجزء سجل على الإنسان كفره، وفي نهايته سجل عليه ضعف قيامه بواجباته، وفي الوسط ذكر الله تعالى ما تقوم به الحجة على الإنسان، إذ يكفر أو يقصر، لقد ذكر الله الإنسان بأصل نشأته، وحسن تقدير الله لتركيبه، ثم هدايته له، ثم إكرامه بالقبر، ثم الحكم عليه بالنشر، وهذا كله يقتضي شكرا لا كفرا ولا تقصيرا، فإذا كان الإنسان مع هذا كله يكفر ويقصر، فالذنب ذنبه، وبالتالي فلا عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم من أمره شيئا، فلا يدفعنك الحرص على إسلام الكافر إلى التقصير في حق المسلم. 2 - ثم يأتي الجزء الثالث من الفقرة وفيه يلفت الله عزّ وجل نظر الإنسان إلى إنعامه عليه بكل ما يحتاجه، مما يقتضي منه شكرا، وقياما بالواجب. وكأن هذا وحده كاف لتقوم الحجة، فإذا لم يهتد ولم يشكر فالذنب ذنبه، قال النسفي مقدما للكلام عن هذا الجزء: (لما عدد النعم عليه في نفسه- أي: في الجزء السابق من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه- أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال: فَلْيَنْظُرِ ... ). تفسير الجزء الثالث من الفقرة الثانية: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أي: الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا قال النسفي: يعني المطر من السحاب ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا قال النسفي: أي: بالنبات. قال ابن كثير في الآيتين: أي: أسكناه فيها فيدخل في جوفها ويتخلل في أجزاء الحب المودع فيها، فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به وَعِنَباً وَقَضْباً قال ابن كثير: والقضب هو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة، ويقال لها القت أيضا وَزَيْتُوناً قال ابن كثير: وهو معروف، وهو أدم وعصيره أدم، ويستصبح به ويدهن به وَنَخْلًا قال ابن كثير: (يؤكل بلحا بسرا ورطبا وتمرا ونيئا ومطبوخا،

[سورة عبس (80): آية 30]

ويعتصر منه دبس ويصنع منه خل) وَحَدائِقَ غُلْباً أي: غلاظ الأشجار وَفاكِهَةً وَأَبًّا أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار والأب: ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب، ولا يأكله الناس مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ أي: منفعة لكم ولأنعامكم. قال ابن كثير: أي: عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة. كلمة في السياق: 1 - جاء هذا الجزء من الفقرة آمرا بالنظر إلى طعام الإنسان، وطعام دوابه كيف رتب الله عزّ وجل أمره بعد ذكر كفر الإنسان وتقصيره في الجزء الثاني من الفقرة، وفي ذلك دلالة على أن الإنسان لو نظر هذه النظرة، وبنى عليها ما ينبغي لشكر، ولم يكفر، ولقام في الواجب، ولم يقصر، وهكذا نجد أن الفقرة الثانية في أجزائها الثلاثة أدبت المسلمين في أن يعرفوا قدر هذا القرآن، وأن يعرفوا أن الحجة قائمة به على الكافرين، وأن الكافرين بحاجة إليه، وعرفتنا على الطبيعة الإنسانية الكافرة المقصرة، وبينت لنا أن النظر في الإنسان وما أكرمه الله عزّ وجل به كاف لإقامة الحجة، وجعل الإنسان على المحجة، أما والإنسان لم يفعل فذلك ذنبه، وبالتالي فلا ينبغي أن تضيع حقوق المسلمين بسبب الكافرين. 2 - بمناسبة الجزء الأخير من الفقرة نحب أن نسجل هنا ملاحظة هي: إن المعاني القرآنية تكون في كثير من الأحيان تسجيلا لبداهة النظر الفطري، ولفت نظر إلى مدلولاته، وفي ذلك مظهر من مظاهر إعجاز هذا القرآن، إذ لفت نظر الإنسان إلى كل شئ حوله وما ينبغي أن يبني عليه، وكان ذلك بأعلى درجات البلاغة والبيان، إن من تأمل هذه الظاهرة وحدها من ظواهر القرآن كفاه ذلك دليلا على أن هذا القرآن من عند الله عزّ وجل. 3 - وبعد ما مر معنا في الفقرتين السابقتين تأتي الفقرة الأخيرة في السورة، وهي تبني على ما ورد في الفقرتين السابقتين، فالفقرة الأولى أظهرت لنا أن هناك كافرا يستغني، ومؤمنا يفتقر ويرغب، وفي الفقرة الثانية عرفنا أن هناك قرآنا يذكر، وأن هناك ناسا يتذكرون، وناسا لا يتذكرون، ومن ثم فإن الفقرة الثالثة تبين حال الطائفتين يوم القيامة، وهي في أدائها لهذا المعنى، كأنها تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حال الكافرين وحال المؤمنين يوم القيامة؛ فمن الأولى بالحرص منكما على الآخر؟ أنت الذي تدل على طريق النجاة؟ أو ذلك الكافر المفتقر إليك لتدله على طريق النجاة؟ فإذا

الفقرة الثالثة والأخيرة في السورة

لم يفعل فدعه وشأنه، وأقبل على الذي يحرص على طريق النجاة. الفقرة الثالثة والأخيرة في السورة وتمتد من الآية (33) إلى نهاية الآية (42) وهذه هي: [سورة عبس (80): الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) التفسير: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ قال ابن كثير: الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذر منه، قال ابن جرير لعله اسم النفخة في الصور، وقال البغوي: الصاخة يعني صيحة يوم القيامة سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ قال النسفي: لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه وَصاحِبَتِهِ أي: وزوجته وَبَنِيهِ قال النسفي: بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب، وقال ابن كثير: (أي: يراهم ويفر منهم ويبتعد منهم؛ لأن الهول عظيم والخطب جليل، قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت، وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين، فتقول له: ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق أن أعطيك

[سورة عبس (80): آية 37]

شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به، فيقول: يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني عليه بخير. فيقول له: يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، يقول الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي لا أسألك إلا نفسي، حتى إن عيسى ابن مريم يقول لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني ولهذا قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ قال قتادة الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم.) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ في نفسه يُغْنِيهِ أي: يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي: مضيئة، قال النسفي: من قيام الليل أو من آثار الوضوء، قال ابن كثير: أي: يكون الناس هنالك فريقين وجوه مسفرة أي: مستنيرة ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي: مسرورة فرحة من السرور في قلوبهم، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء هم أهل الجنة وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي: غبار تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي: يعلو الغبرة سواد كالدخان، قال النسفي: ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه أُولئِكَ أي: أهل هذه الحالة هُمُ الْكَفَرَةُ في حقوق الله الْفَجَرَةُ في حقوق العباد، قال ابن كثير: أي: الكفرة في قلوبهم، الفجرة في أعمالهم. قال النسفي: ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة. كلمة في السياق: 1 - في الفقرة الأخيرة تبيان لحال الناس يوم القيامة، وفي ذلك تهييج على ترك الكفر، وعلى القيام بالشكر، وتبيان لحاجة الخلق إلى الله، وافتقارهم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تتمة التذكير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يدفعه الحرص على إسلام الكافرين إلى أن يقصر في حقوق المسلمين المقبلين عليه، وفي الفقرة كذلك بيان إلى أنه لا بد من كافر ومؤمن، وفي ذلك درس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن تستقر في نفسه هذه الحقيقة فلا تحمله الشفقة بخلق الله على التفريط بحق عباد الله، حرصا على إسلام الخلق كلهم ما دام الأمر في حكمة الله وقضائه كذلك، نسأل الله أن يحيينا مؤمنين مسلمين محسنين متقين، وأن يميتنا ويحشرنا على ذلك.

الفوائد

2 - قلنا إن محور السورة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ولا شك أننا أخذنا دروسا كثيرة من السورة تعمق فهمنا لآيتي سورة البقرة. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ترجم الألوسي لعبد الله بن أم مكتوم فقال: (وكان أعمى وعمي بعد نور، وقيل: ولد أعمى، ولذا قيل لأمه: أم مكتوم. أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد ابن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام؛ رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك، ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة» واستخلفه صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة، كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن أهل العلم بالسير، ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين، هاجر ابن أم مكتوم على الصحيح قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني، وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة، وموته قيل: بالقادسية شهيدا يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه، ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء، وقيل: رجع منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه، وضمير عبس وما بعده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة إجلال له صلى الله تعالى عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره؛ لأنه لا يصدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش، والإقبال بعد الإعراض، والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتشاغله بالقوم). أقول: على الداعية إلى الله أن يقبل على كل المستجيبين

بالرعاية الكاملة، فكم من إنسان لا تعطيه أهمية ويكون خيرا من مئات من الناس الذين يظن فيهم الخير، ثم لا يخرج منهم شئ كثير. 2 - علق صاحب الظلال تعليقات طويلة على قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى ... ونقتطف من كلامه ما يلي: (ولقد انفعلت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه، ولذلك العتاب. انفعلت بقوة وحرارة، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها، وفي حياة الجماعة المسلمة بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى. وكانت الحركة الأولى له صلى الله عليه وسلم هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث. وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا. أمر لا يقوى عليه إلا رسول، من أي جانب نظرنا إليه في حينه. نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد، بهذه الصورة الفريدة في خطإ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم- غير الرسول- أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة. أمر آخر. وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!» ... وهذا نسبه فيهم، لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رئاسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض ... ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيئة من حوله؛ فيقرر فيها بعمق وقوة واندفاع، يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة. لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته، وأعظم منه خطرا في قيمته ... أن ينطلق الإنسان حقيقة- شعورا وواقعا- من كل القيم المتعارف عليها في الأرض، إلى قيم أخرى، تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من

قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر. ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع، مسلما بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد صلى الله عليه وسلم كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم، وشريعة المجتمع المسلم، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين. إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد؛ لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب (التقدمية!) أن جانبا واحدا منها- هو الأوضاع الاقتصادية- هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة! إنها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان). 3 - بمناسبة قوله تعالى عن القرآن: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ* فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ* فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق، له أجران» أخرجه الجماعة من طريق قتادة به). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَفاكِهَةً وَأَبًّا قال ابن كثير: (فأما ما رواه ابن جرير عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عَبَسَ وَتَوَلَّى فلما أتى على هذه الآية وَفاكِهَةً وَأَبًّا قال: قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟. فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس به، وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا). 5 - بمناسبة قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون

حفاة عراة مشاة غرلا» قال: فقالت زوجته: يا رسول الله ننظر- أو يرى- بعضنا عورة بعض؟ قال: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه- أو قال: ما أشغله عن النظر-». وقد رواه النسائي منفردا به ... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقد رواه الترمذي ... عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحشرون حفاة عراة غرلا» فقالت امرأة: أيبصر- أو يرى- بعضنا عورة بعض؟ قال: «يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن ابن عباس رضي الله عنهما). ولننتقل إلى السورة الثالثة في المجموعة التاسعة.

سورة التكوير

سورة التكوير وهي السورة الحادية والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة التاسعة من قسم المفصل، وهي تسع وعشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة التكوير

بين يدي سورة التكوير: قدم الألوسي لسورة التكوير بقوله: (ويقال: سورة كورت. وسورة إذا الشمس كورت. وهي مكية بلا خلاف. وآيها تسع وعشرون آية، وفي التيسير ثمان وعشرون. وفيها من شرح حال يوم القيامة- الذي تضمنه آخر السورة قبل- ما فيها، وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت» أي: السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة). وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة: الأولى حقيقة القيامة، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار، والأرض والسماء، والأنعام والوحوش، كما يشمل بني الإنسان. والثانية حقيقة الوحي، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي. والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة. تنطلق من عقالها، فتقلب كل شئ، وتنثر كل شئ؛ وتهيج الساكن وتروع الآمن؛ وتذهب بكل مألوف، وتبدل كل معهود؛ وتهز النفس البشرية هزا عنيفا طويلا، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه، وتتشبث به، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار. ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار، الذي له وحده البقاء والدوام، وعنده وحده القرار والاطمئنان ... ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن، لتلوذ بكنف الله، وتأوي إلى حماه، وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار ... وفي السورة- مع هذا- ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من

كلمة في سورة التكوير ومحورها

أوضاع. وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات. وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء). كلمة في سورة التكوير ومحورها: تأتي سورة التكوير بعد سورتين فصلتا في مقدمة سورة البقرة وهي مبدوءة ب (إذا) وتتحدث عن اليوم الآخر في بدايتها، فهي تشبه سورة الواقعة التي رأينا أنها فصلت فيما بعد مقدمة سورة البقرة، فمظنة محور سورة التكوير هو قوله تعالى من سورة البقرة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... وما بعدها. والملاحظ أن سورة التكوير تتألف من مقطعين، الأول ينتهي بالآية (14) وفيه حديث عن يوم القيامة، وينتهي بقوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ وفي ذلك تذكير للنفس البشرية بالعمل لذلك اليوم، ثم يأتي المقطع الثاني من السورة وفيه قسم جوابه قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ... ثم يسير السياق حتى يأتي قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ومن المعلوم أن الاستقامة مرتبطة بموضوع العبادة والتقوى، ومن هاهنا تأتي صلة السورة بمحورها من سورة البقرة، فالسورة تهيج على العبادة والتقوى والاستقامة على ذلك، وعلى هذا فإننا نستطيع القول إن محور السورة من سورة البقرة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... فلنر السورة.

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد حتى نهاية الآية (14) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) التفسير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال النسفي: (أي: ذهب بضوئها) وقال العوفي عن ابن عباس: أي: ذهبت، قال ابن جرير بعد أن ذكر مجموعة أقوال: (والصواب من القول عندنا في ذلك، أن التكوير: جمع الشئ بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة، وجمع الثياب بعضها إلى بعض، فمعنى قوله تعالى: كُوِّرَتْ جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فرمي بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ قال النسفي: أي: تساقطت، وقال ابن كثير: أي: انتثرت ... وأصل الانكدار الانصباب وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ قال النسفي: (أي: سيرت عن وجه الأرض وأبعدت، أو سيرت في الجو تسيير السحاب)، وقال ابن كثير: أي: زالت عن أماكنها ونسفت فتركت الأرض قاعا صفصفا. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ أي: أهملت، والعشار من الإبل خيارها والحوامل منها التي وصلت في حملها إلى الشهر العاشر، واحدتها عشراء ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع ...

[سورة التكوير (81): آية 5]

قال ابن كثير: قيل: يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها كذلك لا سبيل لهم إليها. أقول: وهذا الذي نرجحه، وهو دليل على أن الإبل تبعث. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي: جمعت من كل ناحية، قال ابن كثير: يحشر كل شئ حتى الذباب، رواه ابن أبي حاتم، قال النسفي: قال قتادة: يحشر كل شئ حتى الذباب للقصاص فإذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس ونحوه، أقول: لا يدخل في اسم الوحوش الذباب وغيره من الحشرات والجراثيم، وقد رجحنا في سورة الأعراف أن ما يحشر هو ما كان من غير أصناف الحشرات والجراثيم وهاهنا ذكرت الوحوش، وذكرت العشار، ونؤثر أن نبقى عند النص. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال النسفي: أي: ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا. أقول: لا يبعد أن يكون المراد أنها ملئت كأثر من تفجر الأرض وزلزالها بمادة البراكين المتفجرة من باطن الأرض وهذا في هذا المقام أليق بالمعنى. وقد ذهب إليه بعضهم كما ذكر الألوسي. وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: جمع كل شكل إلى نظيره، وقد سئل عمر عن قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: يقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، فذلك تزويج الأنفس. وقال أكثر من إمام في التفسير: إن المراد بتزويج الأنفس تزويجها بأبدانها يوم القيامة وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ والموءودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات. قال ابن كثير: فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت؟ ليكون ذلك تهديدا لقاتلها، فإنه إن سئل المظلوم فما ظن الظالم إذن. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ قال النسفي: وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب. وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي: فتحت. قال ابن كثير: (قال الضحاك: أعطي كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله، وقال قتادة: يا ابن آدم تملي فيها ثم تطوى ثم تنشر عليك يوم القيامة، فلينظر رجل ماذا يملي في صحيفته). وقال النسفي: (والمراد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي: فرقت بينهم). وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قال السدي: أي: كشفت. وقال الألوسي: قلعت وأزيلت. وقال الضحاك: تكشط فتذهب. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي: أوقدت إيقادا شديدا. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي: أدنيت من المتقين، أي: قربت إلى أهلها عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي: علمت كل نفس ما أحضرت من خير وشر. قال ابن كثير: هذا هو الجواب أي: إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس

كلمة في السياق

ما عملت وأحضر ذلك لها .. وقال ابن أبي حاتم ... لما نزلت إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. قال عمر لما بلغ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قال: لهذا أجري الحديث. كلمة في السياق: 1 - ذكر الله عزّ وجل في المقطع السابق مشاهد من يوم القيامة، وعظم ما يجري فيه ليصل السياق إلى قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ وهي التي صب عليها السياق، وفي ذلك تحذير للنفس البشرية أن تحضر شرا، وتهييج لها من أجل أن تحضر خيرا ولذلك صلته بالمحور: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ من حيث إن سياق سورة التكوير يهيج على الطاعة والعمل فكأن السياق العام بقوله: يا أيها الناس إنما أمرتم بالعبادة والتقوى لأنه إذا قامت القيامة وكان كذا وكذا عندئذ تجد كل نفس ما أحضرت فأحضروا العبادة والتقوى. 2 - ورد في المحور قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ وقد جاء في سورة التكوير قوله تعالى: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ولهذا صلاته بالمحور. 3 - وبعد المقطع الأول من سورة التكوير يأتي المقطع الثاني، ويبدأ بقسم ويأتي بعد ذلك جوابه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي: القرآن، ثم يسير السياق حتى يصب على قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ... فالمقطع الثاني يذكرنا بالقرآن ويذكرنا بالاستقامة، وفي ذلك تحديد لمنهاج العمل، وأنه ينبغي أن يكون مستقيما على ضوء كتاب الله، ولذلك صلاته بالمحور: فهناك ارتباط بين الاستقامة وبين العبادة والتقوى، وفي المقطع تأكيد لكون القرآن من عند الله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فلنر المقطع الثاني.

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (29) وهذا هو: [سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) التفسير: فَلا أُقْسِمُ أي: فأقسم بِالْخُنَّسِ أي: الرواجع الْجَوارِ أي: السيارة، الْكُنَّسِ أي: الغيب، والراجح أن المراد بذلك الكواكب السيارة قال الألوسي: (وأخرج ابن أبي حاتم عن علي أنه قال: هي خمسة أنجم: زحل، وعطارد، والمشتري، وبهرام يعني: المريخ، والزهرة. أقول: هذه كانت معروفة عندهم، ورجوعها وكناسها إما بالنسبة للإنسان في ليله ونهاره، أو أن المراد بذلك رجوعها في سيرها ومسارها بشكل دائب، والمراد بكناسها غيابها. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي: أقبل بظلامه، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي: إذا أضاء. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا جواب القسم. أي: إن القرآن لقول رسول كريم. أي: جبريل عليه السلام. قال النسفي: وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به، قال ابن كثير: يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم أي: ملك شريف، حسن الخلق، بهي المنظر، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام ذِي قُوَّةٍ أي: قدرة على ما يكلف

[سورة التكوير (81): آية 21]

لا يعجز عنه ولا يضعف، وقال ابن كثير: أي: شديد الخلق، شديد البطش والفعل عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أي: عند الله عزّ وجل، مَكِينٍ قال ابن كثير: أي: له مكانة عند الله عزّ وجل، ومنزلة رفيعة، مُطاعٍ ثَمَّ أي: هناك. أي: في السموات يطيعه من فيها من الملأ الأعلى، قال ابن كثير: أي: في السموات يعني: ليس هو من أفراد الملائكة، بل هو من السادة والأشراف معتنى به، انتخب لهذه الرسالة العظيمة أَمِينٍ أي: على الوحي أو متصف بصفة الأمانة بشكل مطلق، قال ابن كثير: وهذا عظيم جدا أن الرب عزّ وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل. وَما صاحِبُكُمْ أي: محمد صلى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ كما يزعم الكفرة وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أي: البين. قال ابن كثير: يعني ولقد رأى محمد جبريل- الذي يأتيه بالرسالة عن الله عزّ وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح بالأفق المبين أي: البين وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء .. وفسر النسفي الأفق المبين بمطلع الشمس وَما هُوَ أي: محمد صلى الله عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ أي: على الوحي بِضَنِينٍ أي: يبخل على الوحي، بل يبذله لكل أحد، ولا يقتصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي: طريد، أي: ليس هو بقول بعض المسترقة للسمع مما يوحونه إلى أوليائهم من الكهنة فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ قال ابن كثير: أي: فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه حقا من عند الله عزّ وجل ... وقال قتادة: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: عن كتاب الله عزّ وجل وعن طاعته إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ قال النسفي: أي: ما القرآن إلا عظة للخلق. وقال ابن كثير: أي: هذا القرآن ذكر لجميع الناس، يتذكرون به ويتعظون لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. قال النسفي: أي: القرآن تذكرة لمن شاء الاستقامة، يعني أن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعا. وقال ابن كثير: أي: لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: وما تشاءون الاستقامة إلا أن يشاء الله مالك الخلق. وقال ابن كثير: (أي: ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله رب العالمين. قال سفيان الثوري عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الآية لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). أقول: ومن سبب

كلمة في السياق

نزول هذه الآية ندرك نقطة رئيسية في القضية التي حيرت الكثير، وهي ارتباط المشيئة البشرية بالمشيئة الإلهية. والخلاصة في هذا الموضوع: إن كل شئ بمشيئة الله عزّ وجل، وهذا لا يتنافى مع اختيار الإنسان، كما رأينا في أكثر من مكان، فإذا أضل الله أضل عدلا، وإذا هدى يهدي فضلا، ولولا أن كل شئ بمشيئة الله عزّ وجل لكان الله عزّ وجل مقهورا بالمعصية، وهذا لا يكون، ومن ثم كان كل شئ بمشيئته، وهذا لا يعني الإجبار، فقد علم وأراد، وأبرز بقدرته، والعلم كاشف لا مجبر، علم ماذا سيفعل فلان فأراده فأبرزه بقدرته. كلمة في السياق: 1 - هناك صلة بين العبادة ومعرفة أن التوفيق بيد الله عزّ وجل: ولذلك نقول في كل صلاة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهناك صلة بين العمل والاستقامة وفي الحديث: «قل آمنت بالله ثم استقم» فهناك صلة إذن بين قوله تعالى في المقطع: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ .. وبين قوله تعالى في المحور: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. 2 - جاءت في المقطع ثلاثة أقسام (جمع قسم) على قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فالأقسام مؤكدة، والآية فيها تأكيدان (إن) (واللام) فخمسة مؤكدات تنصب على أن هذا القرآن من عند الله، وذلك- في العادة- يكون إذا كان المخاطب عنده شك، ومن هنا ندرك العلاقة بين هذه الآيات وآيات المحور: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فالآيات تؤكد أن هذا القرآن من عند الله، وتلاحق الريب: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ* وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ* وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وهناك قراءة بالظاء وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي: بمتهم، فالمقطع بين أن الثقة بهذا القرآن ينبغي ألا يكون لها حدود، فجبريل الأمين هو الذي نقله عن الله عزّ وجل لمحمد الأمين، غير المتهم على الوحي، وغير البخيل به. فالسورة بمجموعها هيجت على العبادة والتقوى والاستقامة، ومعرفة الله عزّ وجل، والعمل الصالح، وذكرت الشيئين الأساسيين اللذين ينبثق عنهما هذا كله: مجئ يوم القيامة، والثقة بهذا القرآن.

الفوائد

الفوائد: 1 - ذكر المقطع الأول من سورة التكوير اثني عشر مشهدا من مشاهد يوم القيامة، فزعم بعضهم أن ستة من هذه المشاهد تكون في الدنيا قبيل يوم القيامة، وستة تكون بعد يوم القيامة، ونسبوا هذا القول إلى بعض الأئمة، وهو قول متهافت، فكيف يصح أن يكون تكوير الشمس وانكدار النجوم متقدما على يوم القيامة؟ فإما أن السند غير صحيح إلى راويه، وإما أن يكون عند راويه فهم خاطئ. 2 - بمناسبة قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن كثير: (روى البخاري: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة» انفرد به البخاري، وهذا لفظه، وإنما أخرجه في كتاب بدء الخلق). وقال صاحب الظلال: (إن تكوير الشمس قد يعني برودتها، وانطفاء شعلتها، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء. كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف. واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة ... استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد!. قد يكون هذا، وقد يكون غيره .. أما كيف يقع، والعوامل التي تسبب وقوعه، فعلم ذلك عند الله.) أقول: سيكون هذا يوم ينفخ في الصور، ويجمع الشمس والقمر. 3 - بمناسبة قوله تعالى وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ قال صاحب الظلال: (وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها، وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها .. والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث. وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا .. مجموعتنا الشمسية مثلا. أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم .. أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله؟. فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها، لا نعرف لها عددا ولا نهاية، فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله .. )

أقول: النجوم هاهنا جنسها، فالنجوم كلها في مجرات هذا الكون تنكدر يوم القيامة فيجمع بعضها إلى بعضه كما قال تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فكما كان الكون كله نقطة واحدة ثم تمدد فإنه يعود كذلك والله أعلم. 4 - وبمناسبة قوله تعالى وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال صاحب الظلال: (وأما تسجير البحار فقد يكون ملؤها بالمياه .. وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال تعالى في موضع آخر: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتفجير عناصرها، وانفصال الإيدروجين عن الأكسوجين فيها، أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة،- وهو أشد هولا- أو على أي نحو آخر. وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها، تنطلق من البحار. فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الإيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول!). أقول: الاتجاهات كثيرة في تفسير قوله تعالى وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ، وهل التسجير هنا هو التفجير الوارد في سورة الانفطار؟ والذي أذهب إليه أن التفجير يسبق التسجير، فالبحار ينفتح ماؤها على بعضه في مرحلة ثم يحدث شئ آخر هو التسجير الذي هو الملء والله أعلم. 5 - فسر بعضهم وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ بأن البحر هو الذي يكون جهنم، وهذا في رأيي خطأ، لأن الأحاديث تذكر أن الناس وهم في الموقف يؤتى بنار جهنم لها سبعون ألف زمام يجرها .. مما يشير إلى أن النار هذا السجن الضخم الهائل موجود حاليا في مكان ما، ويؤتى بها إلى المحشر، فالذي نرجحه أن تسجير البحار يكون واحدا مما يحدث حتى تكون الأرض كلها كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد كما ورد في الحديث، وذلك كأن تمتلئ بلابة باطن الأرض. 6 - بمناسبة قوله تعالى وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ذكر الألوسي تحقيقا طويلا حول مآل الأطفال يوم القيامة، وختم كلامه بقوله: (والذي أختاره: القول بأن الأطفال مطلقا، وكذا فرخ الزنا، ومن جن قبل البلوغ في الجنة، فهو الأخلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عزّ وجل، والأوفق للحكمة بحسب الظاهر، والأكثر تأييدا بالآيات، ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على

خلافه، والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام- قبل علمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة- بعيد عندي، نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهم من أهل النار، بناء على إخبار الوحي به، كإخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط، كأن لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة؛ بناء على إخبار الوحي به أيضا، ويكون متضمنا للإخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق، فضلا من الله تعالى وكرما، ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد، ومثل ذلك إخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل). 7 - هناك قراءتان في قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ القراءة الأولى بالضاد والثانية بالظاء أي: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي: بمتهم وقد فرق عامة المفسرين بين كلمتي (الضنين) و (الظنين) كما رأينا، وقال سفيان بن عيينة: ظنين وضنين سواء، وعلى هذا القول فهناك صلة بين البخل والتهمة، فلا محمد صلى الله عليه وسلم متهما في أمر البلاغ، ولا بخيلا به. 8 - بمناسبة قوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ قال ابن كثير: (كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الكذاب- الذي هو في غاية الهذيان والركاكة- فقال: ويحكم أين تذهب عقولكم؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل أي: من إله). 9 - بمناسبة قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال صاحب الظلال: (وذلك كيلا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى، التي يرجع إليها كل أمر. فإعطاؤهم حرية الاختيار، ويسر الاهتداء، إنما يرجع إلى تلك المشيئة. المحيطة بكل شئ كان أو يكون. وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة: حقيقة أن كل شئ في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله. وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير. شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون. فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس

كلمة أخيرة في سورة التكوير

القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .. ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين، ليدركوا ما هو الحق لذاته. وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى، يطلبون عندها العون والتوفيق، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق!). كلمة أخيرة في سورة التكوير: انتهت سورة عبس بقوله تعالى فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ .. وبدأت سورة التكوير بقوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ... فالصلة واضحة بين نهاية سورة عبس، وبداية سورة التكوير، ونلاحظ أن سورة التكوير انتهت بقوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ... وأن في بداية سورة الانفطار: ... يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ... والصلة بين التهييج على الاستقامة والمعاتبة على ترك الاستقامة واضحة، فكل سورة تصل بسبب إلى ما بعدها فلننتقل إلى سورة الانفطار.

سورة الانفطار

سورة الانفطار وهي السورة الثانية والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة والأخيرة من المجموعة التاسعة من قسم المفصل، وهي تسع عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الانفطار

بين يدي سورة الانفطار: قدم الألوسي لسورة الانفطار بقوله: (وتسمى سورة انفطرت، وسورة المنفطرة. ولا خلاف في أنها مكية. ولا في أنها تسع عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها معلومة). وقدم صاحب الظلال لهذه السورة بقوله: (تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير، ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى، وسمتا خاصا بها، وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوف بالقلب البشري فيها؛ وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد. هادئ عميق. لمسات كأنها عتاب. وإن كان في طياته وعيد!. ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب، فلا تكون هي طابع السورة الغالب- كما هو الشأن في سورة التكوير- لأن جو العتاب أهدأ، وإيقاع العتاب أبطأ. وكذلك إيقاع السورة الموسيقي. فهو يحمل هذا الطابع. فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق! إنها تتحدث في المقطع الأول منها عن انفطار السماء وانتشار الكواكب، وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت، في ذلك اليوم الخطير .. وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقه، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها. ولا يعرف لربه قدره، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ. وفى المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار. فهي التكذيب بالدين- أي: بالحساب- وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود. ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيدا، ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم: كَلَّا. بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ* وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ* إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ .. فأما المقطع الأخير، فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله، وتجرد النفوس من كل

كلمة في سورة الانفطار ومحورها

حول فيه، وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟ * ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً* وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ .. كلمة في سورة الانفطار ومحورها: سورة الانفطار تفصل في نفس محور سورة التكوير أي: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ... ومن ثم تصب مقدمتها في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ فبدايتها تشبه بداية سورة التكوير، وتصب في معنى شبيه بالمعنى الذي صب فيه المقطع الأول من سورة التكوير، ففي سورة التكوير أجري الحديث ل عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ كما قال عمر رضي الله عنه، وهاهنا أجرى الحديث في مقدمة السورة ل. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وكما رأينا صلة ذلك في سورة التكوير بمحور السورة فالأمر هاهنا كذلك، بعد ذلك يأتي في سورة الانفطار قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ... وصلة ذلك بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... واضحة. وتختتم السورة بفقرة مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ .. ومن المعلوم من سورة البقرة أن التقوى والبر شئ واحد، يعلم ذلك من آية البر في سورة البقرة لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فالكلام عن الأبرار والفجار في نهاية السورة مرتبط نوع ارتباط بمحور السورة الذي ذكرناه فإذ يقرر الله عزّ وجل ما أعد للأبرار والفجار ففي ذلك دعوة إلى البر الذي هو التقوى. وإلى العبادة التي هي طريق التقوى، ولذلك صلاته بالمحور فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ .... وقد سجلنا في نهاية الكلام عن سورة التكوير ملاحظة حول صلة نهاية سورة التكوير ببداية سورة الانفطار، وذكرنا في مقدمة الكلام عن سورة التكوير الحديث

الذي يجمع ما بين سور التكوير والانفطار والانشقاق على أنها تصور يوم القيامة وكأنه رأي عين، فالصلات بين سورتي التكوير والانفطار كثيرة. وكما أن سورة الواقعة المبدوءة بالكلام عن القيامة، والمبدوءة بقوله تعالى: إِذا كانت نهاية مجموعة فإن سورة الانفطار، وهي مبدوءة بالكلام عن يوم القيامة وب إِذَا نهاية مجموعة كما ذكرنا من قبل. تتألف السورة من أربع فقرات واضحة المعالم ومترابطة: الفقرة الأولى حتى نهاية الآية (5). الفقرة الثانية حتى نهاية الآية (8). الفقرة الثالثة حتى نهاية الآية (12). الفقرة الرابعة حتى نهاية السورة أي حتى نهاية الآية (19) ولنبدأ عرض السورة.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد حتى نهاية الآية (5) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) التفسير: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي: انشقت. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي: تساقطت، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ قال النسفي: أي: فتح بعضها إلى بعض، وصارت البحار بحرا واحدا. قال ابن كثير: وقال الحسن: فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها. أقول: على قول الحسن فإن هذا يفيد أن تفجير البحار عملية تتم من أعماق الأرض، يترتب عليها ذهاب البحار، وامتلاء مكانها بمادة أخرى. والله أعلم. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قال النسفي: أي: بعثت وأخرج موتاها عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أي علمت كل نفس برة وفاجرة، ما عملت من طاعة وأخرت، أي: وتركت فلم تعمل، وهذا هو جواب: إذا السماء ... قال النسفي: إذا كان هذا حصل هذا. كلمة في السياق: 1 - رأينا أن الفقرة الأولى أوصلت إلى قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وهذا يفيد أن الفقرة تهيج النفس البشرية على أن تقدم خيرا، وتؤخر شرا، وخير ما تقدم العبادة والتقوى، قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ فصلة الفقرة الأولى بمحور السورة واضحة، فمحور السورة يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ والفقرة الأولى تقول للنفس البشرية:

الفقرة الثانية

إنه إذا جاء يوم القيامة فستعلمين ما قدمت وما أخرت فقدمي واعملي. 2 - بعد أن بين الله عزّ وجل ما يكون يوم القيامة من علم كل نفس ما قدمته وما أخرته، يذكر الله عزّ وجل ما يخاطب به الإنسان يوم القيامة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ .. والدليل على أن هذا الخطاب يكون للإنسان يوم القيامة ما ذكره ابن كثير إذ قال: كما جاء في الحديث: يقول الله تعالى يوم القيامة: «يا ابن آدام ما غرك بي، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين» فلنر الفقرة الثانية. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (6) حتى نهاية الآية (8) وهذه هي: [سورة الانفطار (82): الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) التفسير: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ. قال النسفي: قيل: الخطاب لمنكري البعث. أقول: هذا خطاب لكل كافر بدليل ما يأتي ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال ابن كثير: هذا تهديد وقال النسفي: (أي شئ خدعك حتى ضيعت ما وجب عليك مع كرم ربك، حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل؟) وقال ابن كثير: المعنى في هذه الآية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي: العظيم، حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ قال النسفي: (أي: فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء) فَعَدَلَكَ قال النسفي: أي: عدل بعض أعضائك ببعض، حتى اعتدلت، فكنت معتدل الخلق، متناسقا، وقال ابن كثير في الآية: أي: جعلك سويا مستقيما معتدل القامة، منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ

كلمة في السياق

رَكَّبَكَ أي: في صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح، والطول والقصر. أي: عدلك في أي صورة من الصور ركبك فيها. روى ابن أبي حاتم: أن عمر سمع رجلا يقرأ يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فقال عمر: الجهل. وروى أيضا عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقرأ هذه الآية يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ويقول: غره والله جهله). كلمة في السياق: 1 - رأينا في الفقرة السابقة هذا الخطاب الشديد للإنسان يوم القيامة، والذي يفيد أن الإنسان الكافر قد غره شئ ما حتى ترك العمل مع كل ما فعله الله عزّ وجل له. ورأينا كلمة عمر رضي الله عنه التي تفيد أن الجهل هو السبب في ذلك، وصلة ذلك بمحور السورة على الشكل التالي: أمر الله عباده في محور السورة بالعبادة والتقوى، وعلل للأمر بعبادته بخلقه لهذا الإنسان، وإنعامه عليه، ولكن كثيرين لا يعبدون الله ولا يتقونه جهلا منهم، هؤلاء يقرعهم الله عزّ وجل على ذلك هذا التقريع. 2 - في الفقرة الأولى من السورة هيجت السورة على أن تقدم كل نفس لنفسها، والفقرة الثانية بينت أن ما يقتضيه إنعام الله على الإنسان بهذا الخلق السوي المستقيم المعتدل. شيئا آخر غير الكفران، وهو معرفة الله عزّ وجل وتقواه، لاحظ صلة قوله تعالى هاهنا الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ بقوله تعالى في المحور الَّذِي خَلَقَكُمْ. 3 - وبعد أن هيجت الفقرتان الأولى والثانية على العمل الصالح والشكر الذي هو عبادة وتقوى، من خلال عرض مشهدين من مشاهد يوم القيامة، تأتي الفقرة الثالثة لتبين العلة الحقيقية في الاغترار بالله عزّ وجل، هذه العلة هي التكذيب بيوم الدين، فلنر الفقرة الثالثة. الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (9) إلى نهاية الآية (12) وهذه هي: [سورة الانفطار (82): الآيات 9 الى 12] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)

التفسير

التفسير: كَلَّا ردع عن العمل السيئ والتقصير في الواجبات والاغترار بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قال ابن كثير أي: إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يحفظون أعمالكم وأقوالكم من الملائكة كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ فلا يكتبون إلا بعلم، وهم يعلمون يقينا كل أفعالكم، وهم كرام، فقابلوهم بما يستحقون من الإكرام. قال ابن كثير: يعني: وإن عليكم لملائكة حفظة كراما، فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون جميع أعمالكم، قال النسفي في الفقرة كلها: (يعني: إنكم تكذبون بالجزاء، والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ لا يخفى عليهم شئ من أعمالكم، وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين، ولطف للمتقين، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدها من آية على الغافلين). كلمة في السياق: 1 - بينت هذه الفقرة علة العمل السيئ، وعلة الكفران والاغترار بأنها التكذيب باليوم الآخر، وأن هذا التكذيب الذي ينبع عنه العمل السيئ والكفران قائم مع وجود الحفظة الكاتبين الذين يسجلون كل شئ على الإنسان، فما أكثر جهل الكافر واغتراره وغفلته. 2 - في ذكر الملائكة الكاتبين، ووصفهم بالكرام، تهييج على الإيمان والعمل الصالح، وبعث للنفس على العبادة والتقوى، أي: على التقديم لليوم الآخر، والشكر وترك العمل السيئ، والكفران، كما أن فيه تحذيرا بآن واحد. وصلة ذلك بمحور السورة لا تخفى. فكأن السياق العام يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فإن عليكم حافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون. 3 - ثم تأتي الفقرة الرابعة والأخيرة. وهي تبني على كل ما قبلها من فقرات إذ

الفقرة الرابعة

تتحدث عن حال الأبرار والفجار يوم القيامة .... الأبرار الذين قدموا الخير، والفجار الذين قدموا الشر. الأبرار الذين أخروا الشر، والفجار الذين أخروا الخير. الأبرار الذين لم يغتروا فشكروا وعبدوا واتقوا، والفجار الذين اغتروا فكفروا ولم يشكروا، فلم يعبدوا، ولم يتقوا، ولم يبروا. الأبرار الذين لا يكذبون بيوم الدين، والفجار الذين يكذبون. الأبرار الذين علموا أن الملائكة يسجلون فأكرموهم، ولم يؤذوهم وعلموا بما يليق بصحبة هؤلاء الملائكة، والكفار الذين آذوا هؤلاء الملائكة، ولم يقابلوهم بما يليق من إيمان وحسن صحبة. هؤلاء الفجار ما لهم يوم القيامة عند ما تتفطر السماء، وتنتثر الكواكب وتتفجر البحار، وتتبعثر القبور؟ والأبرار وما لهم في ذلك اليوم؟ هذا الذي نرى عليه الجواب في الفقرة الرابعة. الفقرة الرابعة وتمتد من الآية (13) حتى نهاية الآية (19) أي نهاية السورة وهذه هي: [سورة الانفطار (82): الآيات 13 الى 19] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) التفسير: إِنَّ الْأَبْرارَ أي: المتقين. لَفِي نَعِيمٍ أي: في الجنة. قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم، وهم الذين أطاعوا الله عزّ وجل، ولم يقابلوه بالمعاصي .. ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم. وَإِنَّ الْفُجَّارَ أي: الكفار لَفِي جَحِيمٍ أي: في النار يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي: يدخلونها

[سورة الانفطار (82): آية 16]

يوم الجزاء، وهو اليوم الذي كانوا يكذبون فيه وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ قال ابن كثير: أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة، ولو يوما واحدا. وقال النسفي: أي: لا يخرجون منها .. ثم عظم شأن يوم القيامة فقال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ كرره للتأكيد والتعظيم ثم فسره بقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قال ابن كثير: (أي: لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ونذكر هاهنا حديث «يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئا») وقال النسفي: (أي: لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه، وإنما تملك الشفاعة بالإذن وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ قال النسفي: أي: لا أمر إلا لله تعالى وحده، فهو القاضي فيه دون غيره، وقال ابن كثير: (وقال قتادة: والأمر- والله- اليوم لله، لكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد). كلمة في السياق: إن الأبرار هم المتقون بدليل آية البر في سورة البقرة، والفجار هم الذين يقابلون المتقين، ومن السياق عرفنا بعض خصائص المتقين، وبعض خصائص الفجار، فالفقرة الأخيرة صبت فيها السورة كلها، ومن ثم نلاحظ أنه جاء في الفقرة الأولى قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وجاء في الفقرة الأخيرة: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً. وجاء في الفقرة الثالثة: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وجاء في الفقرة الأخيرة، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ .. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ... وكما أن الفقرة الأخيرة كانت مصبا للسورة كلها، فإنها فصلت في المحور. لقد جاء في المحور قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ وهاهنا جاء قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ فللسورة سياقها وهي مرتبطة بمحورها في السياق القرآني العام. الفوائد: 1 - بدأ ابن كثير الكلام عن السورة بقوله: (روى النسائي عن جابر قال: قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفتان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن

سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت!» وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذكر (إذا السماء انفطرت) في أفراد النسائي. وقد تقدم من رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت»). 2 - يقع بعض الناس في خطأ عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ وقد سجل ابن كثير الخطأ والصواب في فهم هذه الآية فقال: (هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب حيث قال: (الكريم) حتى يقول قائلهم: غره كرمه، بل المعنى في هذه الآية ما غرك يا ابن آدام بربك الكريم أي: العظيم حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث يقول الله تعالى يوم القيامة «يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟». وقال بعض أهل الإشارة إنما قال: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة، وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل؛ لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال الفجور. وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الأسود بن شريك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟). 3 - بمناسبة قوله تعالى الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن بشر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال: قال الله عزّ وجل «يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة؟». 4 - في قوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ اتجاهان: اتجاه يقول ما ذكرناه أي: في أي صورة من الحسن والقبح وغير ذلك يركبك مع كمال الاعتدال، واتجاه آخر يقول: أي: كان قادرا على أن يركبك في صورة قرد أو غيره، فكان ينبغي أن تقابل ذلك منه بالشكر، ولكنك لم تفعل. 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ قال ابن كثير:

كلمة أخيرة في المجموعة التاسعة من قسم المفصل

(روى ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند حالتين الجنابة والغائط، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو ليستره أخوه» وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار فوصله بلفظ آخر عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم، الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره» ثم قال: حفص بن سليمان وهو من رجال السند- لين الحديث وقد روي عنه واحتمل حديثه. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن الحسن- يعني: البصري- عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من حافظين يرفعان إلى الله عزّ وجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفار إلا قال الله تعالى: قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة» ثم قال البزار: تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث (قلت) وثقه ابن معين وضعفه البخاري وأبو زرعة وابن أبي حاتم والنسائي وابن عدي ورماه ابن حبان بالوضع، وقال الإمام أحمد: لا أعرف حقيقة أمره. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة يعرفون بني آدم- وأحسبه قال: ويعرفون أعمالهم- فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان. نجا الليلة فلان، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا: هلك الليلة فلان» ثم قال البزار: سلام هذا- وهو من رجال السند- أحسبه سلام المدائني وهو لين الحديث). 6 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ قال ابن كثير: (وقد روى ابن عساكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء»). أقول: هذا جزء البر وعلامة من علاماته والرسول عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يعرف الكل بالجزء؛ لتبيان أهمية الجزء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة». كلمة أخيرة في المجموعة التاسعة من قسم المفصل: رأينا أن المجموعة التاسعة تتألف من أربع سور هي النازعات وعبس والتكوير والانفطار.

سورة النازعات هيجت على الخوف من الله عزّ وجل، وعلى نهي النفس عن الهوى وعلى الخشية من اليوم الآخر. وجاءت سورة عبس لتعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقباله على كافر، وإعراضه عن مؤمن لتحدد مجال الإنذار الرئيسي، ثم جاءت سورة التكوير لتهيج المؤمنين على العمل الصالح المحدد بكتاب الله عزّ وجل، ولتهيج على الاستقامة عليه، ثم جاءت سورة الانفطار لتحذر من الجهل بالله الذي يؤدي بالإنسان إلى ترك العمل، وقد رأينا أن السور الأربع فصلت في الأساس والطريق ففصلت سورتا النازعات وعبس في مقدمة سورة البقرة، وفصلت سورتا التكوير والانفطار في ما بعد ذلك أي: في الطريق. وقد رأينا كيف أن كل سورة أوصلت إلى ما بعدها، وقد أوصلت السورة الأخيرة إلى ما بعدها. أي: إلى سورة المطففين. فالملاحظ أن سورة الانفطار تنتهي بفقرة إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ وأن سورة المطففين تتحدث بتفصيل أكبر عن الأبرار والفجار كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ... فلننتقل إلى سورة المطففين ومجموعتها.

المجموعة العاشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة العاشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سورتي: المطففين، والانشقاق

كلمة في المجموعة العاشرة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة العاشرة من قسم المفصل المجموعة العاشرة تتألف من سورتين: المطففين والانشقاق، والذي دلنا على ذلك أن ما بعد سورة الانشقاق سورة مبدوءة بقسم، وتلك علامة على بداية مجموعة جديدة، ثم إن سورة الانشقاق تتحدث في بدايتها عن اليوم الآخر، وهي مبدوءة ب إِذَا وتلك علامة مطردة على نهاية مجموعة، ومن ثم تحددت سورة الانشقاق على أنها نهاية مجموعة وقبل سورة المطففين جاءت سورة الانفطار وفيها كلام عن اليوم الآخر، وهي مبدوءة ب إِذَا فتحدد بذلك أن سورتي المطففين والانشقاق مجموعة واحدة. والظاهر أن سورة المطففين تفصل في مقدمة سورة البقرة، وأن سورة الانشقاق تفصل في ما بعد المقدمة، والذي دلنا على هذا أن كل سورة تتحدث في مقدمتها عن اليوم الآخر، وهي مبدوءة ب إِذَا فإنها تفصل فيما بعد المقدمة مباشرة، فلم يبق إلا أن تكون سورة المطففين تفصل في مقدمة سورة البقرة. والملاحظ أنه لا توجد إلا سورتان في القرآن مبدوءتان بقوله تعالى وَيْلٌ الأولى سورة المطففين، والثانية سورة الهمزة، وسورة الهمزة تفصل في مقدمة سورة البقرة، ولكنها ليست بداية مجموعة، إذ هي مسبوقة بسورة (العصر) التي هي شريكتها في تفصيل مقدمة سورة البقرة وإذ لم تكن سورة المطففين مسبوقة بسورة تفصل في المقدمة، فمعنى هذا أنها بداية مجموعة، وهي التي تفصل في المقدمة من سورة البقرة. فلنر سورتي المجموعة العاشرة.

سورة المطففين

سورة المطففين وهي السورة الثالثة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة العاشرة من قسم المفصل، وهي ست وثلاثون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة التطفيف

بين يدي سورة التطفيف: قدم الألوسي لسورة التطفيف بقوله: (ويقال لها سورة المطففين. واختلف في كونها مكية أو مدنية، فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية، وعن الحسن وعكرمة إنها مدنية وعليه السدي، قال: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت، وعن ابن عباس روايات، فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال آخر ما نزل بمكة سورة المطففين، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال: أول ما نزل بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال: لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك، وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية إلا ثمان آيات من آخرها إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا الخ. وقيل: إنها مدنية إلا ست آيات من أولها، وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول: إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة؛ ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وآياتها ست وثلاثون بلا خلاف. والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء، ويوم الجزاء وعظم شأنه، ذكر عزّ وجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة، وذكره سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته، مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى، وقال الجلال السيوطي: الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى، وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه، فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، يقع في صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة الأهوال، فذكره في هذه السورة بقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الصحف، فآخذ باليمين، وآخذ بالشمال، وآخذ من وراء ظهره، ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار، فناسب تأخر سورة الانشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب عن السورة التي فيها ذكر الموقف، والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادي أحوال

كلمة في سورة المطففين ومحورها

اليوم، ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ وذلك في الدنيا، ذكر سبحانه في هذه حال ما يكتبه الحافظون، وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين، وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار، فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية، وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها، وذلك يوم القيامة، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية، انتهى وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال، فتذكر). كلمة في سورة المطففين ومحورها: تبدأ سورة المطففين بالكلام عن التطفيف بالميزان، لتصل إلى الكلام عن الفجار لتصل إلى الكلام عن الأبرار، لتصل إلى الكلام عن المجرمين وموقفهم من المؤمنين في الدنيا، وحال هؤلاء المجرمين في الآخرة، وحال المؤمنين فيها، ومن هذا العرض الموجز للسورة ندرك أن السورة تتحدث عن المتقين، وعن الكافرين، ولكنها تبدأ بالكلام عن الكافرين، ثم تتحدث عن المتقين، ثم تتحدث عن الطرفين بآن واحد، وهو منحى اعتدناه في تفصيل مقدمة سورة البقرة، فالكلام عن المتقين يعمق تصورنا عن الكافرين، والكلام عن الكافرين يعمق تصورنا عن المتقين، وفي سورة المطففين كلام عن المتقين والكافرين بآن واحد، ولذلك نقول: إن محور سورة المطففين هو قوله تعالى من سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. تبدأ السورة بذكر خلق من أخلاق الكافرين، ثم تنتهي بالحديث عن الفجار والكفار، وعن بعض أخلاق الكافرين، وعن ختم الله على قلوبهم، وعن سبب ذلك، ومن خلال ذلك تعرف بعض صفات المتقين المقابلة، ثم إن السورة تتحدث عن الأبرار والمؤمنين ببيان ما لهم عند الله عزّ وجل، والملاحظ أن آخر مجموعة من مجموعات القرآن، تبدأ بسورة العصر، ثم تثني بسورة الهمزة وهي مبدوءة بقوله تعالى وَيْلٌ

كسورة المطففين، وسورة الهمزة- كما سنرى- تتحدث عن أخلاق الكافرين، كما بدأت سورة المطففين، ولكن سورة المطففين تؤدي دور سورتي العصر والهمزة بآن واحد، فبينما سورة العصر تتحدث عن أخلاق الناجين عند الله عزّ وجل، وتتحدث سورة الهمزة عن أخلاق الهالكين، فإن سورة المطففين تتحدث عن الناجين والهالكين، ومن ثم فإنها تفصل في مقدمة سورة البقرة كلها، إن النفاق كفر، فالكلام عن الكافرين يدخل فيه الكلام عن المنافقين ضمنا. تتألف سورة المطففين من أربع فقرات واضحة المعالم، مترابطة الصلات: الفقرة الأولى تستمر حتى الآية (6). الفقرة الثانية تستمر حتى الآية (17). الفقرة الثالثة تستمر حتى الآية (28). الفقرة الرابعة تستمر حتى نهاية السورة أي: حتى نهاية الآية (36). فلنبدأ عرض السورة لنرى سياقها الخاص، ومحلها في تفصيل المحور.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد حتى نهاية الآية (6) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) التفسير: وَيْلٌ أي: خسارة وهلاك لِلْمُطَفِّفِينَ قال النسفي: (أي: للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن) وقال ابن كثير: والمراد بالتطفيف هاهنا: البخس في المكيال والميزان، إما بالازدياد، إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قضاهم) ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك، وهو الويل بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي: من الناس يَسْتَوْفُونَ أي: يأخذون حقهم بالوافي والزائد. قال النسفي: (أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة، ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل (على) مكان (من) للدلالة على ذلك) وَإِذا كالُوهُمْ أي: كالوا للناس أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: وزنوا لهم يُخْسِرُونَ أي: ينقصون أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أي: الذين يفعلون ذلك أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني: يوم القيامة. قال النسفي: أدخل همزة الاستفهام على لا النافية توبيخا، وليست هذه للتنبيه، وقال ابن كثير: (أي: ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر في يوم عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب، من خسر فيه أدخل نارا حامية؟). قال النسفي: (وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة، ولو ظنوا

[سورة المطففين (83): آية 6]

أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن) ثم فسر الله عزّ وجل ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قال النسفي: أي: لأمره وجزائه. وقال ابن كثير: أي: يقومون حفاة عراة غرلا في موقف صعب حرج. ضيق ضنك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه. كلمة في السياق: 1 - حدثنا الله عزّ وجل في هذه الفقرة عن خلق من أخلاق الكافرين، وهو التطفيف في الكيل والميزان، بدليل قوله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ مما يشير إلى أنهم لو كانوا يظنون ذلك ما فعلوه. فالتطفيف خلق من أخلاق الكافرين بشكل عام، ويدخل في التطفيف معاني أخرى ينأى عنها المسلم، وإن كانت ليست داخلة صراحة في النص، ومن ثم قال النسفي في هذا المقام. (عن عبد الملك بن مروان أن أعرابيا قال له: لقد سمعت ما قال الله في المطففين، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب). ولئن كان التطفيف في الأصل خلقا من أخلاق الكافرين والمنافقين، فقد يواقعه المسلم، وعليه أن يتوب إلى الله، وأن يرد الحقوق إلى أصحابها إن عرفهم، وإلا فليتصدق وليدع وليستغفر. 2 - بعد أن حدثنا الله عزّ وجل في الفقرة الأولى عن خلق من أخلاق الكافرين، يحدثنا عن الكافرين بشكل عام في الفقرة الثانية، فكانت الفقرة الأولى مقدمة للكلام عن الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية

الفقرة الثانية وتمتد من الآية (7) إلى نهاية الآية (17) وهذه هي: [سورة المطففين (83): الآيات 7 الى 17] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) التفسير: كَلَّا قال النسفي: ردع وتنبيه، أي: تردعهم عما كانوا عليه من التطفيف، والغفلة عن البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم. أقول: كلام النسفي يشير إلى ما ذكرناه من صلة سياق الفقرة الأولى بالثانية، فالمطففون من الفجار، بل هو خلق من أخلاقهم، ولكن قد يتسلل هذا الخلق إلى مؤمن لغفلة أو ضعف إيمان، أو مخالطة لبيئة فاسدة، أو استمرار لحال سابقة، وتخصيص هذا الخلق من أخلاق الفجار بفقرة مستقلة تربية للمسلمين، وتخليص لهم منه، ومن ثم روى النسائي وابن ماجه، في سبب نزول الفقرة الأولى عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فحسنوا الكيل بعد ذلك). أقول: ولا زالوا يحسنون بل هم اليوم في علمي أحسن الناس وزنا وكيلا، وبعد أن ردع الله عزّ وجل الناس عن التطفيف الذي هو خلق من أخلاق الفجار، قال مبينا أمر الفجار: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ قال

[سورة المطففين (83): الآيات 8 إلى 9]

النسفي: أي: صحائف أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ قال النسفي: سجين: كتاب جامع، هو ديوان الشر، دون الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ * كِتابٌ مَرْقُومٌ قال النسفي: (أي: مسطور بين الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه .. والمعنى: إن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان وسمي سجينا .. من السجن وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم). أقول: هناك اتجاه آخر في تفسير هذه الآيات: وهو أن الله عزّ وجل قد قضى قضاء مبرما (أن الفجار لفي سجين) أي: لفي سجن ضيق، فسجين كسكير وشريب: بين السكر والشرب. والمراد بالسجن هنا جهنم، وأن كونهم في سجين شئ مرقوم، أي: مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد، ولا ينقص منه أحد، وعلى هذا القول فإن قوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ تفخيم وتهويل لشأن جهنم، وليس متصلا بما بعده أي: بقوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ فيكون المعنى الحرفي على هذا القول: كلا إنه مكتوب على الفجار، أن يكونوا في سجن جهنم وأن هذا المكتوب لا يبدل ولا يغير، وما أدراك ما هذا السجن الذي قضي عليهم به، وكتب عليهم به نتيجة لسوء أعمالهم ثم قال تعالى متهددا لهم، ومبينا سبب هذا القضاء عليهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وإذن فما كان قضاء الله عليهم إلا بسبب منهم، قال ابن كثير: ثم قال تعالى مفسرا للمكذبين والفجار الكفرة: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: بيوم الجزاء والحساب، قال ابن كثير: أي: لا يصدقون بوقوعه، ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره. وَما يُكَذِّبُ بِهِ أي: بذلك اليوم إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي: مجاوز للحد أَثِيمٍ أي: مكتسب للإثم، قال ابن كثير: أي: معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح، والأثيم في أقواله إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي: القرآن. قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: خرافات السابقين وأباطيلهم. قال ابن كثير: أي: إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به ويظن به، ظن السوء. فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل. كَلَّا. قال النسفي: ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: غطاها كسبهم أي: غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي. قال ابن كثير: أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين. بل هو كلام الله ووحيه، وتنزيله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس

[سورة المطففين (83): آية 15]

قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا .. والرين يعتري قلوب الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقربين كَلَّا قال النسفي: ردع لهم عن الكسب الرائن على القلب إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ أي: عن رؤيته يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال النسفي: أي: لممنوعون ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ قال النسفي: (أي: ثم إنهم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار) وقال ابن كثير: أي: ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران ثُمَّ يُقالُ هذَا أي: هذا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ أي: تكذبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه. قال ابن كثير: أي: يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير والتحقير. كلمة في السياق: 1 - في سورة الانفطار تبين لنا أن علة الاغترار بالله هي الجهل، وأن علة ذلك التكذيب بيوم الدين، وفي الفقرة التي مرت معنا تبين لنا أن علة التكذيب بيوم الدين الاعتداء والإثم، والتكذيب بآيات الله، وأن هذا كله أورث رينا على القلب، وذلك مظهر من مظاهر الاتصال ما بين سورة المطففين والسورة السابقة عليها. 2 - إن هناك صلة واضحة بين قوله تعالى عن الكافرين في محور السورة: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وبين ما ورد في السورة هاهنا: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ* ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وإن هناك صلة ما بين قوله تعالى في المحور: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وبين الفقرة. فالفقرة بينت لنا علة الختم على القلوب، وسبب وصول الكافرين إلى الحالة التي لا ينفع معها إنذار، من اعتداء، وإثم، وإنكار لكتاب الله، وتكذيب به، وكسب سيئ .. 3 - عرفنا من صفات الفجار في الفقرتين السابقتين؛ أ- التطفيف في الميزان والمكيال. ب- التكذيب بيوم الدين ج- الاعتداء، د- الإثم هـ- اتهام كتاب الله بأنه أساطير الأولين. ويفهم من هذا أن الأبرار لا يطففون الميزان والمكيال، وأنهم يؤمنون باليوم الآخر. وأنهم لا يتجاوزون ما حده الله عزّ وجل، وأنهم لا يرتكبون الإثم، وأنهم يؤمنون بكتاب الله عزّ وجل؛ لاحظ صلة ذلك بمحور السورة: الم* ذلِكَ

الفقرة الثالثة

الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ... ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ثم تأتي فقرة ثالثة من سورة المطففين تتحدث عما أعد الله عزّ وجل للأبرار، وذلك مظهر فلاحهم، فهي إذن تفصيل لفلاح الأبرار، فلنر الفقرة الثالثة في السورة. الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (18) حتى نهاية الآية (28) وهذه هي: [سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 28] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) التفسير: كَلَّا قال النسفي: ردع عن التكذيب إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ قال النسفي: (أي: ما كتب من أعمالهم) والأبرار: هم المطيعون الذين لا يطففون، ويؤمنون بالبعث، لأنه ذكر في مقابلة الفجار لَفِي عِلِّيِّينَ قال النسفي: هو علم أي: اسم علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة، وصلحاء الثقلين، سمي به لأنه

[سورة المطففين (83): آية 19]

سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريما له، وقال ابن كثير في تفسير الآية: (يقول تعالى حقا إن كتاب الأبرار وهم بخلاف الفجار لَفِي عِلِّيِّينَ أي: مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ قال النسفي: (أي: ما الذي أعلمك يا محمد ما عليون أي شئ هو) كِتابٌ مَرْقُومٌ أي: مسطور أو معلم يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ قال النسفي: أي: تحضره الملائكة. قيل: يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أي: لفي تنعم في الجنان، قال ابن كثير: أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فضل عميم عَلَى الْأَرائِكِ متكئين يَنْظُرُونَ قال النسفي: أي: إلى كرامة الله ونعمه، وإلى أعدائهم كيف يعذبون. قال ابن كثير: (وقيل معناه: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إلى الله عزّ وجل، وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عزّ وجل وهم على سررهم وفرشهم كما تقدم في حديث ابن عمر «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله عزّ وجل في اليوم مرتين») تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي: بهجة التنعم وطراوته. قال ابن كثير: (أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي: صفة الترافه والحشمة والسرور والدعة والرئاسة مما هم فيه من النعيم العظيم.). يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي شراب خالص لا غش فيه مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ قال النسفي: (أي: تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذين يختم به الشراب في الدنيا .. أو مقطعه رائحة مسك أي: توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه. أقول: أي: نكهته التي تبقى في الفم مسك، قال ابن مسعود: أي: خلطه مسك، وقال الحسن: أي: عاقبته مسك، وَفِي ذلِكَ أي: وفي الرحيق أو النعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ قال النسفي: أي: فليرغب الراغبون، وذلك إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات، والانتهاء عن السيئات. وقال ابن كثير: أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباه ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون وَمِزاجُهُ أي: ومزاج الرحيق مِنْ تَسْنِيمٍ قال النسفي: (هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه، لأنها أرفع شراب في الجنة أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب في أوانيهم). وقال ابن كثير، أي: ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم، أي: من شراب يقال له تسنيم وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه .. ولهذا قال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا أي: منها

كلمة في السياق

الْمُقَرَّبُونَ قال النسفي: يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين، وقال ابن كثير: أي: يشربها المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمن مزجا. كلمة في السياق: 1 - وهكذا حدثنا الله عزّ وجل عن الفجار والأبرار، ما لهؤلاء من عذاب، وما لهؤلاء من نعيم، وعرفنا خصائص هؤلاء وصفات أولئك ثم تأتي فقرة تحدثنا عن سبب استحقاق الأبرار لما استحقوه، وعن سبب استحقاق الفجار لما استحقوه. 2 - فصلت لنا الفقرة الثالثة مظهرا من مظاهر فلاح المتقين، بعد أن أرتنا الفقرة الثانية مظهرا من مظاهر خسار الكافرين، ثم تأتي الفقرة الرابعة لتحدثنا عن موقف الكافرين من المتقين في الدنيا، وما يعاقب به الكافرون في مقابل ذلك في الآخرة، وما يجزاه المتقون في مقابل صبرهم على ذلك، فلنر الفقرة الرابعة والأخيرة في السورة بعد أن عرفنا محلها في السياق الخاص والسياق العام.

الفقرة الرابعة

الفقرة الرابعة وتمتد من الآية (29) إلى نهاية الآية السورة، أي إلى نهاية الآية (36) وهذه هي: [سورة المطففين (83): الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) التفسير: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي: كفروا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي: في الدنيا استهزاء بهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ أي: يشير بعضهم إلى بعض بالغين طعنا فيهم وعيبا لهم. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي: يستهزءون بهم، ويحتقرونهم، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي: محتقرين لهم). وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ أي: إذا رجع الكفار إلى منازلهم انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي: متلذذين بذكرهم والسخرية منهم قال ابن كثير: (وإذا انقلب أي: رجع المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين أي: مهما طلبوا وجدوا، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم) وَإِذا رَأَوْهُمْ أي: وإذا رأى الكافرون المؤمنين. قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ قال ابن كثير: أي: لكونهم على غير دينهم، وقال النسفي: (قالوا: خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا الحقيقة بالخيال، وهذا هو عين الضلال) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ قال

[سورة المطففين (83): آية 34]

النسفي: (أي: وما أرسل الكفار على المؤمنين حافظين يحفظون عليهم أحوالهم، ويرقبون أعمالهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم فاشتغالهم بذلك، أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم). وقال ابن كثير: (أي: وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم) فَالْيَوْمَ أي: يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ كما ضحكوا منهم هنا مجازاة عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ قال ابن كثير: أي: إلى الله عزّ وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون، ليسوا بضالين، بل هم من أولياء الله المقربين، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال النسفي: هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذ فعل بهم ما ذكر، وقال ابن كثير: أي: هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله. كلمة في السياق: في مقدمة سورة البقرة كلام عن المتقين والكافرين، وفي الفقرة الأخيرة من السورة بيان لموقف الكافرين من المتقين، وما يعاقب الله عزّ وجل به الكافرين يوم القيامة مجازاة لهم على هذا الموقف، وعرفنا من صفات الفجار في الفقرة الأخيرة ضحكهم من المؤمنين، وتغامزهم منهم، وبصرهم ورؤيتهم أن أهل الإيمان على ضلال، وفي مقابل ذلك عرفنا من خصائص الأبرار الإيمان، وهكذا أعطتنا سورة المطففين مزيد بيان إن في صفات الفجار أو في صفات المتقين. ولذلك صلاته بمحور السورة. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن هلال بن طلق قال: بينما أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكة وأهل المدينة، قال: حق لهم، أما سمعت الله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ). أقول: وهذا دليل على أن أهل الإيمان بمجرد أن يذكروا يتذكرون، ولا زال أهل المدينة وأهل مكة حتى الآن من أكرم خلق الله ميزانا وأجودهم كيلا.

وبمناسبة هذه الآية قال الألوسي: (وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا: «خمس بخمس» قيل يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر»). 2 - بمناسبة قوله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قال ابن كثير: (روى الإمام مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» رواه البخاري من حديث مالك وعبد الله بن عون كلاهما عن نافع به، ورواه مسلم من الطريقين أيضا، ولفظ الإمام أحمد عن نافع عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يوم يقوم الناس لرب العالمين لعظمة الرحمن عزّ وجل يوم القيامة حتى إن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم». (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن المقداد- يعني ابن الأسود الكندي- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين- قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، ومنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما» رواه مسلم. (حديث آخر) روى الإمام أحمد عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا وكذا، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور، يعرقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق» انفرد به أحمد .. ). أقول: إن الله عزّ وجل ذكر أن الشمس والقمر يجمعان، وذكر أن الشمس تكور، وذلك يكون قبل الحشر والموقف فإذا عرفنا هذا فالشمس التي تدنو من الخلائق في الحساب ينبغي أن تكون غير هذه الشمس، ومن ثم فلا يستغرب دنوها من رءوس العباد هذا الدنو، وعلى كل فلليوم الآخر قوانين تختلف عن قوانين هذا العالم. 3 - بمناسبة قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ قال ابن كثير: (وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد

زادت» فذلك قول الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ وقال الترمذي حسن صحيح. ولفظ النسائي: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب، صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»). 4 - بمناسبة قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال النسفي: (أي: عن رؤية ربهم لممنوعون، والحجب: المنع، قال الزجاج: في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم، وإلا لا يكون التخصيص مفيدا، وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته، وقال مالك بن أنس رحمه الله: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، وقيل: عن كرامة ربهم؛ لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة، والأول أصح؛ لأن الرؤية أقوى الكرامات، فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها). وقال ابن كثير: أي: لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين، ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم، قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزّ وجل يومئذ، وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية. كما دل عليه منطوق قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عزّ وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة). 5 - بمناسبة قوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري- أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، أيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة»). 6 - وبمناسبة الفقرة الأخيرة في السورة: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ .. يقول صاحب الظلال: (ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته- مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا- كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه. فنجد

أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري، كما أنه فن عال في العلاج الشعوري. فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق، وكان ربهم لا يتركهم بلا عون، من تثبيته وتسريته وتأسيته. وهذا التصور المفصل لمواجعهم من أذى المشركين، فيه بلسم لقلوبهم. فربهم هو الذي يصف هذه المواجع. فهو يراها، وهو لا يهملها- وإن أمهل الكافرين حينا- وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه. إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون. وكيف يؤذيهم المجرمون. وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون. وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون! إن ربهم يرى هذا كله، ويصفه في تنزيله. فهو إذن شئ في ميزانه .. وهذا يكفي! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة). ولننتقل إلى سورة الانشقاق.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق وهي السورة الرابعة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية والأخيرة من المجموعة العاشرة من قسم المفصل، وهي خمس وعشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الانشقاق

بين يدي سورة الانشقاق: قدم الألوسي لسورة الانشقاق بقوله: (ويقال: سورة انشقت. وهي مكية بلا خلاف. وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي، وخمس وعشرون في غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل، وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال: إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين، وفي المطففين مقر كتبهم، وفي هذه عرضها في القيامة). كلمة في سورة الانشقاق ومحورها: سورة الانشقاق نهاية المجموعة العاشرة، بدليل ما ذكرناه من قبل من كونها مبدوءة ب إِذَا وتتحدث في بدايتها عن اليوم الآخر، وتأتي بعدها سورة البروج المبدوءة بقسم، وتلك علامة بداية مجموعة جديدة. وتأتي سورة الانشقاق لتفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة، أي: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وما بعدها حتى نهاية قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ .. وسنرى كيف أنها تفصل في هذا المحور أثناء عرض السورة. تنقسم السورة إلى مقطعين واضحين: المقطع الأول ينتهي بالآية (15) والمقطع الثاني ينتهي بنهاية السورة. والمقطع الأول يتألف من فقرتين كما سنرى، وفي السورة كالعادة معان جديدة لم تتعرض لها سورة أخرى، فالسورة لها سياقها الخاص، وصلتها بمحورها ومعانيها الخاصة بها. والملاحظ أن سورة المطففين تتكلم في نهايتها عن استهزاء المجرمين بالمؤمنين، وعاقبة المجرمين والمؤمنين. وأن سورة الانشقاق في مقطعها الأول تتحدث عمن يأخذ كتابه بيمينه، وعمن يأخذ كتابه بشماله، فالصلة واضحة بين نهاية سورة المطففين، وبداية سورة الانشقاق. ولنبدأ عرض السورة.

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد من الآية (1) إلى نهاية الآية (15) وهذا هو: الفقرة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) الفقرة الثانية [سورة الانشقاق (84): الآيات 6 الى 15] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) تفسير الفقرة الأولى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وذلك يوم القيامة قال الألوسي: (وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنها تنشق من جهة المجرة) قال النسفي: أي: تصدعت وتشققت وَأَذِنَتْ لِرَبِّها قال ابن كثير: أي: استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، وقال النسفي: (أي: سمعت وأطاعت وأجابت ربها إلى الانشقاق، ولم تأب ولم تمتنع وَحُقَّتْ أي: وحق لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله عزّ وجل، وقال ابن كثير: أي وحق لها أن تطيع أمره، لأنه

[سورة الانشقاق (84): آية 3]

العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شئ وذل له كل شئ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال النسفي: أي: بسطت وسويت باندكاك جبالها وكل أمت فيها. أقول: وهل تبقى على كرويتها أم لا؟ فإذا كانت تبقى على كرويتها يكون المراد بأنها تصبح كلها على سوية واحدة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وإذا كانت لا تبقى على كرويتها فالمراد- والله أعلم- جعلها كلها كأنها بساط واحد فتسع في ذلك ما لا تسع وهي كروية وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أي: ورمت ما في جوفها وخلت غاية الخلو. قال ابن كثير: أي: ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي: سمعت له وأطاعت وَحُقَّتْ أي: حق لها أن تسمع وتطيع. فإذا كان ذلك فماذا يكون؟ لم تذكر الفقرة الجواب. قال النسفي في تعليل ذلك: وحذف جواب إذا؛ ليذهب المقدر كل مذهب أو اكتفاء بما علم بمثلها من سورتي التكوير والانفطار، أو جوابه، وما دل عليه فَمُلاقِيهِ الآتي بعد ذلك، أي: إذا انشقت لاقى الإنسان كدحه. أقول: يحتمل أن يكون جواب إذا: فماذا أنت مقدم أيها الإنسان لذلك اليوم، أو فكيف يكون حالك أيها الإنسان ذلك اليوم فاعمل إذن لذلك، وقدم العبادة والتقوى. كلمة في السياق: 1 - تحدثت الفقرة عن يوم القيامة، وبعض ما يكون فيه، وذكرت طاعة السماء والأرض لله، وفي ذلك تهييج للإنسان على أن يطيع الله عزّ وجل، وصلة ذلك بمحور السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ واضحة. 2 - بعد الآية التي نقلناها من محور السورة في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً .. والملاحظ أن الفقرة التي مرت معنا من سورة الانشقاق تتحدث عما يحدث للأرض والسماء ذلك اليوم. 3 - تحدثت الفقرة الأولى عما يكون يوم القيامة، فكان ذلك مقدمة واعظة توصل إلى الفقرة الثانية التي تخاطب الإنسان خطابا مباشرا، واعظة له وداعية له أن يكون من أهل اليمين، وألا يكون من أهل الشمال فلنر الفقرة الثانية.

تفسير الفقرة الثانية من المقطع الأول

تفسير الفقرة الثانية من المقطع الأول: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ الخطاب عام لكل إنسان إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً قال ابن كثير: أي: إنك ساع إلى ربك سعيا، وعامل عملا، وقال النسفي: أي: (إنك جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت وما بعده من الحال المتمثلة باللقاء فَمُلاقِيهِ أي: فملاق عملك وكدحك. أو فملاق ربك فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال النسفي: أي: سهلا هينا وهو أن يجازى على الحسنات ويتجاوز عن السيئات وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي: فرحا، قال النسفي: أي: وينقلب إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو إلى فريق المؤمنين أو إلى أهله في الجنة من الحور العين مسرورا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قال ابن كثير: أي: بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك، وقال النسفي: قيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أي: خسارا وهلاكا، أي: يقول يا ثبوراه أي: يا هلاكاه، ولا يأتيه الهلاك وَيَصْلى سَعِيراً أي: ويدخل جهنم إِنَّهُ كانَ في الدنيا فِي أَهْلِهِ أي: معهم مَسْرُوراً قال النسفي: أي: بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث. قيل: أي: في تفسيرها: كان لنفسه متابعا، وفي مراتع هواه راتعا، وقال ابن كثير: أي: مزحا لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي: يرجع إلى ربه تكذيبا بالبعث. أقول: وهذا سر سروره في أهله، سرورا جعله لا يبالي بقيد ولا عمل. بَلى أي: ليرجعن إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً فسيجازيه على كل عمل وتصرف واعتقاد. قال ابن كثير. يعني: بلى سيعيده كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها بأنه كان له بصيرا أي: عليما خبيرا. كلمة في السياق: 1 - بعد أن ذكر الله عزّ وجل في الفقرة الأولى ما يكون من أمر السماء والأرض يوم القيامة، خاطب الإنسان في الفقرة الثانية مبينا أنه كادح للوصول إلى ذلك اليوم، ويومذاك إما أن يكون من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من أصحاب الشمال، وفي ذلك دعوة للإنسان كي يكدح من أجل أن يكون من أصحاب اليمين، وذلك لا يكون إلا بالعبادة والتقوى، وهذا مظهر من مظاهر صلة الفقرة بمحور السورة.

المقطع الثاني

2 - رأينا أن محور السورة يبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ورأينا أن الفقرة الثانية. تبدأ بقوله تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ والصلة واضحة بين الخطابين، ومن هذه الصلة ندرك معنى جديدا ومضمونه: إنك أيها الإنسان كادح في كل حال للوصول إلى الله عزّ وجل، فليكن كدحك في عبادة مولاك وتقواه لتنال مرضاته، ولو كان هذا على حساب سرورك الدنيوي في أهلك من أجل أن تنال السرور الأبدي مع أهلك في الآخرة، ولا يكن كدحك فيما يخالف العبادة والتقوى، فإنه وإن أدى هذا إلى سرورك في أهلك في الدنيا فإن عاقبة ذلك الحزن الطويل في الآخرة، ومن ثم قال قتادة في الآية: إن كدحك يا ابن آدام لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل. 3 - رأينا صلة المقطع الأول ببعضه بعضا، ورأينا صلة المقطع بمحور السورة، ثم يأتي المقطع الثاني وهو يخاطب الناس جميعا، وفي ذلك مظهر من مظاهر اتصال السورة بالمحور المبدوء بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ ... وسنرى الصلة الوثيقة بين المقطعين الأول والثاني، فبعد أن بين الله عزّ وجل ماذا ينتظر الإنسان، خاطب الناس مؤكدا لهم أنهم واصلون إلى ما ذكره، وأنبهم على عدم سلوك الطريق فلننتقل إلى المقطع الثاني والأخير من السورة. المقطع الثاني ويمتد من الآية (16) إلى نهاية الآية (25) وهذا هو: [سورة الانشقاق (84): الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

التفسير

التفسير: فَلا أُقْسِمُ أي: فأقسم بِالشَّفَقِ الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، قال عكرمة: الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي: جمع وضم وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قال النسفي: أي: اجتمع وتم بدرا لَتَرْكَبُنَّ قال النسفي: أيها الناس طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قال النسفي: أي حالا بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. أقول: وقد قال بعض الملاحدة في هذه الآية: إنها تدل على تناسخ في الأرواح، وهو فهم عجيب مبتور لا يصدر عمن له أدنى بصر، أو إدراك أو تأمل في هذا القرآن، ولنا عودة على هذه الآية، وعلى ما قالوه في الفوائد. فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والأمر كذلك. قال ابن كثير: أي: فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ قال النسفي: أي: لا يخضعون. قال ابن كثير: وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الله وكلامه- وهو هذا القرآن- لا يسجدون إعظاما وإكراما واحتراما. أقول: وهاهنا سجدة كما سنرى في الفوائد. والمعنى العام: إذا كان الأمر كذلك من كون الإنسان سيركب طبقا بعد طبق أي: حالا بعد حال؛ حتى يصل إلى الكبير المتعال، فمال هؤلاء الكافرين لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ أي إن الأمر ما دام كذلك فإن هذا يقتضي منهم إيمانا وخضوعا للقرآن، ولكنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك يكذبون بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ قال النسفي: أي: بالبعث والقرآن، وقال ابن كثير: أي: من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ فلا يخفى على الله أمرهم، ومعنى الآية: والله أعلم بما يكتمون في صدورهم، قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ قال ابن كثير: أي: فأخبرهم يا محمد بأن الله عزّ وجل قد أعد لهم عذابا أليما إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: لكن الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم لَهُمْ أَجْرٌ في الآخرة. غَيْرُ مَمْنُونٍ قال النسفي: أي: غير مقطوع، أو غير منقوص، وقد ختم صاحب الظلال الكلام عن هذه السورة بقوله: (وكل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر. وهو ما لا يعهد إلا في الكتاب العجيب! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة، وبهذا التأثير .. ولكنه القرآن ميسر للذكر؛ يخاطب القلوب

كلمة في السياق

مباشرة من منافذها القريبة .. تنزيل العليم الخبير). كلمة في السياق: 1 - وضح أثناء عرض الآيات صلة آيات المقطع الثاني بالمقطع الأول، وكما هيج المقطع الأول على الكدح في طريق الخير للوصول إلى رضوان الله عزّ وجل، فإن المقطع الثاني هيج على الإيمان والسجود لقراءة القرآن، والإيمان والعمل الصالح، وصلة ذلك بالعبادة والتقوى من محور السورة واضحة. 2 - في محور السورة من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. والمقطع الثاني من السورة بين أن الإنسان سينتقل من حال إلى حال، وهذا يقتضي منه إيمانا وخضوعا لهذا القرآن، ولكن الكافرين لا يفعلون، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشرهم بالعذاب، ثم بشر الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بمالهم عنده من الثواب المستمر، ولو تأملت لوجدت صلة بين هذه المعاني والآيات الثلاث المذكورة من المحور وهكذا ذكرت السورة بما يفصل في معاني المحور من سورة البقرة. ولكن بأسلوب جديد، وأداء جديد، وزيادات تتفرد بها السورة عن كل سورة، فالسورة الوحيدة في القرآن التي يذكر فيها أن أخذ أصحاب الشمال صحائفهم يكون من وراء ظهورهم هي هذه السورة، وفيها معان أخرى أبرزت فيها إبرازا جديدا، وهكذا نجد سياق السورة الخاص سائرا في إطار السياق العام للقرآن، مع تأدية السورة لمعان جديدة، وهكذا دأب سور القرآن كلها فما أكثر ما في هذا القرآن من إعجاز ودلالات، تدل على أنه من عند الله فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم

حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها، فأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي فيقول الله عزّ وجل: صدق، ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال: وهو المقام المحمود»). 2 - وبمناسبة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ قال ابن كثير: (أي: إنك ساع إلى ربك سعيا وعامل عملا فَمُلاقِيهِ ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر. ويشهد لذلك ما رواه أبو داود الطيالسي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال جبريل: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» ومن الناس من يعيد الضمير على قوله ربك أي: فملاق ربك ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك، وعلى هذا فكلا القولين متلازم). وقال صاحب الظلال بمناسبة هذه الآية: (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ .. الذي خلقه ربه بإحسان، والذي ميزه بهذه (الإنسانية) التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه، وأطوع لأمره من الأرض والسماء. وقد نفخ فيه من روحه، وأودعه القدرة على الاتصال به، وتلقي قبس من نوره، والفرح باستقبال فيوضاته، والتطهر بها، أو الارتفاع إلى غير حد، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة! يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ .. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كدحا، تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشق طريقك .. لتصل في النهاية إلى ربك. فإليه المرجع وإليه المآب. بعد الكد والكدح والجهاد .. يا أيها الإنسان .. إنك كادح حتى في متاعك .. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد. إن لم يكن جهد بدن وكد عمل، فهو جهد تفكير وكد مشاعر. الواجد والمحروم سواء. إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء. وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان .. ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء. يا أيها الإنسان .. إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدا. إنما الراحة هناك. لمن يقدم لها

الطاعة والاستسلام .. التعب واحد في الأرض والكدح واحد- وإن اختلف لونه وطعمه- أما العاقبة مختلفة عند ما تصل إلى ربك .. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض .. وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد .. يا أيها الإنسان .. الذي امتاز بخصائص الْإِنْسانُ. ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله، اختر لنفسك الراحة من الكدح عند ما تلقاه. ولهذه اللمسة الكامنة في هذا النداء، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عند ما يصلون إلى نهاية الطريق، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً* إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً* إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ* بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً .. ). 3 - بمناسبة قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال ابن كثير: (أي: سهلا بلا تعسير أي: لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» قالت: فقلت: أفليس قال الله تعالى: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: «ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث أيوب السختياني به. وروى أحمد عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف، قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» صحيح على شرط مسلم). 4 - يستدل بعض طوائف الملاحدة القائلين بالتناسخ، على هذا التناسخ الملعون بقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ وهو استدلال أحمق؛ لأن القول بالتناسخ يلغي ما تذكره السورة أصلا من حشر الإنسان وحسابه، وهذه طريقة الملاحدة يأتون إلى نص يحتمل معاني فيعطونه معنى لا يحتمله، ويلغون به القرآن كله، ويقولون هذا هو حكم القرآن، وإنما ينطلي خداعهم على جاهل أحمق، إن هذا التناسخ الملعون عقيدة هندوسية تسربت إلى طوائف من ملاحدة المسلمين على تناقضها وتهافتها. إن القول بأن الروح تنتقل من مخلوق إلى مخلوق آخر بحسب عمل المخلوق الأول

مردود لمئات الوجوه منها. أ- إن هذا القول لا يعطي تفسيرا ولا تعليلا لتكاثر البشر إذ القائلون بهذه العقيدة على فرض أنها حق، هم وحدهم إذا أحسنوا العمل يستحقون أن يكونوا بشرا لكنا نرى البشر يتكاثرون وهم بالنسبة لمجموع البشر لا يعدلون إلا رقما صغيرا من عدد كبير. ب- إن القول بالتناسخ يقتضي أن يكون للمخلوقات كلها درجة من الوعي والفهم والإدراك واحدة، وهذا لا يقوله عاقل. ج- إن القول بالتناسخ يقتضي أن يكون عدد الأحياء واحدا في كل عصر، ولكنا نجد أن الأحياء تتكاثر كلها أو تتناقص، فلا تحافظ على عدد محدود. د- إن القول بالتناسخ يلغي موضوع اليوم الآخر، وموضوع محاسبة كل إنسان عن عمله فيه، ويعطل النصوص التي تتحدث عن ذهاب كل روح إلى عالمها في البرزخ، هذا وقد نقلنا نقاش الأستاذ المودودي لهذه العقيدة الفاسدة في كتابنا الإسلام الجزء الرابع فليراجع. وقال ابن كثير في قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ .. (روى البخاري عن مجاهد قال: قال ابن عباس لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ: حالا بعد حال قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ، وقال السدي لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل (قلت:) كأنه أراد معنى الحديث الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: «فمن؟» وهذا محتمل). 5 - هناك قراءتان أخريان في قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قراءة بضم تاء (لتركبن) وقراءة بفتحها وبفتح الباء، فعلى القراءة الأولى يكون الخطاب في الكلمة لمجموع البشرية، وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فسر بعضهم الطبق في القراءة التي تخاطب رسول الله بأنه السماء قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قال: لتركبن يا محمد سماء بعد سماء، وهكذا روي عن ابن مسعود ومسروق وأبي العالية طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ سماء بعد سماء. قلت: يعنون ليلة الإسراء؟). أقول: ليس هناك من مانع أن يفسر الطبق بالسماء على القراءة التي نقرؤها في قراءة

كلمة أخيرة في المجموعة العاشرة من قسم المفصل

حفص، وعندئذ تكون في الآية معجزة غيبية، يدركها أبناء عصرنا الذين انتقلوا من حال إلى حال في تدرجهم في مسالك السماء بالمعنى اللغوي، وعلى هذا يكون السياق على الشكل التالي: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ يا معشر البشر طَبَقاً أي: سماء عَنْ طَبَقٍ أي: عن سماء، فكل موقع يوصلكم إلى ما بعده فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والقرآن يخبرهم عن مثل هذا وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ والقرآن يخاطبهم بمثل هذا. 6 - بمناسبة قوله تعالى: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أقول: هذه إحدى مواطن سجدات القرآن الأربعة عشر التي يجب بسببها عند الحنفية السجود لله إذا تليت أو سمعت، والسجود عندهم واجب على التراخي: «روى مالك عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها» رواه مسلم والنسائي من طريق مالك به. وروى البخاري عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فقلت: له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وزاد النسائي وسفيان الثوري عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). 7 - عند قوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن كثير: (قال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد والضحاك: غير محسوب، وحاصل قولهما أنه غير مقطوع كما قال تعالى عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقال السدي قال بعضهم: غير ممنون غير منقوص.، وقال بعضهم: غير ممنون عليهم، وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد؛ فإن الله عزّ وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائما سرمدا، والحمد لله وحده أبدا ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). كلمة أخيرة في المجموعة العاشرة من قسم المفصل: سورة المطففين تحدثت عن الفجار والأبرار، وجاءت سورة الانشقاق، فبينت

للإنسان أنه كادح كل الكدح لملاقاة الله عزّ وجل، ومن ثم طالبت السورة من خلال عرض ما لأهل اليمين ولأهل الشمال، بالعمل الصالح، وبينت سورة الانشقاق أن الإنسان منتقل من حال إلى حال في الدنيا، وفي الآخرة، ومن ثم فهذا يقتضي منه إيمانا وعملا صالحا. وأنذرت السورة من لم يؤمن ويعمل صالحا، وهكذا دعت سورة الانشقاق من خلال تبيان كدح الإنسان وانتقاله من حال إلى حال إلى السير في طريق البر والتخلي عن طريق الفجور، فالسورتان تتكاملان لتؤديا دورا واحدا في قضية الأساس والطريق. وقد رأينا أن لكل سورة سياقها الخاص، وصلتها بمحورها، وأن كل سورة فيها جديد، ورأينا صلة نهاية السورة الأولى ببداية الثانية، وهكذا نجد أن السياق القرآني العام يذكر هذه النفس البشرية مرة ومرة ومرة، بمعنى ومعنى ومعنى، وهكذا تأخذ النفس البشرية خطها من التذكير المحيط الشامل، ومن ثم ندبت السنة إلى قراءة القرآن في الشهر مرة؛ لتأخذ النفس البشرية حظها من هذا التذكير الشامل في كل شهر، ويا حسرة على أولئك المحرومين من هذه النعمة فكيف بالمحرومين أصلا من نعمة الإيمان بهذا القرآن.

المجموعة الحادية عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الحادية عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: البروج، والطارق، والأعلى، والغاشية

كلمة في المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل تعرضت سورة المطففين في آخرها لاستهزاء المجرمين بالمؤمنين، وأبرزت هذا المعنى وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وجاءت سورة الانشقاق لتبين عقوبة هؤلاء المجرمين المنقلبين إلى أهليهم فكهين فقالت وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً* وَيَصْلى سَعِيراً* إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً* إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لاحظ إبراز سرور الكافر في أهله في نهاية سورة المطففين، وأوائل سورة الانشقاق مع إبراز ما للكافرين وللمؤمنين في السورتين. وتأتي سورة البروج بعد ذلك لترينا نموذجا من فعل الكافرين بالمؤمنين وفتنتهم إياهم، وما يستحقونه نتيجة لذلك. كما تحدثنا عن المؤمنين العاملين وما لهم. وتحدثنا عما يستحقه المكذبون من بطش الله. فسورة البروج تأتي لتكمل سياق ما قبلها، وتتصل بالمجموعة العاشرة بأكثر من وشيجة. وسنرى فيما بعد صلة كل سورة من سور المجموعة الحادية عشرة ببعضها. لقد رأينا أن سور: الذاريات والطور والنجم كلها مبدوءة بقسم، وآتية في مجموعة واحدة، وأنها كلها فصلت في مقدمة سورة البقرة، وفي هذه المجموعة نرى سورتين كلا منهما مبدوءة بقسم، وفي المجموعة اللاحقة نجد خمس سور في مجموعة واحدة، تبدأ كل منها بقسم، وكلها تفصل في مقدمة سورة البقرة، ومن مثل هذا نستأنس أن سورتي البروج والطارق تفصلان في مقدمة سورة البقرة. وتأتي بعد هاتين السورتين سورة الأعلى وهي مبدوءة بقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهذا يشير إلى أنها تفصل في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وتأتي بعد ذلك سورة الغاشية، وهي مبدوءة بقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ وهي تشبه سورة الدهر مبدوءة بقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً وهذا يجعلنا نستأنس أن محور سورة الغاشية هو نفسه محور سورة الدهر، وهي الآيات الآتية بعد مقدمة سورة البقرة وهذا كله سنراه تفصيلا أثناء عرضنا للسور الأربع- سور المجموعة الحادية عشرة- فلنبدأ عرضها.

سورة البروج

سورة البروج وهي السورة الخامسة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل، وهي اثنتان وعشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة البروج

بين يدي سورة البروج: قدم الألوسي لتفسير سورة البروج بقوله: (لا خلاف في مكيتها. ولا في كونها اثنتين وعشرين آية. ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها- كالتي قبل- على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره، وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع، وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى، كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم، فكانوا يعذبون بالنار، وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون، فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش، فهذه السورة عظة لقريش، وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين. انتهى وهو وجه وجيه). أقول: في السورة عظة للعالمين، وتثبيت للمؤمنين. وقدم صاحب الظلال لهذه السورة بقوله: (هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة، وقواعد التصور الإيماني ... تعرض أمورا عظيمة، وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية- وأحيانا كل كلمة في الآية- أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة .. والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود .. والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام- قيل: إنهم من النصارى الموحدين- ابتلوا بأعداء لهم طغاة شريرين، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم، فأبوا وتمتعوا بعقيدتهم. فشق الطغاة لهم شقا في الأرض، وأوقدوا فيه النار، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق. حريق الآدميين المؤمنين: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

كلمة في سورة البروج ومحورها

كلمة في سورة البروج ومحورها: محور سورة البروج- كما ذكرنا من قبل- هو مقدمة سورة البقرة، ففي مقدمة سورة البقرة كلام عن الإيمان بالغيب، وكما ذكرت سورة العنكبوت التي فصلت في مقدمة سورة البقرة أن الإيمان بالغيب يقتضي اختبارا وامتحانا من الله، ومن ثم يسلط الله عزّ وجل على المؤمنين من يسلط وتأتي سورة البروج لتتحدث عن عقاب هؤلاء الذين يفتنون المؤمنين، وتتحدث في المقابل عن عطاء الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، فهي تعرفنا على الله عزّ وجل، وجلاله وانتقامه من المكذبين لتخلص إلى الكلام عن القرآن الكريم، وبالتالي فهي تذكرنا بكثير من المعاني الواردة في مقدمة سورة البقرة الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وسنرى صلة السورة بمحورها أثناء عرضها .. تتألف سورة البروج من مقطعين يضمهما سياق واحد كالعادة. المقطع الأول وينتهي بالآية (11). المقطع الثاني وينتهي بالآية (22) فلنر السورة.

المقطع الأول

المقطع الأول ويمتد حتى نهاية الآية (11) وهذا هو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البروج (85): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) التفسير: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ قال ابن كثير: يقسم تبارك وتعالى بالسماء وبروجها، وهي النجوم العظام وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي: يوم القيامة وَشاهِدٍ في ذلك اليوم وَمَشْهُودٍ أي: فيه، قال النسفي: والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائب. قال النسفي: وجواب القسم محذوف يدل عليه قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي: لعن. كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون أي: إن من فعل الأخدود ملعون، والأخدود: جمع خد وهو الشق العظيم في الأرض، قال ابن كثير: (أي: لعن أصحاب الأخدود وجمعه

[سورة البروج (85): آية 5]

أخاديد وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عزّ وجل فقهروهم، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودا وأججوا فيه نارا، وأعدوا لها وقودا يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها). والقول الأرجح هو أن هؤلاء هم مسلمو نجران الوارد ذكرهم في حديث الغلام والساحر الذي قصه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنراه في الفوائد النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ أي قتل أصحاب الأخدود. أصحاب النار ذات الوقود وفي قوله تعالى: ذاتِ الْوَقُودِ. وصف للنار بأنها عظيمة، فقد اجتمع لها الحطب الكثير وأبدان الناس إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ قال النسفي: أي: لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، جلوسا على الكراسي، يتلذذون بما يفعلون بالمؤمنين وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: يشهدون فعلهم الأثيم ذلك بأنفسهم، وفي ذلك تأكيد لرغبتهم الهائلة في التشفي، أو يشهد بعضهم لبعض عند سيدهم أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به، كشأن أجهزة المخابرات المتعددة في بعض البلدان وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي: وما عابوا منهم، وما أنكروا إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي: ما نقموا منهم إلا حقه ألا ينقم منه، بل أن يعظم أصحابه وهو الإيمان بالله العزيز الحميد. قال النسفي: (ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه، حميدا منعما يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه). الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال النسفي: (فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريرا لأن من ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم). وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ هذا وعيد لهم يعني: إنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه. كلمة في السياق: بعد أن لعن الله عزّ وجل أصحاب الأخدود الذين فعلوا ما فعلوا بالمؤمنين، تأتي آيتان هما بمثابة تعليق على الحادثة تتضمنان قاعدتين: الأولى في جزاء هؤلاء وأمثالهم ممن يفتن المؤمنين عن دينهم، والثانية في جزاء أهل الإيمان.

القاعدة الأولى

القاعدة الأولى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي: بلوهم بالأذى ليردوهم عن دينهم ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا قال ابن كثير: (أي: لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا) قال الحسن البصري في هذا المقام: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ جزاء على كفرهم وفتنهم أهل الإيمان. القاعدة الثانية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الذين اجتمع لهم الإيمان والعمل الصالح، ومن السياق عرفنا أنهم الصابرون على أذى الكافرين لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم، ولذلك قال: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ وأي فوز أكبر من الزحزحة عن النار ودخول الجنة! كلمة في السياق: 1 - انصب السياق على لعن أصحاب الأخدود، ثم استقر في المقطع الأول على القاعدتين المذكورتين اللتين فيهما حديث عن جزاء الكافرين والمؤمنين، وصلة ذلك بالحديث عن المؤمنين والكافرين في بداية سورة البقرة لا تخفى. 2 - وبعد المقطع الأول يأتي المقطع الثاني، ويبدأ بالكلام عن بطش الله عزّ وجل وشدته، وفي ذلك تسلية لأهل الإيمان، وتهديد لأهل الطغيان، ثم يختم المقطع بتقرير حقيقة الكافرين، وتقرير حقية هذا القرآن. ويتألف المقطع الثاني من فقرتين.

المقطع الثاني

المقطع الثاني ويمتد من الآية (12) إلى نهاية السورة، أي إلى نهاية الآية (22) وهذا هو: الفقرة الأولى [سورة البروج (85): الآيات 13 الى 18] إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) الفقرة الثانية [سورة البروج (85): الآيات 19 الى 22] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) تفسير الفقرة الأولى من المقطع الثاني: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال النسفي: البطش الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام. وقال ابن كثير: أي: إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذبوا رسله. وخالفوا أمره لشديد عظيم قوي. أقول: بعد أن قرر الله عزّ وجل شدة بطشه برهن على ذلك بقوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ قال ابن كثير: أي: من قوته وقدرته التامة يبدئ الخلق ويعيده كما بدأ بلا ممانع ولا مدافع. وقال النسفي في الآية: أي: يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيرهم ترابا، دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدة بطشه. أقول: ولكي يعرف المسلم أن الله تجليات الجمال، كما له تجليات الجلال. أتبع ذلك بقوله وَهُوَ الْغَفُورُ قال النسفي: (أي: الساتر للعيوب المعافي عن الذنوب) الْوَدُودُ قال النسفي:

[سورة البروج (85): آية 15]

(أي: المحب لأوليائه) وقال ابن كثير في الآية: (أي: يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه، ولو كان الذنب من أي شئ كان، والودود قال ابن عباس وغيره هو الحبيب). ذُو الْعَرْشِ أي: صاحب العرش الْمَجِيدُ أي: ذو المجد العظيم. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ قال ابن كثير: أي: مهما أراد فعله لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وحكمته وعدله. أقول: في الآيتين الأخيرتين دليل على أن بطشه عزّ وجل شديد، وفي ذكر مغفرته ووده في سياق ذلك إيناس للمؤمن وهو يقرأ هذه المعاني التي فيها إنذار. ثم دل على بطشه بفعله بفرعون وثمود، فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ أي: خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ أي: فرعون وقومه وثمود، وما أكثرهم من جنود للكفر، لكنهم لم يعجزوا الله عزّ وجل وبطش بهم قال ابن كثير: (أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي: إذا أخذ الظالم أخذه أخذا أليما شديدا أخذ عزيز مقتدر). كلمة في السياق: 1 - بعد أن ذكر الله عزّ وجل في المقطع الأول فتنة الكافرين للمؤمنين، وبين جزاء المؤمنين والكافرين يوم القيامة، ذكر ببطشه في الدنيا، وبرهن عليه إن في التذكير بأسمائه وصفاته وأفعاله، أو في فعله بالمكذبين السابقين، وفي ذلك إنذار للكافرين الذين يفتنون المؤمنين بالعذاب الدنيوي. زيادة على العذاب الأخروي، وفي السياق نفسه ذكر بمغفرته ووده ليستأنس المؤمنون، ويتوب الكافرون. 2 - وبعد هذا كله تأتي الفقرة الأخيرة من المقطع الثاني وهي تتألف من جزءين. الفقرة الثانية من المقطع الثاني تفسير الجزء الأول: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ قال ابن كثير: أي: هم في شك وريب وكفر وعناد. وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ قال ابن كثير: أي: هو قادر عليهم، قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه. وقال النسفي: (أي: عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم

كلمة في السياق

لا يعجزونه، والإحاطة بهم من ورائهم مثل؛ لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشئ المحيط به). كلمة في السياق: 1 - بعد أن قرر الله عزّ وجل تعذيبه للكافرين وشدة بطشه بهم، بين أن الكافرين مستمرون على تكذيبهم، وذكر بقدرته عليهم دائما وأبدا، وفي ذلك إنذار لهم وتسلية لأهل الإيمان. 2 - في تقرير تكذيب الكافرين مع كل ما ينذرون به، وما يرونه من انتقام الله نوع تفصيل لقوله تعالى في مقدمة السورة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. 3 - وبعد أن ذكر الله ما ذكر مما يبعد عن الكفر، ويدفع إلى الإيمان، وذكر بعد ذلك بالطبيعة الكافرة، يأتي الجزء الثاني من الفقرة الثانية ليقرر أن هذا القرآن في الدرجة العليا من العظمة التي كان ينبغي أن ينتفي معها كل تكذيب، ولكنها الطبيعة الكافرة. تفسير الجزء الثاني: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ قال النسفي: (أي: بل هذا الذي كذبوا به قرآن مجيد، أي: شريف عالي الطبقة في الكتب، وفي نظمه وإعجازه ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أي: من وصول الشياطين، فإذا كان القرآن هذا شأنه في المجد والحفظ فكيف يكفر به الكافرون! أو يشك فيه الشاكون!، وبهذا انتهت السورة. كلمة في السياق: قلنا إن السورة تفصل في مقدمة سورة البقرة فلنر تفصل ذلك: أ- الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وقد عرفنا من شأن القرآن أنه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فهو أعلى من أن يطاله التكذيب، أو الشكوك.

الفوائد

ب- الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وقد رأينا ما للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ورأينا أن الإيمان يرافقه فتنة، وفي ذلك تفصيل لقضية من لوازم الإيمان. ج- وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد رأينا في السورة مظاهر فلاح المؤمنين ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ. د- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وقد رأينا في السورة بعض آثار الكفر. ورأينا نموذجا للنفسية الكافرة، وعرفنا بعض صفاتها ورأينا استحقاقها للعذاب الدنيوي والأخروي، وهكذا فالسورة فصلت في محورها تفصيلا واضحا مع أن لها سياقها الخاص الذي رأيناه أثناء عرضها، والذي مضمونه إنذار الكافرين أن يفتنوا المؤمنين، وتسلية المؤمنين الذين يتعرضون للفتنة، وأن الله عزّ وجل سينصرهم من عدوهم بتعذيب هذا العدو في الدنيا والآخرة، ومن قبل رأينا صلة سورة البروج بما قبلها، وسنرى أثناء الكلام عن سورة الطارق صلتها بها. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة البروج بقوله: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والسماء والطارق. وروى أحمد عن أبي هريرة- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسماوات في العشاء تفرد به أحمد). 2 - ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أقوالا كثيرة أقواها: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال في هذه الآية: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: الشاهد يعني يوم الجمعة، ويوم مشهود يوم القيامة. وروى أحمد أيضا عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية. وشاهد ومشهود قال: الشاهد الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة، وقد روى عن أبي هريرة أنه قال: اليوم الموعود يوم القيامة، وكذلك قال الحسن وقتادة وابن زيد، ولم أرهم يختلفون في ذلك ولله الحمد).

وقال صاحب الظلال في قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ: (تبدأ السورة- قبل الإشارة إلى حادث الأخدود- بهذا القسم: بالسماء ذات البروج، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي: قصورها المبنية، كما قال: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .. كما قال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها .. وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء. والإشارة إليها يوحي بالضخامة. وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ .. وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها. وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه، وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه. وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ .. في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة. ويصبح الجميع شاهدين، ويعلم كل شئ، ويظهر مكشوفا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون .. وتلتقي السماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود .. تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود. كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث. وتوزن فيه حقيقته ويصفي فيه حسابه .. وهو أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود .. ). 3 - هناك اختلاف كثير بين المفسرين حول هوية أصحاب الأخدود وأقوى الأقوال في ذلك أنهم من أهل نجران اليمن، ويحملون قصة الغلام التي وردت في السنة على ذلك قال ابن كثير: (وقد روى الإمام أحمد عن صهيب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب، فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك؟، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر،

فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس، فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني، فقال: ما أنا أشفي أحدا إنما يشفي الله عزّ وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال الملك يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري، قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدا إنما يشفي الله عزّ وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضا بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا؟ وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه إلا فدهدهوه، فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد

آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنما تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق». وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح، ورواه النسائي واختصر أوله، وقال ابن كثير: (وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها تنبعث دما، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا). 4 - عند قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فقام يستمع فقال: «قد جاءني»). أقول: في ذلك أدب عظيم في كيفية تلقي هذا القرآن والتجاوب معه. 5 - عند قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ قال ابن كثير: (كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له وهو في مرض الموت هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم، قالوا: فما قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد). ولننتقل إلى سورة الطارق.

سورة الطارق

سورة الطارق وهي السورة السادسة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل، وهي سبع عشر آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الطارق

بين يدي سورة الطارق: قدم الألوسي لسورة الطارق بقوله: (مكية بلا خلاف. وهي سبع عشرة آية على المشهور، وفي التيسير ست عشرة ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان، ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بإمهال أولئك المكذبين). كلمة في سورة الطارق ومحورها: تتألف سورة الطارق من فقرتين واضحتي المعالم كل منهما مبدوءة بقسم. الأولى مبدوءة بقوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ والثانية مبدوءة بقوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ .. في الأولى يأتي جواب القسم مقررا لوجود الملائكة المكلفين بحفظ الإنسان، وبحفظ عمله، ثم يأتي لفت نظر للإنسان إلى نشأته ليتذكر رجعته، وفي الثانية يأتي جواب القسم مقررا لجدية هذا القرآن، وكونه فاصلا بين الحق والباطل، ثم يأتي تبيان لموقف الكافرين في الكيد لهذا الدين، وإنذار لهم، وكل ذلك تفصيل لمقدمة سورة البقرة، فالسورة تفصل إما في الآيات الواردة في المتقين، أو في الآيات الواردة في الكافرين. لقد ختمت سورة البروج بقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ويأتي في مقدمة سورة الطارق قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ* وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ* إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وبين النهاية والبداية نوع صلة، فحفظ اللوح مرتبط بحفظ السماء، وحفظ اللوح من مظاهر قدرة الله التي من مظاهرها حفظ كل نفس، أو حفظ عملها بالمكلفين من ذلك من الملائكة. وصلة قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ بقوله تعالى عن القرآن في سورة الطارق: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَما هُوَ بِالْهَزْلِ كذلك واضحة. ولفت نظر الإنسان إلى نشأته في سورة الطارق: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ له صلة بقوله تعالى في سورة البروج: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ... وهكذا نجد أن الصلات كثيرة بين سورة البروج وسورة الطارق، والملاحظ أن سورة الطارق تنتهي بالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ .. وتبدأ سورة الأعلى بعدها بخطابه صلى الله عليه وسلم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فالصلة بين نهاية سورة الطارق وبداية سورة الأعلى كذلك واضحة.

الفقرة الأولى

تمتد الفقرة الأولى في السورة حتى نهاية الآية (10). وتمتد الفقرة الثانية حتى نهاية الآية (17) أي: إلى نهاية السورة فلنبدأ عرض السورة. الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (10) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) التفسير: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ثم عظم أمر الطارق بقوله: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ثم فسر الطارق بقوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ قال النسفي: (أي: المضئ، كأنه يثقب الظلام فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي ليلا طارق، أو لأنه يطرق الجني أي: يصكه) أقول: على هذا المعنى الأخير يكون المراد بالنجم الثاقب النيازك أو الشهب، وثقوبه يحتمل أن يكون المراد به ثقبه لجو الأرض، أما إذا أريد به مجرد النجم الذي يثقب بضوئه، فيحتمل أن يكون المراد بطروقه طروقه جو الأرض، لأنه من المعلوم أن بين وجود النجم ووصول نوره إلى جو الأرض أو إلى الجانب الآخر من الكون زمنا طويلا قد يصل إلى آلاف السنين الضوئية، فإذا وصل إلى جو من الأجواء يكون قد طرقه، وذلك بثقوب ضوئه، وجواب القسمين هو قوله تعالى:

[سورة الطارق (86): آية 5]

إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا أي: إلا عَلَيْها حافِظٌ قال النسفي: (أي: يحفظها من الآفات، أو يحفظ عملها ورزقها وأجلها. فإذا استوفى ذلك مات، وقيل: هو كاتب الأعمال). أقول: لم يذكر ابن كثير إلا المعنى الأول فقال: أي: كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات .. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي: من أي شئ خلق؟ والجواب: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يعني: المني يخرج دفعا من الرجل. قال النسفي: والدفق صب فيه دفع يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ قال صاحب القاموس: (الصلب: عظم من لدن الكاهل إلى العجب). أقول: العجب يكون في منتهى العصعص، والترائب جمع تريبة قال صاحب القاموس: (والترائب عظام الصدر أو ماولي الترقوتين منه، أو ما بين الثديين والترقوتين، أو أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع من يسرته، أو اليدان والرجلان والعينان، أو موضع القلادة) ولنا عودة على الآية في الفوائد إِنَّهُ أي: إن الخالق عَلى رَجْعِهِ أي: على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق. أي: إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لَقادِرٌ لأنه من قدر على البداءة قدر على الإعادة، قال النسفي: أي: لبين القدرة لا يعجز عنه، ثم بين متى تكون هذه الإعادة فقال: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ قال النسفي: أي: ما أسر في القلوب من العقائد والنيات، وما أخفي من الأعمال. وقال ابن كثير: أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا فَما لَهُ أي: الإنسان يوم القيامة مِنْ قُوَّةٍ أي: في نفسه على دفع ما حل به. وَلا ناصِرٍ أي: يعينه ويدفع عنه، قال ابن كثير: أي: لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ولا يستطيع له أحد ذلك. كلمة في السياق: 1 - أقسم الله عز وجل بما أقسم به على أنه جعل على كل نفس حافظا، ثم قال فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ومجئ هذا الأمر في هذا السياق فيه دليل على أن الله عز وجل جعل على كل نفس حافظا، كما أنه دليل على اليوم الآخر الذي من خصائصه أن السرائر تكشف به، وأن الإنسان لا قوة له من نفسه، ولا ناصر له من غيره، وما المراد بالإنسان هنا؟ الظاهر أن المراد بالإنسان هنا الكافر؛ لأن المؤمن ينصره الله في الدنيا والآخرة. 2 - إن مجئ قوله تعالى عن الكافر يوم القيامة: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ في

الفقرة الثانية

سياق قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ تذكير للإنسان: بحالته الأولى إذ لا قوة له ولا ناصر، فالصلات بين الفقرة على أشدها. 3 - في هذه الفقرة كلام عن حفظ الإنسان بالملائكة، أو حفظ أعماله بالملائكة، وفي ذلك نوع تفصيل للإيمان بالغيب، وفي الفقرة كلام عن إعادة الإنسان يوم القيامة، وبعض ما يكون في هذا اليوم، وفي ذلك نوع تفصيل لموضوع اليوم الآخر، ولذلك كله صلة بالآيات الأولى من سورة البقرة يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ثم تأتي الفقرة الثانية، وهي مبنية على ما ورد في الأولى فلنرها. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (11) حتى نهاية الآية (17) وهذه هي: الجزء الأول [سورة الطارق (86): الآيات 11 الى 14] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) الجزء الثاني [سورة الطارق (86): الآيات 15 الى 17] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) تفسير الجزء الأول: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي: ذات الإرجاع لأنها ترجع المطر إلى الأرض، وترجع الصوت إلى الأرض، كما هو معلوم في عصرنا وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ

[سورة الطارق (86): آية 13]

أي: ذات الانشقاق فتشقق بالنبات وتتشقق بالبراكين إِنَّهُ قال النسفي: أي: إن القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي: فاصل بين الحق والباطل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي: باللعب والباطل. قال النسفي: يعني: إنه جد كله، ومن حقه- وقد وصفه الله بذلك- أن يكون مهيبا في الصدور، معظما في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح. كلمة في السياق: 1 - وجه النسفي الآيات بأن المراد بالضمير: القرآن- كما رأينا- وعلى هذا الأساس فصلة الآيات بما قبلها من حيث إن ما قبلها ذكر مضامين قرآنية، فجاءت هذه الآيات لتبين أن القرآن كله جد، وقول فصل، ومن ذلك ما ذكر في الفقرة الأولى فعلى الإنسان أن يؤمن باليوم الآخر، وأن يعمل لذلك اليوم، وأن يشكر الله على وجود الحفظ، ويتصرف بأدب مع هؤلاء الحفظة، هذا ماله علاقة بصلة الآيات بما قبلها، وأما ماله علاقة بصلة الآيات بمحور السورة فمن حيث إن محور السورة ورد فيه قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وهذه الآيات وصفت القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَما هُوَ بِالْهَزْلِ فالصلة واضحة بين الآيات ومقدمة سورة البقرة. 2 - يمكن أن توجه الآيات التي مرت معنا بما يلي: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ* وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ أي: إنه ما ذكر في الفقرة الأولى من معان لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَما هُوَ بِالْهَزْلِ وبناء عليه فإن عليك أيها الإنسان أن تعمل للآخرة بجد، فالأمر ليس هزلا. 3 - وبعد تقرير كل ما تقدم يأتي الجزء الثاني في الفقرة وهو يتحدث عن الكافرين، فلنره ثم لنر محله في السياق. تفسير الجزء الثاني: إِنَّهُمْ أي: إن الكافرين يَكِيدُونَ كَيْداً أي: يعملون المكايد في إبطال أمر الله، وإطفاء نور الحق، أي: يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن، والصد عن سبيل الله عزّ وجل وَأَكِيدُ كَيْداً قال النسفي: (وأجازيهم جزاء كيدهم

[سورة الطارق (86): آية 17]

باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون فسمي جزاء الكيد كيدا كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة، وإن لم يكن اعتداء وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ قال النسفي: أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل به، وقال ابن كثير: أي أنظرهم ولا تستعجل لهم أَمْهِلْهُمْ قال النسفي: (أي: أنظرهم فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير رُوَيْداً أي: مهلا يسيرا. قال ابن كثير: (أي: قليلا أي: وسترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك). كلمة في السياق: تأتي الآيات الأخيرة عارضة حال الكافرين الذين بدلا من أن يؤمنوا ويعملوا يكيدون، وبالتأمل في هذا المعنى ندرك صلة الآيات الأخيرة بما قبلها. إذا علمت هذا تدرك أن السورة سيقت لتصب في المعنى الأخير الذي له صلة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إن صلة الآيات الأخيرة بهاتين الآيتين واضحة، فالكافرون بدلا من أن يتعظوا بالإنذار يكيدون، والموقف المقابل لذلك هو إمهالهم لينتقم الله منهم. وهكذا نجد أن السورة فصلت في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل، مع احتفاظها بسياقها الخاص، وصلاتها بما قبلها وما بعدها، وذكرها جديدا من مثل قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ومن مثل قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ .. وقد رأينا أن للطارق وللرجع معاني معاصرة تدخل فيها دون تكلف، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن الذي لا تنتهي عجائبه. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير للكلام عن سورة الطارق بقوله: (روى عبد الله بن الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها، قال: فوعيتها في الجاهلية، وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا

الرجل؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لا تبعناه. وروى النسائي عن جابر قال: صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفتان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحوها؟»). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال صاحب الظلال: (هذا القسم يتضمن مشهدا كونيا وحقيقة إيمانية. وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ .. وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم. ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته: النَّجْمُ الثَّاقِبُ الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ. وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم. ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص، ولا ضرورة لهذا التحديد. بل إن الإطلاق أولى؛ ليكون المعنى: والسماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء. ويكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى .. ). 3 - هناك معارك علمية قديما وحديثا تدور حول قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ والأمر لا يحتاج إلى كل هذا، فالصلب في القاموس ينتهي بنهاية العصعص، والترائب تطلق على أشياء كثيرة منها عظام الرجلين. قال ابن كثير: وعن الضحاك: (الترائب بين الثديين والرجلين والعينين) ولا أستبعد أن يكون المراد بالترائب في الآية عظام الحوض والفخذين، فمزج المني معروف، ومركز تجمع المني بعد خروجه من الخصيتين في هذه المنطقة، وقد ذكر الله عزّ وجل مركز تجمع المني بأنه بين الصلب والترائب، فهو في المنطقة بين العصعص وعظام المنطقة السفلى من الوسط، بين العصعص وعظم العانة، والذي دعا إلى الغلط في هذا الموضوع تصورات خاطئة منها أن الصلب يطلق على منطقة الظهر، وأن كلمة الترائب خاصة بالمرأة، وكل ذلك ليس صحيحا، وبناء على هذه التصورات الخاطئة حاول بعضهم أن يرجع بالإنسان إلى مرحلة ما، عند ما كان جنينا، فكانت خصيتاه- في مرحلة ما- في ظهره، وهذا كما قلنا سببه التصور الخاطئ عن الصلب. إن خصية الرجل بين الصلب والترائب، ومبيض المرأة بين الصلب والترائب والمني يخرج متدفقا، وبويضة المرأة تخرج مع ماء يتدفق يقول الدكتور محمد علي البار في مقال نشره في العدد (54) من مجلة الأمان: (تقترب هذه الحويصلة المليئة بالماء الأصفر من حافة المبيض،

فتتفجر عند تمام نموها وكماله، فتندلق المياه على أقتاب البطن، ويتلقف البوق، وهو نهاية قناة الرحم (وتدعى أيضا قناة فالوب) البويضة فيدفعها دفعا دقيقا حتى تلتقي بالحيوان المنوي ... هذا الماء يحمل البويضة كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية) فلا إشكال في كل الأحوال والله أعلم. ولننتقل إلى تفسير سورة الأعلى.

سورة الأعلى

سورة الأعلى وهي السورة السابعة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل، وهي تسع عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة الأعلى ومحورها

كلمة في سورة الأعلى ومحورها: بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وتبدأ سورة الأعلى بقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى .. والصلة واضحة بين بداية السورة ومحورها، فالسورة تبدأ بالأمر بعمل من أعلى أنواع العبادة، ثم تسير في طريقها الخاص وسياقها الخاص فيما يخدم هذا الأمر في الدرجة الأولى، وسنرى بالتفصيل صلة السورة كلها بمحورها. تتألف السورة من ثلاث فقرات: الفقرة الأولى: وتستمر حتى نهاية الآية (5). الفقرة الثانية: وتستمر حتى نهاية الآية (13). الفقرة الثالثة: وتستمر حتى نهاية الآية (19). بعد أن أكد الألوسي مكية سورة الأعلى قال: (وهي تسع عشرة آية بلا خلاف. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان، وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ وذكر هاهنا في قوله تعالى: خَلَقَ فَسَوَّى وقوله سبحانه: أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى وقصة النبات هنا أوضح وأبسط، كما أن قصة خلق الإنسان هناك كذلك، نعم إن ما في السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات). أقول: سنرى في الفوائد النصوص الواردة في سورة الأعلى وهي كثيرة فلنر السورة.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من الآية (1) حتى نهاية الآية (5) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) التفسير: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي: قل سبحان ربي الأعلى، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت: اجعلوها في سجودكم. والمعنى: نزه ربك الأعلى عما لا يليق به، والاسم في هذه الحالة صلة الَّذِي خَلَقَ كل شئ فَسَوَّى قال ابن كثير: أي: خلق الخليقة وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات. وقال النسفي: (أي: خلق كل شئ فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم حكيم أو سواه على ما فيه منفعة ومصلحة). وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قال النسفي: أي: قدر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به، وقال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي: أنبت ما ترعاه الدواب، قال ابن كثير: أي: من جميع صنوف النباتات والزروع فَجَعَلَهُ غُثاءً أي: يابسا هشيما. أَحْوى أي: أخضر إلى السواد. كلمة في السياق: 1 - أمرت الفقرة بتسبيح اسم الله الأعلى، وعرفت على الله عزّ وجل بمظاهر من خلقه، من خلق وتسوية وتقدير وهداية وإخراج للمرعى وتصييره إلى ما يؤول إليه، وفي ذلك تعليل لاستحقاق التسبيح، وتدليل على أنه الأعلى.

الفقرة الثانية

2 - رأينا أن محور السورة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وقد رأينا أن الفقرة أمرت بنوع من العبادة هو التسبيح، وعللت لهذا الأمر، وذكرت الخلق والتسوية والتقدير، وإخراج المرعى، وكل ذلك معان لها صلة بمحور السورة. ثم تأتي الفقرة الثانية. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (6) إلى نهاية الآية (13) وهذه هي: الجزء الأول [سورة الأعلى (87): الآيات 6 الى 8] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) الجزء الثاني [سورة الأعلى (87): الآيات 9 الى 13] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) تفسير الجزء الأول: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال ابن كثير: وهذا إخبار من الله تعالى ووعد منه له بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها، وقال النسفي: أي: سنعلمك القرآن حتى لا تنساه. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسخه. وقال النسفي: وهذا بشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شئ إلا ما شاء الله أن ينسخه فيذهب به عن حفظه برفع

[سورة الأعلى (87): آية 8]

حكمه وتلاوته إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى قال ابن كثير: أي: يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شئ. وقال النسفي: (أي: إنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلت، والله يعلم جهرك معه، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، أو ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وما بطن من أحوالكم). أقول: أي: ومن كان يعلم الجهر وما يخفى قادر على الإقراء وعدم الإنساء وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي: ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، أي: للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع، بأن نوفقك لعمل الجنة، وقال ابن كثير: أي: نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر. كلمة في السياق: 1 - في هذا الجزء من الفقرة وعدان من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: عدم الإنساء، والتيسير، وقد جاء هذان الوعدان بعد الفقرة الآمرة بالتسبيح. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وفي ذلك إشارة إلى أن بين التسبيح وبين عدم الإنساء والتيسير صلة، وفي ذلك درس لأفراد هذه الأمة، وخاصة لطلبة العلم أن يكثروا من التسبيح لينالوا حظهم من تثبيت العلم والتيسير. 2 - وإذا عرفنا الصلة بين التسبيح، والإقراء بلا نسيان، والتيسير، يأتي الجزء الثاني من الفقرة الثانية وهي تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير حيث تنفع الذكرى. فلنر الجزء الثاني من الفقرة الثانية. تفسير الجزء الثاني: فَذَكِّرْ قال النسفي: أي: عظ بالقرآن إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه صاحبه عند غير أهله. سَيَذَّكَّرُ أي: سيتعظ ويقبل التذكرة مَنْ يَخْشى الله سوء العاقبة، قال ابن كثير: أي: سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قلبه يخشى الله، ويعلم أنه ملاقيه وَيَتَجَنَّبُهَا أي: ويتباعد عن الذكرى فلا يقبلها الْأَشْقَى الكافر أو الذي هو

[سورة الأعلى (87): آية 12]

أشقى الكفرة لتوغله في العداوة الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي: يدخل نار جهنم، والصغرى هي نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العذاب وَلا يَحْيى أي: حياة يتلذذ بها. قال ابن كثير: أي: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه، بل هي مضرة عليه، لأن بسببها يشعر بما يعاقب به من أليم العذاب وأنواع النكال. كلمة في السياق: 1 - أمرت الفقرة الأولى بالتسبيح، وجاء الجزء الأول من الفقرة الثانية واعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقراء بلا نسيان، وبالتيسير، وبعد ذلك جاء الأمر بالتذكير حيث يتوقع نفع التذكير، وقد بين هذا الجزء من الفقرة أن الذي ينتفع بالذكرى هو من يخشى الله وعذابه، وأن الأشقى هو وحده الذي لا يتذكر، ولا يضر إلا نفسه، فالجزء الأخير أمر بالتذكر ودل على محله المناسب له وهناك صلة بين التسبيح باسم الله الأعلى، وبين الإقراء بلا نسيان والتيسير، وبين ذلك كله والتذكير، فالتسبيح أساس، وثبات العلم والتيسير أثر. ويأتي بعد ذلك التذكير الناجح. 2 - رأينا أن الجزء الأخير من الفقرة الثانية حدد من يقبل التذكرة، ومن لا يقبلها، وعاقبة من لم يقبلها ثم تأتي الفقرة الثالثة والأخيرة لتبين عاقبة من قبل الذكرى وعمل بمقتضاها، والسبب الحقيقي لرفض الذكرى. فلنر الفقرة الثالثة. الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (14) إلى نهاية الآية (19) وهذه هي: [سورة الأعلى (87): الآيات 14 الى 19] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)

التفسير

التفسير: قَدْ أَفْلَحَ أي: نال الفوز مَنْ تَزَكَّى قال النسفي: أي: تطهر من الشرك أو تطهر للصلاة، أو أدى الزكاة. قال ابن كثير: أي: طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قال النسفي: وكبر للافتتاح فَصَلَّى الصلوات الخمس، وقال ابن كثير: أي: أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله، وامتثالا لشرع الله، وهناك اتجاهات أخرى في النص فيها أن التزكي محدد بالشهادتين، والمراد بذكر الله والصلاة، الصلوات الخمس، ومنها أن المراد بذكر الله عزّ وجل ذكر الله في الطريق إلى المصلى يوم العيد، والمراد بالصلاة صلاة يوم العيد خاصة، وكلها معان يكمل بعضها بعضا، والآيتان تحتملها كلها، ومن مجيئها بعد الجزء الثاني من الفقرة الثانية ندرك أن المظهر الأول للانتفاع بالتذكير هو التزكي وإقامة الصلاة، وبعد هذا كله يذكر الله عزّ وجل العلة الرئيسية لرفض التذكير والتزكية والصلاة، وهي إيثار الحياة الدنيا بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قال النسفي: (أي: على الآخرة فلا تفعلون ما به تفلحون. والمخاطب به الكافرون، دليله قراءة أبي عمر يُؤْثِرُونَ بالياء) وقال ابن كثير: أي: تقدمونها على أمر الآخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قال النسفي: (أي: أفضل في نفسها وأدوم) قال ابن كثير: أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى فإن الدنيا دانية فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبا، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد إِنَّ هذا أي: هذا المعنى الوارد في الفقرة الأخيرة من قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ .. قال ابن كثير: أي: مضمون هذا الكلام لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى فهو معنى سجله الله عزّ وجل فيما أوحاه إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، فالنفس البشرية هي النفس البشرية في كل العصور.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - رأينا من خلال عرض السورة صلة فقراتها ببعضها، وصلة معانيها ببعضها بعضا، ورأينا من خلال عرض السورة أنها أمرت بالتسبيح، وبينت أن الفلاح في تزكية النفس والصلاة وارتباط هذا كله بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ واضح المعالم؛ فالتزكية والصلاة مرتبطتان بالتقوى والعبادة. 2 - بدأت السورة بالأمر بالتسبيح باسم الله الأعلى، وقد رأينا أثر هذا الأمر وما يترتب عليه في موضوع الإقراء والتيسير، وانبثاق التذكير كأثر عن ذلك، والفلاح المتمثل بالتزكية والصلاة، إنما هو أثر التذكير، ومجئ ذكر الفلاح وربطه بالتزكية والصلاة، إنما هو أثر التذكير، ومجئ ذكر الفلاح وربطه بالتزكية والصلاة في سياق الأمر بالتسبيح لا يخفى، فالتسبيح جزء من الصلاة، وهو طريق إلى تزكية النفس، فبقدر استقرار التنزيه في النفس البشرية تكون تزكيتها، وبقدر ما تسبح النفس يكون استقرار التنزيه، وصلة ذلك كله بمحور السورة واضحة. 3 - وهاهنا نحب أن نسجل ملاحظة مستمدة من السياق، فلقد رأينا كيف أن الأمر بالعبادة الذي جاء بعد مقدمة سورة البقرة لتفصل فيه، ونلاحظ أن سورا كاملة تفصل في جانب من جوانب العبادة هو الصلاة، أو تفصل في جزء منها، فسورة الواقعة كانت حصيلتها الدعوة إلى قول (سبحان الله العظيم) الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعله في ركوعنا، وسورة الأعلى كانت حصيلتها الدعوة إلى قول: (سبحان ربي الأعلى) الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها في سجودنا. ورأينا سورا فصلت في المقدمة، ركزت في قضايا مرتبطة بالصلاة، ومن ثم ندرك كيف أن الصلاة هي المظهر الأعلى للعبادة. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة الأعلى بالتدليل على أنها مكية، ثم نقل الأحاديث الواردة فيها قال: (والدليل على ذلك أي: على أنها مكية ما رواه البخاري عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في

عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء فما جاء حتى قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في سورة مثلها. وروى الإمام أحمد ... عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تفرد به أحمد. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى» وروى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا- هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث، وقد رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي عن النعمان بن بشير به، قال الترمذي: وكذا رواه الثوري ومسعر عن حبيب بن سالم عن أبيه النعمان ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه، وقد رواه ابن ماجه بإسناده عن حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان به كما رواه الجماعة فالله أعلم، ولفظ مسلم وأهل السنن: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما، وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبزى، وعائشة- أم المؤمنين- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، زادت عائشة: والمعوذتين. وهكذا روي هذا الحديث من طريق جابر وأبي أمامة صدى بن عجلان وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم). 2 - بمناسبة قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن إياس بن عامر قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «اجعلوها في سجودكم» ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن المبارك عن موسى بن أيوب به. وروى الإمام أحمد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربي الأعلى» وهكذا رواه أبو داود بسنده عن سعيد عن ابن عباس موقوفا. وقال الثوري عن السدي عن عبد خير قال: سمعت عليا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فقال: «سبحان ربي الأعلى». وقال ابن جرير عن أبي إسحاق الهمداني أن ابن عباس كان

إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يقول: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فأتى على آخرها أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى يقول: سبحانك وبلى، وقال قتادة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحان ربي الأعلى»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى نقل صاحب الظلال الصفحات الطوال من كتاب (العلم يدعو إلى الإيمان). عن هداية المخلوقات ثم ختم الكلام بقوله: (وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان. ووراءه حشود من مثلها كثيرة .. وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى .. في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. ووراء عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه، بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف). 4 - وبمناسبة قوله تعالى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى كتب صاحب الظلال الصفحات الطوال عن اليسرى التي يسر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلوكه، وطبيعته، وشريعته (اليسر في يده، واليسر في لسانه، واليسر في خطوه، واليسر في عمله، واليسر في تصوره، واليسر في تفكيره، واليسر في أخذه للأمور، واليسر في علاجه للأمور، اليسر مع نفسه، واليسر مع غيره). 5 - بمناسبة قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى قال ابن كثير: (أي: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وقال: حدث الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله). 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء فيأخذ الرجل الضبارة فينبتهم- أو قال- ينبتون- في نهر الحيا- أو قال الحياة- أو قال الحيوان- أو قال نهر الجنة فينبتون- نبات الحبة في حميل السيل» قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترون الشجرة تكون خضراء،

ثم تكون صفراء ثم تكون خضراء؟» قال: فقال بعضهم: كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية. وروى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار- الذين هم أهلها- فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس- أو كما قال- تصيبهم النار بذنوبهم- أو قال بخطاياهم- فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما، أذن في الشفاعة فجئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» قال: فقال رجل من القوم حينئذ: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية، وروى مسلم مثله ورواه أحمد أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وإن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة حتى يصيروا فحما ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة فيرش عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل». وقد قال الله تعالى إخبارا عن أهل النار وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (الزخرف: 77) وقال تعالى لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها (فاطر: 36) إلى غير ذلك. من الآيات في هذا المعنى). 7 - بمناسبة قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال ابن كثير: (وقد روى الحافظ أبو بكر البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها» ثم قال: لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه، وكذا قال ابن عباس: إن المراد بذلك الصلوات الخمس، واختاره ابن جرير. وروى ابن جرير عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غدا إلى العيد فمر بي، قال: فمررت به فقال: طعمت شيئا؟ قلت: نعم قال: أفضت على نفسك من الماء؟ قلت نعم قال فأخبرني ما فعلت بزكاتك! قلت قد وجهتها قال: إنما أردتك لهذا ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء (قلت) وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وقال أبو الأحوص: إذا أتى أحدكم سائل، وهو يريد الصلاة، فليقدم بين يدي صلاته زكاة فإن الله تعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى

وقال قتادة في هذه الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى: زكى ماله وأرضى خالقه). وقال النسفي: (أي: تطهر من الشرك، أو تطهر للصلاة، أو أدى الزكاة. تفعل من الزكاة كتصدق من الصدقة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وكبر للافتتاح فصلى الخمس وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عزّ وجل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له، وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد). 8 - بمناسبة قوله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» وروى ابن جرير عن عرفجة الثقفي قال: استقرأت ابن مسعود سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فلما بلغ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ترك القراءة، وأقبل على أصحابه وقال: آثرنا الدنيا على الآخرة، فسكت القوم فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل، وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» تفرد به أحمد). 9 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قال ابن كثير: (روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال لما نزلت إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان كل هذا- أو كان هذا- في صحف إبراهيم وموسى» ثم قال: لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس غير هذا، وحديثا آخر رواه مثل هذا. وروى النسائي عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: كلها في صحف إبراهيم وموسى، ولما نزلت وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال: وفي إبراهيم أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني: إن هذه الآية كقوله تعالى في سورة النجم: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى*

أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى * وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى الآيات إلى آخرهن. وهكذا قال عكرمة فيما رواه ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يقول: الآيات التي في صبح اسم ربك الأعلى. وقال أبو العالية: قصة هذه السورة في الصحف الأولى، واختار ابن جرير أن المراد بقوله إِنَّ هذا إشارة إلى قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ثم قال تعالى إِنَّ هذا أي: مضمون هذا الكلام لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وهذا الذي اختاره حسن قوي وقد روي عن قتادة وابن زيد نحوه والله أعلم). وقال النسفي: (هذه إشارة إلى قوله: قَدْ أَفْلَحَ إلى أَبْقى أي: إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف، أو إلى ما في السورة كلها، وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة لأنه جعله مذكورا في تلك مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة). أقول: جواز قراءة القرآن في الصلاة بغير اللغة العربية وجه في حالة العجز عن حفظ شئ من القرآن لغير العربي، ويقتصر فيه على الحد الأدنى الذي لا بد منه. 10 - قال النسفي: (وفي الأثر في صحف إبراهيم: «ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه»). ولننتقل إلى سورة الغاشية.

سورة الغاشية

سورة الغاشية وهي السورة الثامنة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة والأخيرة من المجموعة الحادية عشرة من قسم المفصل، وهي ست وعشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الغاشية

بين يدي سورة الغاشية: قدم الألوسي لسورة الغاشية بقوله: (مكية بلا خلاف. وعدة آياتها ست وعشرون كذلك. وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها. ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام هاهنا). وقدم صاحب الظلال لهذه السورة بقوله: (هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة. الباعثة إلى التأمل والتدبر، وإلى الرجاء والتطلع، وإلى المخافة والتوجس، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب!. وهي تطوف بالقلب البشري في مجالين هائلين: مجال الآخرة وعالمها الواسع، ومشاهدها المؤثرة. ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر، وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع. ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة، وسيطرة الله، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف .. كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع، هادئ، ولكنه نافذ. رصين، ولكنه رهيب!). وقال ابن كثير بين يدي سورة الغاشية: (قد تقدم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة. وروى الإمام مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية ورواه أبو داود والنسائي كلاهما عن مالك به، ورواه مسلم وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة). كلمة في سورة الغاشية ومحورها: رأينا أن سورة الأعلى فصلت في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .. وسورة الغاشية الآتية بعدها تفصل في نفس المحور، ولكن بشكل جديد، فالمحور يأمر بعبادة الله عزّ وجل خالق الإنسان والسماء والأرض، مبينا أن عبادة الله وحده هي التي توصل إلى الغاية. أما العبادة الخاطئة فإنها لا توصل إلا إلى النار، وسورة الغاشية تعرض علينا صورتين: صورة لعباد

الفقرة الأولى

عاملين ولكنهم يشركون في عبادتهم، وصورة للعباد الموحدين، تعرض علينا السورة هؤلاء وهؤلاء، ثم تلفت النظر إلى توحيد الله عزّ وجل، ثم تختم بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير، ومن ثم فهي تفصل في المحور، ولكن تفصيل- كالعادة- جديد. رأينا أن سورة الأعلى ورد في أواخرها قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى .. والملاحظ أن سورة الغاشية تحدثنا عن شقاء أهل النار، وما هم فيه، وعن فلاح أهل الجنة وما هم فيه، فالسورة ترتبط بما قبلها برباط وثيق، والأمر بالتذكير ورد في سورة الأعلى وسورة الغاشية، ورد في سورة الأعلى في أواسط السورة، وورد في سورة الغاشية في خاتمتها وهذا يوحي بأن السورتين لهما سياق عام واحد فمحور السورتين واحد. تتألف السورة من فقرتين واضحتي المعالم والصلات. الأولى تنتهي بالآية (16) والثانية تنتهي بالآية (26) أي: بنهاية السورة. الفقرة الأولى تتألف من مقدمة ومجموعتين، والفقرة الثانية تتألف من مجموعتين فلنبدأ عرض السورة. الفقرة الأولى وتمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (16) وهذه هي: مقدمة الفقرة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الغاشية (88): آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) المجموعة الأولى [سورة الغاشية (88): الآيات 2 الى 7] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية [سورة الغاشية (88): الآيات 8 الى 16] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) تفسير مقدمة الفقرة الأولى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ أي: قد أتاك حديث الغاشية، والغاشية هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها يعني القيامة، قال ابن كثير: الغاشية من أسماء يوم القيامة .. لأنها تغشى الناس وتعمهم. كلمة في السياق: بدأت السورة بهذا السؤال الذي جوابه نعم. كما ورد في الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم .. عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ فقام يستمع ويقول: «نعم، قد جاءني». وإذ كان الجواب معلوما فقد انتقلت الفقرة مباشرة لتعرض علينا حال الكافرين فيها، وحال المؤمنين. تفسير المجموعة الأولى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ غشيت الغاشية خاشِعَةٌ أي: ذليلة لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان. قال النسفي: وإنما خص الوجه لأن الحزن والسرور إذا استحكما في السر أثرا في الوجه عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال ابن كثير: (أي: قد عملت عملا كثيرا ونصبت فيه وصليت يوم القيامة نارا حامية .. وعن عكرمة والسدي: عاملة في الدنيا بالمعاصي، ناصبة في النار بالعذاب والإهلاك، والنصب: التعب. روى الحافظ

[سورة الغاشية (88): آية 4]

أبو بكر البرقاني عن جعفر قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول: مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدار راهب، قال: ناداه: يا راهب، فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عزّ وجل في كتابه عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً فذاك الذي أبكاني. وقال البخاري: قال ابن عباس عامِلَةٌ ناصِبَةٌ: النصارى) أقول: تخصيصها بالنصارى ذكر لبعض ما يدخل فيها فكل عاملة ناصبة في زعمها بعبادتها لله دون أن تكون عبادتها صحيحة منبثقة عن عقيدة صحيحة فإنها تدخل في الآية. تَصْلى ناراً حامِيَةً أي: حارة شديدة الحر. قال النسفي: (أي: تدخل نارا قد أحميت مددا طويلة. فلا حر يعدل حرها). أقول: هذا جزاؤها مع ما عملت من الصوم الدائب والتهجد الواصب، فليعرف من لم يعرف أنه لا بد من الاعتقاد الصحيح تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: من عين ماء قد انتهى حرها وغليانها لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال سعيد بن جبير: هو الزقوم. أقول: وعلى هذا القول فمن خصائص الزقوم أنها تشبه الضريع، وهو نبت يقال له الشبرق فإذا يبس فهو ضريع وهو سم قاتل. قال عكرمة في وصف ضريع الدنيا: وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض، وعلى هذا الاتجاه يكون الزقوم والغسلين والضريع شيئا واحدا، أما إذا كان المراد بالزقوم والغسلين والضريع أشياء مختلفة فإن المسألة كما قال النسفي: (والعذاب ألوان، والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله ولا طعام إلا من غسلين) وعلى هذا فضلال العباد طعامهم الوحيد الضريع، والخاطئون طعامهم الوحيد الغسلين، والآثمون طعامهم الوحيد الزقوم- والله أعلم. قال سعيد عن قتادة في الآية: أي: ليس لهم طعام إلا من شر الطعام وأبشعه وأخبثه لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ قال النسفي: (أي: منفعتا الغذاء منتفيتان عنه، وهي إماطة الجوع، وإفادة السمن في البدن) وقال ابن كثير: يعني لا يحصل به مقصود، ولا يندفع به محذور. كلمة في السياق: وهكذا رأينا عذاب العابدين العاملين الكافرين: ذل ونار، وماء حار وضريع، فالله عزّ وجل إذ أمر بالعبادة والتقوى إنما أمر بعبادته وحده، وتقواه وحده على شريعته

تفسير المجموعة الثانية

ومنهجه، فمن عبده مشركا به غيره، أو عبده على غير هذه الشريعة بعد نزولها فهو في النار. بعد أن بين الله عزّ وجل في المجموعة الأولى جزاء العاملين الناصبين الكافرين تأتي الآن المجموعة الثانية وفيها ذكر جزاء العاملين العابدين المتقين المقبولين عند الله عزّ وجل. تفسير المجموعة الثانية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي: يوم القيامة ناعِمَةٌ أي: متنعمة في لين العيش، قال ابن كثير: أي: يعرف النعيم فيها لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي: قد رضيت عملها، قال ابن كثير: وإنما حصل لها ذلك بسعيها. وقال النسفي: أي: رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ عالية المقدار والبناء. قال ابن كثير: أي: رفيعة بهية في الغرفات آمنون لا تَسْمَعُ فِيها أي: لا تسمع فيها هذه الوجوه، أو لا تسمع فيها أيها المخاطب لاغِيَةً قال ابن كثير: أي: لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو .. وقال النسفي: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي: لغوا، أو كلمة ذات لغوة، أو نفسا تلغو ولا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ قال ابن كثير: أي: سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات، وليس المراد بها عينا واحدة، وإنما هذا جنس، يعني: فيها عيون جاريات. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال- أو من تحت جبال- المسك). فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال النسفي: من رفعة المقام والسمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه أي: على السرير، جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم، وقال ابن كثير: أي: عالية ناعمة كثيرة الفرش، مرتفعة السمك، عليها الحور العين: قالوا: فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له وَأَكْوابٌ جمع كوب وهو القدح، وقيل: آنية لا عروة لها مَوْضُوعَةٌ قال النسفي: أي: بين أيديهم ليتلذذوا بها بالنظر إليها، أو موضوعة على حافات العيون، معدة للشرب. وقال ابن كثير: يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها وَنَمارِقُ أي: ووسائد مَصْفُوفَةٌ. قال النسفي: أي: بعضها إلى جنب بعض مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة، واستند إلى الأخرى وَزَرابِيُّ جمع زربية وهي البساط مَبْثُوثَةٌ قال ابن كثير: ومعنى مبثوثة:

كلمة في السياق

أي: هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها. فصار معنى الآية: وبسط عراض فاخرة مبسوطة، أو مفرقة في المجالس. كلمة في السياق: 1 - وهكذا بين الله عزّ وجل، ما لعباده المتقين عنده يوم القيامة من نعمة ورضى وجنات، وعيون وسرر وأكواب ووسائد وبسط في مقابل عملهم السليم الصحيح في الدنيا. 2 - قلنا إن محور سورة الغاشية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقد رأينا في المجموعة الأولى جزاء العباد المنحرفين، ورأينا في المجموعة الثانية جزاء العباد المتقين، لاحظ صلة ذلك بارتباطات المحور: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ* وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ... 3 - بعد الفقرة السابقة تأتي المجموعة الأولى من الفقرة الثانية، وفيها لفت نظر للإنسان إلى بعض مخلوقات الله عزّ وجل التي تستلزم المعرفة لله عزّ وجل، وتستوجب العمل الصالح شكرا. فلنر الفقرة الثانية بمجموعتيها. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (17) إلى نهاية الآية (26) وهذه هي: المجموعة الأولى [سورة الغاشية (88): الآيات 17 الى 20] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

المجموعة الثانية

المجموعة الثانية [سورة الغاشية (88): الآيات 21 الى 26] فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) تفسير المجموعة الأولى: أَفَلا يَنْظُرُونَ أرجع النسفي الضمير إلى الكافرين، وأرجعه ابن كثير إلى الناس عامة إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال ابن كثير: (فإنها خلق عجيب، وتركيبها غريب فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها). وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ قال النسفي: رفعا بعيد المدى ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ قال النسفي: نصبا ثابتا فهي راسخة .. وقال ابن كثير: أي: جعلت منصوبة فإنها ثابتة راسخة لئلا تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ قال ابن كثير: (أي: كيف سطحت ومدت ومهدت). كلمة في السياق: 1 - جاءت هذه الآيات بعد ذكر جزاء العاملين الكافرين، والعاملين المؤمنين، وقبل المجموعة الآمرة بالتذكير، ومن السياق، ندرك المراد من لفت النظر إلى هذه المخلوقات أنه البعث على التوحيد والتمهيد للتذكير. قال النسفي: (ويجوز أن يكون المعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول، ويؤمنوا به، ويستعدوا للقائه). 2 - محور السورة هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ

تفسير المجموعة الثانية

مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ نلاحظ أن المحور علل لوجوب العبادة، وطالب بالتوحيد بناء على أن الله عزّ وجل هو خالق الإنسان والأرض والسماء، ومنزل الماء، وفي المجموعة التي مرت معنا لفت الله عزّ وجل النظر بخلق الإبل على ما هي عليه، وبرفع السماء، ونصب الجبال، وبسط الأرض للتدليل على وحدانيته، وللإنكار على من يشرك به غيره في عبادته، وفي ذلك دعوة لعباده جميعا أن يعبدوه وحده ولذلك صلاته بمحور السورة. تفسير المجموعة الثانية: فَذَكِّرْ قال ابن كثير: أي: فذكر يا محمد الناس بما أرسلت إليهم إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ قال النسفي: أي: ليس عليك إلا التبليغ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قال ابن كثير: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أي: لست عليهم بجبار، أي: لست تخلق الإيمان في قلوبهم، وقال ابن زيد: لست بالذي تكرههم على الإيمان إِلَّا أي: لكن مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. قال ابن كثير: أي: تولى عن العمل بأركانه، وكفر بالحق بجنانه ولسانه فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو عذاب جهنم، والمعنى العام: لست بجبار عليهم، ولكن الله عزّ وجل هو الذي له القهر فيعذب من تولى وكفر العذاب الأكبر، وهناك اتجاه آخر تقديره: فذكر إلا من تولى وكفر، فهذا سيعذبه الله عزّ وجل، وليس عليك تذكيره إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي: رجوعهم، وفائدة تقديم الجار والمجرور التشديد في الوعيد، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ قال ابن كثير: أي: نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. كلمة في السياق: 1 - بعد أن بين الله عزّ وجل عاقبة المشركين، وعاقبة المؤمنين، وأقام الحجة على الكافرين، أمر الله عزّ وجل رسوله بالتذكير، وبين له أن الله عزّ وجل سيتولى الحساب والعقاب. 2 - في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ بيان لموقف بعض الناس من الأمر بالعبادة والتقوى إذ يتولون ويكفرون، ولذلك صلته بمحور السورة.

الفوائد

الفوائد: 1 - في تفسير قوله تعالى: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ذكرنا قولا واحدا إلا أن للمفسرين اتجاهات أخرى. قال النسفي: (أي: تعمل في النار عملا تتعب فيه، وهو جرها السلاسل والأغلال، وخوضها في النار، كما تخوض الإبل في الوحل وارتقاؤها دائبة في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها، وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت، فهي في نصب منها في الآخرة، وقيل: هم أصحاب الصوامع ومعناه: إنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب). 2 - عند قوله تعالى: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ قال ابن كثير: ونذكر هاهنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود عن كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا حصر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة، ونعمة، في محلة عالية بهية؟» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال «قولوا إن شاء الله» قال القوم: إن شاء الله، ورواه ابن ماجه). 3 - عند قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ قال ابن كثير: وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت. أقول: وفي هذا لفتة عظيمة من القاضي الكريم أن يعطي كل خطاب قرآني مدلوله العملي كان شيخنا محمد الحامد رحمه الله يتأمل الفاكهة ويقول: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ وبمناسبة هذه الآيات قال ابن كثير: (وهكذا أقسم ضمام في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام أحمد حيث روى عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: «صدق» قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله» قال: من خلق الأرض؟ قال: «الله» قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله»

قال: فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال: «صدق» قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهم شيئا ولا أنقص منهن شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدق ليدخلن الجنة» وقد رواه مسلم). وبمناسبة هذه الآيات قال النسفي: (وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب، وحث لهم على الاستدلال، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له، والعرب تكون في البوادي، ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل، فهي أعز أموالهم، وهم لها أكثر استعمالا منهم لسائر الحيوانات، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان: وهي النسل، والدر، والحمل، والركوب، والأكل بخلاف غيرها، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفا ولا تمانع صغيرا، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها ليرتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم). قال صاحب الظلال: (وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة. كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله. حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال (ممثلة لسائر الحيوان) على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة. إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان .. السماء والأرض والجبال والحيوان .. وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه. موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها. إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة. وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال «منصوبة» السنان لا راسية ولا ملقاة، وتبرز الجمال منصوبة السنام .. خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة. ولكنها

لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات! على طريقة القرآن في عرض المشاهد، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال). 4 - بمناسبة قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزّ وجل» ثم قرأ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان، والترمذي، والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما من حديث سفيان بن سعيد الثوري به بهذه الزيادة. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية). وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ .. فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا. حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان. فالقلوب بين أصابع الرحمن، لا يقدر عليها إنسان. فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان. إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس. فلا يمنعوا من سماعها. ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها. كان لإزالة العقبات من طريق التذكير. الدور الوحيد الذي يملكه الرسول. وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شئ إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى. في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير، إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهم من آمن وهم من كفر. ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة، وتقل الاستجابة، ويكثر المعرضون والمخاصمون). 5 - بمناسبة قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن علي بن خالد أن أبا أمامة الباهلي مر على خالد بن

كلمة أخيرة في سورة الغاشية ومجموعتها الحادية عشرة

يزيد بن معاوية فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله» تفرد بإخراجه الإمام أحمد). 6 - ونختتم هذه الفوائد بالتذكير بأن قوله تعالى: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ لا ينفي كروية الأرض إذ إن كروية الأرض مقررة في أكثر من مكان في كتاب الله فتسطيح الأرض لا ينفي كرويتها فهي ممدودة مبسوطة، وهي فراش للإنسان وهي كروية مع هذا كله. كلمة أخيرة في سورة الغاشية ومجموعتها الحادية عشرة: سورة الغاشية حذرت من العبادة الخاطئة مع الكفر، وهيجت على العبادة الصالحة مع الإيمان، ولفتت النظر إلى ما يستوجب الإيمان، وأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير مع الاعتقاد بأن الله عزّ وجل سيتولى تعذيب الكافرين، وتأتي سورة الغاشية بعد سورة الأعلى التي أمرت بنوع من العبادة المؤدية إلى تزكية النفس، وجاءت سورة الأعلى بعد سورتين تحدثتا عن قضية الإيمان والعمل الصالح، وما يستتبع ذلك من مواقف إيمانية أو مواقف كافرة، ومن هذا العرض السريع ندرك تكامل المجموعة مع بعضها .. فسورة البروج بينت أن الإيمان والعمل الصالح يرافقهما ابتلاء يصل إلى حد القتل والتحريق، وسورة الطارق بينت جدية الكلمة القرآنية، وجاءت سورة الأعلى تأمر بالتسبيح، والتذكير وتزكية النفس، وكلها معان تساعد على تحمل المحنة وتحمل ثقل الوحي، وجاءت سورة الغاشية لتبين أن العمل غير المقيد بقيود الوحي وغير المنبثق عن الإيمان الصحيح لا ينجي صاحبه، فلا بد من إيمان صحيح وعمل صحيح للنجاة، وهذا كله يرينا تكامل المجموعة مع بعضها، كما يرينا كيف أن المجموعة تضيف صرحا جديدا في بناء التصورات الإسلامية الصحيحة، وفي بناء التقوى، وفي التحرير من الكفر وأخلاقه. والملاحظ أن سورتي الأعلى والغاشية كلاهما تذكر في الطريق، وكل منهما أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتذكير الذي فيه دلالة على الطريق فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ فكونك تذكر بالطريق فكأنك أخذت باليد إلى الإسلام كله، وذلك من مظاهر التكامل في المجموعة. فلو أنك تأملت الأمر بالتذكير في كل من

السورتين الأخيرتين لرأيت أن كلا من الأمرين يكمل الآخر. هذا وقد رأينا أن في كل سورة جديدا، وأن ما بين كل سورة وما قبلها وما بعدها صلات، وأن لكل سورة سياقها الخاص، وأن لكل سورة صلة بمحورها ضمن السياق القرآني العام. ولننتقل إلى المجموعة الثانية عشرة.

المجموعة الثانية عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الثانية عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: الفجر، والبلد، والشمس، والليل، والضحى، والشرح

كلمة في المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل تتألف المجموعة الثانية عشرة من ست سور خمس منها مبدوءة بقسم، والأخيرة مبدوءة بقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ ويأتي بعدها سورة مبدوءة بقسم، وهذا الذي دلنا على البداية والنهاية. تتصل بداية السورة الأولى من المجموعة الثانية عشرة بنهاية السورة التي قبلها بصلة واضحة، فنهاية سورة الغاشية: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ* إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ... وبداية سورة الفجر: وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ* هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ لاحظ انتهاء سورة الغاشية بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتداء سورة الفجر بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاحظ قوله تعالى في سورة الغاشية: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وقوله تعالى في سورة الفجر: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. مرت معنا من قبل مجموعة الذاريات، وقد رأينا أن فيها ثلاث سور متواليات كلها مبدوءة بقسم، وهذه المجموعة التي بين أيدينا مجموعة الفجر فيها خمس سور متواليات كلها مبدوءة بقسم، وهذا يجعلنا نستأنس بأن محور السور الخمس هو مقدمة سورة البقرة، كما كانت المقدمة هي محور السور الثلاث من مجموعة الذاريات ومحور كل سورة مبدوءة بقسم .. وإذا كانت السور الخمس المبدوءة بقسم تفصل في مقدمة سورة البقرة فإن سورة أَلَمْ نَشْرَحْ تفصل فيما بعد المقدمة مباشرة أي: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ .. ومن ثم نجد فيها فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ. فالسور الخمس حددت معالم في الخير وسورة أَلَمْ نَشْرَحْ ذكرت الطريق للتحقق فيها. ولنبدأ عرض المجموعة ..

سورة الفجر

سورة الفجر وهي السورة التاسعة والثمانون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل، وهي ثلاثون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الفجر

بين يدي سورة الفجر: قال ابن كثير عن سورة الفجر: هي مكية ثم قال: (روى النسائي عن جابر قال: صلى معاذ صلاة، فجاء رجل فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا فقال: منافق، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل الفتى، فقال: يا رسول الله جئت أصلي معه فطول علي فانصرفت وصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناقتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفتان يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى- والشمس وضحاها- والفجر- والليل إذا يغشى»). وقال الألوسي في تقديمه لسورة الفجر: (ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أتبعه تعالى بذكره لطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها، وقال الجلال السيوطي: لم يظهر لي في وجه ارتباطها سوى أن أولها كالأقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها، أو على ما تضمنته من الوعد والوعيد، هذا مع أن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ مشابهة لجملة أَفَلا يَنْظُرُونَ وهما كما ترى). وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة في عمومها حلقة في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر .. ولكنها تتضمن ألوانا شتى من الجولات والإيقاعات والظلال، ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدد النغمات موحد الإيقاع! في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي النسمات والإيقاعات، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد .. وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ .... وفي بعض مشاهدها شد وقصف. سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف: كَلَّا. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ* يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي* فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ. وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى وطمأنينة. تتناسق فيها المناظر والأنغام، كهذا الختام: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي

كلمة في سورة الفجر ومحورها

الأساس فى التفسير، ج 11، ص: 6510 عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي. وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين، وإيقاعها بين بين. بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية، وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ ... ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم: كَلَّا. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ* وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا* وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا .. ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم. فقد جاء بعده: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا .. الخ .. فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير! ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة. وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها .. كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي. بحسب تنوع المعاني والمشاهد. فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني. فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس!). كلمة في سورة الفجر ومحورها: تعظ السورة في ابتدائها وتنذر، ثم تتحدث عن بعض طبائع الإنسان، منكرة على هذه الطبائع، ثم تذكر الإنسان بيوم القيامة، وتذكر النوعية المرشحة للإكرام في هذا اليوم. والسورة تحذر من بأس الله وعذابه، وتحذر من الفهم الخاطئ لأفعال الله عز وجل، وتنكر على عدم إكرام اليتيم، وعلى عدم الحض على طعام المسكين، وتنكر على أكل المال إلا حلالا خالصا، وتنكر على الحب الكثير للمال، وتذكر بوجوب التقديم

لليوم الآخر، وتتحدث عن النفس المطمئنة، فالسورة ضمن سياقها الخاص. تربي على التقوى، وتحرر مما ينافيها، ومن ههنا تأتي صلتها بمقدمة سورة البقرة التي تتحدث عن المتقين، وعن الكافرين، وعن المنافقين، إذ السورة تفصل في أخلاق كافرة لتدعو- من خلال ذلك- إلى أخلاق المتقين، وكل ذلك ضمن وحدتها الخاصة بها. تتألف السورة من ثلاث فقرات. الفقرة الأولى تنتهي بنهاية الآية (14). الفقرة الثانية تنتهي بنهاية الآية (20). الفقرة الثالثة تنتهي بنهاية الآية (30).

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتبدأ من الآية (1) وتنتهي بنهاية الآية (14) وهذه هي: المجموعة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) المجموعة الثانية [سورة الفجر (89): الآيات 9 الى 14] وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى: وَالْفَجْرِ الفجر هو الصبح، وهل المراد بالقسم وقت الفجر، أو صلاته، أو فجر يوم النحر خاصة من بين الأيام؟ أو المراد به جميع النهار؛ لأنه جزء منه؟ أقوال للعلماء أقواها الأول وَلَيالٍ عَشْرٍ قال ابن كثير: والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال النسفي: شفع كل الأشياء ووترها، أو شفع هذه الليالي ووترها، أو شفع الصلاة ووترها، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع، أو الخلق والخالق. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي: يجري أي: يمضي. أقول: في إسناد السرى إلى الليل إشارة إلى دوران الأرض هَلْ فِي ذلِكَ أي:

كلمة في السياق

المقسم به في الأشياء المذكورة سابقا قَسَمٌ أي: مقسم به لِذِي حِجْرٍ أي: لذي عقل. قال ابن كثير: وإنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي مالا يليق به من الأفعال والأقوال .. ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة، أو بنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له، الخائفون منه، المتواضعون لديه الخاشعون لوجهه الكريم. وقال النسفي في قوله تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (أي: هل تحقق عنده أن تعظيم هذه الأشياء بالإقسام بها، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه، أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب، والمقسم عليه محذوف وهو قوله: ليعذبن، يدل عليه قوله: أَلَمْ تَرَ إلى قوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ). كلمة في السياق: 1 - رأينا في هذه الآيات أقساما وتعظيما لهذه الأقسام، ولا نرى جوابا، ورأينا أن النسفي قدر الجواب أخذا من الآيات التالية ففهم أن الجواب (لتعذبن) ورأينا من كلام ابن كثير أنه لا يقدر جوابا، وإنما يعتبر أن مجرد عرض الأقسام، وتعظيم ما يكون فيها، هو المراد، ومن ثم فإن ذكر هذه الأقسام، وتعظيم مضمونها، هو الذي يريد أن يؤديه السياق لنا، والذي أراه أن جواب القسم يفهم من الآيات التالية من قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ والذي يدلنا على ذلك أن الفقرة الثانية تبدأ بقوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ .. مما يشير إلى أن السياق في الفقرة الأولى كان يصب في التعريف على الله عز وجل، وجلاله وعلى هذا يمكن أن نقدر الجواب: إن ربك لمحاسب ومعاقب. 2 - في ذكر مواسم العبادة، وبعض أوقاتها، وفي جواب القسم المقدر، ذكر لبعض جوانب الغيب الذي يجب الإيمان به، ولذلك صلته بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة. الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وهذا أول مظهر من مظاهر صلة السورة بمقدمة سورة البقرة، فلنر المجموعة الثانية في الفقرة الأولى.

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى: أَلَمْ تَرَ قال النسفي: أي: ألم تعلم يا محمد علما يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ أي: قوم هود عليه السلام ثم فسرها بقوله تعالى: إِرَمَ قال النسفي: تسمية لهم باسم جدهم ذاتِ الْعِمادِ أي: قبيلة إرم ذات العماد فالمعنى أنهم كانوا بدوا أهل عمد، قال ابن كثير تعليلا لوصفهم هذا: لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ قال ابن كثير: أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم. أقول: هذا ما ذهب إليه ابن كثير واختاره ابن جرير. وهو قول قتادة في تفسير هذه الآية. وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا أي: قطعوا أو خرقوا أو نحتوا أو حفروا الصَّخْرَ بِالْوادِ قال النسفي: أي: بوادي القرى أي: قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا. أقول: وآثارهم لا زالت موجودة معروفة في منطقة العلا الحالية من الجزيرة العربية شمالي المدينة المنورة وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ قال النسفي: أي: ذي الجنود الكثيرة، قال ابن كثير: قال العوفي عن ابن عباس: الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره، أقول: وذهب مجاهد إلى أنه وصف كذلك؛ لأنه كان يوتد الأناس بالأوتاد تعذيبا لهم. أقول: اللفظ يحتمل الإشارة إلى تمكنه أو الإشارة إلى ظلمه، وعلى الأول يجري كلام ابن عباس، وإلى الثاني ذهب مجاهد. الَّذِينَ أي: عاد وثمود وفرعون طَغَوْا أي: تجاوزوا الحد فِي الْبِلادِ التي كانت تحت سلطان كل منهم فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي: بالكفر والقتل والظلم، قال ابن كثير: أي: تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ قال النسفي: (هذا مجاز إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذ الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام، أي: عذبوا عذابا مؤلما دائما) وقال ابن كثير: أي: أنزل عليهم رجزا من السماء، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال النسفي: (المرصاد هو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه، فيجازيهم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر). وقال ابن كثير: (قال ابن عباس يسمع ويرى يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والأخرى وسيعرض الخلائق

كلمة في السياق

كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلا بما يستحقه وهو المنزه عن الظلم والجور). كلمة في السياق: 1 - واضح أن الفقرة بمجموعتيها تريد أن تعرفنا على الله عزّ وجل وعلى جلاله من خلال الأقسام، ومن خلال فعله في الأمم المكذبة، والدليل على ذلك ما جاء بعد الأقسام وما جاء في بداية المجموعة الثانية أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. وفي التعريف على جلال الله عزّ وجل من خلال الأقسام وتعظيمها، ومن خلال فعله تعالى بالطاغين دعوة إلى الخوف منه وإلى خشيته، ودعوة إلى تعظيم ما به أقسم بالقيام بحقه، ودعوة إلى ترك الطغيان والفساد، وذلك كله دعوة ضمنية إلى التقوى وصلة ذلك بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ... في مقدمة سورة البقرة واضحة، فلا خلاص من الطغيان والفساد إلا بالتقوى التي من أركانها الالتزام بكتاب الله عزّ وجل، والاهتداء بهديه، وذلك لا يكون بلا إيمان وصلاة وإنفاق. 2 - بعد أن عرفنا الله عزّ وجل على جلاله في الفقرة الأولى، وعرفنا على فعله بالطاغين المفسدين، يعرفنا الله عزّ وجل على الطبيعة البشرية التي لم تهذبها خشية ولا مغفرة ولا تقوى، وفي ذلك دعوة لتطهير النفس البشرية من هذه المعاني، ودعوة لها للتحقق بما يقابل ذلك فلنر الفقرة الثانية. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (15) إلى نهاية الآية (20) وهذه هي: [سورة الفجر (89): الآيات 15 الى 20] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)

التفسير

التفسير: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ أي: إذا اختبره رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ أي: فضلني بما أعطاني، يرى الإكرام في كثرة الحظ في الدنيا وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي: ضيقه عليه وجعله بمقدار بلغته وكفايته فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي: إذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر قال: ربي أهانن، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة، وما يلذه وينعمه فيها. قال ابن كثير: يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان .. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه، وضيق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال النسفي: فرد عليه زعمه بقوله كَلَّا قال ابن كثير: أي: ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب. وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالتين. إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرا بأن يصبر، وقال النسفي: أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته، بل الإكرام في التوفيق إلى الطاعة، والإهانة في الخذلان. بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ قال النسفي: أي: بل هناك شر من هذا القول، وهو أن الله يكرمهم بالغنى، فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم وحض أهله على طعام المسكين. وقال ابن كثير: فيه أمر بالإكرام له وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ قال ابن كثير: يعني: لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحث بعضهم بعضا في ذلك وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا قال النسفي: أي: وتأكلون الميراث أكلا ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون تراثهم مع تراثهم، وقال ابن كثير: أي: من أي جهة حصل لهم من حلال أو حرام. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي: كثيرا شديدا مع الحرص، ومنع الحقوق.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - يربط النسفي بين هذه الفقرة والتي قبلها، أي: بين قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وبين: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ .. بقوله: أي: الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة، ولا تهمه العاجلة، وهو، أي: الإنسان قد عكس. 2 - بعد أن حدثنا الله عزّ وجل في الفقرة الأولى عن ذاته وجلاله، وأفعاله وانتقامه حدثنا في الفقرة الثانية عن الإنسان وفهمه الخاطئ لأفعال الله عزّ وجل، وأنه أي: الإنسان زيادة على فهومه الخاطئة فإن له أعمالا خاطئة كذلك، عدم إكرام اليتيم، وترك الحض على طعام المسكين، وهو مع هذا يأكل ما هب ودب، ويحب المال حبا كثيرا، الإنسان لا يؤدي الواجب، ولا يفهم عن الله عزّ وجل والله عزّ وجل بالمرصاد، ومما ذكرناه في هذه الفقرة والفقرة السابقة ندرك سياق السورة الخاص. 3 - عرفتنا الفقرة الأخيرة على الطبيعة البشرية التي لم يهذبها وحي، كيف أنها لا تفهم عن الله عزّ وجل ولا تعمل الخير، وتفرط في الواجبات، وفي ذلك تفهيم لنا أن الوحي لا بد منه للإنسان كي يعرف أفعال الله عزّ وجل ويدرك حكمها، وكي يعمل الخير ويضبط رغباته على ميزان الشرع وصلة ذلك بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة. 4 - دعت الفقرة الإنسان إلى اعتبار الفقر والغنى امتحانا يقابل بالشكر والصبر. وللصلاة دورها في الإعانة على الصبر، وهي المظهر الأكمل للشكر وصلة ذلك بقوله تعالى في محور السورة: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ قائمة. 5 - دعت الفقرة بمفهومها إلى إكرام اليتيم، والحض على طعام المسكين، وصلة ذلك بمحور السورة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في مقدمة سورة البقرة واضحة. 6 - أنكرت الفقرة على من يأكل الميراث بالباطل، وعلى من يحب المال حبا كثيرا يدفعه إلى منع الحقوق، وأكل الحرام، وصلة ذلك بالتقوى واضحة، ومما مر ندرك صلة ما مر معنا في السورة بموضوع التقوى والتربية عليها ملكة وسلوكا، فلا تقوى إلا بمراقبة الله وخشيته، ولا تقوى إلا بإيمان، وعمل صالح وفهم صحيح لأفعال الله عزّ وجل، وكل ذلك له صلة بالآيات الأولى من مقدمة سورة البقرة، وعلينا أن نلاحظ أن موضوع الإيمان بالغيب أخذ كثيرا في الفقرتين الأولى والثانية إذ التعريف على الله عزّ

الفقرة الثالثة

وجل، وعلى أفعاله تفصيل لأهم ركن من أركان الإيمان بالغيب، فلنتذكر بداية سورة البقرة لنتذكر صلتها بما مر معنا الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فلننتقل إلى الفقرة الثالثة. الفقرة الثالثة وتمتد من الآية (21) إلى نهاية السورة، أي نهاية الآية (30) وهذه هي: [سورة الفجر (89): الآيات 21 الى 30] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) التفسير: كَلَّا قال النسفي: (ردع لهم عن ذلك. أي: عن ترك إكرام اليتيم، وترك الحض على طعام المسكين، وعن أكلهم التراث بالباطل، وحبهم المال الشديد وإنكار لفعلهم) ثم أتى بالوعيد، وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة، فقال إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: دكا بعد دك أي: كرر عليها الدك، أي: الزلزال حتى عادت جبالها هباء منبثا، ووطئت الأرض ومهدت وسويت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربهم وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا قال ابن

[سورة الفجر (89): آية 23]

كثير: فيجئ الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا، وقال النسفي: أي: ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي: يتعظ أي: يومئذ يتذكر الإنسان عمله، وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، فيتعظ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى قال ابن كثير: أي: كيف تنفعه الذكرى، وقال النسفي: أي: ومن أين له منفعة الذكرى يَقُولُ يومئذ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي هذه هي حياة الآخرة، قال النسفي: أي: يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية، وقال ابن كثير: يعني: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيا، ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعا، كما روى الإمام أحمد .. عن محمد بن عمرة .. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن عبدا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب» فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ قال ابن كثير: أي: ليس أحد أشد عذابا من تعذيب الله من عصاه وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قال ابن كثير: أي: وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهم عزّ وجل. قال النسفي: قال صاحب الكشاف في الآيتين: أي: لا يعذب أحد أحدا كعذاب الله ولا يوثق أحد أحدا كوثاق الله. قال ابن كثير: وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين، فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. قال النسفي: أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك ... وإنما يقال لها ذلك عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ قال ابن كثير: أي: إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته راضِيَةً أي: في نفسها أو راضية من الله بما أوتيت مَرْضِيَّةً قال ابن كثير: أي: قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي: في جملتهم. قال النسفي: أي: في جملة عبادي الصالحين فانتظمي في سلكهم وَادْخُلِي جَنَّتِي أي: مع الصالحين. قال ابن كثير: وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضا، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك هاهنا.

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - بعد أن بين الله عزّ وجل في الفقرة الأولى أنه بالمرصاد ووصف في الفقرة الثانية الطبيعة البشرية التي لم يهذبها وحي، ودعا في هذا البيان ضمنا إلى خشيته وإلى الصبر والشكر والإنفاق، وأكل الحلال، وأداء الحقوق، بين في الفقرة الثالثة ما يكون يوم القيامة من عذاب للكافرين، وإكرام للمؤمنين، وفي ذلك دعوة للإنسان كي ينأى عن الكفر وأخلاقه، وكي يقبل على الإيمان وأخلاقه. 2 - وصف العذاب الشديد للكافر بقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أي: فيوم القيامة لا يعذب أحد كعذاب الله ولا يوثق أحد كوثاق الله عزّ وجل وفي ذلك تفصيل لقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فالفقرة الأخيرة فصلت- فيما فصلت- العذاب العظيم للكافرين. 3 - في الفقرة الأخيرة بيان لمن يستحق الرضى من الله عزّ وجل ويستحق الدخول في عباد الله الصالحين ويستحق دخول الجنة وهو صاحب النفس المطمئنة أي: التي لا ريب عندها والتي اطمأنت بالإيمان وذلك لا يكون إلا إذا اطمأنت ببرد اليقين في شأن القرآن وشأن الإيمان بالغيب وشأن الإيمان بالوحي كله وشأن الإيمان باليوم الآخر، ولذلك صلته بمحور السورة من مقدمة سورة البقرة فلنتأمل ذلك الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فالنفس المطمئنة هي النفس التقية. والفقرة الأخيرة بينت كذلك مظهرا من مظاهر الفلاح الذي وعد الله عزّ وجل به المتقين. وهكذا نجد أن السورة فصلت في مقدمة سورة البقرة إن في كلامها عن المتقين، أو في كلامها عن الكافرين، وكما فصلت السورة في محورها فقد كان لها سياقها الخاص كما رأينا. 4 - دعت السورة بمجموعها إلى مراقبة الله عزّ وجل وإلى خشيته، وإلى الصبر إذا

الفوائد

أفقر، وإلى الشكر إذا أغنى، وإلى إكرام اليتيم، وإلى الحض على طعام المسكين، وإلى أكل الحلال، وأداء الحقوق، وإلى الاعتدال في حب المال والدنيا، وإلى الوصول إلى اليقين والاطمئنان، وكل ذلك قضايا في التقوى، كما حذرت من عكس هذه الأخلاق، ومن الطغيان والفساد، وكل ذلك من أخلاق الكفر. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَيالٍ عَشْرٍ قال ابن كثير: (والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام» يعني: عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء». وقيل المراد بذلك العشر الأول من المحرم حكاه أبو جعفر بن جرير ولم يعزه إلى أحد. وقد روي عن ابن عباس وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: هو العشر الأول من رمضان، والصحيح القول الأول روى الإمام أحمد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر» ورواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زيد ابن الحباب به وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم). 2 - في قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أقوال كثيرة أجملناها في التفسير وهاهنا ننقل مجموع هذه الأقوال كما عرضها ابن كثير: (وقوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر، وقاله ابن عباس وعكرمة والضحاك أيضا. (قول ثان) وروى ابن أبي حاتم عن واصل بن السائب قال: سألت عطاء عن قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قلت: صلاتنا وترنا هذا؟ قال: لا ولكن الشفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى. (قول ثالث) روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد بن عوف أنه سمع عبد الله بن الزبير يخطب الناس فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر فقال: الشفع قول الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والوتر قوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وقال ابن جريج: أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول: الشفع أوسط أيام التشريق، والوتر آخر أيام التشريق. وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر». (قول رابع) قال الحسن البصري وزيد بن أسلم: الخلق كلهم شفع ووتر، أقسم تعالى بخلقه. وهو رواية عن مجاهد والمشهور عنه الأول، وقال العوفي عن ابن عباس وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال: وتر واحد، وأنتم شفع، ويقال: الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. (قول خامس) روى ابن أبي حاتم عن مجاهد وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال: الشفع الزوج، والوتر الله عزّ وجل، وقال أبو عبد الله عن مجاهد: الله الوتر وخلقه الشفع، الذكر والأنثى، وقال ابن نجيح عن مجاهد قوله: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كل شئ خلقه الله شفع، السماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، ونحو هذا، ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: لتعلموا أن خالق الأزواج واحد. (قول سادس) قال قتادة عن الحسن: والشفع والوتر هو العدد منه شفع ومنه وتر. (قول سابع في الآية الكريمة) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج، ثم قال ابن جرير: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث»، وهكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم وما رواه هو أيضا، والله أعلم. قال أبو العالية والربيع بن أنس وغيرهما: هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية، ومنها وتر كالمغرب فإنها ثلاث، وهي وتر النهار، وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل. وقد روى عبد الرزاق عن عمران بن حصين وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال: هي الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر، وهذا منقطع وموقوف، ولفظه خاص بالمكتوبة، وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه عام. روى الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر»). 3 - عند قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ قال ابن كثير: (فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها أو أعمدة بيوتهم للبدو أو سلاحا يقاتلون به أو طول الواحد منهم فهم قبيلة وأمة من الأمم وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع، المقرونون بثمود كما هاهنا، والله أعلم. ومن زعم أن المراد بقوله: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة إما دمشق- كما روي عن

سعيد بن المسيب وعكرمة- أو إسكندرية- كما روي عن الطبراني- أو غيرهما، ففيه نظر فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لأن المراد: الإخبار عن مدينة أو إقليم. وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية عن ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد مبنية بلبن الذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها وإن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحة، وثمارها ساقطة، ودورها لا أنيس بها، وسورها وأبوابها تصفر ليس بها داع ولا مجيب، وإنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام، وتارة باليمن، وتارة بالعراق، وتارة بغير ذلك من البلاد فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك القول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك). 4 - بمناسبة قوله تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ قال ابن كثير: (جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن المبارك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال بأصبعه- أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وروى أبو داود عن سهل- يعني ابن سعيد- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقرن بين أصابعه الوسطى والتي تلي الإبهام). 5 - بمناسبة قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. قال ابن كثير: (يعني: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه بعد ما يسألون أولي العزم من الرسل واحدا بعد واحد فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها أنا لها» فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله تعالى في ذلك وهي أول الشفاعات وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة سبحان فيجئ الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا). 6 - عند قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً

قال: نزلت وأبو بكر جالس فقال: يا رسول الله ما أحسن هذا فقال: «أما إنه سيقال لك هذا». ثم روى عن سعيد بن جبير قال: قرأت عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن هذا لحسن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت» وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به، وهذا مرسل حسن. ثم روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير- أيضا- قال: مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم ير على خلقته، فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي ورواه الطبراني .. وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «قل اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك»).

سورة البلد

سورة البلد وهي السورة التسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل، وهي عشرون آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة البلد ومحورها

قال الألوسي عن سورة البلد: (وهي عشرون آية بلا خلاف. ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لما، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، وإطعام في يوم ذي مسغبة، وكذا لما ذكر عزّ وجل النفس المطمئنة هناك، ذكر سبحانه هاهنا بعض ما يحصل به الاطمئنان). وقال صاحب الظلال: (تضم هذه الصورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية. حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم، وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة). كلمة في سورة البلد ومحورها: تبدأ سورة البلد بقسم وهذا يحدد أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة، ومن ثم نجدها تتحدث عن دعوى الإنفاق، وتعالجها، وتدعو إلى الإيمان والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، كما تتحدث عن الكافرين، وهي معان لها صلة بمقدمة سورة البقرة. والملاحظ أن بين سورتي. الفجر والبلد تكاملا فسورة الفجر تقول: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وسورة البلد تقول: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ... وتقول: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ... فسورة الفجر تنكر على من لا يفعل، وسورة البلد تدعو إلى العمل. وكما ختمت سورة الفجر بالكلام عن الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، فكذلك ختمت سورة البلد: أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ. فالسورتان تتكاملان مع بعضهما، وسنرى أنهما تتكاملان مع مجموعتهما، ولنبدأ عرض السورة، وسنعرضها عرضا واحدا متحدثين خلال العرض عن السياق العام والخاص للسورة.

سورة البلد

سورة البلد وتتألف من عشرين آية وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البلد (90): الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) التفسير: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أي: أقسم بمكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي: أقسم بمكة وأنت حل بها غير محرم، وإنما الحل بها هو المقيم، فكأن المعنى: أقسم بمكة وأنت مقيم بها وَوالِدٍ وَما وَلَدَ أي: وآدم وولده لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال سعيد بن جبير: أي: في شدة وطلب معيشة، وقال الحسن البصري: أي: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة. وقال ذو النون المصري: أي: لم يزل مربوطا بحبل القضاء مدعوا إلى الائتمار والانتهاء. أقول: هذا جواب القسم، أقسم الله عزّ وجل

كلمة في السياق

بمكة، أم القرى في حال كون ساكنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا فيها؛ لينبه على قيمتها العظمى حال وجود الرسول فيها، وأقسم بآدم- أبي البشر- وولده على أنه خلق الإنسان في مكابدة، وفي ذلك تذكير للإنسان أنه لم يخلق عبثا، ولم يخلق للراحة بل خلق في التعب والمكابدة ليعلم أن له مهمة، وأنه مكلف. كلمة في السياق: 1 - في الأقسام التي مرت معنا وجوابها تذكير بمجموعة أمور، بعظمة هذا البيت، وبعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يزداد بوجوده هذا البيت عظمة، وبعظمة آدم عليه السلام، وكرامة ذريته، وتذكير بحال الإنسان في عيشه المكابد؛ ليستدل به على أصل مهمته في الحياة، ولذلك صلته بموضوع الإيمان بالغيب، وموضوع لزوم التقوى، وضرورة الاهتداء بكتاب الله، والعمل فيه أي: بالآيات الأولى من سورة البقرة. 2 - بعد القسم على أن الإنسان خلق في كبد يأتي قوله تعالى: أَيَحْسَبُ أي: الإنسان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أي: أيظن الإنسان مع أنه خلق في مكابدة مما يدل على أنه محاط به، أنه لن يستطيع أحد أن يقهره، وأن يغلبه، وأن يفعل به ما يشاء، ومن ثم فلا يقوم بتكليف، ولا يحسب حسابا ليوم آخر مع أن حاله وغرقه في التعب طوال حياته، كان ينبغي أن يدله على أنه مقدور عليه محاط به من الله عزّ وجل. كلمة في السياق: 1 - عرفنا من الآية الأخيرة: أن من تصورات الإنسان الفاسدة شعوره وحسبانه أن أحدا ما لا يستطيع عليه، ومن هاهنا ندرك سببا من أسباب الفرار من التكليف، الفرار الذي تنقضه شواهد حال الإنسان في المكابدة. 2 - وبعد أن بين الله عزّ وجل لنا هذا التصور الفاسد عند الإنسان يبين لنا أن الإنسان يجمع مع هذا الحسبان الدعاوى الباطلة. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً قال ابن كثير: أي: يقول ابن آدم: أنفقت مالا لبدا أي كثيرا: وقال النسفي: جمع لبدة وهو ما لبد أي: كثر واجتمع. قال تعالى رادا على

كلمة في السياق

هذا الإنسان دعواه ومبينا أن دعواه عليها رقيب بصير فقال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قال مجاهد: أيحسب أن لم يره الله عزّ وجل. أقول: أي: أيحسب هذا المدعي أن الله غير موجود حتى يدعي هذه الدعاوى الكاذبة. كلمة في السياق: 1 - وهكذا عرفنا أن الإنسان له تصورات فاسدة، ودعاوى كبيرة، وأن دعاواه الكبيرة أثر عن جهله بأن الله قريب. وأن تصوراته الفاسدة أثر عن عدم ملاحظة حاله، ولو أن الإنسان تذكر حاله وتذكر رقابة الله عزّ وجل عليه لا نتفت عنده هذه التصورات وهذه الدعاوى. وهكذا عرفنا أن دواء هذه التصورات، وهذه الدعاوى هو ما ذكرته الآيات من تذكر الإنسان حاله في المكابدة، ومن تذكر الإنسان رقابة الله عزّ وجل عليه. 2 - ثم تأتي فقرة تذكر الإنسان بما يعرف به أن الله قادر عليه، وأن الله عزّ وجل يراه، وتذكر الإنسان بما يعرف به أنه مكلف. أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ أي: للإنسان عَيْنَيْنِ أي: يبصر بهما المرئيات وَلِساناً أي: ينطق به فيعبر به عما في ضميره وَشَفَتَيْنِ قال ابن كثير: يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهه وفمه، وقال النسفي: يستر بهما ثغره، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي: طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار. كلمة في السياق: جاءت الفقرة السابقة كدليل على ما قبلها، وكمقدمة لما بعدها فهي دليل على أن الله عزّ وجل يرى، ودليل على أنه قادر على الإنسان، وهي مقدمة لمطالبة الإنسان بعمل الخير الذي تطالب به الفقرة اللاحقة، فالفقرة اللاحقة تطالب الإنسان بعتق الرقاب والإطعام والإيمان والتواصي بناء على ما جاء في هذه الفقرة، فالفقرة ذكرت عطاء الله العظيم للإنسان، وهذا يقتضي من الإنسان أن يقابل ذلك بشكر. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، جعل الأعمال الصالحة عقبة وعملها اقتحاما لها لما في ذلك من معاناة في مجاهدة النفس وَما

[سورة البلد (90): آية 13]

أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ هذا تعظيم لشأن العقبة التي ينبغي أن تقتحم، ثم فسرها بثلاثة أشياء: 1 - فَكُّ رَقَبَةٍ أي: إعتاق رقبة أو المساعدة على إعتاقها. 2 - أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي: ذي مجاعة يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي: ذا قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي: ذا افتقار فهو من فقره لصق في التراب، وأصبح التراب مأواه. 3 - ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي: كان من المؤمنين العاملين. والمتواصين بالصبر على أذى الناس، وبالرحمة بهم، أو تواصوا بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات، والمحن التي يبتلى بها المؤمن وتواصوا بالتراحم فيما بينهم أُولئِكَ أي: الموصوفون بهذه الصفات أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي: أصحاب اليمين. كلمة في السياق: بعد أن ذكر الله عزّ وجل الإنسان بأمهات من نعمه عليه. طالبه أن يشكر هذه الأيادي بالأعمال الصالحة من فك الرقاب، وإطعام اليتامى والمساكين ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير، وبالصبر الذي بدونه لا يكون إيمان، وبالرحمة التي هي من أعظم ثمرات الإيمان، وبالتواصي الذي به يستمر السير، وإذ بين الله عزّ وجل هذا وعرفنا أن المتصفين بهذه الصفات هم أصحاب اليمين يعرفنا الآن على أصحاب الشمال. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي: بالقرآن أو بدلائلنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أي: أصحاب الشمال عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي: مطبقة، أي: مغلقة الأبواب، قال ابن كثير: أي: مطبقة عليهم فلا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها. كلمة في السياق: 1 - عرفنا من السورة أن هناك أصحاب يمين وأصحاب شمال، وأن أصحاب

الشمال هم الكافرون بآيات الله، وأن أصحاب اليمين هم المؤمنون المتواصون بالصبر والمرحمة، المعتقون للرقاب. المطعمون لليتامى والمساكين، شكرا لله على ما أعطاهم من نعم، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة واضحة، فمقدمة سورة البقرة تحدثت عن المتقين والكافرين، والسورة فصلت في ذلك. 2 - عرفتنا السورة أن الإنسان الذي لم يهذبه وحي يتصور أنه لا تكليف ولا أحد يقدر عليه. وأنه يدعي الإنفاق ولا ينفق، وأنه يكفر بآيات الله، وأنه لا يساعد في فك الرقاب، ولا يطعم ولا يؤمن، ولا يوصي بصبر ولا رحمة، مع أن نشأته وحاله ونعم الله عزّ وجل عليه؛ كل ذلك يدعوه إلى غير ذلك. 3 - عرفتنا السورة أن الطريق إلى أن يعرف الإنسان قدرة الله عزّ وجل عليه هو أن يرى كيف أنه خلق في مكابدة، وأن الطريق إلى ترك الدعوى، أن يعرف رؤية الله عزّ وجل له. وأن الطريق إلى فعل الخيرات والإيمان، والتواصي بالصبر والرحمة هو تذكر الإنسان لما أعطاه الله له من العينين واللسان والشفتين، وهدايته إياه إلى طريق الخير والشر. وهكذا أرتنا السورة أن الإنسان مكلف، وأرتنا جوانب من التكليف، وأرتنا طبيعة الإنسان الذي يرفض التكليف، وقد رأينا صلة السورة بعضها ببعض، فلنر ما فصلته السورة من مقدمة سورة البقرة تفصيلا: - الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. رأينا في السورة عقوبة الذي يكفر بآيات الله عزّ وجل، ورأينا في السورة ضرورة شعور الإنسان بأنه مكلف وأنه مقدور عليه. - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ. رأينا في السورة أن من صفات أصحاب اليمين الإيمان، والتواصي بالصبر والمرحمة اللذين هما أثران من آثار الإيمان. - وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. رأينا في السورة حضها على أنواع من الإنفاق فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ .. فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.

الفوائد

رأينا في السورة جزاء الكافرين بآيات الله عزّ وجل. - أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. رأينا في السورة مظهرا من مظاهر فلاح المتقين فهم أصحاب اليمين. - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. رأينا في السورة مظهرا من مظاهر العذاب العظيم للكافرين عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ. وهكذا نجد أن السورة هذبت الإنسان على معان، وأبعدته عن معان، وكان في ذلك نوع تفصيل لمقدمة سورة البقرة، هذا مع أن للسورة سياقها الخاص، وصلتها بما قبلها، كما رأينا، وبما بعدها كما سنرى. فلننقل الآن بعض الفوائد. الفوائد: 1 - فهم بعضهم من قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أن في ذلك وعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيفتح مكة، وتكون له حلالا، قال النسفي: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، ذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة، وأحلها له وما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان، ونظير قوله: وأنت حل في الاستقبال، قوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وكفاك دليلا على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح). أقول: على هذا القول؛ فإن في الآية بشارة وإخبارا بغيب، والله أعلم. 2 - بمناسبة قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال صاحب الظلال: (في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح .. كما قال في السورة الأخرى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ .. الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها

الظروف الملائمة للحياة والغذاء- بإذن ربها- وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض- إلى جانب ما تذوقه الوالدة- ما تذوق. وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم!. ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر. يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد. والذي يلاحظ الوليد عند ما يهم بالحبو وعند ما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة. وعند بروز الأسنان كبد. وعند انتصاب القامة كبد. وعند الخطو الثابت كبد. وعند التعلم كبد. وعند التفكر كبد. وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء!. ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق، هذا يكدح بعضلاته. وهذا يكدح بفكره. وهذا يكدح بروحه. وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء. وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف ... وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله. وهذا يكدح لشهوة ونزوة. وهذا يكدح لعقيدة ودعوة. وهذا يكدح إلى النار. وهذا يكدح إلى الجنة .. والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء. وتكون الراحة الكبرى للسعداء). 3 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال ابن كثير: (وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي عن مكحول قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم قد أنعمت عليك نعما عظاما لا تحصي عددها، ولا تطيق شكرها، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاء فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عينيك غطاءهما، وجعلت لك لسانا، وجعلت له غلافا فانطق بما أمرتك وأحللت لك فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجا وجعلت لك سترا فأصب بفرجك ما أحللت لك فإن عرض عليك

ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك، ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي»). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. قال ابن كثير: (وروى ابن جرير عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أيها الناس إنهما النجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» وكذا رواه حبيب بن الشهيد، وأبو معمر، ويونس بن عبيد، وأبو وهب عن الحسن مرسلا وهكذا أرسله قتادة). وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال: (أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ .. ليختار أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين. والنجد: الطريق المرتفع. وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء، وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق، وإعطاء كل شئ خلقه، وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود. وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية، كما أنها تمثل قاعدة (النظرية النفسية الإسلامية) هي والآيات الأخرى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها). 5 - بمناسبة قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ قال ابن كثير: روى أحمد عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال: قلت له حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم قال: سمعته يقول: «من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها»). روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة فقال: «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت

المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله أو ليستا بواحدة؟ قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفئ على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير». 6 - بمناسبة قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قال ابن كثير: (كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سلمان بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة» وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح). 7 - بمناسبة قوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ قال ابن كثير: (كما جاء في الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وفي الحديث الآخر: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس». وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو يرويه قال: «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا»). وبمناسبة هذه الآية قال صاحب الظلال: (والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة. والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته درجة تماسك الجماعة المؤمنة. وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان. فهي أعضاء متجاوبة الحس تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك، ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل، ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم. وهذا أمر غير الصبر الفردي. وإن يكن قائما على الصبر الفردي. وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة. وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام، ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة. وكذلك التواصي بالمرحمة. فهو أمر زائد على المرحمة. إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع. فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه. وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه

أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين. فهو دين جماعة، ومنهج أمة، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا .. ). 8 - بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ* عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ كما قال ابن كثير: (وقال قتادة: (مؤصدة) مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد، وقال أبو عمران الجوني: إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره فأوثقوه بالحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدوها عليهم أي: أطبقوها قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا. رواه ابن أبي حاتم. ولننتقل إلى سورة والشمس وضحاها.

سورة الشمس

سورة الشمس وهي السورة الحادية والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل، وهي خمس عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الشمس

بين يدي سورة الشمس: قدم ابن كثير لسورة الشمس وضحاها بقوله: (نقدم حديث جابر الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؟). وقال الألوسي في تقديمه لهذه السورة: (ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وفي هذه فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ على أول التفسيرين، وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة وختم جل وعلا هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة، والإيقاع الموسيقي الموحد، تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ السورة والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة. حقيقة النفس الإنسانية، واستعداداتها الفطرية، ودور الإنسان في شأن نفسه، وتبعته في مصيرها .. هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون ومشاهده الثابتة. كذلك تتضمن قصة ثمود، وتكذيبها بإنذار رسولها، وعقرها للناقة، ومصرعها بعد ذلك وزوالها. وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه، فيدعها للفجور، ولا يلزمها تقواها: كما جاء في الفقرة الأولى في السورة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها .. ). كلمة في سورة الشمس: في مقدمة سورة البقرة يختتم الكلام عن المتقين بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وفي سورة الشمس تأتي أقسام جوابها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فتحدد سورة الشمس طريق الفلاح، وطريق الخسران، فبالتقوى يكون الفلاح، وبتزكية النفس يكون الفلاح، فالمقامان واحد، ثم تحدثنا سورة الشمس عن أمة كذبت فعوقبت في الدنيا، ولذلك صلته كذلك بمحور

السورة من سورة البقرة، ومن هذا ندرك أن سورة الشمس المبدوءة بقسم تفصل في مقدمة سورة البقرة. ككل سورة مبدوءة بقسم، وهو معنى سنبرزه بالتفصيل أثناء عرض السورة. في سورة البلد ورد قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وفي سورة الشمس يأتي قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وفي سورة البلد دعوة إلى اقتحام العقبة، وهي عقبة نفسية ينبغي أن تقتحم بالعمل الصالح، وفي سورة الشمس دعوة لتزكية النفس: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فالمقامان متكاملان. وفي سورة الفجر يرد قوله تعالى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ وفي سورة الشمس يأتي قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها* إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها* .. فهنا تشرح سورة الشمس مظهرا من مظاهر طغيان ثمود وإفسادها. فالسورة إذن تكمل المعاني الواردة في مجموعتها. فسورة الفجر تهيّئ لسلوك الطريق، وسورة البلد تحدد معالم في الطريق، وسورة الشمس تبين صلة الطريق بتزكية النفس، وأن الفلاح معلق على ذلك، وهكذا نجد سور المجموعة كل منها تكمل الأخرى، وكل منها لها سياقها الخاص. وسيتضح لنا هذا بشكل أوسع كلما خطونا خطوة في العرض، وسنعرض سورة الشمس على مرحلتين، كل مرحلة نعرض فيها فقرة منها؛ لأنها تتألف من فقرتين واضحتي المعالم مترابطتين، الفقرة الأولى تنتهي بنهاية الآية (10). والفقرة الثانية تنتهي بنهاية الآية (15) أي: بنهاية السورة.

الفقرة الأولى

الفقرة الأولى وتمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (10) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) التفسير: وَالشَّمْسِ وَضُحاها للشمس دائما ضحى. ففي أي لحظة من اللحظات يكون على وجه الأرض ضحى للشمس، وقد أقسم الله عزّ وجل في هذه الآية بالشمس وضحاها الدائم، وفي ذلك معجزة من معجزات هذا القرآن وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي: إذا جاء بعد الشمس مباشرة، وذلك يكون عند ما يكون القمر بدرا فإنه يأتي بعد الشمس مباشرة وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أي: إذا جلا الشمس. قال النسفي: أي: جلا الشمس وأظهرها للرائين. أقول: وفي ذلك معجزة كونية أخرى، إذ الطاهر. أن الشمس هي التي تجلي النهار، وذلك يكون لو كانت الأرض ثابتة، أما والأرض تدور حول محورها فإن النهار هو الذي يجلي الشمس ويظهرها، فدورة الأرض هي التي تخفي الشمس أو تبديها: ولغياب هذا المعنى عن المفسرين قديما اضطرب كلامهم في تفسير الآية. فتأول بعضهم الآية وصرف بعضهم الضمير عن الشمس. قال النسفي: وقيل الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر. أقول: وما قاله النسفي في عود الضمير إلى الظلمة قريب. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها قال ابن كثير: يعني: إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق، وقال النسفي: أي: يستر الشمس فتظلم الآفاق.

[سورة الشمس (91): آية 5]

أقول: فالليل إذن هو الذي يستر الشمس ويحجبها، وليست هي التي تحتجب، وذلك مرتبط بموضوع دوران الأرض؛ فالآية تكمل المعنى السابق؛ ففيها معجزة كونية مع الإعجاز وَالسَّماءِ وَما بَناها قال ابن كثير: يحتمل أن تكون (ما) هاهنا مصدرية بمعنى: والسماء وبنائها. وهو قول قتادة، ويحتمل أن تكون بمعنى (من) يعني: والسماء وبانيها وهو قول مجاهد وَالْأَرْضِ وَما طَحاها قال مجاهد: طحاها أي: دحاها. أقول: والدحو فيه معنى الكروية وعامة المفسرين فسر الطحو والدحو بالبسط فقط وهو غفلة عن مجموع ما تستعمل له هاتان الكلمتان في اللغة العربية، فالأدحية والأدحوة مبيض النعام في الرمال، ومبيض النعام في الرمال فيه معنى الكروية، وتقدير الكلام: والأرض وطحوها أو والأرض وطاحيها وهو الله عزّ وجل. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها قال ابن كثير: أي: سوية مستقيمة على الفطرة القويمة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال النسفي: أي: فأعلمها طاعتها ومعصيتها، أفهمها أن أحدهما حسن والآخر قبيح، وقال ابن كثير: أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها أي: بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها هذا جواب القسم، ومعنى: زكاها طهرها وأصلحها وجعلها زاكية، ومعنى دساها نقصها وأخفاها بالفجور، قال ابن كثير في قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها: يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه أي: بطاعة الله كما قال قتادة وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل، ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن حبير. أقول: وهو المعنى الذي لا يحتمل غيره وقال ابن كثير في قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها: أي: دسسها أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي، وترك طاعة الله عزّ وجل. أقول: إن ربط الفلاح بالتزكية، والخسران بالتدسية قضية أخروية دنيوية فلا فلاح في دنيا وأخرى إلا بتزكية النفس، ولا خسران في الدنيا والأخرى أفظع من تدسيتها، واستعمال لفظ التزكية والتدسية يشير إلى أن التزكية تنمية للنفس، بينما التدسية إخفاء لها وكبت فلا تنمو النفس البشرية إلا بالإسلام، ومتى ترك الإنسان الإسلام فإنه يخسر نفسه ويخنقها في أطر من الحيوانية الرخيصة. كلمة في السياق: 1 - علقت الفقرة السابقة الفلاح بتزكية النفس والخسران بتدسيتها ولكنها لم تفصل في كيفية التزكية والتدسية، وبالربط بين السورة ومحورها نعرف طريقة التزكية

والتدسية فمحور السورة يقول: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فهذا هو طريق التزكية، والتحقق بهذه المعاني هو التزكية، ومحور السورة يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فهذا طريق التدسية: رفض الإنذار، وعدم الاستفادة منه. 2 - وكما عرفنا ماهية التزكية من خلال الربط بمحور السورة فإننا نعرفه مما قبلها، ومما بعدها، ففي سورة البلد ورد قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ* فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ فهكذا نجد الخير وهو نفسه التقوى، وفيه زكاة النفس، وسنرى في سورة الليل: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى مما يشير إلى أن سورة الليل تفصل في موضوع التزكية وهو شئ بديهي، فما دامت سورة الشمس وسورة الليل تفصلان في محور واحد فلا بد أن يكون التكامل بين المعاني قائما. 3 - مما ذكرنا تتضح صلة السورة بما قبلها وما بعدها من سور مجموعتها، كما تتضح صلة السورة بمحورها من سورة البقرة. لاحظ قوله تعالى في السورة: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وصلته بالكلام عن المتقين والكافرين في أول سورة البقرة. ولاحظ قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وصلته بالكلام الوارد عن الكافرين والمتقين هناك. 4 - من قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها نعلم أن التدسية فجور، وأن التزكية تقوى، وهناك صلة بين الفجور ورفض الإنذار، وبين التزكية والاهتداء بكتاب الله والصلاة والزكاة والإيمان، وهي المعاني التي تعرضت لها مقدمة سورة البقرة. 5 - بعد أن قرر الله عزّ وجل أن الفلاح بتزكية النفس، وأن الخسران بتدسيتها.

الفقرة الثانية

تأتي الفقرة الثانية في السورة لترينا نموذجا على التدسية والفجور، ونتائجهما من الخسران فهي نموذج على الخسران الذي يصيب أهل التدسية والفجور، فلنر الفقرة الثانية. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (11) إلى نهاية السورة، أي إلى نهاية الآية (15) وهذه هي: [سورة الشمس (91): الآيات 11 الى 15] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) التفسير: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها قال النسفي: أي: بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم. وقال ابن كثير: يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي. أقول: دلت الآية على أنه مما ينبثق عن الطغيان تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعرفنا من السياق أن الطغيان فجور، وتدسية للنفس، وأن التكذيب للرسل فجور وتدسية للنفس إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي: أشقى القبيلة قام بأمر ذبح الناقة الذي يمثل ذروة الطغيان والتكذيب أي: التدسية والفجور فالتعبير بالانبعاث لهذا القصد اللعين فيه إشارة إلى التصميم الخبيث المنبثق عن طغيان شديدة بواعثه فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ أي: صالح عليه السلام ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها قال ابن كثير: أي: احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء وَسُقْياها أي: لا تعتدوا عليها في

[سورة الشمس (91): آية 14]

سقياها فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم فَكَذَّبُوهُ أي: فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا فَعَقَرُوها أي: فعقروا الناقة، والعاقر واحد ولكن لرضاهم به اعتبروا جميعا عاقرين، وكذلك الأمر في كل من يرضى عن معصية؛ فإنه يكون شريكا فيها وإن لم يمارسها. قال ابن كثير في الآية: أي: كذبوه فيما جاءهم به فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي: فغضب عليهم فأهلكهم هلاك استئصال بِذَنْبِهِمْ أي: بسبب ذنبهم وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة فَسَوَّاها. قال النسفي: أي: فسوى الدمدمة عليهم، لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم، وقال ابن كثير: أي: فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء وَلا يَخافُ عُقْباها قال النسفي: أي: ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة أي: فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد، كما يخاف من يعاقب من الملوك. وقال ابن كثير: قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة. كلمة في السياق: 1 - رأينا في هذه الفقرة نموذجا على الفجور وعلى تدسية النفس وعلى خسران أصحاب ذلك ولذلك صلته بسياق السورة الخاص. 2 - عرفنا من الفقرة أن التكذيب أثر الطغيان، وأن التكذيب ينبثق عنه من الشرور والآثام والفظائع الكبير والكثير فعلة المشكلات طغيان النفس. 3 - في مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ومن الفقرة الأخيرة عرفنا أن الختم على القلوب هو عقوبة على فعل العبد، فهؤلاء ثمود وهم نموذج على الكفر الخالص الذي لا ينفع معه إنذار. هؤلاء طغيانهم جرهم إلى التكذيب وتكذيبهم جرهم إلى الاعتداء على ناقة الله ومن ثم ندرك سببا من أسباب ختم الله عزّ وجل على قلوب الكافرين. مما مر عرفنا سياق السورة الخاص، وصلتها بمحورها وصلتها بما قبلها وما بعدها.

الفوائد

الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها قال ابن كثير: (وقال بقية بن الوليد عن صفوان حدثني يزيد بن حماد قال: إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله: غشي عبادي خلقي العظيم، فالليل يهاب والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم). 2 - بمناسبة قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال ابن كثير: (أي: خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» أخرجاه من رواية أبي هريرة وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزّ وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم». وبمناسبة قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال صاحب الظلال: (وهذه الآيات الأربع، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ .. وآية سورة الإنسان: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام .. وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان كقوله تعالى في سورة (ص): إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ .. كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التبعة الفردية: كقوله تعالى في سورة المدثر: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ .. والآيات التي تقرر أن فعل الله بإنسان له صلة بواقع هذا الإنسان، كقوله تعالى في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها .. إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه (من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال. فهو قادر

على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. ويعبر عنها بالهداية تارة. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ .. فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد .. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقا. لأنها مخلوقة فطرة وكائنة طبعا، وكامنة إلهاما. وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها. وتغليبه على استعداد الشر .. فقد أفلح. ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها .. وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه. توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب. ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف. فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موجبات الإيمان. ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة .. وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه. وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان. وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام). وبمناسبة قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال ابن كثير: (وروى الطبراني عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وقف ثم قال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وخير من زكاها». وروى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها،

أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن. رواه مسلم بسنده عن زيد بن أرقم). 3 - بمناسبة قوله تعالى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها قال ابن كثير: (أي: أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف عاقر الناقة، وهو أحيمر ثمود وهو الذي قال الله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ الآية، وكان هذا الرجل عزيزا فيهم شريفا في قومه نسيبا رئيسا مطاعا. كما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: «إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» ورواه البخاري في التفسير، ومسلم في صفة النار، والترمذي، والنسائي في التفسير من سننيهما وكذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن طوق عن هشام بن عروة به. وروى ابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «ألا أحدثك بأشقى الناس» قال: بلى قال: «رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا- يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه» يعني: لحيته). ولننتقل إلى سورة الليل.

سورة الليل

سورة الليل وهي السورة الثانية والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل، وهي إحدى عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الليل

بين يدي سورة الليل: قدم ابن كثير لسورة الليل بقوله: (تقدم قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ «فهلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى». وقال الألوسي في تقديمه لهذه السورة: (ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قَدْ أَفْلَحَ .. الخ، ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به الخيبة، ففيها نوع تفصيل لذلك، لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى). وقال صاحب الظلال: (في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء. ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى .. وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ... لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين، وذات اتجاهين .. كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى .. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى .. وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني). كلمة في سورة الليل ومحورها: تبدأ سورة الليل بقسم وَاللَّيْلِ وذلك كما رأينا علامة على أنها تفصل في مقدمة سورة البقرة أي: في شأن المتقين والكافرين في قضية التقوى والكفر، ومن ثم نجد فيها قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ونجد فيها: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ونجد فيها: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى مما يشير إلى ما ذكرناه. والسورة تتصل بمجموعتها بكثير من الروابط، ففي سورة البلد: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وفي سورة الشمس: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ونجد في سورة الليل: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ

الفقرة الأولى

لِلْيُسْرى .. وفي سورة الشمس ورد قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وفي سورة الليل نجد قوله تعالى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى فسورة الليل تكمل المعاني الواردة في سورة مجموعتها وهو شئ عادي ما دامت تفصل في نفس المحور. تتألف السورة من فقرتين: الفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (11) والفقرة الثانية تستمر حتى نهاية السورة أي: إلى نهاية الآية (21)، ولنبدأ عرض السورة. الفقرة الأولى وتمتد من بداية السورة حتى نهاية الآية (11) وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الليل (92): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) التفسير: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال ابن كثير: أي: إذا غشى الخليقة بظلامه، أي: إذا غطاها وواراها بظلامه وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي: ظهر بزوال ظلمة الليل. قال ابن كثير: أي: بضيائه وإشراقه وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى قال النسفي: أي: والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد، قال ابن كثير: ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان المقسم عليه أيضا متضادا، ولهذا قال تعالى: إِنَ

[سورة الليل (92): آية 5]

سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم، والمعنى: إن عملكم لمختلف. قال ابن كثير: أي: أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضا، ومتخالفة فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا. قال النسفي: وبيان الاختلاف فيما فصل على أثره فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي: حقوق ماله وَاتَّقى ربه فاجتنب محارمه، وأدى ما افترض. قال ابن كثير: أي: أعطى ما أمر بإخراجه واتقى الله في أمره وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قال النسفي: (أي: بالملة الحسنى. وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى قال النسفي: (أي: فسنهيئه للملة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه ربه). قال ابن كثير: قال بعض السلف: من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها. ولهذا قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بماله وَاسْتَغْنى عن ربه فلم يتقه، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى قال ابن كثير: أي: بالجزاء في الدار الآخرة. وقال النسفي: (أي: بالإسلام أو الجنة) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى. قال النسفي: (أي: للخلة المؤدية إلى النار فتكون الطاعة أعز شئ عليه وأشد، أو سمى طريقة الخير باليسرى؛ لأن عاقبتها اليسر، وطريقة الشر بالعسرى، لأن عاقبتها العسر أو أراد بها طريقي الجنة والنار) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي: وما ينفعه ماله إذا هلك أو تردى في القبر أو في جهنم أي: سقط. كلمة في السياق: 1 - عرفنا من الفقرة أن العطاء والتقوى والتصديق بالجنة جزاؤه التيسير للخير والجنة، وأن البخل والاستغناء عن الله عزّ وجل، والتكذيب بالجنة، جزاؤه التيسير في طريق الشر والنار، وأن هذا أو هذا هو السبب الأصيل في اختلاف أعمال العباد، وعلى هذا فبداية السير إلى الله عزّ وجل الإنفاق والتقوى والإيمان. ولذلك صلته بمحور السورة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. كما نعلم أن بداية السير في طريق الكفر هو البخل والاستغناء عن الله عزّ وجل والتكذيب بالجنة ولذلك صلته بمحور السورة من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى

الفقرة الثانية

أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. 2 - ورد في سورة الشمس قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وقد عرفنا من الفقرة طريق التزكية والتدسية، وورد في سورة البلد السابقة على سورة الشمس: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وقد رأينا في الفقرة ما هو سبب الهداية إلى طريق الخير، وما هو السبب في الهداية إلى طريق الشر، فسورة الليل تكمل مجموعتها وتزيد في البيان. 3 - ثم تأتي فقرة ثانية تكمل وتفصل وتنذر، فبعد أن بين الله عزّ وجل سبب التيسير إلى الجنة. وذكر سبب التيسير في طريق النار، تأتي الفقرة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ... لتبين أن الله عزّ وجل يبين، وأن الإنسان هو الذي يختار طريق الخير أو طريق الشر بسلوك أي الطريقين، فلنر الفقرة الثانية. الفقرة الثانية وتمتد من الآية (12) إلى نهاية (21) أي إلى نهاية السورة وهذه هي: [سورة الليل (92): الآيات 12 الى 21] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)

التفسير

التفسير: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى قال قتادة أي: تبيين الحلال والحرام، وقال النسفي: (أي: إن علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل وبيان الشرائع) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى قال ابن كثير: أي: الجميع ملكنا وأنا المتصرف فيهما. وقال النسفي: (فلا يضرنا ضلال من ضل، ولا ينفعنا اهتداء من اهتدى، أو أنهما لنا فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق) فَأَنْذَرْتُكُمْ أي: فخوفتكم ناراً تَلَظَّى أي: تتلهب لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى أي: لا يدخلها للخلود فيها إلا الكافر، قال ابن كثير: أي: لا يدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه إلا الأشقى. ثم فسره فقال: الَّذِي كَذَّبَ أي: بقلبه وَتَوَلَّى أي: عن العمل بجوارحه وأركانه وَسَيُجَنَّبُهَا أي: وسيبعد عنها الْأَتْقَى أي: المؤمن العامل. قال ابن كثير: أي: وسيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى، ثم فسره بقوله: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أي: للفقراء يَتَزَكَّى من الزكاء أي: يطلب أن يكون عند الله زكيا لا يريد به رياء ولا سمعة. وقال ابن كثير: (أي: يصرف ماله في طاعة ربه؛ ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا. قال أبو عبيدة: الأشقى بمعنى الشقي، وهو الكافر، والأتقى بمعنى التقي، وهو المؤمن؛ لأنه لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء) ثم أكمل الله عزّ وجل وصف الأتقى فقال: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي: ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفا فهو يعطي مقابلة ذلك، وإنما دفعه لذلك إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى قال ابن كثير: أي: طمعا في أن يحصل له رؤية في الدار الآخرة في روضات الجنات. وَلَسَوْفَ يَرْضى هذا وعد بالثواب الذي يرضيه ويقر عينه. قال ابن كثير: أي: ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات. كلمة في السياق: 1 - في هذه الفقرة بين الله عزّ وجل أن الله يبين والإنسان يختار. فقال: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى وصلة ذلك بقوله تعالى في محور السورة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة فهذا القرآن فيه الهدى وعلى الإنسان أن يختار. 2 - وفي هذه الفقرة بين الله عزّ وجل أن اختيار الهدى لا يترتب عليه ضرر، لأن الله هو مالك كل شئ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى وصلة ذلك بقوله تعالى عن

الفوائد

المتقين: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ واضحة. 3 - في هذه الفقرة أنذر الله عزّ وجل عباده ناره التي يصلاها الأشقى ويجنبها الأتقى وصلة ذلك بقوله تعالى عن المتقين وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وبقوله تعالى عن الكافرين: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ واضحة. 4 - وصف الله عزّ وجل الأتقى في الفقرة بالإنفاق الخالص وصلة ذلك بقوله تعالى عن المتقين في مقدمة سورة البقرة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ واضحة. وتخصيص هذه الصفة بالذكر؛ لأن الإنفاق في سبيل الله هو البرهان على التقوى، قال عليه الصلاة والسلام «والصدقة برهان». فإذا اتضحت هذه المعاني كلها. عرفنا صلة السورة بمقدمة سورة البقرة، ومن قبل عرفنا صلة السورة بما قبلها، والآن فلنلخص السياق الخاص للسورة: 5 - عرفنا في الفقرة الأولى سر اختلاف الناس في العمل، وأن مرجعه إلى موقف رئيسي هو البخل والعطاء، والتقوى والاستغناء، والتكذيب والتصديق يترتب على هذا أو ذاك تيسير إلى طريق الخير أو طريق الشر، ثم بين الله عزّ وجل في الفقرة الثانية أن الله يبين، وعلى الإنسان أن يختار، ثم أنذر الله عزّ وجل من يختار طريق الضلال، وبشر من يختار طريق الهداية، ومرة ثانية ذكر أن الإنفاق في سبيل الله عزّ وجل أصل أصيل في الطريق، وأن من يفعل ذلك فسيكافئه الله عزّ وجل وسيرضيه، وبهذا نكون قد عرفنا السياق الخاص للسورة، وعرفنا صلة السورة بمحورها، وصلتها بما قبلها، وسنرى صلتها بما بعدها. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى قال صاحب الظلال: (إن سعيكم لشتى .. مختلف في حقيقته، مختلف في بواعثه، مختلف في اتجاهه. مختلف في نتائجه .. والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم، وتختلف مشاربهم، وتختلف تصوراتهم، وتختلف اهتماماتهم، حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص. هذه حقيقة. ولكن هناك حقيقة أخرى. حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعا،

وتضم هذه العوالم المتباينة كلها. تضمها في حزمتين اثنتين، وفي صفين متقابلين، تحت رايتين عامتين. مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى .. ومَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى .. من أعطى نفسه وماله. واتقى غضب الله وعذابه. وصدق بهذه العقيدة التي إذا قيل (الحسنى) كانت اسما لها وعلما عليها. ومن بخل بنفسه وماله. واستغنى عن الله وهداه. وكذب بهذه الحسنى .. هذان هما الصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس، وشتات السعي، وشتات المناهج، وشتات الغايات. ولكل منهما في هذه الحياة طريق .. ولكل منهما في طريقه توفيق!). 2 - عند قوله تعالى: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسنى قال: «الحسنى الجنة»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى في المؤمن وفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى في الكافر. قال ابن كثير: (والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عزّ وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة. (رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه) روى الإمام أحمد عن طلحة بن عبيد الله ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال: سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟ قال: «بل على أمر قد فرغ منه» قال ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: «كل ميسر لما خلق له». (رواية علي رضي الله عنه) روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى إلى قوله لِلْعُسْرى. (حديث آخر) روى ابن جرير عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان بنداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين:

اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا» وأنزل الله في ذلك القرآن: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ورواه ابن أبي حاتم .. روى ابن جرير- ذاكرا أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه- عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟ فقال: أي أبت إنما أريد- أظنه قال- ما عند الله. قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى .. ). 4 - بمناسبة قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى روى ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «أنذرتكم النار» حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. وروى الإمام أحمد عن أبي إسحاق قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» رواه البخاري. وروى مسلم عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا»). 5 - بمناسبة قوله تعالى: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلا شقي» قيل: ومن الشقي؟ قال: «الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك لله معصية» وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى» قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» ورواه البخاري. 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ... قال ابن كثير: (وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه

داخل فيها وأولى الأمة بعمومها؛ فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى* وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود- وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية-: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبد الله هذا خير» فقال أبو بكر يا رسول الله ما على من يدعى منها ضرورة، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم»).

سورة الضحى

سورة الضحى وهي السورة الثالثة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة من المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل، وهي إحدى عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الضحي

بين يدي سورة الضحي: قدم ابن كثير لسورة الضحى بقوله: (روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقري قال: قرأت على عكرمة بن سليمان وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد فلما بلغت والضحى قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك، فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة، وكان إماما في القراءات. فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال: هو منكر الحديث، لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة فقال: أحسنت وأصبت السنة، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته فقال بعضهم: يكبر من آخر وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وقال آخرون: من آخر وَالضُّحى وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر، ويقتصر، ومنهم من يقول: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر. وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها كبر فرحا وسرورا، ولم يرو بإسناد ذلك يحكم عليه بصحة، ولا ضعف، فالله أعلم). وفي أسباب نزول هذه السورة قال ابن كثير: (وروى الإمام أحمد عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندبا يقول: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتت امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله عزّ وجل: وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقد ذكر بعض السلف- منهم ابن إسحاق- أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها، ودنا إليه وتدلى منهبطا عليه وهو بالأبطح فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى قال: قال له هذه: وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قال العوفي عن ابن عباس: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه فأنزل الله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى).

كلمة في سورة الضحى ومحورها

وقدم الألوسي لهذه السورة بقوله: (مكية. وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عزّ وجل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال الإمام: لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وهذه سورة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عقب جل وعلا بها، ولم يجعل بينهما واسطة، ليعلم أن لا واسطة بين رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه، وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه صلى الله تعالى عليه وسلم، ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه، ثم أقسم بنفسه عزّ وجل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت، والخدم قد تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة، ولا يضر النور تأخره عن أغصانه، ولا السنان كونه في أطراف مرانه، ثم إن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفي). وقال صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (هذه السورة بموضوعها، وتعبيرها، ومشاهدها، وظلالها وإيقاعها، لمسة من حنان. ونسمة من رحمة. وطائف من ود. ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتتسم بالروح والرضى والأمل. وتسكب البرد والطمأنينة واليقين. إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم كلها نجاء له من ربه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين. كلها أنسام من الرحمة وأنداد من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع). كلمة في سورة الضحى ومحورها: تنتهي سورة الليل بقوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى ويأتي في سورة الضحى قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ومر معنا في سورة الليل قوله تعالى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ويأتي في سورة الضحى قوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ومر معنا في سورة الليل قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى .. ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ويأتي في سورة الضحى قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ .. ومن هذا ندرك صلة سورة الضحى بسورة الليل قبلها.

ومن قبل في سورة الفجر التي هي بداية المجموعة الثانية عشرة مر معنا قوله تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ* وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ثم مر معنا في سورة البلد قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ .. وهاهنا نجد فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ .. ومن هاهنا ندرك أن الصلة بين سورة الضحى ومجموعتها واضحة. في سورة البلد مر معنا قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وفي سورة الشمس مر معنا قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وفي سورة الليل مر قوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى وفي سورة الضحى يأتي قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وفي ذلك تكامل في المعاني ما بين سور المجموعة الواحدة. تبدأ سورة الضحى بقسم وهو علامة على أن السورة تفصل في مقدمة سورة البقرة وذلك شئ رأيناه مطردا في السياق القرآني العام، وعند التأمل في السورة نجدها خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ما نتأمل مقدمة سورة البقرة نجد فيها أكثر من خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فسورة الضحى تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن ليكون القدوة العليا في التقوى وفي الشكر. في السور السابقة على سورة الضحى كان هناك حض على معان، وفي سورة الضحى خطاب بمعان لرسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة العليا للمتقين، لتكون الأسوة موجودة فيها، وليعلم الناس أن أحدا ما لا يخرج عن الخطاب بهذه المعاني بل يطالب بها أكرم الخلق على الله عزّ وجل. فيا ويل الذين يرون أنفسهم خارجين عن خطاب الشرع، ولعنة الله عليهم وعلى أئمتهم الذين أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فتابعوهم، فجعلوا أنفسهم أربابا وتابعهم الأتباع فأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ومن السورة التي يتوجه فيها الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ندرك أن النعمة تقتضي شكرا يتمثل بعمل لا يستثنى من ذلك أحد، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالب بذلك أكثر من غيره، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا». إن السورة بمجموعها تربي سيد الخلق الأسوة العليا ولذلك فهي من جانب خطاب

سورة الضحى

لكل إنسان، فيما ليس من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، فلنر السورة ولنعرضها عرضا واحدا. سورة الضحى وهي إحدى عشرة آية وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) التفسير: وَالضُّحى قال ابن كثير: وهذا قسم منه تعالى بالضحى، وما جعل فيه من الضياء، وقال النسفي: المراد به وقت الضحى، وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وَاللَّيْلِ إِذا سَجى أي: سكن فأظلم وادلهم. قال ابن كثير: وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا. قال النسفي: وجواب القسم ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ أي: ما تركك وَما قَلى أي: وما أبغضك. قال النسفي: أي: ما تركك منذ اختارك، وما أبغضك منذ أحبك، والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى قال النسفي: (أي: ما أعد الله لك في الآخرة من المقام المحمود، والحوض المورود، والخير الموعود، خير مما أعجبك في الدنيا، وقيل: وجه اتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن التوديع والقلى أن الله مواصلك

[سورة الضحى (93): آية 5]

بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك لتقدمه على الأنبياء، وشهادة أمته على الأمم، وغير ذلك وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من الثواب ومقام الشفاعة وغير ذلك). فَتَرْضى فما أعظمها من بشارة له ولأمته صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى- يعدد نعمه على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم- فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى قال النسفي: (والمعنى: ألم تكن يتيما حين مات أبواك فآواك إلى عمك أبي طالب، وضمك إليه حتى كفلك ورباك) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى قال النسفي: (أي: وجدك غير عالم، ولا واقف على معالم النبوة، وأحكام الشريعة وما طريقه السمع فَهَدى أي: فعرفك الشرائع والقرآن .. ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في غي، فقد كان عليه الصلاة والسلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوما من عبادة الأوثان. وقاذورات أهل الفسق والعصيان) وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا فَأَغْنى قال ابن كثير: أي: كنت فقيرا ذا عيال فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر. كلمة في السياق: ما صلة قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى بما قبلها أي بقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى؟ قال النسفي: (عدد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المرتقب من فضل الله على ما سلف منه، لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره) أقول: وسنرى صلة تعداد النعم عليه صلى الله عليه وسلم بما بعدها من خلال ما سننقله من كلام ابن كثير، ولنعد إلى التفسير. قال قتادة في قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى: كانت هذه منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله عزّ وجل.

[سورة الضحى (93): آية 9]

قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ قال النسفي: أي: فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه، وقال ابن كثير: أي: كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم، أي: لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه، وتلطف به، وقال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ قال النسفي: أي: فلا تزجره، فابذل قليلا أو رد جميلا، وعن السدي: المراد طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره). أقول: عدم نهر السائل عن العلم يدخل في الآية وليس وحده مرادا بها. قال ابن كثير: (أي: وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشد). أقول: ويحتمل أن يكون المعنى كما كنت فقيرا فأغنيناك فلا تنهر الفقير إذا جاءك سائلا، وقال ابن إسحاق في الآية: فلا تكن جبارا ولا متكبرا، ولا فحاشا ولا فظا على الضعفاء من عباد الله، وقال قتادة: يعني: رد المسكين برحمة ولين. أقول: لو قال قتادة بدل (رد) خاطب لكان ذلك أجود وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال النسفي: أي: حدث بالنبوة التي آتاك الله، وهي أجل النعم، والصحيح أنها تعم جميع نعم الله عليه، ويدخل تحته تعليم القرآن والشرائع. وقال ابن كثير: أي: وكما كنت عائلا فقيرا فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك. أقول: الأمر بالتحديث بنعم الله عزّ وجل أعم من أن يكون المراد به نعمة دنيوية أو دينية. إن الحديث عن النعم كلها ظاهرة وباطنة أدب النبوة، وأدب المسلم، كما سنرى في الفوائد، وبهذا انتهت السورة. كلمة في السياق: 1 - إن السورة تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليتم والفقر والغفلة، وتأمره بناء على ذلك الأوامر المذكورة، وهي بذلك تذكر المسلم من طرف خفي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتيما فارحموا اليتامى، وأكرموهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فقيرا، فارحموا الفقراء وأكرموهم، وتواصوا في شأنهم خيرا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غافلا قبل النبوة فاعطفوا على الغافلين وعلموهم، وصلة ذلك بالمعاني التي وردت في السور السابقة لا تخفي. 2 - إن الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ما لم ينص على خصوصيته صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، ومن ثم فهذه الأوامر ينبغي أن تأخذ مداها في التطبيق. 3 - رأينا من السورة أن النعمة تقتضي شكرا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمن الله عليه

الفوائد

بالنعمة، ويطالبه بشكرها عملا. وتلك سنة الله عزّ وجل اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً. 4 - إن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى .. وبقوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .. تذكير للمسلمين بأن هذا هو رسولكم يا مسلمون، منعم عليه من الله عزّ وجل، ومأمور من الله جل جلاله- وهو قدوتكم في الصبر، وفي الشكر، وفي كل خير- فتابعوه، وآمنوا به، وآمنوا بما أنزل عليه من وحي وهدى واقتدوا به في شأنه كله، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة وهي: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . إن صلة ذلك بهذه الآيات واضحة، عدا عن كون السورة فصلت في قضايا إيمانية، وقضايا مرتبطة بالإنفاق، وقضايا مرتبطة باتباع الكتاب، وقضايا مرتبطة بالإيمان باليوم الآخر، وقضايا مرتبطة بالفلاح في اليوم الآخر، ولعله بهذا كله اتضح لدينا صلة السورة بالسور قبلها، كما اتضح لنا سياقها الخاص، وصلتها بمحورها وسنرى صلتها بما بعدها فيما بعد. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (قال ابن كثير: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحا كما هو معلوم بالضرورة من سيرته، ولما خير عليه السلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله عزّ وجل اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية. روى الإمام أحمد عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فأثر في جنبه فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث المسعودي وقال الترمذي: حسن صحيح).

2 - بمناسبة قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال ابن كثير: (أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته وفيما أعد له من الكرامة ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي. وروى الإمام أبو عمرو الأوزاعي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا فسر بذلك فأنزل الله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريقه، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف، وقال السدي عن ابن عباس: من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال الحسن: يعني بذلك الشفاعة، وهكذا قال أبو جعفر الباقر، وروى أبو بكر ابن أبي شيبة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى قال ابن كثير: (وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل: بعد أن ولد عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره، ويرفع من قدره ويوقره، ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل، فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه، وقاتلوا بين يديه رضي الله عنهم أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به). 4 - بمناسبة قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى قال ابن كثير: (وقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى كقوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا الآية ومنهم من قال: إن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة، وهو صغير ثم رجع، وقيل: إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام، وكان راكبا ناقة في

الليل، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق، حكاهما البغوي). أقول: القول الأول هو الذي عليه المعول. 5 - عند قوله تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى قال النسفي: ووجدك فقيرا فأغناك بمال خديجة، أو بما أفاء عليك من الغنائم. أقول: إن ذكر الغنائم في هذا المقام بعيد جدا، فالسورة مكية، وتتحدث عن شئ حدث، والغنائم كانت في المدينة، وغناه عليه السلام بمال خديجة من حيث إنه كان يعمل فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل من كسب يده، وإنما رأس المال من خديجة قبل النبوة وبعدها، إلا أن ظروف الدعوة بعد النبوة، وصدق أمنا خديجة رضي الله عنها، وتفانيها في خدمة دعوة الله عزّ وجل، وخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفنيا الكثير من مالها. وبمناسبة الآية المذكورة، أشار ابن كثير إلى معنى آخر للغنى، قال ابن كثير: (وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه». أقول: هذا جزء من غنى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالآية أعم من ذلك. 6 - بمناسبة قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال ابن كثير: (كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا» وروى ابن جرير عن أبي نضرة قال: كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها. وروى عبد الله بن الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» وإسناده ضعيف. وفي الصحيحين عن أنس أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله! قال: «لا ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم» وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» ورواه الترمذي وقال: صحيح. وروى أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أبلي بلاء فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره» تفرد به أبو داود. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره» تفرد به أبو داود، وقال مجاهد: يعني النبوة التي أعطا ربك وفي رواية عنه: القرآن. وقال ليث: عن رجل عن الحسن بن علي وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال: ما عملت من خير فحدث إخوانك، وقال محمد ابن إسحاق: ما جاءك من الله من نعمة وكرامة من النبوة فحدث بها، واذكرها، وادع إليها، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله وافترضت عليه الصلاة فصلى).

سورة الشرح

سورة الشرح وهي السورة الرابعة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة السادسة والأخيرة من المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل، وهي ثماني آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة ألم نشرح ومحورها

قال الألوسي في سورة الشرح: وآيها ثمان بالاتفاق. وهي شديدة الاتصال بسورة الضحى، حتى إنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان: هما سورة واحدة .. والحق أن مدار مثل ذلك، الرواية لا الدراية، والمتواتر: كونهما، سورتين والفصل بينهما بالبسملة. نعم هما متصلتان معنى جدا). وقال صاحب الظلال: (نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى، وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي. وفيها روح مناجاة الحبيب للحبيب، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق .. ). كلمة في سورة ألم نشرح ومحورها: تنتهي سورة الضحى بقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ ... وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وتبدأ سورة الشرح بقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ .. فالأوامر الثلاثة التي وردت في سورة الضحى تتوسط بين تذكير بالنعم أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى .. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ... فصلة السورتين ببعضهما لا تخفى .. وسورة الضحى من أولها إلى آخرها خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك سورة الشرح، كلها خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مظهر آخر من مظاهر الصلة بين السورتين. رأينا أن سورة الضحى والسور الأربع قبلها فصلت في مقدمة سورة البقرة، وكانت كلها مبدوءة بقسم، وسورة الشرح لا تبدأ بقسم، بينما تأتي بعدها سورة وَالتِّينِ وهي مبدوءة بقسم، مما يشير إلى أن سورة أَلَمْ نَشْرَحْ هي نهاية مجموعتها، وبالتأمل في معانيها نجد أنها تفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة، أي: في قوله تعالى:: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بدليل أن السورة تنتهي بقوله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ وكما أن الآية التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة دلت على أن الطريق إلى التقوى هو العبادة، فإن سورة الشرح تدل على الطريق الذي به يتحقق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يتأسى به بكل المعاني العليا التي حضت عليها السور الخمس السابقة على سورة أَلَمْ نَشْرَحْ إن التحقق بالخصائص العليا من إكرام اليتيم، والحض على طعام

سورة الشرح

المسكين، وأكل الحلال، والزهد في المال، ومعرفة الله عزّ وجل، واقتحام عقبات النفوس بالإعتاق، والإطعام، والإيمان، والتواصي بالصبر والمرحمة، والعطاء عامة، والتقوى، والتصديق بالحسنى، وترك البخل، وعدم الإعراض والتكذيب بالجنة، والخطاب الحسن للسائلين، والرفق باليتامى، والتحديث عن نعم الله، إن هذه المعاني العليا إنما يتحقق بها من إذا فرغ من شأن الدنيا تعب في العبادة ورغب إلى الله في الدعاء. فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ومن ثم فإن سورة (ألم نشرح) تشرح الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة العليا لكل مسلم ليتأس بذلك المسلمون، وعلى قدر أخذ المسلم من هذا المقام يتحقق بالمعاني العليا التي ذكرتها السور السابقة. إن للسورة- ككل سورة- سياقها الخاص، وصلتها بمحورها وصلتها بما قبلها وما بعدها، فلنر ذلك كله في عرضنا للسورة. سورة الشرح وهي ثمان آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) التفسير: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ قال النسفي: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك ... أو فسحناه بما

[سورة الشرح (94): آية 2]

أودعناه العلوم والحكمة حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين. فأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل. وقال ابن كثير: يعني إنا شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا. كقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصرار ولا ضيق وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ أي: حملك الثقيل، قال ابن كثير: بمعنى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقال النسفي: أي: وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، وقيل: ترك الأفضل مع إتيان الفاضل والأنبياء يعاتبون بمثلها. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. قال ابن كثير: أي: أثقلك حمله. وقال النسفي: أي: أثقله حتى سمع نقيضه وهو صوت الانتقاض وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ قال النسفي: (ورفع ذكره أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والخطب والتشهد وفي غير موضع من القرآن: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ* وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ* وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وفي تسميته رسول الله ونبي الله ومنه ذكره في كتب الأولين). وبعد أن عدد الله عزّ وجل بعض نعمه على رسوله صلى الله عليه وسلم ومنها تخفيف الحمل، تأتي فقرة تبين أن سنته المطردة أن يجعل مع العسر يسرا، ولذلك قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قال ابن كثير: أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر، ثم أكد هذا الخبر إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. قال النسفي: (كأنه قال: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا، أي: إن مع الشدة يسرا) قال النسفي: وجئ بلفظ (مع) لغاية مقاربة اليسر العسر زيادة في التسلية ولتقوية القلوب. وقال سعيد بن جبير عن قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية، فقال: «لن يغلب عسر يسرين». قال ابن كثير: ومعنى هذا أن العسر معرف في الحالتين فهو مفرد، واليسر منكر. فتعدد ولهذا قال: «لن يغلب عسر يسرين» يعني قوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. عددت الفقرة الأولى بعض نعم الله عزّ وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت الفقرة الثانية سنة مطردة لله عزّ وجل في مرافقة اليسر للعسر حتى يزيله، وفي ذلك نعمة

[سورة الشرح (94): آية 7]

أخرى، وعدة من الله عزّ وجل فإذا فهم هذا كله فإن الفقرة الأخيرة تأتي آمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبادة شكرا لله عزّ وجل على نعمه، وكطريق يساعد على تحمل العسر حتى يتلاشى. قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال النسفي: أي: إذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الرب وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قال النسفي: أي: واجعل رغبتك إليه خصوصا، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه. وقال ابن كثير في الآيتين: (أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة). أقول: وفي الآيتين أقوال أخرى سنراها في الفوائد. والذي أرجحه أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعب في العبادة بعد الفراغ من أشغال الدنيا والدعوة. وأن يقبل على الله عزّ وجل بالدعاء، فإن العبادة والدعاء زاد الطريق لتجاوز المحنة، ومظهر العبودية الخالصة لله عزّ وجل شكرا له، وواضح أن المراد بالتعب التعب في الصلاة، فالصلاة هي ذروة العبادة. كلمة في السياق: وضح لنا من خلال عرض السورة سياقها الخاص، ورأينا أنها تأمر بالصلاة والدعاء، وذلك يعرفنا على أن الصلاة والدعاء داخلان في العبادة، فهي تفصيل لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ومن صلة السورة بالمحور نعلم أن هذا طريق للتقوى التي فصلت فيها السور الخمس السابقة على سورة أَلَمْ نَشْرَحْ من مجموعتها. الفوائد: 1 - ذهب بعضهم ذهابا بعيدا إلى أن المراد بالشرح في الآية حادثة شق الصدر، وهو معنى بعيد. ومع هذا فقد ذكره ابن كثير ونحن ننقله للفائدة. قال ابن كثير: (وقيل: المراد بقوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ شرح صدره ليلة الإسراء كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة وقد أورده الترمذي هاهنا، وهذا وإن كان واقعا ليلة الإسراء، كما رواه مالك بن صعصعة، ولكن لا منافاة، فإن من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا، فالله أعلم.

روى عبد الله بن الإمام أحمد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: «لقد سألت يا أبا هريرة، إني في الصحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام رجلي اليمني فقال: أعد واسلم، فرجعت بها أعدو رقة على الصغير، ورحمة للكبير». لاحظ أن ابن كثير قدم لهذا القول بكلمة (وقيل) التي تفيد التضعيف فحادثة شق الصدر واقعة تكررت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سورة الشرح لا تتحدث عنها بل تتحدث عن شرح الصدر بالإسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. 2 - عند قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ قال ابن كثير: (قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وروى ابن جرير عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت ذكرك: قال: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» وكذا رواه ابن أبي حاتم بإسناده. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت: قد كان قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من يحيي الموتى، قال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت بلى يا رب». وروى أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما فرغت مما أمرني به من أمر

السموات والأرض قلت: يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أني لا أذكر إلا ذكرت معي؟ وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة؟ وأعطيتك كنزا من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان يعني: ذكره فيه). 3 - عند قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله جحر فقال: «لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» فأنزل الله عزّ وجل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ورواه أبو بكر البزار. في مسنده ولفظه: «لو جاء العسر حتى يدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يخرجه» ثم قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح (قلت) وقد قال فيه أبو حاتم الرازي: في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كانوا يقولون: لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين. وروى ابن جرير عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فرحا وهو يضحك وهو يقول: «لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا» وكذا رواه عن الحسن مرسلا وقال سعيد عن قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال: «لن يغلب عسر يسرين» ومعنى هذا أن العسر معرف في الحالين فهو مفرد، واليسر منكر فتعدد، ولهذا قال: «لن يغلب عسر يسرين» يعني قوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. وروى الحسن بن سفيان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل المعونة من السماء على قدر المئونة، ونزل الصبر على قدر المصيبة»). 4 - بمناسبة قوله تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ. قال النسفي: (أي: فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الرب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، واختلف أنه قبل السلام أو بعده، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدد عليه نعمه السالفة، ومواعيده الآتية بعثه على

كلمة أخيرة في المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل

الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ولا يخلي وقتا من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى). وقال ابن كثير: (أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء» قال مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك وفي رواية عنه: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك. وعن ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وابن عباس نحوه، وفي رواية عن ابن مسعود فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فإذا فرغت فانصب يعني في الدعاء. وقال زيد ابن أسلم والضحاك فَإِذا فَرَغْتَ أي: من الجهاد فَانْصَبْ أي: في العبادة. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قال الثوري: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عزّ وجل). كلمة أخيرة في المجموعة الثانية عشرة من قسم المفصل: رأينا أن المجموعة الثانية عشرة قد فصلت في الأساس والطريق، فأقامت صرحا جديدا في موضوع إقامة التقوى، وتحرير الإنسان من الكفر. ففصلت في التقوى. وما يدخل فيها، وفصلت في الكفر وما يدخل فيه، وفصلت في الطريق إلى التقوى، وحررت من الكفر وأخلاقه، فأضافت إلى المجموعات السابقة عليها معاني جديدة، وأكدت معاني مذكورة من قبل. وقد رأينا أن كل سورة من سور القرآن فيها جديد، وهذا معنى أحببنا تركيزه ولفت النظر إليه في المجموعات الأخيرة حتى لا يفهم فاهم أن شيئا من القرآن يغني عن بقية القرآن، نعم إن كل جزء من أجزاء القرآن، وكل مجموعة من مجموعاته، تذكر بالمعاني القرآنية، كلها، فمن هذه الحيثية فكل جزء من القرآن بل السورة الواحدة منه كافية للتذكير لمن أراد أن يتذكر، ولكن القرآن بمجموعه هو الذي به كمل الدين، وهو الذي به تم تفصيل كل شئ، وبيان كل شئ، فلا يحيط الإنسان بمجموع ما يلزمه من المعاني القرآنية إلا بمجموع القرآن.

وقد رأينا في المجموعة الثانية عشرة ما اعتدنا أن نراه في كل مجموعة من تكامل وصلات، كما رأينا أن لكل سورة منها سياقها الخاص، وصلتها بما قبلها وما بعدها، ولننتقل إلى مجموعة جديدة هي المجموعة الثالثة عشرة.

المجموعة الثالثة عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الثالثة عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: التين، والعلق، والقدر، والبينة، والزلزلة

كلمة في المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل تتألف المجموعة الثالثة عشرة من خمس سور، وقد دلنا على بدايتها ونهايتها أكثر من شئ، فأول سورة فيها مبدوءة بقسم، وتلك علامة على مجموعة جديدة، كما أنه بعد سورة الزلزلة تأتي سورة العاديات، وهي مبدوءة بقسم مما يشير إلى أن سورة الزلزلة نهاية مجموعتها. والملاحظ أن سورة الزلزلة تتحدث عن الساعة، وهي مبدوءة فَإِذا وقد رأينا من قبل أن كل سورة بدأت بإذا كانت نهاية مجموعة، وهذا يجعلنا نستأنس أن سورة الزلزلة هي نهاية مجموعتها. وعلى هذا فإن المجموعة الثالثة عشرة بدايتها سورة التين، ونهايتها سورة الزلزلة، فهي تفصل- ككل مجموعة- في مقدمة سورة البقرة إلى حيث يقف تفصيلها الذي تقودنا إليه المعاني، وواضح من المجموعة أن سورة التين تفصل في مقدمة سورة البقرة، وأن سورة العلق تفصل في ما بعد المقدمة مباشرة، أي: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتأتي سورة القدر لتفصل في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وتأتي سورة البينة لتفصل في الآيتين السادسة والعشرين والسابعة والعشرين من سورة البقرة، وتأتي سورة الزلزلة لتفصل في الآية بعد ذلك: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وكل ذلك سنراه بالتفصيل، فلنبدأ عرض المجموعة سورة سورة.

سورة التين

سورة التين وهي السورة الخامسة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل، وهي ثماني آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة التين ومحورها

كلمة في سورة التين ومحورها: سورة التين تفصل في مقدمة سورة البقرة. وهي تتحدث عن الإنسان وكمال خلقته ورده إلى أسفل سافلين، إلا إذا كان مؤمنا عاملا للصالحات، كما تقيم الحجة على الكافرين بالبعث. ولذلك كله صلته بالكلام عن المتقين والكافرين في مقدمة سورة البقرة كما سنرى ذلك تفصيلا. سورة أَلَمْ نَشْرَحْ انتهت بقوله تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ وسورة التين يأتي فيها قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فالصلة واضحة بين نهاية سورة أَلَمْ نَشْرَحْ وبداية سورة التين فسورة أَلَمْ نَشْرَحْ تأمر بالعمل الصالح، وسورة التين تبين أنه لا خلاص من السقوط إلا بالإيمان والعمل الصالح. وقال الألوسي عن سورة التين: (وآيها ثمان آيات في قولهم جميعا. ولما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع الإنساني بالاتفاق، بل أكمل خلق الله عزّ وجل على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم، ذكر عزّ وجل في هذه السورة حال النوع، وما ينتهي إليه أمره، وما أعد سبحانه لمن آمن منه بذلك الفرد الأكمل، وفخر هذا النوع المفضل صلى الله تعالى عليه وسلم، وشرف وعظم وكرم). فلنر السورة.

سورة التين

سورة التين وهي ثمان آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التين (95): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) التفسير: وَالتِّينِ قال مجاهد: هو تينكم هذا وَالزَّيْتُونِ. قال مجاهد وعكرمة: هو هذا الزيتون الذي تعصرون. قال النسفي: أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين الأشجار المثمرة وَطُورِ سِينِينَ أي: وجبل سيناء وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ قال ابن كثير: يعني: مكة .. ولا خلاف في ذلك. قال النسفي: (ومعنى القسم بهذه الأشياء: الإبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والأولياء، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه، والطور: المكان الذي نودي منه موسى، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين، ومولد نبينا ومبعثه صلوات الله عليهم أجمعين، أو الأولان قسم بمهبط الوحي على عيسى، والثالث على موسى، والرابع على محمد عليهم السلام). وقال ابن كثير: (وقال بعض الأئمة- أي: في الأقسام الأربعة-: هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار (فالأولى) محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السلام

[سورة التين (95): آية 4]

(والثاني) طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران (والثالث) مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله من طور سيناء- يعني: الذي كلم الله عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير- يعني: جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى- واستعلن من جبال فاران يعني: جبال مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى الله عليه وسلم فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتبهم في الزمان ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ثم بالأشرف منهم). لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه. (وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها) وقال النسفي: أي: في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال ابن كثير: أي: إلى النار ... أي: ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار، إن لم يطع الله ويتبع الرسل، وقال النسفي: (أي: ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل، خلقا وتركيبا يعني: أقبح من قبح صورة وهم أصحاب النار، أو أسفل من سفل من أهل الدركات، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشثن جلده، وكل سمعه وبصره، وتغير كل شئ منه، فمشيه دلف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف). أقول: وقد رد ابن كثير هذا القول الأخير، ولو اختاره ابن جرير، فقال: (ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهرم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فهؤلاء لا يردون إلى أسفل سافلين بل فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع). أقول: وهذا يؤكد كلام ابن كثير بأن المراد رده أسفل سافلين في الآخرة، بدليل أن المستثنين ذكر مآلهم في الآخرة، فما ذهب إليه ابن جرير وجه ضعيف. فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أي: بالجزاء في المعاد. قال النسفي: (الخطاب للإنسان على طريقة الالتفات، أي: فما سبب تكذيبك- بعد هذا البيان القاطع والبرهان الساطع- بالجزاء؟ أو المعنى: إن خلق الإنسان من نطفة، وتقويمه

[سورة التين (95): آية 8]

بشرا سويا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق، وأن من قدر على خلق الإنسان وعلى هذا كله لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء، أو الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: فمن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل؟ فما بمعنى: من). أقول: إن ابن كثير لم يذكر إلا الاتجاه الأول مع ملاحظة أنه لا يفسر أَسْفَلَ سافِلِينَ بما ذكره النسفي. قال ابن كثير: (فما يكذبك- أي: يا ابن آدم- بعد بالدين أي: بالجزاء في المعاد، ولقد علمت البداءة، وعرفت أن من قدر على البداءة فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى: فأي شئ يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟ روى ابن أبي حاتم عن منصور قال: قلت لمجاهد: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ عنى به النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله، عنى به الإنسان، وهكذا قال عكرمة وغيره). أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قال ابن كثير: (أي: أما هو أحكم الحاكمين لا يجور، ولا يظلم أحدا؟ ومن عدله أن يقيم القيامة، فينتصف المظلوم في الدنيا ممن ظلمه) وقال النسفي: هذا وعيد للكفار، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله، وهو من الحكم والقضاء) والله أعلم. كلمة في السياق: 1 - دللت السورة على اليوم الآخر بكمال خلق الإنسان، وبكمال عدل الله عزّ وجل، فكمال خلق الإنسان يقتضي تكليفا، وهذا يقتضي مجازاة للمحسن بإحسانه، وللمسيئ بإساءته، وهذا يقتضي يوما آخر، وكمال عدل الله يقتضي محاسبة، وفصل قضاء بين المحسنين والمسيئين، وهذا يقتضي يوما آخر، وأمام هذا وهذا فقد عجبت السورة من أن يوجد أحد يكذب باليوم الآخر. 2 - بينت السورة أن الناجين هم المؤمنون العاملون، وأن الهلكى في ذلك اليوم هم من ليسوا كذلك. وفي ذلك دعوة إلى الإيمان والعمل الصالح. 3 - إن القسم بالطور ومكة في سورة يتحدث بها عن اليوم الآخر واضح المناسبة فعدا عن كون كمال خلق الإنسان يدل على اليوم الآخر، فإن رسالات الله في الطور ومكة ومنابت التين والزيتون تؤكد ذلك.

4 - في الجمع في القسم بين التين والزيتون، وبين الطور ومكة، تذكير للإنسان بنوعين من النعم: نعمة الفاكهة والأدم، ونعمة الرسالة، وكان ذلك بين يدي التذكير بنعمة حسن تركيبه، ومن هذا النموذج على التناسب بين القسم والمقسم عليه، وسياق السورة، يستطيع القارئ أن يعرف حكمة مجئ الأقسام في سورها. 5 - عرفنا مما مر السياق الخاص للسورة، فلنر صلة السورة بمحورها من سورة البقرة، أي: بمقدمة سورة البقرة: في مقدمة كتابنا (الرسول صلى الله عليه وسلم) تحدثنا عن كون الإنسان مخلوقا متفردا، ومن جملة تفرده تفرده في خلقته، واستدللنا على ذلك بقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وفصلنا في ذلك، وقلنا في النهاية: إن القاعدة الكلية: على قدر ما تعطي تطالب ومن ثم فأنت مكلف أيها الإنسان، وفي كتابنا (جند الله ثقافة وأخلاقا) برهنا على أن ما يطالب به كل إنسان هو التقوى، وتقوى كل إنسان بحسب مسئوليته، إذا أدركنا هذه المعاني ندرك صلة سورة (والتين) بمقدمة سورة البقرة التي تتحدث عن الكافرين والمتقين، فأنت أيها الإنسان خلقت في أحسن تقويم، هذا يقتضي تكليفا وحسابا، التكليف هو التقوى التي مدارها على الإيمان والعمل الصالح، والحساب سيأتي يوم القيامة. فإذا كفرت لك النار، وإذا اتقيت فلك الأجر الدائم أي: الخلود في الجنة. دعنا الآن نتذكر مقدمة سورة البقرة وخاصة ما ورد فيها في شأن المتقين والكافرين. الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. في هذه الآيات يمكن أن نرجع أمر التقوى إلى الإيمان والعمل الصالح. وأن نرجع الكفر الذي يرافقه رفض الإنذار إلى إنكار اليوم الآخر، وقد فصلت سورة التين في ذلك فحضت على الإيمان والعمل الصالح، وأقامت الحجة على منكري اليوم الآخر، وهذا يأتي في سياق تذكير الإنسان بأنه مكلف. وهكذا نجد أن سورة التين فصلت في مقدمة سورة البقرة، فأعطتنا جديدا، إذ ذكرت سبب التكليف، وأقامت الحجة على أن اليوم الآخر آت، وأقامت الحجة على الكافرين، وحضت على التقوى، وبهذا كله

الفوائد

يتضح لدينا كيف أن للسورة سياقها الخاص، وصلتها بمحورها، ومن قبل ذكرنا صلتها بما قبلها، وسنرى فيما بعد صلتها بما بعدها. وقد رأينا أن فيها جديدا كثيرا ككل سورة في القرآن. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة التين بقوله: (قال مالك وشعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه، أخرجه الجماعة في كتبهم). 2 - يستدل القائلون بالتناسخ على هذا التناسخ المزعوم المشئوم الملعون بقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ولا ندري كيف يستدل بهذه الآية على ذلك، مع العلم أن القول بالتناسخ إلغاء لموضوع الإيمان باليوم الآخر، بينما السورة تصب في التدليل على اليوم الآخر، والقرآن كله يصب في التدليل على اليوم الآخر، فكيف يستدل بآية على ما ينقض سورتها، وعلى ما ينقض القرآن كله، والقرآن لا يتناقض. والقرآن يفسر بعضه بعضا، والقول بأن الآية تفيد التناسخ نقض للقرآن كله. فضلا عن أنه يجعل القرآن متناقضا، إن أئمة الإسلام مجمعون على أن هذه الآية ليس لها إلا تفسيران، فإما أنها في الآخرة، أو في الدنيا، فرده إلى أسفل سافلين إن كان في الدنيا، فذلك ما يحدث للإنسان من هرم وعجز وشيخوخة، وعلى هذا فالاستثناء في الآية التي تأتي بعد ذلك استثناء منقطع. ويكون المعنى كما قال النسفي: (أي: ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى والزمنى فلهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة). هذا إذا فسرت الآية على أن المراد بها الدنيا، وإن كان المراد بها الآخرة فواضح، ولو أن إنسانا تأمل أدنى تأمل للسورة لرآها تنقض كلام الملحدين هؤلاء من وجوه كثيرة ويكفي أن نذكر ما يلي: قال تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. فإذا كانت المسألة تناسخا فإن الأجر يكون ممنونا أي: مقطوعا: لأن الإنسان في دورة التناسخ سيموت، ولكنني أستدرك بعد هذا فأقول: إنما يفلح الخطاب مع أناس يعقلون وهؤلاء- والله- لا يعقلون. 3 - بمناسبة قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قال ابن كثير: (وقد

قدمنا في حديث أبي هريرة مرفوعا «فإذا قرأ أحدكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فأتى آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: وأنا على ذلك من الشاهدين»). ولننتقل إلى تفسير سورة العلق.

سورة العلق

سورة العلق وهي السورة السادسة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل، وهي تسع عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة العلق ومحورها

كلمة في سورة العلق ومحورها: بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وبعد سورة التين تأتي سورة العلق مبدوءة بقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ لاحظ قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وصلته بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وصلة: اقْرَأْ بقوله: اعْبُدُوا فالقراءة عبادة عند ما تكون تحقيقا لأمر الله عزّ وجل، ونجد في السورة قوله تعالى: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى وصلة ذلك بكلمة التقوى الواردة في آية المحور واضحة، ثم إن السورة تختم بقوله تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ذلك واضح الصلة بقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وسنرى صلة السورة بمحورها بالتفصيل أثناء عرضها. رأينا أن سورة التين تنتهي بقوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ورأينا أن أحد الاتجاهين في تفسيرها أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديره: فمن يكذبك بعد هذا البيان يا محمد في أمر اليوم الآخر والجزاء والحساب؟ وأن الاتجاه الآخر في الآية: فما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالحساب؟ وتأتي سورة العلق بعد ذلك لتخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فإن القراءة المأمور بها هي الدليل على أن يوم الدين آت فللسورة صلتها الواضحة بما قبلها. وسورة التين فصلت في مقدمة سورة البقرة. وكما أن الآية التي جاءت بعد مقدمة سورة البقرة فصلت في الطريق للتحقق بالتقوى، والتحرر من الكفر والنفاق، فإن سورة العلق تأتي لتحقق بما دعت إليه سورة التين، ولتحرر مما أنذرت منه سورة التين، ومن المعلوم أن سورة العلق- وخاصة بدايتها- كانت أول ما نزل من القرآن، فإن نراها في محلها تتفق مع ترتيب هذا القرآن، وبما ينسجم مع نظامه، فذلك دليل على أن القرآن ترتيبه توقيفي، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ليس للصنعة البشرية فيه نصيب.

السورة

لقد رأينا في سورة التين كلاما عن الإنسان وعن خلقه في أحسن تقويم، وعن الصوارف التي تصرفه عن القيام بالتكليف، ونلاحظ أن سورة العلق تكمل الحديث كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى. وهكذا تتكامل سور المجموعة الثالثة عشرة مع بعضها. فلنبدأ عرض السورة. السورة وتتألف من تسع عشرة آية وهذه هي: الفقرة الأولى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العلق (96): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) الفقرة الثانية [سورة العلق (96): الآيات 6 الى 19] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

تفسير الفقرة الأولى

تفسير الفقرة الأولى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي: خلق كل شئ، ثم خصص من بين المخلوقات في الذكر الإنسان فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أي: من علقة، أي: من حيوان منوي، أو المراد بذلك المرحلة الأولى للجنين بعد التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، والسؤال: ماذا يقرأ؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي وجه له الخطاب أول مرة لا يقرأ. أقول: يفهم من السياق، أن المراد بالقراءة قراءة المخلوقات بالتفكر والتأمل فيكون المعنى- والله أعلم-: اقرأ هذا الكون وهذا الإنسان باسم الله عزّ وجل، ملاحظا أنه الخالق، وهو معنى أخذه بعضهم وأعطاه مضمونا عمليا، وجعله أساسا في السير إلى الله عزّ وجل، ونقطة انطلاق اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أي: الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم، أقول: هذا وعد من الله عزّ وجل لمن قرأ الكون والمخلوقات باسمه تعالى أن يكرمه بالإكرام العظيم، حيث يفتح عليه من العلوم ما لم يفتحه على غيره، فما من إنسان يقرأ الكون باسم الله عزّ وجل، إلا ويعطيه الله عزّ وجل من العلوم دقيقها وجليلها الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي: علم الكتابة بالقلم، أو علم العلوم الكثيرة المتولد بعضها من بعض بواسطة القلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. قال ابن كثير: وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. أقول: لعل معنى الآية أن الله عزّ وجل هو الذي علم الإنسان العلوم الكثيرة التي ما كان للإنسان أن يعلمها لولا توفيق الله عزّ وجل وعطاؤه، فصار المعنى العام للآيات الثلاث: اقرأ الكون والإنسان باسم الله عزّ وجل، فإنك إن قرأت فإن الله عزّ وجل الذي علم الإنسان بالقلم، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، سيتكرم عليك بالعلوم الكثيرة العظيمة، وهكذا أكدت هذه الآيات ما ورد في الآيتين الأوليين من الأمر بالقراءة، ووعدت القارئ بالإكرام، وهذا معنى فطن له بعضهم، وأعطوه حقه، فأكرم الله صالحيهم بإكرامات خاصة؛ ولأن هذه الآيات الخمس هي أول ما نزل من القرآن فلنقف عندها.

الفوائد

الفوائد: 1 - عند قوله تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ قال النسفي: (وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم .. فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى). 2 - قال ابن كثير في الآيات الخمس: (روى الإمام أحمد عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقلت ما أنا بقارئ- قال- فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ قال: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: يا خديجة «ما لي؟» وأخبرها الخبر وقال: «قد خشيت على نفسي» فقالت له: كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك؟ فقال ورقة: ابن أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم؟» فقال ورقة: نعم لم

يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا- حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل؛ لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن بذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك. وهذا الحديث مخرج في الصحيحين. فأول شئ نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية- آدم- على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي. والرسمي يستلزمهما من غير عكس فلهذا قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ وفي الأثر: «قيدوا العلم بالكتابة» وفيه أيضا: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم»). قال صاحب الظلال معلقا على حادثة ابتداء الوحي: (وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير، ثم مررنا به وتركناه، أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه!. إنه حادث ضخم. ضخم جدا. ضخم إلى غير حد. ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا. إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته. وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد- بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل. ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟. حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم- في عليائه- فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه: الأرض. وكرم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده- سبحانه- بهذه الخليقة.

وهذه حقيقة كبيرة. كبيرة إلى غير حد. تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان- قدر طاقته- عظمة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية. ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية. ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني؛ ويتذوق حلاوة هذا الشعور؛ ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال .. وهو يتصور كلمات الله، تتجاوب بها جنبات الوجود كله، منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة. وما دلالة هذا الحادث؟ دلالته- في جانب الله سبحانه- أنه ذو الفضل الواسع، والرحمة السابغة، الكريم الودود المنان. يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة، سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة. ودلالته- في جانب الإنسان- أن الله- سبحانه- قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها، ولا يملك أن يشكرها. وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا .. هذه .. أن يذكره الله، ويلتفت إليه، ويصله به، ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته. وأن تصبح الأرض .. مسكنه .. مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال. فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى. بدأت في تحويل خط التاريخ، منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني .. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه .. إنها ليست الأرض وليس الهوى .. إنما هي السماء والوحي الإلهي. ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة. في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة. عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم. كبيره وصغيره. يحسون ويتحركون تحت عين الله. ويتوقعون أن تمتد يده- سبحانه- فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة. تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب .. وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم، ويفصل في مشكلاتهم، ويقول لهم: خذوا هذا ودعوا ذاك! إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة. الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه

كلمة في السياق

الأرض وانتهى عهد. والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل. والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به. وسجله الضمير الإنساني. وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها. وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان .. ). كلمة في السياق: 1 - قال تعالى في محور السورة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وقد جاءت الآيات الخمس لتأمر بقراءة الكون والإنسان باسم الله عزّ وجل، ووعدت على هذه القراءة بالإكرام بالعلم من الله الذي علم الإنسان بواسطة وبغير واسطة، ومن صلة الفقرة بمحورها نعلم أن قراءة الكون والحياة باسم الله عزّ وجل عبادة من العبادات الموصلة للتقوى. 2 - ذكر محور السورة خلق الإنسان، وجعل الأرض فراشا، والسماء بناء، وإنزال المطر من السماء، وإخراج الثمرات به، وكل ذلك مما ينبغي أن يقرأه الإنسان باسم الله عزّ وجل، ولا شك أن هذه القراءة تفضي إلى الشكر والتوحيد والتقوى والعبادة. وفي الآيات الخمس التي مرت معنا في سورة العلق ذكرنا الله عزّ وجل أنه الخالق، وأنه الذي خلق الإنسان من علق، وأنه الأكرم، وأنه الذي علم بالقلم، وأنه الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وهي معان تقتضي عبودية واعترافا لله عزّ وجل بالفضل وقياما بالشكر، والتزاما بالتقوى، ولكن الإنسان بدلا من أن يقابل النعم الخاصة والعامة بالعبادة والتقوى، أي: بالشكر، فإنه يزداد طغيانا كلما زاد غنى. وهذا الذي سجلته الفقرة الثانية. تفسير الفقرة الثانية: كَلَّا كلمة يراد بها الردع، وهي في هذا السياق تفيد أن ناسا لا يقرءون

[سورة العلق (96): آية 8]

الكون والحياة باسم الله عزّ وجل، ولا يرتبون على ذلك ما ينبغي أن يترتب، وأن هناك ناسا لا يشكرون نعمة الله عزّ وجل في التعليم والخلق والعطاء، ومن ثم قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ أي: أن رأى نفسه اسْتَغْنى بمال أو علم أو جاه، فبدلا من أن ينسب ذلك إلى الله لا ينسبه، وبدلا من أن يشكر الله عزّ وجل بالعبادة والتقوى يكفره. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان، إذا رأى نفسه واستغنى وكثر ماله) ثم تهدده وتوعده ووعظه فقال: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي: إلى الله المصير والمرجع وسيحاسبك على مالك من أين جمعته وفيم أنفقته؟. وقال النسفي: (هذا تهديد للإنسان من عاقبة الطغيان على طريقة الالتفات .. أي: إن رجوعك إلى ربك، فيجازيك على طغيانك). ذكرت الآيات الثلاث طبيعة الإنسان الكافر، وأنذرته ووصفت هذه الطبيعة بالطغيان كلما رأى نفسه مستغنيا، ثم يعرض الله عزّ وجل علينا نموذجا لطغيان الإنسان. أ- أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى هذا أول مظهر من مظاهر الطغيان، أن ينهى إنسان إنسانا عن الصلاة عبادة لله عزّ وجل، والخطاب في الآية الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لافتا نظره إلى طغيان هذا الإنسان، وأنه نموذج على الطغيان كأثر عن رؤية الاستغناء. ب- أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى والخطاب هنا على رأي النسفي للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نرجحه، والذي يراه ابن كثير أن الخطاب لهذا الناهي قال: أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريقة المستقيمة في فعله، أو أمر بالتقوى بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته. أقول: الذي أرجحه أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم: ألا ترى أن هذا الإنسان لو كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس ذلك أجود له وأحسن بدلا من أن ينهى عن الهدى وعن التقوى بنهيه عن الصلاة، فدلت الآيتان على أن من مظاهر الطغيان عدم الاهتداء، وعدم الأمر بالتقوى. ج- أَرَأَيْتَ يا محمد إِنْ كَذَّبَ هذا الناهي عن الصلاة وَتَوَلَّى أي: أعرض أي: كذب بالحق وأعرض عنه أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى قال النسفي: أي: ويطلع على أحواله من هداه وضلاله، فيجازيه على حسب حاله، وهذا وعيد.

كلمة في السياق

وقال ابن كثير: (أي: أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه، ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء!!). كلمة في السياق: 1 - رأينا أن من مظاهر الطغيان النهي عن الصلاة، وترك الهدى، وترك الأمر بالتقوى والتكذيب والإعراض عن دعوة الله عزّ وجل، وهذا هو الذي يقابل به أكثر الخلق نعم الله عزّ وجل، وقد ذكر الله عزّ وجل هؤلاء برؤية الله إياهم ليكفوا وينزجروا، والنموذج الأرذل لهؤلاء هو أبو جهل، وهو الذي نزلت فيه الآيات، قال ابن كثير: نزلت في أبي جهل- لعنه الله- توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت. 2 - دعا الله عزّ وجل في محور السورة الناس جميعا للعبادة والتقوى، وفي هذا الجزء من الفقرة الثانية رأينا أن هناك ناسا يقابلون نعم الله عزّ وجل بالطغيان، فبدلا من أن يصلوا ويعبدوا ينهون عن الصلاة، وبدلا من أن يهتدوا ويأمروا بالتقوى يفعلون العكس، وبدلا من أن يصدقوا ويعملوا يكذبون ويعرضون. ومن هذا الملحظ ندرك صلة ما مر معنا من الفقرة الثانية بمحور السورة. 3 - من قوله تعالى تعقيبا على مواقف هذا الطاغي الناهي: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ندرك أن سبب الطغيان والنهي عن الصلاة، وسبب عدم الهدى والتقوى، وسبب التكذيب والتولي، هو الجهل بالله عزّ وجل والغفلة عنه، ولذلك فإن تربية النفس البشرية على مراقبة الله عزّ وجل، والسير بها إلى ذلك هو السر الأعظم في تطهير النفس البشرية من كل أمراضها، وهذا كذلك مما فطن له صالحو الصوفية. فركزوا عليه فوصلوا في علم التربية الإسلامية إلى ما لم يصل إليه غيرهم. 4 - بعد أن عرض الله عزّ وجل نموذجا على طغيان الطغاة ومن ذلك عرفنا أن الطاغي ينهى عن الصلاة، فإن جزءا جديدا من الفقرة الثانية يأتي مهددا هذا الإنسان مبينا له عقوبته.

[سورة العلق (96): آية 15]

كَلَّا ردع لهذا الطاغي الناهي لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ قال النسفي: عما هو فيه. وقال ابن كثير: أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ الناصية: مقدم الرأس قال النسفي: (أي: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع: القبض على الشئ وجذبه بشدة) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أي: كاذب صاحبها في مقاله، خاطئ في أفعاله. فَلْيَدْعُ يومئذ نادِيَهُ النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم، والمراد أهل النادي. قال ابن كثير: أي: قومه وعشيرته، أي: ليدعهم يستنصر بهم سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن كثير: وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب أحزبنا أو حزبه. قال النسفي: (والزبانية لغة: الشرط، الواحد زبينة من الزبن وهو الدفع، والمراد ملائكة العذاب). وبعد أن ذكر الله عزّ وجل هذا الطاغي الناهي عن الخير ووعظه وأنذره، تأتي الآية الأخيرة في السورة تنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة هذا الإنسان وتأمره بالسجود والتقرب إلى الله، وهو خطاب للأمة كلها قال تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ قال النسفي: أي: اثبت على ما أنت عليه من عصيانه وَاسْجُدْ أي: ودم على سجودك، يريد الصلاة وَاقْتَرِبْ قال النسفي: أي: وتقرب إلى ربك بالسجود فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد. وقال ابن كثير: يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه. عن المداومة على العبادة وكثرتها، وصل حيث شئت ولا تباله، فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس، واسجد واقترب. كلمة في السياق: 1 - أمر محور السورة من سورة البقرة الناس جميعا بعبادة الله، وترك الشرك شكرا له عزّ وجل، ومن سورة العلق تعلم أن الناس أمام هذا الأمر قسمان: عباد متقون، وطغاة كافرون، وذلك من مظاهر صلة السورة بمحورها. 2 - فصلت السورة في محورها فأرتنا بعض مظاهر من العبادة، وأمرت بمعان تقابل مواقف الذين لا يستجيبون لأمر الله عزّ وجل، والخلاصة العملية للسورة أنها تأمر

الفوائد

بقراءة الكون والحياة باسم الله عزّ وجل، وتنهى عن طاعة الكافرين، وتأمر بالسجود والتقرب إلى الله عزّ وجل. 3 - وقد رأينا أثناء عرضنا للسورة سياقها الخاص، وصلتها بمحورها وصلتها بما قبلها، وسنرى صلتها بما بعدها فيما بعد وقد رأينا أن فيها الجديد الكثير. الفوائد: 1 - في وجه المناسبة بين سورتي التين والعلق قال الألوسي: (ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بين عزّ وجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق، فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية، وهذا كالبيان للعلة المادية، وذكر سبحانه هنا أيضا من أحوال الإنسان في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عزّ وجل هناك). 2 - عند قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن كثير: (روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لئن فعل لأخذته الملائكة». وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيريهما، وهكذا رواه ابن جرير بإسناده. وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره فقال: يا محمد بأي شئ تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا فأنزل الله فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ وقال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. وقال الترمذي: حسن صحيح). 3 - بمناسبة قوله تعالى: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ قال ابن كثير: (كما ثبت في الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» وتقدم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). 4 - من الأمراض التي ظهرت في القرنين الأخيرين- كأثر عن التقدم العلمي- شعور الإنسان باستغنائه عن الله عزّ وجل، ولذلك كانت الدعوة إلى ترك العبادة في هذين القرنين على أشدها، وقد تأثر في ذلك الكثيرون من أبناء المسلمين، فتركوا الصلاة، واستهانوا بأمر دينهم، ومن مثل هذا ندرك سر مجئ قوله تعالى: كَلَّا

لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ في سياق السورة التي جاء فيها: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إن في السورة الدواء الناجع لمواجهة دعوات الطغيان في كل العصور، وإن من أهم ما نداوي به دعوات عصرنا المادية ما ذكرته السورة في بدايتها وفي نهايتها: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ولذلك كان من المهم جدا أن يكون لكل منا حظه الكبير من قراءة الكون باسم الله، ومن السجود الكثير لله، أعرف بعض الناس أصابتهم شكوك وهواجس فدلوا على أن يعطوا لأنفسهم فرص تأمل كثيرة في أجزاء هذا الكون سفليه وعلويه، وكلما استذكروا جزءا منه ذكروا اسم الله، وتذكروا أنه الخالق، وكان لذلك أثره في شفاء قلوبهم وزيادة إيمانهم ويقينهم.

سورة القدر

سورة القدر وهي السورة السابعة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل، وهي خمس آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة القدر

بين يدي سورة القدر: قدم صاحب الظلال لسورة القدر بقوله: (الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحديث تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود. نور الله المشرق في قرآنه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ .. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. والليلة التي تتحدث عنها السورة وهي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان، كما ورد في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ* هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ .. أي: التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس. وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء). كلمة في سورة القدر ومحورها: بعد الآيتين اللتين شكلتا محور سورة العلق من سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ

سورة القدر

أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ لاحظ قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ثم لاحظ بداية سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فالصلة واضحة بين السورة والمحور وسنرى ذلك بالتفصيل. بدأت سورة العلق بقوله تعالى: اقْرَأْ وانتهت بقوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ فالخطاب متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية السورة، ونهايتها وسورة القدر تتحدث عن القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أول مظهر من مظاهر الصلة بين سورتي القدر والعلق، إلا أن الصلة العظمى تظهر في كون سورة العلق أول ما نزل من القرآن، وتأتي سورة القدر لتبين أن هذا القرآن الذي ابتدئ بسورة العلق، أنزله الله في ليلة القدر. فالصلات بين سورة القدر والسورة قبلها متعددة. تلك أمرت بقراءة الكون باسم الله، وأمرت بالسجود والاقتراب، وهذه ذكرت ليلة، العمل فيها يعدل ألف مرة ثواب العمل فيما سواها. سورة القدر وتتألف من خمس آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القدر (97): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) التفسير: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال النسفي: عظم القرآن حيث أسند إنزاله إليه دون

[سورة القدر (97): آية 2]

غيره، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء بالتنبيه عليه، ورفع مقدار الوقت الذي أنزل فيه .. ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور، وقضائها، والقدر بمعنى: التقدير أو سميت بذلك لشرفها على سائر الليالي .. قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وهي الليلة المباركة التي قال الله عزّ وجل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وهي ليلة القدر، وهي من شهر رمضان كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى معظما لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها). فقال: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ قال النسفي: أي: لم تبلغ درايتك غاية فضلها، ثم بين ذلك أي: فضلها بقوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر. قال النسفي: وسبب ارتفاع فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من تنزل الملائكة والروح، وفعل كل أمر حكيم، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ أي: إلى السماء الدنيا أو إلى الأرض وَالرُّوحُ قال النسفي: أي: جبريل أو خلق غير الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة أو الرحمة فِيها أي: في هذه الليلة. قال ابن كثير: (أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له، وأما الروح فقيل: المراد به هاهنا جبريل عليه السلام، فيكون من باب عطف الخاص على العام، وقيل: هم ضرب من الملائكة). والله أعلم .. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قال النسفي: أي: تنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل سَلامٌ هِيَ قال النسفي: أي: ما هي إلا سلامة .. أي: لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير، ويقضي في غيرها بلاء وسلامة، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين، قيل: لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة، وقد حرم من السلام الذين كفروا حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى وقت طلوع الفجر فهي تمتد من غياب الشمس إلى طلوع الفجر. كلمة في السياق: 1 - عرفنا الله عزّ وجل على فضل ليلة القدر في هذه السورة؛ لنعرف بذلك فضيلة

الفوائد

هذا القرآن الذي أنزله في تلك الليلة، إن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا أو من السماء إلى الأرض في ابتداء إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - ومن إشعارنا بعظمة هذا القرآن من خلال تعظيم ليلة نزوله نعرف أن هذا القرآن من العظمة بحيث إنه فوق الشكوك والريب، فالسورة دعوة إلى الإيمان بهذا القرآن، ومن ثم ندرك صلة السورة بمحورها من سورة البقرة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ومن هذا القرآن الذي أنزلناه في ليلة القدر. فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. الفوائد: 1 - بمناسبة ذكر ليلة القدر. قال النسفي: (وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان. كذا روى أبو حنيفة رحمه الله عن عاصم عن ذر أن أبي بن كعب كان يحلف على ليلة القدر أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وعليه الجمهور، ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها الليالي الكثيرة طلبا لموافقتها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الإجابة في الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي وفي الحديث: «من أدركها يقول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»). 2 - بمناسبة قوله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال ابن كثير: (وقال سفيان الثوري: بلغني عن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر، قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر، رواه ابن جرير. وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس في تلك الشهور ليلة القدر، وهكذا قال قتادة بن دعامة والشافعي وغير واحد، وقال عمرو بن قيس الملائي: عمل فيها خير من عمل ألف شهر، وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، هو اختيار ابن جرير، وهو الصواب لا ما عداه، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: «رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل» رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة، ونية صالحة أنه يكتب له عمل سنة أجر صيامها وقيامها إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم» ورواه النسائي من حديث أيوب به، ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»). 3 - بمناسبة قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قال ابن كثير: (روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء» وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها، وهي طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمرا، لا يخرج شيطانها حتى يضئ فجرها»). أقول: لعل هذه العلامات الكونية تكون كذلك في منطقة من الأرض، أو في سنة بعينها في عصره عليه الصلاة والسلام. 4 - عقد ابن كثير فصولا متعددة في نهاية الكلام عن سورة القدر ونحن نختار هاهنا نبذا من كلامه: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه الأمة؟ على قولين. قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري: حدثنا مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر. وقد أسند من وجه آخر، وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر، وقد نقله صاحب العدة- أحد أئمة الشافعية- عن جمهور العلماء، فالله أعلم. وحكى الخطابي عليه بالإجماع ونقله الراضي جازما به عن المذهب، والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا. روى الإمام أحمد بن حنبل عن مرثد قال: سألت أبا ذر قلت: كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ قال: أنا كنت أسأل الناس عنها، قلت: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: «بل هي في رمضان» قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هي إلى يوم القيامة» قلت في أي رمضان هي؟ قال: «التمسوها في العشر الأول والعشر الأخر» ثم

حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث، ثم اهتبلت غفلته قلت: في أي العشرين هي؟ قال: «ابتغوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شئ بعدها» ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله أقسمت عليك بحقي عليك لما أخبرتني في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته وقال: «التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شئ بعدها» ورواه النسائي بإسناده، ففيه دلالة على ما ذكرناه، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم .. وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزّ وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده. أخرجاه من حديث عائشة، ولهما عن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر. أخرجاه، ولمسلم عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره، وهذا معنى قولها وشد المئزر، وقيل: المراد بذلك اعتزال النساء، ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره واعتزل نساءه. انفرد به أحمد. وقد حكي عن مالك رحمه الله أن في جميع ليالي العشر تطلب ليلة القدر على السواء لا يترجح منها ليلة على أخرى: رأيته في شرح الرافعي رحمه الله، والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخير منه، ثم في أوتاره أكثر، والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، ولما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وهذا لفظ الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ورواه النسائي أيضا من طريق سفيان الثوري عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»).

سورة البينة

سورة البينة وهي السورة الثامنة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل، وهي ثماني آيات وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة البينة ومحورها

كلمة في سورة البينة ومحورها: رأينا في آخر الآيتين- اللتين كان جزء منهما محور سورة القدر- قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ثم يأتي قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. ففي هذه الآيات حديث عن الكافرين والمؤمنين، وفي سورة البينة حديث عن الكافرين واستمرارهم على عنادهم، وبشارة للمؤمنين، فسورة البينة تفصل في هذه الآيات المذكورة كما سنرى، فهذه محورها. رأينا أن سورة القدر بدأت بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .. فهي حديث عن القرآن، والملاحظ أن سورة البينة تبدأ بقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً* فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فسورة البينة تبدأ بالكلام عن عدم انفكاك أهل الكتاب والشرك عما هم فيه إلا ببعثة الرسول المنزل عليه القرآن، كما تتحدث عن موقف هؤلاء من الرسول والقرآن بعد ما بعث الرسول، وأنزل عليه القرآن. فالصلة واضحة بين سورة القدر وسورة البينة. قال الألوسي: (ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ الخ كالتعليل لإنزال القرآن، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل).

سورة البينة

سورة البينة وتتألف من ثماني آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البينة (98): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) التفسير: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ قال ابن كثير: والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم. أقول: كل من ليس من أهل الكتاب وليس مسلما فهو مشرك. وقد دل النص على أن أهل الكتاب والمشركين كلهم كافرون مُنْفَكِّينَ قال النسفي: (أي: منفصلين عن الكفر)

[سورة البينة (98): آية 2]

حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ قال النسفي: (أي: الحجة الواضحة والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: لم يتركوا كفرهم حتى يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث أسلم بعض، وثبت على الكفر بعض) قال ابن كثير: ثم فسر البينة بقوله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي: محمد صلى الله عليه وسلم يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً أي: يقرأ عليهم هذا الرسول صحفا مطهرة من الباطل فِيها أي: في هذه الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: مكتوبات مستقيمة، ناطقة بالحق والعدل. قال ابن جرير في الآية: أي: في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ؛ لأنها من عند الله عزّ وجل وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ هذه الآية تبين أن أهل الكتاب تفرقوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما جاءتهم البينة، أي: بعد ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال النسفي: فمنهم من أنكر نبوته بغيا وحسدا، ومنهم من آمن، وإنما أفرد أهل الكتاب بعد ما جمع أولا بينهم وبين المشركين، لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فلذا وصفوا بالتفرق عنه وَما أُمِرُوا بهذا الدين وهذا القرآن إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: من غير شرك ونفاق حُنَفاءَ أي: مؤمنين بجميع الرسل مائلين عن الأديان الباطلة وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وهي أشرف عبادات البدن وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي: دين الملة القيمة، قال ابن كثير: (أي: الملة القائمة العادلة، أو الأمة المستقيمة المعتدلة، وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان) فإذا كان هذا ما يأمر به هذا الدين وهذا الرسول، فقد كان المفروض أن يستجيب أهل الكتاب لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا التوجيه الذي وجهنا فيه الآيات لم نره بمجموعه لمفسر واحد، ولكنه بمجموعه لا يخرج عن أقوال المفسرين، ومنه نفهم السياق الخاص للسورة بشكل واضح، وبعد أن بين الله عزّ وجل موقف أهل الكتاب والمشركين من الدعوة الجديدة، وهو أنهم تفرقوا فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فإن الله عزّ وجل في الفقرة اللاحقة يحدثنا عن هؤلاء وهؤلاء، وحال هؤلاء وحال هؤلاء، وما أعده لهؤلاء، وما أعده لهؤلاء قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ قال ابن كثير: أي: شر الخليقة التي برأها الله وذرأها. أقول: يفسر هذه الآية قوله عليه السلام في الحديث

[سورة البينة (98): آية 7]

الصحيح الذي رواه مسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» وبعد أن بين الله عزّ وجل عاقبة الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمشركين وحكم عليهم أنهم شر الخلق، يحدثنا عن المؤمنين العاملين فيقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي: خير الخليقة. وفي هذه الآية والتي قبلها تقرير لميزان الخيرية والشرية، فما أجهل من يحكم لكافر بالخيرية، والله عزّ وجل جعله شر البرية، وما أجهل من يحكم على مؤمن بالشرية وقد جعله الله عزّ وجل خير البرية، ثم إن الله عزّ وجل بين جزاء المؤمنين العاملين فقال: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: يوم القيامة جَنَّاتُ عَدْنٍ قال النسفي: أي: إقامة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قال ابن كثير: أي: بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول أعمالهم. وقال ابن كثير ومقام رضاه عنهم أعلى مما أدركوه من النعيم المقيم وَرَضُوا عَنْهُ قال ابن كثير: بما منحهم من الفضل العميم ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ قال ابن كثير: أي: هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه. وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه. أقول: دلت الكلمة الأخيرة على أن خشية الله عزّ وجل هي ذروة الأمر، وعلى أن بينها وبين الإيمان والعمل الصالح كمال اتصال، فمن خشي الله كان مؤمنا وعمل صالحا فالإيمان والعمل الصالح متلازمان مع خشية الله عزّ وجل. كلمة في السياق: 1 - بينت السورة أن الكافرين بأصنافهم كانوا سيستمرون على كفرهم أبدا، إلا إذا بعث الله رسولا، فبإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن تنقطع استمرارية الكفر. كفر أهل الكتاب، أو كفر المشركين، بشرط أن يكون رسولا ذا كتاب، وقد كان ذلك، وبعث الله الرسول وبدلا من أن يؤمن الجميع- وخاصة أهل الكتاب- لما في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطهارة والاستقامة، فإنهم تفرقوا بعد بعثته عليه الصلاة والسلام، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. مع أن مضمون الرسالة الجديدة لا يمكن أن يعترض عليه أحد؛ إذ هو دعوة إلى الإخلاص في العبادة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وذلك دين الملة المستقيمة التي تعلو عن أن تكون محل شك، وإذ اختار قسم كبير من أهل الكتاب والمشركين لأنفسهم طريق الكفر مع هذا كله، فقد بين الله عزّ وجل أن جزاء هؤلاء

النار، وأنهم شر خلق الله عزّ وجل، وفي المقابل فقد بين الله عزّ وجل ما للمؤمنين العاملين من جزاء، جنات، ورضى؛ بسبب خشيتهم لله عزّ وجل. هذا هو السياق الخاص للسورة. 2 - لنر صلة السورة بمحورها من سورة البقرة: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وقد رأينا في السورة أن الكافرين قسمان: أهل كتاب ومشركون. ورأينا استحقاقهم النار، ورأينا أن الحجة قائمة عليهم، ورأينا أنهم شر البرية. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ وقد رأينا في السورة تفصيلا وبشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ورأينا أنهم خير البرية. إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وقد رأينا كيف أنه مع هذا القرآن الطاهر المطهر القيم الآمر بالإخلاص وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ضل الكافرون من أهل الكتاب والمشركين، وما ذلك إلا بسبب شريتهم فإنهم شر البرية، بينما اهتدى به المؤمنون لأنهم خير البرية. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وقد رأينا أن من ضل وتفرق عن هذا القرآن هم شر البرية، فهم الفاسقون وهم الخاسرون، فالسورة فصلت في آيات المحور، إن في تبيان فضيلة هذا القرآن، أو في ضلال من ضل عنه، أو في هداية من اهتدى به، كما أنها أنذرت وبشرت، وصلة ذلك بآيات المحور لا تخفى. 3 - وصف الله الرسول صلى الله عليه وسلم في السورة بالبينة أي: بالحجة الواضحة. وعلل لكونه كذلك بكونه تاليا لصحف مطهرة من الباطل، فيها رسائل غاية في العلم والاستقامة، وضرب مثالا على مضمونها أنها تأمرنا بما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان من

الفوائد

إخلاص العبادة لله عزّ وجل، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وفي ذلك كله تنزيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير لارتقاء هذا القرآن عن الشك والريب، وتقرير لوجوب التسليم لهذا القرآن، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلها معان مرتبطة بهذا الجزء من سورة البقرة الذي يبدأ بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .. إلى آخر ما ذكرناه، من هذا وغيره تتضح لنا صلة السورة بمحورها من سورة البقرة، وقد اتضح لنا سياقها الخاص وصلتها بما قبلها، وسنرى صلتها بما بعدها، فلنر بعض الفوائد. الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة البينة بذكر روايات كثيرة وهذه إحدى رواياته: روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» قال وسماني لك؟ قال: «نعم» فبكى ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث شعبة به). 2 - بمناسبة قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ مما نقل صاحب الظلال عن كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) هذا النقل: (كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف. فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون. وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي. وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها. وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح. وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب، فضلا عن البيوت، فضلا عن البلاد. وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن، وضنا بأنفسهم، أو رغبة إلى الدعة والسكون، وفرارا من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلا في كفاح الدين والسياسة، والروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل ... أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المجرمين والمنافقين،

حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة، والثقافة، والحكم، والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام، وشغلت بنفسها، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي، ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري). أقول: وكان هذا سيستمر ولم يكن هناك من مخرج إلا مخرج واحد هو أن يبعث الله رسولا بكتاب لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً وقد أرسل الله الرسول، وأنزل الكتاب فكان بعد ذلك ما كان. 3 - وجدنا أن المراد بقوله تعالى في السورة: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ هو تفرقهم بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، وهو توجيه النسفي للآية. وعلى هذا فيكون المعنى أن التفرق الحقيقي إنما كان بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن فرقتهم السابقة لم تكن في شيء؛ لأنهم جميعا كفار، وقد وجه ابن كثير الآيات توجيها آخر، ونحن نرجح توجيه النسفي وهو الذي اعتمدناه. 4 - حدد قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ مضمون دعوات الأنبياء عليهم السلام. فالاختلاف والخلاف في مثل هذه الأصول هو الذي لا يسع أحدا، أما الاختلاف في فرعيات من الصلاة والزكاة كالاختلاف بين شافعي وحنفي فذلك شئ آخر، والعجيب أن بعض الفرق التي تنتسب إلى الإسلام، وبعض الطوائف التي تزعم أنها مسلمة تعبد غير الله، ولا تصلي الصلوات الخمس، ولا تزكي الزكاة المعروفة. ومع هذا فإنها تعتبر أن مخالفتها في هذا شبيهة باختلافات الشافعية والحنفية في أمر فرع من فروع الشريعة وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* قال ابن كثير: (جاء في الحديث المروي من طرق: «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»). 5 - قال تعالى في السورة: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ* رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً

مُطَهَّرَةً* فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وبعد آية قال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. لاحظ ورود كلمة القيمة في المقامين، فهذا الذي جعلنا نقول: إن الآية الأخيرة تتحدث عن مضمون الصحف. وجعلنا نقول إن هذه الآية حددت مضمون دعوات الرسل، ومن ذلك دعوة رسولنا عليه السلام، ولذلك فإن علينا أن نركز على معاني الآية الأخيرة تركيزا خاصا. - العبادة والإخلاص فيها.- الميل عن كل ما يخالف دين الله عزّ وجل. - إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، هذا هو الدين الذي وصفه الله عزّ وجل وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ يبقى أن نقول: لقد رأينا تفسير المفسرين للكلمة الأخيرة إذ قالوا في معناها: وذلك دين الملة القيمة، لكني أحتمل أن يكون المراد بالقيمة هنا القيمة التي وصفت فيها الكتب المتضمنة في الصحف المطهرة فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فيكون المعنى: وذلك دين الكتب القيمة الموجودة في الصحف المطهرة التي يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6 - عند قوله تعالى عن المؤمنين الصالحين: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قال ابن كثير: (وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة). أقول: القول الراجح أن خواص البشر- كالرسل- أفضل من خواص الملائكة- كجبريل وميكال-. وخواص الملائكة أفضل من عامة البشر بعد الرسل. والصديقون والشهداء والصالحون أفضل من عامة الملائكة. وعامة الملائكة أفضل من فسقة المسلمين. 7 - وبمناسبة قوله تعالى عن الكافرين: أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وعن المؤمنين: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قال ابن كثير: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير البرية؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه. ألا أخبركم بخير البرية؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ألا أخبركم بشر البرية؟» قالوا: بلى قال: «الذي يسأل بالله ولا يعطي به»).

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة وهي السورة التاسعة والتسعون بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة والأخيرة من المجموعة الثالثة عشرة من قسم المفصل، وهي ثمان آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الزلزلة

بين يدي سورة الزلزلة: قدم ابن كثير لسورة الزلزلة بقوله: (وروى الترمذي بسنده والإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أقرئني يا رسول الله قال له: «اقرأ ثلاثا من ذوات الراء» فقال له الرجل: كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: «فاقرأ من ذوات حم» فقال مثل مقالته الأولى، فقال: اقرأ ثلاثا من المسبحات» فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول سورة جامعة فأقرأه: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبيا لا أزيد عليها أبدا ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح الرويجل، أفلح الرويجل- ثم قال- علي به- فجاءه فقال له: أمرت بيوم الأضحى جعله الله عيدا لهذه الأمة» فقال الرجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى فأضحي بها؟ قال: لا، ولكنك تأخذ من شعرك، وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذاك تمام أضحيتك عند الله عزّ وجل» وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي عبد الرحمن المقري به. وروى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن» ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن مسلم، وقد رواه البزار بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن» هذا لفظه. وروى الترمذي أيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة. وروى أيضا عن أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «هل تزوجت يا فلان» قال: لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج؟ قال: «أليس معك قل هو الله أحد؟» قال: بلى، قال: «ثلث القرآن» قال: أليس معك «إذا جاء نصر الله والفتح؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك قل يا أيها الكافرون؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك إذا زلزلت الأرض؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن، تزوج» ثم قال: هذا حديث حسن، تفرد بهن ثلاثتهن الترمذي لم يروهن غيره من أصحاب الكتب). وقال الألوسي: (وصح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس

كلمة في سورة الزلزلة ومحورها

مرفوعا: «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن» وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا، ووجه ما في الأول بأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة إجمالا، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال، وبحديث الإخبار، وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر». وكأنه لما ذكر عزّ وجل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته فبينه جل شأنه في هذه السورة). وقال صاحب الظلال عن هذه السورة: (إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة. هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي، وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بعض فقرات قصار). كلمة في سورة الزلزلة ومحورها: بعد الآيات التي شكلت محور سورة البينة من سورة البقرة، يأتي قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لاحظ كلمة (ثم إليه ترجعون) ولاحظ أن سورة الزلزلة تتحدث عن رجوع الإنسان إلى الله، وعن يوم الرجوع ذاك إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ... فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. من هذا الذي ذكرناه نعرف محور سورة الزلزلة وندرك الصلة بين السورة ومحورها. وأما الصلة بين سورة الزلزلة والبينة فواضحة، حتى لتكاد تكون سورة الزلزلة استمرارا لسورة البينة، إذا إن خاتمة سورة البينة تتحدث عن جزاء الكافرين، وجزاء المؤمنين يوم القيامة، وتأتي سورة الزلزلة لتحدثنا عن ذلك اليوم، وما يكون فيه، وعن قاعدة الحساب والجزاء فيه، فلنر السورة.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة وهي ثماني آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) التفسير: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ أي: حركت الأرض زِلْزالَها أي: حركتها الشديدة التي ليس بعدها حركة. قال النسفي: أي: زلزالها الشديد الذي ليس بعده زلزال. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها قال ابن كثير: يعني: ألقت ما فيها من الموتى، وقال النسفي: أي: كنوزها وموتاها .. جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها. أقول: والحكمة في إخراج الكنوز مع الموتى إراءة الناس تفاهة ما تعبدوا له، وعملوا له، واختصموا فيه. قال ابن كثير: (وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلقى الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجئ القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجئ القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجئ السارق فيقول: في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا»). وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها قال النسفي: (أي: ما لها زلزلت هذه الزلزلة الشديدة، ولفظت ما في بطنها، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ موتاها أحياء فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون: من بعثنا من مرقدنا، وقيل: هذا قول الكافر؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث، فأما المؤمن فيقول: هذا ما وعد الرحمن وصدق

[سورة الزلزلة (99): آية 4]

المرسلون). يَوْمَئِذٍ أي: يوم يكون ذلك الزلزال، وإخراج الأثقال وتساؤل الإنسان تُحَدِّثُ الأرض أَخْبارَها أي: تحدث الأرض الخلق أخبارها، قال ابن كثير: (أي: تحدث بما عمل العاملون على ظهرها. روى الإمام أحمد والترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي- واللفظ له- عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب). بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي: بسبب أن ربك أذن لها أن تحدث، وأن تقول، قال النسفي: أي: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، أي: إليها، وأمره إياها بالتحديث يَوْمَئِذٍ أي: يوم يكون ذلك يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً قال النسفي: أي: يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف أشتاتا، بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين، أو يصدرون عن الموقف أشتاتا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار) وقال ابن كثير: (أي: يرجعون عن موقف الحساب أشتاتا أي: أنواعا وأصنافا ما بين شقي وسعيد، ومأمور به إلى الجنة ومأمور به إلى النار، قال ابن جريح: يتصدعون أشتاتا فلا يجتمعون آخر ما عليهم، وقال السدي: أشتاتا فرقا). لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي: ليروا جزاء أعمالهم. قال ابن كثير: أي: ليعملوا ويجازوا بما عملوه في الدنيا من خير وشر، ولهذا قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي: يرى جزاءه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ أي جزاءه، والذرة هي غاية ما يضرب به المثل في الصغر، وقد رأينا في سورة يونس وغيرها أن الله عزّ وجل ذكر ما هو أصغر من الذرة فقال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ .. فليس المراد في آية الزلزلة التحديد العلمي للذرة وأنها أصغر الأشياء، بل المراد أنه مهما قل العمل من خير أو شر فإن الإنسان ملاقيه، وليس كالذرة مضرب مثل في هذا؛ لأنه لا يوجد في الكون ما هو أصغر من الذرة كشئ متكامل. كلمة في السياق: واضح تسلسل السياق الخاص للسورة فلا حاجة للكلام عنه، وأما صلة السورة بمحورها فإن الله عزّ وجل قال في المحور: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقد ذكرت السورة متى يكون هذا الرجوع،

فائدة

وكيف يكون وماذا سيجرى فيه، فالسورة واضحة الارتباط بمحورها، فهي تفصل في جزء من المحور، وهو موضوع الرجوع إلى الله عزّ وجل، ولكنه تفصيل جديد فما من سورة إلا وفيها جديد. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال ابن كثير: (روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر. فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طيلها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن تسقى به كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر» فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: «ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» ورواه مسلم من حديث زيد بن أسلم به. وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية- عم الفرزدق- أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها. وهكذا رواه النسائي في التفسير عن الحسن البصري قال حدثنا صعصعة عم الفرزدق فذكره. وفي صحيح البخاري عن عدي مرفوعا: «اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة» وله أيضا في الصحيح: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط» وفي الصحيح أيضا: «يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» يعني: ظلفها، وفي الحديث الآخر: «ردوا السائل ولو بظلف محرق» وروى الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان» تفرد به أحمد. وروى عن عائشة أنها تصدقت بعنبة وقالت: كم فيها من مثقال ذرة. وروى الإمام أحمد عن عوف بن الحارث بن الطفيل أن عائشة أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة إياك ومحقرات

الذنوب فإن لها من الله طالبا» ورواه النسائي وابن ماجه. وروى ابن جرير عن أنس قال: كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة» ورواه ابن أبي حاتم. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجئ بالعود والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها.).

المجموعة الرابعة عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الرابعة عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: العاديات، والقيامة، والتكاثر

كلمة في المجموعة الرابعة عشرة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الرابعة عشرة من قسم المفصل: تتألف المجموعة الرابعة عشرة من ثلاث سور، والذي دلنا على بدايتها أن السورة الأولى منها مبدوءة بقسم، وهي علامة مطردة على بداية المجموعات كما رأينا، والذي دلنا على نهايتها أن سورة العصر بعدها مبدوءة بقسم مما يشير إلى أن سورة التكاثر هي نهاية المجموعة. وقد عرفنا أن السورة المبدوءة بقسم تفصل في مقدمة سورة البقرة، وهذا يدلنا على محور سورة العاديات، وقد رأينا من قبل أن سورة الحاقة فصلت في مقدمة سورة البقرة، والملاحظ أن سورة القارعة تشبه سورة الحاقة، ففي سورة الحاقة. ورد قوله تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ* كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وفي سورة القارعة يأتي قوله تعالى: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ لاحظ وجود كلمة القارعة في السورتين. وأن لفظ القارعة في سورة الحاقة تفسير للحاقة، وهذا يشير إلى أن السورتين تصبان في مصب واحد، مما يشير إلى وحدة محور السورتين. والملاحظ أن سورة الحاقة تقول: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ .. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ... وأن سورة القارعة تقول: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ* فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ .. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ .. تتشابهان تشابها كبيرا مما يشير إلى وحدة محورهما. فإذا كان محور سورة الحاقة هو مقدمة سورة البقرة فكذلك سورة القارعة. وعلى هذا فإن محور سورتي العاديات والقارعة هو مقدمة سورة البقرة. وتأتي سورة التكاثر والظاهر من معانيها أنها تفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة، أي: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومن ثم تجد سورة التكاثر تخاطب الناس فتقول: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. إن ما بعد مقدمة سورة البقرة دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله عزّ وجل شكرا له على نعمه. ولكن كثيرين من الناس تشغلهم النعمة عن المنعم، ولذلك تأتي سورة التكاثر لتؤنب هؤلاء على اشتغالهم بالنعمة عن المنعم حتى ماتوا، وتعالج هذه الظاهرة، والملاحظ بشكل عام أن المجموعة الرابعة عشرة تعالج بشكل عام ظواهر مرضية في الطبيعة البشرية تنأى بها عن الحق وقبوله، فلنبدأ عرض المجموعة.

سورة العاديات

سورة العاديات وهي السورة المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الرابعة عشرة من قسم المفصل، وهي إحدى عشر آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة العاديات

بين يدي سورة العاديات: قال الألوسي عن هذه السورة: (ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر أتبع ذلك فيها بتعنيف من آثر دنياه على آخرته، ولم يستعد لها بفعل الخير، ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وقوله سبحانه هنا: إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ من المناسبة أو العلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأثقال ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم، والكنوز). وقال صاحب الظلال: (يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا، في خفة وسرعة وانطلاق، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف! وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة، القادحة للشرر بحوافرها، المغيرة مع الصباح، المثيرة للنقع وهو الغبار، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة، وتثير في صفوفه الذعر والفرار! يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد. ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور!. وفي الختام ينتهي النقع المثار، وينتهي الكنود والشح، وتنتهي البعثرة والجمع ... إلى نهايتها جميعا. إلى الله. فتستقر هناك: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ .. والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة، كما تناسب جو الجحود والكنود، والأثرة والشح الشديد. فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك، تثيره الخيل العادية في جريها، الصاخبة بأصواتها القادحة بحوافرها، المغيرة فجاءة مع الصباح، المثيرة للنقع والغبار، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار .. فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار. يقسم الله سبحانه يخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر

كلمة في سورة العاديات ومحورها

منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار. غبار المعركة على غير انتظار. وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب!. إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة .. والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله). كلمة في سورة العاديات ومحورها: تتحدث سورة العاديات عن طبيعة الإنسان، وأنه جحود، وأنه محب لمصلحته ومنفعته وهي تعالج هذا المعنى عند الإنسان، بتذكيره بالبعث والحساب، ومعرفة الله عزّ وجل، وإذا تذكرنا مقدمة سورة البقرة فإننا نرى أنها تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين، وهذه السورة تتحدث عن سبب الكفر والنفاق، وتعالج ذلك ليكون الإنسان من المتقين، وهذه هي الصلة الرئيسية لهذه السورة بمقدمة سورة البقرة. انتهت سورة الزلزلة بقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وسورة العاديات تتحدث عن طبيعة الإنسان وكنوده ومحبته للمال والدنيا، وتعالج ذلك. وفي ذلك حض على فعل الخير وترك الشر فالسورة كثيرة الصلات بما قبلها. سورة العاديات وهي إحدى عشرة آية وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

التفسير

التفسير: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قال ابن كثير: يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت، وهو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو. أقول: والتقدير: والخيل العاديات يضبحن ضبحا فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال ابن كثير: (يعني اصطكاك نعالها بالصخر فتقدح منه النار) قال النسفي: (والقدح: الصك، والإيراء: إخراج النار) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قال ابن كثير: (يعني الإغارة وقت الصباح). قال النسفي: (فالمغيرات تغير على العدو وقت الصبح) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً قال النسفي: أي: فهيجن بذلك الوقت غبارا، وقال ابن كثير في الآية: يعني غبارا في مكان معترك الخيول فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال النسفي: فوسطن به أي: بذلك الوقت جمعا جموع الأعداء، ووسطه بمعنى توسطه إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال النسفي: أي لكفور أي: إنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران. قال ابن كثير: هذا هو المقسم عليه. بمعنى: إنه لنعم ربه لكفور جحود وَإِنَّهُ أي: وإن الإنسان عَلى ذلِكَ أي: على كنوده لَشَهِيدٌ أي: يشهد على نفسه، وعلى هذا القول محمد بن كعب القرظي. قال ابن كثير: فيكون تقديره: وإن الإنسان على كونه كنودا لشهيد أي: بلسان حاله أي ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله وَإِنَّهُ أي: الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ قال النسفي: (أي: وإنه لأجل حب المال لبخيل ممسك، أو إنه لحب المال لقوي وهو لحب عبادة الله ضعيف) وقال ابن كثير: (أي: وإنه لحب الخير- وهو المال- لشديد، وفيه مذهبان: أحدهما أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال والثاني وإنه لحريص بخيل من محبة المال وكلاهما صحيح).

[سورة العاديات (100): آية 9]

أقول: يمكن أن يكون المراد بالخير في هذا السياق ما هو أعم من المال. من ما يدخل في كل ما يعتبره الإنسان خيرا لنفسه. قال ابن كثير: ثم قال تبارك وتعالى مزهدا في الدنيا، ومرغبا في الآخرة، ومنبها على ما هو كائن بعد هذه الحال وما يستقبله الإنسان من الأهوال أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي: أفلا يعلم الإنسان إذا بعث من في القبور من الموتى، وقال ابن كثير: أي: أخرج ما فيها من الأموات وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ قال النسفي: أي ميز ما فيها من الخير والشر. قال ابن عباس وغيره: يعني: أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ قال النسفي: أي: لعالم، فيجازيهم على أعمالهم من الخير والشر. وخص (يومئذ) بالذكر وهو عالم بهم في جميع الأزمان، لأن الجزاء يقع يومئذ، وقال ابن كثير: أي العالم بجميع ما كانوا يصنعون ومجازيهم عليه أوفر الجزاء، ولا يظلم مثقال ذرة. كلمة في السياق: انصب السياق على ذكر طبيعة الإنسان فهو كنود ويحب المال والمنافع الدنيوية، وذكرت السورة علاج هاتين الصفتين، وذلك يكون بتذكر البعث، وما يكون فيه من تحصيل ما في الأنفس، وعلم الله عزّ وجل بها، إن هذا التذكر هو الذي يحرر الإنسان من كنوده، وحبه الشديد للمال حتى لا يلقى الله عزّ وجل بأمراضه المخجلة تلك، فإذا علم الإنسان ذلك تحرر من الكفر، وأقبل على الإيمان والصلاة والإنفاق، واتباع كتاب الله عزّ وجل، فلا صارف يصرف عن هذه الأشياء مثل جحود نعم الله عزّ وجل ومحبة الدنيا، ومن هذا الذي ذكرناه ندرك سياق السورة الخاص، وصلتها بمحورها أي: بمقدمة سورة البقرة، فالسورة تحرر الإنسان مما يمنعه من التحقق بصفات المتقين، إن الجحود لنعم الله عزّ وجل ينتج عن الكفران الذي لا يرافقه اعتراف ولا عبودية، ومن ثم فلا إيمان ولا صلاة ولا اتباع كتاب. وإن حب المال ينتج عنه حجب الحقوق، وعدم الإنفاق وينتج عنه، قبول الفتنة في أمر الإسلام. وإن ما بين قوله تعالى في هذه السورة: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ .. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. وبين قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لصلة، فمن الصوارف التي تصرف الإنسان عن قبول الإنذار شحه وحبه للدنيا.

الفوائد

الفوائد: 1 - القول الراجح أن المراد بالقسم الوارد في السورة الخيل، وهناك خلاف. هل المراد بها خيل الغزاة أو خيل الحجيج في انطلاقها من عرفات إلى مزدلفة إلى منى. وهو خلاف لا يوقف عنده. فالحج نوع جهاد في سبيل الله، ولا شك أن في القسم بالخيل تعظيما لها. كآلة جهاد، وهذا يجعل المسلم يفكر دائما بآلات الجهاد. 2 - مما قالوه في الكنود سوى ما ذكرناه، ما قال الحسن: الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه، وقال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ- قال-: الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده» ورواه ابن أبي حاتم من طريق آخر بإسناد ضعيف، وقد رواه ابن جرير أيضا عن أبي أمامة موقوفا).

سورة القارعة

سورة القارعة وهي السورة الحادية بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الرابعة عشرة من قسم المفصل، وهي إحدى عشرة آية وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة القارعة

بين يدي سورة القارعة: قال صاحب الظلال عن هذه السورة: (القارعة: القيامة. كالطامة، والصاخة، والحاقة، والغاشية، والقارعة توحي بالقرع واللطم، فهي تقرع القلوب بهولها. والسورة كلها عن هذه القارعة. حقيقتها. وما يقع فيها. وما تنتهي إليه .. فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة. والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال. فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم: فهم كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك، وهو لا يملك لنفسه وجهة، ولا يعرف له هدفا! وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام! فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها، مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء! وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر، تمهيدا لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء). وقال الألوسي: (ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تذكر). كلمة في سورة القارعة ومحورها: تحدثت مقدمة سورة البقرة عن المتقين والكافرين والمنافقين، والمنافقون كافرون في المآل. وسورة القارعة تتحدث عن حال المتقين والكافرين يوم القيامة، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة سورة القارعة بمقدمة سورة البقرة، ومقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين بأنهم يؤمنون بالآخرة وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ وتتحدث عن الكافرين وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وسورة القارعة تتحدث عن اليوم الآخر وعما يكون فيه من فلاح لأهل العمل الصالح، ومن عذاب وخسران لأهل الكفر، ولذلك صلة بمقدمة سورة البقرة كذلك. وقد ختمت سورة العاديات بقوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ* إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وجاءت سورة القارعة لتحدثنا

سورة القارعة

عن الساعة التي تبعثر فيها القبور، وتحدثنا عما يكون فيها، وهذا مظهر من مظاهر صلتها بما قبلها، ولعلنا نلاحظ أن هذه المجموعة لها خصائص معينة في كونها تعالج معاني سلبية في الإنسان وذلك مظهر من مظاهر أسباب تعدد المجموعات القرآنية، إذ تؤدي كل منها خدمة في مجال التربية والتعليم، والبيان والتفصيل، وهو مدى لا يحاط به. ومن ثم فلا يغني عن ختم القرآن وتكراره شئ. فكل سورة فيها جديد، وكل مجموعة فيها جديد، وكل قسم فيه جديد، وكل ذلك يترك آثاره الخاصة في النفس البشرية. سورة القارعة وهي إحدى عشرة آية وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) التفسير: الْقارِعَةُ قال ابن كثير: القارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامة والصاخة والغاشية وغير ذلك مَا الْقارِعَةُ هذا سؤال يراد به تعظيم أمرها وتفخيم شأنها: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ قال النسفي: أي شئ أعلمك ما هي، ومن أين علمت ذلك؟ أقول: وفي السؤال الثاني كذلك تفخيم آخر لشأنها. قال ابن كثير: ثم فسر ذلك بقوله: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ قال النسفي: (شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير

[سورة القارعة (101): آية 5]

الفراش إلى النار وقال ابن كثير في الآية: (أي في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم من حيرتهم مما هم فيه كأنهم فراش مبثوث) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ قال النسفي: شبه الجبال بالعهن: وهو الصوف المصبغ ألوانا لأنها ألوان وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وبالمنفوش منه لتفرق أجزائها. قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى عما يؤول إليه كل العاملين، وما يصيرون إليه من الكرامة والإهانة بحسب أعمالهم. فقال: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ قال النسفي: أي باتباعهم الحق وهي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وحظ عند الله أو جمع ميزان وثقلها رجحانها، وقال ابن كثير: أي رجحت حسناته على سيئاته فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي: ذات رضا أو مرضية. قال ابن كثير: يعني في الجنة وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ قال النسفي: أي باتباعه الباطل. قال ابن كثير: أي رجحت سيئاته على حسناته فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قال النسفي: أي فمسكنه ومأواه النار، وقيل للمأوى أم على التشبيه لأن الأم مأوى الولد ومفزعه. وقال ابن كثير: قيل معناه فهو ساقط في الهاوية، وهي اسم من أسماء النار وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ قال النسفي: الضمير يعود إلى هاوية والهاء للسكت، ثم فسرها الله عزّ وجل فقال: نارٌ حامِيَةٌ قال النسفي: أي بلغت النهاية في الحرارة. كلمة في السياق: بينت السورة عاقبة المتقين الذين ثقلت حسناتهم، وعاقبة الكافرين الذين لا يقبل الله عزّ وجل منهم عملا، وفي ذلك دعوة للإيمان والتقوى والعمل الصالح، كما أن فيها دعوة للتحرر من الكفر والفجور، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة لا تخفى. فائدة: بمناسبة قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ* وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ قال ابن كثير: (روى ابن جرير عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال: إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيقولون: روحوا أخاكم فإنه كان في غم الدنيا قال: ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول: مات أو ما جاءكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية، وقد رواه ابن مردويه من طريق أنس بن مالك مرفوعا بأبسط من هذا وقد أوردناه في كتاب صفة النار- أجارنا الله تعالى منها بمنه وكرمه- وقوله تعالى: نارٌ

حامِيَةٌ أي: حارة شديدة الحر قوية اللهب والسعير. قال أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ فقال: «إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» ورواه البخاري، وفي بعض ألفاظه: «إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقال رجل: إن كانت لكافية؟ فقال: «لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا حرا فجرا» تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط مسلم .. وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة» وقد روي هذا من حديث أنس وعمر بن الخطاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان يغلي منهما دماغه» وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها» وفي الصحيحين: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم»).

سورة التكاثر

سورة التكاثر وهي السورة الثانية بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة والأخيرة من المجموعة الرابعة عشرة من قسم المفصل، وهي ثمان آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة التكاثر

بين يدي سورة التكاثر: قال الألوسي عن سورة التكاثر: (وآيها ثمان بالاتفاق. وهي تعدل ألف آية من القرآن. أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال: أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله تعالى وهو ضاحك في وجهه» فقيل: يا رسول الله من يقوى على ألف آية؟ فقرأ سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها ثم قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية» وذكر ناصر الدين ابن الميلق في سر ذلك أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية وكسر، فإذا تركنا الكسر كان الألف سدس القرآن وهذه السورة تشمل على سدس من مقاصد القرآن فإنها على ما ذكره الغزالي ستة، ثلاثة مهمة: وهي تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم، وتعريف الحال عند الرجوع إليه عزّ وجل، وثلاثة متمة، وهي تعريف أحوال المطيعين، وحكاية أقوال الجاحدين، وتعريف منازل الطريق، وأحدها معرفة الآخرة المشار إليه بتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى المشتمل عليه السورة، والتعبير على هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل من التعبير بالسدس. انتهى. والأمر- والله تعالى أعلم- وراء ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة). وقال صاحب الظلال عن هذه السورة: (هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير، قائم على شرف عال. يمد بصوته ويدوي بنبرته. يصيح بنوم غافلين مخمورين سادرين، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة، وحسهم مسحور. فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ. إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها. وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها. وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون! إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل .. أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ

كلمة في سورة التكاثر ومحورها

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ .. وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة .. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد .. وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها .. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق! ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!). كلمة في سورة التكاثر ومحورها: بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فالآيتان أمرتا بعبادة الله معللتان لذلك بأنه الخالق المنعم، ولكن كم من الناس يستجيبون لهذا الأمر؟ لا شك أن القليل هم المستجيبون، بدليل قوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وحتى هذا القليل تلهيه الدنيا عن القيام بالشكر حق الشكر، وقد جاءت سورة التكاثر لتحدثنا عن انشغال الكثير من الخلق بالدنيا، ولم تحدد السورة هذا الانشغال عن ماذا. بل حددت بماذا. والسياق يعرفنا عن ماذا كان الانشغال ومحور السورة يحدده كذلك، وهو الانشغال عن عبادة الله عزّ وجل وتقواه، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة سورة التكاثر بمحورها. وتنتهي سورة التكاثر بقوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ وقد رأينا أن آيتي المحور حدثتنا عن نعم الله علينا وطالبتنا بناء على ذلك بالعبادة والتقوى والتوحيد، ولكن كثيرين لا يفعلون ذلك فهم يتنعمون ولا يشكرون، ومن ثم أنذرت سورة التكاثر بأن السؤال عن النعيم كائن، وهذا كذلك من مظاهر صلة سورة التكاثر بمحورها من سورة البقرة. وكما أن للسورة صلتها الواضحة بمحورها فلها صلتها الواضحة بما قبلها، فسورة

سورة التكاثر

القارعة انتهت بقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ وسورة التكاثر بدأت بقوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ .. فلو قدرنا أن التكاثر ألهانا عن العمل المنجي من النار. لرأينا أن الصلة كاملة بين السورتين، ومن تأمل السورة. وتأمل سورة القارعة فإنه يجد أكثر من وشيجة تربط بين السورتين. سورة التكاثر وهي ثماني آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) التفسير: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ قال ابن كثير: يقول تعالى: أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها. وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها. روى ابن أبي حاتم الحديث الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ عن الطاعة حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ حتى يأتيكم الموت». أقول: في هذا الحديث دليل على ما ذهبنا إليه في تفسير عن أي شئ يكون الانشغال. فالانشغال بالتكاثر إنما هو انشغال عن العبادة والتقوى، ويدخل في التكاثر. التكاثر في الأموال والأولاد وغير ذلك مما يتكاثر في الدنيا كَلَّا قال النسفي: ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه سَوْفَ

[سورة التكاثر (102): آية 4]

تَعْلَمُونَ قال النسفي: أي: عند النزع سوء عاقبة ما كنتم عليه ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ قال النسفي: أي في القبور. وقال الحسن البصري في الآيتين: هذا وعيد بعد وعيد. أقول: هذان الوعيدان حملهما النسفي على ما رأينا، وسنرى أن ابن كثير يحملهما على الوعيد في شأن جهنم يوم القيامة كَلَّا قال النسفي: تكرير الردع للإنذار والتخويف لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ قال ابن كثير: أي لو علمتم حق العلم لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة حتى صرتم إلى المقابر. وقال النسفي: جواب لو محذوف أي: لو تعلمون ما بين أيديكم علم اليقين لفعلتم ما لا يوصف ولكنكم ضلال جهلة لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ هذا جواب قسم محذوف كما نص النسفي وغيره. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ قال النسفي: أي لترونها الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصه، وقال: كرره معطوفا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل، قال ابن كثير: هذا تفسير الوعيد المتقدم وهو قوله كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ توعدهم بهذا الحال وهو رؤية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خر كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبته من المهابة والعظمة. ومعاينة الأهوال على ما جاء به الأثر المروي في ذلك ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال ابن كثير: أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن، والرزق وغير ذلك، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته. كلمة في السياق: 1 - عالجت السورة موضوع انشغال الإنسان عن العبادة والتقوى وبينت أن علاج ذلك هو العلم اليقيني بما يكون أمام الإنسان، وبتذكر الجحيم، وتذكر السؤال، وقد فهمنا أن علاج ذلك هو هذا من سياق السورة. 2 - في السورة إنكار على من ينشغل بالتكاثر عن طاعة الله وإنذار له، وتهديد ووعيد، وذلك كله تأديب للإنسان أن ينشغل عن حقوق الله عزّ وجل بشيء. 3 - ومن السورة نعرف أن الانشغال بالنعمة عن المنعم خلق من أخلاق الكافرين، فالنعمة تقتضي شكرا، والشكر عبادة وتقوى. قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ومن هاهنا ندرك الصلة القوية بين السورة ومحورها من سورة البقرة كما ذكرنا من قبل.

الفوائد

الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألهاكم التكاثر- عن الطاعة- حتى زرتم المقابر- حتى يأتيكم الموت» وقال الحسن البصري: ألهاكم التكاثر في الأموال والأولاد: وروى الإمام أحمد عن مطرف- يعني ابن عبد الله بن الشخير- عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟» ورواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق شعبة به. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» تفرد به مسلم. وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به. وروى الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يهرم ابن آدم ويبقى منه اثنتان الحرص والأمل» أخرجاه في الصحيحين). 2 - جاء في السورة قوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ وكثيرون من الناس يظنون أن لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب (لو) وهو خلاف ما عليه جمهرة المفسرين إذ يعتبرون أن الكلام انتهى عند قوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ويعتبرون جواب لو محذوفا، ويعتبرون أن لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب قسم محذوف، إلا أن النسفي مع ذكره لهذا القول يذكر قولا آخر مضمونه أن لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب للآية قبلها وأنها تشير لرؤية الجحيم بالعقول والقلوب في الدنيا، ثم لترونها بأبصاركم يوم القيامة رؤية هي نفس اليقين، وخالصته وهو اتجاه لا غبار عليه. 3 - بمناسبة قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال ابن كثير: (وقال ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال «ما أجلسكما هاهنا؟» قالا: والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا

الجوع قال: «والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره» فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار فاستقبلتهم المرأة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟» فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال: مرحبا ما زار العباد شئ أفضل من نبي زارني اليوم، فعلق قربته بقرب نخلة وانطلق فجاءهم بعذق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا كنت اجتنيت» فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ثم أخذ الشفرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إياك والحلوب» فذبح لهم يومئذ فأكلوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتسألن عن هذا يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا فهذا من النعيم» ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان به ورواه أبو يعلى وابن ماجه عن أبي هريرة عن أبي بكر الصديق به، وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحو من هذا السياق وهذه القصة .. وثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما فوق الإزار وظل الحائط وخبز، يحاسب به العبد يوم القيامة أو يسأل عنه» ثم قال لا نعرفه إلا بهذا الإسناد، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يقول الله عزّ وجل- قال عفان- وهو من رجال سند الحديث-: يوم القيامة: «يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل وزوجتك النساء وجعلتك تربع وترأس فأين شكر ذلك» تفرد به من هذه الوجه).

المجموعة الخامسة عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل

المجموعة الخامسة عشرة من القسم الرابع من أقسام القرآن المسمى بقسم المفصل وتشمل سور: العصر، والهمزة، والفيل، وقريش، والماعون، والكوثر، والكافرون، والنصر، والمسد، والإخلاص، والفلق، والناس

كلمة في المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل

كلمة في المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل تتألف المجموعة الخامسة عشرة من المفصل من اثنتي عشرة سورة فهي أكثر مجموعات القرآن عدد سور، وقد دلنا على بدايتها أن السورة الأولى فيها- وهي سورة العصر- مبدوءة بقسم، وقد رأينا أن ذلك علامة مطردة على أن مجموعة جديدة قد أتت، وعند ما نتأمل بدايات السور الأخرى، ومواضيعها ومعانيها، فإننا نصل إلى أنها جميعا أسرة في مجموعة واحدة، وسنرى أدلة ذلك تفصيلا. والملاحظ أن سور هذه المجموعة تغطي من سورة البقرة إلى نهاية قصة آدم، فالسور الخمس الأولى منها تغطي مقدمة سورة البقرة، حتى إن السورة الخامسة فيها كلام عن المنافقين، كما أن مقدمة سورة البقرة فيها كلام عن المنافقين، فالسور الخمس تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين كما سنرى، ثم تأتي السور الأربع التالية: الكوثر، والكافرون، والنصر، والمسد، لتفصل في الآيات السبع التالية لمقدمة سورة البقرة، ومن ثم نجد فيها فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ونجد فيها قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ونجد فيها فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ونجد فيها تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وكلها معان ترتبط بمعاني الآيات السبع الآتية بعد مقدمة سورة البقرة بدقة عجيبة كما سنرى، ثم تأتي سورة الإخلاص لتفصل في الآيتين الآتيتين بعد الآيات السبع هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ونجد سورة الإخلاص مبدوءة بقوله تعالى قُلْ هُوَ ... وتأتي بعد ذلك في سورة البقرة قصة آدم عليه السلام، وفيها حسد إبليس ووسوسته، وتأتي سورة الفلق وفيها وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ وتأتي سورة الناس وفيها قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ .. مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ .... فسور المجموعة مترابطة الصلات مع محاورها من سورة البقرة بشكل واضح، وسنرى هذا تفصيلا عند الحديث عن كل سورة على حدة. ومع أن سور المجموعة منها المكي ومنها المدني، ومع ذلك فإنها في ترتيبها تسير على نسق واحد- هو ترتيب المعاني الموجود في سياق سورة البقرة- مما يدلك قطعا على أن ترتيب القرآن رباني، ومما يدلك قطعا على أن هذا القرآن يستحيل أن يكون بشري المصدر.

سورة العصر

سورة العصر وهي السورة الثالثة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الأولى من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي ثلاث آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة العصر

بين يدي سورة العصر: قال الألوسي في سورة العصر: (وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت، فقد روي عن الشافعي عليه الرحمة أنه قال: لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس؛ لأنها شملت جميع علوم القرآن. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة- وكانت له صحبة- قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر، ثم يسلم أحدهما على الآخر، وفيها إشارة إلى حال من لم يلهه التكاثر، ولذا وضعت بعد سورته). وقال صاحب الظلال: (في هذه السورة القصيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام. وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة. إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار. وتصف الأمة المسلمة: حقيقتها ووظيفتها. في آية واحدة وهي الآية الثالثة من السورة .. وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله. والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه: إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار. وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناجح. هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه. وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار. وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ. إنه الإيمان. والعمل الصالح. والتواصي بالحق. والتواصي بالصبر .. ). كلمة في سورة العصر ومحورها: تبدأ سورة البقرة بقوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ

سورة العصر

إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. لاحظ قوله تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثم لاحظ أن سورة العصر تبدأ بقوله تعالى وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ .... فالآيات الأولى من سورة البقرة تتحدث عن المفلحين، وسورة العصر تتحدث عن المفلحين ولكن بتفصيل جديد؛ إذ تبدأ بالقسم على أن جنس الإنسان في خسر إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فهي تفصيل للتقوى ولأخلاق المتقين الذي وصفهم الله عزّ وجل بالفلاح في أول سورة البقرة، لقد وصفت آيات سورة البقرة المتقين بالإيمان والصلاة والإنفاق، وكل ذلك داخل في الإيمان والعمل الصالح، وأما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فهما يدخلان في قوله تعالى: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فالقرآن حق يجب التواصي به، والقرآن أمر بالصبر، فسورة العصر أبرزت أن مما يدخل في الاهتداء بكتاب الله عزّ وجل التواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهي تفصيل للآيات الخمس الأولى من مقدمة سورة البقرة، لكنه تفصيل جديد فيه تحديد وفيه بيان. رأينا أن سورة التكاثر بدأت بقوله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وانتهت بقوله تعالى ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ وسورة العصر تتحدث عن جنس الإنسان أنه في خسران إلا من اتصف بصفات أربع، فكأن سورة العصر تحدثنا عن طريق النجاة بعد أن ذكرت سورة التكاثر انشغال الإنسان، واستغراقه بالنعمة عن المنعم، فالصلة بين سورة العصر وما قبلها واضحة وسنرى أن صلتها بما بعدها قائمة. سورة العصر وتتألف من ثلاث آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

التفسير

التفسير: وَالْعَصْرِ قال النسفي: أقسم بصلاة العصر لفضلها .. ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم، أو أقسم بالعشي، كما أقسم بالضحى لما فيها من دلائل القدرة، أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب، والذي رجحه ابن كثير: هو القول الأخير ففسر العصر بأنه الزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم من خير وشر .. فأقسم تعالى بذلك على أن الإنسان لفي خسر إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ قال النسفي: أي جنس الإنسان لفي خسران من تجاراتهم (أي: الأخروية) وقال ابن كثير: أي في خسارة وهلاك إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أي: بقلوبهم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بجوارحهم وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ قال النسفي: أي بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله، من توحيد الله، وطاعته واتباع كتبه ورسله، وفسر ابن كثير الحق بأنه أداء الطاعات وترك المحرمات. أقول: قال تعالى وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فالحق: القرآن والسنة، فالمفلحون الناجحون يتواصون بالكتاب والسنة فهما وعملا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ قال النسفي: (أي عن المعاصي، وعلى الطاعات، وعلى ما يبلو به الله عباده) وقال ابن كثير: أي على المصائب والأقدار، وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، وهكذا حددت سورة العصر طريق الفلاح والنجاة بأربعة أشياء، وقد أهمل كثير من المسلمين في عصرنا الشيئين الأخيرين، وقصروا في الأولين. كلمة في السياق: رأينا كيف أن سورة العصر تفصل في الآيات الخمس الأولى من مقدمة سورة البقرة، فكما أن هذه الآيات الخمس رسمت طريق الفلاح فكذلك سورة العصر.

الفوائد

الفوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة العصر بقوله: (ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب وذلك بعد ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يسلم عمرو فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال: وما هي؟ فقال وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسترك حفر نفر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف (بمساوي الأخلاق) - في الجزء الثاني منه- شيئا من هذا أو قريبا منه. والوبر دويبة تشبه الهر أعظم شئ فيه أذناه، وصدره وباقيه دميم، فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان. وذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله ابن حصن قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر. وقال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم). 2 - قال صاحب الظلال: (أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالهما صورة الأمة المسلمة- أو الجماعة المسلمة- ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، والوجهة الموحدة. الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها. والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح، الذي يشمل فبما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح، فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى. فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة- أو الجماعة- المتضامة المتضامنة. الأمة الخيرة. الواعية. القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير .. وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة .. وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام .. هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن ..

والتواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير. والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة، وطغيان الطغاة وظلم الظلمة، وجور الجائرين .. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء، والأمانة. فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معا فتتضاعف. تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله .. وهذا الدين- وهو الحق- لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامة متضامنة على هذا المثال. والتواصي بالصبر كذلك ضرورة. فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة. ولا بد من الصبر. لا بد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير. والصبر على الأذى والمشقة. والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر. والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية!. والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، وتساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار .. إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها، ولا تبرز إلا من خلالها .. وإلا فهو الخسران والضياع) ..

سورة الهمزة

سورة الهمزة وهي السورة الرابعة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل- وهي تسع آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة الهمزة ومحورها

كلمة في سورة الهمزة ومحورها: بعد الآيات الخمس الأولى من سورة البقرة والتي فصلت فيها سورة العصر يأتي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ والملاحظ أن سورة الهمزة تتحدث عن الكافرين وعذابهم العظيم، وتذكر بعض صفات الكافرين الرئيسية، فتعرفنا على الأسباب التي استحقوا بها أن يختم الله عزّ وجل على قلوبهم وعلى سمعهم، وأن يجعل على أبصارهم غشاوة، فالسورة واضحة الصلة بالمحور الذي ذكرناه من مقدمة سورة البقرة. رأينا أن سورة العصر ذكرت أن جنس الإنسان في خسر إلا من اتصف بصفات معينة، وتأتي سورة الهمزة لتحدد صفات الخاسرين ومظهر خسارهم، فللسورة صلتها بما قبلها، وهكذا نجد أن للسورة سياقها الخاص وصلتها بمحورها وصلتها بما قبلها. قال الألوسي: (ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الإنسان- سوى من استثنى- في خسر، بين فيها أحوال بعض الخاسرين). سورة الهمزة وتتألف من تسع آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

التفسير

التفسير: وَيْلٌ أي: خسار وهلاك وعذاب لِكُلِّ هُمَزَةٍ قال النسفي: أي الذي يعيب الناس من خلفهم لُمَزَةٍ قال النسفي: أي من يعيبهم مواجهة، وقال ابن كثير: الهماز بالقول، واللماز بالفعل، يعني: يزدري الناس وينتقص منهم الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ قال النسفي: أي جعله عدة لحوادث الدهر، وقال ابن كثير: أي جمعه بعضه على بعض وأحصى عدده ... وقال محمد بن كعب: أي ألهاه ماله بالنهار هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ قال ابن كثير: أي يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار كَلَّا قال النسفي: ردع له عن حسبانه. وقال ابن كثير: أي ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أي: في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها، أي ليلقين هذا الإنسان في النار وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ قال النسفي: هذا تعجيب وتعظيم. أقول: ثم فسر الله الحطمة بقوله نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ أي: هي أي الحطمة نار الله المشعلة ثم وصفها الله عزّ وجل بقوله: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ قال النسفي: (هي أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب ولا شئ في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه، وقيل خص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة، ومعنى اطلاع النار عليها أنها تشتمل عليها). وقال ابن كثير: (قال ثابت البناني: تحرقهم إلى الأفئدة، وهم أحياء، ثم يقول: لقد بلغ منهم العذاب ثم يبكي، وقال محمد بن كعب: تأكل كل شئ من جسده حتى إذا بلغت فؤاده حذو حلقه ترجع على جسده). إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي: مغلقة مطبقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ قال النسفي: أي تؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقا في استيثاق. قال ابن كثير: وقال قتادة: كنا نحدث أنهم يعذبون بعمد في

كلمة في السياق

النار، واختاره ابن جرير، وقال أبو صالح فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ يعني: القيود الثقال. كلمة في السياق: 1 - ذكرت السورة أن من صفات الكافرين الهمز واللمز وجمع المال، ولتصورهم أن في المال كل شئ، ومن ذلك الخلود، وهي تصورات وأعمال تنبثق عن الكفر بدليل ما ورد في السورة في ذكر تعذيب هذا النوع من الناس، وإذا وقع مسلم في هذه الأخلاق فإنه يكون قد سرت إليه أخلاق الكافرين ولم يتهذب بأخلاق الإيمان. 2 - فصلت السورة في العذاب العظيم الذي يستأهله الكافرون إذ بدأت بقوله وَيْلٌ ثم ذكرت لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ* نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ* إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ وذلك كله تفصيل للعذاب العظيم المعد للكافرين، وذلك في مظاهر صلة السورة بمحورها من سورة البقرة. 3 - في محور السورة من سورة البقرة رأينا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وفي هذه السورة بيان لأخلاق كافرة عنها ينبثق الجحود والإنكار ورفض الإنذار، فمن كان همه عيب الآخرين وانتقاصهم واحتقارهم لا يقبل إنذارا من أحد لنظرته السيئة إلى الخلق، ومن كان همه جمع المال لا يكون عنده محل للإنذار، ومن يتصور أن في المال الخلود فهذا ليس له إلى الآخرة تطلعات، ولذلك لا يقبل إنذارا، وبهذا ننهي الكلام عن سورة الهمزة.

سورة الفيل

سورة الفيل وهي السورة الخامسة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثالثة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل- وهي خمس آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الفيل

بين يدي سورة الفيل: قال الألوسي عن سورة الفيل: (مكية وآيها خمس بلا خلاف فيهما، وكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له- عليه الصلاة والسلام- عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل، للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم، فإن عناية الله عزّ وجل برسوله- صلى الله تعالى عليه وسلم- أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيت، فالسورة مشيرة إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئا، أو على قدرته عزّ وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ الخ). كلمة في سورة الفيل ومحورها: تأتي سورة الفيل وكأنها امتداد لسورة الهمزة، إذ إنها تلفت النظر إلى حادثة مشهورة معروفة عذب الله بها قوما في الدنيا، وذلك يأتي كالدليل على قدرته أن يعذب الكافرين يوم القيامة، ومحور سورة الفيل هو محور سورة الهمزة نفسه وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إنك لو وضعت بعد هاتين الآيتين قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ .. لوجدت المعنى منسجما، فالدليل على أن الله سيعذب الكافرين عذابا عظيما ما فعله بهؤلاء الكافرين الذين أرادوا أن يكيدوا لبيت الله، هذا عذابهم في الدنيا فكيف بعذابهم يوم القيامة. ولنقدم للكلام عن سورة الفيل بذكر القصة كما ذكرها ابن كثير، ثم بنقل تعليق على الحادثة لصاحب الظلال: قصة أصحاب الفيل قال ابن كثير: (وهذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود أن ذا نواس وكان آخر ملوك حمير وكان مشركا وهو الذي قتل أصحاب الأخدود وكانوا نصارى، وكانوا قريبا من عشرين ألفا فلم

يفلت منهم إلا دوس ذو ثعلبان، فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام وكان نصرانيا، فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة لكونه أقرب إليهم، فبعث معه أميرين أرياط وأبرهة ابن الصباح أبا يكسوم في جيش كثيف، فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار، واستلبوا الملك من حمير، وهلك ذو نواس غريقا في البحر، واستقل الحبشة بملك اليمن، وعليهم هذان الأميران أرياط وأبرهة، فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا فقال أحدهما للآخر: إنه لا حاجة بنا إلى اصطلام الجيشين بيننا، ولكن أبرز إلي وأبرز إليك، فأينا قتل الآخر استقل بعده بالملك، فأجابه إلى ذلك، فتبارزا وخلف كل واحد منهما قناة فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف فشرم أنفه وفمه وشق وجهه، وحمل عتودة مولى أبرهة على أرياط فقتله ورجع أبرهة جريحا فداوى جرحه فبرأ، واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن، فكتب إليه النجاشي يلومه على ما كان منه ويتوعده، ويحلف ليطأن بلاده ويحزن ناصيته، فأرسل إليه أبرهة يترقق له ويصانعه، وبعث مع رسوله بهدايا وتحف، وبجراب فيه من تراب اليمن، وجز ناصيته، فأرسلها معه ويقول في كتابه: ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه، وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك، فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ورضي عنه وأقره على عمله، وأرسل أبرهة يقول للنجاشي: إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يبن قبلها مثلها، فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء رفيعة البناء، عالية الفناء، مزخرفة الأرجاء، سمتها العرب القليس لارتفاعها، لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها، وعزم أبرهة الأشرم على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة ونادى بذلك في مملكته، فكرهت العرب- العدنانية والقحطانية- ذلك، وغضبت قريش لذلك غضبا شديدا حتى قصدها بعضهم، وتوصل إلى أن دخلها ليلا وأحدث فيها وكر راجعا، فلما رأى السدنة ذلك الحدث رفعوا أمره إلى ملكهم أبرهة وقالوا له: إنما صنع هذا بعض قريش غضبا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة وليخربنه حجرا حجرا. وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارا، وكان يوما فيه هواء شديد فاحترقت وسقطت إلى الأرض، فتأهب أبرهة لذلك، وصار في جيش كثيف عرمرم لئلا يصده أحد عنه، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله، يقال له محمود، وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك، ويقال كان معه أيضا ثمانية أفيال، وقيل اثنا عشر فيلا غيره، فالله أعلم، يعني ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في الأركان وتوضع في عنق الفيل ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة، فلما سمعت

العرب بمسيره أعظموا ذلك جدا ورأوا أن حقا عليهم المحاجبة دون البيت، ورد من أراده بكيد، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله وما يريده من هدمه وخرابه فأجابوه، وقاتلوا أبرهة فهزمهم لما يريده الله عزّ وجل من كرامة البيت وتعظيمه، وأسر ذو نفر فاستصحبه معه ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم اعترض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قومه شهران، وناهس، فقاتلوه فهزمهم أبرهة وأسر نفيل بن حبيب فأراد قتله ثم عفا عنه واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز، فلما اقترب من أرض الطائف خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات، فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال دليلا، فلما انتهى أبرهة إلى المغمس- وهو قريب من مكة- نزل به وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها فأخذوه، وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب، وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة، وكان يقال له الأسود بن مقصود فهجاه بعض العرب فيما ذكره ابن إسحاق، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وأمره أن يأتيه بأشرف قريش، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت، فجاء حناطة فدل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فاذهب معي إليه فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجله. وكان عبد المطلب رجلا جسيما حسن المنظر، ونزل أبرهة عن سريره وجلس معه على البساط، وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال للترجمان: إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي: فقال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني. أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك، ويقال إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت فأبى عليهم، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة والتحصن في رءوس الجبال تخوفا عليهم من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرون على أبرهة وجنده فقال

عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لا هم إن المرء يم … نع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم … ومحالهم أبدا محالك قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ثم خرجوا إلى رءوس الجبال. وذكر عن ابن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة لعل بعض الجيش ينال منها شيئا بغير حق فينتقم الله منهم، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وكان اسمه محمودا، وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك فى بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا فى رأسه بالطبرزين، وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، فأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا يصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق، هذا ونفيل على رأس الجبل مع قريش، وعرب الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة، وجعل نفيل يقول: أين المفر والإله الطالب … والأشرم المغلوب ليس الغالب قال ابن إسحاق: وقال نفيل في ذلك أيضا: ألا حييت عنا يا ودينا … نعمناكم مع الإصباح عينا ودينة لو رأيت ولا تريه … لدى جنب المحصب ما رأينا إذا لعذرتني وحمدت أمري … ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا … وخفت حجارة تلقى علينا فكل القوم تسأل عن نفيل … كأن علي للحبشان دينا وذكر الواقدي بإسناده: أنهم لما تعبأوا لدخول الحرم، وهيئوا الفيل، جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب فيها، فإذا وجهوه إلى الحرم ربض

وصاح، وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل، وينهره ويضربه؛ ليقهر الفيل على دخول الحرم، وطال الفصل في ذلك، هذا وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة فيهم المطعم ابن عدي وعمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومسعود بن عمرو الثقفي على حراء ينظرون ما الحبشة يصنعون؟ وماذا يلقون من أمر الفيل؟ وهو العجب العجاب، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم طيرا أبابيل أي قطعا قطعا صفرا دون الحمام وأرجلها حمر، ومع كل طائر ثلاثة أحجار، وجاءت فحلقت عليهم فهلكوا. وقال محمد بن إسحاق جاءوا بفيلين فأما محمود فربض، وأما الآخر فشجع فحصب. وقال وهب بن منبه: كان معهم فيلة فأما محمود وهو فيل الملك فربض ليقتدي به بقية الفيلة، وكان فيها فيل تشجع فحصب، فهربت بقية الفيلة وقال عطاء بن ياسر وغيره: ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة، بل منهم من هلك سريعا، ومنهم من جعل يتساقط عضوا عضوا وهم هاربون، وكان أبرهة ممن تساقط عضوا عضوا حتى مات ببلاد خثعم. وقال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون. وذكر مقاتل بن سليمان أن قريشا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم، وما كان معهم، وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة. قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رأيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤي به مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعثر ذلك العام، وهكذا روي عن عكرمة من طريق جيد. قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أي لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه. قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات ولم تتكلم العرب بواحدة. قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب). وقد علق صاحب الظلال تعليقات مطولة على بعض الاتجاهات الخاطئة في تفسير سورة الفيل ومن كلامه:

(إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه. وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون، وبمقدار ما يتهيئون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل، فهذه الخوارق- كما يسمونها- هي من سنة الله ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه! ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها- متى صحت الرواية- أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم. وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف. فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر .. إن طلوع الشمس وغروبها خارقة- وهي معهودة كل يوم- وإن ولادة كل طفل خارقة- وهي تقع كل لحظة-، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب! وإن تسليط طير- كائنا ما كان- يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقاءها في هذه الأرض، في هذا الأوان، وإحداث هذا الوباء في الجيش، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت .. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير. وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة. هذه من تلك، هذه خارقة وتلك خارقة على السواء .. فأما في هذا الحادث بالذات، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة، وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة، تحمل حجارة غير معهودة، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود .. نحن أميل إلى هذا الاعتبار. لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة، ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب. فقد كان الله- سبحانه- يريد بهذا البيت أمرا. كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة، في أرض حرة طليقة، لا يهيمن عليها أحد من خارجها، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها. ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها .. فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكل

سورة الفيل

مقوماته وبكل أجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وملابساته مفرد فذ .. ). سورة الفيل وهي خمس آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) التفسير: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ قال النسفي: يعجب الله نبيه من كفر العرب، وقد شاهدت هذه العظمة في آيات الله، والمعنى: أنك رأيت آثار صنع الله بالحبشة، وسمعت الأخبار به متواترة، فقامت لك مقام المشاهدة أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ قال النسفي: (أي في تضييع وإبطال ... ) يعني أنهم كادوا البيت أولا ببناء القليس ليصرفوا وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه. وكادوه ثانيا بإرادة هدمه فضلل كيدهم بإرسال الطير عليهم) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ قال الزجاج: جماعات من هاهنا وجماعات من هاهنا تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي: من آجر فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قال النسفي: (أي كزرع أكله الدود) فوائد 1 - كتب ابن كثير كلاما طويلا عن تفسير بعض مفردات السورة هذا هو: (قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم العرب بواحدة قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب. قال: وذكر بعض

المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج الحجر، والجل الطين، يقول: الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين، قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقضب، واحدته عصفة، انتهى ما ذكره. وقد قال حماد ابن سلمة عن عامر عن زر عن عبد الله وأبو سلمة بن عبد الرحمن: طَيْراً أَبابِيلَ قال: الفرق، وقال ابن عباس والضحاك: أبابيل يتبع بعضها بعضا، وقال الحسن البصري وقتادة: الأبابيل الكثيرة، وقال مجاهد: أبابيل شتى متتابعة مجتمعة، وقال ابن زيد: الأبابيل المختلفة تأتي من هاهنا ومن هاهنا، أتتهم من كل مكان، وقال الكسائي: سمعت بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل إبيل، وروى ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله ابن الحارث بن نوفل أنه قال في قوله تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ هي الأقاطيع كالإبل المؤبلة وروى عن ابن عباس: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ قال: لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، وروى عن عكرمة في قوله تعالى: طَيْراً أَبابِيلَ قال: كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع، وروى عن عبيد بن عمير طَيْراً أَبابِيلَ قال: هي طيور سود بحرية في مناقيرها وأظافيرها الحجارة وهذه أسانيد صحيحة؛ وقال سعيد بن جبير: كانت طيرا خضرا لها مناقير صفر، تختلف عليهم، وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء: كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مغرب، ورواه عنهم ابن أبي حاتم. وروى ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار مجزعة حجرين في رجليه وحجرا في منقاره قال: فجاءت حتى صفت على رءوسهم ثم صاحت، وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شئ من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا، وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس: بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال: طين في حجارة سنك وكل. وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا). 2 - عند قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ قال ابن كثير (والمعنى أن الله- سبحانه وتعالى- أهلكهم ودمرهم وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرا، وأهلك عامتهم، ولم يرجع منهم مخبر إلا وهو جريح، كما جرى لملكهم أبرهة، فإنه

انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء، وأخبرهم بما جرى لهم، ثم مات فملك بعده ابنه يكسوم، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة. ثم خرج سيف بن ذي يزن الحميري إلى كسرى فاستعانه على الحبشة فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه فرد الله إليهم ملكهم وما كان في آبائهم من الملك، وجاءته وفود العرب بالتهنئة. وقد قال محمد ابن إسحاق عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان. ورواه الواقدي عن عائشة مثله، ورواه عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: كانا مقعدين يستطعمان الناس عند إساف ونائلة حيث يذبح المشركون ذبائحهم (قلت) كان اسم قائد الفيل أنيسا). 3 - وبمناسبة سورة الفيل قال ابن كثير: (وقد قدمنا في تفسير سورة الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا: خلأت القصواء أي حرنت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها» ثم زجرها فقامت. والحديث من أفراد البخاري، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فيبلغ الشاهد الغائب»).

سورة قريش

سورة قريش وهي السورة السادسة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الرابعة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي أربع آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة قريش ومحورها

كلمة في سورة قريش ومحورها: تكاد سورة قريش أن تكون امتدادا لسورة الفيل، حتى لتكادا أن تكونا سورة واحدة، قال النسفي: (وهما في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل، ويروى عن الكسائي ترك التسمية بينهما)، وإذ كان الأمر كذلك فمحور سورة قريش هو نفسه محور سورة الفيل، فالسور الثلاث: الهمزة والفيل وقريش محورها واحد وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. سورة قريش وهي أربع آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) التفسير لِإِيلافِ قُرَيْشٍ قال ابن كثير: أي: لإيلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين، وقيل: المراد بذلك ما كانوا يألفونه في الرحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم لعظمتهم عند الناس، لكونهم سكان حرم الله فمن عرفهم احترمهم بل من صرف إليهم وسار معهم أمن بهم إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال النسفي: أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين تفخيما لأمر الإيلاف، وتذكيرا لعظيم النعمة فيه؛ قال ابن كثير: ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ قال ابن كثير: أي فليوحدوه بالعبادة كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما الَّذِي أَطْعَمَهُمْ قال النسفى: بالرحلتين مِنْ جُوعٍ شديد وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم. قال ابن

كلمة في السياق

كثير: أي هو رب البيت، وهو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، أي تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا، فمن استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه. كلمة في السياق: هناك ثلاث اتجاهات في تعليق قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ فمنهم من علقها بما قبلها أي بسورة الفيل، ومنهم من علقها بفعل محذوف تقديره أعجبوا، ومنهم من علقها بما بعدها في قوله تعالى فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ قال ابن كثير في عرض الاتجاه الأول: (هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام، كتبوا بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم. وإن كانت متعلقة بما قبلها كما صرح بذلك محمد بن إسحاق، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم لأن المعنى عندهما: حبسنا عن مكة الفيل، وأهلكنا أهله لإيلاف قريش. وعرض النسفي هذا القول بقوله: (يعني أن ذلك الإتلاف المذكور في سورة الفيل لهذا الإيلاف) وقال النسفي عارضا القول الثاني: (أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين) أي إن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقال ابن جرير عارضا القول الثالث: (الصواب أن اللام لام التعجب كأنه يقول: أعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك). وقال: لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان. أقول: وعلى ضوء هذه الأقوال الثلاثة فلنر محل السورة في السياق القرآني العام. قلنا إن محور سورة الهمزة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ورأينا أن سورة الهمزة فصلت في أخلاق الكافرين، وفي العذاب العظيم، وتأتي سورتا الفيل وقريش لتدللا على قدرة الله عزّ وجل على التعذيب بما حدث لأصحاب الفيل، وما رتب عليها من آثار لصالح قريش، وهذه تقتضي شكرا منهم لا كفرا، وتقتضي منهم أن يكونوا متقين لا كافرين، هذا على المعنى الأول الذي يقول إن السورتين متصلتان معنى.

فوائد

ومن خلال ما ذكرناه يتضح لنا صلة السورتين ببعضهما البعض، وصلتهما بمحورهما من سورة البقرة. وعلي المعنيين الثاني والثالث تبقى الصلة بين سورتي النيل وقريش قائمة. فما الصلة بين سورة قريش وبين محورها من سورة البقرة؟ بعد الجزم بأن محور سورة قريش هو نفسه محور سورتي الفيل والهمزة بدليل أن سورة الماعون ستفصل في الكلام عن المنافقين، أي ستفصل في الفقرة الثالثة من مقدمة سورة البقرة، فلم يبق إلا أن تكون سورة قريش تفصل في الفقرة الثانية من مقدمة سورة البقرة. أقول: هناك صلة بين سورة قريش ومحورها من سورة البقرة من حيثية دقيقة جدا: محور السورة هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هاتان الآيتان تذكران أن هناك كافرين لا ينفع معهم الإنذار، وهذه سورة قريش تنادي قريشا للإيمان، فكأن هذا يشير إلى أن قريشا مظنة خير، وأن كفارها عامة لم يصلوا إلى الحد الذي لم يعد ينفع معهم إنذار، ولذلك نودوا وخوطبوا وطولبوا، وجاءت الأحداث بعد ذلك، وإذا بقريش تصبح كلها مسلمة تقريبا. من هذا الربط بين سورة قريش ومحورها تدرك مظهرا من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن حيث إن معانيه تتكامل ولا تتناقض وتأتي الأحداث فتصدقها. ونرجو أن نكون بهذا والذي قبله قد ربطنا بين سورة قريش ومحورها على كل الأقوال في تفسيرها. فوائد: 1 - قدم ابن كثير لسورة قريش بقوله: (ذكر حديث غريب في فضلها) روى البيهقي في كتاب الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضل الله قريشا بسبع خلال: إني منهم، وإن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن الله نصرهم على الفيل، وإنهم عبدوا الله عزّ وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وإن الله أنزل فيهم سورة من القرآن- ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ

2 - وبمناسبة ذكر قريش في السورة قال النسفي: (وقريش ولد النضر بن كنانة سموه بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار. والتصغير للتعظيم فسموهم بذلك لشدتهم، ومنعتهم تشبيها بها، وقيل من القرش وهو الجمع والكسب، لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد). 3 - وبمناسبة قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أقول: لقد كان من حجج قريش الرئيسية في استمرارهم على الكفر قولهم الذي عرضته سورة القصص وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ وقد جاءت سورتا الفيل وقريش فأكملت الحجة على قريش، فالله عزّ وجل فعل بأصحاب الفيل ما فعل، وفعل لقريش ما فعل، وهم كفار أيتخلى عنهم إذا أسلموا؟ لقد أسلمت قريش فيما بعد فكيف كان واقع الحال؟ هل ازدادت مكة بعد الإسلام خوفا أو فقرا، أم ازدادت أمنا وغنى، وفي ذلك درس لكفار عصرنا الذين يرفضون الإسلام خوفا من عدو، أو خشية من فقر.

سورة الماعون

سورة الماعون وهي السورة السابعة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الخامسة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي سبع آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الماعون

بين يدي سورة الماعون: قال الألوسي عن سورة الماعون: (ولما ذكر سبحانه في سورة قريش أطعمهم من جوع، ذم عزّ وجل هنا من لم يحض على طعام المسكين، ولما قال تعالى هناك فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ذم سبحانه هنا من سها عن صلاته، أو لما عدد نعمه تعالى على قريش وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء، أتبع سبحانه امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه). وقال صاحب الظلال: (إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا. فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة .. إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس، ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى. كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء .. إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر .. غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء .. وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد. ولقد يقول الإنسان بلسانه: إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه، وقد يصلي، وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة، ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه، ويظل بعيدا عنها، لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها. وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان، ومهما تعبد الإنسان! إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها لكي تحقق ذاتها في عمل صالح).

كلمة في سورة الماعون ومحورها

كلمة في سورة الماعون ومحورها: بعد الكلام عن المتقين وعن الكافرين في مقدمة سورة البقرة يأتي الكلام عن المنافقين، ونقطة البداية في الكلام عن المنافقين كفرهم بالله وباليوم الآخر وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ هذه قراءة حفص وقرأ غيره بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي: يكذبون بالله واليوم الآخر، ذلك لأنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين، ومن ثم كانوا مكذبين بهما، وتأتي سورة الماعون مبدوءة بقوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم تتحدث عن آثار التكذيب في سلوك الإنسان فتقول: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ولما كان التكذيب باليوم الآخر خلقا مشتركا بين المنافقين والكافرين، وآثاره واحدة عندهما لم يكن في بداية السورة ما يشير إلى أن الأمر خاص بالمنافقين، ولكن خاتمة السورة تقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ففي هذا الجزء من السورة انصب الحديث عن المنافقين فالسورة تفصيل إذن لقضية ترتبط بالنفاق، وإذا كان النفاق حصيلته كفرا، فقد كان جزء من حديثها ينصب على الكفر والنفاق بآن واحد. رأينا أن سورتي الفيل وقريش تخدمان سياق سورة الهمزة، ورأينا أن سورة الهمزة تتحدث عن عذاب الكافرين كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ* نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ* إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ وتأتي سورتا الفيل وقريش لتخدما قضية التدليل على اليوم الآخر، وبعد ذلك تأتي سورة الماعون لتحدثنا عن آثار التكذيب باليوم الآخر في السلوك البشري، من جفاء اليتم وعدم العطف على المسكين، ومن تهاون في الصلاة ومراءاة فيها ومن منع للماعون، ولا ينبغي أن يغرنا أننا نرى كثيرا من الملحدين يتظاهرون بالعمل للفقراء، فذلك موقف سياسي يمليه الحقد، وعلامة ذلك أنك تجد هؤلاء إذا دعوتهم لخير يحجمون ويحتجون لموقفهم في ترك الإحسان بأن عمليات الإحسان تؤخر ثورة الفقراء.

سورة الماعون

مما أشرنا إليه نرى الصلة الوثيقة بين السورة وبين ما قبلها، وبين السورة وبين محورها. فلنر السورة. سورة الماعون وهي سبع آيات وهذه هي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) التفسير أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي: بالمعاد والجزاء والثواب إن كنت لا تعرفه فإن علاماته هي ما يأتي. قال النسفي: أي هل رأيت الذي يكذب بالجزاء فمن هو؟ إن لم تعرفه فَذلِكَ أي الذي يكذب بالجزاء هو الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ قال النسفي: أي يدفعه دفعا عنيفا بجفوة وأذى، ويرده ردا قبيحا بزجر وخشونة. وقال ابن كثير: أي هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه، ولا يطعمه ولا يحسن إليه وَلا يَحُضُّ أي: ولا يأمر ويبعث ويهيج عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي على بذل الطعام للمسكين وهو الفقير الذي لا شئ له يقوم بأوده وكفايته. قال النسفي: جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف، والإقدام على إيذاء الضعيف. فلو آمن بالجزاء، وأيقن بالوعيد لخشي الله وعقابه، ولم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه دل أنه مكذب بالجزاء. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال ابن عباس وغيره: يعني المنافقين الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر. قال ابن كثير في تفصيل سهو المنافقين عن الصلاة: (ثم هم عنها ساهون إما عن

[سورة الماعون (107): آية 6]

فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية كما قال مسروق وأبو الضحى، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك له قسطه من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها .. ). الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ فهم فضلا عن سهوهم عنها مراءون فيما يصلونه منها قال النسفي: (والمراءاة مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار الفرائض، فمن حقها الإعلان بها) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال ابن كثير: (أي لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به مع بقاء عينه ورجوعه إليهم، فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى). أقول: وقد أحسن ابن كثير فيما قاله، فالماعون في الأصل هو ما يتعاوره الناس من قدر وفأس وقلم وأمثال ذلك، فإن كان مانعا لهذا مع أنه سيعود له فمنعه لغيره أولى وأولى. لقد فسر بعضهم الماعون بالزكاة وهو معنى بعيد، إلا أنه داخل بالأولى في الآية فهؤلاء منعوا إعارة الماعون، وتلك زكاته فمنعهم لبقية أنواع الزكاة الأولى، فإذا اتضح هذا، فلنر ما قاله النسفي في الآيات الثلاث: (يعنى بهذا المنافقين لا يصلونها سرا لأنهم لا يعتقدون وجوبها، ويصلونها علانية رياء، وقيل فويل للمنافقين الذين يدخلون أنفسهم في جملة المصلين صورة، وهم غافلون عن صلاتهم، وأنهم لا يريدون بها قربة إلى ربهم، ولا تأدية للفرض، فهم ينخفضون ويرتفعون ولا يدرون ماذا يفعلون، ويظهرون للناس أنهم يؤدون الفرائض ويمنعون الزكاة وما فيه منفعة). كلمة في السياق. 1 - من سياق السورة عرفنا أن التكذيب بالدين ينبثق عنه سلوك من مواصفاته دفع اليتيم دفعا شديدا، وعدم الحض على طعام المسكين، وينبثق عنه سلوك عند المنافق من مظاهره أن يسهو عن صلاته، وإذا صلاها فإنه يكون مرائيا فيها، ومن مظاهره أن يمنع أصحابه الماعون، فالمنافقون كما وصفهم الله عزّ وجل في سورة أخرى وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ. 2 - في مقدمة سورة البقرة وصف الله المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب، ووصف

الفوائد

المنافقين بأنهم يدعون الإيمان ولا يؤمنون، وفي هذه السورة وصف الله الكافرين والمنافقين بأنهم يكذبون بالدين، وفي مقدمة سورة البقرة وصف الله المتقين بالإنفاق، وفي هذه السورة وصف الله الكافرين والمنافقين بأنهم لا ينفقون ولا يحضون على الإنفاق، بل يؤذون اليتيم، ويمنعون الماعون، وفي مقدمة سورة البقرة وصف الله المتقين بإقام الصلاة، وفي هذه السورة وصف الله المنافقين بأنهم ساهون عن صلاتهم وإذا صلوا فهم مراءون، من هذا نعلم أن سورة الماعون أتمت بيان الصورة العامة للمتقين والكافرين والمنافقين التي رسمتها مقدمة سورة البقرة، وأعطتنا تفصيلا أوسع لقضية النفاق، فارتباطها بمحورها واضح، ومعانيها تتكامل مع معاني مجموعتها، فسورة العصر ركزت على خصائص المتقين، وسورة الهمزة، والفيل، وقريش لها صلة بالكلام عن الكافرين، وسورة الماعون لها صلة بالكلام عن المنافقين، ولذلك كله صلاته بمقدمة سورة البقرة التي تحدثت عن المتقين والكافرين والمنافقين. الفوائد: 1 - رأينا أن ابن كثير ذكر كل ما يمكن أن يدخل في قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ونضيف هنا أنه بعد أن ذكر ذلك قال: (ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمل له النفاق العملي، كما ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» فهذا أخر صلاة العصر التي هي الوسطى كما ثبت به النص، إلى آخر وقتها وهو وقت كراهة، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا، ولهذا «لا يذكر الله بها إلا قليلا» ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس لا ابتغاء وجه الله، فهو كما إذا لم يصل بالكلية. قال الله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وقال تعالى هاهنا الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ). وقال ابن كثير: (وروى ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» (قلت) وتأخير الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية، ويحتمل صلاتها بعد وقتها،

وتأخيرها عن أول الوقت وكذا رواه الحافظ أبو يعلى بسنده. ثم رواه عن أبي الربيع عن عاصم عن مصعب عن أبيه موقوفا «لهوا عنها حتى ضاع الوقت» وهذا أصح إسنادا وقد ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك الحاكم). وقال ابن كثير: (قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل في صلاتهم ساهون). قال النسفي: تعليقا على ذلك: لأن معنى (عن) أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، ومعنى (في) أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس وذلك لا يخلو عنه مسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره. أقول: ومن مثل هذه الدقة في التعبير القرآني نرى مظهرا من مظاهر الإعجاز في القرآن. 2 - بمناسبة قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ قال النسفي: (ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار الفرائض فمن حقها الإعلان بها لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا غمة في فرائض الله» أي لا تخفي ولا تستر، والإخفاء في التطوع أولى فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا). وقال ابن كثير بمناسبة الآية: (وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة، أعد ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد، لحامل كتاب الله، وللمصدق في غير ذات الله، وللحاج إلى بيت الله، وللخارج في سبيل الله» (أي: إذا كانوا مراءين) وروى الإمام أحمد عن عمرو بن مرة قال: كنا جلوسا عند أبي عبيدة فذكروا الرياء فقال رجل يكنى بأبي يزيد: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من سمع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وحقره وصغره»). 3 - وبمناسبة قوله تعالى وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال ابن كثير: «وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله قال: الماعون العواري: القدر والميزان والدلو، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ يعني متاع البيت، وكذا قال مجاهد وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وأبو مالك وغير واحد أنها العارية للأمتعة، وقال ابن أبي سليم ومجاهد عن ابن عباس وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال: لم يجئ أهلها بعد، وقال العوفي عن ابن عباس وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال: اختلف الناس في ذلك فمنهم من قال يمنعون الزكاة، ومنهم من قال يمنعون الطاعة، ومنهم من قال يمنعون العارية، رواه ابن

جرير. ثم روي عن الحارث عن علي: الماعون منع الناس الفأس والقدر والدلو، وقال عكرمة: رأس الماعون زكاة المال، وأدناه المنخل والدلو والإبرة. رواه ابن أبي حاتم. وهذا الذي قاله عكرمة حسن فإنه يشمل الأقوال كلها، وترجع كلها إلى شئ واحد وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة، ولهذا قال محمد بن كعب وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال المعروف، ولهذا جاء في الحديث «كل معروف صدقة». وروى ابن أبي حاتم عن الزهري وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال: بلسان قريش المال).

سورة الكوثر

سورة الكوثر وهي السورة الثامنة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة السادسة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي ثلاث آيات (قال النسفي: مكية، وقال ابن كثير: مدنية، وقيل مكية)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الكوثر

بين يدي سورة الكوثر: قال الألوسي في سورة الكوثر: (وآيها ثلاث بلا خلاف وليس في القرآن- كما أخرج البيهقي عن ابن شبرمة- سورة آيها أقل من ذلك، بل قد صرحوا بأنها أقصر سورة في القرآن، وقال الإمام هي كالمقابلة للتي قبلها، لأن السابقة وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء، ومنع الزكاة، فذكر عزّ وجل في هذه السورة في مقابلة البخل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي: الخير الكثير. وفي مقابلة ترك الصلاة فَصَلِّ أي دم على الصلاة. وفي مقابلة الرياء لِرَبِّكَ أي لرضاه لا للناس. وفي مقابلة منع الماعون وَانْحَرْ وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي ثم قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة انتهى فلا تغفل). وقال صاحب الظلال: (هذه السورة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسورة الضحى، وسورة الشرح يسري عنه ربه فيها، ويعده بالخير، ويوعد أعداءه بالبتر، ويوجهه إلى طريق الشكر). كلمة في سورة الكوثر ومحورها: بعد مقدمة سورة البقرة دعا الله عزّ وجل الناس جميعا لعبادته، وعلل للأمر بإنعامه، وهذه سورة الكوثر تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكرة له بنعمتين: العطاء الكثير، وبتر المبغض، وتأمره فيما بين ذلك بالصلاة والنحر وهما عبادتان. سورة الكوثر وهي ثلاث آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) التفسير: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الكوثر: هو المفرط الكثرة. قال النسفي: وعن ابن

[سورة الكوثر (108): آية 2]

عباس رضي الله عنهما: هو الخير الكثير. فقيل له: إن ناسا يقولون هو نهر في الجنة. فقال له: هو من الخير الكثير. أقول: فالكوثر من أنهار الجنة ولكن كلمة الكوثر في الآية تعم ذلك وغيره من كل ما أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير تعليقا على تفسير ابن عباس: (وهذا التفسير يعم النهر وغيره؛ لأن الكوثر من الكثرة وهو الخير الكثير ومن ذلك النهر) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال ابن كثير أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ومن ذلك النهر الذي تقدمت صفته، فأخلص لربك النافلة وصلاتك المكتوبة ونحرك، فاعبده وحده لا شريك له، وانحر على اسمه وحده لا شريك له .... وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير الله، والذبح على غير اسمه. وقال النسفي في الآية: (أي فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك من فتن الخلق مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله) وَانْحَرْ لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لعبدة الأوثان في النحر لها. أقول: وحمل الآية بعضهم على جزئية مما يدخل فيها، فحمل الصلاة على أنها صلاة الأضحى، والنحر على أنه نحر الأضاحي بعد صلاة العيد، وهو مما يدخل ضمن عموم الآية، وليس وحده المراد. وتأمل النقل التالي عن ابن كثير. قال ابن كثير بعد أن ذكر أقوالا وصفها بأنها غريبة في تفسير النحر في الآية: (والصحيح القول الأول أن المراد بالنحر ذبح المناسك، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يشتهى فيه اللحم قال: «شاتك شاة لحم» قال: فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزئ عني؟ قال: «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» قال أبو جعفر بن جرير: والصواب قول من قال إن معنى ذلك فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له وخصك به، وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي وعطاء). ثم قال تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قال ابن كثير: أي إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور البين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع، أقول: فصار معنى السورة: فصل لله وحده، وانحر لله وحده، شكرا له عزّ وجل على ما أعطاك، ولا تبال الشانئين والمبغضين فإنهم المنقطعو الذكر والأثر،

كلمة في السياق

ولا تبال بما يقولونه فيك، فإنهم هم أهله ولست أهله. قال النسفي في الآية الأخيرة: (أي من أبغضك من قومك بمخالفتك لهم هو الأبتر المنقطع). كلمة في السياق: 1 - رأينا أثناء عرضنا للسورة صلة آيات السورة ببعضها، ورأينا في الكلمة التي قدمنا بها لسورة الكوثر بعض صلاتها بمحورها، ونتكلم عن هذه الصلات مرة ثانية: دعا الله عزّ وجل بعد مقدمة سورة البقرة الناس جميعا لعبادته، وقد بينت سورة الكوثر مظهرين من مظاهر العبادة، وهما: إخلاص الصلاة لله عزّ وجل، وإخلاص النحر لله عزّ وجل، وذلك من خلال توجيه الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة العليا للناس جميعا، فكأن السورة تقول: إذا لم يستجب الناس للأمر فاستجب أنت أيها الرسول، فقد أعطيناك الكثير، وجعلنا لك العاقبة، فإذا كفر الناس النعم العامة فاشكر أنت الله عزّ وجل على النعم العامة والخاصة، بأنواع العبادة والإخلاص فيها. 2 - في الآيتين الآتيتين بعد مقدمة سورة البقرة أمر ونهي. الأمر اعْبُدُوا والنهي فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقد رأينا كيف أن المفسرين فهموا من صيغة قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أن ذلك أمر بالصلاة والنحر، وأمر بالإخلاص فيهما لله عزّ وجل، إذ تقديم الجار والمجرور على الأمر بالنحر يفيد الاختصاص، وهو يفيد الإخلاص، ففي السورة تفصيل لقضايا عبادية توحيدية. اعبد الله بالصلاة والنحر، ولا تشرك بالله في صلاتك ونحرك، ولذلك صلته بمحور السورة. 3 - يبقى أن تعرف ما الصلة بين سورة الكوثر وما قبلها؟ لقد أمرت سورة قريش قريشا بعبادة الله عزّ وجل وجاءت سورة الماعون لتبين موقف الكافرين من الخير عامة. وموقف المنافقين من الصلاة والخير، وتأتي سورة الكوثر لتفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخطاب في الصلاة والنحر، مذكرة بنعم الله الخاصة عليه، وفي ذلك تعليم وتبيان أنه إن أعرض خلق عن الخير وفعله، ورفضوا طاعة أوامر الله عزّ وجل، فإن هناك من يستجيب على الكمال لذلك، ومن أجل أمثال هؤلاء تنزل الشرائع مهما كان عدد المعرضين كثيرا، وبمناسبة هذه السورة نحب أن نسجل ملاحظة حول إعجاز القرآن.

ملاحظة حول إعجاز القرآن

ملاحظة حول إعجاز القرآن رأينا من قبل أن الله عزّ وجل تحدى الناس جميعا أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، وقد عجز الناس قديما وحديثا عن ذلك، وسيعجزون أبدا، ولنتأمل هذه السورة سورة الكوثر التي هي أقصر سورة في كتاب الله عزّ وجل. إنك عند ما تتأمل محلها مما قبلها ومما بعدها، وصلتها بالسياق القرآني العام القريب والبعيد، وانسجامها مع طريقة القرآن في عرض المعاني على تسلسل معين مما تحكمه محاور المجموعة من سورة البقرة، فإنك تجد عجبا، ثم إن السورة توجد فيها خصائص القرآن كله، فكلماتها أفصح الكلمات. حتى لو بحثت عن كلمة تحل محل كلمة من كلماتها، وتؤدي معناها وجمالها فإنك عاجز، ومعانيها هي الحق الذي لا ينقض فليس فيها شطحة خيال، وهي في الوقت نفسه مذكرة وواعظة، وهي مربية ومعلمة، ومشرعة ومبشرة، ومفصلة ومبينة، ومحكمة، وهي مع ذلك كله لا تتناقض مع بقية معاني القرآن، بل هي وإياه كلها تخرج من مشكاة واحدة وتصب في مصب واحد، ثم إن معانيها بقدر كلماتها، بل كلماتها وحدها هي التي تسع معانيها، فهل يستطيع أحد من البشر أن يأتي بسورة من مثل هذه السورة في مكانها وخصائصها؟!. الفوائد: 1 - بمناسبة قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه أنزلت علي آنفا سورة» فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى حتمها فقال: «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا الله ورسوله أعلم. قال: «هو نهر أعطانيه ربي عزّ وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك». وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة أنه يشخب فيه ميزابان من السماء من نهر الكوثر، وأن آنيته عدد نجوم السماء وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي عن أنس، ولفظ مسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى

إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحك يا رسول الله؟ قال: «لقد أنزلت علي آنفا سورة» فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ثم قال «أتدرون ما الكوثر؟» - قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم في السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول إنك لا تدري ما أحدث بعدك». وروى البخاري عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها، قال: سألتها- يعني أبا عبيدة- عن قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قالت: نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم. ورواه أحمد والنسائي. وروى البخاري عن سعيد بن حبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن حبير فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة. فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. ورواه أيضا من حديث هشيم عن أبي بشر وعطاء بن السائب عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر الخير الكثير، وقال الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكوثر الخير الكثير، وهذا التفسير يعني النهر وغيره، لأن الكوثر من الكثرة، وهو الخير الكثير، ومن ذلك النهر كما قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن بن أبي الحسن البصري حتى قال مجاهد: هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة، وقال عكرمة: هو النبوة والقرآن وثواب الآخرة. وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: الكوثر نهر في الجنة حافتاه ذهب وفضة يجري على الياقوت والدر، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل. وروى العوفي عن ابن عباس نحو ذلك، وروى ابن جرير عن ابن عمر أنه قال: الكوثر نهر في الجنة حافتاه ذهب وفضة، يجري على الدر والياقوت، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل. وكذا رواه الترمذي عن عطاء بن السائب به مثله موقوفا، وقد رواه الإمام أحمد- مرفوعا- عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب والماء يجري على اللؤلؤ وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب به مرفوعا وقال الترمذي حسن صحيح).

2 - بمناسبة قوله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قال ابن كثير: (أي إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: نزلت في العاص بن وائل، وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره. فأنزل الله هذه السورة، وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: نزلت في كعب بن الأشرف، وجماعة من كفار قريش، وروى البزار عن عكرمة عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، فقال: أنتم خير منه، قال: فنزلت إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ هكذا رواه البزار وهو إسناد صحيح. وعن عطاء نزلت: في أبي لهب، وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بتر محمد الليلة، فأنزل الله في ذلك إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وعن ابن عباس نزلت في أبي جهل، وعنه إِنَّ شانِئَكَ يعني عدوك وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر وغيرهم. وقال عكرمة: الْأَبْتَرُ الفرد، وقال السدي: كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا بتر، فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بتر محمد فأنزل الله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره- فتوهموا- لجهلهم- أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره، وحاشا وكلا، بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرا على دوام الآباد، إلى يوم المحشر والمعاد، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد).

سورة الكافرون

سورة الكافرون وهي السورة التاسعة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة السابعة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي ست آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الكافرون

بين يدي سورة الكافرون: قال الألوسي عن هذه السورة: (وآياتها ست بلا خلاف، وفيها إعلان ما فهم مما قبلها في الأمر بإخلاص العبادة له عزّ وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما. وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك، أنها تعدل ربع القرآن، ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات، والنهي عن المحرمات، وكل منهما إما أن يتعلق بالقلب، أو بالجوارح، فيكون أربعة أقسام، وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلوب فتكون كربع القرآن، وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد، ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد، والأحكام الشرعية، وأحوال المعاد، والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة، وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولا بالذات، والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى، وعبادة الله عزّ وجل، إذ التخصيص له جزءان: النفي عن الغير، والإثبات للمخصص به، فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن). ومن كلام صاحب الظلال في تقديمه لهذه السورة: (لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه. أحد، صمد. فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره، ولا يعبدونه حق عبادته. كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء، أو يرمزون بها إلى الملائكة .. وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله. وأن بينه- سبحانه- وبين الجنة نسبا، أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة، وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى .. ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله السموات والأرض، وتسخيره للشمس والقمر، وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت: وَلَئِنْ

سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .. وفي أيمانهم كانوا يقولون: والله، وتالله. وفي دعائهم كانوا يقولون: اللهم .. الخ .. وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم، وأنهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية، لأن اليهود كانوا يقولون: عزير ابن الله. والنصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله. بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله- بزعمهم- فكانوا يعدون أنفسهم أهدى؛ لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى .. وكله شرك. وليس في الشرك خيار، ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا!. فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إن دينه هو دين إبراهيم- عليه السلام- قالوا: نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة وسطا بينهم وبينه؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم، وله فيهم وعليهم ما يشترط! ولعل اختلاط تصوراتهم، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه، لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة، يمكن التفاهم عليها، بقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق، مع بعض الترضيات الشخصية! ولحسم هذه الشبهة، وقطع الطريق على المحاولة، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق .. نزلت هذه السورة، بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، وبهذا التكرار، لتنهي كل قول، وتقطع كل مساومة، وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير). وقدم ابن كثير للكلام عن سورة الكافرون بقوله: (هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه فقوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم

كلمة في سورة الكافرون ومحورها

كفار قريش، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية). كلمة في سورة الكافرون ومحورها: رأينا أن الآيتين الآتيتين بعد مقدمة سورة البقرة أمرتا بالعبادة لله، ونهتا عن الشرك. وتأتي سورة الكافرون لتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أنه لا يعبد ما يعبده الكافرون، لا حالا ولا استقبالا. فإذا كانت آيتا سورة البقرة أمرتا الناس جميعا بالعبادة، ونهتا عن الشرك، فسورة الكافرون تبين أن الناس قسمان، قسم استجابوا لعبادة الله وحده، وقسم لم يستجيبوا، قسم أشركوا، وقسم وحدوا، وتأمر إمام العابدين وسيد الموحدين، وقدوة المسلمين، أن يعلن لهؤلاء الكافرين أنه لا يعبد ما يعبدون، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة سورة الكافرون بمحور السورة. بعد الآيتين الآتيتين بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وسورة الكافرون تأمر عبد الله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن أن يعلن براءته من عبادة الكافرين، وتميز دينه عن دينهم، ومفاصلته لهم في أمر العبادة والدين، وذلك مظهر آخر من مظاهر صلة سورة الكافرون بمحورها من سورة البقرة، وهي الآيات الخمس الواردة بعد مقدمة سورة البقرة. وصلة سورة الكافرون بما قبلها واضحة، فقد عرفنا من سورة الكوثر أن هناك شانئين ومبغضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الكافرون، وتأتي سورة الكافرون لتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن مفاصلته في عبادته ودينه للكافرين إعلاما أنه لا يبالي بهم، وتوضيحا لكونه على الحق، وفي سورة الكوثر أمر الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بنوعين من العبادة يختلف فيهما المسلمون عن غيرهم من الناس، وتأتي سورة الكافرون لتأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أن إلهه الذي يعبده هو الله وحده، وأنه لن يعبد- حالا أو استقبالا- آلهة الكافرين والمشركين، وأن دينه متميز عن كل دين، وصلة ذلك بسورة الكوثر لا تخفى، وهكذا رأينا صلة سورة الكافرون بما قبلها، وصلتها بمحورها، وسنرى صلتها بما بعدها. فلنر السورة.

سورة الكافرون

سورة الكافرون وهي ست آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) التفسير: قُلْ يا محمد يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ جميعا لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ يعني من الأصنام أو الأنداد والأوثان والشركاء مهما كانوا، بشرا أو حجرا أو شمسا أو قمرا وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي: ولا أنتم عابدون إلهي وهو الله رب العالمين، ومن هنا نفهم أن أي إنسان لا يدخل في هذا الدين فإنه لا يكون عابدا لله عزّ وجل، ولو ادعى ما ادعى، وعمل ما عمل وَلا أَنا عابِدٌ أي: فيما يأتي من الزمان ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ فيما يأتي من الزمان ما أَعْبُدُ بسبب من وصولكم إلى درجة من الكفر لا عودة فيها. وهذا الذي ذكرناه هو توجيه النسفي للسورة، فالعبادة الأولى يراد بها الحال، والعبادة الثانية يراد بها الاستقبال، وقال ابن كثير: أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي: لا تعتقدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم. أقول: إن للمفسرين أربعة أقوال في تعليل تكرار موضوع المفاصلة في العبادة. هذان القولان اللذان نقلناهما، وقولان آخران، وقد ذكر الأقوال الأربعة ابن كثير. ولعل أكثر الأقوال غموضا هو القول الذي قدمه، ومن ثم فسنعرض الأقوال الأربعة كما ذكرها، ونفسر القول الأول الذي قدمه وهو الذي اعتمده. قال ابن كثير ملخصا أقوال المفسرين: (فهذه ثلاثة أقوال:

[سورة الكافرون (109): آية 6]

أولها ما ذكرناه أولا (أقول: والذي ذكره هو ما نقلناه ومضمونه: أنه فسر (ما) في القول الأول بمعنى (من) وفسر (ما) في القول الثاني بأنها المصدرية، فيكون هذا القول على الشكل التالي: لا أعبد ما تعبدون من الآلهة، ولا أنتم عابدون من أعبد وهو الله، ولا أنا عابد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي، فلا إلهكم إلهي، ولا عبادتكم عبادتي، ولا إلهي معبودكم، ولا عبادتي عبادتكم، ومن ثم ختمت السورة بقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ التي سنرى معناها فيما بعد، ولنعد إلى نقل كلام ابن كثير). قال ابن كثير: (الثاني) ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الماضي وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في المستقبل. (الثالث) أن ذلك تأكيد محض. (وثم قول رابع) نصره أبو العباس بن تيمية في بعض كتبه وهو أن المراد بقوله لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل، وكونه قابلا لذلك، ومعناه نفي الوقوع، ونفي الإمكان الشرعي أيضا. وهو قول حسن أيضا. والله أعلم). أقول: والذي أميل إليه هو القول الذي اختاره النسفي، وهو قول البخاري كما رأينا، إلا أن هذا يحتاج إلى تعليل لقضية هي أن بعض الكافرين يسلمون، فكيف نفسر الآية وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ بأن المراد بها الاستقبال، أقول: الجواب إن هذا الخطاب موجه لكفار مصرين على الكفر مستمرين عليه، علم الله أنهم سيموتون على ذلك. أو أن الخطاب يفيد: أي أنكم ما دمتم على كفركم. فلن تكونوا في يوم من الأيام عابدين لإلهي، ولن أكون عابدا لمعبودكم، ثم قال تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ قال النسفي: أي لكم شرككم ولي توحيدي. وقال البخاري في تفسيرها: لَكُمْ دِينُكُمْ الكفر وَلِيَ دِينِ الإسلام. كلمة في السياق: ذكرت هذه السورة موضوع المفاصلة بين المسلمين وغيرهم في العبادة والدين، فحددت بذلك أن العبادة التي أمر الله- عزّ وجل- بها في الإسلام في محور السورة تختلف عن أي عبادة أخرى، وأن الإسلام غير الأديان الأخرى؛ إذ كلها منسوخة بهذا

الفوائد

الإسلام، ومن قبل تحدثنا عن صلة السورة بما قبلها، وصلتها بمحورها، فلا نقف أكثر من ذلك. الفوائد: 1 - قبل أن يبدأ ابن كثير الكلام عن سورة الكافرون ذكر بعض النصوص الواردة فيها. قال: (ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وبقل هو الله أحد في ركعتي الطواف. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد وروى أحمد أيضا عن ابن عمر قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين أو خمسا وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. وروى أحمد عن ابن عمر قال: رمقت النبي- صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- شهرا وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي أحمد الزبيري وأخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي إسحاق به، وقال الترمذي هذا حديث حسن، وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن. وروى الإمام أحمد عن فروة بن نوفل- هو ابن معاوية- عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «هل لك في ربيبة لنا تكفلها؟» قال: أراها زينب. قال: ثم جاء فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال: «ما فعلت الجارية؟» قال: تركتها عند أمها. قال: «فمجيء ما جاء بك» قال: جئت لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال: «اقرأ قل يا أيها الكافرون، ثم نم على خاتمها فإنها براءة من الشرك» تفرد به أحمد. وروى أبو القاسم الطبراني عن جبيلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ قل يا أيها الكافرون حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك» وروى الطبراني- بسنده- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حتى يختمها. وروى الإمام أحمد عن الحارث بن جبلة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئا أقوله عند منامي. قال: «إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ قل يا أيها الكافرون فإنها براءة من الشرك». والله أعلم. 2 - بمناسبة قوله تعالى- على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم-: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ*

قال ابن كثير: (أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم كما قال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه فإن العابد لا بد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كانت كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله، ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله، ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ كما قال تعالى وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وقال: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ* وقال البخاري: يقال لَكُمْ دِينُكُمْ الكفر وَلِيَ دِينِ الإسلام ولم يقل ديني لأن الآيات بالنون، فحذف الياء كما قال (فهو يهدين- ويسقين). 3 - وبمناسبة قوله تعالى- على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم-: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ قال ابن كثير: (وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورث اليهود من النصارى وبالعكس، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به؛ لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها بالشئ الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»).

سورة النصر

سورة النصر وهي السورة العاشرة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثامنة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي ثلاث آيات وهي مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة النصر

بين يدي سورة النصر: قدم ابن كثير لسورة النصر بذكر الآثار التالية: (قد تقدم أنها تعدل ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن. وروى النسائي عن عبيد بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: يا ابن عتبة أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت: نعم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال: صدقت. وروى الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي عن ابن عمر قال: أنزلت هذه السورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم قام فخطب الناس فذكر خطبته المشهورة. وروى الحافظ البيهقي عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال: «إنه قد نعيت إلي نفسي» فبكت ثم ضحكت وقالت: أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم قال: اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت. وقد رواه النسائي بدون ذكر فاطمة) كلمة في سورة النصر ومحورها: من خلال الاستقراء نرى أن محور سورة النصر هو نفسه محور سورتي الكوثر والكافرون، وهو الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة، وأدلة ذلك كثيرة. تأمر سورة النصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسبيح بحمد الله وبالاستغفار إذا رأى علامة بعينها وهي الفتح والنصر، ودخول الناس في دين الله أفواجا، وقد فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وفهم بعض الصحابة، أن تلك علامة على اقتراب أجله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم نفهم أن العبادة المناسبة لاقتراب الأجل هي الاستغراق في التسبيح بحمد الله، وكثرة الاستغفار، وفي ذلك تفصيل للأمر الوارد في محور السورة اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فالتسبيح بحمد الله ذروة المعرفة بالله، وذروة الشكر لله على نعمه، والاستغفار فيه اعتراف بالتقصير في حق الله عزّ وجل، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الخلق قياما بحق الله عزّ وجل قد أمر بهذا في آخر حياته، فأحرى بغيره أن يطالب بذلك، وصلة ذلك بمحور السورة من سورة البقرة واضحة.

نفهم من سورة النصر أن النعمة ينبغي أن تقابلها عبادة. فالفتح والنصر والدخول في دين الله أفواجا نعم، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقابلها بالتسبيح بحمد الله والاستغفار، وهو أصل رأيناه في محور السورة، إذ أمر الله عزّ وجل بعبادته وتوحيده في سياق الحديث عن نعمه العامة، وهذا الأصل ترى فروعه في هذه السورة التي تبين أن نعمة أخرى من نعمه تقتضي عبادة من تسبيح واستغفار، ولذلك صلته بمحور السورة من سورة البقرة. ومن الآيات الخمس التي تشكل محور سورة النصر نعلم أن هناك كافرين ومرتابين، وهذه السورة تبين لنا أن العاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، والسورة تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة النصر والفتح والإسلام بأن يسبح ويستغفر شكرا واعترافا بالقصور وهضما للنفس، وهو درس للأمة، وهذا مظهر آخر من مظاهر صلة السورة بمحورها في الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة، والمظهر الأول والأعلى للصلة بالمحور هو أن التسبيح بحمد الله توحيد وعبادة وشكر، وأن الاستغفار عبودية وافتقار. وأما صلة سورة النصر بما قبلها، من حيث إن سورة الكافرون تتحدث عن المفاصلة بين المسلمين والكافرين، ومن قبل ذكرت سورة الكوثر ما يفيد أن هناك مبغضين وشانئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك يشعر بالصراع بين جهتين: أهل الإيمان، وأهل الكفر. وتأتي سورة النصر ليفهم منها أن العاقبة حتما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نصر الله آت، وأن الفتح آت، وأن الدخول في دين الله أفواجا آت لا محالة؛ ولذلك فإن السورة تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يفعله وقتذاك. فالسورة واضحة الصلات بما قبلها، وسنرى صلتها بما بعدها. وكالعادة في كل سورة جديد، ولنكتف بهذا القدر. ولنبدأ عرض السورة.

سورة النصر

سورة النصر وهي ثلاث آيات، وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) التفسير: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال النسفي: النصر الإعانة والإظهار على العدو، والفتح فتح البلاد، والمعنى نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب، أو على قريش وفتح مكة، أو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم وَرَأَيْتَ أي: أبصرت أو عرفت أو علمت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي جماعات كثيرة بعد ما كانوا يدخلون واحدا واحدا، أو اثنين اثنين فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال النسفي (فقل: سبحان الله حامدا له أو فصل له) وَاسْتَغْفِرْهُ قال النسفي: تواضعا وهضما للنفس، أو دم على الاستغفار إِنَّهُ كانَ ولا يزال تَوَّاباً التواب في حق الله عزّ وجل هو الكثير القبول للتوبة، وفي صفة العباد الكثير الفعل للتوبة. الفوائد: 1 - قال ابن كثير: (والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدا فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي. فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة، وقد روى البخاري

في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون: دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي- الحديث) أقول: رأينا أن النسفي ذكر أقوالا أخرى في المراد بالفتح، والذي يبدو أنه يرى أن المراد بالفتح والنصر في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلامة التي حددت له هي فتح مكة. ولكن يبقى ما ورد في السورة أدبا عاما لكل مسلم أن يقابل نعمة الله عزّ وجل عليه بالشكر والحمد والاستغفار والتسبيح). قال ابن كثير: (فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر- رضي الله عنهم أجمعين- من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون بأن نحمد الله ونشكره ونسبحه يعني نصلي له ونستغفره، معنى مليح صحيح. وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات، فقال قائلون: هي صلاة الضحى، وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرا لم ينو الإقامة؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبا من تسع عشرة يوما يقصر الصلاة ويفطر هو وجميع الجيش، وكانوا نحوا من عشرة آلاف قال هؤلاء: إنما كانت صلاة الفتح قالوا فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات، وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، ثم قال بعضهم: يصليها كلها بتسليمة واحدة، والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين كما ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين). 2 - وقال ابن كثير: (روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال: ما تقولون في قول الله عزّ وجل إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول. تفرد به البخاري).

أقول: وإذن فالفهم البديهي للسورة هو ما فهمه عامة الصحابة، وبعد ذلك فهوم دقيقة لا تلغي الفهم الأول، ولكن تدل على أن في السورة معاني أخرى يفطن لها من آتاه الله عزّ وجل خصوصية فهم، وذلك شأن القرآن كله، يفهم منه العامة ما يفهمون، وللخواص فهوم دقيقة لا تلغي الفهوم الصحيحة الأخرى، ولكن تزيد عليها، وذلك من عجائب هذا القرآن ومظاهر إعجازه. 3 - رأينا في الفائدتين السابقتين أن في السورة بشارة بالفتح والنصر، وعلامة على الأجل. وكل ذلك قد حصل فكان في ذلك معجزتان من معجزات هذا القرآن زائدتان على الإعجاز العام، إذ هما معجزتان في شأن من شئون المستقبل، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل ويستبشر بعدها. قال ابن كثير: (روى النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة قال نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «جاء الفتح وجاء نصر الله وجاء أهل اليمن» فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: «قوم رقيقة قلوبهم لينة قلوبهم، الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان»). 4 - مما استدل به على أن المراد بالفتح في السورة فتح مكة استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم تعبير الفتح خاصة في فتح مكة، من ذلك قوله عليه السلام: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. 5 - من مظاهر التطبيق العملي لهذه السورة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكرته النصوص التالية: روى البخاري عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث منصور به وروى الإمام أحمد عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» وقال: «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره، إنه كان توابا فقد رأيتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ

كلمة أخيرة في سورة النصر

تَوَّاباً» ورواه مسلم. وروى ابن جرير عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجئ إلا قال: «سبحان الله وبحمده»، فقلت: يا رسول الله رأيتك تكثر من سبحان الله وبحمده، لا تذهب ولا تجئ ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: سبحان الله وبحمده قال: «إني أمرت بها» فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخر السورة. غريب. وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» ثلاثا، انفرد به أحمد. ورواه ابن أبي حاتم. أقول: إن من تأمل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الالتزام بأمر الله عزّ وجل، والقيام بحقه، هذا القيام الفريد يكفيه ذلك دليلا على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معنى أبرزناه في كتابنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أشرنا إليه بمناسبة هذا التطبيق الرائع لأمر الله في السورة مما رأينا بعض مظاهره في النقول السابقة. 6 - إن قول ابن عباس أن آخر سورة نزلت هي هذه السورة لا يعني أنها آخر القرآن نزولا، لأنه قد رأينا أن التحقيق أن آخر آية نزلت هي قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً .. * وعلى هذا فمراد ابن عباس أنها آخر سورة نزلت أي كسورة كاملة، أما كآيات فقد نزل حتما بعدها. 7 - هناك اتجاه يقول: إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع، مع أن حجة الوداع كانت بعد فتح مكة بحوالي سنتين. وعلى هذا فإن البشارة تكون باستكمال النواحي الثلاث مجتمعة: الفتح، والنصر، والدخول في دين الله أفواجا. كلمة أخيرة في سورة النصر: إن مجئ سورة النصر في مكانها معجزة، وفيه إعجاز، وفي بشارتها ودلالتها معجزة وإعجاز، وفي معناها معجزة وإعجاز، ألا ترى أن هذه التربية لرسول الله وللمسلمين حال النصر والفتح، وإقبال الناس على الإسلام يستحيل أن تكون بشرية أو يفطن لها الإنسان، فالناس في النصر والفتح يبطرون ويسكرون ويقبلون على المتاع واللذة، بينما

السورة تربي على غير ذلك، فهل هذا مما يخطر في قلوب البشر أن يقولوه أو يسجلوه، ففي معنى السورة معجزة وإعجاز، وفي انسجام معاني السورة مع بقية المعاني القرآنية التي لا يخطئها البصر معجزة وإعجاز، وفي الكلمات التي عبر بها عن هذا كله معجزة وإعجاز، إذ لا يحل محلها غيرها، فهي كلمات في الذروة من البلاغة والفصاحة والانتقاء أخذت مدلولاتها الإسلامية، واستعملت لتأدية هذه المدلولات على مثل هذا الكمال، وهذا شئ معجز فإن توجد اصطلاحات خاصة لدين جديد، وأن تستعمل هذه المصطلحات ولأول مرة في ذروة من الكمال في التعبير والأداء ذلك معنى وحده يدلك على أن هذا القرآن من عند الله.

سورة المسد

سورة المسد وهي السورة الحادية عشرة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة التاسعة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي خمس آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

كلمة في سورة المسد ومحورها

قدم الألوسي لسورة المسد بقوله: (وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين، ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام، عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه. على نفسه فليبك من ضاع عمره … وليس له منها نصيب ولا سهم كذا قيل في وجه الاتصال، وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد، وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام. وقال الإمام في ذلك: إنه تعالى لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: إلهي فما جزائي؟ فقال الله تعالى: لك النصر والفتح، فقال: فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام؟ فقال: تبت يداه، وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى وَلِيَ دِينِ والوعيد راجعا إلى قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ على حد يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ الآية فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة، وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من الله تعالى وبأمره عزّ وجل ثم قال: ووجه آخر وهو أنه لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فكأنه قيل: إلهي ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح، ثم قيل: فما جزاء العاصي؟ قال: الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى، كما دلت عليه سورة تبت. انتهى وهو كما ترى). كلمة في سورة المسد ومحورها: بعد الآيات الخمسة الآتية بعد مقدمة سورة البقرة والتي رأينا أنها كانت محورا للسور الثلاث السابقة: الكوثر، والكافرون، والنصر، يأتي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. لاحظ كلمة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وأن سورة المسد تبدأ بقوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ قال ابن كثير: (أي وقد تحقق خسارته وهلاكه)، من هذه

البداية للسورة ندرك أن الله عزّ وجل يعطينا في هذه السورة نموذجا على هؤلاء الخاسرين من الرجال والنساء، وأي نموذج؟ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة عمه، وفي ذلك ما فيه من التحذير والإنذار، وقطع الطمع والإبعاد عن الأماني. فمن ربط السورة بمحورها ندرك أن أبا لهب وزوجته هما النموذجان الرجالي والنسائي على الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ومن ثم استحقوا إضلال الله عزّ وجل لهم. ختمت سورة الكافرون بقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وجاءت سورة النصر تبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على الكافرين، وتأتي سورة المسد لتتحدث عن مآل الكافرين وخسرانهم من خلال الحديث عن شخصية آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وزوجها الإيذاء الكثير، وحرصت على رد وصد الناس عن الإسلام، فهي داخلة دخولا أوليا في قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ .. ومن ثم فللسورة صلتها الوثيقة بما قبلها، فليس أعداء الله مغلوبين فقط، بل من حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها واستمر على ذلك فإنه كذلك معذب عند الله عزّ وجل يوم القيامة وفي الآخرة، وهو نصر ثان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سورة النصر تسجيل للنصر الدنيوي على الكافرين وفي سورة المسد تسجيل للنصر الأخروي على الكافرين. إن سورة المسد نزلت في أوائل الدعوة الإسلامية، فإن تأتي في محلها الذي جاءت به متصلة بما قبلها وما بعدها، متصلة بمحورها من سورة البقرة، فهذا وحده إعجاز، وفيه معجزات وفي السورة. فلنبدأ عرض السورة.

سورة المسد

سورة المسد وهي خمس آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) فائدتان في التعريف بأبي لهب وزوجته وفي سبب النزول: 1 - قال ابن كثير: (فأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة، وإنما سمي أبا لهب لإشراق وجهه، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والبغضة له، والازدراء به، والتنقص له ولدينه. روى الإمام أحمد عن رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهليا فأسلم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضئ الوجه، أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب، ثم رواه عن شريح عن ابن أبي الزناد عن أبيه فذكره قال أبو الزناد: قلت لربيعة: كنت يومئذ صغيرا؟ قال: لا والله إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة، تفرد به أحمد. وقال محمد ابن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول: إني لمع أبي رجل شاب انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضئ الوجه، ذو جمة يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به» وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه فقلت لأبي: من هذا؟ قال:

التفسير

عمه أبو لهب. رواه أحمد أيضا والطبراني بهذا اللفظ). وقال ابن كثير: وكانت زوجته من سادات نساء قريش وهي أم جميل واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم. 2 - في سبب نزول هذه السورة قال ابن كثير: روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقال: «أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك، فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إلى آخرها. وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ الأول دعاء عليه، والثاني خبر عنه. التفسير: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أي: جعلت يداه هالكتين، والمراد إهلاك جملته، قال النسفي: التباب الهلاك. قال ابن كثير: أي خسرت وخابت وضل عمله وسعيه وَتَبَّ قال النسفي: أي وكان ذلك وحصل. وقال ابن كثير: أي وقد تب أي تحقق خسارته وهلاكه ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ أي: لم يغن عنه ماله ومكسوبه أو كسبه، قال النسفي: أي لم ينفعه ماله الذي ورثه من أبيه، والذي كسبه بنفسه، أو ماله التالد أو الطارف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما كَسَبَ ولده. أقول: فعلى هذا القول يكون معنى الآية: ما أغنى عنه ماله ولا ولده من عذاب الله شيئا، قال الألوسي: (وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فأنزل الله في ذلك: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى أي سيدخل ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي ذات توقد. قال ابن كثير: أي ذات شرر ولهب وإحراق شديد، قال النسفي: والسين للوعيد أي هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته وَامْرَأَتُهُ أي ستصلى النار ذات اللهب حَمَّالَةَ الْحَطَبِ قال

[سورة المسد (111): آية 5]

النسفي: والتقدير: أعني حمالة الحطب فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال النسفي: والمسد الذي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف كان أو جلد أو غيرهما. أقول: قد اختلفت عبارات المفسرين في تفسير قوله تعالى حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ هل هذا وصف لها في الدنيا؟ وما المراد به إن كان الأمر كذلك؟ أو هو وصف لها في الآخرة وما المراد به إن كان الأمر كذلك؟ أو هو وصف لها في الدنيا والآخرة؟ وقد سرد ابن كثير الأقوال الواردة في ذلك متداخلة. فلننقل كلامه. قال ابن كثير عند قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ: (يعني تحمل الحطب فتلقي على زوجها ليزداد على ما هو فيه وهي مهيأة لذلك مستعدة له فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال مجاهد وعروة من مسد النار، وعن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والثوري والسدي: حمالة الحطب كانت تمشي بالنميمة، واختاره ابن جرير. وقال العوفي عن ابن عباس وعطية الجدلي والضحاك وابن زيد: كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير: كانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر، وكانت تحتطب فعيرت بذلك، كذا حكاه ولم يعزه إلى أحد، والصحيح الأول والله أعلم. قال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، يعني فأعقبها الله منها حبلا في جيدها من مسد النار. وروى ابن جرير عن الشعبي قال: المسد الليف، وقال عروة بن الزبير: المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، وعن الثوري: هو قلادة من نار طولها سبعون ذراعا، وقال الجوهري: المسد الليف، والمسد أيضا حبل من ليف أو خوص وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ومسدت الحبل أمسده مسدا إذا أجد فتله. وقال مجاهد: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي: طوق من حديد ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسدا؟ وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي: في عنقها حبل في نار جهنم ترفع به إلى شفيرها ثم ترمى إلى أسفلها ثم كذلك دائما. قال أبو الخطاب بن دحية في كتابه التنوير: وقد روى ذلك وعبر بالمسد عن حبل الدلو كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: كل مسد رشاء. وأنشد في ذلك: وبكرة ومحورا صرارا … ومسدا من أبق مغارا قال: والأبق القنب.

كلمة في السياق

وقال آخر: يا مسد الخوص تعوذ مني … إن تك لدنا لينا فإني ما شئت من أشمط مقسئن أقول: الذي ينشرح له الصدر أن وصف أم جميل بحمالة الحطب هو وصف ذم لها في الدنيا، وهل المراد به سيرها بالنميمة لإشعال الفتن، أو المراد بذلك حملها للحطب فعلا لتضعه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقرها الله عزّ وجل بذلك بأن شبهها بالحطابين والحطابات لتجزع من ذلك ويجزع بعلها. وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجد، كلا المعنيين وارد. وأما قوله تعالى فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فترجح أن المراد به الإشارة إلى نوع من أنواع عذابها في الآخرة، والمراد بالحبل من المسد حبل من حبال النار كما قال مجاهد وعروة: من مسد النار. وكما قال مجاهد: أي طوق من حديد. ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسدا؟ وكما قال سعيد بن المسيب: فأعقبها الله منها حبلا في جيدها من مسد النار، وكما قال عروة بن الزبير، المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، وكما قال الثوري: هو قلادة من نار طولها سبعون ذراعا. وبذلك تكون الآيتان قد حقّرتا زوجة أبي لهب غاية التحقير، إذ وصفتها في الدنيا بصفة تعتبرها هي غاية في الحقارة، ووصف حالها في الآخرة بصفة تفيد أقصى حالات الذلة. أن يكون كحبل الليف في عنقها تسحب منه، ولا يفهمن فاهم أن حمل الحطب للعمل مذموم في الآية، فالآية لا تتعرض لهذا الموضوع وإنما تحقر امرأة بما تعتبره هذه المرأة تحقيرا في مثل حالها. قال النسفي: (ونصب عاصم حَمَّالَةَ الْحَطَبِ على الشتم، وأنا أحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل من أحب شتم أم جميل) أقول: هذا ترجيح منه أن المراد بالآية تحقير أم جميل وأن من أحب هذا المعنى مأجور. كلمة في السياق: 1 - نزلت هذه السورة في أوائل الإسلام، ومن المعلوم أن كثيرين ممن حاربوا الدعوة الإسلامية. ابتداء دخلوا فيها بعد ذلك كعمر وأبي شعبان وخالد بن الوليد وغيرهم كثير. فإن تذكر السورة أن أبا لهب وزوجته سيدخلان النار فهذا إخبار بالغيب أنهما سيبعثان على كفرهما، وقد تحقق هذا، وفي ذلك وحده معجزة من

الفوائد

معجزات هذا القرآن تقطع بأنه من عند الله عزّ وجل، وقد رأينا شبيها بهذا في سورة النصر، وهكذا نجد أن المجموعة الأخيرة من القرآن فيها ألوان من الإعجاز، وألوان من المعاني عدا عن التغطية الواسعة لآيات كثيرة من سورة البقرة، مما يجعلنا نعرف حكمة الله عزّ وجل فيها، بأن جعلها خاتمة مجموعات القرآن. 2 - رأينا في السورة تفسيرا للخسران الذي تحدث عنه محور السورة، وهو دخول أبي لهب وزوجته نار جهنم، وأي خسران أكبر من ذلك، ومن الخسران ألا يغني عن الإنسان ماله وولده شيئا، ومن الخسران أن يذم الله أحدا أو يحقره، فما أشده من خسران. ولذلك كله صلة بمحور السورة، فأبو لهب وزوجته ناقضا عهد، قاطعان لما أمر الله به أن يوصل، مفسدان في الأرض أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وبهذا نكون قد عرفنا صلة السورة بمحورها، وصلتها بما قبلها، ونكتفي بهذا القدر. الفوائد: 1 - بمناسبة الكلام عن السورة ينقل لنا ابن كثير كيفية استقبال زوجة أبي لهب لهذه السورة. قال ابن كثير: (روى ابن أبي حاتم عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول. مذمما أبينا … ودينه قلينا وأمره عصينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها. قال: وقال الوليد في حديثه أو غيره: فعثرت أم جميل في مرطها وهي تطوف بالبيت فقالت: تعس مذمم فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب: إني لحصان فما أكلم، وثقاف فما أعلم، وكلتانا من بني العم، وقريش بعد أعلم، وقال الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله

صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر فقال له أبو بكر: لو تنحيت لا تؤذيك بشيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيحال بيني وبينها» فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت: يا أبا بكر هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر، ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق، فلما ولت قال أبو بكر: ما رأتك؟ قال: «لا ما زال ملك يسترني حتى ولت» ثم قال البزار: لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه. 2 - رأينا أن اسم أبي لهب هو عبد العزى وقد علل ابن كثير لتكنيته في السورة بأبي لهب بقوله: وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بها دون الاسم أو لكراهة اسمه فاسمه عبد العزى، أو لأن مآله إلى نار ذات لهب فوافقت حاله كنيته. 3 - ختم ابن كثير الكلام عن سورة المسد بالإشارة إلى ما تضمنته من معجزة إذ تتحدث عن المستقبل فيقع، وهو المعنى الذي ذكرناه من قبل قال: (قال العلماء وفي هذه السورة معجزة ظاهرة، ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما لا باطنا ولا ظاهرا، لا مسرا ولا معلنا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة).

سورة الاخلاص

سورة الاخلاص وهي السورة الثانية عشرة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة العاشرة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي أربع آيات وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الإخلاص

بين يدي سورة الإخلاص: قال صاحب الظلال في سورة الإخلاص: (هذه السورة القصيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة. روى البخاري عن أبي سعد: أن رجلا سمع رجلا يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها. فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له- وكأن الرجل يتقالها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن» .. وليس في هذا من غرابة فإن الأحدية التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلنها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .. هذه الأحدية عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة .. وقد تضمنت السورة- من ثم- أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة .. هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية، كما أن سورة الكافرون نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك .. وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح يومه- في صلاة سنة الفجر- بالقراءة بهاتين السورتين .. وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه .. ). كلمة في سورة الإخلاص ومحورها: بعد الآيتين اللتين كانتا محور سورة المسد من سورة البقرة يأتي قوله تعالى في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. لاحظ مضمون الآيتين، ومضمون سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فكما ترى فسورة الإخلاص تعرفنا على الله عزّ وجل الذي أنكرت وعجبت آية سورة البقرة الأولى من الكفر به، والذي دللت على وجوده الآيتان كلتاهما، فسورة الإخلاص إذن تعرفنا على الله عزّ وجل، كما عرفتنا عليه آيتا المحور، مع ملاحظة أن سورة الإخلاص

سورة الإخلاص

تعرفنا على صفات الله عزّ وجل التي لا ينبغي أن تغيب عن أحد، ولا ينبغي أن تغيب عن عقل، لأنها الصفات التي توصل إليها البداهة. جاء قبل سورة الإخلاص سورة الكافرون وسورة النصر وسورة المسد، وقد أمرت سورة الكافرون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أنه لا يعبد ما يعبده الكافرون، وجاءت سورة النصر لتبين أن النصر كائن لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الكفر، وجاءت سورة المسد لتبين عقوبة الكافرين، وتأتي سورة الإخلاص لتعرفنا على الله عزّ وجل الذي يعبده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والملاحظ أن سورة الكافرون مبدوءة بقوله تعالى قُلْ وسورة الإخلاص مبدوءة بقوله تعالى قُلْ وبينهما سورتان ليستا مبدوءتين (بقل). في سورة الكافرون أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن مفاصلته للكافرين في العبادة والدين، وهذه سورة الإخلاص يأمر الله عزّ وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن صفات إلهه الذي يعبده، والذي لا يعبده الكافرون ولا يعرفونه جل جلاله. وإذا كنا رأينا في كل من السورتين السابقتين معجزة أو أكثر زائدة على الإعجاز، فإن في سورة الإخلاص معجزة تعدل آلاف المعجزات، وهي أنها على قصرها وصفت الله عزّ وجل وصفا لا تنتهي عجائبه، حتى إن كل ضلال وقعت فيه البشرية في موضوع معرفة الذات الإلهية فإن سورة الإخلاص قد أحاطت به، ونفته وخلصت الإنسان منه، ثم إن العقل البشري قد يصل إلى ما ذكرته هذه السورة في التعرف على الله عزّ وجل، ولكن بعد آماد وآماد، وإن أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري في موضوع تنزيه الذات الإلهية هو ما ورد في هذه السورة، وسيتضح معنا هذا شيئا فشيئا كلما سرنا في دراسة السورة، فلنر السورة. سورة الإخلاص وهي أربع آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

التفسير

التفسير: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قال ابن كثير: يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عزّ وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. أقول: فالله عزّ وجل واحد في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله، والأحدية هي التعبير الأعلى للواحدية في هذه المعاني كلها اللَّهُ الصَّمَدُ قال ابن كثير: قال عكرمة عن ابن عباس: يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم. أقول: أي هو الذي يفتقر إليه خلقه، وهو لا يفتقر إلى خلقه، ومن ثم فالصمدية تفيد القيومية كما سنرى، ويدخل في ذلك معان كثيرة أخرى سنراها. قال النسفي: أي وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه وهو الغني عنهم لَمْ يَلِدْ قال النسفي: (لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا) أقول: التوالد أمارة الفناء، فالتوالد يكون من أجل بقاء الجنس، وذلك علامة فناء المتوالدين، والله عزّ وجل باق فلا ولد له جل جلاله وَلَمْ يُولَدْ أي: ليس له والد لأن الوالدية علامة الحدوث، والله عزّ وجل أزلي قديم لا بداية لوجوده جل جلاله. وقد جعلنا أول ظاهرة تدل على الله عزّ وجل بشكل قطعي في كتابنا (لله جل جلاله) هي ظاهرة حدوث الكون الذي دلت عليها قوانين كثيرة عقلية وعلمية، وهي تدل بشكل قطعي على قدم الله عزّ وجل كما برهنا على ذلك هناك وفصلناه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ قال النسفي: أي ولم يكافئه أحد، أي لم يماثله. أقول: ففي الآية نفي المماثلة عنه. قال النسفي في السورة: (فقوله: هُوَ اللَّهُ إشارة إلى أنه خالق الأشياء وفاطرها، وفي طي ذلك وصفه بأنه قادر عالم لأن الخلق يستدعي القدرة والعلم، لكونه واقعا على غاية إحكام واتساق وانتظام، وفي ذلك وصفه بأنه حي، لأن المتصف بالقدرة والعلم لا بد وأن يكون حيا، وفي ذلك وصفه بأنه سميع بصير مريد متكلم إلى غير ذلك من صفات الكمال، إذ لو لم يكن موصوفا بها لكان موصوفا بأضدادها وهي نقائص، وذا من أمارات الحدوث، فيستحيل اتصاف القديم بها، وقوله أَحَدٌ وصف بالوحدانية ونفي الشريك،

كلمة في السياق

وبأنه المتفرد بإيجاد المعدومات والمتوحد بعلم الخفيات، وقوله الصَّمَدُ وصف بأنه ليس إلا محتاجا إليه وإذا لم يكن إلا محتاجا إليه فهو غني لا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إليه كل أحد، وقوله لَمْ يَلِدْ نفي للشبه والمجانسة، وقوله وَلَمْ يُولَدْ نفي للحدوث ووصف بالقدم والأولية، وقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نفي أن يماثله شئ، ومن زعم أن نفي الكفء- وهو المثل في الماضي- لا يدل على نفيه للحال، والكفار يدعونه في الحال- فقد تاه في غيه؛ لأنه إذا لم يكن فيما مضى لم يكن في الحال ضرورة؛ إذ الحادث لا يكون كفؤا للقديم، وحاصل كلام الكفرة يئول إلى الإشراك والتشبيه والتعطيل، والسورة تدفع الكل كما قررنا). كلمة في السياق: 1 - ما ضلت البشرية في موضوع معرفة الذات الإلهية إلا لجهلها بما لا يليق بالذات الإلهية، فأشركوا ونسبوا إلى الله الافتقار والاحتياج، ونسبوا له الولد والزوجة، وجعلوه مماثلا لخلقه، وسورة الإخلاص تطهر الضمير البشري والعقل البشري من أي غلط في باب معرفة الذات الإلهية. 2 - عند ما يتحدث علماء التوحيد عن الذات الإلهية وأسمائها وصفائها يتحدثون عن الصفات السلبية للذات الإلهية، أي الصفات التي تسلب عن الله عزّ وجل ما لا يليق به، ويذكرون أن أمهاتها خمس: الوحدانية، والقدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس. ويقيمون الأدلة الطويلة التي تستغرق الصفحات على كل صفة من هذه الصفات، والملاحظ أن الصفات الخمس هذه مرجعها إلى سورة الإخلاص. فالوحدانية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وقيامه بنفسه اللَّهُ الصَّمَدُ، وقدمه لَمْ يَلِدْ، وبقاؤه وَلَمْ يُولَدْ، ومخالفته للحوادث وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. ومتى عرف الإنسان الله عزّ وجل بهذه الصفات فقد عرف الله حق المعرفة. أما صفات الله عزّ وجل الوجودية وأسماؤه الحسنى، فتلك لا يختلف عليها الخلق؛ لأن أدنى تفكير يوصل إليها، من علم، وإرادة، وقدرة، وحياة. والملاحظ أن النسفي قد جعل هذه الصفات داخلة فيما ذكر في السورة- كما رأينا- آخذا ذلك من قوله تعالى هُوَ اللَّهُ فإذا لم يكن هذا إعجازا فما هو الإعجاز؟.

الفوائد

وأما صلة السورة بمحورها فهو كالتالي: محور السورة من سورة البقرة يقول كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وسورة الإخلاص تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن أمام كفر الكافرين بالله عزّ وجل عن صفات الله عزّ وجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. الفوائد: 1 - قال النسفي: وكان أبو عمرو يستحب الوقف على (أحد) ولا يستحب الوصل، قال عبد الوارث: على هذا أدركنا القراء، وإذا وصل نون وكسر أو حذف التنوين. 2 - بمناسبة قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قال النسفي: (والدليل على أنه واحد من جهة العقل: أن الواحد إما أن يكون في تدبير العالم وتخليقه كافيا أو لا فإن كان كافيا كان الآخر ضائعا غير محتاج إليه، وذلك نقص، والناقص لا يكون إلها، وإن لم يكن كافيا فهو ناقص، ولأن العقل يقتضي احتياج المفعول إلى فاعل، والفاعل الواحد كاف، وما وراء الواحد فليس عدد أولى من عدد، فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها، وذا محال، فالقول بوجود إلهين محال، ولأن أحدهما إما أن يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر، فإن قدر لزم كون المستور عنه جاهلا، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزا، ولأنا لو فرضنا معدوما ممكن الوجود فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزا، والعاجز لا يكون إلها، وإن قدر أحدهما دون الآخر فالآخر لا يكون إلها، وإن قدرا جميعا فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجا إلى إعانة الآخر، فيكون كل واحد منهما عاجزا، وإن قدر كل واحد منهما على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادرا عليه، وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول مزيلا قدرة الثاني، فيكون عاجزا ومقهورا تحت تصرفه، فلا يكون إلها، فإن قلت: الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد

زالت قدرته، فيلزمكم أن يكون هذا الواحد قد جعل نفسه عاجزا. قلنا: الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد نفذت قدرته، ومن نفذت قدرته لا يكون عاجزا، وأما الشريك فما نفذت قدرته بل زالت قدرته بسبب قدرة الآخر فكان ذلك تعجيزا). 3 - في تفسير (الصمد) أقوال كثيرة نذكرها لاحتياج السالك إلى الله عزّ وجل لمعرفتها. قال ابن كثير: (وقوله تبارك وتعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ قال عكرمة عن ابن عباس يعني: الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شئ سبحان الله الواحد القهار، وقال الأعمش عن سفيان عن أبي وائل: الصَّمَدُ السيد الذي قد انتهى سؤدده، ورواه عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود وقال مالك عن زيد بن أسلم: (الصمد) السيد، وقال الحسن وقتادة: هو الباقي بعد خلقه، وقال الحسن أيضا: (الصمد) الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال عكرمة: (الصمد) الذي لم يخرج منه شئ ولا يطعم، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له وهو قوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وهو تفسير جيد وقد تقدم الحديث من رواية ابن جرير عن أبي بن كعب في ذلك وهو صريح فيه، وقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله ابن بريدة وعكرمة أيضا وسعيد ابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعطية العوفي والضحاك والسدي: (الصمد) الذي لا جوف له. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: (الصمد) المصمت الذي لا جوف له، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، وقال عبد الله بن بريدة أيضا: (الصمد) نور يتلألأ، روى ذلك كله وحكاه ابن أبي حاتم والبيهقي والطبراني وكذا أبو جعفر بن جرير ساق أكثر ذلك بأسانيده، وروى عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: لا أعلم إلا قد رفعه قال: «الصمد الذي لا جوف له» وهذا غريب جدا والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن بريدة. وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب (السنة) له بعد إيراده كثيرا من هذه الأقوال في تفسير الصمد: وكل هذه صحيحة وهي صفات ربنا عزّ وجل، هو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له،

ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي نحو ذلك). 4 - بمناسبة قوله تعالى وَلَمْ يُولَدْ قال النسفي: (لأن كل مولود محدث وجسم وهو قديم لا أول لوجوده؛ إذ لو لم يكن قديما لكان حادثا لعدم الواسطة بينهما، ولو كان حادثا لافتقر إلى محدث، وكذا الثاني والثالث، فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل، وليس بجسم لأنه اسم للمتركب، ولا يخلو حينئذ من أن يتصف كل جزء منه بصفات الكمال، فيكون كل جزء إلها فيفسد القول به كما فسد بإلهين، أو غير متصف بها بل بأضدادها من سمات الحدوث وهو محال). 5 - في كتابنا (الله جل جلاله) تدليل طويل على الصفات المذكورة في هذه السورة للذات الإلهية، فليراجع وليعلم أن هذه السورة تغني عن كل كتاب أرضي لمن عرفها وأيقن بها. 6 - بمناسبة هذه السورة، ذكر ابن كثير الحديث التالي، قال: وفي صحيح البخاري «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» ورواه أيضا عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا بمثله تفرد بهما من هذين الوجهين). 7 - في سبب نزول هذه السورة قال ابن كثير: روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وكذا رواه الترمذي وابن جرير، زاد ابن جرير والترمذي قال: (الصمد) الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شئ يولد إلا سيموت، وليس شئ يموت إلا سيورث، وإن الله عزّ وجل لا يموت ولا يورث وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شئ. ورواه ابن أبي حاتم بسنده. وقال عكرمة: لما قالت اليهود: نحن نعبد عزير ابن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر، وقالت المشركون: نحن

نعبد الأوثان، أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعني: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عزّ وجل لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله). 8 - ذكر ابن كثير تسعة أحاديث تفيد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن نكتفي منها بذكر الحديث الأول: روى البخاري عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له- وكأن الرجل يتقالها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»). أقول: قال النسفي في تعليل كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن: (لأن القرآن يشتمل على توحيد الله، وذكر صفاته، وعلى الأوامر والنواهي، وعلى القصص والمواعظ، وهذه السورة قد تجردت للتوحيد والصفات، فقد تضمنت ثلث القرآن، وفيه دليل شرف علم التوحيد، وكيف لا يكون كذلك والعلم يشرف بشرف المعلوم، ويتضع بضعته، ومعلوم هذا العلم هو الله وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله، اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك، العاملين لك، الراجين لثوابك، الخائفين من عقابك، المكرمين بلقائك). 9 - وذكر ابن كثير بابا آخر غير الباب المذكور آنفا يدل على فضل سورة الإخلاص. (حديث آخر في فضلها) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* ... فلما رجعوا ذكروا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «سلوه لأي شئ يصنع ذلك» فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله تعالى يحبه» هكذا رواه في كتاب التوحيد، وقد رواه مسلم والنسائي أيضا من حديث عبد الله بن وهب) 10 - وذكر ابن كثير بابا آخر عن سورة الإخلاص تحت عنوان: (حديث آخر في كون قراءتها توجب الجنة) قال: (روى الإمام مالك بن أنس عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبد بن حسين قال: سمعت أبا هريرة يقول: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وجبت- قلت: وما وجبت؟ قال: الجنة» ورواه الترمذي والنسائي من حديث مالك وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك وتقدم حديث «حبك إياها أدخلك الجنة). وقال ابن كثير: (روى الإمام أحمد أيضا عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر: إذا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكثر وأطيب» تفرد به أحمد ورواه أبو أحمد الدارمي في مسنده فقد روى عن سعيد بن المسيب يقول إنه قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة» فقال عمر بن الخطاب: إذا نكثر قصورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أوسع من ذلك» وهذا مرسل جيد). 11 - وعقد ابن كثير بابا تحت عنوان: (حديث آخر في الدعاء بما تضمنته من الأسماء): (روى النسائي عند تفسيرها عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي يدعو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، قال: «والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب» وقد أخرجه بقية أصحاب السنن من طرق عن مالك بن مغول عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به، وقال الترمذي: حسن غريب). 12 - وعقد ابن كثير بابا في فضل سورة الإخلاص مع المعوذتين نقتطف منه بعض رواياته ختاما لهذه الفوائد لتكون هذه الفائدة مقدمة للكلام عن سورتي الفلق والناس. قال ابن كثير: (روى الإمام أحمد ... عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله بم نجاة المؤمن؟. قال: يا عقبة أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. قال: ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأني فأخذ بيدي فقال: يا عقبة بن عامر ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم. قال قلت: بلى جعلني الله فداك. قال: فأقرأني (قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) ثم قال: يا عقبة

لا تنسهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن. قال: فما نسيتهن منذ قال لا تنسهن، وما بت ليلة قط حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال فقال: يا عقبة صل من قطعك، واعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك» روى الترمذي بعضه في الزهد عن علي بن يزيد فقال: هذا حديث حسن، وقد رواه أحمد من طريق عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله سواء تفرد به أحمد (حديث آخر) في الاستشفاء بهن روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات» وهكذا رواه أهل السنن من حديث عقيل به. (حديث آخر) روى عبد الله بن الإمام أحمد عن معاذ بن عبد الله بن حبيب عن أبيه قال: أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، فخرج فأخذ بيدي فقال: «قل»، فسكت. قال: «قل»، قلت: ما أقول؟ قال «قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا تكفيك، كل يوم مرتين» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن أبي ذئب به وقال الترمذي حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد رواه النسائي من طريق أخرى عن معاذ بن عبد الله بن حبيب عن أبيه عن عقبة بن عامر فذكره ولفظه «تكفك كل شئ»).

سورة الفلق

سورة الفلق وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الحادية عشرة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي خمس آيات (وهي مدنية على رأي ابن كثير)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

بين يدي سورة الفلق

بين يدي سورة الفلق: قال صاحب الظلال في سورتي الفلق والناس: (هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف، خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل .. وكأنما يفتح الله سبحانه لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا، تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه، تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف، وأن لكم أعداء، وأن حولكم مخاوف، وهنا .. هنا الأمن والطمأنينة والسلام .. ). وقال الألوسي في تقديمه لسورة الفلق (ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها جئ بها بعدها شرحا لما يستعاذ منه بالله تعالى من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقاته. وهي والسورة التي بعدها نزلتا معا كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ). كلمة في سورتي الفلق والناس ومحوريهما: بعد الآيتين اللتين ذكرنا أنهما محور سورة الإخلاص من سورة البقرة تأتي قصة آدم عليه السلام وهذه هي: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ* وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها

فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. من الملاحظ في هذه القصة أن الذي حمل إبليس على ما فعله حسده لآدم عليه السلام. وسورة الفلق تختم بقوله تعالى وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ فهي تأمر بالاستعاذة من أشياء آخرها الاستعاذة من شر الحاسدين إذا حسدوا، وصلة ذلك بقصة آدم عليه السلام واضحة، ومن الملاحظ في قصة آدم أن الله عزّ وجل حذرنا من إبليس عليه اللعنة، وأرانا الآثار الفظيعة التي ترتبت على وسوسته لأبينا آدم عليه السلام، وتأتي سورة الناس لتأمرنا بالاستعاذة من الوسواس الخناس، سواء كان شيطانا إنسيا أو جنيا، من هذه الملاحظات السريعة نرى صلة المعوذتين بمحورهما من سورة البقرة كما تعرف هذا المحور أصلا. فلنر صلة المعوذتين بما قبلهما: لقد عرفتنا سورة الإخلاص على الله عزّ وجل وكماله وصفاته، وتأتي المعوذتان لتأمراننا بالاستعاذة بالله عزّ وجل من كل ما ينبغي أن يحذر منه في أمر دنيا ودين، فالصلة واضحة بين المعوذتين وبين ما قبلهما من سورة الإخلاص. وقبل أن نبدأ عرض السورتين فلنذكر بعض ما قدم ابن كثير للسورتين قال: (وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ورواه أحمد ومسلم أيضا والترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح (طريق أخرى) روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي: «يا عقبة ألا تركب» قال: فأشفقت أن تكون معصية، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنية ثم ركب ثم قال: «عقب ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس» قلت: بلى يا رسول الله فأقرأني قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم أقيمت الصلاة فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم

سورة الفلق

فقرأ بهما ثم مر بي فقال: «كيف رأيت يا عقب اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت). (عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح). (روى النسائي عن عبد الله الأسلمي هو ابن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال: «قل» فلم أدر ما أقول، ثم قال لي: «قل» قلت هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم قال لي: قل، قلت: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ حتى فرغت منها ثم قال لي: «قل»، قلت: أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ حتى فرغت منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط»: (حديث آخر) روى النسائي عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ يا جابر» قلت: وما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال: «اقرأ قل أعوذ برب الفلق- و- قل أعوذ برب الناس» فقرأتهما فقال: «اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما» وتقدم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهن وينفث في كفيه ويمسح بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، وروى الإمام مالك عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات وأمسح بيده عليه رجاء بركتها ورواه البخاري). سورة الفلق وهي خمس آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

التفسير

التفسير: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أي برب الصبح، قال ابن كثير- بعد أن ذكر أكثر من قول في الآية-: قال ابن جرير: والصواب القول الأول أنه فلق الصبح، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار البخاري في صحيحه رحمه الله تعالى مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ قال ابن كثير: أي من شر جميع المخلوقات وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قال النسفي: الغاسق الليل إذا اعتكر ظلامه، ووقوبه: دخول ظلامه في كل شئ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال النسفي: النفاثات النساء أو النفوس أو الجماعات السواحر اللواتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين، والنفث: النفخ مع ريق. أقول: من كلام النسفي نفهم أن هناك اتجاها عند المفسرين في تفسير النفاثات بالنفوس، فهل يدخل في ذلك الاستعاذة من النفوس التي تنفث في عقد النفوس لتغذيها أو لتستغلها أو لتوجهها توجيها سيئا؟ لا أجزم بذلك ولكنني أحتمل أن يكون هذا داخلا في النص، فإن القرآن لكل العصور وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال النسفي: إذا أظهر حسده، وعمل بمقتضاه، لأنه إذا لم يظهر فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره، وهو الآسف على الخير عند الغير، وقد ختم النسفي كلامه عن السورة بقوله: (والاستعاذة من شر هذه الأشياء بعد الاستعاذة من شر ما خلق، إشعار بأن شر هؤلاء أشد، وختم بالحسد ليعلم أنه شرها، وهو أول ذنب عصي الله به في السماء من إبليس، وفي الأرض من قابيل، وإنما عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه لأن كل نفاثة شريرة، فلذا عرفت النفاثات ونكر غاسق؛ لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر، ورب حسد يكون محمودا كالحسد في الخيرات). كلمة في السياق: 1 - تأتي قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة بعد قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بعد هذه الآية تأتي قصة آدم وفيها ذكر لتبشير الله عزّ وجل الملائكة بخلافة

الفوائد

آدم، وفيها عرض ماهيات الأشياء، وعلى الملائكة وسؤالهم عن أسمائها، وفيها حسد إبليس لآدم ورفضه السجود له، وسورة الفلق تبين أن للمخلوقات شرا، ولليل شرا، وللنفاثات ضررا، وللحاسد ضررا، وأمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو أمر لكل مسلم- أن يستعيذ برب الصبح الذي يجلو به الصباح من شر هؤلاء جميعا، فإنه وحده الذي يخلص من شرها، لأنه خالقها، وهو الأعلم بحدود الخير والشر، وهو القادر على الإنجاء منها، فالصلة قائمة بين المعاني التي أمرت السورة بالاستعاذة منها، وبين المعاني المذكورة في محور سورتي الفلق والناس من سورة البقرة. 2 - إن سورة الفلق فصلت في جوانب ذكرتها قصة آدم عليه السلام، فإن يعرف أن فيما خلقه الله عزّ وجل شرا، وأن تعرف بعض مظاهر هذا الشر، وأن يدل على طريق الخلاص منها، كل ذلك ترتبط به سورة الفلق بمحورها من سورة البقرة، وكما أن سورة الفلق فصلت في محورها فإن ما ذكر في محورها كان أساسا بنت عليه، فرؤية شر الحاسد إبليس، من خلال قصة آدم عرفتنا أن الاستعاذة بالله منه ضرورية. 3 - وهناك علاقة بين السحر والجن قال تعالى في سورة البقرة: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ من هذه الآية نرى أن للسحر علاقة بعالم الشياطين، ومن ثم ندرك صلة أخرى ما بين سورة الفلق وقصة آدم، وما ورد فيها من وسوسة إبليس عليه اللعنة، وبهذا نكون قد أوضحنا بما فيه الكفاية الصلة بين سورة الفلق ومحورها. الفوائد: 1 - هناك اتجاه عند المفسرين يفسر الغاسق إذا وقب بالقمر، وقد نقل هذا القول ابن كثير ونقل جواب الآخرين عليه قال: (وعمدة أصحاب هذا القول ما رواه الإمام أحمد عن الحارث بن أبي سلمة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأراني القمر حين طلع وقال: «تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب» ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير

من سننيهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح ولفظه «تعوذي بالله من شر هذا فإن هذا الغاسق إذا وقب» ولفظ النسائي «تعوذي بالله من شر هذا، هذا الغاسق إذا وقب» قال أصحاب القول الأول: وهو آية الليل إذا دلج، هذا لا ينافي قولنا لأن القمر آية الليل، ولا يوجد له سلطان إلا فيه، وكذلك النجوم لا تضئ إلا بالليل، فهو يرجع إلى ما قلناه والله أعلم). 2 - بمناسبة قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال ابن كثير: (قال مجاهد وعكرمة والحسن عن ابن طاوس عن أبيه قال: ما من شئ أقرب إلى الشرك من رقية الحية والمجانين. وفي الحديث الآخر أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت يا محمد؟ فقال: «نعم» فقال: بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حاسد وعين الله يشفيك» ولعل هذا كان من شكواه صلى الله عليه وسلم حين سحر، ثم عافاه الله تعالى وشفاه، ورد كيد السحرة والحساد من اليهود في رءوسهم وجعل تدميرهم في تدبيرهم وفضحهم. وروى البخاري في كتاب الطب من صحيحه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا- فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه، قال: لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان» قالت: فأتي البئر حتى استخرجه فقال: «هذه بئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكان نخلها رءوس الشياطين» قال: فاستخرج فقلت: أفلا تنشرت؟ فقال: «أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» وأسنده بسند آخر وفيه قالت: حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله، وعنده فأمر بالبئر فدفنت، وذكر أنه رواه عن هشام أيضا ابن أبي الزناد والليث بن سعد، وقد رواه مسلم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير ورواه أحمد عن عفان عن وهب عن هشام به ورواه الإمام أحمد أيضا عن عائشة قالت: لبث النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما للآخر: ما باله؟ قال: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم وذكر تمام الحديث).

سورة الناس

سورة الناس وهي السورة الرابعة عشرة بعد المائة بحسب الرسم القرآني وهي السورة الثانية عشرة من المجموعة الخامسة عشرة من قسم المفصل، وهي ست آيات (وهي مدنية على رأي ابن كثير)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم

سورة الناس

ذكرنا من قبل محور سورة الناس وصلتها بهذا المحور وصلتها بما قبلها فلنبدأ عرضها. سورة الناس وهي ست آيات وهذه هي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الناس (114): الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) التفسير: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قال النسفي: أي مربيهم ومصلحهم مَلِكِ النَّاسِ أي: مالكهم ومدبر أمورهم إِلهِ النَّاسِ أي: معبودهم مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي: الشيطان، قال النسفي: والوسوسة الصوت الخفي الْخَنَّاسِ قال النسفي: أي الذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الله عزّ وجل الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أي: في قلوبهم الموجودة في صدورهم مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قال النسفي: بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وإنسي. قال ابن كثير في السورة: (هذه ثلاث صفات من صفات الرب عزّ وجل: الربوبية، والملك، والإلهية، فهو رب كل شئ ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة له عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات، من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش، ولا يألوه جهدا في الخبال، والمعصوم من عصمه الله).

كلمة في السياق

كلمة في السياق: 1 - تنتهي قصة آدم- عليه السلام- في سورة البقرة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وفي قصة آدم في سورة البقرة رأينا خطر وسوسة الشيطان، وفي سورة الناس رأينا أن هناك شياطين الجن، وهناك شياطين الإنس وهم الكافرون المذكورون في آخر قصة آدم من سورة البقرة. وقد أمرنا الله عزّ وجل بالاستعاذة به وهو الرب والملك والإله من شر هؤلاء وهؤلاء، فصلة السورة بمحورها من سورة البقرة واضحة. 2 - في ذكر ربوبية الله عزّ وجل ومالكيته وألوهيته للناس في السورة التي أمر الله عزّ وجل بها أن يستعاذ به من شر الجنة والناس إشعار بأن من كان هذا شأنه هو وحده الذي يعيذ من شر الموسوسين. الفوائد: 1 - بمناسبة ما مر معنا من قبل في موضوع استرقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بسورتي الفلق والناس، قال النسفي: (ولهذا جوزوا الاسترقاء بما كان من كتاب الله وكلام رسوله عليه السلام، لا بما كان بالسريانية والعبرانية والهندية فإنه لا يحل اعتقاده، ولا الاعتماد عليه). 2 - بمناسبة الكلام عن وسوسة شياطين الجن والإنس ذكر ابن كثير أنه ما من إنسان إلا وله شيطانه الذي يوسوس له. قال ابن كثير في تأييد هذا القول: (وقد ثبت في الصحيح أنه «ما منكم من أحد إلا قد وكل به قرينه» قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»، وثبت في الصحيحين عن أنس في قصة زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وخروجه معها ليلا ليردها إلى منزلها فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال: رسول الله «على رسلكما إنها صفية بنت حيي» فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا- أو قال شرا-». وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس» غريب. وروى الإمام أحمد عن أبي تميمة يحدث عن رديف

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم حماره فقلت: تعس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان فإنك إذ قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته، وإذا قلت باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب» تفرد به أحمد وإسناده جيد قوي، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغلب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم إذا كان في المسجد جاء الشيطان فأبس به كما يبس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه أو ألجمه» قال أبو هريرة رضي الله عنه: وأنتم ترون ذلك أما المزنوق فتراه مائلا كذا لا يذكر الله، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله عزّ وجل. تفرد به أحمد). 3 - بمناسبة قوله تعالى الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ قال ابن كثير: (وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس، وكذا قال مجاهد وقتادة وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: ذكر لي أن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله الْوَسْواسِ قال: هو الشيطان يأمر فإذا أطيع خنس). 4 - بمناسبة قوله تعالى مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قال ابن كثير: وقيل قوله مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ تفسير للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجن كما قال تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وكما روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟» قلت: لا، قال: «قم فصل» قال فقمت فصليت ثم جلست فقال: «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن» قال: فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: «نعم» قال: فقلت يا رسول الله الصلاة؟ قال: «خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر» قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال: «فرض مجزئ وعند الله مزيد» قلت: يا رسول الله فالصدقة، قال: «أضعاف مضاعفة» قلت: يا رسول الله أيها أفضل، قال «جهد من مقل أو سر إلى فقير» قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: «آدم»، قلت: يا رسول الله ونبيا كان؟ قال «نعم نبي مكلم» قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: «ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا» وقال مرة «خمسة عشر» قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟

كلمة أخيرة في المجموعة الخامسة عشرة

قال: «آية الكرسي» اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. ورواه النسائي من حديث أبي عمر الدمشقي به وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدا أبو حاتم بن حبان في صحيحه بطريق آخر ولفظ آخر مطول جدا فالله أعلم وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأحدث نفسي بالشئ لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» ورواه أبو داود والنسائي من حديث منصور زاد النسائي والأعمش كلاهما عن ذر به). كلمة أخيرة في المجموعة الخامسة عشرة: رأينا أن المجموعة الخامسة عشرة فصلت تفصيلا شاملا، وغطت تغطية كاملة إلى نهاية قصة آدم من سورة البقرة، وهو الجزء الذي عرض المعاني الأساسية والرئيسية والطريق الإجمالي، ورأينا كيف أن المجموعة مترابطة مع بعضها، متكاملة فيما بينها، وكل ذلك رأيناه، فالحمد لله رب العالمين. كلمة أخيرة في السياق القرآني العام: رأينا أن سورة الفاتحة ذكرت كل المعاني القرآنية بإجمال، وجاءت سورة البقرة لتفصل في الطريقين: طريق المنعم عليهم، وطريق المغضوب عليهم والضالين، وجاءت الآيات التسعة والثلاثون من سورة البقرة للتحدث عن المعاني الرئيسية في الهدى والضلال. ثم جاءت بقية السورة لتخدم معنى من المعاني الآتية في هذه التسعة والثلاثين آية، ثم جاءت بعد ذلك أربع وعشرون مجموعة قرآنية، كل مجموعة فصلت في معاني سورة البقرة على ترتيب ورود هذه المعاني في سورة البقرة بشكل رأينا حكمه وتفصيلاته فيما مر معنا، ورأينا أن في كل تفصيل جديدا، وفي كل سورة جديدا. لقد رأينا ابتداء أن القرآن ينقسم إلى أربعة أقسام: قسم الطول، وقسم المئين، وقسم المثاني، وقسم المفصل، ورأينا أن كل قسم من هذه الأقسام يتكامل مع بعضه، وأن هذه الأقسام كلها تتكامل مع بعضها، وقد رأينا أن القسم الأول يتألف من سورة البقرة ومجموعة واحدة تفصل في سورة البقرة من أولها إلى آخرها، ثم رأينا أن قسم

خاتمة التفسير

المئين يتألف من ثلاث مجموعات، كل مجموعة تفصل في سورة البقرة من ابتدائها إلى مكان فيها، ثم جاء قسم المثاني وفيه خمس مجموعات، كل مجموعة تفصل في سورة البقرة من ابتدائها حتى آية منها على اختلاف في المدى الذي يبلغه التفصيل، ثم جاء قسم المفصل وفيه خمس عشرة مجموعة، كل مجموعة تفصل في سورة البقرة من ابتدائها إلى مكان ما فيها، وهكذا نجد أن سورة البقرة قد فصلت أربعة وعشرين مرة تفصيلا بعد تفصيل، وقد أصاب الآيات الأول منها خاصة من التفصيل على عدد المجموعات. وقد رأينا أن بعض المجموعات استغرق حوالي ثمانية أجزاء، بينما نجد المجموعة التي لا تتجاوز صفحة واحدة مع أن كل مجموعة فصلت في المعاني الرئيسية لسورة البقرة، والحكمة في ذلك- والله أعلم- أن ينال كل إنسان حظه من الذكر حفظا وتلاوة وتذكرا بما يسع حاله، وبحيث يأخذ نصيبه من تذكر المعاني الرئيسية على قدر ما يسعف وقته وفراغه واستعداده وذاكرته، مع ملاحظة أن القرآن بمجموعه لا بد من تلاوته وتدبره لمن أراد أن يعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ. خاتمة التفسير هذا التفسير جزء من سلسلة الأساس في المنهج التي تتألف من القسم الأول: الأساس في التفسير، والقسم الثاني. الأساس في السنة وفقهها، والقسم الثالث: الأساس في فهم النصوص. وللاختصار فقد أخرت الحديث عن كثير من الأمور، أو أخرت التفصيل فيها؛ لأنه لا بد أن ترد في قسم السنة. على أنني حاولت أن أذكر الشئ إذا جاءت مناسبة بما يسد احتياجات الدارس العادي للكتاب والسنة. وعذري في تأخير كثير من الأمور إلى القسم الثاني هو حرصي على إبراز النقاط التي استهدفتها في هذا التفسير وهي: 1 - إبراز الوحدة القرآنية الجامعة، وإبراز الوحدة في السورة الواحدة من خلال نظرية تطرح لأول مرة تبين القاعدة الجامعة في شأن ترتيب سور القرآن. 2 - إبراز الإعجاز والمعجزة في القرآن حيث جاءت مناسبة ذلك. فالإعجاز هو القاسم المشترك في القرآن كله، ومع هذا الإعجاز فإن في القرآن معجزات كثيرة.

زائدة على أصل الإعجاز، ولقد حاولت أن أبرز هذا وهذا، وكل ذلك ليزداد إيمان المؤمن، فكثيرا ما يحدث أن القارئ للتفاسير يضيع بين النكتة البلاغية والإعراب والأقوال الكثيرة والأقوال الضعيفة بحيث لا يستشعر نمو الإيمان مع الدراسة، وقد تسبب بعض الروايات الفاسدة وساوس عند بعض ضعفاء اليقين، أو غير الراسخين في العلم، وقد حاولت في هذا التفسير أن ينصب الكلام على ما هو تفسير مجرد على الطريقة الأولى التي كان يقدم فيها التفسير لطالبه في الجيل الأول، ومن أراد ما سوى ذلك، فالمراجع أمامه كثيرة، إن الإنسان عند ما يقرأ بعض التفاسير يشعر أحيانا بتشتت يبعده عن لب ما أراده من قراءة التفسير. وبالتالي فإنه لا يستغرق الاستغراق التام وهو يقرأ، وقد جاء هذا التفسير ملاحظا ذلك. 3 - لقد كان لكل عصر معطياته التي تفتح آفاق أهله على معان من كتاب الله تحقيقا لقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ولعصرنا معطياته الجديدة، ولقد حاولت أن أستفيد من ذلك ما استطعت بما لا يخرج نصا عن معناه أو مضمونه الذي تقدمه ألفاظه، فلا تكلف ولا تعسف. 4 - حاولت- ما استطعت- أن أعرض القرآن عرضا قريبا يستطيع من خلاله المثقف العادي أن يفهمه، هذا مع محاولة اقتناص ما تيسر لي من فوائد مبثوثة تخدم الفهم لكتاب الله. 5 - حاولت- إلى حد كبير- أن أقدم مفهوم أئمة الاجتهاد للكثير من آيات الأحكام، ولكن باختصار وبدون تدليل ومناقشة، لأن محل ذلك في القسم الثاني من هذه السلسلة في كتاب الأساس في السنة وفقهها. 6 - إبراز الكثير من الأسس التي عليها تبنى الأمة المسلمة، أو تقوم عليها حياتها العملية، أو ينبثق عنها العمل الإسلامي المعاصر، على أنه في القسم الثاني من السلسلة يأتي كلام كثير حول هذه الشئون. ولعل القارئ لحظ أننا ابتعدنا عن الحشو وعن كل ما لا يهم القارئ غير المختص. كما لحظ أننا حاولنا إبراز خصائص القرآن، وأعطينا موضوع التربية حقه على قدر استطاعتنا، وحاولنا أن نضع كثيرا من الأمور ضمن إطارها العام، وكثيرا من الجزئيات ضمن إطارها الكلي.

إن استهداف هذه الأشياء حال بيننا وبين التوسع في كثير من الأمور، وصرفنا عن أمور كثيرة. وليكن ذلك بمثابة اعتذار لمن لم ير في هذا الكتاب ما تخيله أو تصوره مما كان ينبغي أن يكون فيه، وحسبنا أن يكون قارئ هذا التفسير قد خرج بانطباع جديد، وفهم جديد ليكون ذلك نقطة انطلاق نحو جهاد متواصل، من أجل أن يكون هذا القرآن مهيمنا على الأرض كلها، وليكون ذلك نقطة انطلاق لسير منضبط وصحيح إلى الله، ولقد حاولت- ما استطعت- أن أجنب هذا التفسير أي فهم خاطئ أو منحرف أو متكلف لكتاب الله وإذا فاتني شئ فإني أستغفر الله. وقد ألزمت نفسي في آيات الصفات أن أبقى ضمن الحدود التي ذكرها ابن كثير؛ لإيماني بأن هذا الموضوع لا يستطيع أحد أن يعرف أبعاد ما يقال فيه إلا إذا كان من الراسخين في العلم، فالكلام بتوسع فيه في مثل هذا التفسير قد يساء فهمه عند أنواع من القراء فاقتصرت فيه على ما قاله ابن كثير، وكلامه يسع الجميع ويكفي الجميع. ومن خلال استقرائي لأصناف كثير من الراغبين في دراسة القرآن وجدت أن هناك ناسا تهمهم الفائدة الشاردة، والنكتة اللطيفة، وآخرون تهمهم دقائق السياق، والربط بين الآيات والسور، وآخرون لا يهمهم إلا أن يعرفوا المعنى الحرفي ضمن أدنى حد ممكن، ولذلك فصلت الكلام بين المعنى الحرفي والسياق والفوائد فالراغب في الجميع لم يفته شئ، والراغب في شئ بعينه يجده منفصلا عن غيره. وقد اعتمدت أربعة تفاسير كأساس: تفسير ابن كثير، وتفسير النسفي، وتفسير الألوسي، وتفسير الظلال، واعتقدت أن فوائد هذه التفاسير هي أقصى ما يحتاجه القارئ العادي، فابن كثير يفسر القرآن بالقرآن وبالمأثور في الغالب، والنسفي يعطي للمعنى الحرفي أهمية، وقد كاد هذان التفسيران أن يستوعبا فوائد التفاسير التي سبقتهما، وتفسير الألوسي وسيد قطب تفسيران متأخران، الأول منها استوعب التفسير التقليدي، والثاني منها فسر القرآن بلغة العصر، وقد رأيت أنه باعتمادي هذه التفاسير الأربعة أكون قد استوعبت- إلى حد ما- الفائدة من كتب التفاسير على مر العصور.

وكما قلت من قبل فإني لم أذكر إلا ما له صلة مباشرة بالتفسير، اعتمادا مني على أن أي شئ آخر يريده طالب المعرفة عن القرآن يستطيع أن يجده في المكتبة القرآنية، فليس من كتاب في هذا العالم قد خدم كما خدم هذا القرآن، حتى إنه ليكاد يكون من المستحيل أن تحصى كتب المكتبة القرآنية، فما من شئ له صلة بالقرآن إلا وتجد فيه عشرات الكتب: في إعرابه وبلاغته وأحكامه وتفسير آياته وإعجازه وأسباب نزوله والناسخ والمنسوخ فيه إلى غير ذلك، لذلك فقد انصب همي أن أقدم للقارئ ما له صلة مباشرة بفهم القرآن وتفهيمه. ولو لم أرد ذلك اختيارا لاضطررت إليه اضطرارا لأنني لو أردت غير ذلك لتوسع التفسير سعة لا يعود معها ذا نفع إلا لأفراد من الناس. فإلى القسم الثاني من سلسة الأساس في المنهج ولله الحمد والمنة.

§1/1